كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب تفريق الصفقة
إذا باع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة كعبد وحر وخل وخمر وعبده وعبد غيره أو دار له ولغيره ففيه روايتان :
إحداهما : تفريق الصفقة فيما يجوز بيعه بقسطه من الثمن ويبطل فيما لا يجوز لأن كل واحد منهما له حكم منفرد فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما كما لو باع شقصا وسيفا
والثانية : يبطل فيهما لأنه عقد واحد جمع حلالا وحراما فبطل كالجمع بين الأختين و يحتمل أن يصح فيما يجوز فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء كدار له ولغيره ونحوها والقفيزين المتساويين لأن الثمن فيما يجوز بيعه معلوم ويبطل العقد فيما عدا هذا كالعبدين لأن ثمن ما يجوز بيعه مجهول لكون الثمن ينقسم عليهما بالقيمة وقسط الحلال منهما مجهول لو صرح به فقال : بعتك هذا العبد بقسطه من الثمن لم يصح فكذا هاهنا فإن قلنا يصح وعلم المشتري الحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة ولا خيار للبائع بحال وإن لم يعلم المشتري الحال فله الخيار لأن عليه ضررا في تفريق الصفقة وإن اشترى معلوما ومجهولا بطل العقد فيهما لأن ما يخص المعلوم من الثمن مجهول ولو باع قفيزين من الحلال بثمن واحد فتلف أحدهما قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي منهما سواء كانا من جنس واحد أو جنسين لأن حدوث الجهل بثمن الباقي منهما لا يوجب جهالة المبيع حال العقد قال القاضي : ويثبت للمشتري خيار الفسخ لتفريق الصفقة عليه فأشبه ما قبلها
فصل
فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم كبيع وإجارة أو صرف بعوض واحد صح فيهما لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة كما لو جمع بين ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه وفيه وجه آخر لا يصح لأن حكمهما مختلف وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما فإن البيع فيه خيار ولا يشترط التقابض فيه في المجلس ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف ويشترط له التقابض وينفسخ العقد بتلف العين في الإجارة وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد فقال : زوجتك ابنتي وبعتك داري بمائة صح في النكاح لأنه لا يفسد بفساد العوض وفي البيع وجهان وإن جمع بين بيع وكتابة فقال لعبده : بعتك عبدي هذا وكاتبتك بمائة بطل البيع وجها واحدا لأنه باع عبده لعبده فلم يصح كبيعه إياه من غير كتابة وهل تبطل الكتابة ؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة
فصل
ولو باع رجلان عبدا لهما بثمن واحد صح لأن حصة كل واحد منهما من الثمن معلومة ولو كان لكل واحد منهما قفيز وكانا من جنس واحد فباعهما صفقة واحدة صح لذلك وإن كان المبيع مما لا ينقسم الثمن عليه مثل إن كان لكل واحد منهما عبد فباعاهما صفقة واحدة أو وكلا رجلا فباعهما أو وكل أحدهما الآخر فباعهما بثمن واحد لم يصح لأن كل واحد منهما مبيع بحصته من الثمن فلم يصح كما لو صرح به ويحتمل أن يصح بناء على تفريق الصفقة أو كما لو كاتب عبدين كتابة واحدة بعوض واحد

باب الثنيا
إذا باع حائطا واستثنى شجرة بعينها أو قطعيا واستثنى شاة بعينها صح لأن النبي صلى الله عليه و سلم [ نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح وهذه معلومة وإن استثنى شجرة أو شاة يختارها لم يصح للخبر وإن استثنى آصعا معلومة أو باع نخلة واستثنى أرطالا معلومة فعنه : أنه يصح للخبر والمذهب أنه لا يصح لأن المبيع إنما علم بالمشاهدة والاستثناء يغير حكم المشاهدة فإنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة ولو باعه الصبرة إلا قفيزا لم يصح لذلك وإن باعه قفيزا من هذه الصبرة إلا مكوكا صح لأن القفيز معلوم والمكوك منه معلوم وإن باعه دارا إلا ذراعا وهما يعلمان ذرعانها جاز وكان مشاعا منها وإلا لم يجز كما لو باعه ذراعا منها وإن باعه سمسما إلا كسبه أو قطنا إلا حبه أو شاة إلا شحمها أو فخذها لم يصح لأنه مجهول فيدخل في الخبر وإن استثنى حملها فعنه أن يصح لأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما في بطنها
وعنه : لا يصح وهو أصح للخبر فإن باع جارية حاملا بحر وقلنا : يصح استثناء الحمل صح هاهنا وإن قلنا : لا يصح ثم ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لأنه استثناه في الحقيقة
والثاني : يصح لأنه قد يقع مستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه بالشرط بدليل بيع الأمة المزوجة
وإن باع حيوانا مأكولا واستثنى رأسه وجلده وسواقطه صح نص عليه لأنها ثنيا معلومة وقد روي أن النبي ( ص ) حين هاجر إلى المدينة مر براع فذهب أبو بكر وعامر بن فهيرة فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر وعليه قيمة ذلك
لما روي عن علي رضي الله عنه : أنه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط ثنياها فقال : اذهبوا معه إلى السوق فإن بلغت أقصى ثمنها فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها وعن الشعبي قال : قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في بقرة باعها رجل واشترط رأسها بالشروى يعني أن يعطيه رأسا مثل رأس
فصل :
ومن باع شيئا واستثنى منفعته مدة معلومة كجمل اشترط ركوبه إلى موضع معين ودارا استثنى سكناها شهرا وعبدا استثنى خدمته سنة صح لما روى جابر : أنه باع النبي صلى الله عليه و سلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة متفق عليه ولأنها ثنيا معلومة فتدخل في خبر أبي هريرة فإن عرض المشتري على البائع عوضها لم يلزمه قبوله لأن حقه تعلق بعينها فأشبه ما لو استأجرها وإن أراد البائع إجارتها تلك المدة فقال ابن عقيل : يصح في قياس المذهب لأنه استحق نفعها فملك إجارتها كالمستأجر وإن أتلف المشتري العين فعليه قيمة المنفعة لتفويته حق غيره وإن تلف بغير تفريط فكلام أحمد رضي الله عنه يقتضي ذلك بعمومه ويحتمل أن لا يضمن لأن البائع لم يملك المنفعة من جهة المشتري فلم يلزمه عوضها له كما أو تلفت النخلة المبيعة مؤبرة بثمرتها والحائط الذي استثني منه شجرة ويحمل كلام أحمد على من فرط وإن باع المشتري العين صح وتكون المنفعة مستثناة في يد المشتري فإن لم يعلم به فله الخيار لأنه عيب فهوة كالتزويج في الأمة ومن باع أمة واستثنى وطأها لم يصح لأنه لا يحل إلا في تزويج أو في ملك يمين ومن استثنى مدة غير معلومة لم يصح للخبر

باب الشروط في البيع
وهي على أربعة أضراب :
أحدها : ما هو من مقتضى البيع كالتسليم والرد بالعيب فهذا لا أثر له لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد
الثاني : ما هو من مصلحته كالخيار والأجل والرهن والضمين فهذا شرط صحيح لازم ورد الشرع به نذكره في مواضعه
الثالث : شرط ينافي مقتضى العقد وهو نوعان :
أحدهما : ما لم يبين على التغليب والسراية كشرط أن لا يملك ولا يتصرف ولا يسلم أو لا يعتق أو إن أعتق فالولاء له أو متى نفق المبيع وإلا رده أو إن خسر
فيه فعلى البائع فهذا شرط باطل لقول النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة لما أرادت شراء بريرة فاشترط أهلها ولاءها : [ اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ثم قال : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ] فتفق عليه
وهل يفسد البيع به ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يفسد لحديث بريرة
والثانية : يفسد لأنه إذا فسد الشرط وجب رد ما في مقابلته من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا
النوع الثاني : أن يشتريه بشرط أن يعتقه ففيه روايتان :
إحداهما : الشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى البيع فأشبه ما قبله
والثانية : يصح : لأن عائشة اشترت بريرة لتعتقها فأجازه النبي صلى الله عليه و سلم فعلى هذا إن امتنع المشتري من العتق أجبر عليه في أحد الوجهين لأن عتق مستحق عليه فأجبر عليه كما لو نذر عتقه
والثاني : لا يجبر عليه لأن الشرط لا يجوب فعل المشروط كما لو شرط رهنا أو ضمينا لم يجبر ولكن يثبت للبائع خيار الفسخ كمشترط الرهن فإن مات العبد رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق وإن كان المبيع أمة فأحبلها أعتقها وأجزأه لأن الرق باق فيها
الرابع : ما لا ينافي مقتضى العقد ولا هو من مصلحته وهو نوعان :
أحدهما : أن يشترط عقدا آخر مثل أن يبيعه بشرط أن يبيعه عينا أخرى أو يؤجره أو يسلفه أو يشتري منه أو يستسلف فهذا شرط فاسد يفسد العقد به لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح ونهى عن بيعتين في بيعة وهذا منه
الثاني : أن يشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فيصح إذا كانت معلومة مثل أن
يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطه قميصا أو فلعة ويشترط حذوها نعلا أو حطبا و يشترط حمله لأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب وشرط عليه حملها و اشتهر ذلك فلم ينكر ولأنه بيع وإجارة فصح كما لو باعه عبده وأجره داره في عقد واحد وقال الخرقي : إن شرط مشتري الرطبة جزها على بائعها بطل العقد فيحتم أن يخص قوله بهذه الصورة وشبهها لإفضائه إلى التنازع فإن البائع يريد قطعها من أعلاها لتبقى له منها بقية والمشتري يريد الاستقصاء عليها ويحتمل أن يعدى حكمها إلى كل عقد شرط فيه منفعة البائع لأنه شرط عقدا في عقد فأشبه ما قبله وقال القاضي : أم أجد بما قال الخرقي رواية في المذهب والمذهب جوازه فإن شرط شرطين مثل أن اشترط خياطة الثوب وقصارته وفي الحطب حمله وتكسيره أو اشترط منفعة البائع واشترط البائع منفعة المبيع مدة معلومة فسد العقد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا شرطان في بيع ] وإن شرط منفعة معلومة لم يصح لإفضائه إلى التنازع
فصل :
فإن شرط في البيع أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأنه شرطان في بيع لأنه شرط أن يبعه إياه وأن يعطيه إياه بالثمن ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره
والثانية : يصح لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط وإن قلنا بفساده فهل يفسد [ به ] البيع ؟ فيه روايتان
فصل :
وكل موضوع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض لأنه مقبوض بعقد فاسد فأشبه ما لو كان الثمن ميتة ولا ينفذ تصرف المشتري فيه وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل وأجرة مثله مدة مقامه في يديه ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع أشبه المغصوب ولا حد عليه إن وطئ للشبهة و عليه مهر مثلها وأرش بكارتها إن كانت بكرا والولد حر لأنه وطء شبهة ويلحق نسبة به ذلك ولا تصير به الجارية أم ولد لأنها ولدت في غير ملك وإن حكمنا الشرط وحده فقال القاضي : يرجع المشتري بما نقصه لأنه إنما سمح به لأجل الشرط فإذا لم يحصل رجع بما سمح به
فصل :
ولا يحل البيع بعد النداء للجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فإن باع لم يصح للنهي ويجوز ذلك لمن لا تجب عليه الجمعة لأن الخطاب بالسعي لم يتناوله فكذلك النهي والنداء الذي به السعي والنهي هو الثاني الذي يكون عند صعود الإمام المنبر لأنه الذي كان على عهد رسول الله ( ص ) فتعلق الحكم به وإنما زاد الأول عثمان رضي الله عنه وفي النكاح والإجارة وجهان :
أحدهما : حكمهما حكم البيع لأنهما عقدا معاوضة
والثاني : يصحان لأنهما غير منصوص عليهما وليسا في معنى المنصوص عليه لأنهما لا يكثران فلا تؤدي إباحتهما إلى ترك الجمعة بخلاف البيع
فصل :
ولا يحل التسعير لما روى أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله ( ص ) فقالوا : يا رسول الله قد غلا السعر فسعر لنا فقال : [ إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح
ولأنه ظلم للبائع بإجباره على البيع سلعته سلعته بغير حق أو منعه من بيعها بما يتفق عليه المتعاقدان وهو من أسباب الغلاء لأنه يقطع الجلب ويمنع الناس من البيع فيرتفع السعر
فصل :
والاحتكار محرم لما روى سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله أن رسول الله ( ص ) قال : [ من احتكر فهو خاطئ ] رواه مسلم و أبو داود
والاحتكار المحرم : ما جمع أربعة أوصاف أن يشتري قوتا يضيق به على الناس في بلد فيه ضيق فأما الجالب فليس بمحتكر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ] ولأنه لا ضرر على الناس على جلبه ومن استغل من أرضه شيئا فهو كالجالب ولا يمنع من احتكار الزيت وما ليس بقوت لأن سعيد بن المسيب راوي الحديث كان يحتكر الزيت ومن اشترى في حال الرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحتكر لأنه لا ضرر فيه بل ربما كان نفعا
فصل :
وبيع التلجئة : وهو أن يخاف الرجل ظالما بأخذ ماله فيواطئ رجلا يظهر بيعه إياه ليحتمي بذلك ولا يردان بيعا حقيقيا فلا يصح لأنهما ما قصداه فهو كبيع المكره

باب الخيار في البيع
وهو على ضربين :
أحدهما : خيار المجلس فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا
بأبدانهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البيعان في الخيار ما لم يتفرقا ] متفق عليه والتفرق : أن يمشي أحدهما عن صاحبه بحيث إذا كلمه الكلام المعتاد في المجلس لا يسمعه لأن ابن عمر كان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه ولأن الشرع ورد بالتفرق مطلقا فوجب أن يحتمل على التفرق المعهود وهو يحصل بما ذكرناه فإن لم يتفرقا بل بني بينهما حاجز أو أرخي بينهما ستر أو نحوه أو ناما أو قاما عن مجلسهما فمشيا معا فهما على خايرهما لأنهما لم يتفرقا وإن فر أحدهما من صاحبه بطل خيارهما لأن ابن عمر كان يفارق صاحبه بغير أمره ولأن الرضى في الفرقة غير معتبر كما لا يعتبر الرضى في الفسخ وإن أكرها على التفريق ففيه وجهان :
أحدهما : يبطل الخيار لأنه لا يعتبر الرضى من أحد الجانبين فكذلك منهما
والثاني : لا يبطل لأنه معنى يلزم به البيع فلا يلزم به مع الإكراه كالتخاير فعلى هذا يكون الخيار لهما في المجلس الذي زال عنهما الإكراه فيه حتى يفارقاه فإن أكره أحدهما بطل خيار الآخر كما لو هرب منه وللمكره الخيار في أحد الوجهين
فصل :
فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما أو قالا : بعد البيع اخترنا إمضاء العقد أو أجزنا العقد ففيه روايتان :
إحداهما : هما على خيارهما لعموم الخبر
والثانية : لا خيار لهما لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يخير أحدهما صاحبه فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] وفي لفظ : [ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان على خيار فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع ] متفق عليهما وفي لفظ [ أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ] رواه البخاري وهذه زيادة يجب قبولها فإن قال أحدهما لصاحبه : اختر فسكت فخيار الساكت بحاله لأنه لم يوجد منه ما يبطله وفي خيار القائل وجهان :
أحدهما : يبطل للخبر ولأنه جعل الخيار لغيره فلم يبقى له شيء
والثاني : لا يبطل كما لو قال لزوجته : اختاري فسكتت لم يبطل خياره في الطلاق
فصل :
ويثبت خيار المجلس في كل بيع للخبر ولأنه شرع للنظر في الحظ وهذا يوجد في كل بيع وعنه : لا يثبت في الصرف والسلم وما يشترط فيه القبض في المجلس لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط
فصل :
الضرب الثاني : خيار الشرط نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة فيجوز بالإجماع ويثبت فيما يتفقان عليه من المدة المعلومة وإن زادت على ثلاث لأنه حق يعتمد الشرط فجاز ذلك فيه كالأجل ويجوز شرطه لأحدهما دون صاحبه ولأحدهما أكثر من صاحبه لأنه ثبت بشرطهما فكان على حسبه ولو اشترى شيئين صفقة واحدة وشرط الخيار في أحدهما بعينه صح وإن شرطه في غير معين منهما أو لأحد المتبايعين غير معين لم يصح لأنه مجهول فأشبه بيع أحد العبدين وإن شرط الخيار الأجنبي صح وكان مشترطا لنفسه موكلا لغيره فيه لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه فتعين ولمشترط الخيار الفسخ بغير رضى الأجنبي وللأجنبي الفسخ إلا أن يعزله المشترط ولو شرط الخيار للعبد المبيع صح لأنه كالأجنبي وقال القاضي : إن جعل الأجنبي وكيلا فيه صح وإن أطلق الخيار لفلان أو قال : هو لفلان دوني لم يصح لأن الخيار جعل لتحصيل الحظ للمتعاقدين بنظرهما فلا يكون لمن لا حظ له وإن كان العقد وكيلا فشرط الخيار للمالك صح لأن الحظ له وإن جعله للأجنبي لم يصح لأنه ليس له توكيل غيره وإن شرط لنفسه صح لأن له النظر في تحصيل الحظ وإن قال : بعتك على أن أستأمر فلانا في مدة معلومة صح وله الفسخ قبل استئماره لأن ذلك كناية عن الخيار وإن لم يجعل له مدة معلومة فهو كالخيار المجهول
فصل :
وإذا شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو غروبها أو إلى الغد أو إلى الليل صح لأنه وقت معلوم ولا يدخل الغد ولا الليل في مدة الخيار لأن إلى للغاية وموضوعها لفراغ الشيء وانتهائه وإن شرطاه ثلاثا أو ساعات معلومة فابتدأ مدته من حين العقد لأنها مدة ملحقة بالعقد فكان بدؤها منه كالأجل ولأن جعله من حين التفريق يفضي إلى جهالته لأنه لا يدري متى يفترقان ويحتمل أن يكون بدء مدته من حين التفريق لأن الخيار ثابت في المجلس حكما فلا حاجة إلى إثباته بالشرط فعلى هذا إن جعلا بدأه من العقد صح لأن بدايته ونهايته معلومان ويحتمل أن لا يصح لأن ثبوت الخيار بالمجلس يمنع ثبوته بغيره وعلى الوجه الأول لو جعلا بدأه من التفريق لم يصح لجهالته
فصل :
فإن شرطا خيارا مجهولا لم يصح لأنها مدة ملحقة بالعقد فلم تصح مجهولة كالتأجيل وهل يفسد العقد به ؟ على روايتين وعنه : أنه يصح مجهولا لقوله عليه السلام : [ المسلمون على شروطهم ] رواه الترمذي : وقال حديث حسن صحيح فعلى هذا إن كان الخيار مطلقا مثل أن يقول : لك الخيار متى شئت أو إلى الأبد فهما على خيارهما أبدا أو يقطعاه وإن قال : إلى أن يقدم زيد أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه أو يقطعاه قبله وإن شرطاه إلى الحصاد أو الجذاذ ففيه روايتان :
إحداهما : هو مجهول لأن زمن ذلك يختلف فيكون كقدوم زيد
والثانية : يصح لأن مدة الحصاد تتقارب في العادة في البلد الواحد فعفي عن الاختلاف فيه وإن شرطه إلى العطاء يريد وقت العطاء صح لأنه معلوم وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول لأنه يتقدم ويتأخر وإن شرط الخيار شهرا يوما يثبت ويوما لا ففيه وجهان :
أحدهما : يثبت في اليوم لأول لأنه معلوم يلي العقد ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم لم يعد إلى الجواز ويحتمل أن يبطل الشرط كله لأنه شرط واحد فإذا فسد في البعض فسد في الكل
فصل :
ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه لأنه عقد جعل إلى اختياره فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه كالطلاق ومتى انقضت مدته قبل الفسخ لزم العقد على كل حال لأنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانتهائها كالأجل ويبطل الخيار بالتخاير كما يبطل خيار المجلس به ولو ألحقا بالعقد خيارا بعد لزومه لم يلحقه لأنه عقد لازم فلم يصر جائزا بقولهما كالنكاح وإن فعلا ذلك في مدة الخيار جاز لأنه جائز فجاز إبقاؤه على على جوازه
فصل :
وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد
وعنه : لا ينتقل إلا بعد انقضائه لأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض والأول ظاهر المذهب لأن البيع سبب لنقل الملك فنقل عقيبه كالمطلق ولأنه تمليك فأشبه المطلق وليس منع التصرف لقصور السبب بل لتعلق حق البائع بالمبيع وما يحصل من غلة المبيع في مدة الخيار ونمائه المنفصل فهو للمشتري سواء فسخا العقد أو أمضياه لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه ولأنه من ضمانه فيدخل في قوله عليه السلام : [ الخراج بالضمان ] وعلى الرواية الأخرى هو للبائع والحكم في ضمانه كالحكم في ضمان المبيع المطلق
فصل :
وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا انقطعت عنه علاقته فيتصرف فيه المشتري فإن تصرفا بغير العتق لم ينفذ تصرفهما لذلك وعنه في تصرف المشتري : أنه موقوف إن فسخ البائع بطل وإن لم يفسخ صح لعدم المبطل له ذكرها ابن أبي موسى وإن كان الخيار للمشتري وحده صح لذلك وإن أعتق المشتري العبد عتق لأنه عتق من مالك تام الملك جائز التصرف فنفذ كما بعد المدة فإن قلنا : الملك للبائع نفذ عتقه ولا ينفذ عتق من لا ملك له لأنه عتق من غير مالك فأشبه الأجنبي وفي الوقف وجهان :
أحدهما : هو كالعتق لأنه تصرف يبطل الشفعة والصحيح : أنه لا ينفذ لأنه لا يبنى على التغليب ولا يسري إلى ملك الغير أشبه البيع
فصل :
فإن وطئ المشتري الجارية فلا حد عليه ولا مهر وإن ولدت منه فالولد حر ولا تلزمه قيمته وتصير أم ولد لأنه وطئ مملوكته وإن وطئ البائع فعليه المهر لأنه وطئ في غير ملك وإن علم التحريم فولده رقيق لا يلحقه نسبه كما لو وطئ بعد المدة وإن جهل التحريم فلا حد عليه وولده أحرار وعليه قيمتهم يوم الولادة لأنه يعتقد أنه يحبلها في ملكه فأشبه المغرور من أمة ولا تصير أم ولد بحال قال بعض أصحابنا : وعليه الحد إن علم التحريم وأن البيع لا ينفسخ به وذكر أن أحمد نص عليه لأن وطأه لم يصادف ملكا ولا شبهة ملك والصحيح انه لا حد عليه لأن أهل العلم اختلفوا في ملكه لها وحل وطئها وهذه شبهة يدرأ الحد بها ولأن ملكه يحصل بوطئه فيحصل تمام وطئه في ملكه فلا يجب الحد به وإن قلنا بالرواية الأخرى انعكست هذه الأحكام
فصل :
وطء البائع فسخ للبيع لأنه دليل على الاسترجاع فأشبه من أسلم على أكثر من أربع فوطئ إحداهن كان اختيارا لها ووطء المشتري رضى بالمبيع وإبطال لخياره لذلك وسائر التصرفات المختصة بالملك كالعتق والكتابة والبيع والوقف والهبة والمباشرة واللمس للشهوة وركوب الدابة لسفر أو حاجة والحمل عليها وشرب لبنها وسكنى الدار وحصاد الزرع ونحوه إن وجد من المشتري بطل خياره لأنه يبطل بالتصريح بالرضى فبطل بدلالته كخيار المعتقة يبطل بتمكينها زوجها من وطئها وإن تصرف البائع بذلك ففيه وجهان :
أحدهما : هو فسخ للبيع لذلك والآخر لا يكون فسخا لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه استرجاعا كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه وقال أبو الخطاب : هل يكون تصرف البائع فسخا للبيع وتصرف المشتري رضى بالبيع وفسخا لخياره ؟ على وجهين وأما ركوب المشتري الدابة لينظر سيرها وطحنه على الرحى ليختبرها فلا يبطل الخيار لأن الاختيار هو المقصود بالخيار وإن استخدم العبد ليختبره لم يبطل خياره لذلك وإن استخدمه لغير ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : يبطل خياره لأنه تصرف منه أشبه الركوب للدابة
والثانية : لا يبطل لأنه لا يختص الملك أشبه النظر وإن قبلت الجارية المشتري لشهوة لم يبطل خياره لأنها قبلة لأحد المتابعين فلم يبطل خياره كقبلتها للبائع ولأنا لو أبطلنا خياره بهذا أبطلناه من غير رضاه بالمبيع ولا دلالة عليه ويحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها لأن إقراره عليه رضى به
فصل :
وإن أعتق المشتري الجارية أو استولدها أو أتلفت المبيع أو تلف في يده لم يبطل خيار البائع لأنه لم يوجد منه رضى بإبطاله وله أن يفسخ ويرجع ببدل المبيع وهو مثله إن كان مثليا وإلا قيمته يوم أتلفه وعنه : أن خياره يبطل بذلك اختارها الخرقي لأنه خيار فسخ فبطل بتلف المبيع كخيار الرد بالعيب
فصل :
وإن مات أحد المتبايعين بطل خياره ولم يثبت لورثته لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة ويتخرج أن يورث قياسا على الأجل في الثمن وإن جن أو أغمي عليه قام وليه مقامه لأنه قد تعذر منه الاختيار مع بقاء ملكه وإن خرس ولم يفهم إشارته فهو كالمجنون وإن فهمت إشارته قام مقام لفظه وإن مات في خيار المجلس بطل خياره وفي خيار صاحبه وجهان :
أحدهما : يبطل لأن الموت أعظم الفرق
والثاني : لا يبطل لأن الفرقة بالأبدان لم تحصل

باب الربا
الربا محرم لقول الله تعالى : { وحرم الربا } وما بعدها من الآيات وروي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ] متفق عليه وهو على ضربين : ربا الفضل وربا النسيئة والأعيان على الربا فيها ستة مذكورة في حديث عبادة بن الصامت عن النبي ( ص ) أنه قال : [ الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد ] رواه مسلم واختلفت الرواية في علة الربا ثلاث روايات فأشهرهن : أن علته في الذهب والفضة الوزن والجنس وفي غيرهما الكيل والجنس لما روي عن عمار أنه قال : العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين فما كان يدا بيد فلا بأس به إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن ولأنه لو كانت العلة الطعم لجرى الربا في الماء لأنه مطعوم قال الله تعالى : { ومن لم يطعمه فإنه مني } فعلى هذا يحرم التفاضل في كل مكيل أو موزون من جنس سواء كان مطعوما كالقطنيات أو غير مطعوم كالأشنان والحديد ويجري الربا فيما كان جنسه مكيلا أو موزونا وإن تعذر الكيل فيه أو الوزن إما لقلته كالتمرة والقبضة وإما دون الأرزة من الذهب والفضة وإما لعظمه كالزبرة العظيمة وإما للعادة كلحم الطير لأنه من جنس فيه الربا فجرى فيه الربا كالزبرة العظيمة وما نسج من القطن والكتان لا ربا فيه نص عليه لحديث عمار وما عمل من الحديد ونحوه ما كان يقصد وزنه جرى فيه الربا لأنه تقصد زنته فجرى فيه الربا كلحم الطير وما لا تقصد زنته لا يجري فيه الربا كالثياب والرواية الثانية : العلة في الذهب والفضة : الثمينة غالبا وفيها عداهما كونه مطعوم جنس لما روى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ نهى عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل ] رواه مسلم ولأنه لو كان الوزن علة فلم يجز إسلام النقد في الموزنات لأن اجتماع المالين في أحد وصفي علة ربا الفضل يمنع النساء بدليل إسلام المكيل في المكيل فعلى هذه الرواية يحرم التفاضل في كل مطعوم بيع بجنسه من الأقوات والأدام والفواكه والأدوية و الأدهان المطيبة وغيرها وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا كالبطيخ والرمان والبيض ونحوها والرواية الثالثة : العلة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل و الوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان
فصل :
وما يجري فيه الربا اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ الذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل ] رواه الأثرم ولا يجوز بيع مكيل بجنسه وزنا ولا موزون كيلا للخبر ولأنه لا يلزم من تساويهما في أحد المعيارين التساوي في الآخر لتفاوتهما في الثقل والخفة ولا يجوز بيع بعضه ببعض جرفا من الطرفين ولا من أحدهما لما روى جابر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الصبرة لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر ] رواه مسلم ولأن الممائلة لا تعلم بدون الكيل من الطرفين فوجب ذلك وما لا يكال و لا يوزن يعتبر الماثل فيه بالوزن لأنه أحصر ومنه ما لا يتأتى كيله
فصل :
والمرجع في الكيل والوزن إلى عادة أهل الحجاز لقول النبي ( ص ) : [ المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة ] وما لا عرف له بالحجاز يعتبر بأشبه الأشياء به بالحجاز في أحد الوجهين لأن الحوادث ترد إلى أقرب الأشياء شبها بها وهو القياس والثاني ترد إلى عرفه في موضعه لأن ما لا حد له في الشرع يرد إلى العرف كالقبض والحرز
فصل :
والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع متماثلا وتحريمه متفاضلا للخبر وفي بعض ألفاظه [ الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها ] رواه أبو داود وفي لفظ [ جيدها ورديئها سواء ]
فصل :
ولا يحرم التفاضل إلا في الجنس الواحد للخبر والإجماع وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس كأنواع التمر وأنواع البر وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان كالستة المذكورة في الخبر لأن النبي صلى الله عليه و سلم حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس وما اختلفا فيه جنسان وعنه : أن البر والشعير جنس لأن معمر بن عبد الله قال لغلامه فيهما لا تأخذن إلا مثلا بمثل [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل ] رواه مسلم والمذهب الأول لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الأعيان الستة فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد [ رواه مسلم وقال ] لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد رواه أبو داود وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس الواحد
فصل :
والمتخذ من أموال الربا معتبر بأصله فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد وإن اختلفت أسماؤه وما أصله أجناس فهو أجناس وإن اتفقت أسماؤه فدقيق الحنطة والشعير جنسان ودهن اللوز والجوز جنسان وزيت الزيتون و البطم جنسان وكذلك خل العنب وخل التمر وعنه : أنهما جنسان والأول أصح لأنهما فرعا أصلين مختلفين فكانا جنسين كالأدقة وفي اللحم ثلاث روايات :
إحداهن : أنه كله جنس واحد لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه وكان جنسا واحدا كالتمر
والثانية : أنه أربعة أجناس لحم الأنعام ولحم الوحش ولحم الطير ولحم دواب الماء لأنها تختلف منفعتها والقصد إلى أكلها فكانت أجناسا
والثالثة : أنها أجناس فكانت أجناسا كالتمر الهندي والبرني وبهذا ينتقض دليل الرواية الأولى والثانية لا أصل لها فعلى هذه الرواية لحم بهيمة الأنعام كلها ثلاثة أجناس ولحم بقر الوحش والأهلية جنسان وكل ما انفرد باسم وصفة فهو جنس وقال ابن أبو أبي موسى : لا خلاف عن أحمد أن لحم الطير والسمك جنسان وفي الألبان من القول نحو مما في اللحم لأنها من الحيوانات يتفق اسمها فأشبهت اللحم
فصل :
واللحم والشحم والكبد والطحال والرئة والكلية والقلب والكرش أجناس لأنها مختلفة في الاسم والخلقة قال بعض أصحابنا : الشحم والألية جنسان لذلك وقالوا : اللحم الأحمر والأبيض الذي على الظهر والجنبين جنس لاتفاقهما في الدسم المقصد ويحتمل أن يكون الشحم الذي يذوب بالنار كله جنسا واحدا لاتفاقهما في اللون والصفة والذوب بالنار وقد قال الله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } فاستثناه من الشحم
فصل :
ولا يجوز بيع ما فيه ربا بعضه ببعض ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كمد بر ودرهم أو بمدين أو درهمين وعنه ما يدل على الجواز إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه أو كان المفرد أكثر ليكون الزائد في مقابلة غير الجنس والأول المذهب لما روى فضالة بن عبيد قال : [ أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها بتسعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تميز بينهما ] رواه أبو داود
ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما بدليل ما لو اشترى شقصا وسيفا فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن وإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا لأنه إذا باع مدا قيمته درهمان ودرهما بمدين فقيمتهما ثلاثة حصل في مقابلة الجيد مد وثلث فأما إذا باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس كدرهم صحيح ودرهم قراضة بصحيحين فقال القاضي الحكم فيها كالتي قبلها لذلك وقال أبو بكر : يجوز لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ الفضة بالفضة مثلا بمثل ] ولأن الجودة ساقطة فيما قوبل بجنسه لما تقدم وعن أحمد رضي الله عنه : منع ذلك في النقد وتجويزه في غيره لأنه لا يمكن التحرز من اختلاط النوعين
فصل :
ولا يجوز بيع خالصه بمشروبه كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله إلا أن يكون الخلط يسيرا لا وقع له كيسير التراب والزوان ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل لأنه لا يخل بالتماثل ولا يمكن التحرز منه
فصل :
وما اشتمل على جنسين بأصل الخلقة كالتمر فيه النوى فلا بئس ببيع بعضه ببعض لأن النبي صلى الله عليه و سلم أبح بيع التمر بالتمر وقد علم أن في كل واحد نوى ولو نزع النوى ثم ترك مع التمر صار كمسألة مد عجوة لزوال التبعية لو نزع من أحدهما نواه ثم باعه بتمر فيه نواه فكذلك وإن باع النوى بمثله والمنزوع بمثله جاز لأنه جنس متماثل وإن باع المنزوع وحده بالنوى جاز فيه التفاضل لأنهما جنسان وإن باع النوى بتمر فيه نواه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز لأنه في مسألة مد عجوة
والثانية : يجوز لآن ما فيه الربا غير مقصود في أحد الجانبين فلم يمنع كبيع دار مموه سقفها بذهب بذهب وكذلك يخرج في بيع شاة لبون بلبن أو ذات صوف بصوف أو لبون بمثلها فإن كانت محلوبة اللبن جاز وجها واحدا لأن الباقي لا أثر له فهو كالتمويه في السقف ويجوز بيع شاة ذات صوف بمثلها وجها واحدا لأن ذلك لو حرم لحرم بيع الغنم بالغنم قال أبو بكر : يجوز بيع نخلة مثمرة بمثلها وبتمر لأن التمر عليها غير مقصود ومنعه القاضي لكون الثمرة معلومة يجوز إفرادها بالبيع بخلاف البن ومنع القاضي بيع اللحم بجنسه إلا منزوع العظام لأن العظم من غير جنس اللحم فأشبه الشمع في العسل ويحتمل الجواز لأن العظم من أصل الخلقة فأشبه النوى في التمر بخلاف الشمع
فصل :
وما فيه خلط غير مقصود لمصلحته كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر والملح في الخبز والشيرج في الخبيص ونحوه لا يمنع بيعه بمثله لأنه لمصلحته فأشبه رطوبة تمر الرطب ولا يجوز بيعه بخالص كخل الزبيب بخل العنب والخبز الرطب باليابس كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر
فصل :
ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه لأن النار تذهب برطوبته وتعقد أجزاءه فتمنع تساويهما ويجوز بيع مطبوخه بمثله إذا لم يظهر عمل النار في أحدهما أكثر من الآخر لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال كالخبز بالخبز والشواء والسكر والعسل المصفى بالنار بمثله
فصل :
ولا يجوز بيع حبة بدقيقه وعنه : الجواز إذا تساويا وزنا لأن الدقيق أجزاء الحب فجاز بيعه به كما قبل الطحن والمذهب الأول لأن البر ودقيقه مكيلان ولا بيع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا ولا يمكن التساوي في الكيل لأن الطحن فرق أجزاء الدقيق ونشرها ويجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بمثله إذا تساويا في الكيل والنعومة ولما ذكرنا في المطبوخ بمثله ولا يجوز إذا تفاوتا في النعومة لأنه يمنع تساويهما في الكيل إلا على قولنا : يجوز بيع الحب بدقيقه وزنا
فصل :
ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالزيتون بزيته والمسمم بالشيرج والعنب بعصيره لأنه لا يتحقق التماثل بين العصير وما في أصله منه ويجوز بيع العصير بالعصير لما ذكرنا في المطبوخ ولا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه لما روى سعيد بن المسيب أن النبي ( ص ) [ نهى عن بيع اللحم بالحيوان ] رواه مالك في الموطأ ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كالزيتون بالزيت وإن باع اللحم بحيوان لا يؤكل جاز لعدم ما ذكر وإن باعه بحيوان مأكول غير أصله وقلنا : هما جنس واحد لم يجز وإلا جاز
فصل :
ويجوز بيع اللبن باللبن حليبين كانا أو رائبا وحليبا لأن الرائب لبن خالص إنما فيه حموضة ولا يجوز بيع لبن بما استخرج منه من زبد وسمن ومخيض ولا زبد بسمن لأنه مستخرج منه أشبه الزيتون بالزيت وعنه : يجوز بيع الزبد باللبن إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن والسمن مثله وهكذا كمسألة مد عجوة والظاهر تحريمه ولا بيع لبن مائع بجامد لأنهما يتفاضلان ويجوز بيع السمن والزبد والمخيض واللباء والجبن والمصل بمثله إذا تساويا في الرطوبة والنشافة ولم ينفرد أحدهما بمس النار له ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلا لأنه ليس في أحدهما شيء من الآخر وبيع الزبد بالمخيض نص عليه لأن اللبن في الزبد يسير غير مقصود أشبه الملح في الشيرج ولا يجوز بيع شيء من هذه الأنواع بنوع لم ينزع زبده كالجبن والمصل لما ذكرنا في بيعه باللبن
فصل :
ولا يجوز بيع رطبه بيابسه [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الرطب بالتمر ] متفق عليه وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : [ أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا نعم فنهاه عن ذلك ] أخرجه أبو داود فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه فدل على أن كل رطب يحرم بيعه بيابسه ويجوز بيع رطبه برطبه لأن مفهوم نهيه عن بيع الرطب بالتمر إباحة بيعه بمثله ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا يتفرد أحدهما بالنقصان فجاز بيعه به كاللبن باللبن وذكر الخرقي أن الحم لا يباع باللحم إلا إذا تناهى جفافه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بمثله اخترها أبو حفص لأنهما لم يتساويا حال الكمال والمذهب والجواز : وقال القاضي : لم أجد بما قال الخرقي عن أحمد رضي الله عنه
فصل :
ويجوز بيع العرايا وهو : بيع الرطب على رؤوس النخل خرصا بالتمر على وجه الأرض لما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ] متفق عليه وإنما يجوز بشروط خمسة
أحدها : أن يكون دون خمسة أوسق وعنه يجوز في الخمسة لأن الرخصة ثبتت في العرية ثم نهى عما زاد على الخمسة وشك الراوي في الخمسة فردت إلى أصل الرخصة والمذهب الأول لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر فيما دون الخمسة بالخبر والخمسة مشكوك فيها فترد إلى الأصل
الثاني : أن يكون مشتريها محتاجا إلى أكلها رطبا لما روى محمود بن لبيد قال : قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا [ العرية ] برخصها من التمر [ يأكلونه ] رطبا متفق عليه
والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها فإن تركها حتى تتمر بطل البيع لعدم الحاجة
الثالث : أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر
الرابع : أن يشتريها بخرصها للخبر [ ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا ] متفق عليه
ولا بد أن يكون التمر معلوما بالكيل للخبر وفي معنى الخرص روايتان :
إحداهما : أن ينتظر كم يجيء منها تمرا فيبيعها بمثله لأنه يخرص في الزكاة كذلك
والثانية : يبيعها بمثل ما فيها من الرطب لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل فإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب ولا يجوز بيعها برطب ولا تمر على نخل خرصا
الخامس : أن يتقابضا قبل تفرقهما لأن البيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع والقبض فيما على النخل بالتخلية وفي التمر باكتياله فإن كان حاضرا في مجلس البيع اكتاله وإن كان غائبا مشيا إلى التمر فتسلما وإن قبضه أو لا ثم مشيا إلى النخلة فتسلمها جاز واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها لأن العرية اسم لذلك
واشترط أبو بكر و القاضي حاجة البائع إلى بيعها وحديث زيد بن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط فتذهب الرخصة فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن أو ساق ولا يجوز لوحد شراء عريتين فيهما جميعا خمسة أوسق لأنه في معنى شرائهما في عقد واحد
فصل :
قال ابن حامد : لا يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل لما روي [ أن النبي ( ص ) نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر بخرصه ] وهذا حديث حسن ولأن غير التمر لا يساويه في كثرة اقتياته وسهولة خرصه فلا يقاس عليه غيره وقال القاضي : يجوز في جميع الثمار لأن حاجت الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما وورود الشرع بخرصهما وكونهما مقتاتين دون غيرهما
فصل :
في ربا النسيئة كل مالين اتفقنا في علة ربا الفضل كالمكلين والموزونين أو المطعومين على الرواية الأخرى لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نساء ولا التفرق قبل القبض لقول النبي ( ص ) : [ إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ] وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ص ) [ الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ] متفق عليه
وما اختلفت علتهما كالمكيل والموزون إذا لم يتفقا في الطعم جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة وفي النساء فيهما روايتان وما لم يوجد فيه علة ربا الفضل كالثياب والحيوان ففيه روايات أربع
إحداهن : يجوز النساء فيهما لما روي عن عبد الله بن عمرو قال : أمرني النبي ( ص ) أن أستسلف إبلا فكنت آخذ البعير بالبعير إلى مجيء المصدق من { المستند } والثانية : لا يجوز لما روى سمرة قال : [ نهى رسول الله ( ص ) عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح
والثالثة : يحرم النساء في الجنس الواحد لهذا الخبر ويباح في الجنسين عملا بمفهومه
والربعة : يباح مع التساوي ويحرم مع التفاضل في الجنس الواحد لما روى جابر أن النبي ( ص ) قال : [ الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد ] قال الترمذي : هذا حديث حسن
وعن ابن عمر رجلا قال : يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل ؟ فقال : [ لا بأس به إذا كان يدا بيد ] رواه أحمد في المسند ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزونا أو غيره لأنها رؤوس الأموال فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزا
فصل :
فإن تفرقا قبل القبض فيما يشترط القبض فيه بطل العقد فإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل في غير المقبوض وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة وما وجب التماثل فيه إذا بيع عينا بعين فوجد في أحدهما عيبا من غير جنسه بطل البيع لأنه يفوت التماثل المشترط وإن كان البيع في الذمة جاز إبداله قبل التفرق وهل يجوز بعد التفرق ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يجوز إذا أخذ البدل في مجلس الرد لأن قبض بدله يقوم مقامه
والثانية : يبطل العقد برده لأنهما تفرقا قبل العوض وإن كان عيبه لمعنى لا ينقص ذاته كالسواد في الفضة والخشونة فيها فالعقد صحيح وليس له أخذ الأرش لأنه يخل بالتماثل وله الخيار بين فسخ العقد أو الإمساك وليس له البدل إن كان البيع عينا بعين وإن كان البيع في الذمة فحكمه حكم القسم الذي قبله فأما ما لا يجب التماثل فيه فله أخذ أرشه لأن التفاضل فيه جائزة وحكمه فيما سوى ذلك حكم ما قبله

باب بيع الأصول
من باع نخلا مؤبرا فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له وإن لم تؤبر فهي للمشتري إلا أن يشترطها البائع فتكون له لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ] متفق عليه فجعل المؤبرة للبائع فدل على أن غير المؤبرة للمبتاع ولأنها قبل التأبير نماء كامن لظهوره غاية فتبع الأصل قبل ظهوره ولم يتبعه بعده كالحمل وطلع الفحال كغيره ويحتمل أنه للبائع قبل تشققه لأنه يوجد كذلك والطلع ظاهر فهو كالتين والصحيح : الأول للخبر لأن المقصود فيما داخل الطلع للتلقيح ولم يظهر فيتبع الأصل كطلع الإناث فإن أبر بعض الحائط دون بعض فما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري في ظاهر كلام أحمد وقول أبي بكر للخبر وقال ابن حامد : الكل للبائع : لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر واختلاف الأيدي فجعلنا ما لم يظهر تبعا للظاهر كأساسيات الحيطان تتبع الظاهر منها ولم يجعل الظاهر تبعا للباطن كما لا تتبع الحيطان الأساس في منع البيع للجهالة وإن كان المبيع حائطين لم يتبع أحدهما صاحبه لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة لانفراد أحدهما عن الآخر وإن أبر نوع من الحائط لم يتبع النوع الآخر في قول القاضي لأن النوعين يختلفان في التأبير وقال أبو الخطاب يتبعه لئلا يفضي إلى سوء المشاركة في الجنس الواحد وإن أبر بعض ما في الحائط فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فهو للمشتري لأنه لم يؤبر منه شيء وإن أبر بعض الحائط فباعه ثم أطلع الباقي في يد المشتري فالطلع له لأنه حادث في مكة فكان له كما لو لم يؤبر منه شيء
فصل :
وكل عقد ناقل للأصل كجعله صداقا وعوض خلع أو أجرة أو هبة كالبيع فيما ذكرنا لأنه عقد يزيل الملك عن الأصل فأزاله عن الثمرة قبل الظهور كالبيع
فصل :
وسائر الشجر على ستة أضرب :
أحدهما : ما يقصد زهره كالورد والقطن الذي يبقى أعواما فهو كالنخل إن تفتحت أكمامه وتشقق جوزه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري كالطلع سواء
الضرب الثاني : ما له ثمرة بارزة كالعنب والتين فما كان منه ظاهرا فهو للبائع لأنها ثمرة ظاهرة فهي كالطلع المؤبر وما ظهر بعد العقد فهو للمشتري لأنه حدث في ملكه
الثالث : ما له قشر لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع إن كان ظهر لأن قشره من مصلحته فهو كأجزاء الثمرة
الرابع : ما له قشران كالجوز واللوز فهو للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزايله في الغالب إلا بعد جذاذه فهو كالرمان وقال بعض أصحابنا : إن تشقق قشره الأعلى فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه لا يدخر في قشره الأعلى بخلاف الرمان
الخامس : ما يظهر ثمره في نوره ثم يتناثر نوره فيظهر كالتفاح والمشمش فما تناثر نوره فهو للبائع وما لا يتناثر فهو للمشتري لأنه لا يظهر إلا بعد تناثر نوره فكان كتأبير النخل ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض
السادس : ما يقصد ورقه كالتوت فيحتمل أنه للمشتري بكل حالة قياسا على سائر الورق ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه ها هنا كالثمر
فصل :
وإذا اشترى شجرا عليه ثمرة للبائع لم يكلف نقلها إلا أوان جذاذها لأن نقل المبيع على حسب العادة ولهذا لو اشترى متاعا ليلا لم يكلف نقله حتى يصبح ولو باع متاعا كثيرا في دار لم يكلف تفريغها إلا على العادة ولم يلزمه جمع دواب البلد لنقله دفعة واحدة فإذا بلغ الجذاذ كلف نقله وإن كان بقاؤه أنفع له لأنه أمكن نقله عادة وإن أصاب الشجر عطش خيف هلاكه ببقائه عليه ففيه وجهان :
أحدهما : لا يلزم قطعه لأنهما دخلا في العقد على ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ
والثاني : يلزم قطعه لأن المشتري رضي بذلك إذا لم يضر به وهذا فيه ضرر كثير وإن أراد أحدهما سقي ما له لمصلحته فله ذلك وإن أضر بصاحبه لأنه رضي بالضرر لعلمه أنه لا بد من السقي وإن سقى لغير مصلحة لم يمكن منه لأنه سفه
فصل
وإن باع أرضا بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع وإن لم يقل بحقوقها ففيه وجهان :
أحدهما : يدخل أيضا لأنه متصل بها للبقاء فهو كأجزائها
والثاني : لا يدخل لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها وإن قال : بعتك هذا البستان دخل الجميع في البيع لأن البستان اسم للأرض ذات الشجر
وإن باع الأرض و فيها زرع لا يحصد إلا مرة كالحنطة و الشعير و الجزر و الفجل لم يدخل في البيع لأنه نماء ظاهر لفصله غاية فلم يدخل في بيع الأرض كالطلع المؤبر و سواء كان نابتا أو بذرا لأن البذر مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها كالركاز و يكون الزرع مبقى إلى حين الحصاد كما أن الثمرة تبقى إلى حين الجذاذ فإن أراد البائع قطعه قبل وقته لينتفع بالأرض لم يكن له ذلك لأن منفعة الأرض إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد ضرورة إبقاء الزرع فتقدرت ببقائه كما لو باع دارا فيها متاع لا ينقل في العادة إلا في شهر فيكلف نقله في يوم لينتفع بها في بقيته والحصاد على البائع وعليه إزالة ما يبقى من عروقه المضرة بالأرض وتسوية حفره لأنه حصل بفعله لاستصلاح ملكه فأشبه من باع دارا فيها حجر للبائع فقلعه وتحفرت الأرض وإن اشترطها المشتري في البيع كانت له كالثمرة المؤبرة ولا تضر جهالته لأنه دخل في البيع تبعا للأرض فأشبه الثمرة بعد تأبيرها وإن لم يعلم المشتري بالبزرة فله الخيار لأنه عيب في حقه لما يفوت عليه من نفع الأرض فإن قال البائع : أنا أحوله على وجه لا يضر وفعل سقط الخيار لزوال العيب وإن اشترى نخلا إذا طلع مؤبر لم يعلم تأبيره فله الخيار أيضا وإن بذل البائع قطعه لم يسقط الخيار لأن الضرر لا يزول بقطعه لأنه يفوت عليها { ثمرتها } عاما
فصل
وإن كان في الأرض ما له أصل يجز مرة بعد أخرى فالجزة الظاهرة عند البيع للبائع والأصول للمشتري سواء كان مما يبقى عاما كالهندباء أو أكثر كالرطبة لأن أصوله تركت للبقاء فهي كالشجرة وما ظهر منه وجرت العادة بأخذه فهو كالثمرة المؤبرة وعلى البائع قطعه في الحال لأنه لا حد له ينتهي إليه ولأنه يطول والزيادة للمشتري وما تتكرر ثمرته مع بقاء أصله كالقثاء والباذنجان والبطيخ أو يقصد زهره كالبنفسج ونحوه فكذلك : الأصول للمشتري وثمرته الظاهرة وزهره للبائع لأنه تؤخذ ثمرته مع بقاء أصله فهو كالبقول
فصل
وإن كان في الأرض حجارة مدفونة أو ركاز لم يدخل في البيع لأنه ليس من أجزائها إنما هو مودع فيها للنقل عنها فهو كالقماش فإن كانت الأحجار من نفس الأرض أو أساسيات الحيطان أو كان فيها معدن باطن كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع لأنه من أجزائها أو متروك للبقاء فيها فهو كالبناء
فصل
وإن باعه دارا دخت فيها ما اتصل بها كالرفوف المسمرة والخوابي المدفونة فيها للانتفاع بها والحجر السفلاني من الرحى المنصوب والأبواب المنصوبة وفي الحجر الفوقاني والمفتاح وجهان :
أحدهما : يدخل لأنه من مصلحة ما هو داخل في البيع فهو كالباب
والثاني : لا يدخل لأنه ينفرد عنه فهو كالدلو وما هو منفصل عنها مما ليس من مصلحتها كالدلو والحبل والبكرة والقفل لم يدخل في البيع لأنه منفصل عنها غير
مختص بمصلحتها أشبه الفرش التي فيها
وإن باعه قرية لم تدخل مزارعها في البيع إلا بذكرها لأن القرية اسم للأبنية دون
المزارع

باب بيع الثمار
لا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع لما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ] متفق عليه وفي لفظ : [ نهى عن بيع الثمار حتى تزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ] رواه مسلم ولأن في بيعه عزرا من غير حاجة فلم يجز كما لو شرط التبقية فإن باعها بشرط القطع جاز لأنه يأخذها قبل تلفها فيأمن الغرر وإن باعها لمالك الأصل ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لأنها تحصل لمالك الأصل فجاز كما لو باعهما معا
والثاني : لا يصح لأنه أفردها بالعقد أشبه ما لو باعها لغيره وإنما يصح إذا باعهما لأنها تدخل تبعا كالحمل مع أمه وإذا بدا الصلاح جاز بيعها بشرط القطع مطلقا وبشرط التبقية للخبر ولأنه أمن العاهة فجاز بيعه كسائر الأموال
فصل :
وبدو الصلاح في ثمرة النخل أن يحمر أو يصفر وفي العنب أن يسود أو يتموه وفي الحب أن يشتد أو يبيض وفي سائر الثمار أن يبدو فيه النضج أو يطيب أكله لما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب ] متفق عليه ونهى عن بيع الثمرة حتى تزهو قيل : وما تزهو ؟ قال : تحمار أو تصفار ونهى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع العنب حتى يسود رواه الترمذي
وإذا بدا الصلاح في نوع جاز بيع ما في البستان منه وعنه : لا يباع إلا ما بدا صلاحه للخبر والأول أظهر لأن ذلك يؤدي إلى الضرر والمشقة وسوء المشاركة وفي سائر الجنس وجهان مضى توجيههما في التأبير ولا يختلف المذهب أن بدو الصلاح في بعض الشجرة صلاح لجميعها وأن بدو صلاح جنس ليس بصلاح لجنس آخر لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة وإن بدا صلاح ثمرة بستان لم يكن صلاحا لثمرة غيره وعنه : يكون صلاحا فيما قاربه لأنهما يتقاربان في الإدراك والمذهب : الأول لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة وإن بدا الصلاح في ثمرة بستان فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه لم يجز لأنه لم يبد صلاح شيء من المبيع أشبه البستان الآخر وفيه وجه آخر : أنه يجوز لأنه يجوز بيعه مع غيره فجاز منفردا كالذي بدا صلاحه
فصل :
وإذا ابتاع ثمرا أو زرعا بعد صلاحه لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجذاذ لأن ذلك العادة في نقله فحمل البيع عليه لما ذكرنا في الثمرة المؤبر وإن احتاجت إلى سقي لزم البائع سقيها لأن عليه تسليمها في أوان حصادها ولا يحصل إلا بالسقي فلزمه بخلاف ثمرة البائع المؤبرة على أصول المشتري لا يلزمه سقيها لأنه لا يلزمه تسليمها وإن تلفت بجائحة من السماء فهي من ضمان البائع لما روى جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بوضع الجوائح ] وفي لفظ قال : [ إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ ] رواهما مسلم ولأنها تؤخذ حالا فحالا فكانت من ضمان البائع كالمنافع في الإجازة والجائحة : ما لا صنع لآدمي فيها فإن أتلفها آدمي فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين الإمساك ومطالبة المتلف بالقيمة وظاهر المذهب أنه لا فرق بين القليل والكثير إلا أن يكون التالف يسيرا جرت العادة بتلف مثله قال أحمد : لا أقول في عشر تمرات ولا عشرين تمرة ولا أدري ما الثلث وذلك لأن الشرع أمر بوضع الجوائح ولم يجعل له حدا فوجب رده إلى ما يتعارفه الناس جائحة وعنه : أن ما دون الثلث من ضمان المشتري لأن الثمرة لا بد من تلف شيء منها فلا بد من حد فاصل والثلث يصلح ضابطا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ والثلث كثير ] وإن بلغت الثمرة أو الزرع أوان الحصاد فلم ينقل حتى هلك فهو من ضمان المشتري لأنه لزمه النقل فكان التفريض منه فاختص الضمان به وإن اختلفا في التلف أو في قدره فالقول قول البائع لأنه غارم ولأن الأصل السلامة ولو اشترى الثمرة من الشجرة أو الزرع مع الأرض زال الضمان عن البائع بمجرد العقد لأنه حصل التسليم الكامل بتسليم الأصل فأشبه بيع الدار
فصل :
وإذا اشترى ثمرة شجرة فحدثت ثمرة أخرى فاختلطتا و لم تتميزا أو حنطة فانثالت عليها أخرى لم يبطل البيع لأن المبيع باق انضاف إليه غيره فأشبه ما لو اشتبه العبد المبيع بغيره ويشتركان كل واحدة بقدر ماله إن علم قدره وإلا وقف حتى يصطلحا ويحتمل أن يبطل العقد لتعذر تسليم المستحق فأشبه تلف المبيع ولو باع الأصل وعليه ثمرة له فحدثت للمشتري ثمرة اختلطت بها لم يبطل العقد لأن المبيع هو الشجرة و لم يختلط بغيره ويشتركان في الثمرة كما بينا ولو باع ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع وتركها حتى بدا صلاحها أو جزة من الرطبة فطالت حيلة فالعقد باطل من أصله نص عليه لأن الحيل لا تجوز في الدين وإن لم تكن حيلة ففيه روايتان :
إحداهما : يبطل العقد لأن البقية معنى حرم اشتراطه لحق الله تعالى فأبطل العقد حقيقته كالنسيئة في الربويات
والثانية : لا يبطل لأنها زيادة في عين المبيع فلم يبطل بها البيع كسمن العبد قال القاضي : والزيادة للمشتري لذلك وعن أحمد : أنهما يشتركان في الزيادة على كلتا الروايتين لحصولها في ملك المشتري بسبب الأصل الذي للبائع وعنه : يتصدقان بها قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب لاشتباه الأمر فيها فينظر كم قيمتها قبل بدو صلاحها وبعده ؟ فيشتركان فيها أو يتصدقان بها وإن جهلت القيمة وقف الأمر حتى يصطلحا
فصل :
وإذا كانت شجرة تحمل حملين فباع أحدهما عالما أنه يحدث الآخر فيختلط بالأول فالبيع باطل لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه لأن العادة فيه الترك فيختلط بالآخر ويتعذر التسليم
فصل :
ولا يجوز بيع الرطبة ونحوها مما يثبت أصله في الأرض ويؤخذ ما يظهر منه بالقطع دفعة بعد أخرى إلا أن يبيع الظاهر بشرط القطع في الحال لأن ما في الأرض مغيب وما يحدث منه معدوم فلم يجز بيعه كالذي يحدث من الثمرة وإذا باع القثاء والباذنجان ونحوها لقطة لقطة جاز ويكون للمشتري جميع اللقطة وما حدث للبائع
قال القاضي : ويجوز بيع أصولها صغارا كانت أو كبارا مثمرة أو غير مثمرة لأنه أصل تكرر منه الثمر فأشبه الشجر يكون حكمه حكم الشجر في أن ما كان من ثمرته ظاهرا عند البيع فهو للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري ولا يجوز بيع الفجل والجزر نحوهما في الأرض لأن المقصود منها مغيب فأشبه بيع النوى في التمر

باب الرد بالعيب
من علم بسلعته عيبا لم يحل له بيعها حتى يبينه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له ] رواه ابن ماجة فإن باع ولم يبين فالبيع صحيح لأن النبي صلى الله عليه و سلم صحح بيع المصراة مع نهيه عنه وحكي عن أبي بكر : أن البيع باطل لظاهر النهي ومن اشترى معيبا أو مصراة أو مدلسا يعلم حاله فلا خيار له لأنه بذل الثمن فيه راضيا به عوضا فأشبه ما لا عيب فيه وإن لم يعلم فله الخيار بين رده وأخذ الثمن لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له فثبت له الرجوع بالثمن كما في المصراة - وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله كما لو تلف في يده ومعنى الأرش : أن ينظر بين قيمته سليما ومعيبا فيؤخذ قدره من الثمن فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت
فصل
فإن نما المبيع المعيب نماء متصلا كالسمن والكبر والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور وأراد الرد رده بزيادته لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها وإن كانت منفصلة كالكسب واللبن وما يوهب له والولد المنفصل والثمرة الظاهرة رد الأصل وأمسك النماء وعنه : ليس له رده دون نمائه والأول الذهب لما روت عائشة : أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله : إنه استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] رواه أبو داود إلا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه لأن فيه تغريقا بينهما وذكر الشريف : أن له ردها لأنه موضع حاجة أشبه من ولدت حرا فباعها دونه والأول أولى لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معا فإن كان المبيع حاملا فولدت عند المشتري ثم ردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع والولادة نماء متصل
فصل
وإن تعيب المبيع عند المشتري ففيه روايتان :
إحداهما : له أرش العيب وليس له رده لأن في رده ضررا فلا يزال الضرر بالضرر
والثانية : يرده وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر برد المصراة بعد أخذ لبنها ورد عوضه ولأن جواز الرد كان ثابتا فلا يزول إلا بدليل ولا نص في منع الرد ولا قياس فيبقى بحاله فإن دلس البائع العيب فتعيب عند المشتري أو تلف بفعله أو غيره فالمنصوص أنه يرجع بالثمن ولا شيء عليه لأنه مغرور والقياس يقتضي التسوية بين المدلس وغيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب على مشتري المصراة عوض لبنها مع التدليس وجعل الخراج بالضمان ولم يفرق بين مدلس وغيره
وعن أحمد : في المبيع إذا كان صانعا أو كاتبا فنسي عند المشتري يرده بالعيب ولا شيء معه وهذا يحتمل أن يكون فيمن دلس العيب دون غيره لأن الصناعة والكتابة متقومة تضمن في الغصب وعلله القاضي : أنه ليس بنقص في العين ويمكن تذكره فيعود
فصل
وما تعيب قبل قبضه وهو مما يدخل وهو مما يدخل في ضمان المشتري فهو كالعيب الحادث في يده وإن كان مما ضمانه على البائع فهو كالعيب القديم لأن من ضمن جملة المبيع ضمن أجزاءه
فصل
وإن وطئ المشتري الأمة ففيه روايتان :
إحداهما : ليس له ردها وله الأرش لأن الوطء يجري مجرى الجناية لا يخلو من عقر أو عقوبة
والثانية : له ردها إن كانت ثيبا ولا شيء معها لأنها معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضاء بالعيب فأشبه الاستخدام وإن كانت بكرا فهو كتعيبها عنده فإن ردها رد أرش نقصها كما لو عابت عنده
فصل
فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع بقتل أو غيره أو أعتقه أو وقفه أو أبق أو باعه أو وهبه فله الأرش لأنه تعذر عليه الرد وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب في المبيع والهبة : رواية أخرى : له الأرش ولم يعتبر علمه وهو قياس المذهب لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش وتصرفه فيه كإمساكه وإن باعه قبل العلم ثم رجع إليه ببيع أو غيره فله رده أو أرشه لأن ذلك امتنع عليه لخروجه من ملكه وبرجوعه إليه عاد الإمكان
فصل
وإن باع بعضه أو وهبه فله أرش الباقي فأما أرش ما باع فينبني على ما قلنا في بيع الجميع وفي جواز رد الباقي بحصته من الثمن روايتان :
إحداهما : يجوز ذكره الخرقي لأن رده ممكن
والأخرى : لا يجوز لأن فيه تبعيض الصفقة على البائع فلم يجز كما لو كان المبيع عينين ينقصهما التفريق ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيبا فله ردهما معا أو إمساكهما وأخذ الأرش فإن أرد رد المعيب وحده ففيه الروايتان إلا أن يكونا مما ينقصهما التفريق كمصراعي باب وزوجي خف أو ممن لا يحل التفريق بينهما كالأخوين فليس له إلا ردهما أو إمساكهما مع الأرش لأن في رد أحدهما تفريقا محرما أو إضرارا بالبائع لنقصان قيمة المردود بالتفريق وإن تلف أحد المبيعين ووجد بالآخر عيبا فعلى الروايتين وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري لأنه كالغارم فهو كالمستعير والغاصب وإن كانا معيبين باقيين فأراد رد أحدهما وحده فهي كالتي قبلها وقال القاضي : ليس له رد أحدهما لأنه أمكنه ردهما معا ولو كان المبيع عينا واحدة فأراد رد بعضها لم يملك ذلك وجها واحدا لأن فيه تشقيص المبيع على البائع وإلحاقا لضرر الشركة به
فصل
وإن اشترى اثنان شيئا فوجداه معيبا فرضيه أحدهما ففيها روايتان :
إحداهما : للآخر رده نصيبه لأنه جميع ما ملكه بالعقد فملك رده بذلك كما لو انفرد
والأخرى : ليس له رد لأن المبيع خرج عن ملك البائع كاملا فلم يملك المشتري رده مشقصا كما لو اشترى العين كلها ثم رد بعضها ولو ورث اثنان خيار عيب في سلعة فرضي أحدهما سقط رد الآخر لأن العقد عليها واحد بخلاف شراء الاثنين فإن عقدان وإن اشترى واحد من اثنين شيئا فوجده معيبا فله رد نصيب أحدهما عليه منفردا لأنه يرد عليه جميع ما باعه
فصل
ومن اشترى معيبا فزال عيبه قبل رده مثل أن يشتري أمة مزوجة فطلقها الزوج فلا خيار له نصل عليه أحمد لأن الضرر زال ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة فلا خيار له وإن قال البائع : أنا أزيل العيب مثل أن يشتري أرضا فيها حجارة تضرها فقال البائع : أنا أقلعها في مدة لا [ أجرة ] لها أو اشترى أرضا فيها بذر للبائع فقال : أنا أحوله سقط الرد لأن الضرر يزول من غير ضرر
فصل
ذكر القاضي ما يدل على أن في خيار العيب روايتين :
إحداهما : هو على التراخي لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على التراخي كخيار القصاص فعلى هذا هو على خيار ما لم يوجد منه ما يدل على الرضي من التصرف على ما ذكرنا في باب الخيار
والثاني : هو على الفور لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة ولو حلب لبنها الحادث أو ركبها ليردها أو ليختبرها لم يكن رضى لأنه حق له إلى أن يرد فلم يمنع منه
فصل
وله الرد منغير رضى صاحبه ولا حضوره لأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه كالطلاق ويجوز من غير حكم حاكم لأنه مجمع عليه فلم يحتج إلى حاكم كفسخ المعتقة للنكاح
فصل
والعيوب هي النقائص المعدودة عيبا فما خفي منها رجع إلى أهل الخبرة به فمن العيوب في الخلقة المرض والجنون والجذام والبرص والعمى والعور والعرج والعقل والقرع والصمم والخرس والأصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان والبخر والخصا والتخنيث وكونه خنثى والحمق البات والتزوج في الرقيق فأما عدم الختان فليس بعيب في الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الكبير المجلوب لأن ذلك عادتهم وهو عيب في الكبير المولود في الإسلام لأن عادتهم الختان والكبير يخاف عليه فأما العيوب المنسوبة إلى فعله كالسرقة والإباق والبول في الفراش فإن كانت من مميز جاوز العشر فهي عيب لأنه يذهب بمال سيده أو يفسد فراشه وليس عيبا في الصغير لأنه لا يكون لضعف بنيته أو عقله والزنا عيب لأنه يوجب الحدود وكذلك شرب المسكر والحمل عيب في الأمة لأنه يخاف منه عليها وليس بعيب في غيرها لعدم ذلك والثيوبة وكون الأمة لا تحيض ليس بعيب لأن الإطلاق لا يقتضي وجود ذلك ولا عدمه وكذلك كونها محرمة على المشتري بنسب أو رضاع أو إحرام أو عدة لأن ما يختص بالمشتري لا ينقص ثمنها وسائر ذلك يزول عن قرب ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب لأن النقص فعل ذلك لا العلم به والكفر وكونه ولد زنا ليس بعيب لأن الأصل في الرقيق الكفر ولا يقصد فيهم النسب وكون الجارية لا تحسن الطبخ والخبز ليس بعيب لأن هذه صناعة والجهل به كالجهل بسائر الصنائع
فصل
وإن شرط في المبيع صفة مقصودة مثل أن شرط الأمة بكرا أو جعدة أو العبد كاتبا أو ذا صناعة أو فحلا أو خصيا أو مسلما أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا أو الشاة لبونا فبان خلاف ذلك فله الرد لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه فملك الرد كما لو وجده معيبا وإن شرط الأمة سبطة أو جاهلة فبانت جعدة أو عالمة فلا خيار له لأنها زيادة وإن شرطها ثيبا فبانت بكرا فكذلك ويحتمل أن له الخيار لأنه قد يشترط الثيوبة لعجزه عن البكر وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة ففيه وجهان :
أحدهما : لا خيار له لأنها زيادة
والثاني : له الخيار لأنه يتعلق به غرض صحيح وهو صلاحها للمسلم والكافر وإن شرطها حاملا صح
وقال القاضي : قياس المذهب أنه لا يصح لأن الحمل لا حكم له والصحيح الأول لأن النبي صلى الله عليه و سلم حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها ولأن الحمل يثبت الرد في المعيبة ويوجب النفقة للمبتوتة ويمنع كون الدم فيه حيضا والطلاق فيه بدعة ويجوز الفطر في رمضان للخوف عليه ويمنع إقامة الحد والقصاص وإن شرط في الطير أنه مصوت أو في الديك أنه يصيح في وقت من الليل صح لأن ذلك عادة له فجرى مجرى الصيد في الفهد وقال بعض أصحابنا : لا يصح لأنه يجوز أن يوجد وأن لا يوجد وإن شرط أن يجيء من مسافة ذكرها صح لأن ذلك عادة وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار فهو كالصيد في الفهد
وقال القاضي : لا يصح لأنه تعذيب للحيوان وإن شرط الغناء في الأمة وفي الكبش أنه مناطح وفي الديك أنه مقاتل لم يصح لأنه منهي عنه فهو كالزنا في الأمة
فصل
وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده معيبا فله الرد وعنه : لا شيء له لأنه لا تدليس من البائع ولا يمكنه معرفة باطنه والأول : أصح لأن عقد البيع اقتضى السلامة فإذا بان معيبا ملك رده كالعبد وإن كان مما لا قيمة له كبيض الدجاج والجوز الخرب والرمان الفاسد رجع بالثمن كله لأن هذا ليس بمال فبيعه فاسد كالحشرات وإن كان الفساد في بعضه رجع بقسطه وإن كان مما لمكسوره قيمة كجوز الهند وبيض النعام فقال الخرقي : يرجع بالثمن وعليه أرش الكسر كما لو كان المبيع ثوبا فقطعه واختار القاضي : أنه إن كان الكسر لا يزيد على ما يحصل به استعلام المبيع رده ولا شيء عليه لأن ذلك حصل ضرورة استعلام المبيع والبائع سلطه عليه فلم يمنع الرد كحلب لبن المصراة وإن زاد على ذلك خرج فيه روايتان كسائر المعيب الذي يعيب عنده
فصل
وإن اشترى ثوبا لا ينقصه نشره فنشره فله رده بالعيب وإن كان ذلك ينقصه فهو كجوز الهند وإن صبغ الثوب ثم وجده معيبا فله الأرش لا غير وعنه : يرده ويكون شريكا للبائع بقيمة الصبغ وعنه : يرده ويأخذ زيادته بالصبغ والأول : المذهب لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة فلم يجز لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ النساء : 29 ]
فصل
وإذا اشترط البائع البراءة من كل عيب لم يبرأ لأن البراءة مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط فلم يثبت مع الجهالة كالأجل وعنه : يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فكتمه لما روي أن ابن عمر باع عبدا من زيد بن ثابت بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر : أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب فقال : لا فرده عليه وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا ويتخرج أن يبرأ مطلقا بناء على قوله في صحة البراءة من المجهول ولأنه إسقاط حق من مجهول لا تسليم فيه فصح كالعتاق وإن قلنا بفساد الشرط فالبيع صحيح لأن ابن عمر باع بشرط البراءة فأجمعوا على صحته ويتخرج فساده بناء على الشروط الفاسدة

باب بيع المصراة
لا يحل بيع المصراة فإن باعها فالبيع صحيح فإن كانت من بهيمة الأنعام ولم يعلم المشتري ثم علم فهو مخير بين إمساكها وردها لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاع فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر ] متفق عليه ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كتسويد الشعر قال أبو الخطاب : متى علم التصرية فله الخيار لأنه علم سبب الرد فملكه كما لو علم العيب و قال القاضي : لا يثبت له الرد إلا عند انقضاء ثلاثة أيام لأن اللبن قد يختلف لاختلاف المكان وتغير العلف فإذا مضت الثلاثة بانت التصرية ويثبت الخيار على الفور وقال ابن أبو موسى : إذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام من حين البيع لما روى أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر ] رواه مسلم
فصل :
ويلزمه مع ردها صاعا من تمر بدلا عن اللبن الموجود حال العقد للخبر ويكون جيدا غير معيب لأنه واجب بإطلاق الشرع فأشبه الواجب في الفطرة وإن ردها قبل حلبها لم يلزمه شيء لأنه بدل اللبن ولم يأخذه وإن ردها بعد حلبها ولبنها موجود غير متغير ففيه وجهان :
أحدهما : يرده ولا شيء عليه لأنه بحاله لا عيب فيه
والثاني : عليه صاع تمر ولا يلزم البائع قبول اللبن أنه يسرع إليه التغيير وكونه الضرع أحفظ له وإن تغير اللبن فعليه الثمن ولا يلزم البائع قبول اللبن لتغيره وقال القاضي : يلزمه قبوله لأن النقص فيه حصل باستعلام المبيع فإن لم يقدر على التمر فقيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد لأنه بمنزلة عين أتلفها ولو رضي بالتصرية وأصاب عينا سواها فله ردها لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بما سواه وعليه مع الرد صاع تمر لأنه عوض للبن التصرية فيكون عوضا له مطلقا ويحتمل أن لا يلزمه هاهنا إلا مثل اللبن لبن الأصل وجوب ضمان اللبن بمثله خولف فيما إذا رد المصراة من أجل التصرية للخبر ففيما إذا ردها لعيب آخر يبقى على الأصل كما لو كانت غير مصراة وفيها لبن وإذا اشترى شاة غير مصراة فحدث لها لبن فاحتلبه ثم ردها بعيب فلا شيء عليه لأن اللبن حدث في ملكه وإن كان فيها لبن يسير لا يخلو الضرع من مثله فلا شيء فيه لأن مثل هذا لا عبرة فيه وأن كان كثيرا فعليه مثله لأن الأصل ضمان اللبن بمثله فلا يبطل بمخالفته في لبت التصرية وإن كان باقيا انبنى على رد لبن التصرية لما ذكرنا فإن قلنا : لا يرده فبقاؤه كتلفه وهل له رد المبيع ؟ يخرج على الروايتين فيمن اشترى ثوبا فقطعه ثم علم عيبه
فصل :
فإن كانت المصراة أمة أو أتانا ففيه وجهان :
أحدهما : لا رد له لأن لبنها لا عوض له ولا يقصد قصد لبن الأنعام
والثاني : له الرد لأن الثمن يختلف بذلك لأن لبن الأمة يحسن ثدييها ويرغب فيها ظئرا ولبن الأتان يراد لولدها فإن حلبها فلا شيء عليه للبنها لأنه لا قيمة له
فصل :
وكل تدليس بما يختلف به الثمن يثبت خيار الرد قياسا على التصرية كتجعيد شعر الجارية وتسويده وتحمير وجهها وجمع الماء على الرحى وقت عرضها وعلى المشتري فإن حصل ذلك بغير قصد كاجتماع اللبن في الضرع بغير تصرية واحمرار وجه الجارية لخجل أو تعب فهو كالتدليس لأن الخيار ثبت لدفع الضرر عن المشتري فلم يختلف بالقصد وعدمه كالعيب وإن رضي المشتري بالمدلس فلا أرش له لأن النبي صلى الله عليه و سلم خير بين إمساك المصراة بغير شيء وردها مع التمر
فصل :
وإن دلس بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر و تسبيطه فلا خيار للمشتري لأنه لا ضرر في ذلك وإن علف شاة فطنها المشتري حاملا أو سود أنامل العبد ليظنه كاتبا أو حدادا أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري فإن سواد الأنامل قد يكون لولع أو خدمة كاتب أو حداد أو شروعه في ذلك و انتفاخ البطن قد يكون للأكل فظن المشتري غير ذلك طمع لا يثبت له خيارا

باب اختلاف المتبايعين
إذا اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا لما روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع ] رواه ابن ماجة وفي لفظ [ تحالفا ] وكان البائع يدعي عقدا بثمن كثير ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدا ينكره البائع والقول قول المنكر مع يمينه ويبدأ بيمين البائع لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل القول ما قال البائع وكان جنبته أقوى لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى كصاحب اليد ويجب الجمع في اليمين بين النفي والإثبات لأنه يدعي عقدا وينكر آخر فيحلف عليهما ويقدم النفي فيقول : والله ما بعته بكذا ولقد بعته بكذا لأن الأصل في اليمين أنها للنفي ويكفيه يمين واحدة لأنه أقرب إلى فصل القضاء فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه وإن رضي أحدهما بما قال الآخر فلا يمين وإن حلفا ثم رضي أحدهما بما قال الآخر أجبر على القبول لأنه قد وصل إليه ما ادعاه وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الفسخ ويحتمل أن الفسخ للحاكم لأن العقد صحيح وإنما يفسخ لتعذر إمضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان والأول : المذهب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أو يترادان البيع ] فجعله إليهما وفي سياقه أن ابن مسعود رواه للأشعث بن قيس وقد اختلف في ثمن مبيع فقال الأشعث : فإني أرى أن أرد البيع ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة أشبه رد المعيب
فصل
وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أن الفسخ ينفذ ظاهرا وباطنا لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فأشبه رد المعيب واختار أبو الخطاب أن المشتري إن كان ظالما ففسخ البائع ينفذ ظاهرا وباطنا لعجزه عن استيفاء حقه فملك الفسخ كما لو أفلس المشتري وإن كان البائع ظالما لم ينفذ فسخه باطنا لأنه يمكنه إمضاء العقد فلم ينفذ فسخه ولم يملك التصرف في المبيع لأنه غاصب
فصل
وإن اختلفا بعد تلف المبيع ففيه روايتان :
إحداهما : يحالفان ويفسخان البيع لأن المعنى الذي شرع له التحالف حال قيام السلعة موجود حال تلفها فيشرع ويجب رد قيمة السلعة فإن اختلفا في قيمتها وجب قيمة مثلها موصوفا بصفاتها وإن زادت على ما ادعاه البائع لأن الثمن سقط ووجبت القيمة فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأن غارم
والثانية : القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر لقوله في الحديث : [ فالبيع قائم بعينه ] فمفهومه أن لا يشرع التحالف مع تلفها ولأنهما اتفقا على انتقال المبيع إلى المشتري بثمن واختلفا في الزائد الذي يدعيه البائع وينكره المشتري والقول قول المنكر وإنما ترك هذا مع قيام السلعة لإمكان التراد ولا يمكن رد السلعة بعد تلفها وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب ثم اختلفا في الثمن فقال البائع : هو قليل وقال المشتري : هو كثير فالقول قول البائع لأن البيع قد انفسخ والبائع منكر لما يدعيه المشتري لا غير وإن مات المتبايعان فورثتهما بمنزلتهما لأنها يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في الدعوى وإن كان المبيع بين وكيلين تحالفا لأنهما عاقدان فتحالفا كالمالكين
فصل
وإن اختلفا في قدر المبيع فقال : بعتك هذا العبد بألف فقال : بل هو والجارية فالقول قول البائع نص عليه لأنه ينكر بيع الجارية فاختصت اليمين به كما لو اختلفا في أصل العقد وإن قال : بعتك هذا العبد فقال : بل بعتني هذا الثوب حلف كل واحد منهما على ما أنكره خاصة ثم إن كان العبد في يد البائع فليس للمشتري أخذه لأنه لا يدعيه وإن كان في يد المشتري فليس للبائع أخذه لذلك إلا أن يتعذر عليه ثمنه فيفسخ البيع ويأخذه والثوب يقر في يد البائع ويرد إليه إن كان عند المشتري وإن قامت بينة بالعقدين ثبتا وإن قامت بينة أحدهما ثبت ويحلف المنكر للآخر ويبطل حكمه
فصل
وإن اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص عليه فإن كان فيه نقود رجع إلى أوسطها وعلى من القول قوله اليمين لأن الظاهر صدقه فكان القول قوله كالمنكر وقال القاضي : يتحالفان
فصل
وإن اختلفا في أجل أو شرط أو رهن أو ضمين ونحوه ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول من ينكره مع يمينه لأنه منكر فأشبه منكر العقد من أصله
والثانية : يتحالفان لأنهما اختلفا في صفة العقد فأشبه ما لو اختلفا في قدر الثمن وإن اختلفا فيما يفسد العقد فالقول قول من ينفيه لأن ظاهر حال المسلم تعاطي الصحيح وإن قال أحدهما : كنت مكرها أو مجنونا فالقول قول الآخر لأن الأصل معه وإن قال : كنت صغيرا فكذلك نص عليه لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد فقدم قل من يدعي صحته ويحتمل أن القول قول مدعي الصغر لأنه الأصل وإن قال عبد : بعتك بغير إذن سيدي فأنكره المشتري فالقول قول المشتري لأن الأصل الصحة وإن أنكره السيد فالقول قوله لأن الأصل معه ولا دليل على خلافه وإن قال أحد المتصارفين : تفرقنا قبل القبض أو ادعى فسخ العقد وأنكره الآخر فالقول قول مدعي الصحة لأن الأصل معه وإن اختلفا في عيب يحدث مثله فادعى كل واحد منهما أنه حدث عند صاحبه ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول البائع لأن الأصل عدم العيب
والثاني : القول قول المشتري لأن الأصل عدم القبض للجزء الفائت وعدم استحقاق ما يقابله من الثمن وإن رد بعيب فقال البائع ليس هذا المبيع فالقول قوله لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد وإن قبض المسلم فيه أو المبيع بالكيل ثم قال : غلطت علي في الكيل ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول البائع لأن الأصل السلامة من الغلط
والثاني : القول قول المشتري لأن الأصل عدم القبض لما أنكر قبضه وإن كان قبضه جزافا فالقول قوله في قدره وجها واحدا
فصل
وإن باعه بثمن معين وقال : كل واحد منهما لا أسلم ما بعته حتى أقبض عوضه جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما معا لأنهما سواء في تعلق حقوقهما بالعين وإن كان البيع بثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع أولا لتعلق حق المشتري بعينه فقدم على ما تعلق بالذمة كأرش الجناية مع الدين ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن فإن كان معسرا أو ماله غائب في مسافة القصر فللبائع فسخ المشتري على تسليم الثمن فإن كان معسرا أو ماله غائب في مسافة القصر فللبائع فسخ البيع لأن عليه ضررا في تأخير الثمن فجاز له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس المشتري وإن كان الثمن حاضرا أجبر على دفعه في الحال وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع وفي سائر ماله حتى يسلمه لئلا يتصرف في المبيع فيضر بالبائع وإن كان غائبا دون مسافة القصر ففيه وجهان :
أحدهما : جاز له الفسخ لأنه تعذر الثمن للإعسار أشبه الفلس
والثاني : لا يفسخ ولكن يحجر على المشتري لأنه في حكم الحاضر أشبه الذي في البلد والصحيح عندي أنه لا يجب عليه تسليم المبيع ما لم يحضر الثمن ويمكن أخذه لأن في تسليمه بدون ذلك ضررا وخطرا بفوات الثمن عليه يلزمه تسليم عوضه قياسا على العوض الآخر

باب بيع المرابحة والمواضعة والتولية والإقالة
بيع المرابحة : أن يخبر برأس ماله ثم يبيع به ويربح فيقول : رأس مالي فيه مائة بعتكه بها وربح عشرة فهذا جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم وإن قال : بعتك بها وربح درهم في كل عشرة أو قال ده يازده أو ده دواز ده فهو صحيح أيضا جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم فهي كالتي قبلها ولكن كرهه أحمد لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه لأنه بيع الأعاجم ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال
فصل :
ولا يخبر إلا بما يلزم من الثمن وما يزاد فيه في مدة الخيار يخبر به لأنه من الثمن وما حط عنه في الخيار نقصه لذلك وما كان بعد لزوم العقد لا يخبر به لأنه تبرع من أحد المتعاقدين لا يلزمه فلم يخبر به كما لو وهبه شيئا وإن تمت العين ولم يزد على رأس المال فإن كان النماء منفصلا لم تنقص به العين فله أخذه ويخبر برأس المال لأنه في مقابلة العين دون نمائها وعنه : أنه يبين ذلك لأنه أبعد من اللبس وإن عمل في العين عملا من قصارة أو خياطة أو حمل اخبر بالحال على وجهه سواء عمله بنفسه أو بالأجرة قال أحمد : يبين ما اشتراه به وما لزمه فإن ضم ذلك إلى رأس المال وأخبر أنه اشترى به لم يجز لأنه كذب وإن قال : تحصل علي بكذا لم يجز فيما عمله بنفسه لأنه كذب وجاز فيما استأجر عليه في أحد الوجهين لأنه صادق والآخر : لا يجوز وهو ظاهر كلام أحمد لأن فيه تلبيسا فلعل المشتري لو علم الحال لم يرغب فيه لكون ذلك العمل مما لا حاجة به إليه فأشبه ما أنفق عليه في مؤنته وكسوته فإنه لا يجوز الإخبار به وجها واحدا وكذلك كري مخزنه وحافظه إلا أن يخبر بالحال على وجهه فإن ذلك لا يزيد في ثمنه
فصل :
فإن نقص المبيع لمرض أو تلف جزء أو تعيب أو وجد به عيبا أو جني عليه فأخذ أرشه أخبر بالحال على وجهه وقال أبو الخطاب : يحط الأرش من الثمن ويخبر بما بقي فيقول : تقوم علي بكذا والأول أولى لأنه أبعد من اللبس والفرق بين الأرش والكسب أن الأرش عوض ثمن فهو كثمن جزء بيع منه والكسب لم ينقص به المبيع ولو جنى العبد ففداه المشتري لم يرد ذلك في رأس المال لأنه ليس من الثمن ولا زاد به المبيع وإن نقص المبيع لتغير الأسعار فقال أصحابنا : لا يلزمه الخبر به لأنه صادق بدونه والأولى : أنه يلزمه لأن المشتري لو علم ذلك لم يرضى به فجرى مجرى نقصه بعيب وإن حط بعض رأس المال وأخبر بالباقي لم يجز لأنه كذب وتغرير بالمشتري
فصل :
فإن اشترى اثنان شيا وتقاسماه فقال أحمد : لا يبيع أحدهما مرابحة إلا أن يقول اشتريناه جماعة ثم تقاسمناه وإن اشترى شيئين بثمن واحد ثم أراد بيع أحدهما أو اشترى شجرة مثمرة فأخذ ثمرتها أو شاة فأخذ صوفها أو لبنها الذي كان فيها ثم أراد بيع الأصل مرابحة أخبر بالحال على وجهه ولا يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن قسمة الثمن طريقه الظن واحتمال الخطأ فيه كثير ومبنى المرابحة على الأمانة فلم يجز هذا فيه فإن كان المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء كالمكيل والموزون من جنس جاز بيعه بحصته من الثمن لأنه ينقسم على أجزائه وجزؤه معلوم يقينا وإن أسلم في ثوبين صفقة واحدة ثمنا واحدا فأخذهما على الصفة فالقياس جواز بيع أحدهما بحصته من الثمن لأن الثمن منقسم عليهما نصفين وما زاد على الصفة في أحدهما لم يقابله شيء من الثمن فجرى مجرى النماء الحادث بعد الشراء
فصل :
فإن اشتراه من أبيه أو ممن لا تقبل شهادته له لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره لأنه متهم في حقهم أنه يحابيهم وإن اشتراه من غلام دكانه أو غيره حيلة لم يجز بيعه مرابحة وإن لم يكن حيلة جاز لأنه لا تهمة في حقه
فصل :
وإن اشترى شيئا ثم باعه بربح ثم اشتراه فأعجب أحمد رضي الله عنه لم يخبر بالحال على وجهه أو يطرح الربح من الثمن الثاني ويخبر بما بقي لأن هذا مذهب ابن سيرين ولأن الربح أحد نوعي النماء فيخبر به في المرابحة كالولد والثمرة ولعل هذا من أحمد على سبيل الاستحباب لأنه أبلغ في البيان ويجوز الإخبار بالثمن الثاني وحده لأنه الثمن الذي حصل به هذا الملك فجاز الخبر به وحده كما لو خسر فيه
فصل :
فإن بان للمشتري أن البائع أخبر بأكثر من رأس المال فالبيع صحيح لأنه زاد في الثمن فلم يمنع صحته كالتصرية ويرجع عليه بالزيادة وحظها بالربح لأنه باع برأس ماله وما قرره من الربح فإذا بان رأس المال كان معيبا به وبقدره من الربح و إن اختار المشتري رد المبيع وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له لأنه رضي المبيع بثمن حصل له بدونه فلم يكن له خيار كما لو اشترى معيبا فبان صحيحا فأما البائع فلا خيار له لأنه باع برأس ماله وقدره من الربح وحصل به ما عقد به وفي سائر ما يلزمه الإخبار بالحال على وجهه فلم يفعل يخير المشتري بين أخذه بما اشترى به وبين الفسخ لأنه ليس للمبيع ثمن غير ما عقد به وإن اشتراه بثمن مؤجل فلم يتبين فعنه أنه مخير بها وعنه : يخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلا لأنه الثمن الذي اشترى به البائع والتأجيل صفة له فأشبه المخبر بزيادة في القدر وإن علم ذلك بعد تلف المبيع حبس المال بقدر الأجل
فصل :
وإن أخبر بالثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : لا يقبل قوله إلا ببينة لأنه مقر على نفسه فلم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة كالمضارب يقر بربح
والثانية : إن كان معروفا بالصدق قبل قوله وإلا فلا لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه والقول قول الأمين مع يمينه
والثالثة : لا يقبل قوله وإن أقام بينة ما لم يصدقه المشتري لإقراره ابتدأ بكذب بينته فأشبه ما لو أقر بدين فإن قلنا بقبول بينته فقال المشتري : أحلفوه أنه وقت البيع لم يعلم أن ثمنها أكثر فعلى البائع اليمين فإن نكل أو أقر لم يكن له غير ما وقع عليه العقد لأنه عقد بهذا الثمن عالما فلم يكن له غيره كالمشتري إذا علم العيب حال الشراء وإن حلف خير المشتري بين فسخ العقد لأنه لم يرضه بأكثر مما بذله وبين قبوله مع إعطائه ما غلط به حظه من الربح لأن البائع إنما باعها بهذا الثمن ظنا أنه رأس المال فعليه ضرر بالنقصان منه فإذا أخذها المشتري بذلك فلا خيار للبائع لأنه قد زال عنه الضرر بالتزام المشتري ما غلط به وإن اختار الفسخ فقال البائع : أنا أسقط الزيادة عنك سقط الفسخ لأنه قد بذلها له بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به
فصل :
وبيع التولية : هو البيع بمثل الثمن الذي اشترى به وحكمه حكم المرابحة فيما ذكرنا ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية لأنه مؤد لمعناه قال أحمد : ولا بأس بيع الرقم وهو الثمن الذي يكتب على الثوب ولا بد من علمه حال العقد ليكون معلوما فإن لم يعلم فالبيع باطل لأن الثمن مجهول وقال : المساومة عندي أسهل من المرابحة لأن بيع المرابحة يعتبر به أمانة واسترسال من المشتري ويحتاج إلى تحري الصدق واجتناب الريبة وقال في رجلين اشتريا ثوبا بعشرين ثم اشترى أحدهما من صاحبه باثنين وعشرين : فإنه يخير في المرابحة بإحدى وعشرين لأنه اشترى نصفه بعشرة ونصفه بأحد عشرة
فصل :
وبيع المواضعة : أن يخبر برأس المال ثم يبيع به ووضعه كذا أو يقول : ووضيعة درهم من كل عشرة وحكمه حكم المرابحة في تفصيله فإذا قال : رأس مالي فيه مائة بعتك بها ووضيعة درهم من كل عشرة فالثمن تسعون لأن المحطوط العشر وعشر المائة عشرة وإن قال بوضيعة درهم لكل عشرة كان الحط من كل أحد عشرة درهما درهما والباقي تسعون وعشرة أجزاء من كل أحد عشر جزءا من درهم لأنه إذا قال : لكل عشرة درهم كان الدرهم من غيرها فيكون من كل أحد عشرة درهما درهم وإذا قال : من كل عشرة كان الحط منها فيكون عشرها
فصل :
وإذا اشترى نصف عبد بعشرة واشترى آخر نصفه بعشرين ثم باعاه بثمن واحد مساومة فالثمن بينهما نصفان لأنه عوض عنه فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه وإن باعاه مرابحة فكذلك في إحدى الروايتين لذلك والأخرى : هو بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن بيع المرابحة يقتضي كون الثمن في مقابلة كل واحد منهما وقيل : المذهب رواية واحدة أنه بينهما نصفان والقول الآخر وجه خرجه أبو بكر
فصل :
وإقالة النادم في البيع مستحبة لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة ] أخرجه أبو داود وهي فسخ في أصح الروايتين وعنه : أنها بيع لأنها نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكانت بيعا كالأول والأولى أولى لأن الإقالة في السلم تجوز إجماعا
وبيع السلم لا يجوز قبل قبضه ولأن الإقالة الرفع والإزالة ومنه : أقاله الله عثرته وذلك هو الفسخ ولأنها تتقدر بالثمن الأول وتحصل بلفظ لا ينعقد به البيع فكانت فسخا كالرد بالعيب فعلى هذا تجوز في المبيع قبل قبضه ولا تجب بها شفعة وتتقدر بالثمن الأول ومن حلف لا يبيع فأقال لا يحنث وعلى الأخرى تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن فإنه على وجهين أصحهما أن تتقدر به لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية فإن قال بأكثر منه لم يصح وكان الملك باقيا للمشتري لأنهما تفاضلا فيما يعتبر فيه التماثل فلم يصح كبيع درهم بدرهمين

كتاب السلم
السلم : أن يسلم عينا حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل وهو نوع من البيع ينعقد بلفظ البيع والسلف وتعتبره في شروط البيع ويزيد بشروط ستة :
أحدهما : أن يكون مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا لأنه بيع بالصفة فيشترط إمكان ضبطها فيصح السلم في المكيل والموزون والمزروع لما روى ابن عباس عن رسول الله أنه قدم المدينة وهم يسلفون الثمار السنتين والثلاث فقال : [ من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ] متفق عليه وقال عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى : كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقيل : أكان لهم زرع أم لم يكن ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك رواه البخاري فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه ويصح في الخبر واللبأ والشواء لأن عمل النار فيه معتاد ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فصح السلف فيه كالمجفف بالشمس وقال القاضي : لا يصح الشواء واللحم المطبوخ لأن عمل النار فيه فيختلف فلا ينضبط
فصل :
ولا يصح فيما لا ينضبط كالجوهر واللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها لأنها تختلف اختلافا متباينا بالكبر والصغر وحسن التدوير وزيادة ضوئها ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه لأنها تختلف وفي الحوامل من الحيوان والشاة اللبون والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط وجهان :
أحدهما : لا يصح أن يسلم فيه لأن الصفة لا تأتي عليه والولد واللبن مجهول
والثاني : يصح لأن الحمل واللبن لا حكم لهما مع الأم بدليل البيع والأواني يمكن ضبطها بسعة رأسها وأسفلها وعلو حائطها فهي كالأواني المربعة وما فيه خلط من غيره ينقسم أربعة أقسام :
أحدها : ما خلطه لمصلحته وهو غير مقصود في نفسه كالإنفحة في الجبن والملح في الخبز والشيرج والماء في خل التمر فيصح السلم فيه لأنه يسير للمصلحة
الثاني : أخلاط متميزة مقصود كثوب منسوج من شيئين فيصح السلم فيه لأن ضبطه ممكن وفي معناه النبل والنشاب
وقال القاضي : لا يصح السلم فيهما لأن فيه أخلاطا ويختلف طرفاه ووسطه فأشبه القسي والأول أصح لأن أخلاطه متميزة ممكن ضبطها والاختلاف فيه يسير معلوم بالعادة فهو كالثياب من جنسين بخلاف القسي
الثالث : المغشوش كاللبن المشوب والحنطة فيها الزوان فلا يصح السلم فيه لأن غشه يمنع العلم المقصود فيه فيكون فيه غرر
الرابع : أخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية والند والمعاجين فلا يصح السلم فيه لأن الصفة لا تأتي عليه وفي معناه القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والغزل والتوز فلا يصح السلم فيها للعجز عن مقادير ذلك وتميز ما فيه منها وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيها كالثياب
فصل :
وفي الحيوان روايتان :
أظهرها : صحة السلم فيه لأن أبا رافع قال : [ استلف النبي صلى الله عليه و سلم من رجل بكرا ] رواه مسلم ولأنه يثبت في الذمة صداقا فصح السلم فيه كالثياب
الثانية : لا يصح لأنه يختلف اختلافا متباينا مع ذكر أوصافه الظاهرة فربما تساوى العبدان في الصفات المعتبرة وأحدهما يساوي أمثال صاحبه وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه وفي المعدود من الجوز والبيض والبطيخ والرمان والبقل ونحوه روايتان :
إحداهما : لا يصح لذلك
والثانية : يصح لأن التفاوت يسير ويمكن ضبطه بعضه بالصغر والكبر وبعضه بالوزن وفي الرؤوس والأطراف و الجلود من الخلاف مثل ما ذكرنا فيما قبله
فصل :
الشرط الثاني : معرفة قدره بالكيل إن كان مكيلا وبالوزن إن كان موزونا وبالذرع إن كان مذروعا لحديث ابن عباس لأنه عوض غير مشاهد يثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن ويجب أن يكون ما يقدر به معلوما عند العامة فإن قدره بإناء أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح لأنه قد يهلك فيجعل قدره وهذا غرر لا يحتاج العقد إليه وإن أسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا فعنه : لا يصح لأته مبيع اشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر كالربويات وعنه : ما يدل على الجواز لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض ولا بد من تقدير المذروع بالذرع فأما المعدود فيقدر بالعدد وقيل بالوزن لأنه يتباين والأولى أولى لأنه يقدر به عنده العامة والتفاوت يسير ويضبط بالصغر والكبر ولهذا لا تقع القيمة بين الجوزتين والبيضتين فإن كان يتفاوت كثيرا كالرمان والبطيخ والسفرجل والبقول قدره بالوزن لأنه أضبط لكثرة تفاوته وتباينه ولا يمكن ضبطه بالكيل لتجافيه في المكيال ولا بالحزم لأنه يختلف ويمكن حزم الكبير والصغير فتعين بالوزن لتقديره
فصل :
الشرط الثالث : أن يجعلا له أجلا معلوما فإن أسلم حالا لم يصح لحديث ابن عباس ولأن السلم إنما جاز رخصته للمرافق ولا يحصل المرفق إلا بالأجل فلا يصح بدونه كالكتابة فإن كان بلفظ البيع صح حالا قال القاضي : ويجوز التفرق قبل قبض رأس المال لأنه بيع ويحتمل أن لا يجوز لأنه بيع دين بدين ويشترط في الأجل ثلاث أمور :
أحدها : كونه معلوما لقوله تعالى { إلى أجل مسمى } وللخبر فإن جعله إلى المحرم أو يوم منه أو عيد الفطر ونحوها جاز لقول الله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس } وإن قدره بغير ذلك مما يعرفه الناس ككانون وعيد للكفار يعرفه المسلمون جاز لأنه معلوم لا يختلف وقال ابن أبي موسى : لا يصح لأنه لا يعرفه كثير من الناس وإن كان مما لا يعرفه المسلمون كالشعانين وعيد الفطر لم يصح وجها واحدا لأن المسلمين لا يعرفونه ولا يجوز تقليد أهل الذمة فبقي مجهولا وإن جعلا الأجل إلى مدة معلومة كشهر معين تعلق بأولها ولو قال : محله في رمضان فكذلك لأنه لو قال لزوجته : أنت طالق في رمضان طلقت في أوله ولو احتمل غير الأول لم يقع الطلاق بالشك وإن جعله اسما يتناول شيئين كربيع تعلق بأولها كما لو علقه بشهر وإن قال : ثلاثة أشهر انصرف إلى الهلالية لأنها الشهور في لسان الشرع فإن كان في أثناء شهر كمل بالعدد ثلاثين والباقي بأهله الأمر الثاني : أن يكون مما لا يختلف فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والموسم لم يصح لأن ابن عباس قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلم يجز جعله أجلا كقدوم زيد وعنه : أنه قال أرجو أن لا يكون به بأس لأن ابن عمر كان يبتاع إلى العطاء ولأنه لا يتفاوت تفاوتا كثيرا فإن أسلم إلى العطاء يريد به وقته وكان معلوما جاز وإن أراد نفس العطاء لم يصح لأنه يختلف
الأمر الثالث : أن تكون مدة لها وقع في الثمن كالشهر ونصفه ونحوه فأما اليوم ونحوه فلا يصح التأجيل به لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق ولا يتحقق إلا بمدة طويلة فإن أسلم في جنس إلى أجلين أو آجال مثل أن يسلم في خبز أو لحم يأخذ كل يوم أرطالا معلومة جاز لأنه كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى آجال كبيوع الأعيان ويجوز أن يسلم في جنسين إلى أجل واحد كما ذكرنا
فصل :
الشرط الرابع : أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله مأمون الانقطاع فيه لأن القدر على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك فلو أسلم في العنب إلى شباط لم يصح لأنه لا يوجد فيه إلا نادرا ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه ولا قرية صغيرة لما روي أن زيد بن سعنة أسلف النبي صلى الله عليه و سلم ثمانين دينارا في تمر مكيل مسمى من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى ] رواه ابن ماجة ولأنه لا يؤمن تلفه فلم يصح كما لو قدره بمكيال معين ولا يصح السلم في عين لذلك ولأن الأعيان لا تثبت في الذمة
فصل :
الشرط الخامس : أن يضبط بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرا فيذكر الجنس والنوع والجودة والرداء والكبر والصغر والطول والقصر والعرض والسمك والنعومة والخشونة واللين والصلابة والرقة والصفاقة والذكورية والأنوثية والسن والبكارة والثيوبة واللون والبلد والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك مما يقبل هذه الصفات ويختلف بها ويرجع فيما لا يعلم منها تفسير أهل الخبرة فإن شرط الأجود منها لم يصح لأنه يتعذر عليه الوصول إليه فإن وصل إليه كان نادرا وإن شرط الأردأ ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لذلك
والثاني : يصح لأنه يمكنه تسليم السلم أو خير منه من جنسه فيلزم المسلم قبوله وإن أسلم في جارية وابنتها لم يصح لأنه يتعذر وجودهما على ما وصف وإن استقصى صفات السلم بحيث يتعذر وجوده لم يصح لأنه يعجز تسليمه
فصل :
الشرط السادس : أن يقبض رأس ماله السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أسلف فليسلف في كيل معلوم ] والإسلاف : التقديم ولأنه إنما سمي سلما وسلفا لما فيه من تقديم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح ولأنه يصير بيع دين بدين فإن تفرقا قبل قبضه بطل وإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة ويجوز أن يكون في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه ويجب أن يكون معلوما كالثمن في البيع فإن كان معينا فظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي برؤيته لأنه عوض معين أشبه ثمن المبيع وقال القاضي : لا بد من وصفه لقول أحمد : ويصف الثمن ولأنه عقد لا يمكن إتمامه وتسليم المعقود عليه في الحال ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة رأس المال بالصفات ليرد بدله كالقرض في الشركة فعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلما فيه لأنه يعتبر ضبط صفاته فأشبه المسلم فيه
فصل :
وكل مالين جاز النساء بينهما جاز إسلام أحدهما في الآخر وما لا فلا فعلى قولنا يجوز النساء في العروض يصح إسلام عرض في عرض وفي ثمن فإن أسلم عرضا في آخر بصفته فجاءه به عند المحل ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه قبوله لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته فلزمه قبوله كغيره
والثاني : لا يلزمه قبوله لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن وإن أسلم صغيرا في كبير فحل السلم وقد صار الصغير على صفته الكبير فعلى الوجهين
فصل :
ولا يشترط وجود المسلم فيه قبل المحل لا حين العقد ولا بعده لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فلم ينههم عنه وفي الثمار ما ينقطع قي أثناء السنة فلو حرم لبينه ولأنه يثبت في الذمة ويوجد عند المحل فصح السلم فيه كالموجود في جميع المدة
فصل :
ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يذكر في حديث ابن عباس ولا في حديث زيد بن سعنة ولأنه عقد معاوضة أشبه البيع ويكون الإفاء في مكان العقد كالبيع فإن كان السلم موضع لا يمكن الوفاء فيه كالبرية تعين ذكر مكان الإفاء ولأنه لا بد من مكان ولا قرينة تعين فوجب تعينه بالقول وإن كان في موضع يمكن الوفاء فيه فشرطه كان تأكيدا وإن شرط مكانا سواه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأنه ينافي مقتضى العقد
والثانية : يصح لأنه عقد بيع فصح شرط مكان الإفاء فيه كالبيع وبهذا ينتقض دليل الأولى
فصل :
ويجب تسليم السلم عند المحل على أقل ما وصف به سليما من العيوب والغش فإن كان في البر قليل من تراب أو دقيق تبن لا يأخذ حظا من الكيل وجب قبوله لأنه دون حقه وإن أحضره بصفته وجب قبوله وإن تضمن ضررا لأنه حقه فوجب قبوله كالوديعة فإن امتنع دفعه إلى الحاكم وبرئ لذلك فإن كان أجود من حقه في الصفة لزم قبوله لأنه زاده خيرا وإن طلب عن الزيادة عوضا لم يجز لأنها صفة ولا يجوز إفراد الصفات بالبيع وإن جاءه بأردأ من حقه لم يجب قبوله وجاز أخذه وإن أعطاه عوضا عن الجودة الفائتة لم يجز لذلك ولأنه بيع جزء من السلم قبل قبضه وإن أعطاه غير المسلم فيه لم يجز أخذه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود ولأنه بيع للسلم قبل قبضه فلم يجز كما لو أخذ عنه ثمنا وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى فيمن أسلم في بر فرضي مكنه شعيرا مثل كيله : جاز ولعل هذا بناء على رواية كون البر والشعير جنسا والصحيح غيرها وإن أعطاه غير نوع السلم جاز قبوله ولا يلزم
وقال القاضي : يلزم قبوله إذا لم يكن أدنى من النوع الذي شرطه لأنه من جنسه فأشبه الزائد في الصفة من نوع واحد والأول أصح لأنه لم يأتي بالشروط فلم يلزمه قبوله كالأدنى بخلاف الزائد في الصفة فإنه أحضر المشروط مع زيادة ولأن أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة
فصل :
فإن أحضره قبل محله أو في مكان الوفاء فاتفقا على أخذه جاز إن أعطاه عوضا عن ذلك أو نقصه من السلم لم يجز لأنه بيع الأجل والحمل وإن عرضه عليه فأبى أخذه لغرض صحيح مثل أن تلزمه مؤنة لحفظه أو حمله أو عليه مشقة أو يخاف تلفه أو أخذه منه لم يلزمه أخذه وإن أباه لغير غرض صحيح لزمه لأنه زاد خيرا فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ليأخذه لما روي أن نسا كاتب عبدا له على مال فجاءه به قبل الأجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر رضي الله عنه فأخذه منه قال : اذهب فقد عتقت ولأنه زاده خيرا
فصل :
وإذا قبضه بما قدره به من كيل أو غيره برئ صاحبه وإن قبضه جزافا قدره فأخذ قدره حقه ورد الفضل أو طالب بتمام حقه إن كان ناقصا وهل له التصرف في قدر حقه قبل تقديره ؟ على وجهين :
أحدهما : له ذلك لأنه قدر حقه وقد أخذه ودخل في ضمانه
والثاني : ليس له ذلك لأنه لم يقبضه القبض المعتبر وإن اختلفا في القبض فالقول قول المسلم لأنه منكر وإن اختلفا في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر
فصل :
وإن تعذر تسليم السلم عند المحل فللمسلم الخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد وبين فسخ العقد والرجوع برأس ماله إن كان موجودا أو مثله إن كان مثليا أو قيمته إن يكن مثليا وقيل : ينفسخ العقد بالتعذر لأن المسلم في ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزا من صبرة فهلكت والأول أصح لأن السلم في الذمة لا في عين وإنما لزمه الدفع من ثمرة هذا العام لتمكنه من دفع الواجب منها فإن تعذر البعض فله الخيرة بين الصبر بالباقي وبين الفسخ في الجمع وله أخذ الموجود والفسخ في الباقي في أصح الوجهين لأنه فسخ في بعض المعقود عليه أشبه البيع وفي الآخر : لا يجوز لأن السلم يقل فيه الثمن لأجل التأجيل فإذا فسخ في البعض بقي البعض بالباقي من المثمن وبمنفعة الجزء الذي فسخ فيه فلم يجز كما لو شرطه في ابتداء العقد وتجوز الإقالة في السلم كله إجماعا وتجوز في بعضه لأن الإقالة معروف جاز في الكل فجاز في البعض كالإبراء
وعنه : لا يجوز لما ذكرنا في الفسخ والأول أصح لأن باقي الثمن يستحق باقي العوض وإذا فسخ العقد رجع بالثمن أو ببدله إن كان معدوما وليس له صرفه في عقد آخر قبل قبضه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ]
وقال القاضي : يجوز أخذ العوض عنه لأنه عوض مستقر في الذمة فأشبه القرض فعلى هذا يصير حكمه حكم القرض على ما سيأتي
فصل :
ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن بيع ما لم يضمن ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ولفظه : لا يحل ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه ولا يجوز التولية فيه ولا الشركة ن لما ذكرنا في الطعام ولا الحوالة به لأنها إنما تجوز بدين مستقر والسلم بعوض الفسخ ولا تجوز الحوالة على من عليه سلم لأنها معاوضة بالسلم قبل قبضه ولا يجوز بيع السلم من بائعه قبل قبضه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم من شيء فلا يصرفه إلى غيره ] ولأنه بيع للمسلم فيه فلم يجز كبيعه من غيره
فصل :
وإذا قبضه فوجده مبيعا فله رده وطلب حقه لأن العقد يقتضي السلامة وقد أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ما في الذمة وإن حدث فيه عيب عنده فهو كما لو حدث العيب في المبيع بعد قبضه على ما مضى

باب القرض
ويسمى سلفا وأجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة ] رواه ابن ماجة ويصح بلفظ القرض وبكل لفظ يؤدي معناه نحو أن يقول : ملكتك هذا على أن ترد بدله فإن لم يذكر البدل فهو هبة وإذا اختلفا فالقول قول المملك لأن الظاهر معه لأن التمليك بغير عوض هبة ويثبت الملك في القرض بالقبض لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه كالهبة ولا خيار فيه لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره فهو كالواهب ويصح شرط الرهن فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم [ رهن درعه على شعير أخذه لأهله ] متفق عليه
وإن شرط فيه الأجل لم يتأجل ووقع حالا لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع فلا يلزم كتأجيل العارية ولو أقرضه تفاريق ثم طلب به جملة لزم المفترض ذلك لما قلنا فإذا أراد المقرض الرجوع في عين ماله وبذل المقترض مثله فالقول قول المقترض لأن الملك قد زال عن العين بعوض فأشبه البيع اللازم وإن أراد المقترض رد عين المال لزم المقرض قبوله لأنه بصفة حقه فلزمه قبوله كما لو دفع إليه المثل
فصل
ويصح قرض كل ما يصح السلم فيه لأنه يملك بالبيع ويضبط بالصفة فصح قرضه كالمكيل إلا بني آدم فإن أحمد رضي الله عنه كره قرضهم فيحتمل التحريم اختاره القاضي لأنه لم ينقل ولا هو من المرافق ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردها ويحتمل الجواز لأن السلم فيه صحيح فصح قرضهم كالبهائم فأما ما لا يصح السلم فيه كالجواهر ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز ذكره أبو خطاب لأن القرض يقتضي رد المثل وهذا لا مثل له
والثاني : يجوز قاله القاضي لأن ما لا مثل له تجب قيمته والجواهر كغيرها في القيمة
ولا يجوز القرض إلا في معلوم القدر فإن أقرضه فضة لا يعلم وزنها أو مكيلا لا يعلم كيله لم يجز لأن القرض يقتضي رد المثل وإذا لم يعلم لم يتمكن من القضاء فصل
ويجب رد المثل في المثليات لأنه يجب مثله في الإتلاف ففي القرض أولى فإن أعوز المثل عليه قيمته حين أعوز لأنها حينئذ ثبت في الذمة وفي غير المثلي وجهان :
أحدهما : يرد القيمة لأن ما أوجب المثل في المثلي أوجب القيمة في غيره كالإتلاف
والثاني : يرد المثل لما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل للصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال : يا رسول الله لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال : [ أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء ] رواه مسلم ولأن ما يثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي بخلاف الإتلاف فإنه عدوان فأوجب القيمة لأنه أحصر والقرض ثبت للرفق فهو أسهل فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريبا فإن قلنا : يرد القيمة اعتبرت حين القرض لأنها حينئذ تجب
فصل :
ويجوز قرض الخبز ورد مثله عددا بغير وزن في الشيء اليسير وعنه : لا يجوز إلا بالوزن قياسا على الموزونات ووجه الأول ما روت عائشة قالت : قلت : يا رسول الله إن الجيران يقترضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصانا فقال : [ لا بأس إنما ذلك من مرافق الناس ] وعن معاذ : أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال : [ سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير وأعط الصغير وخذ الصغير وأعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء ] سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذلك روهما أبو بكر في الشافي
فصل :
فإن أقرضه فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها فعليه قيمتها يوم أخذها نص عليه لأنه منع إنفاقها فأشبه تلف أجزائها فإن لم تترك المعاملة بها لكن رخصت فليس له إلا مثلها لأنها لم تتلف إنما تغير سعرها فأشبهت الحنطة إذا رخصت
فصل :
ولا يجوز أن يشترط في القرض شرط يجر به نفعا مثل أن يشترط رد أجود منه أو أكثر أو أن يبيعه أو أن يشتري منه أو يؤجره أو يستأجر منه أو يهدي له أو يعمل له عملا ونحوه لأن النبي صلى الله عليه و سلم [ نهى عن بيع وسلف ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعن أبي كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد إرفاق وشرط ذلك يخرجه عن موضوعه وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر أو يكتب له به سفتجة إلى بلد في حمله إليه نفع لم يجز لذلك فإن لم يكن لحمله مؤنة فعنه : الجواز لأن هذا ليس بزيادة قدر ولا صفة فلم يفسد به القرض كشرط الأجل وعنه : في السفتجة مطلقا روايتان لأنها مصلحة لهما جميعا وإن شرط رد دون ما أخذ لم يجز لأنه ينافي مقتضاه وهو رد المثل فأشبه شرط الزيادة ويحتمل أنه لا يبطله لأنه نفع المقترض لا يمنع منه لأن القرض إنما شرع رفقا به فأشبه شرط الأجل بخلاف الزيادة وكل موضوع بطل الشرط فيه ففي القرض وجهان :
أحدهما : يبطل لأنه قد روي [ كل قرض جر منفعة فهو ربا ]
والثاني : لا يبطل لأن القصد إرفاق المقترض فإذا بطل الشرط بقي الإرفاق بحاله
فصل :
وإن وفى خيرا من القدر أو الصفة من غير شرط ولا مواطأة جاز لحديث أبي رافع وإن كتب له به سفتجة أو قضاه في بلد آخر أو أهدى إليه هدية بعد الوفاء فلا بأس لذلك وقال ابن أبي موسى : إن زاده مرة لم يجز أن يأخذ في المرة الثانية زيادة قولا واحدا ولا يكره قرض المعروف لحسن القضاء وذكر القاضي وجها في كراهته لأنه يطمع في حسن عادته والأول أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان معروفا بحسن القضاء فلم يكن قرضه مكروها ولأن خير الناس أحسنهم قضاء ففي كراهة قرضه تضييق على خير الناس وذوي المروءات
فصل :
وإن أهدى له قبل الوفاء من غير عادة أو استأجر منه بغير الأجرة أو أجره شيئا بأقل أو استعمله عملا فهو خبيث إلا أن يحسبه من دينه كما روى الأثرم : أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال : أعطه سبعة دراهم وروى ابن ماجة عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ] فإن كان بينهما عادة بذلك قبل القرض أو كافأه فلا بأس لهذا الحديث
فصل :
وإن أفلس غريمه فأقرضه ليفيه كل شهر شيئا منه جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء ما يستحق استيفاؤه ولو كان له طعام عليه فأقرضه ما يشتريه به ويوفيه جاز لذلك ولو أراد تنفيذ نفقة إلى عياله فأقرضها رجلا ليوفيها لهم فلا بأس لأنه مصلحة لهما لا ضرر فيه ولا يرد الشرع بتحريم ذلك
قال القاضي : ويجوز قرض مال اليتيم للمصلحة مثل أن يقرضه في بلد ليوفيه في بلد آخر ليربح خطر الطريق وفي معنى هذا : قرض الرجل فلاحه حبا يزرع في أرضه أو ثمنا يشتري به بقرا وغيرها لأنه مصلحة لهما وقال ابن أبي موسى : هذا خبيث
فصل :
وإذا قال المقرض : إذا مت فأنت في حل فهي وصية صحيحة وإن قال : إن مت فأنت في حل لم يصح لأنه إبراء علق على شرط وإن قال : اقترض لي مائة ولك عشرة صح لأنها جعالة على ما بذله من جاهه وإن قال : تكفل عني بمائة ولك عشرة لم يجز لأنه يلزمه أداء ما كفل به فيصير له على المكفول فيصير بمنزلة من أقرضه مائة فيصير قرضا جر نفعا ولو أقرضه تسعين عددا بمائة عددا وزنهما واحد وكانت لا تتفق برؤوسها فلا بأس به لأنه لا تفاوت بينهما في قيمة ولا وزن وإن كانت تتفق في موضع برؤوسها لم يجز لأنها زيادة
فصل :
وإن أقرضه نصف دينار فأتاه بدينار صحيح وقال : خذ نصفه وفاء ونصفه وديعة أو سلما جاز وإن امتنع من أخذه لم يلزمه لأن عليه ضررا في الشركة والسلم عقد يعتبر فيه الرضى ولو أقرضه نصفا قراضة على أن يوفيه نصفا صحيحا لم يجز لأنه شرط زيادة والله أعلم

باب الرهن
وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين ويجوز في السفر لقول الله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وفي الحضر لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه متفق عليه ولأنه وثيقة جازت في السفر فتجوز في الحضر كالضمان والشهادة
فصل :
ويجوز الرهن بعوض القرض للآية وبثمن المبيع للخبر وكل دين يمكن استيفاؤه منه كالأجرة والمهر وعوض الخلع ومال الصلح وأرش الجناية والعيب وبدل المتلف قياسا على الثمن وعوض القرض وفي دين السلم روايتان :
إحداهما : يصح الرهن به للآية والمعنى
والأخرى : لا يجوز لأنه لا يأمن هلاك الرهن بعدوان فيصير مستوفيا حقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم من شيء فلا يصرفه إلى غيره ]
فصل :
ولا يجوز الرهن بمال الكتابة لأنه غير لازم فإن للعبد تعجيز نفسه ولا يمكن استيفاؤه من الرهن لأنه لو عجز صار هو والرهن لسيده ولا يجوز بما يحمل العاقلة من الدية قبل الحول لأنه لم يجب ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب فإنه يحتمل حدوث ما يمنع وجوبه ويجوز الرهن به بعد الحول لأنه دين مستقر ولا يجوز بالجعل في الجعالة قبل العمل لعدم الوجوب ويجوز بعده
وقال القاضي : يحتمل جواز الرهن به قبل العمل لأن مآله إلى الوجوب ولا يصح الزهن بما ليس بثابت في الذمة كالثمن المتعين والأجرة المتعينة والمنافع المعينة نحو أن يقول : أجرتك داري هذه شهرا لأن العين لا يمكن استيفاؤها من الرهن ويبطل العقد بتلفها وقياس هذا أنه لا يصح الرهن بالأعيان المضمونة كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم لتعذر استيفاء العين من الرهن وإن جعله بقيمتها كان رهنا بما لم يجب ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب
وقال القاضي : قياس المذهب صحة الرهن بها لصحة الكفالة بها
فصل :
ويصح الرهن بالحق بعد ثبوته لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } إلى قوله : { فرهان مقبوضة } ومع ثبوته وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع أو القرض لأن الحاجة داعية إليه فإنه لو لم يشترطه لم يلزم الغريم الرهن وإن رهن قبل الحق لم يصح في ظاهر المذهب اختاره أبو بكر و القاضي لأنه تابع للدين فلا يجوز قبله كالشهادة واختار أبو الخطاب : صحته فإذا دفع إليه رهنا على عشرة دراهم يقرضه إياه ثم أقرضه لزم الرهن لأنه وثيقة بحق فجاز عقدها قبله كالضمان
فصل :
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن لأن العقد لحظه وحده فكان له فسخه كالمضمون له ويلزمه من جهة الراهن لأن الحظ لغيره فلزمه من جهته كالضمان في حق الضامن ولأنه وثيقة فأشبه الضمان ولا يلزمه بالقبض لقول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } ولأنه عقد إرفاق فافتقر إلى القبض كالقرض وعنه في غير المكيل والموزون : أنه يلزم بمجرد العقد قياسا على البيع والأول : المذهب لأن البيع معاوضة وهذا إرفاق فهو أشبه بالقرض وإذا كان الرهن في يد الراهن لم يجز قبضه إلا بإذنه لأنه له قبل القبض فلا يملك المرتهن إسقاط حقه بغير إذنه كالموهوب وإن كان في يد المرتهن فظاهر كلامه لزومه بمجرد العقد لأن يده ثابتة عليه وإنما يعتبر الحكم فقط فلم يحتج إلى قبض كما لو منع الوديعة صارت مضمونة وقال القاضي وأصحابه : لا يلزمه حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها ولو كان غائبا ولا يصير مقبوضا حتى يوافيه هو أو وكيله ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر إلى القبض ولا يحصل القبض إلا بفعله أو إمكانه ثم هل يفتقر إلى إذن الراهن في القبض على وجهين :
أحدهما : لا يفتقر إليه لأن إقراره عليه كإذنه فيه
والثاني : يفتقر لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم فافتقر إلى الإذن كما لو لم يكن في يده
فصل :
وإذا أذن في القبض ثم رجع عنه قبل القبض قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها لما
في يده فهو كمن لم يأذن لأن الإذن قد زال وإن أذن فيه ثم جن أو أغمي عليه
زال الإذن لخروجه عن كونه من أهله ويقوم ولي المجنون مقامه إن رأى الحظ في القبض أذن فيه وإلا فلا وإن تصرف الراهن في الرهن قبل قبضه بعتق أو هبة أو بيع أو جعله مهرا بطل الرهن لأن هذه التصرفات تمنع الرهن فانفسخ بها وإن رهنه بطل الأول لأن المقصود منه ينافي الأول وإن دبره أو أجره أو زوج الأمة لم يبطل الرهن لأن هذه التصرفات لا تمنع البيع فلا تمنع صحة الرهن وإن كاتب العبد ـ وقلنا : يصح رهن المكاتب لم يبطل بكتابه لأنه لا ينافيها وإن قلنا : لا يصح رهنه بطل بها لتنافيها
فصل :
وإن مات أحد المتراهنين لم يبطل الرهن لأنه عقد لا يبطله الجنون أو مآله إلى اللزوم فلم يبطله الموت كبيع الخيار ويقوم وارث الميت مقامه في الإقباض والقبض فإن لم يكن على الراهن دين سوى دين الرهن فلورثه إقباضه وإن كان عليه دين سواه فليس له إقباضه لأنه لا يملك تخصيص بعض الغرماء برهن وعنه : له إقباضه لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة بخلاف غيره والأول أولى لأن حقوق الغرماء تعلقت بالتركة قبل لزوم حقه فلم يجز تخصيصه بغير رضاهم كما لو أفلس الراهن فإن أذن الغرماء في إقباضه جاز لأن الحق لهم فإذا قبضه لزم سواء مات قبل الإذن في القبض أو بعده
فصل :
وإن حجرعلى الراهن قبل القبض لم يملك إقباضه فإن كان الحجر لسفه قام وليه مقامه كما لو جن وإن كان لفلس لم يجز لأحد إقباضه إلا بإذن الغرماء لأن فيه تخصيص المرتهن بثمنه دونهم
فصل :
ومتى امتنع الراهن من إقباضه وقلنا : إن القبض ليس بشرط في لزومه أجبره الحاكم وإن قلنا : هو شرط لم يجبره وبقي الدين بغير رهن وهكذا إن انفسخ الرهن قبل القبض إلا أن يكون مشروطا في بيع فيكون للبائع الخيار بين فسخ البيع وإمضائه لأنه لم يسلم له ما شرط فأشبه ما لو شرط صفة في المبيع فبان بخلافها وإن قبض الرهن فوجد معيبا فله الخيار لأنه لم يسلم له ما شرطه فإن رضيه معيبا فلا أرش له لأن الرهن إنما لزم فيما قبض دون الجزء الفائت وإن حدث العيب أو تلف الرهن في يد المرتهن فلا خيار له لأن الراهن وفى له بما شرط فإن تعب عنده ثم أصاب به عيبا قديما فله رده وفسخ البيع لأن العيب الحادث عنده لا يجب ضمانه على المرتهن وخرجه القاضي على الروايتين في البيع وإن علم بالعيب بعد تلفه لم يملك فسخ البيع لأنه قد تعذر عليه رد الرهن لهلاكه
فصل :
ولا ينفك شيئ من الرهن حتى يقضي جميع ديونه لأنه وثيقة به فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان فإن رهن شيأ من رجلين أو رهن رجلان رجلا شيئا فبرئ أحدهما أو برئ الراهن من دين أحدهما انفك نصف الراهن لأن الصفقة التي في أحد طرفيها عقدان فلا يقف انفكاك أحدهما على فكاك الآخر كما لو فرق بين العقدين وإن أراد الراهن مقاسمة المرتهن في الأولى أو أراد الراهنان القسمة في الثانية ولا ضرر فيها كالحبوب والأدهان أجبر الممتنع عليها وإن كان فيها ضرر لم يجبر عليها كغير الرهن ويبقى الرهن مشاعا
فصل :
واستدامة القبض كابتدائه في الخلاف في اشتراطه للآية ولأنها إحدى حالتي الرهن فأشبهت الابتداء فإن قلنا باشتراطه فأخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن زال لزومه وبقي كالذي لم يقبض مثل أن أجره إياه أو أودعه أو أعاره أو غير ذلك فإن رده الراهن إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق لأنه أقبضه باختياره فلزم به كالأول وإن أذيلت يد المرتهن بعدوان كغضب ونحوه فالراهن بحاله لأن يده ثابتا حكما فكأنها لم تزل
فصل
والرهن أمانة في يد المرتهن إن تلفت من غير تعد منه لم يضمنه ولم يسقط شيء من دينه لما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرهن لا يغلق والرهن ممن رهنه ولأنه وثيقة بدين ليس بعوض عنه فلم يسقط بهلاكه كالضامن وإن كان الرهن فاسدا لم يضمنه لأن ما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد وإن وقت الرهن فتلف بعد الوقت ضمنه لأنه مقبوض بغير عقد وإن رهنه مغصوبا لم يعلم به المرتهن فهل للمالك تضمين المرتهن ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يضمنه لأنه دخل على أنه أمين
والثاني : يضمنه لأنه قبضه من يد ضامنه فإذا ضمنه رجع على الراهن في أحد الوجهين لأنه غره والثاني : لا يرجع لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وإن ضمن الراهن فهل يرجع على المرتهن ؟ على وجهين إن قلنا : يرجع المرتهن لم يرجع الراهن وإن قلنا : لا يرجع ثم رجع هاهنا وإن انفك الرهن بقضاء أو إبراء بقي الرهن أمانة لأن قبضه حصل بإذن مالكه لا لتخصيص القابض بنفعه فأشبه الوديعة
فصل :
إذا حل الدين فوفاه الرهن انفك الرهن وإن لم يوفه وكان قد أذن في بيع الرهن بيع واستوفي الدين من ثمنه وما بقي فله وإن لم يأذن طولب بالإيفاء أو ببيعه فإن أبى أو كان غائبا فعلى الحاكم ما يراه من إجباره على البيع أو القضاء أو بيع الرهن بنفسه أو بأمينه والله أعلم

باب ما يصح رهنه وما لا يصح
يصح رهن كل عين يصح بيعها لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من ثمنه عند استيفائه من الراهن وهذا يحصل مما يجوز بيعه ويصح رهن المتاع لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه كالمفرز ثم إن اتفقا على جعله في يد المرتهن أو يد عدل وديعة للمالك أو بأجره جاز وإن اختلفا جعله الحاكم في يد عدل وديعة لهما أو يؤجره لهما محبوسا قدرالرهن للمرتهن وإن رهن نصيبه من جزء من المشاع وكان مما لا ينقسم جاز وإن جازت قسمته احتمل جواز رهنه لأنه يصح بيعه واحتمل أن لا يصح لاحتمال أن يقتسماه فيحصل المرهون في حصة الشريك ويصح رهن العبد المرتد والجاني لأنه يجوز بيعهما وفي رهن القاتل في المحاربة وجهان بناء على بيعه ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب لظهوره في بيعه ويصح رهن من علق عتقه بصفة توجد بعد حلول الدين لإمكان استيفائه من ثمنه وإن كانت الصفة توجد قبل حلول الدين لم يجز رهنه لأنه لا يمكن استيفاؤه من ثمنه وإن كانت تحتمل الأمرين احتمل أن يصح رهنه لأن الأصل بقاء العقد والعتق قبله مشكوك فيه فهو كالمدبر واحتمل أن لا يصح رهنه لأنه يحتمل العتق قبل حلول الحق وهذا غرر لا حاجة إليه فإن مات سيد المدبر وهو يخرج من الثلث أو وجدت الصفة عتق وبطل الرهن ولا يصح رهن المكاتب لتعذر استدامة قبضه ويتخرج أن يصح إن قلنا : استدامة القبض غير مشترطة وأنه يصح بيعه ويكون ما يؤديه من نجوم كتابته رهنا معه وإن عتق بقي ما أداه رهنا كالقن إذا مات بعد الكسب وجميع هذه المعاني عيوب لها حكم غيرها من العيوب
فصل
ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد لأنه مما يجوز بيعه وإيفاء الدين من ثمنه فأشبه الثياب فإن كان الدين يحل قبل فساده بيع وقضي من ثمنه وإن كان يفسد قبل الحلول وكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف كالعنب جفف ومؤنة تجفيفه على الراهن لأنه من مؤنة حفظه فأسبه نفقة الحيوان وإن كان مما لايجفف فشرطا بيعه وجعل ثمنه رهنا فعلا ذلك وإن لم يشرطاه ففيه وجهان :
أحدهما : يصح الرهن ويباع كما لو شرطاه لأن الحال يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف فحمل مطلق العقد عليه كما يحمل على تجفبف العنب
والثاني : لا يصح لأن البيع إزالة ملكه قبل حلول الحق فلم يجبر عليه كغيره وإن شرط أن لا يباع فسد وجها واحدا لأنه إن وفى بشرطه لم يمكن إيفاء الدين من ثمنه وإن رهنه عصيرا صح لذلك فإن تخمر خرج من الرهن لأنه لا قيمة له فإن عاد خلا عاد رهنا لأن العقد كان صحيحا فلما طرأ عليه معنى أخرجه من حكمه ثم زال المعنى عاد الحكم كما لو ارتد أحد الزوجين ثم عاد في العدة عادت الزوجية وإن كان استحالته قبل القبض لم يعد رهنا لأنه ضعيف فأشبه الردة قبل االدخول
فصل :
ويصح رهن الثمر قبل بدو صلاحها والزرع الأخضر مطلقا وبشرط التبقية لأن الغرر يقل فيه لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدين بحاله بخلاف البيع قال القاضي : وبصح رهن المبيع المكيل والموزون قبل قبضه لأن قبضه مستحق للمشتري فيمكنه قبضه ثم يقبضه وإنما منع من بيعه لئلا يربح فيما لم يضمنه وهو منهي عنه وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حول الحق فلا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه وإن رهنها بدين حال أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها جاز لأنه لا غرر فيه فإن لم يقطعها حتى اختلطت لم يبطل الرهن لأنه وفع صحيحا لكن إن سمح الراهن ببيع الجميع أو اتفقا على قدر منه جاز وإن اختلفا وتشاحا فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر
فصل :
ويصح رهن الجارية دون ولدها لأن الرهن لا يزيل الملك فلا يحصل التفريق فيه فإن احتيج إلى بيعها بيع ولدها معها لأن التفريق بينهما محرم والجمع بينهما في البيع جائز فتعين وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية منه وكونها ذات ولد عيب لأنه ينقص من ثمنها
فصل :
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه غير ما ذكرنا كالوقف وأم الولد والكلب ونحوها لأنه لا يمكن إيفاء الدين منه وهو المقصود ولا يصح رهن ما لا يقدر على تسليمه ولا المجهول الذي لا يجوز بيعه لأن الصفات مقصودة في الرهن لإيفاء الدين كما تقصد في البيع للوفاء بالثمن ولا رهن مال غيره بغير إذنه ويتخرج جوازه ويقف على إجازة مالكه كبيعه فإن رهن عينا يظنها لغيره وكانت ملكه ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لأنه صادف ملكه
والثاني : لا يصح لأنه عقده معتقدا فساده ولا يصح رهن الرهون من غير إذن المرتهن لأنه لا يملك بيعه من الدين الثاني فإن رهنه عند المرتهن بدين آخر مثل أن رهنه عبدا على ألف ثم استدان منه دينا آخر وجعل العبد رهنا بهما لم يصح لأنه رهن مستحق بدين فلم يجز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير الرتهن
فصل :
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما مما فتح عنوة في ظاهر المذهب لأنها وقف وما فيه من بناء من ترابها فحكمه حكمها وما جدد فيها من غراس وبناء من غراس وبناء من غير ترابها إن أفرد بالرهن ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأنه تابع لما لا يجوز رهنه فهو كأساسات الحيطان
والثانية : يجوز لأنه مملوك غير موقوف وإن رهنه مع الأرض بطل في الأرض والغراس والبناء وجهان بناء على تفريق الصفقة
فصل :
وفي رهن المصحف روايتان كبيعه وإن رهنه أو رهن كتب الحديث أو عبدا مسلما لكافر لم يصح لأنه لا يصح بيعه له ويحتمل أن يصح إذا شرطا كونه في يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر بخلاف البيع ولا يجوز رهن المنافع لأنها تهلك إلى حلول الحق ولو رهنه أجرة داره شهرا لم يصح لأنه مجهول ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه

باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه
وما يلزمه وما لا يلزمه
جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه لأنه عقد وارد على الأصل فثبت حكمه في نمائه كالبيع أو نماء حادث من غير الرهن أشبه المتصل ولو ارتهن أرضا فنبت فيها شجر دخل في الرهن لأنه من نمائها سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن ويدخل فيه الصوف واللنب الموجودان والحادثان لدخولهما في البيع وإن رهنه أرضا ذات شجر أو شجرا مثمرا فحكمه في ذلك حكم البيع وإن رهنه دارا فخربت فأنقاضها رهن لأنها من أجزائها وإن رهنه شجرا لم تدخل أرضه في الرهن لأنها أصل فلا تدخل تبعا
فصل :
ولا يملك الراهن التصرف في الرهن باستخدام ولا سكنى ولا إجارة ولا إعارة ولا غيرها بغير رضا المرتهن ولا يملك المرتهن ذلك بغير رضا الراهن فإن لم يتفقا على التصرف كانت منافعه معطلة تهلك تحت يد المرتهن حتى يفك لأن الرهن غير محبوس على استيفاء حق فأشبهت المبيع المحبوس على ثمنه وإن اتفقا على إجارته أو إعارته جاز في قول الخرقي و أبو الخطاب لأن يد المستأجر والمستعير نائبة عن يد المرتهن في الحفظ فجاز كما لو جعلاه في يد عدل ولا فائدة في تعطيل المنافع لأنه تضييع مال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عنه وقال أبو بكر : لا يجوز إجارته فإن فعلا بطل الرهن لأن الرهن يقتضي الحبس عن المرتهن أو نائبه فمتى وجد عقد يقتضي زوال الحبس بطل الرهن وقال أبو موسى : إن أجره المرتهن أو أعاره بإذن الراهن جاز وإن فعل ذلك الراهن بإذن المرتهن فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يخرج من الرهن لأن المستأجر قائم مقام الراهن فصار كما لو سكنه الراهن
فصل :
ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن كمداواته بما لا يضر وفصده وحجمه عند حاجته إليه وودج الدابة وتبزيغها وإطراق الإناث عند حاجتها لأنه إصلاح لماله من غير ضرر فلم يمنع منه كالعلف وإن أراد قطع شيء من بدنه لخبيثة فيه وقال أهل الخبرة : الأحوط قطعها فله فعله وإن ساووا الخوف في قطعها وتركها فامتنع أحدهما من قطعها فله ذلك لأن فيه خطرا بحقه وللرهن مداواة الماشية من الجرب بما لا ضرر فيه كالقطران بالزيت اليسير وإن خيف ضرره كالكثير لم يملكه وليس له قطع الأصبع الزائدة والسلعة لأنه يخاف منه الضرر وتركها لا يضر وليس له الختان إن كان لا يبرأ منه قبل محل الحق لألنه ينقص ثمنه وإن كان يبرأ قبله والزمان معتدل لم يمنع منه لأنه يزيد به الثمن ولا يضر المرتهن وليس للمرتهن فعل شيء من ذلك بغير رضى الراهن
فصل
ولا يملك الراهن بيع الرهن ولا هبته ولا جعله مهرا ولا أجرة ولا كتابة العبد ولا وقفه لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة فلم يصح من الراهن بنفسه كالفسخ وفي الوقف وجه آخر : أنه يصح لأنه يلزم لحق الله تعالى أشبه العتق والأول : الصحيح لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة
ولا يصح تزويج الرقيق وقال القاضي له تزويج الأمة ويمنع الزوج وطأها والأول : أصح لأنه ينقص ثمنها فلم يصح كتزويج العبد
فصل
ولايجوز له عتق الرهن لأن فيه إضرارا بالمرتهن وإسقاط حقه اللازم فإن فعل نفذ عتقه نص عليه لأنه محبوس لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك كالمحبوس على ثمنه وعنه : لا ينفذ عتق المعسر لأنه عتق في ملكه يبطل به حق غيره فاختلف فيه الموسروالمعسر كالعتق في العبد المشترك فإن أعتق الموسر فعليه قيمته تجعل مكانه رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو قتله وإن أعتق المعسر فالقيمة في ذمته إن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه رهنا وإن أيسر بعد حلول الحق طولب به خاصة لأن ذمته تبرأ به من الحقين معا وتعتبر القيمة حين الإعتاق لأنه حال الإتلاف
فصل
وليس للراهن وطء الجارية وإن كانت لا تحبل لأن من حرم وطؤها يستوي فيه من تحبل ومن لا تحبل كالمستبرأة فإن وطىء فلا حد عليه لأنها ملكه فإن نقصها لكونها بكرا أو أفضاها فعليه ما نقصها إن شاء جعله رهنا وإن شاء جعله قصاصا من الحق وإذا لم تحمل منه فهي رهن بحالها كما لو استخدمها وإن ولدت منه فولده حر وصارت أم ولد له لأنه أحبلها بحر في ملكه وتخرج من الرهن موسرا كان أو معسرا رواية واحدة لأن الإحبال أقوى من العتق ولذلك ينفذ إحبال المجنون دون عتقه وعليه قيمتها يوم إحبالها لأنه وقت إتلافها وإن تلفت بسبب الحمل فعليه قيمتها لأنها تلفت بسبب كان منه
فصل
وكل ما منع الراهن منه لحق المرتهن إذا أذن فيه جاز له فعله لأن المنع لحقه فجاز بإذنه فإإن رجع عن الإذن قبل الفعل سقط حكم الإذن فإن لم يعلم بالرجوع حتى فعل فهل يسقط الإذن ؟ فيه وجهان بناء على عزل الوكيل بغير علمه فإن تصرف بإذنه فيما ينافي الرهن من البيع والعتق ونحوهما صح تصرفه وبطل الرهن لأنه لا يجتمع مع ما ينافيه إلا البيع فله ثلاثة أحوال :
أحدهما : أن يبيعه بعد حلول الحق فيتعلق حق المرتهن بالثمن ويجب قضاء الدين منه إلا أن يقضيه غيره لأن مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الحق من ثمنه
الثاني : أن يبيعه قبل حلول الحق بإذن مطلق فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن من الوثيقة لأنه تصرف في عين الرهن تصرفا لا يستحقه المرتهن فأبطله كالعتق
والثالث : أن يشترط جعل الثمن رهنا ويجعل دينه من ثمنه فيصح البيع والشرط لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق جاز فكذلك قبله وإن أذن له في الوطء والتزويج جاز لأنه منع منه لحقه فجاز بإذنه فإن فعل لم يبطل الرهن لأنه لا ينافيه فإن أفضى إلى الحمل أو التلف فلا شيء على الراهن لأنه مأذون في سببه وإن أذن له في ضربها فتلفت به فلا ضمان عليه لأنه تولد من المأذون فيه كتولد الحمل من الوطء
فصل
ويلزم الراهن مؤنة الرهن كلها من نفقة وكسوة وعلف وحرز وحافظ وسقي وتسوية وجذاذ وتجفيف لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه ] وهذا من غرمه ولأنه ملكه فكانت نفقته عليه كالذي في يده فإن احتاج إلى دواء أو فتح عرق لم يلزمه لأن الشفاء بيد الله تعالى وقد يحيا بدونه بخلاف النفقة ولا يجبر على إطراق الماشية لأنه ليس مما يحتاج إليه لبقائها وليس عليه ما يتضمن زيادة الرهن فإن احتاجت إلى راع لزمه لأنه لا قوام لها بدونه فإن أراد السفر بها ليرعاها ولها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن منعه لأن فيه إخراجها عن يده ونظره وإن أجدب مكانها فللراهن السفر بها لأنه موضع حاجة فإن اتفقا على السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يطلب الأصلح فإن استويا قدم قول المرتهن لأنه أحق باليد
فصل
وليس للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ] ومنافعه من غنمه ولأن المنافع ملك للراهن فلم يجز أخذذها بغير اذنه كغير الرهن إلا ما كان مركوبا أو محلوبا ففيه روايتان :
إحداهما : هو كغيره لما ذكرناه
والثانية : للمرتهن الإنفاق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الرهن يركب بنفقته ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ] رواه البخاري وفي لفظ [ فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته ويركب ] فإن أنفق متبرعا فلا شيء له رواية واحدة وليس له استخدام العبد بقدر نفقته وعنه : له ذلك إذا امتنع مالكه من الإنفاق عليه كالمركوب والمحلوب قال أبو بكر : خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء لأن القياس يقتضي ذلك خولف في المركوب والمحلوب للأثر ففي غيره يبقى على القياس
فصل
وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعا لم يرجع وإن أنفق بإذن الراهن بنية الرجوع رجع بما أنفق لأنه نائب عنه فأشبه الوكيل وإن أنفق بغير إذنه معتقدا للرجوع نظرنا فإن كان مما لا يلزم الراهن كعمارة الدار لم يرجع بشيء لأنه تبرع بما لا يلزمه فلم يرجع به كغير المرتهن وإن كان مما يلزمه كنفقة الحيوان وكفن العبد فهل يرجع به ؟ على روايتين بناء على من قضى دينه بغير إذنه
فصل
فإذا أذن الراهن للمرتهن فيالانتفاع به بغير عوض والرهن في قرض لم يجز لأنه يصير قرضا منفعة وإن كان في غير قرض جاز لعدم لذلك وإن أذن له في الانتفاع بعوض مثل أن أجره إياه فإن حاباه في الأجرة فهو كالانتفاع بغير عوض وإن لم يحابه فيها جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض إنما انتفع بالإجارة وقال القاضي : ومتى استأجره المرتهن أو استعاره خرج من الرهن في مدتهما لأنه طرأ عليه عقد أوجب استحقاقه في الإجارة برضاهما فإذا انقضى العقد عاد الرهن بحكم العقد السابق والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن الرهن لأن القبض مستدام فلا تنافي بين العقدين لكنه في العارية يصير مضمونا لكون العارية مضمونة
فصل
وإن انتفع به بغير إذن الراهن فعليه أجرة ذلك في ذمته فإن كان الدين من جنسها تقاصت هي وقدرها من الدين وتساقطا وإن تلف الرهن ضمنه لأنه تعدى فيه فضمنه كالوديعة

باب جناية الرهن والجناية عليه
إذا جنى الرهن على أجنبي تعلق حق المجني عليه برقبته وقدم على المرتهن لأنه يقدم على المالك فأولى أن يقدم على المرتهن فإن سقط حق المجني عليه بعفو أو فداء بقي حق المرتهن لأنه لم يبطل دائما وإنما قدم حق المجني عليه لقوته فإذا زال ظهر حق المرتهن وإن كان الحق قصاصا في النفس اقتص منه وبطل الرهن وإن كان في الطرف اقتص له الرهن في باقيه وإن كان مالا أو قصاصا فعفى عنه إلى مال فأمكن إيفاء حقه ببيع بعضه بيع منه بقدر ما يقضي به حقه وباقيه رهن وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه بيع فإن استغرق ثمنه بطل الرهن وإن فضل منه شيء تعلق به حق المرتهن وإن كان أرش الجناية عليه أكثر من ثمنه فطلب المجني عليه تسليمه للبيع وأراد الراهن فداءه فله ذلك لأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه ويفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته في أحد الوجهين لأن ما يدفعه عوض عنه فلم يلزمه أكثر من قيمته وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته فينتفع به المجني عليه وإن أبى الراهن فداءه فللمرتهن فداؤه بمثل ما يفديه به الراهن وحكمه في الرجوع بذلك حكم ما يقضي به دينه فإن شرط جعله رهنا بالفداء مع الدين الأول لم يصح لأنه رهن فلم يجز رهنه بدين سواه وأجاز القاضي لأن المجني عليه يملك إبطال الرهن بالبيع فصار كالجائز قبل القبض والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة ولأن الحق متعلق به وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن بخلاف غيره
فصل
فإن جنى على سيده جناية لا توجب قصاصا فهي هدر لأنه مال لسيده فلا يثبت له في ماله كما لو لم يكن رهنا وإن كانت موجبة للقود فيما دون النفس فعفي على مال سقطت مطلقا لذلك وإن أحب القصاص فله ذلك لأن القصاص يجب للزجر والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده وإن كانت على النفس فللورثة القصاص وليس لهم العفو على مال في أحد الوجهين لما ذكرنا في السيد ولأنهم يقومون مقام الموروث ولم يكن له العفو على مال فكذلك وارثه والثاني : لهم ذلك لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فأشبه الجناية على أجنبي
فصل
فإن جنى على موروث سيده ولم ينتقل الحق إلى سيده فهي جناية على أجنبي وإن انتقل إليه وكانت الجناية موجبة للقصاص في طرف فمات المجني عليه فللسيد القصاص والعفو على مال لأن المجني عليه ملك ذلك فملكه وارثه وإن كانت على النفس فكذلك في أحد الوجهين والثاني : ليس له العفو على مال كما لو كانت الجناية على نفسه وأصلهما : هل يثبت للموروث ثم ينتقل إلى الوارث أم للوارث ابتداء ؟ فليس له العفوعلى مال كالجناية على طرف نفسه وإن قلنا يثبت للموروث فله العفو على مال لأن الحق ينتقل إليه على الصفة التي كان لموروثه لكون الاستدامة أقوى من الابتداء وإن كانت الجناية موجبة للمال أو كان الموروث قد عفي على مال ثبت ذلك للسيد لذلك فيقدم به على المرتهن
فصل
وإن جنى على عبد لسيده غير مرهون فحكمه حكم الجناية على طرف سيده وإن كان مرهونا عند مرتهن القاتل بحق واحد والجناية موجبة للمال أو عفا السيد على مال ذهب هدرا كمالو مات حتف أنفه وإن كان رهنا بحق آخر تعلق دين المقتول برقبة القاتل إن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل أو مساوية لها وإن كانت أقل تعلق برقبة القاتل بقدر قيمة المقتول فأي الدينين حل أولا بيع فيه فيستوفى من ثمنه وباقيه رهن بالآخر وإن كان المقتول رهنا عند غير مرتهن القاتل وكانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد الخيرة بين القصاص والعفو على مال لأنه يتعلق به حق غيره ويثبت المال في رقبة العبد فإن كان لا يستغرق قيمته بيع منه بقدر أرش الجناية ويكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقيه رهن بدينه وإن لم يمكن بيع بعضه بيع كله وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك وإن كانت الجناية تستغرق قيمته فالثاني أحق به وهل يباع أو ينقل فيجعل رهنا عنده ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يباع لعدم الفائدة في بيعه
والثاني : يباع لأنه ربما زاد فيه مزايد فاشتراه بأكثر من قيمته فكل موضع قلنا : للسيد القصاص أو لوارثه فاقتص فقال : بعض أصحابنا عليه قيمته تجعل مكانه لأنه أتلف الرهن باختياره ويحتمل أن لا يجب عليه شيء لأنه اقتص بإذن الشارع فلم يلزمه شيء كالأجنبي
فصل
وجنايته بإذن سيده كجنايته بغير إذنه إلا أن يكون صبيا أو أعجميا لا يعلم تحريم الجناية فيكون السيد هو الجاني يتعلق به القصاص والدية كالمباشر لها ولا يباع العبد فيها وقيل : يباع إذا كان معسرا لأنه باشر الجناية والأول أصح لأن العبد آلة ولو تعلقت به الجناية بيع فيها وإن كان سيده موسرا
فصل
وإن جنى على الرهن فالخصم الراهن لأنه مالكه ومالك بدله فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فله أن يقتص أو يعفو فإن اقتص ففيه وجهان :
أحدهما : عليه قيمته تجعل مكانه لأنه أتلف مالا استحق بسبب إتلاف [ الرهن ] فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال
والثاني : لا شيء عليه لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال وإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال كان رهنا مكانه فإن عفا الراهن عن المال لم يصح عفوه لأنه محل تعلق به حق المرتهن فلم يصح عفو الراهن عنه كما لو قبضه المرتهن وقال أبو الخطاب يصح وتؤخذ منه قيمته وتكون رهنا لأنه أتلفه بعفوه وقال القاضي : تؤخذ قيمته من الجاني فتجعل مكانه فإذا زال الرهن ردت إلى الجاني كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية وإن عفا الراهن عن الجناية الموجبة للقصاص إلى غير مال انبنى على موجب العمد فإن قلنا : أحد شيئين فهو كالعفو عن المال وإن قلنا : القصاص فهو كالاقتصاص فيه وجهان
فصل
إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه فكذبه المرتهن وولي الجناية لم يسمع قوله وإن صدقه ولي الجناية وحده قبل إقراره على نفسه دون المرتهن فيلزمه أرش الجناية لأنه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله ما لو قتله فإن كان معسرا قمتى انفك الرهن كان المجني عليه أحق برقبته وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك فإن نكل قضي عليه وفيه وجه آخر أنه يقبل إقرار الراهن لأنه غير متهم لأنه يقر بما يخرج الرهن من ملكه وعليه اليمين لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه وإن أقر أنه كان أعتقه عتق لأنه يملك عتقه فملك الإقرار به فيخرج العبد من الرهن ويؤخذ من الراهن قيمته تجعل مكانه ولا يقبل قوله في تقديم عتقه لأنه يسقط به حق المرتهن من عوضه
فصل
وإن أقر رجل بالجناية على الرهن فكذبه الراهن والمرتهن فلا شيء لهما وإن صدقه الراهن وحده فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه لإقراره بذلك وإن صدقه المرتهن وحده أخذ الأرش فجعل رهنا عنده فإذا خرج من الرهن رجع إلى الجاني ولا حق للراهن فيه والله سبحانه وتعالى أعلم

باب الشروط في الرهن
يصح شرط جعل الرهن في يد عدل فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن لأنه قبض في عقد فجاز التوكيل فيه كقبض الموهوب وما دام العدل حاله فليس لأحدهما ولا للحاكم نقله عن يده لأنهما رضياه ابتداء وإن اتفقا على نقله جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما وإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف عن الحفظ أو عداوة لهما أو لأحدهما فمن طلب نقله منهما فله ذلك لأنه متهم في حقه ففي بقائه في يده ضرر ثم إن اتفقا على من يضعانه عنده جاز وإن اختلفا وضعه الحاكم في يد عدل وإن اختلفا في تغير حاله بعث الحاكم وعمل بما يظهر له وإن مات العدل لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما لأنهما ما ائتمناه وإن رده العدل عليهما لزمهما قبوله لأنه متطوع بحفظه فلم يلزمه المقام عليه فإن امتنعا أجبرهما الحاكم فإن تغيبا أو كانا غائبين نصب الحاكم أمينا يقبضه لهما لأن للحاكم ولاية على الغائب الممتنع من الحق وإن دفعه الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما ولا غيبتهما ضمن الحاكم والأمين معا لأنه لا ولاية له على غير الممتنع والغائب فإن امتنعا أو غابا فلم يجد الحاكم ضمن لأنه يقوم مقامهما وكذلك لو أودعه من غير امتناعهما ولا غيبتهما ضمن هو والقابض معا وإن امتنع أحدهما ولم يجد حاكما لم يكن له دفعه إلى الآخر فإن فعل ضمن لأنه يمسكه لنفسه والعدل يمسكه لهما فإن رده إلى يده زال الضمان
فصل
وإن شرط جعله في يد اثنين صح الشرط ولم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معا فلم يجز لأحدهما الانفراد به كالوصيين فإن سلمه أحدهما إلى صاحبه ضمن نصفه لأنه القدر الذي تعدى فيه فإن مات أحدهما أو تغير حاله أقيم مقامه عدل
فصل
وكل من جاز توكيله جاز جعل الرهن على يديه مسلما كان أو كافرا عدلا أو فاسقا ذكرا أو أنثى لأنه جاز توكيله في غير الرهن فجاز فيه كالعدل ولا يجوز أن يكون صبيا أو مجنونا لأنه غير جائز التصرف فإن فعلا كان قبضه له وعدمه واحدا وإن كان عبدا فله حفظه بإذن سيده ولا يجوز بغير إذنه لأن منافعه لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه وإن كان مكاتبا وكان بغير جعل لم يجز لأنه ليس له التبرع وإن كان بجعل جاز لأن له الكسب بغير إذن سيده فإن لم يشرط جعله في يد أحد فهو في يد المرتهن لأنه المستوجب للعقد فكان القبض له كالمتهب فإن قبضه ثم تغيرت حاله في الثقة أو الحفظ أو حدث بينهما عداوة فللراهن دفعه إلى الحاكم ليزيل يده ويجعل في يد عدل لأنه لم يرض بحفظه في هذه الحال وإن اختلفا في تغير حاله بحث الحاكم وعمل بما بان له وإن مات المرتهن نقل عن الوارث إلى عدل لأن الراهن لم يرض بحفظه
فصل
إذا شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل عند حلول الحق صح شرطه لأن ما صح توكيل غيرهما فيه صح توكيلهما فيه كبيع عين أخرى فإن عزلهما الراهن صح عزله لأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليهما كما لو وكل غيرهما أو وكلهما في بيع غيره ولو مات المرتهن لم يكن لوارثه البيع لأنه لم يؤذن له ويتخرج أنه لا يملك عزلهما لأنه يفتح باب الحيلة فإن عزل المرتهن العدل عن البيع لم يملكه إلا في الحال الذي يملكه الراهن لأنه وكيله خاصة وإن أذنا له في بيع الرهن فتلف بجناية نمائه تبعا فبيع قيمته أولى والصحيح أنه لا يملك بيعها لأنه لم يؤذن له فيه ولا هي تبع لما أذن فيه بخلاف النماء
فصل
وإن أذنا له في البيع بنقد لم يكن له خلافهما لأنه وكيلهما وإن أطلقا أو اختلفا باع بنقد البلد لأن الحظ فيه لأن الغرض تحصيل الحظ فإن تساوت باع بجنس الدين لأنه يمكن القضاء منه فإن لم يكن فيها جنس الدين عين له الحاكم ما يبيع به وحكمه حكم الوكيل في جوب الاحتياط في الثمن على ما سنذكره فإذا باع وقبض الثمن فتلف في يده من غير تعد فلا ضمان عليه لأنه أمين وهو من ضمان الراهن لأنه ملكه فإن أنكر الراهن تلفه فالقول قول العدل مع يمينه لأنه أمين فهو كالمودع فإن قال : ما قبضته من المشتري فالقول قول العدل لذلك ويحتمل أن لا يقبل قوله لأن هذا إبراء للمشتري وإن خرج الرهن مستحقا فالعهدة على الراهن دون العدل لأنه وكيل وإن استحق بعد تلف الثمن في يد العدل رجع المشتري على الراهن دون العدل لأنه قبض منه على أنه أمين في قبضه وتسليمه إلى المرتهن وإن كان الثمن باقيا في يد العدل أو المرتهن رجع المشتري فيه لأنه عين ماله قبض بغير حق وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا فرده بعد قبض المرتهن ثمنه لم يرجع عليه لأنه قبضه بحق ولا على العدل لأنه أمين ويرجع على الراهن إلا أن يكون العدل لم يعلم المشتري أنه وكيل فيكون رجوعه عليه ثم يرجع هو على الراهن فإن تلف المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقا فلمالكه تضمين من شاء من الراهن والعدل والمرتهن لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف حصل في يده ويرجع على الراهن بالثمن الذي أخذ منه وإذا باع العدل الرهن بيعا فاسدا وجب رده فإن تعذر رده فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين من قيمة الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض ذلك مستوفيا لحقه لا رهنا فلم يكن له أكثر من دينه وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما وإن وفى الراهن المرتهن رجع بقيمته على من شاء منهما ويستقر الضمان على المشتري لحصول التلف في يده
فصل
وإذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول العدل لأنه أمين فإذا حلف برئ ويرجع المرتهن على الراهن
والثاني : القول قول المرتهن لأنه منكر والعدل إنما هو أمينه في الحفظ لا في دفع الثمن إليه فإذا حلف رجع على من شاء منهما فإذا رجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقر ببراءة ذمته منه ويدعي أن المرتهن ظلمه وغصبه وإن رجع على الراهن رجع الراهن على العدل لتفريطه في القضاء بغير بينة إلا أن يكون قضاؤه بحضرة الراهن أو ببينة فماتت أو غابت فلا يرجع عليه لعدم تفريطه وعنه : لا يرجع عل العدل بحال لأنه أمين ولو غابت فلا يرجع عليه لعدم تفريطه وعنه : لا يرطع على العدل بحال لأنه أمين ولو غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال الضمان لأنه رده إلى وكيل الراهن في إمساكه فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه ولو كان الرهن في يده فتعدى فيه ثم زال التعدي لم يزل الضمان لأن استئمانه زال بذلك فلم يعد بفعله
فصل
وإذا رهن أمة رجلا وشرط جعلها في يد امرأة أو ذي رحم لها أو ذي زوجة أو أمة جاز لأنه لا يفضي إلى الخلوة بها وإن لم يكن كذلك فسد الرهن لإفضائه إلى خلوة الأجنبي بها ولو اقترض ذمي من مسلم مالا ثم رهنه خمرا لم يصح لأنها ليست مالا وإن باعها الذمي أو وكيله وأتاه بثمنها فله أخذه فإن امتنع لزمه وقيل له : إما أن تقبض أو أن تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيح
فصل
فإن شرطما ينافي مقتضى الرهن نحو أن يشترط أن لا يسلمه أو لا يباع عند الحلول أو لا يستوفى الدين من ثمنه أو شرط أن يبيعه بما شاء أو لا يبيعه إلا بما يرضيه فسد الشرط لأن المقصود مع الوفاء به مفقود وإن شرط أنه متى حل الحق ولم توفني فالرهن لي بالدين أو بثمن سماه فسد لما روي عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) أنه قال : [ لا يغلق الرهن ] رواه الأثرم ومعناه : استحقاق المرتهن له لعجز الراهن عن فكاكه ولأنه علق البيع على أن تزيدني في الأجل لم يصح لأن الدين الحال لا يتأجل وإذا لم يثبت الأجل فسد الرهن لأنه في مقابلته وإن شرط أن ينتفع المرتهن بالرهن في دين القرض لم يجز وإن كان بدين مستقر في مقابلة تأخيره عن أجله لم يجز لأنه بيع للأجل وإن كان في بيع فعن أحمد جوازه إذا جعل المنفعة معلومة كخدمة شهر ونحوه فيكون بيعا وإجارة وإن لم تكن معلومة بطل الشرط للجهالة وبطل البيع لجهالة ثمنه وما عدا هذا فهو إباحة لا يلزم الوفاء به وإن قال : رهنتك ثوبي هذا يوما ويوما لا أوقته فالرهن فاسد لأن ينافي مقتضاه وكل شرط يسقط به دين الرهن يفسده وما لا يؤثر في ضرر أحدهما كاشتراط جعل الأمة في يد أجنبي عزب لا يفسده وفي سائر الشروط الفاسدة وجهان :
أحدهما : يفسد بها الرهن
والآخر : لا يفسد بناء على الشروط الفاسدة في البيع ويحتمل أن ما ينقص المرتهن يبطله وجها واحدا وفي سائرها وجهان :
أحدهما : يبطل الرهن لأنه شرط فاسد فأبطله كالأول
والثاني : لا يبطله لأنه زائد فإذا بطل بقي العقد بأحكامه

باب اختلاف المتراهنين
إذا قال : رهنتني كذا فأنكر أو اختلفا في قدر الدين أو قدر الرهن فقال : رهنتني هذين قال : بل هذا وحده أو قال : رهنتني هذا بجميع الدين قال : بل نصفه أو قال رهنتنيه بالحال قال : بل بالمؤجل فالقول قول الراهن لأنه منكر والأصل عدم ما أنكره ولأن القول قوله في أصل العقد فكذلك في صفته فإن قال : رهنتني عبدك هذا وخرج بيمينه وإن قال : أرسلت وكيلك فرهن عبدك على ألفين قبضها مني فقال : ما أذنت له في رهنه إلا ألف سئل الرسول فإن صدق الراهن حلف على أنه ما رهنه بألف ولا قبض غيرها ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره وإن صدق المرتهن حلف الراهن وعلى الرسول ألف لأنه أقر بقبضها ويبقى العبد رهنا على ألف واحدة ومن توجهت عليه اليمين فنكل فهو كالمقر سواء
فصل :
فإن قال : رهنتني عبدك هذا بألف فقال : بل بعتكه بها أو قال : بعتنيه بألف فقال : بل رهنتكه بها حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه فسقط ويأخذ السيد عبده وتبقى الألف بغير رهن
فصل :
وإن قال الراهن : قبضت الرهن بغير إذني فقال : بل بإذنك فالقول قول الراهن لأنه منكر وإن قال : أذنت لك ثم رجعت قبل القبض فأنكر المرتهن فالقول قوله لأن الأصل عدم الرجوع وإن كان الرهن في يد الراهن فقال المرتهن : قبضته ثم غصبتنيه فأنكر الراهن فالقول قوله لأن الأصل معه وإن أقر بتقبيضه ثم قال : احلفوه لي أنه قبض بحق ففيه وجهان :
أحدهما : يحلف لأن ما ادعاه محتمل
والثاني : لا يحلف لأنه مكذب لنفسه وإن رهنه عصيرا ثم وجد خمرا فقال المرتهن : إنما أقبضني خمرا فلي فسخ البيع وقال الراهن : بل كان عصيرا فقال أحمد رضي الله عنه : فالقول قول الراهن لأنه يدعي سلامة العقد وصحة القبض فظاهر حال المسلم استعمال الصحيح فكان القول قول من يدعيه كما لو اختلفا في شرط يفسد المبيع ويحتمل أن القول قول المرتهن بناء على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب ولو كان الرهن حيوانا فمات واختلفا في حياته وقت الرهن أو القبض فحكمه حكم العصير وإن أنكر المرتهن قبضه فالقول قوله لأن الأصل معه وإن وجد معيبا واختلفا في حدوثه ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في البيع
فصل :
وإن كان لرجل على آخر ألف برهن وألف بغير رهن فقضاه ألفا وقال : قضيت دين الرهن فقال : هي عن الألف الآخر فالقول قول الراهن سواء اختلفا في لفظه أو نيته لأنها تنتقل منه فكان القول قوله في صفة النقل وهو أعلم بنيته ولو دفعها بغير لفظ ولا نية فله صرفها إلى أيهما شاء كما لو دفع زكاة أحد الألفين فإن أبرأه المرتهن من أحدهما فالقول قول المرتهن لذلك وإن أطلق فله صرفها إلى أيهما شاء ذكره أبو بكر
فصل :
وإن كان عليه ألفان لرجلين فادعى كل واحد منهما أنه رهنه بدينه فأنكرهما حلف لهما وإن صدق أحدهما أو قال : هو السابق سلمه إليه وحلف للآخر وإن نكل والعبد في يد أحدهما فعليه للآخر قيمته تجعل رهنا لأنه فوته على الثاني بإقراره للأول أو بتسليمه إليه وقال القاضي : هل يرجح صاحب اليد أو المقر له ؟ يحتمل على وجهين فإن قال : لا أعلم المرتهن منهما أو السابق حلف على ذلك والقول قول من هو في يد منهما مع يمينه وإن كان في أيديهما أو يد غيرهما فالحكم في ذلك كالحكم فيما إذا ادعيا ملكه
فصل :
فإن ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدهما بدينه فأنكراه فالقول قولهما وإن شهد كل واحد مهما على الآخر قبلت شهادته لأنه لا يجلب بهذه الشهادة نفعا ولا يدفع بها ضررا وإن أقر أحدهما وحده لزم في نصيبه وتسمع شهادته على صاحبه لما ذكرناه
فصل :
وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط فالقول قوله لأنه أمين فأشبه المودع وإن ادعى الرد ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل قوله لذلك
والثاني : لا يقبل لأنه قبضه لنفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر وإن أعتق الراهن الجارية أو وطئها فادعى أنه بإذن المرتهن فأنكره فالقول قول المرتهن لأن الأصل معه فإن نكل قضي عليه وإن صدقه فأتت بولد فأنكر المرتهن مدة الحمل فالقول قوله لأن الأصل عدمها وإن وطئها المرتهن بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله يجهل ذلك فلا حد عليه لأن الحد يدرأ بالشبهات ولا مهر لأنه حق للسيد فسقط بإذنه والولد حر يلحق نسبه لأنه من وطء شبهة ولا تصير أم ولد لأنه لا ملك له فيها وإن لم تكن له شبهة فعليه الحد والمهر وولده رقيق

كتاب التفليس
ومن لزمه دين مؤجل لم يجز مطالبته به لأنه لايلزمه أداؤه قبل أجله ولا يجوز الحجر عليه به لأنه لا يستحق المطالبة به فلم يملك منعه من ماله بسببه فإن أراد سفرا يحل دينه قبل قدومه منه فلغريمه منعه إلا برهن أو ضمين مليء لأنه ليس له تأخير الحق عن محله وفي السفر تأخيره وإن لم يكن كذلك ففيه روايتان :
إحداهما : له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول
والثانية : ليس له منعه لأنه لا يملك المطالبة به في الحال ولا يعلم أن السفر مانع منها عند الحلول فأشبه السفر القصير وإن كان الدين حالا والغريم معسرا لم تجز مطالبته لقول الله تعالة : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولا يملك حبسه ولا ملازمته لأنه دين لا يملك المطالبة به فلم يملك به ذلك كالمؤجل فإن كان ذا صنعة ففيه روايتان :
إحداهما : يجبر على إجارة نفسه لما روي أن رجلا دخل المدينة وذكر أن وراءه مالا فداينه الناس ولم يكون وراءه مال فسماه النبي صلى الله عليه و سلم سرقا وباعه بخمسة أبعر وروى الدارقطني نحوه وفيه أربعة أبعرة والحر لا يباع فعلم أنه باع منافعه ولأن الأجارة عقد معاوضة فجاز أن يجبر عليه كبيع ماله وإجارة أم ولده
والثانية : لا يجبر لما روى أبو سعيد : أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي ( ص ) [ تصدقوا عليه ] فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ] رواه مسلم ولأنه نوع تكسب فلم يجز عليه كالتجارة
فصل
وإن كان موسرا فلغريمه مطالبته وعليه قضاؤه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ مطل الغني ظلم ] متفق عليه فإن أبى فله حبسه لقول النبي ( ص ) [ لي الواجد يحل عقوبته وعرضه ] من المسند فإن لم يقضه باع الحاكم ماله وقضى دينه لما روي أن عمر رضي الله عنه قال : إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال : سابق الحاج فادان معرضا فمن كان له عليه مال فليحضر فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه رواه مالك في الموطأ بنحوه فإن غيب ماله حسبه وعزره حتى يظهره ولا يجوز الحجر عليه مع إمكان الوفاء لعدم الحاجة إليه وإن تعذر الوفاء وخيف من تصرفه في ماله حجر عليه إذا طلبه الغرماء لئلا يدخل الضرر عليهم
فصل
فإن ادعى الإعسار من لم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدمه وإن عرف له مال أو كان الحق لزمه في مقابلة مال كثمن مبيع أو قرض لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل بقاء المال ويحبس حتى يقيم البينة فإن قال : غريمي يعلم إعساري فعلى غريمه اليمين أنه لايعلم ذلك وإن أقام البينة على تلف المال فعليه اليمين معها أنه معسر لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال وإن شهدت بإعساره فادعى غريمه أن له مالا باطنا لم يلزمه يمين لأنه أقام البينة على ما ادعى وتسمع البينة على التلف وإن لم يكن ذا خبرة باطنة لأنه أمر يعرف بالمشاهدة ولا تسمع على الإعسار إلا من أهل الخبرة بحاله لأنه من الأمور الباطنة فإن كان في يده مال فأقر به لغيره سئل المقر له فإن كذبه بيع في الدين وإن صدقه سلم إليه فإن قال الغريم : أحلفوه أنه صادق لم يستحلف لأنه لو رجع عن الإقرار لم يقبل منه وإن طلب يمين المقر له لأنه لو رجع قبل رجوعه
فصل
فإن كان ماله لا يفي بدينه فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم لما روى كعب بن مالك : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حجر على معاذ وباع ماله ] رواه سعيد بن منصور بنحوه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ولأن فيه دفعا للضرر عن الغرماء فلزم ذلك كقضائهم ويستحب الإشهاد على الحجر ليعلم الناس حاله فلا يعاملوه إلا على بصيرة ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام :
أحدها : منع تصرفه في ماله فلا يصح بيعه ولا هبته ولا وقفه ولا غير ذلك لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع تصرفه كالحجر للسفه وفي العتق روايتان :
إحدهما : لا يصح لذلك ولأن حق الغرماء تعلق بماله فمنع صحة عتقه كما لو كان مريضا
والثانية : يصح لأنه عتق من مالك رشيد صحيح أشبه عتق الراهن وإن أقر بدين أو عين في يده كالقصار والحائك يقر بثوب لم يقبل إقراه لذلك ويلزم في حقه يتبع به بعد فك الحجر عنه وإن توجهت عليه يمين فنكل عنها فهو كإقراره وإن تصرف في ذمته بشراء أو اقتراض أو ضمان أو كفالة صح لأنه أهل للتصرف والحجر إنما تعلق بماله دون ذمته ولا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ومن لم يعلم فهو مفرط ويبيعونه بعد فك الحجر عنه كلمقر له وهل للبائع والمقرض الرجوع في أعيان أموالهما إن وجداها ؟ على وجهين :
أحدهما : لهما ذلك للخبر ولأنه باعه في وقت الفسخ فلم يصقط حقه منه كما لو تزوجت المرأة معسرا بنفقتها
والثاني : لا فسخ لهما لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة أشبها من اشترى معيبا يعلم عيبه
وإن جنى المفلس جناية توجب مالا لزمه وشارك صاحبه الغرماء لأنه حق ثبت بغير رضى مستحقه فوجب قضاؤه من المال كجناية عبده وإن ثبت عليه حق بسبب قبل الفلس ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه غريم قدديم فهو كغيره
فصل
الحكم الثاني : أنه يتعلق حقوق الغرماء بعين ماله فليس لبعضهم الاختصاص بشيء منه سوى ما سنذكره ولو قضى المفلس أو الحاكم بعضهم وحده لم يصح لأنهم شركاؤه فلم يجز اختصاصه دونهم ولو جنى عليه جناية أوجبت مالا أو ورث مالآ تعلقت حقوقهم به وإن أوجبت قصاصا لم يملكوا إجباره على العفو إلى مال لأن فيه ضررا بتفويت القصاص الواجب لحكمة الإحياء ولا يجبر على قبول هبة ولا صدقة ولا قرض عرض عليه ولا الرأة على التزوج لأنه فيه ضررا بلحوق المنة أو التزوج من غير رغبة ولو باع بشرط الخيار لم يجز على ما فيه الحظ من رد أو إمضاء لأن الفلس يمنعه إحداث العقود لا إمضاؤها وليس للغرماء الخيار لأن الخيار لم يشرط لهم وإن وهب هبة بشرط الثواب لزم قبوله لأنه عوض عن مال فلزم قبوله كثمن المبيع ولا يملك إسقاط ثمن مبيع ولا أجرة ولا أخذه رديئا ولا قبض المسلم فيه صفة إلا بإذن الغرماء لما ذكرناه وإن ادعى مالا له به شاهد حلف وثبت المال وتعلقت حقوقهم به وإن نكل لم يكن للغرماء أن يحلفوا لأن دعواهم لهذا المال غير مسموعة فلا يثبت بأيمانهم كالأجانب ولأنهم لو حلفوا لحلفوا على إثبات مال لغيرهم وكذلك الحكم في غرماء الميت إذا لم يحلف الوارث لم يحلفوا لما ذكرنا
فصل
والحكم الثالث : أن للحاكم بيع ماله وقضاء دينه ويستحب أن يحضره عند البيع لأنه أعرف بثمن ماله وجيده ورديئه فيتكلم عليه وهو أطيب لقلبه ويحضر الغرماء لأنه أبعد من التهمة ربما رغب بعضهم بشراء شيء فزاد في ثمنه أو وجد في عين ماله فأخذها فإن لم يفعل جاز لأن ذلك موكول إليه ويقيم مناديا ينادي على المتاع فإن عين المفلس والغرماء مناديا ثقة أمضاه الحاكم وإن لم يكن ثقة رده لأن للحاكم نظرا فإنه ربما ظهر غريم آخر وإن اختلفوا في المنادي قدم الحاكم أوثقهما وأعرفهما فإن تطوع بالنداء ثقة لم يستأجر لأن فيه بذل الأجرة من غير حاجة وإن عدم بذلك الأجرة من مال المفلس لأن االبيع حق عليه ويقدم على الغرماء بها لأنه لو لم يعط لم يناد وكذلك أجرة من يحفظ المتاع والثمن ويحمله ويباع كل شيء في سوقه لأن أهل السوق أعرف بقيمة المتاع وأرغب وطلابه فيه أكثر فإن باعه في غيره بثمن مثله جاز لأنه ربما أداه اجتهاد إلى ذلك لمصلحة فيه ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد لأن في تأخيره هلاك ثم بالحيوان لأنه يحتاج إلى العلف ويخشى عليه التلف ثم بالأثاث لأنه يخشى تلفه وتناله اليد ثم بالعقار لأنه أبعد تلفا وتأخيره أكثر لطالبيه فيزداد ثمنه ومن وجد من الغرماء عين ماله فهو أحق بها ومن اكترى من المفلس دارا أو ظهرا بعينه قبل الحجر عليه فهو أحق به لأنه استحق عينه قبل إفلاسه فأشبه ما لو اشترى منه عبدا وإن اكترى منه ظهرا في الذمة فهو أسوة الغرماء لأن دينه في الذمة أشبه سائر الغرماء وإن كان في المتاع رهن أو جان قدم الراهن والمجني عليه بثمنه لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة بخلاف سائر الغرماء وحق المجني عليه يقدم على حق المرتهن فعلى غيره أولى وإن فضل منه فضل رده على التركة وإن لم يف بحقهما فلا شيء للمجني عليه لأنه لا حق في غير الجاني ويضرب المرتهن مع الغرماء بباقي دينه لأن حقه متعلق بالذمة مع تعلقه بالعين وإن بيع له متاع فهلك ثمنه أو استحق المبيع رجع المشتري بثمنه وهل يقدم على الغرماء ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يقدم لأن في تقديمه مصلحة فإنه لو لم يقدم تجنب الناس شراء ماله خوفا من الاستحقاق فيقل ثمنه فقدم به كأجرة المنادي
والثاني : لا يقدم لأنه حق لزمه بغير رضى صاحبه أشبه أرش جنايته ثم يقسم ما اجتمع من ماله بين الغرماء على قدر ديونهم فإن ظهر غريم بعد القسمة نقضت وشاركهم لأنه غريم لو كان حاضرا لشاركهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كما لو ظهر للميت غريم بعد قسم ماله وإن أكرى داره عاما وقبض أجرتها فقسمت ثم انهدمت الدار رجع المكتري على المفلس بأجرة ما بقي وشاركهم فيما اقتسموه لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء كما لو انهدمت قبل القسمة
فصل
الحكم الرابع : أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق به لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به ] متفق عليه وله الخيار بين أخذه أو تركه وله أسوة الغرماء سواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الإعسار ثبت للفسخ فلا يوجبه كالعيب ولا يفتقر إلى حاكم للخبر ولأنه فسخ ثبت بنص السنة فلم يفتقر إلى حاكم كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد وفيه وجهان :
أحدهما : أن الخيار على التراخي لأنه رجوع إلى عوض كان على التراخي كالرجوع في الهبة
والثاني : هو على الفور اختاره القاضي لأن في تأخيره إضرارا بالغرماء لتأخير حقوقهم ولأنه خيار يثبت في المبيع لنقص في العوض أشبه الرد بالعيب فإن حكم حاكم بسقوط الخيار فقال أحمد رضي الله عنه : ينقض حكمه لأنه يخالف صريح السنة ويحتمل أن لا ينقض لأنه مختلف فيه ولو بذل الغرماء لصاحب السلعة ثمنها ليتركها لم يلزمه قبول للخبر ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر المستحق على قبوله كما لو أعسر بنفقة زوجته فبذلها غيره وسواء ملكها المفلس ببيع أو قرض لعموم الخبر ولو أصدق امرأة مالا وأفلست قبل دخوله بها ثم ارتدت أو طلقها ووجد عين ماله فهو أحق بها ولو استأجر شيئا فأفلس قبل مضي شيء من المدة فللمؤجر الرجوع فيه لأنه وجد عين ماله وإن كان بعد مضي المدة فهو غريم بالأجرة وإن كان بعد مضي شيء منها فهو غريم لأن المدة كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه وقال القاضي : له الفسخ فإن كان للمفلس زرع فعليه تبقيته بأجرة مثله
فصل
ولا يملك الرجوع إلا بشروط خمسة :
أحدها : أن يجدها سالمة فإن تلف بعضها أو باعه المفلس أو وهبه أو وقفه فله أسوة الغرماء لقوله عليه السلام : [ من أدرك متاعه فهو أحق به ] والذي تلف بعضه لم توجد عينه فن كان المبيع عبدين أو ثوبين فتلف أحدهما أو بعضه ففي السالم منهما روايتان :
إحداهما : له الرجوع فيه بقسطه لأنه وجده بعينه
والثانية : لا يرجع لأنه لم يجد المبيع بعينه أشبه العين الواحدة وإن كان المبيع شجرة مثمرة فتلفت ثمرتها فله أسوة الغرماء لأنهما كالعين الواحدة إلا أن تكون الثمرة مؤبرة حين البيع فاشترطها المبتاع فهما كالعينين لأن الثمرة لا تتبع الأصل فهي كالولد المنفصل وإن نقص المبيع صفة مثل أن هزل أو نسي صناعة أو كبر أو كان ثوبا فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين المال فيتخير بين أخذه ناقصا أو يكون أسوة الغرماء بكل الثمن وإن فقئت عينه فهو كتلف بعضه وإن شج أو جرح أو اقتضت البكر فكذلك في قول أبي بكر لأنه نقص جزء ينقص قيمته فأشبه ما لو فقئت عينه وقال القاضي : قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة فهو كالهزال ثم إن كان لا أرش له لكونه حصل بفعل الله تعالى أو فعل المفلس فلا شيء للبائع مع الرجوع وإن كان له أرش فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من ثمنه فينظر ما نقص من قيمته فيرجع بقسطه من الثمن لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن والأرش للمفلس على الجاني
فصل
فإن كان المبيع زيتا فخلطه بزيت آخر أو لت به سويقا أو صبغا فصبغ به ثوبا أو مسامير فسمر بها بابا أو حجرا فبنى به أو لوحا فجعله في سفينة أو سقف أو نحو ذلك لم يكن له الرجوع لأنه لا يقدر على أخذ عين ماله في بعض الصور ولا بقدر في بعضها إلا بإتلاف مال المفلس ولا يزال الضرر بالضرر وإن كانت حنطة فطحها أو زرعها أو دقيقا فخبزه أو زيتا فعمله صابونا أو عزلا فنسجه أو ثوبا فجعله قميصا أو حبا فصار زرعا أو بيضا فصار فرخا أو نوى فنبت شجرا أو نحوه مما يزيل اسمه فلا رجوع له لأنه لم يجد متاعه بعينه لتعذر اسمه وصفته
فصل
وإن اشترى ثوبا فصبغه أو قصره و سويقا فلته بزيت فلصاحبهما الرجوع فيهما لأن عين مالهما قائمة مشاهدة لم يتغير اسمها ولا صفتها ويصير المفلس شريكهما بما زاد عن قيمتهما لأن ما حصل من زيادة القيمة بالصبغ ويغره فهي للمفلس لأنها حصلت فعله في ملكه وإن نقص الثوب لم يمنع الرجوع لأنه نقص صفة فهو كالهزال وإن لم يزد بالقصارة سقط حكمها لعدم أثرها في الزيادة وإن اشترى أرضا فزرعها ثم أفلس فللبائع الرجوع فيها لما ذكرنا ويكون الزرع مبقى إلى الحصاد بغير أجرة لأن العوض في مقابلة الأرض لا في مقابلة المنفعة فإذا فسخ عادت إليه الرقبة دون المنفعة المستثناة شرعا كما لو باعه أمة فزوجها ثم رجع فيها دون منفعة بضعها
فصل
الشرط الثاني : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا فإن قبض بعضه فلا رجوع له لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء ] رواه أبو داود ولأن في الرجوع بالباقي تبعيض الصفقة على المفلس فلم يجز كما لو لم يقبض شيئا
فصل
الشرط الثالث : أن لا يتعلق بها حق غير المفلس فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره لم يرجع لأنه تعلق بها حق غيره أشبه ما لو أعتقها وإن رهنها سقط الرجوع لذلك وإن تعلق بها أرض جناية سقط الرجوع لأنه يقدم على حق المرتهن فهو أولى بالمنع ويتوجه أن لا يمنع لأنه لا يمنع تصرف المشتري بخلاف الرهن فعلى هذا إن شاء رجع فيه ناقصه بعيب الجناية وإن شاء فله أسوة الغرماء فإن كان دين الرهن أو أرش الجناية بقدر بعضه منع الرجوع في الجميع لأنه معنى منع الرجوع في بعضها فمنعه في جميعها كبيع بعضها وقال القاضي : يرجع في باقيها بقسطه لأنه لا مانع فيه وإن كان المبيع شقصا مشفوعا ففيه وجهان :
أحدهما : للبائع الرجوع اختاره ابن حامد للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فزال الضرر عن المبيع لعدم شركه غير البائع
والثاني : الشفيع أحق لأن حقه آكد بدليل أنه ينزع الشقص من المشتري وممن نقله إليه المشتري بخلاف البائع وإن باعه المفلس أو وهبه ثم عاد إليه ففيه وجهان :
أحدهما : له الرجوع للخبر ولأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره أشبه إذا لم يبعه
والثاني : لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه وإن كان المبيع صيدا فوجده البائع بعد أن أحرم سقط الرجوع لأنه تملك للصيد فلم يجز مع الإحرام كشرائه
فصل
الشرط الرابع : كون المفلس حيا فإن مات فالبائع أسوة الغرماء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإن مات فصاحب المتاع أسوى الغرماء ] رواه أبو داود وفي لفظ [ أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه اقتضى من ثمنه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء ] رواه ابن ماجة ولأن الملك انتقل عن المفلس فسقط الرجوع فيه كما لو باعه
فصل
الشرط الخامس : أن لا يزيد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة فإن وجد ذلك منع الرجوع ذكره الخرقي لأنه فسخ بسبب حادث فمنعته الزيادة المتصلة كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول وعن أحمد رضي الله عنه : له الرجوع للخبر ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة كالرد بالعيب فأما الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة الظاهرة والكسب فلا يمنع الرجوع لأنه يمكن الرجوع في العين دونها والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب لأنها نماء ملكه المنفصل فكانت له كما لو ردها بعيب ورجعت إلى الزوج بالطلاق ولأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] رواه أبو داود يدل على أن النماء للمشتري لكون الضمان عليه وقال أبو بكر : هي للبائع قياسا على المتصلة والفرق ظاهر لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دن المنفصلة
فصل
فإن باعها حائلا فحملت فالحمل زيادة متصلة لأنه يتبع أمه في العقود والفسوخ ولا يمكن الرجوع فيها دونه فهو كالسمن ويحتمل أن يرجع فيها دون ولدها يتربص به حتى تضع لأنه جزء لانفصاله غاية فأشبه الثمرة وإن أفلس بعد وضعها فهو زيادة منفصلة له الرجوع في الأم دون الولد إلا أن تكون أمة فلا يجوز التفريق بينهما ويخير بين دفع قيمة الولد ليملكهما وبين بيعهما معا فيكون له من الثمن ما يخص الأم وإن باعها حاملا فلم تزد قيمتها فله الرجوع وإن زادت القيمة لكبر الحمل أو وضعه فهي زيادة متصلة وإن زاد أحدهما خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين فتلفت إحداهما وقال القاضي : له الرجوع فيهما على كل حال ومن جعل الحمل لا حكم له جعل حكمها حكم المبيعة حائلا سواء
فصل
فإن باع نخلا حائلا فأطلعت ثم أفلس المشتري قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة لأنها تتبع في البيع وقال ابن حامد : حكمها حكم المنفصل لأنه يمكن فصله وإفراده بالبيع بخلاف السمن وإن أفلس بعد تأبيرها فهي زيادة منفصلة تكون للمفلس متروكة إلى الجذاذ كما لو اشترى النخل وكذلك الحكم في سائر الشجر وفي الأرض ينبت فيها الزرع فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيته أو قطعه فلهم ذلك وإن اختلفوا وله قيمته مقطوعا قدم قول من طلب القطع لأنه أقل عذرا ولأن الطالب للقطع إما غريم يطلب حقه أو مفلس يطلب تبرئة ذمته فإن أقر المفلس للبائع بالطلع لم يقبل إقراره لأنه يسقط به حق الغرماء فلم يقبل كإقراره بغريم آخر وعلى الغرماء اليمين لأنهم لا يعلمون برجوع البائع قبل التأبير لأن اليمين تثبت في جنبهم ابتداء وإن أقر الغرماء لم يقبل لأن الملك للمفلس ويحلف المفلس ويثبت الطلع له ينفرد به دونهم لإقرارهم أنه لا حق لهم فيه وله تخصيص بعضهم به وقسمته بينهم فمن أباه قيل له : إما أن تأخذه أو تبرئه لأنه للمفلس حكما فقد قضاهم ما ثبت له فلزمهم قبوله كما لو أدى المكاتب نجومه فادعى سيده تحريمه فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم ردها إلى البائع لإقرارهم له بها وإن قبضوا ثمنها لم يلزمهم رده لأنهم إنما اعترفوا له بالعين له بالثمن وإن شهد الغرماء للبائع بالطلع وهم عدول قبلت شهادتهم لأنهم غير متهمين
فصل
وإن اشترى أرضا فغرسها أو بنى فيها ثم أفلس فللبائع الرجوع في الأرض ثم إن طلب المفلس والغرماء قلع الغراس والبناء فلهم ذلك وعليهم ضمان ما نقصها القلع وتسوية الحفر لأنه نقص حصل بفعلهم لتخليص ملكهم فأشبه المشتري مع الشفيع وإن أبوا القلع فللبائع دفع قيمته ويملكه لأنه حصل لغيره في ملكه بحق فملك ذلك كالشفيع فإن أبى ذلك سقط الرجوع لأن فيه ضررا على المشتري ولأن عين ماله مشغولة بملك غيره أشبه الحجر المبني عليه هذا قول ابن حامد
وقال القاضي : يحتمل أن له الرجوع لأن شغل ملكه بملك غيره لا يمنع الرجوع إذا كان أصلا كالثوب إذا صبغ فإذا رجع فاتفق الجميع على البيع بيع وأعطي كل واحد حقه وإن أبى بعضهم احتمل أن يجبر عليه لأنه معنى ينفصل به أحدهما عن صاحبه أشبه بيع الثوب المصبوغ واحتمل أن لا يجبر صاحب الأرض ويباع الشجر وحده لأنه ممكن بخلاف الصبغ
فصل
وإن اشترى غراسا فغرسه ثم أفلس فلم يزد فللبائع الرجوع فيه ويقلعه ويضمن النقص فإن أتى قلعه فبذل المفلس والغرماء قيمته ليملكوه فلهم ذلك كالتي قبلها وإن أرادوا قلعه فلهم ذلك ولا ضمان عليهم لأن المفلس اشتراه مقلوعا فلم يلزمهم مع رده لذلك شيء آخر ولا إبقاء في أرضهم بغير استحقاق وإن زاد سقط الرجوع في قول الخرقي وعلى رواية الميموني يحتمل ذلك أيضا لأن النماء فيه قد حصل من أرض المفلس فلم يملك البائع أخذه ويحتمل أن له الرجوع كما لو سمن العبد من طعامه وإن اشترى من رجل أرضا ومن آخر غرسا فغرسه فيها فلصاحب الأرض الرجوع وفي صاحب الغرس التفصيل الذي ذكرناه فإن رجعا معا فالحكم فيهما كما لو كان الغرس في أرض المفلس
فصل
وإن أفلس وعليه دين مؤجل لم يحل لأنه التأجيل حق له فلم يبطل بفلسه كسائر حقوقه قال القاضي : لا يحل رواية واحدة وقال أبو الخطاب : فيه رواية أخرى أنه يحل لأن الفلس معنى يوجب تعلق الدين بماله فأسقط الأجل كالموت فإن قلنا : لا يحل اختص أصحاب الديون الحالة بماله دونه لأنه لا يستحق استيفاء حقه قبل أجله وإن حل دينه قبل القسمة شاركهم لمساواته إياهم في استيفائه فأشبه من تجدد له دين بجناية المفلس عليه وإن أدرك بعض المال شاركهم فيه لذلك فإن كان المؤجل برهن خص به لأن حقه تعلق بعينه فإن وجد عين ماله فقال أحمد : يكون موقوفا إلى أن يحل فيختار الفسخ أو الترك لأن حقه تعلق بالعين فقدم على غيره كالمرتهن فإن كان ماله سلما فأدرك عين ماله رجع فيها وإن لم يدركها وحل دينه قبل القسمة ضرب بالمسلم فيه وأخذ بقسطه من جنس حقه إن كان في المال وإلا اشترى به من جنس حقه ودفع إليه ولا يجوز أن يأخذ غير ما أسلم فيه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه ابن ماجة و أبو داود
فصل
فإن مات إنسان وعليه دين مؤجل ففيه روايتان :
إحداهما : لا يحل اختارها الخرقي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ترك حقا فلورثته ] والتأجيل حق له فينتقل إلى ورثته لأنه لا يحل له ماله فلا يحل ما عليه كالجنون
والثاني : يحل لأن بقاءه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به وعلى الوارث لمنعه التصرف في التركة وعلى الغريم تأخير حقه وربما تلفت التركة وعلى كلتا الروايتين يتعلق الحق بالتركة كتعلق الأرش بالجاني ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضى الغريم أو توثيق الحق بضمين مليء أو رهن يفيء بالحق إن كان مؤجلا فإنهم قد يكونون أملياء فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق فإن تصرفوا قبل ذلك صح تصرفهم كتصرف السيد في الجاني ويلزمهم أقل الأمرين من قضاء الدين أو قيمة التركة لأنه لا يلزمهم أكثر من وفاء الدين ولا أكثر من التركة ولهذا لو كانت باقية لم يلزمهم أكثر من تسليمها وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها والتوثيق منها سقط الحق كما لو تلف الجاني وإن قضى الورثة الدين من غير التركة أو منها جاز وإن أبى الجميع باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين وإن مات المفلس وعليه دين مؤجل فوثق الورثة للمؤجل اختص أصحاب الحالة بالتركة وإن أبوا ذلك حل دينه فشاركهم لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكية
فصل
وإذا حجر على المفلس وهو ذو كسب يفيء بمؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته فلذلك في كسبه لأن ماله لا يخرج فيما لا حاجة إلى إخراجه فيه وإن لم يف كسبه بمؤنته كملناها من ماله وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه وعلى من تلزمه مؤنته من ماله بالمعروف في مدة الحجر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وفيمن يعوله من تكون نفقته دينا كالزوجة وإذا قدما نفقة نفسه على نفقة الزوجة وجب تقديمها على سائر الديون ولأن تجهيز الميت يقدم على دينه اتفاقا فنفقة الحي أولى لأن حرمته آكد من حرمة الميت ويقدم نفقة من تلزمه مؤنته من أقاربه لأنهم جروا مجراه وكذلك عتقوا عليه إذا ملكهم وكذلك نفقة زوجته لأنها آكد من نفقة أقاربه وتجب كسوتهم أيضا لأن ذلك مما لا بد منه ويكون ذلك من أدنى ما ينفق على مثلهم أو يكتسي مثلهم فإن كانت له ثياب هي أرفع من كسوة مثله بيعت واشتري لهم كسوة مثلهم ورد الفضل على الغرماء وإن مات منهم ميت كفن من ماله لأنه يجري مجرى كسوة الحي ويكفن في ثلاثة أثواب كغيره ويحتمل أن يكفن في ثوب واحد لأن الزائد فضل يستغنى عنه ولا تباع داره التي لا غناء له عن سكناها لأنه لا بد منه أشبه الكسوة فإن كانت واسعة يكفيه بعضها بيع الفاضل منها إن أمكن وإلا بيعت كلها واشتر له مسكن مثله وإن لم يكن له مسكن استؤجر له مسكن لأن ذلك مما لا بد منه ورد الفضل على الغرماء ولا باع خادمه الذي لا يستغني عن خدمته وإن كان مسكنه وخادمه وثيابه أعيان أموال الناس أفلس بها ووجدوها فلهم أخذها للخبر ولأن حقوقهم تعلقت بالعين فكانت أقوى من غيرها ويحتمل أن من لم يكن له مسكن ولا خادم فاستدان ما اشتراهما به وأفلس بذلك الدين أن يباع مسكنه وخادمه لأنهما بأموال الغرماء فتبقيتهما له إضرار بهم وفتح باب الحيلة للمفاليس في استدانة ما يشترون به ذلك فيبقى لهم
فصل
وإذا قسم ماله بين غرمائه ففيه وجهان :
أحدهما : يزول الحجر عنه لأن المعنى الذي حجر عليه من أجله حفظ المال وقد زال ذلك فيزول الحجر لزوال سببه
والثاني : لا يزول إلا بفك الحاكم له لأنه حجر ثبت بالحاكم فلا يزول إلا به كالحجر على السفيه وإذا فك الحجر عنه فلزمته ديون ثم حجر عليه ثانيا شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرون يضربون بجميع ديونهم

باب الحجر
يحجر على الإنسان لحق نفسه لثلاثة أمور صغر وجنون وسفه لقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فدل على أن لا تسلم إليهم قبل الرشد وقوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم ويتولى الأب مال الصبي والمجنون لأنها ولاية على الصغير فقدم فيها الأب كولاية النكاح ثم وصيه بعده لأنه نائبه فأشبه وكيله في الحياة ثم الحاكم لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبت للسلطان كولاية النكاح ولا تثبت لغيرهم لأن المال محل الخيانة ومن سواهم قاصر الشفقة غير مأمون على المال فلم يله كالأجنبي ومن شرط ثبوت الولاية العدالة بلا خلاف لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعا لماله فلم يجز كتفويضها إلى سفيه
فصل :
وليس لوليه التصرف في ماله بما لا حظ له فيه كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة لقول الله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ] من المسند وفي هذه إضرار فلا يملكه ولا يأكل من ماله إن كان غنيا لقوله سبحانه : { ومن كان غنيا فليستعفف } ومن كان فقيرا جاز لقول الله تعالى : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وليس له إلا أقل الأمرين من أجرته أو قدر كفايته لأنه لا يستحقه بالعمل والحاجة معا فلم يملك إلا ما وجدا فيه ثم إن كان أبا فلا شيء عليه لأن له أن يأخذ من مال ولده وإن كان غيره ففيه روايتان :
إحداهما : يضمن عوض ما أكله إذا أيسر لأنه استباحة للحاجة فلزمه عوضه كالمضطر
والثانية : لا شيء عليه لأن الله تعالى أمر بالأكل ولم يذكر عوضا ولأنه أجيز له الأكل بحق الولاية فلم يضمنه كرزق الإمام في بيت المال وإن كان خلط مال اليتيم بماله أرفق له مثل أن يكون ألين في الخبز وأمكن في الأدم خلطه وإن كان إفراده خيرا له أفرده لقول الله تعالى : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم }
فصل :
وله أن يتجر بماله لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ولي يتيما فليتجر بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ] رواه الترمذي ولأنه أحظ لليتيم لتكون نفقته في ربحه كما يفعل البالغ في ماله ولا يتجر إلا في المواضع الآمنة لئلا يغرر بماله والربح كله لليتيم لأن المضارب إنما يستحق بعقد وليس له أن يعقد مع نفسه لنفسه فإن أعطاه لمن يضارب له به جاز لأن العلاء بن عبد الرحمن روى عن أبيه عن جده : أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة ولأن ذلك يفعله الإنسان في مال نفسه طلبا للحظ وللمضارب في الربح ما وافقه الولي عليه لأن الولي نائبه فيما فيه مصلحته وهذا من مصلحته فجاز كفعله له في ماله
فصل :
ويجوز أن يشتري له العقار لأن الحظ فيه يحصل منه الفضل ويبقى الأصل فهو أحظ من التجارة وأقل غررا وله أن يبنيه لأنه في معنى الشراء قال أصحابنا : ويبنيه بالآجر والطين ليسلم الآجر عند انهدامه والصحيح أنه يبنيه بما جرت عادة أهل بلده لأنه أحظ وأقل ضررا ولا يجوز تحمل ضرر عاجل لتوهم نفع عند الهدم فالظاهر أنه لا ينهدم إلا بعد زوال ملكه عنه ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لما فيه من تفويت الحظ الحاصل به - ويجوز للحاجة قال أصحابنا : لا يجوز إلا لحاجة إلى نفقة أو قضاء دين أو غبطة لزيادة كثيرة في ثمنه كالثلث فما فوقه والمنصوص : أن للوصي بيعه إذا كان نظرا لهم من غير تقييد بهذين وقد يكون الحظ في بيعه لغير هذا لكونه في مكان لا غلة له أو له غلة يسيرة فيبيعه ويشتري بثمنه ما يكثر عليه أو يكون له عقاران يعمر أحدهما بثمن الآخر فلا وجه لتقييده بهذين
فصل :
ولا يجوز أن يودع ماله إلا لحاجة ولا يقرضه إلا لحظه مثل أن يخاف هلاكه أو نقصانه ببقائه فيقرضه ليستوفيه كاملا لا يقرضه إلا لمليء يأمن جحده أو مطله ويأخذ بالعوض رهنا استيثاقا له وإن لم يأخذ جاز في ظاهر كلامه وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله لأنه يخاطر به لكنه يقرضه أو يودعه أمينا والقرض أولى لأنه مضمون بخلاف الوديعة
فصل :
وله كتابة رقيقه وعتقه على مال للحظ فيه مثل أن يكاتبه أو يعتقه بمثلي قيمته لأنها معاوضة فتجوز للحظ فيها كالبيع ولا يجوز ذلك بمثل قيمته لأنه لا حظ فيه قال أبو بكر : يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ مثل أن يكون له جارية وابنتها تساويان مائة لأجل اجتماعهما وتساوي إحداهما مفردة مائتين فتساوي قيمة الباقية مثلي قيمتها مجتمعتين
فصل :
وينفق عليه نفقة مثله بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار لقول الله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } ويقعده في المكتب بغير إذن الحاكم ويؤدي أجرته لأن من مصالحه العامة فجرى مجرى نفقته ويشتري له الأضحية إن كان موسرا لأن فيه توسعة للنفقة عليه في يوم جرت فيه العادة بها وتطبيقا لقلبه فجرى مجرى رفيع الثياب لمن عادته ذلك
فصل :
وللأب بيع ماله بماله لأنه غير متهم عليه لكمال شفقته وليس ذلك للوصي ولا للحاكم لأنهما متهمان في طلب الحظ لأنفسهما فلم يجز ذلك لهما
فصل :
وإذا زال الحجر عنه فادعى وليه الإنفاق عليه أو تلف ماله فالقول قوله لأنه أمين عليه فقبل قوله كالمودع وإن ادعى أنه لا حظ له في بيع عقار لم يقبل إلا ببينة وإن قال الولي : أنفقت عليك عامين فقال : ما مات إلا منذ عام فالقول قول الغلام لأن الأصل حياة أبيه وقد اختلفا فيما ليس الوصي أمينا فيه فكان القول قول مدعي الأصل
فصل :
وإن بلغ الصبي وعقل المجنون ورشد وانفك الحجر عنهما من غير حاكم ولا يفك قبل ذلك لقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وقسنا عليه المجنون لأنه في معناهم والبلوغ للغلام يأخذ ثلاثة أشياء :
أحدها : إنزال المني لقول الله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم ] رواه أبو داود
والثاني : كمال خمسة عشر سنة لما روى ابن عمر قال : ( عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمسة عشر فأجازني ) متفق عليه
والثالث : إنبات الشعر الخشن حول القبل لما روى عطية القرظي قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم قريظة فشكوا في فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينظر إلى هل أنبت ؟ فنظروا فلم يجدوني أنبت فخلوا عني وألحقوني بالذرية رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة و الترمذي وقال حسن صحيح ولأنه خارج يلازمه البلوغ يستوي فيه الذكر والأنثى فكان بلوغا كالاحتلام وبلوغ الجارية بهذه الثلاث وتزيد بشيئين : الحيض لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن ولأنه خارج يلازم البلوغ غالبا أشبه المني والثاني : الحمل لأنه لا يكون إلا من المني فإذا ولدت المرأة حكمنا ببلوغها حين حكمنا بحملها فإن كان خنثى مشكل فحيضه علم على بلوغه وكونه امرأة وخروج المني من ذكره علن على بلوغه وكونه رجلا لأن الحيض من الرجل ومني الرجل من المرأة مستحيل أو نادر وقال القاضي : ليس ذلك بدليل لجواز أن يكون من خلقة زائدة لكن إن اجتمعا فقد بلغ لأنه إن كان رجلا فقد أمنى وإن كانت امرأة فقد حاضت
فصل :
ويستوي الذكر والأنثى في أنه ينفك عنه الحجر برشده وبلوغه للآية لأن المرأة أحد نوعي الآدميين فأشبهت الرجل وعنه : لا يدفع إليها مالها حتى تلد أو تتزوج ويمضي عليها حول في بيت الزوج لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه فإن لم تتزوج فقال القاضي : عندي أن يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال
فصل :
والرشد الصلاح في المال لأن ابن عباس قال في قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا } قال : إصلاحا في أموالهم ولأن الحجر عليه لحفظ ماله فيزول بصلاحه كالعدل ولأن الفسق معنى لو طرأ به الرشد لم يوجب الحجر فلم يمنع من الرشد كالمرض فإن كان فسقه يؤثر في تلف ماله كشراء الخمر ودفعها في الغناء والقمار فليس برشيد لأنه مفسد لماله
فصل :
وإنما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى } يعني : اختبروهم واختبارهم : تفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثالهم إليهم من تجارية أو نيابة ويفوض إلى المرأة ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء الكتان والاستيفاء عليهن ووقت الاختيار قبل البلوغ في ظاهر المذهب لقوله سبحانه : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } ولأن تأخيره يؤدي إلى الحجر على البالغ الرشيد حتى يختبره ولا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء فإذا تصرف بإذن وليه صح تصرفه لأنه متصرف بأمر الله تعالى فصح تصرفه كالرشيد وفيه رواية أخرى لا يختبر إلا بعد البلوغ لأنه قبله ليس بأهل للتصرف لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل فكان عقله بمنزلة المعدوم وفي تصرف الصبي المميزة بإذن وليه روايتان بناء على هذا فأما غير المأذون فلا يصح تصرفه إلا في الشيء اليسير لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفورا فأرسله
فصل :
ومن لم يؤنس من رشد لم يدفع إليه ماله ولم ينفك الحجر عنه وإن صار شيخا للآية ولأنه غير مصالح لماله فلم يدفع إليه كالمجنون وإن فك الحجر عنه فعاود السفه أعيد عله الحجر لما روى عروة بن الزبير : أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فأتى الزبير فقال : إني قد ابتعت بيعا وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي فقال الزبير : أنا شريكك في البيع فأتى علي عثمان فقال : إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه فقال الزبير : أنا شريكه فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ؟ وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فتكون إجماعا ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارن فيقتضيه إذا طرأ كالجنون ولا يحجر عليه إلا الإمام أو نائبه لأن عليا سأل عثمان الحجر على ابن جعفر ولم يفعله بنفسه ولأن معرفة التبذير تحتاج إلى نظر لأن الغبن قد يكون تبذيرا وقد يكون غير تبذير فيحتاج إلى نائب الإمام كالحجر للفلس ولأنه مختلف فيه أشبه الحجر للفلس ولا يلي عليه إلا الإمام أو نائبه لأنه حجر ثبت به فكان هو الولي كحجر المفلس
فصل :
ويستحب الإشهاد عليه والجهاد بالحجر لتجتنب معاملته فمن عامله ببيع أو قرض لم يصح ولم يثبت به الملك فإن وجد المعامل له مالا أخذه وإن أتلفه السفيه فهو من ضمان مالكه علم أو لم يعلم لأنه سلطه عليه برضاه وإن غصب مالا أو أتلفه أو ضمنه لأن صاحبه لم يرض ذلك ولأن الحجر على الصبي والمجنون لا يسقط عنهما ضمان المتلف فهذا أولى وإن أودع مالا فتلف لم يضمنه سواء فرط في الحفظ أو لم يفرط لأنه تلف بتفريط صاحبه بتسليمه إليه وإن أتلفه ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه لأن صاحبه لم يرض إتلافه أشبه المغصوب
والثاني : لا يضمنه لأن صاحبه فرط في التسليم إليه وإن أقر بمال لم يلزمه حال حجره لأنه حجر عليه لحظه فلم يقبل إقراره بالمال كالصبي والمجنون ولأن قبول إقراره يبطل معنى الحجر لأنه يداين الناس ويقر لهم قال أصحابنا : ويلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه كالمفلس وفيه نظر لأن الحجر عليه لعدم رشده فهو كالصبي ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه إلا أن يريدوا أن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى : فإن ما كان ثابتا في ذمته لا يسقط بالحجر عليه وإن أقر بحد أو قصاص لزمه لأنه محجور عليه في ماله لا في نفسه فإن عفا ولي القصاص إلى ماله ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن من ثبت له القصاص ثبتت له الخبرة كما لو ثبت ببينة
والثاني : لا يصح لئلا يواطئ من يقر له بالقصاص ليعفو عن مال يأخذه وإن أقر بنسب قبل لأنه ليس بمال وينفق على الغلام من بيت المال لأن إقرار السفيه بما يوجب المال غير مقبول وإن طلق امرأته صح لأن الحجر يحفظ المال والطلاق يوفره ولا يضيعه فإن خالع جاز لأنه إذا جاز الطلاق بغير مال فبالمال أولى ولا تدفع المرأة إليه المال فإن فعلت لم يصح القبض ولم تبرأ منه إلا بالدفع إلى وليه وإن تلف كان من ضمانها
فصل :
وإن أذن له في النكاح صح منه لأن حاجته تدعو إلى ذلك وليس بآلة للتبذير وقال القاضي : يصح من غير إذن الولي لما ذكرنا وإن أذن له في البيع ففيه وجهان :
أحدهما : يصح منه لأنه عقد معاوضة صح منه بالإذن كالنكاح
والثاني : لا يصح المقصود منه المال وهو محجور عليه فيه ولأن الحجر عليه لتبذيره فالإذن له إذن فيما لا مصلحة فيه وإن حلف انعقدت يمينه لأنه مكلف ويكفر بالصوم لأنه ممنوع من التصرف في المال فأشبه العبد وإن أحرم بالحج صح لأنه من أهل العبادات فإن كان فرضا لزمه إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب وإن كان تطوعا لا تزيد نفقته على نفقة الإقامة أو تزيد له كسب إذا أضافه إليه أمكنه الحج لزمه إتمامه وإن لم يكن كذلك ففيه وجهان :
أحدهما : على الولي تحليله لأن في إتمامه تضييعا للمال فيما لا يلزمه
والثاني : ليس له تحليله بناء على إحرام العبد بغير إذن سيده ويتحلل بالصوم كالعبد
فصل :
وإن وجب له القصاص فله استيفاؤه لأن القصد التشفي ودرك الثأر وله العفو على مال لأنه تحصيل فإن عفا إلى غير مال وقلنا : الواجب القصاص عينا سقط إلى غير شيء وإن قلنا : الواجب أحد شيئين وجبت الدية لأن ليس له إسقاط المال
فصل :
ولا ينفذ عتقه لأنه إتلاف لماله وحكي عنه : أنه يصح لأنه مكلف مالك أشبه الراهن ويصح تدبيره ووصيته لأنه محض مصلحة لتقربه به إلى الله تعالى عند غناه عن المال وإن نذر عبادة بدنه انعقد نذره لأنه لا حجر عليه في بدنه وإن نذر صدقة مال لم يصح ويكفر عن نذره بالصيام وقياس قول أصحابنا : أنه يلزمه الوفاء به عند فك حجره كالإقرار
فصل :
وهل للمرأة الرشيدة التبرع في مالها بغير إذن زوجها ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لها ذلك لقوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن ] وقبوله لصدقتهن حين تصدقن ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده نفذ تصرف فيه بغير إذن غيره كالرجل وعنه : لا تهب شيئا إلا بإذن زوجها ولا ينفذ عتقها لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ] رواه أبو داود وكلام أحمد رضي الله عنه عام في القليل والكثير وقال أصحابنا : لها التبرع في الثلث فما دون وما زاد فعلى روايتين
فصل :
وهل لها الصدقة في ماله بالشيء اليسير بغير إذنه ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لها ذلك لأن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ] وعن أسماء أنها قالت : يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما أدخل علي ؟ قال : [ ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك ] متفق عليهما
ولأن العادة السماح بذلك فجرى مجرى صريح الإذن
والثانية : لا يجوز لما روى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل : يا رسول الله ولا الطعام قال : ذلك أفضل أموالنا ] رواه سعيد و الترمذي ولأنه تبرع بمال غيرها فلم يجز كالصدقة بثيابه والله تعالى أعلم

كتاب الصلح
وهو ضربان :
أحدهما : الصلح في الأموال وذلك نوعان :
أحدهما : الصلح على الإنكار مثل أن يدعي على إنسان عينا في يده أو دينا في ذمته لمعاملة أو جناية أو إتلاف أو غصب أو تفريط في وديعة أو مضاربة ونحو ذلك فينكره ثم يصالحه بمال فإنه يصح إذا كان المنكر معتقدا بطلان الدعوى فيدفع المال افتداء ليمينه ودفعا للخصومة عن نفسه والمدعي يعتقد صحتها فيأخذه عوضا عن حقه الثابت له لأنه يصح مع الأجنبي فيصح بين الخصمين كالصلح في الإقرار ويكون بيعا في حق المدعي لأنه يأخذ المال عوضا عن حقه فيلزمه حكم إقراره حتى لو كان العوض شقصا وجب الشفعة وإن وجد به عيبا فله رده ويكون إبراء في حق المنكر لاعتقاده أن ملكه للمدعى لم يتجدد بالصلح وأنه إنما دفع المال افتداء لنفسه لا عوضا فلو كان المدعي شقصا لم تجب فيه شفعة ولو وجد به عيبا لم يملك رده كمن اشترى عبدا قد أقر بحريته فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن وما يأخذه بالصلح حرام لأنه يأكل مال أخيه بباطله ويستخرجه منه بشره وهو في الظاهر صحيح لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق فإن صالح عن المنكر أجنبي صح فإن كان بإذنه فهو وكيله وقائم مقامه وإن كان بغير إذنه فهو افتداء له وإبراء لذمته من الدين أو الدعوى وذلك جائز بغير إذنه بدليل أن أبا قتادة قضى دين الميت ولا إذن له لكن إذا كان بغير إذنه لم يرجع عليه لأن الدين لم يثبت عليه ولأنه أدى عنه ما يلزمه أداؤه فكان متبرعا وإن كان بإذنه رجع عليه لأنه وكيله
وإن صالح الأجنبي عن نفسه ليصير الحق له من غير اعتراف للمدعي بصحة الدعوى لم يصح لأنه يشتري ملك غيره وإن اعترف بصحة دعواه والمدعى دين لم يصح لأن بيع الدين لا يصح مع الإقرار فمع الإنكار أولى وإن كان عينا لا يقدر المصالح على تخليصها لم يصح لأن بيعها لا يصح مع الإقرار فمع الإنكار أولى وإن كان يقدر على استنقاذها صح لأنه اشترى منه ماله الممكن تسلمه فصح كما قلنا في بيع المغصوب ثم إن قدر على انتزاعها استقر الصلح وإن عجز فله الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فرجع في بدله فإن قال الأجنبي للمدعي : أنا وكيل المنكر في صلحك وهو معترف لك في الباطن جاحد في الظاهر فصالحه لم يصح لأن الصلح في هذه الحال لا يصح من المنكر فكذلك من وكيله وقال القاضي : يصح ومتى صدقه المنكر ملك العين ولزمه ما أدى عنه وإن أنكر حلف وبرئ وإن دفع المدعي إلى المنكر مالا ليقر له ففعل ثبت الحق وبطل الصلح لأنه يجب عليه الإقرار بالحق فلم يحل له أخذ العوض عما وجب عليه ولو صالح امرأة لتقر له بالزوجية أو بالرق لم يصح لذلك ولأنه يحرم عليها بذل نفسها لمن يطأها بعوض وإن بذلت عوضا للمدعي عن دعواه صح لأنها تدفع شره عن نفسها ويأخذ العوض عن حقه فيها كعوض الخلع وقيل : لا يصح في الزوجية لأن الزوج لا يأخذ عوضا عن الزوجية في غير الخلع ولو صالح شاهدا ليترك الشهادة عليه أو سارقا لئلا يرفعه إلى السلطان فالصلح باطل لأنه لا يحل أخذ العوض عن ترك الشهادة الواجبة وليس رفعه إلى السلطان حقا يجوز الاعتياض عنه
فصل :
النوع الثاني : الصلح مع الاعتراف وهو ثلاثة أقسام :
أحدهما : أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه ويستوفي باقيه فلا بأس بذلك لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه ولا من استيفائه قال أحمد رضي الله عنه : ولو شفع فيه شافع لم يأثم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر وكلم كعب ابن مالك فوضع عن غريمه الشطر ويجوز للقاضي فعل ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وإن أمكن الغريم الوفاء فامتنع حتى أبرئ من بعضه لم يجز لأنه هضم للحق وأكل مال بالباطل ولو قال الغريم : أبرأتك من بعضه بشرط أن توفيني بقيته أو على أن يوفيني أو لتوفيني باقيه لم يصح لأنه جعل إبراءه عوضا عما أعطاه فيكون معاوضا لبعض حقه ببعض ولا يصح بلفظ الصلح لأن معنى صالحني على المائة بخمسين أي بعني وذلك غير جائز لما ذكرناه ولأنه ربا ولو صالحه عن مائة مؤجلة بخمسين حالة لم يجز لذلك لأن بيع الحلول غير جائز وإن صالحه عن الحالة بأقل منها مؤجلة لم يصح لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل وما يسقطه لا مقابل له إلا أن يسقطه اختيارا منه بغير عوض ولو اعترف له بداره فصالحه على أن يسكنه فيها مدة أو يبني عليها غرفة ونحو ذلك لم يصح لأنه لا عوض له
فصل :
القسم الثاني : أن يعترف له بعين في يده فيهب له بعضها ويستوفي باقيها فيصح لما ذكرناه في الإبراء إذا فعل هذا اختيارا من غير منع الغريم ووهب له بغير شرط كما ذكرنا في الإبراء
فصل :
القسم الثالث : أن يعترف له بعين أو دين فيصالحه على غيره وذلك ثلاثة أضرب :
أحدهما : أن يعترف له بنقد فيصالحه على نقد فهذا صرف يعتبر له شروطه
الثاني : أن يعترف له بنقد فيصالحه على عرض أو بعرض فيصالحه على نقد أو عرض فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها
الثالث : أن يعترف له بنقد أو عرض فيصالحه على منفعة كسكنى دار أو خدمة فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها ولو تلفت العين التي صالح عليها بطل الصلح فإن كان قد قضى بعض المدة بطل فيما بقي بقسطه ولو اعترفت المرأة بدين فصالحته على أن تزوجه نفسها صح وكان صداقا لها ولو اعترفت له بعيب في مبيع فصالحته على نكاحها صح فإن زال العيب رجعت بأرشه لأنه الصداق ولم يسم الخرقي الصلح في الإنكار صلحا
فصل :
وإذا اعترف له بشيء لم يجز أن يصالح بأكثر منه من جنسه لأن الزائد لا مقابل له ولو اعترف بقتل خطأ فصالحه بأكثر من الدية من جنسها لم يجز وإن كان من غير جنسها جاز لأنه معاوضة ولو أتلف شيئا قيمته مائة فصالحه على مائة وعشرة لم يجز لذلك وإن صالحه على عرض جاز وإن كثر لأنه بيع ولو أجل العوض الواجب بالإتلاف لم يصر مؤجلا بتأجيله
فصل :
وصلح المكاتب والمأذون له من العبيد والصبيان من دين لهم ببعض لا يصح إلا إذا كان لهم به بينة أو أقر لهم به لأنه تبرع وليس لهم التبرع فإن كان على الإنكار صح لأن استيفاءهم للبعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه
فصل :
ويصح الصلح عن المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته عينا كان أو دينا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في رجلين اختصما إليه في مواريث درست : [ استهما وتوخيا الحق وليحلل أحدكما صاحبه ] رواه أبو دواد وسواء كان الجهل من الجانبين كالحقوق الدارسة أو ممن عليه الحق الحاجة تدعو إليه فأما ما يمكن معرفته فلا يجوز قال أحمد : إن صالحوا امرأة من ثمنها لم يصح ولو قال الوارث لبعضهم : نخرجك عن الميراث بألف أكره ذلك حتى يعرفه ويعلم ما هو ؟ إنما يصالح الرجل عن الشيء لا يعرفه ولا يدري ما هو ؟ أو يكون رجلا يعلم ماله على الآخر والآخر لا يعرفه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ولأن هذا لا حاجة إليه فلم يجز كبيع المجهول

باب الصلح فيما ليس بمال
يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد على الدية وينقص عنها لأن المال لم يتعين فإن خرج العوض حرا أو مستحقا رجع بقيمته ولو صالح عن دار فخرج العوض مستحقا رجع في الدار لأنه بيع فإذا فسد عوضه تبينا فساده والصلح في الدم إسقاط فلم يعد بعد سقوطه ورجع ببدل العوض وهو القيمة
فصل :
وإذا أراد أن يجري في أرض غيره ماء له غنى عن إجرائه فيها لم يجز إلا برضاه لأن فيه تصرفا في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز كالزرع فيها فإن صالحه على موضع القناة جاز إذا بينا موضعها وطولها وعرضها لأنه بيع لموضع من أرضه ولا حاجة إلى بيان عمقها لأن قرارها لمشتريها يعمق ما شاء وإن شرط أن أرضهما لرب الأرض كان إجارة يفتقر إلى معرفة عمقها ومدتها كإجارتها للزرع إن كان رب الأرض مستأجرا لها جاز أن يصالح على إجراء ماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تتجاوز مدة إجارته وليس له حفر ساقية لأنه إحداث شيء لم تتناوله الإجارة وكذلك إن كانت الأرض وقفا عليه وإن صالح رجلا على أن يجري على سطحه أو أرضه ماء المطر جاز إذا كان السطح الذي يجري ماؤه معلوما لأن الماء يختلف بصغره وكبره ومعرفة موضع الميزاب الذي يجري الماء إليه لأن ضرره يختلف ولا يفتقر إلى ذكر المدة لأن الحاجة تدعو إلى هذا ولأن هذا لا يستوفي به منافع السطح بخلاف الساقية ومن كانت له أرض لها ماء لا طريق له إلى في أرض جاره وفي إجرائه ضرر بجاره لم يجز إلا بإذنه لأنه لا يملك الإضرار به بالتصرف في ملكه بغير إذنه وإن لم يكن فيه ضرر ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز لما تقدم
والثانية : يجوز لما روي أن الضحاك بن الخليفة ساق خليجا من العريض فأراد أن يمر به على محمد بن مسلمة فمنعه فقال له عمر : لم تمنع جارك ما ينفعه ولا يضرك تشربه أولا و آخرا ؟ فقال له محمد : لا والله فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر رضي الله عنه أن يمر به ففعل رواه سعيد بن منصور ولأنه نفع لا ضرر فيه فأشبه الاستظلال بحائطه
فصل :
ولا يجوز أن يشرع إلى الطريق النافذ جناحا وهو الروشن على أطراف خشب مدفونة في الحائط ولا ساباطا وهو المستولي على هواء الطريق على حائطين لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كالبناء في أرض الطريق ولا ميزابا ولا يبني فيها دكة لذلك ولأنه يضر بالمارة أشبه بناء بيت ولا يباح ذلك بإذن الإمام لأنه ليس له الإذن فيما يضر المسلمين و سواء أضر في الحال أو لم يضر لأن هذا يراد للدوام وقد يحدث الضرر فيه وقال ابن عقيل : يجوز أن يأذن الإمام فيما لا ضرر فيه لأنه نائب عن المسلمين فجرى مجرى إذنه في الجلوس
فصل :
ولا يجوز أن يفعل هذا في ملك إنسان ولا درب غير نافذ إلا بإذن أهله لأنه حقهم فلم يجز التصرف فيه بذلك بغير إذنهم فإن صالحه المالك أو أهل الدرب بشيء معلوم جاز لأنه يجوز بإذنهم بغير عوض فجاز بعوض كما في القرار وقال القاضي : لا يصح الصلح عن الجناح والساباط لأنه بيع للهواء دون القرار
فصل :
وإذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره فطالبه بإزالتها لزمه ذلك لأن هواء ملكه ملكه فإن لم يزله فلمالك الأرض إزالتها بالقطع وغيره كما لو دخلت بهيمة جاره داره ملك إخراجها فإن صالحه على تركها بعوض جاز عند ابن حامد و ابن عقيل لأن الجهالة هاهنا لا تمنع التسليم فلم تمنع الصحة كالصلح عن المواريث الدارسة ولأن هذا مما يحتاج إليه ويسامح فيه فجرى سمن المستأجر للركوب وهزاله قال القاضي : يصح في اليابس المعتمد على حائط ولا يصح في الرطب لأنه يزيد ويتغير ولا في غير المعتمد لأنه لا قرار له وقال أبو الخطاب : لا يصح في الجميع لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص ويذهب وإن صالحه بجزء من ثمرتها معلوم ففيه وجهان :
أحدهما : المنع للجهالة فيه وفي عوضه
والثاني : يجوز لأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة وفي القطع إتلاف وإضرار فدعت الحاجة إلى الصلح بجزء من الثمرة لأنه أسهل ولو امتدت عروق شجرة حتى أثرت في بناء غيره أو بئره فعليه إزالته لأن قرار ملك الإنسان ملكه فهو كهوائه ولو مال حائطه إلى جاره أو طريق لزمه إزالته
فصل :
ليس للإنسان أن يفتح في حائط جاره طاقا ولا يغرز فيه وتدا ولا مسمارا ولا يحدث عليه حائطا ولا سترة بغير إذنه لأنه يصرف في ملك غيره بما يضر به فلم يجز كهدمه وليس له وضع خشبة عليه إن كان يضر بالحائط أو يضعف عن حمله لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرار ولا ضرار ] وإن كان لا يضر وبه غنى عنه لم يجز عند أكثر أصحابنا لأنه تصرف في ملك غيره بما يستغني عنه فلم يجز كفتح الطاق وغرز المسمار وأجازه ابن عقيل لخبر أبي هريرة ولأن ما أبيح لا تعتبر له حقيقة الحاجة كانتزاع الشقص المشفوع والفسخ بالعيب وإن احتاج إليه بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به جاز لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره ] متفق عليه ولأنه انتفاع لا ضرر فيه دعت الحاجة إليه فوجب بذله كفضل الماء لبهائم غيره وذكر القاضي و أبو الخطاب : أنه لا يجوز إلا لمن ليس له إلا حائط واحد ولجاره ثلاثة وقد يتعذر التسقيف على الحائطين غير المتقابلين فالتفريق تحكم فأما وضع الخشب في حائط المسجد مع الشرطين ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز لأن تجويزه في ملك الآدمي المبني حقه على الضيق تنبيه على جوازه في حق الله المبني على المسامحة والسهولة
والثانية : المنع اختارها أبو بكر لأن الأصل المنع خولف في الآدمي المعين فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل ويتخرج من هذه الرواية أن يمنع من وضعه في ملك الجار إلا بإذنه لما ذكرنا للرواية الأولى فإن صالحه المالك على وضع خشبه بعوض في الموضع الذي يجوز له وضعه لم يجز لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله وإن كان في غيره جاز سواء كانت إجارة في مدة معلومة أو على التأبيد بشرط كون الخشب معلوما برؤية أو صفة والبناء معلوم والآلة معلومة ومتى زال الخشب لسقوط الحائط أو غيره فله إعادته لأنه استحق بقاءه بعوض ولو كان له رسم طرح خشب فصالحه المالك بعوض على أن لا يعيده عليه أو ليزيله عنه جاز لأنه لما جاز أن يصالح على وضعه جاز على نزعه
فصل :
فإن كان له دار بابها في زقاق غير نافذ وظهرها إلى الشارع فله فتح باب إلى الشارع لأن له حقا في الاستطراق فيه وإن كان بابها إلى الشارع لم يكن له فتح باب إلى الزقاق للاستطراق لأنه لا يجوز له أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في مكان مملوك لأهله لاحق له فيه ويحتمل الجواز لما نذكره في الفصل الذي يليه وله أن يفتح مكانا للضوء والنظر لا يصلح للاستطراق لأن له رفع جميع حائطه فرفع بعضه أولى وإن فتحه بابا يصلح للاستطراق وقال : لا أجعله طريقا بل أغلقه وأسمره ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لما ذكرنا
والثاني : لا يجوز لأن الباب دليل على الاستطراق فيجعل لنفسه حقا وإن كان له داران باب إحداهما أو بابهما في زقاقين غير نافذين بينهما حائط فأنفذ إحداهما إلى الأخرى جاز في أحد الوجهين لأن رفع الحائط من بينهما وجعلهما دارا واحدة فرفع بعضه أولى
والثاني : لا يجوز لأنه يجعل الزقاقين ويجعل الاستطراق في كل واحد منهما من دار لاحق لها فيه وكل موضع لا يجوز إذا صالح أهل الدرب بعوض أو أذنوا له بغير عوض جاز لأن المنع لحقهم فجاز لهم أخذ العوض عنه كسائر حقوقهم
فصل :
فإن كان بابه في زقاق غير نافذ فأراد تقديمه نحو أوله جاز لأنه يترك بعض حقه وإن قدمه نحو آخره لم يجز لأنه يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له ويحتمل الجواز لأن له رفع حائطه كله فيملك رفع بعضه ولأن ما يلي حائطه فيئا له فملك فتح الباب فيه كحالة ابتداء البناء فإن له في ابتداء البناء جعل بابه حيث شاء فتركه له لا يسقط حقه منه ولو تنازع صاحبا البابين في الدرب ففيه وجهان :
أحدهما : يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الأول لهما لأن يدهما عليه واستطراقهما فيه وسائر الدرب للآخر لأن اليد له لاستطراقة وحده
والثاني : هو بينهما لأن لهما جميعا يدا وتصرفا فعلى الوجه الأول لصاحب الباب الصدراني جعل آخر الدرب دهليزا يختص به عن سائر أهل الدرب لأنه ملكه خاصة وعلى الثاني لا يجوز لأنه مشترك بين الجميع
فصل :
إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم فدعا أحدهما صاحبه إلى عمارته فأبى أجبر لأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما فأجبر عليه كإطعام العبد المشترك ولأن في تركه ضررا فأجبر عليه كالقسمة فإن لم يفعل باع الحاكم ماله وأنفق عليه فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق وإن أنفق الشريك بإذنه أو إذن الحاكم رجع عليه بالنفقة والحائط بينهما كما كان قبل انهدامه وعنه : لا يجبر لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفد به فلم يجب مع الاشتراك كزرع الأرض وإن أراد شريكه بناءه لم يمنع لأنه يعيد رسما في مشترك فلم يمنع كوضع الخشب الذي له رسم فإن بناه بآلته عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه لأنه عاد بعينه وليس للباني فيه إلا أثر تأليفه وإن بناه بآلة من عنده فهو للباني ليس لشريكه الانتفاع به وللباني نقضه إن شاء لأنه ملكه خاصة ولو بذل له شريكه نصف قيمته لئلا ينقضه لم يجبر على قبولها لأنه لما لم يجبر على إنشائه لم يجبر على إبقائه وعلى الرواية الأولى يجبر على تركه لأنه يجبر على إنشائه فيجبر على إبقائه فإن كان للشريك على الحائط رسم انتفاع قلنا للباني : إما أن تأخذ منه نصف القيمة وتمكنه من إعادة رسمه وأما أن تأخذ بناءك ليبني معك لأن القرار مشترك بينهما فلم يجز أن يسقط حق شريكه
فصل :
وإن كان السفل لأحدهما والعلو للآخر فانهدم السقف الذي بينهما فالحكم فيه كالحائط المشترك سواء لأنه ينفعهما فهو كالحائط بينهما وأيهما هدم الحائط أو السقف فعليه إعادته إلا أن يخاف سقوطه ويجب هدمه فيصر كالمنهدم بنفسه وإن انهدمت حيطان صاحب السفل لم يملك صاحب إجبار صاحب العلو على مباناته لأنه ملكه خاصة وعنه : يجبر لأنهما ينتفعان به فأشبه الحائط المشترك وهل لصاحب العلو إجبار صاحب على بنائه ؟ على روايتين وليس لصاحب السفل منع صاحب العلو من بنائه إن أراده فإن بناه بآلته فهو على ما كان لا يملك أحدهما نقضه و إن بناه بغير آلته قال أحمد رضي الله عنه : لا ينتفع به صاحب السفل حتى يؤدي القيمة فيحتمل أن ليس له السكنى لأن فائدة الحيطان أكثر للسكنى ويحتمل أن ليس له طرح الخشب ونصب الوتد ونحوه دون السكنى لأن ذلك هو الانتفاع بالحائط مباشرة ولبانيه نقضه لأن ملكه ولا يجبر على إبقائه بالقيمة لأنه لا يجبر على ابتدائه
فصل :
فأن كان بينهما دولاب أو ناعورة يحتاج إلى عمارة فذلك كالحائط المنهدم سواء وإن كان بينهما قناة أو عين ففي إجبار الممتنع من عمارتهما روايتان فأن بناها أحدهما لم يملك منع صاحبه من نصيبه لأنه ليس له فيها إلا أثر الفعل
فصل :
ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره نحو أن يبنيه حماما بين الدور أو مخبزا بين العطارين أو يجعله دار قصارة تهز الحيطان أو يحفر بئرا تجتذب ماء بئر جاره لقول النبي ( ص ) : [ لا ضرر ولا ضرار ] رواه ابن ماجة و الدارقطني بنحوه ولأنه تصرف يضر بجيرانه فمنع منه كالدق الذي يهز الحيطان
وليس له سقي أرضه بما يهدم حيطانه وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره فعلى الأعلى بناء سترة بين ملكيهما ليدفع عنه ضرر نظره إذا صعد سطحه

باب الحوالة
وهو نقل الدين من ذمة المحيل إلى المحال عليه وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعا بدليل جوازها في الدين بالدين وجواز التفرق قبل القبض واختصاصها بالجنس الواحد واسم خاص فلا يدخلها خيار لأنها ليست بيعا ولا في معناه لكونها لم تبن على المغابنة ولأصل فيها قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ مطل الغني ظلمه وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ] متفق عليه ولا تصح إلا بشروط أربعة :
أحدها : أن يحيل على دين مستقر لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقا ولا يثبت ذلك فيما هو بغرض السقوط ولا يعتبر استقرار المحال به لجواز أداء غير المستقر فلا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه لأنه لا تجوز المعارضة عنه به ولا عنه ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها صح وإن أحالت المرأة به عليه لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحال المشتري البالغ بثمن المبيع في مدة الخيار صح وإن أحال البائع به عليه لم يصح لذلك وإن أحال الكاتب سيده بنجم فدخل عليه صح وإن أحال سيده به عليه لم يصح لذلك وإن أحيل على المكاتب بدين غير مال الكتابة صح لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فهو توكيل في الاقتراض وإن أحال على من له عليه دين فهو كتوكيل في الاستيفاء وإن أحال من عليه دين على من لا عليه دين فهو ملتمس إيفاء دينه وليس شيء من ذلك حوالة إذ الحوالة تحول الحق وانتقاله ولا حق هاهنا يتحول وإنما جاز التوكيل بلفظ الحوالة لاشتراكهما في معنى وهو تحول المطالبة من الموكل إلى الوكيل كتحولها من المحيل إلى المحتال
فصل :
الشرط الثاني : تماثل الحقين لأنها تحويل الحق فيعتبر تحويل على صفته ويعتبر التماثل في ثلاثة أشياء الجنس فلو أحال من أحد النقدين بالآخر لم يصح والصفة فلو أحال عن المصرية بأميرية أو عن المكسرة بصحاح لم يصح والحلول والتأجيل فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما مخالفا لأجل الآخر لم يصح وإن صحت الحوالة فتراضيا على خير مما أحيل به أو دونه أو تعجيله تأخيره أو الاعتياض عنه جاز لأنه دين ثابت فجاز فيه ذلك كغير المحال به
فصل :
الشرط الثالث : أن يكون بمال معلوم على مال معلوم لأنه فيهما التسليم والتماثل والجهالة تمنعها ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة وإنما تجب قيمته بالإتلاف ويصح في كل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان وفيما يصح السلم فيه غير ذلك كالمذروع والمعدود وجهان : أحدهما : لا تصح الحوالة به لأن المثل لا يتحرر فيه ولهذا لا يضمن بمثله
والثاني : يصح لأنه يثبت في الذمة ويحتمل أن يبنى الحكم فيه على القرض إن قلنا يقضى في هذا بمثله صحت الحوالة به لأنه يثبت في الذمة بغير السلم وإلا فلا لأنه لا يثبت في الذمة إلا بالسلم ولا تصح الحوالة في السلم وإن كان عليه إبل من قرض وله مثل ذلك على آخر صحت الحوالة بها لأنه إن ثبت في الذمة مثلها صحت الحوالة وإن ثبت قيمتها فالحوالة بها صحيحة وإن كان له إبل من دية فأحال بها على من له عليه مثلها من دية أخرى صح ويلزمه إعطاؤه أدنى ما يتناوله الاسم وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أ نه لا يصح وإن كان عليه إبل من الدية وله ممثلها قرضا فأحال بها ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لأن الخيرة في التسليم إلى المحيل وقد رضي بتسليم ماله في ذمة المقترض
والثاني : لا يصح لأن الواجب القرض في إحدى الروايتين القيمة فقد اختلف الجنس وإن أحال المقرض من له الدية بها لم يصح وجها واحدا لأننا إن قلنا الواجب القيمة فالجنس مختلف إن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك
فصل :
الشرط الرابع : أن يحيل برضاه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها ولا يعتبر رضى المحال عليه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الدفع إليه كما لو وكله في الاستيفاء منه وأما المحتال فإن كان المحال عليه مليئا وهو الموسر غير المماطل لم يعتبر رضاه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ] ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء فلم يكن للمحتال الامتناع وإن لم يكن مليئا لم يلزمه أن يحتال للحديث ولأن عليه ضررا في قبولها فلم يلزمه كما لو بذل له دون حقه في الصفة فإن رضي بها مع ذلك صحت كما لو رضي بدون حقه
فصل :
إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين لأنه قد تحول من ذمته فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه لموت أو فلس حادث أو مطل لم يرجع على المحيل كما لو أبرأه وإن كان مفلسا حين الحوالة ولم يرض المحتال بالحوالة فحقه باق على المحيل لأنه لا يلزمه الاحتيال على مفلس وإن رضي مع العلم بحاله لم يرجع لأن الذمة برئت من الحق فلم يعد إلى الشغل كما لو كان مليئا وإن رضي مع الجهل بحاله ففيه روايتان :
إحداهما : لا يرجع لذلك
والثانية : يرجع لأن الفلس عيب في المحال عليه فكان له الرجوع كما لو اشترى معيبا ثم علم عبيه وإن شرط ملاءة المحال عليه فله شرطه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون على شروطهم ] رواه أبو داود والمسلمون ولأنه شرط شرطا مقصودا فإذا بان خلافه ملك الرد كما لو شرطه في المبيع
فصل :
إذا اشترى عبدا فأحال البائع بثمنه أو أحال البائع عليه بثمنه فبان حرا أو مستحقا فالحوالة باطلة لأن البيع باطل ولا دين على المشتري يحيل به ولا يحال به عليه فإن اتفق المحيل والمحال عليه على ذلك وكذبهما المحتال لم يسمع قولهما كما لو باعا عبدا ثم أقرا بحريته ولا تسمع لهما بينة لأنهما أكذباها بدخولهما في البيع وإن أقامها العبد سمعت وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال في حرية العبد وادعى أن الحوالة بدين أخر فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة فكان صدقه أظهر فإن أقاما بنية بذلك سمعت لأنهما لم يكذباها
فصل :
وإن اشترى عبدا وأحال البائع بثمنه ثم وجده معيبا فرده قبل قبض المحتال من المحال عليه بطلت الحوالة لأنها بالثمن وقد سقط بالفسخ ذكره القاضي ويحتمل أن لا يبطل لأن المشترى نقل حقه إلى ما في ذمة المحال عليه فلم يبطل بالفسخ كما لو أعطاه عن الثمن ثوبا ثم فسخ العقد لم يرجع في الثوب وإن كان الرد بعد قبض المحتال لم تبطل لأنه ذمة المحال عليه برئت بالقبض منه ويرجع المشتري على البائع وإن اشترى عبدا فأحال البائع عليه أجنبيا بالثمن فرده المشتري بعيب لم تبطل الحوالة لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من البائع فصار كأنه قبض منه وتعلق به هاهنا حق غير المتعاقدين هو المحتال بخلاف التي قبلها ويرجع المشتري على البائع بالثمن
فصل :
وإذا أمر رجلا بقبض دين له من غريمه ثم اختلفا فقال أحدهما : كانت وكالة بلفظها وقال الآخر : كانت حوالة بلفظها فالقول قول مدعي الوكالة لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله وإن اتفقا على أنه قال : أحلتك بألف وقال أحدهما : كنت حوالة حقيقية وقال الآخر : كانت وكالة بلفظ الحوالة ففيه ووجهان :
أحدهما : القول قول مدعي الوكالة لذلك
والثاني : القول قول مدعي الحوالة لأن الظاهر معه لموافقته الحقيقة ودعوى الآخر المجاز وإن قال : أحلتك بدينك فهي حوالة بكل حال
فصل :
وإذا قال المدين لغريمه : قد أحلت بدينك فلانا فأنكر فالقول قوله مع يمينه فإن أقام المدين بينة بذلك سمعت ليسقط عنه حق المحيل فإن كانت بحالها فادعى أجنبي على المدين أن رب الدين أحاله به فأنكره فأقام الأجنبي بينة ثبت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم دفع الدين إليه فإن لم تكن له بينة فاعترف المدين له بصحة دعواه ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه الدفع إليه لاعترافه له بوجوب حقه عليه وانتقال دينه إليه فأشبه ما لو قامت به بينة
والثاني : لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الاحتياط في تخليص نفسه كما لو ادعى الوكالة فإن دفعه إليه ثم أنكر المحيل الحوالة وحلف ورجع على المحال عليه فأخذ منه لم يرجع المحال عليه على المحتال لأنه معترف له أنه استوفى حقه وإنما المحيل ظلمه وإن أنكر المدين الحوالة انبنى على الوجهين إن قلنا : يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين على الإنكار وتكون على العلم لأنها على نفي فعل الغير وإن قلنا : لا يلزمه الدفع مع الإقرار لم تلزمه اليمين مع الإنكار لعدم فائدتها وليس للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءة ذمته ويسأل المحيل فإن صدق المحتال ثبتت الحوالة لأن رضى المحال عليه غير معتبر وإن كذبه حلف له وسقطت الحوالة وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه واستوفى منه ثم أنكر المحيل الحوالة فله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالألف مدع أن المحتال ظلمه
فصل :
فإن كان عليه دين فادعى رجل أنه وكيل ربه في قبضه فصدقه لم يلزمه دفعه إليه لما ذكرنا في الحوالة وإن أنكر لم تلزمه اليمين لأنه لا يلزمه الدفع مع الإقرار فلم تلزمه اليمين مع الإنكار فإن دفعه إليه فأنكر رب الدين الوكالة حلف ورجع على الدافع ثم رجع الدافع على الوكيل إن لم يكن اعترف بصدقه لأنه لم يثبت أنه وكيل وإن كان اعترف له لم يرجع عليه لأنه اعترف بصحة دعواه وأن الموكل ظلمه فلم يرجع على غير ظلمه وإن كان المدفوع وديعة فوجده ربها أخذها وإن تلفت في يد الوكيل تلزمه مطالبة من شاء منهما فإن طالب الوكيل لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وإن طالب المودع وكان قد اعترف بالوكالة لم يرجع على أحد لما ذكرناه في الدين وإن لم يكن اعترف للوكيل رجع عليه
فصل :
فإن كان عند رجل دين أو وديعة فجاء رجل فادعى أنه وارث صاحبهما وقد مات ولا وارث له سواه فصدقه لزمه الدفع إليه لأنه لا يخشى تبعة وإن كذبه فعليه اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنه لزمه الدفع مع الإقرار فلزمته اليمين مع الإنكار
فصل :
فإن كان لرجل ألف على اثنين كل واحد منهما ضامن لصاحبه فأحاله أحدهما بها برئا منها لأن الحوالة كالتقبيض وإن أحال صاحب الألف به على أحدهما صحت الحوالة لأنها مستقرة في ذمة كل واحد منهما وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي من كل واحد منهما نصفها صحت لأن ذلك للمحيل فملك الحوالة به وإن أحل عليهما ليستوفي من أيهما شاء صحت أيضا لأنه لا فضل في نوع ولا عدد ولا أجل وإنما هو زيادة استيثاق فأشبه حوالة المعسر على المليء ولهذا لو أحالاه على واحد صح

كتاب الضمان
وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دينه فإذا قال لرجل : أنا ضامن مالك على فلان أو أنا به كفيل أو قبيل أو حميل أو هو علي صار ضامنا له وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين ولصاحب الدين مطالبة من شاء منهما لقول الله تعالى { وأنا به زعيم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الزعيم غارم ] حديث حسن رواه أبو داود و الترمذي وروى سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي برجل ليصلي عليه فقال : [ هل عليه دين ؟ ] قالوا : نعم ديناران قال : هل ترك لهما وفاء فقالوا : لا فتأخر فقيل : لم لا تصلي عليه ؟ فقال : ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه فقام أبو قتادة : هما علي يا رسول الله فصلى عليه النبي رواه البخاري ولا يبرأ المضمون عنه بمجرد الضمان في الحياة رواية واحدة وفي الميت روايتان :
إحداهما : يبرأ لأن النبي صلى الله عليه و سلم على الميت حين ضمنه أبو قتادة
والثانية : لا يبرأ وهي أصح لما روى جابر أن النبي ( ص ) سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما فقال : قد قضيتهما فقال : [ الآن بردت جلدته ] رواه أحمد رضي الله عنه ولأنه وثيقة بدين فلم يسقطه كالرهن وكحال الحياة ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء برئ الضامن لأنه تبع فزال بزوال أصله كالرهن وإن أبرأ الضامن لم بيرأ المضمون عنه لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء فلم يسقط الدين كالرهن
فصل :
ولا يصح إلا من جائر التصرف فأما المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه لأنه تبرع بالتزام مال فلم يصح منهم كنذر الصدقة وخرج بعض أصحابنا ضمان الصبي بإذن وليه على الروايتين في صحة بيعه وقال القاضي : يصح ضمان السفيه ويتبع به بعد فك حجره وهذا بعيد لأن الضمان مجرد ضرر وتضييع مال فلم يصح منهما كالعتق ولا يصح ضمان العبد والمكاتب بغير إذن سيدهما لأنه التزام مال يصح منهما بغير إذن كالنكاح ويصح بإذنه لأن المنع لحقه فزال بإذنه ويؤديه المكاتب مما في يده وهل يتعلق برقبة العبد أو بذمة سيده ؟ على وجهين
فصل :
ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره لحديث أبي قتادة ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه للخبر ولا معرفة الضامن لهما لأنه لا يعتبر رضاهما فأشبها الأجانب ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل أبا قتاده عن معرفتهما ويحتمل أن تعتبر معرفتهما ليؤدي إلى أحدهما ويرجع على الآخر بما غرم عنه ويحتمل أن تعتبر معرفة المضمون له ليؤدي إليه ولا تعتبر معرفة المضمون عنه لعدم المعاملة بينه وبينه ولا يصح إلا برضى الضامن لأنه التزام مال فلم يصح من غير رضى الملتزم كالنذر
فصل :
ويصح ضمان الدين اللازم لخبر أبي قتادة وضمان الجعل في الجعالة لقول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وضمان كل حق مالي لازم أو مآله إلى اللزوم كالثمن في مدة الخيار وبعدها والأجرة والصداق قبل الدخول وبعده وأرش الجناية نقدا أو حيوانا لأنها حقوق مالية لازمة أو مآلها إلى اللزوم فصح ضمانها كالدين والجعل ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب والعواري لأنها مضمونة على من هي في يده فأشبهت الدين ويصح ضمان عهدة المبيع عن كل واحد منهما لصاحبه وهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق أو وجد ذلك في البيع غرمه الضامن لأن ذلك لازم فإنه إنما يتعلق بالضامن حكم لعيب أو غصب ونحوهما وهذا كان موجودا حال الضمان فصح ضمانه كالدين وإن استحق الرجوع لأمر حادث كتلف المبيع قبل قبضه أو أخذه بشفعة فلا شيء على الضامن وإن ضمن البائع أو غيره للمشتري قيمة ما يحدثه من بناء أو غراس أو ما يلزمه من أجرة إن خرج المبيع مستحقا صح ويرجع على الضامن بما لزمه من ذلك لأنه إلى أمر وجودي ويصح أن يضمن الضامن ضامن ثالث لأن دينه ثابت فصح كالأول ويصير الثاني فرعا للضامن حكمه معه حكم الضامن مع الأصيل
فصل :
ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمن لصاحبها ما يلزم بالتعدي فيها صح نص عليه أحمد رضي الله عنه ولأنها تصير مضمونه على المضمون عنه ولا يصح ضمان مال الكتابة وعنه : يصح لأنه يجوز أن يضمن عنه دين آخر والمذهب الأول لأن مال الكتابة غير لازم ولا يفضي إلى اللزوم ولأنه يملك تعجيز نفسه ولأن الضمان لتوثيق الحق وما لا يلزم لا يمكن توثيقه وفي ضمان مال السلم روايتان :
إحداهما : يصح لأنه دين لازم فأشبه القرض
والثانية : لا يصح لأنه يفضي إلى استيفائه من غير المسلم إليه فأشبه الحوالة
فصل :
ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده لقوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وحمل البعير يختلف فهو غير معلوم وقد ضمنه قبل وجوبه ولأنه التزم حق من غير معاوضة فأشبه النذر وإن قال : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه صح لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح فصح كقوله : اعتق عبدك وعلي ثمنه
فصل :
ويصح ضمان الحال مؤجلا لأن الغريم يلزمه أداؤه في جميع الأزمنة فجاز للضامن التزام ذلك في بعضه كبعض الدين وإن ضمن المؤجل حالا لم يلزمه لأنه لا يلزم الأصيل فلا يلزم الضامن ويقع الضامن مؤجلا على صفته في ذمة الضامن وإن ضمن الدين المؤجل وقلنا : إن الدين يحل بالموت فمات أحداهما حل عليه الدين وبقي في ذمته الآخر إلى أجله ولا يملك ورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه قبل الأجل لأنه لم يحل
فصل :
وإذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه رجع عليه لأنه قضى دينه بإذنه فهو كوكيله وإن ضمن بإذنه رجع عليه لأنه تضمن الإذن في الأداء فأشبه ما لو أذن فيه صريحا وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه معتقدا للرجوع ففيه روايتان :
إحداهما : يرجع أيضا لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به فكان على من هو عليه كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه
والثانية : لا يرجع لأنه تبرع فلم يرجع به كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه فإن اختلفا في الإذن فالقول قول من ينكره لأن الأصل عدمه
فصل :
ويرجع الضامن بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن قضاه بأقل منه فإنما يرجع بما غرم وإن أدى أكثر منه فالزائد لا يجب أداؤه فقد تبرع به وإن دفع عن الدين عرضا رجع بأقل الأمرين عن قيمته أو قدر الدين وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع قبل الأجل لأنه تبرع بالتعجيل وإن أحال به الغريم رجع بأقل الأمرين مما أحال به أو دينه سواء قبض الغريم من المحال عليه أم لم يقبض لأن الحوالة كالتقبيض وإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى الدين رجع على الضامن ثم رجع الضامن عن المضمون عنه وإن قضاه الضامن رجع على الأصيل وحده فإن كان الأول ضمن بلا إذن والثاني ضمن بإذن رجع الثاني على الأول ولم يرجع الأول على أحد في إحدى الروايتين
فصل :
وإن ضمن بإذنه فطولب بالدين فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الأداء بأمره ولا يملك المطالبة قبل ذلك لأنه لا يملك الرجوع قبل الغرامة فلا يملك المطالبة قبل أن يطالب وإن ضمن بغير إذنه لم يملك المطالبة به لأنه لا دين له ولا هو وكيل صاحب الدين ولا لزمه الأداء بإذن الغريم فأشبه الأجانب
فصل :
وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن عوضا عما يقضيه في الثاني لم يصح لأنه جعله عوضا عما يجب عليه في الثاني فلم يصح كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقده ويكون ما قبضه مضمونا عليه لأنه قبضه على وجه البدل فأشبه المقبوض ببيع فاسد وفيه وجه أنه يصح لأن الرجوع بسببين ضمان وغرم فإذا وجد أحدهما جاز تعجيل المال كتعجيل الزكاة فإن قضى الدين استقر ملكه على قبض وإن برئ قبل القضاء وجب رد ما أخذ كما يجب رد الثمن إذا لم يتم البيع
فصل :
وإذا ادعى الضامن القضاء فأنكره المضمون له فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل معه وله مطالبة من شاء منهما فإن استوفى من الضامن لم يرجع عن المضمون عنه إلا بأحد القضاءين لأنه يدعي أن المضمون عنه ظلمه بالأخذ الثاني فلا يرجع به على غيره وفيما يرجع به وجهان :
أحدهما : بالقضاء الأول لأنه قضاء صحيح والثاني ظلم
والوجه الثاني : يرجع بالقضاء الثاني لأنه الذي أبرأ الذمة ظاهرا فأما إن استوفى من المضمون عنه فهل للضامن الرجوع عليه ؟ فإن كذبه المضمون عنه في القضاء لم يرجع لأنه لم يثبت صدقه وكان قد فرط في القضاء لم يرجع بشيء لأنه أذن له في قضاء مبرئ لم يوجد وإن لم يفرط رجع وسنذكر التفريط في الوكالة إن شاء الله فإن اعترف المضمون له بالقضاء فأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره لأن الدين حق للمضمون له فإذا أقر أنه صار للضامن ولأنه يثبت القضاء بالإقرار فملك الرجوع به كما لو ثبت ببينة وفيه وجه آخر : أن القول قول الضامن عنه لأنه منكر

باب الكفالة
تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحاكم بحق يصح ضمانه لأنه حق لازم فصحت الكفالة به كالدين ولا تصح بمن عليه حد أو قصاص لأنه تراد للاستيثاق بالحق وهذا مما يدرأ بالشبهات ولا تصح بالمكاتب لأنه لا يلزمه الحضور فلا يلزم غيره إحضاره كالأجانب وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة كالغصوب والعواري لأنه يصح ضمانها ولا تصح في الأمانات إلا بشرط التعدي فيها كضمانها سواء
فصل :
وإذا صحت الكفالة فتعذر إحضار المكفول به لزمه ما عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ الزعيم غارم ] ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب الغرم بها كالضمان فإن غاب المكفول به أمهل كفيله قدر ما يمضي إليه فيعيده لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بمكان التسليم فإن مضى زمن الإمكان ولم يفعل لزمه ما عليه أو بذل العين التي كفل بها فإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى سقطت الكفالة لأن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ كفيله كما يبرأ الضامن ببراءة المضمون عنه ويحتمل أن لا يسقط ويطالب بما عليه وإن سلم المكفول نفسه أو برئ من الحق بأداء أو إبراء برئ كفيله لأن الحق سقط عن الأصيل فبرئ الكفيل كالضمان وإن أبرأ الكفيل صح كما يصح إبراء الضامن ولا يبرأ المكفول به كالضمان وإن قال رجل : أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لأنه نقل الضمان إلى نفسه فصح كما لو أحال الضامن المضمون له على آخر
والثاني : لا يصح لأنه شرط في الكفالة أن يبرئ الكفيل وهو شرط فاسد فمنع صحة العقد
فصل :
وإذا قال : أنا كفيل بفلان أو بنفسه أو بدنه أو وجهه صحت الكفالة وإن كفل ببعض جسده فقال القاضي : لا يصح لأن ما لا يسري إذا خص به بعض الجسد لم يصح كالبيع وقال غيره : إن كفل بعضو لا تبقى الحياة بدونه كالرأس والقلب والظهر صحت لأنه لا يمكن تسليمه بدون تسليم البدن فأشبه الوجه وإن كفل بغيرها كاليد والرجل ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لأن تسليمه بدون البدن ممكن
والثاني : يصح لأنه لا يمكن تسليمه على صفته دون البدن فأشبه الوجه
فصل :
إذا علق الكفالة والضمان على شرط أو وقتهما فقال : أنا كفيل بفلان شهرا أو إن قدم الحاج أو زيد فأنا كفيل بفلان أو ضامن ما عليه فقال القاضي لا يصح لأنه إثبات حق لآدمي فلم يجز ذلك فيه كالبيع وقال أبو الخطاب و الشريف أبو جعفر : يصح لأنه ضمان أو كفالة فصح تعليقه على شرط كضمان العهدة فعلى هذا لو قال : كفلت بفلان على أني إن جئت به وإلا فأنا كفيل بفلان أو ضامن ما عليه صح فيهما عندهما ولم يصح عند القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط
فصل :
وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان دين الضامن وتجوز حالة ومؤجلة كالضمان ولا تجوز إلى أجل مجهول لأنه حق لآدمي فلم يجز إلى أجل مجهول كالبيع وتجوز الكفالة مطلقة ومقيدة بالتسليم في مكان بعينه فإن أطلق ففي أي موضع أحضره سلمه إليه على وجه لا ضرر فيه برئ إن كان عليه ضرر لم يبرأ بتسليمه وكذلك إذا سلمه قبل المحل قياسا على من سلم المسلم فيه قبل محله أو غير مكانه وإن كفل واحد لاثنين فسلمه إلى أحدهما أو أبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر لأنه حق لاثنين فلم يبرأ بأداء حق أحدهما كالضمان وإن كفل اثنان لرجل فأبرأ أحدهما لم يبرأ الآخر كما في الضمان وإن سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر لأنه برئ من غير استيفاء الحق فلم يبرأ صاحبه كما لو برئ بالإبراء ويحتمل أن يبرأ كما لو أدى أحد الضامنين الدين وإن قال الكفيل أو الضامن : برئت مما كفلت به لم يكن إقرارا بقبض الحق لأنه قد يبرأ بغير ذلك
فصل :
إذا طولب الكفيل بإحضار المكفول به لزمه أن يحضر معه لأنه وكيل في إحضاره فإن أراد إحضاره من غير طلب والكفالة بإذنه لزمه الحضور معه لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه فكان عليه تخليصه كما لو استعار عبده فرهنه وإن كفل بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه لأنه لم يشغل ذمته ولا له قبله حق
فصل :
إذا كفل إنسانا أو ضمنه ثم قال : لم يكن عليه حق فالقول قول خصمه لأن ذلك لا يكون إلا بمن عليه حق فإقراره به إقرار بالحق وهل يلزم الخصم اليمين ؟ فيه وجهان مضى توجيههما فيمن أقر بتقبيض الرهن ثم أنكره وطلب يمين المرتهن والله أعلم

كتاب الوكالة
يصح التوكيل في الشراء لقول الله تعالى : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } ولما روى عروة بن الجعد قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم دينارا أشتري له به لو شاة رواه البخاري أو أضحية ولأن الحاجة داعية إليها فإنه لا يمكن كل أحد شراء ما يحتاج إليه فدعت الضرورة إليها وتجوز في سائر عقود المعاملات قياسا على الشراء وفي تمليك المباحات كإحياء الموات والاصطياد لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز التوكيل فيه كالشراء وتجوز في عقد النكاح لأن النبي صلى الله عليه و سلم وكل عمر بن أمية الضمري فتزوج له أم حبيبة وتجوز في الطلاق والعتاق والرجعة لأنها في معنى النكاح وتجوز في إثبات الأموال والحكومة فيها حاضرا كان الموكل أو غائبا لما روي أن عليا وكل عقيلا عند أبي بكر رضي الله عنهم وقال : وما قضى عليه فعلي وما قضي له فلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال : إن للخصومة قحما يعني : مهالك وهذه قضايا في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت إجماعا و لأن الحاجة تدعو إلى ذلك بأن يكون له حق أو عليه ولا يحسن الخصومة أو لا يحب حضورها ويجوز التوكيل في الإقرار لأنه إثبات حق فأشبه البيع ويجوز في إثبات القصاص وحد القذف واستيفائهما في حضرة الموكل وغيبته لأنه حق آدمي أشبه المال وقال بعض أصحابنا : لا يجوز استيفاؤهما في غيبته وقد أومأ إليه أحمد رضي الله عنه بأنه يجوز أن يعفو الموكل فيكون ذلك شبهة ويجوز التوكيل في حقوق الله تعالى المالية لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها وفي إثبات الحدود واستيفائها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] متفق عليه ولا تجوز في العبادات البدنية لأن المقصود فعلها ببدنه فلا تحصل من فعل غيره إلا في الحج لما سبق في بابه
فصل :
ولا تجوز في الإيماء والنذور ولأنها تتعلق بعين الحالف فلا تدخلها النيابة ولا في الإيلاء واللعان والقسامة لأنها أيمان ولا في الشهادة لأن غيره لا يقوم مقامه في مشاهدته ولا في الاغتنام لأنه يتعلق بالحضور فإذا حضر النائب كان السهم له ولا في الالتقاط لأنه بأخذه يصير لملتقطه
فصل :
ولا يصح التوكيل في شيء مما لا يصح تصرفه فيه لأن من لا يملك التصرف بنفسه فبنائبه أولى فلا يصح توكيل طفل ولا مجنون ولا سفيه لذلك ولا توكيل المرأة في النكاح ولا الفاسق في تزويج ابنته ولا المسلم لذمي في شراء خمر لذلك فأما من يتصرف بالإذن كالعبد والصبي والوكيل فإن أذن لهم في التوكيل جاز وإن نهو عنه لم يجز وإن أطلق لهم الإذن فلهم التوكيل فيما لا يتولون مثله بأنفسهم أو يعجزون عنه لكثرته لأن تفويضه إليهم مع العلم بهذا إذن في التوكيل وفيما سوى ذلك روايتان :
إحداهما : لا يجوز لهم التوكيل لأنهم يتصرفون بالإذن فاختص بما أذن فيه ولم يؤذن في التوكيل
والثانية : يجوز لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم فملكوه بنائبهم كالمال الرشيد فإن قال لوكيله : اصنع ما شئت ملك التوكيل لأنه مما يشاء وولي اليتيم كالوكيل فيما ذكرناه ويملك الولي في النكاح التوكيل فيه من غير إذن المرأة لأن ولايته من غير جهتها فلم يعتبر إذنها في توكيله كالأب وخرج القاضي ولايته الإجبار على الروايتين في الوكيل والفرق بينهما ظاهر
فصل :
وفي ملك التصرف لنفسه جاز له أن يتوكل فيه ومن لا فلا فيجوز توكيل الفاسق في قبول النكاح ولا يجوز في الإيجاب لأنه يجوز أن يقبل النكاح لنفسه وقال القاضي : لا يجوز فيهما لأن من لا يجوز أن يكون وكيلا في إيجابه لا يكون لا يكون وكيلا في قبوله كالمرأة ويجوز توكيل المرأة في الطلاق لأنه يجوز توكيلها في طلاق نفسها فجاز من غيرها ولا يجوز للعبد وللمكاتب التوكيل إلا بإذن سيدهما ولا الصبي إلا بإذن وليه وإن كان مأذونا له في التجارة لأن التوكيل ليس من التجارة فلا يحصل الإذن فيه إلا بالإذن فيهما
فصل :
وتصح الوكالة بكل لفظ دل على الإذن وبكل قول أو فعل دل على القبول مثل أن يأذن له في بيع شيء فيبيعه ويجوز القبول على الفور والتراخي نحو أن يبلغه أن فلانا وكله منذ عام فيقول : قبلت لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالإذن في الطعام ويجوز تعليقها على شرط نحو أن يقول : إذا قدم الحاج فأنت وكيلي في كذا أو فبع ثوبي
فصل :
ولا تصح إلا في تصرف معلوم فإن وكله في كل قليل وكثير لم يصح لأنه يدخل فيه كل شيء فيعظم الغرر وإن كان وكله في بيع ماله كله أو ما شاء منه أو قبض ديونه كلها أو الإبراء منها أو ما شاء منها صح لأنه يعرف ماله ودينه فيعرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقبل الغرر وإن قال : اشتر لي ما شئت أو عبدا بما شئت فقال أبو الخطاب لا يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر الغرر : وإن قدر له أكثر الثمن وأقله صح لأنه يقل الغرر وقال القاضي : إذا ذكر النوع لم يحتج إلى تقدير الثمن لأنه إذن في أعلاه وقد روي عن أحمد فيمن قال : ما اشتريت من شيء فهو بيننا إن هذا جائز وأعجبه وهذا توكيل في شراء كل شيء ولأنه إذن في التصرف فجاز من غير تعيين كالإذن في التجارة
فصل :
ولا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل نطقا أو عرفا لأن تصرفه بالإذن فاختص ما تناوله الإذن فإن وكله في الخصومة لم يملك الإقرار ولا الإبراء ولا الصلح لأنه إذن لا يقتضي شيئا من ذلك وإن وكله في تثبيت حق لم يملك قبضه لأنه لم يتناوله النطق ولا العرف فإنه قد يرضى للتثبت من لا يأمنه على القبض وإن وكل في القبض فهل يملك تثبيته ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يملكه لأنه طريق القبض فكان التوكيل في القبض توكيلا فيه
والثاني : لا يملكه لما ذكرنا في التي قبلها وإن وكله في المبيع لم يملك الإبراء من ثمنه ويملك تسليم المبيع لأن العرف يتناوله ولأنه من تمام العقد وحقوقه ولا يتهم فيه ولا يملك قبض الثمن لأن اللفظ لا يتناوله وقد يرضى للبيع من لا يرضاه للقبض إلا أن تقتضيه الحال بأن يكون بحيث لو ترك ضاع
فصل :
فإن وكله في البيع في وقت لم يملكه قبله ولا بعده لأنه قد يختص غرضه به في زمن لحاجته فيه وإن وكله في بيعه لرجل ولم يملك بيعه لغيره لأنه قد يقصد نفعه أو نفع المبيع بإيصاله إليه وإن وكله في بيعه في مكان الثمن فيه أكثر وأجود لم يملكه في غيره لأنه قد يفوت غرضه وإن تساوت الأمكنة أو قدر له ثمن ملك ذلك لأن الغرض فيهما واحد فالإذن في أحدهما إذن في الآخر وإن وكله في بيع فاسد لم يملكه لأنه منهي عنه ولا يملك الصحيح لأنه لم يأذن له فيه وإن قدر له الثمن في البيع لم يملك البيع بأقل منه لأنه لا يأذن له فيه نطقا ولا عرفا ويملك البيع بأكثر منه وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غيره لأنه مأذون فيه عرفا لأنها تنفعه ولا تضره وإن باع بعضه بدون ثمن جميعه لم يجز وإن باعه بجميعه صح لما ذكرناه وله بيع باقيه لأنه إذن فيه ويحتمل أن لا يملكه لأنه حصل غرضه ببيع بعضه فلا يبقى الإذن فيه باقيه وإن وكله في شراء شيء ولم يملك شراء بعضه لأن اللفظ لا يقتضيه وإن قال له : بعه بمائة درهم فباعه بعرض يساوي أكثر منها لم يجز لأنه لم يأذن فيه نطقا ولا عرفا وإن باعه بمائة دينار أو بتسعين درهما وعشرة دنانير ففيه وجهان :
أحدهما : لا ينفذ لأنه خالفه في الجنس كالتي قبلها
والثاني : ينفذ لأنه مأذون فيه عرفا لأنه يرضى الدينار مكان الدرهم عرفا وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم ملك ذلك صفقة واحدة وصفقات لأن العرف جار بكلا الأمرين وإن أمره بصفقة واحدة لم يملك التفريق فإن اشتراهم صفقة واحدة من رجلين جاز لأن الصفقة من جهته واحدة
فصل :
وإن وكله في البيع وأطلق لم يملك البيع بأقل من ثمن المثل لأن إذنه تقيد بذلك عرفا لكون غير ذلك تضييعا لماله وهو لا يرضاه ولو حضر من يطلبه بأكثر من ثمن المثل يم يجز بيعه بثمن المثل لأنه تضييع لمال أمكن تحصليه وإن باع بثمن المثل فحضر من يزيد في مدة الخيار لم يلزمه الفسخ لأنها زيادة منهي عنها ولا يأمن رجوع صاحبها عنها فإن باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له فعنه : البيع باطل لأنه غير مأذون فيه وعنه : يصح ويضمن الوكيل النقص لأنه فوته ويصح البيع لأن الضرر يزول بالتضمين ولا عبرة بما يتغابن الناس به كدرهم في عشرة لأنه لا يمكن التحرز منه وهل يلزم الوكيل جميع النقص أم بين ما يتغابن الناس به وما لا يتغابنون به ؟ على وجهين وكل موضع قلنا لا يملك البيع والشراء فحكمه فيه حكم الأجنبي وقد ذكرناه لأن هذا غير مأذون فيه
فصل :
وإن وكله في الشراء فأطلق لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل لما ذكرنا وإن اشترى بأقل من ثمن المثل أو أقل ما قدر له صح لأنه مأذون فيه عرفا فإن قال : لا تشتره بأقل من مائة لم يملك مخالفته لأن نصه مقدم على دلالة العرف وإن قال : اشتره بمائة ولا تشتره بخمسين فله شراؤه بما فوق الخمسين لأنه باق على دلالة العرف وإن قال : اشتر لي عبدا وصفه بمائة فاشتراه بدونها جاز وإن خالف الصفة لم يلزم الموكل وإن لم يصفه فاشترى عبدا يساوي مائة بأقل منها جاز وإن لم يساو المائة لم يلزم الموكل وإن ساوى ما اشتراه به لأنه خالف غرضه وإن قال : اشتر لي شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما دينارا صح لحديث عروة ولأنه ممتثل للأمر بإحداهما والثانية زيادة نفع وإن لم تساو دينارا لم يصح فإن باع الوكيل شاة وبقيت التي تساوي دينارا فظاهر كلام أحمد صحته لحديث عروة ولأنه وفى بغرضه فأشبه إذا زاد على ثمن المثل
فصل :
وإن وكله في الشراء نسيئة فاشترى نقدا لم يلزم الموكل لأنه لم يأذن له فيه وإن وكله في الشراء بنقد فاشترى بنسيئة أكثر من ثمن النقد لم يجز لذلك وإن كان بمثل ثمن النقد وكان فيه ضرر مثل أن يستضر بحفظ ثمنه فكذلك وإن لم يستضر به لزمه لأنه زاده خيرا وإن أذن له في البيع بنقد لم يملك بيعه نسيئة وإن أذن له في البيع نسيئة فباع بنقد فهي كمسألة الشراء سواء وإن عين له نقدا لم يبع إلا به وإن أطلق لم يبع إلا بنقد البلد لأن الإطلاق ينصرف إليه فإن كان فيه نقدان باع بأغلبهما وإن قدر له أجلا لم تجز الزيادة عليه لأنه لم يرض بها وإن أطلق الأجل جاز وحمل على العرف في مثله لأن مطلق الوكالة يحمل على المتعارف ولا يملك الوكيل في البيع والشراء شرط الخيار للعاقد معه لأنه لا حظ للموكل فيه وله شرط الخيار لنفسه ولموكله ولأنه احتياط له
فصل :
إذا قال : اشتر لي عينا من الثمن فاشترى له في ذمته لم يقع للموكل لأنه لم يرض بالتزام شيء في ذمته فلم يجز إلزامه وإن قال : اشتر لي في ذمتك ثم انقد هذا فيه فاشتراه بعينه صح للموكل لأنه أمره بعقد يلزمه به دينار مع بقاء الدينار وتلفه فعقد له عقدا لا يلزمه مع تلفه فزاده خيرا ويحتمل ألا يصح لأنه أراد عقدا لا يبطل باستحقاقه ولا تلفه ففوت ذلك وإن أطلق فله الأمران لأن العرف جار بهما
فصل :
وإن وكله في شراء موصوف لم يجز أن يشتري معيبا لأن إطلاق البيع يقضي السلامة ولذلك يرد بالعيب فإن اشترى معيبا يعلم عيبه لم يقع للموكل لأنه مخالف له وإن لم يعلم بالعيب فالبيع صحيح كما لو اشترى لنفسه فإن علم الموكل فرضي به فليس للوكيل رده لأن الرد لحقه فسقط برضاه وللوكيل الرد قبل علمه لأنها ظلامة حصلت بعقده فملك دفعها كالمشتري لنفسه ولا يلزمه التأخير لأنه حق تعجل له وله أن يرض به ويسقط خياره وإن حضر الموكل فرضي به استقر العقد وإن اختار الرد فله ذلك لأن الشراء له ولم يرض بالعيب فإن أنكر البائع كون الشراء للموكل فالقول قوله ويرد المبيع على الوكيل في أحد الوجهين لأنه اتباع المعيب ومنعه الرد لرضاه بعينه والثاني : ليس له الرد عليه لأنه غير البائع وللمشتري أرش العيب لأنه فات الرد به من غير رضاه فإن تعذر ذلك من البائع لزم الوكيل لأنه ألزمه المبيع وإن قال البائع : موكلك قد علم بالعيب فرضي به فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه لا يعلم ذلك لأن الأصل عدمه فإن قال : أخر الرد حتى يعلم موكلك لم يلزمه التأخير فإن أخر وقلنا : الرد على الفور لم يسقط خياره ذكره القاضي لأنه لم يرض به ويحتمل أن يسقط لتركه الرد مع إمكانه فإن رده فقال الموكل : قد كنت رضيته معيبا : فصدقه البائع انبنى على عزل الوكيل قبل علمه لأن هذا كذلك وإن أنكره البائع فالقول قوله أنه لا يعلم ذلك وإن وكله في شراء شيء عينه فاشتراه فوجده معيبا ففيه وجهان :
أحدهما : يملك الرد لأنه معيب لم يرض به العاقد
والثاني : لا يملكه بغير رضى الموكل لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين فإن قلنا : يملكه فحكمه حكم غير المعين
فصل :
إذا وكله في قبض حقه من زيد فمات زيد لم يملك القبض من وارثه لأنه لم يتناوله إذنه نطقا لأنهم غيره ولا عرفا لأنه قد يرضى بقاء حقه عندهم دونه وإن قال : اقبض حقي الذي قبل زيد فله القبض من وارثه لأن لفظه يتناول قبض الحق من غير تعرض للمقبوض منه وإن وكل وكيلين في تصرف لم يكن لأحدهما الانفراد به لأنه لم يرض بأحدهما وإن وكله في قضاء دين بالإشهاد لأنه لا يحصل الاحتياط إلا به فإن قضاه بغير بينة فأنكر الغريم ضمن لتفريطه وإن شهد ببينه عادلة فماتت أو غابت لم يضمن لأنه لا تفريط منه وإن قضاه بحضرة الموكل من غير إشهاده ففيه وجهان :
أحدهما : يضمن لأنه ترك التحفظ
والثاني : لا يضمن لأنه إذا كان المؤدى عنه حاضرا فهو التارك للتحفظ وإن قضاه ببينة مختلف فيها فيه وجهان :
أحدهما : يضمن لأنه ترك التحفظ
والثاني : لا يضمن لأنها بينة شرعية أشبهت المجمع عليها
فصل :
إذا اشترى لموكله ثبت الملك للموكل لأنه قبل العقد لغيره فوجب أن ينقل الملك إلى ذلك الغير كما لو تزوج لغيره ويثبت الثمن في ذمته أصلا وفي ذمة الوكيل تبعا وللبائع مطالبة من شاء منهما كالضمان في أحد الوجهين وفي الآخر لا يثبت إلا في ذمة الموكل وليس له مطالبة غيره فإن دفع الثمن فوجد به البائع عيبا فرده على الوكيل فتلف في يده فلا شيء عليه لأنه أمين وللبائع المطالبة بالثمن لأنه دين له فأشبه سائر ديونه وللوكيل المطالبة به لأنه نائب للمالك فيه
فصل :
والوكالة عقد جائز في الطرفين لكل واحد منهما فسخها لأنه إذن في التصرف فملك كل واحد منهما إبطاله كالإذن في أكل طعامه وإن أذن لوكيله في توكيل آخر فهما وكيلان للموكل لا ينعزل أحدهم بعزل الآخر ولا يملك الأول عزل الثاني لأنه ليس بوكيله وإن أذنه في توكيله عن نفسه فالثاني وكيل الوكيل ينعزل ببطلان وكالة الأول وعزله له لأنه فرعه فثبت فيه ذلك كالوكيل مع موكله وللموكل عزله وحده لأنه متصرف له فملك عزله كالأول
فصل :
وإذا خرج الموكل عن أهلية التصرف لموت أو جنون أو حجر أو فسق في ولاية النكاح بطلت الوكالة لأنه فرعه فيزول بزوال أصله فإن وجد ذلك أو عزل الوكيل فهل ينعزل قبل علمه ؟ فيه روايتان :
إحداهما : ينعزل لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق
والثانية : لا ينعزل لأنه أمر فلا يسقط قبل علمه بالنهي كأمر الشارع وإن أزال الموكل ملكه عن ما وكله فيه بإعتاق أو بيع أو طلاق التي وكله في طلاقها بطلت الوكالة لأنه أبطل محليته وإن وطئ الزوجة أو دبر العبد أو كاتبه بطلت الوكالة لأن ذلك يدل على رجوعه إذ لا يجتمع مقصود هذه التصرفات مع البيع والوطء يدل على رغبته في زوجته وإن وكله في الشراء بدينار فتلف بطلت الوكالة فإن تلف بتفريطه فغرمه هو أو غيره لم يملك الشراء ببدله لأن الوكالة بطلت بتلفه
فصل :
ولا تبطل بالنوم والسكر والإغماء لأنه تثبت الولاية عليه ولا بالردة لأنها لا تمنع ابتداء وكالته فلا تمنع استدامتها ولا بالتعدي فيما وكل فيه كلبس الثوب وركوب الدابة لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفا فإذا بطلت الأمانة بقي التصرف كالرهن المتضمن وثيقة وأمانة وإن وكله في بيع عبد ثم باعه المالك بيعا فاسدا لم تبطل الوكالة لأن ملكه فيه لم يزل ولا يؤول إلى الزوال وإن وكل زوجته ثم طلقها لم تنعزل لأن الطلاق لا ينافي الوكالة ولا يمنع ابتداءها وإن وكل عبد ثم أعتقه أو باعه فكذلك ويحتمل أن ينعزل لأن أمره لعبده استخدام وليس بتوكيل في الحقيقة
فصل :
ويجوز التوكيل بجعل لأنه تصرف لغير لا يلزمه فجاز أخذ العوض عنه كرد الآبق وإذا وكله في البيع بجعل فباع استحق الجعل قبل قبض الثمن لأن البيع يتحقق قبل قبضه فإذا قال في التوكيل : فإذا سلمت إلي الثمن فلك كذا وقف استحقاقه على التسليم إليه لاشتراطه إياه وإن قال : بع هذا بعشرة فما زاد فهو لك صح وله الزيادة لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأسا
فصل :
وليس للوكيل في بيع شيء بيعه لنفسه ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه لأن العرف في العقد أن يعقد مع غيره فحمل التوكيل عليه ولأنه تلحقه تهمة ويتنافى الغرضان فلم يجز لكما لو نهاه وعنه : يجوز لأنه امتثل أمره وحصل غرضه فصح كما لو باع أجنبيا وإنما يصح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء ويتولى النداء غيره لتنتفي التهمة قال القاضي : ويحتمل أن لا يشترط ذلك وكذلك الحكم في بيعه لوكيله أو طفل يلي عليه أو ولده أو والده أو مكاتبه أو تزويجه لابنته إذا وكله أن يتزوج له لأنه يتهم في حقه ويترك الاستقصاء عليهم وإن أذن له الموكل في هذا جاز لانتفاء التهمة مع صريح الإذن وإن وكله رجل في بيع عبده ووكله آخر في شرائه فله أن يتولى طرفي العقد كما يجوز للأب ذلك في حق ولده الصغير
فصل :
فإذا وكله عبدا في شراء عبد من سيده جاز لأنه يجوز أن يشتري من غير سيده فجاز منه كالأجنبي وإن وكله في شراء نفسه جاز لأنه يجوز أن يشتري غيره فجاز أن يشتري نفسه كالأجنبي فإن قال السيد : ما اشتريت نفسك إلا لنفسك عتق لإقرار سيده بحريته والقول قول السيد في الثمن لأن الظاهر ممن باشر العقد أنه له ولو وكله سيده في إعتاق نفسه أو وكل غريمه في إبراء نفسه صح لأنه وكيله في إسقاط حق نفسه فجاز كتوكيل الزوجة في طلاقها وإن كان غريمه في إبراء غرمائه لم يملك إبراء نفسه كما لو وكله في حبسهم لم يملك حبس نفسه وإن وكله في تفرقة صدقة لم يملك صرفها على نفسه لأنه مأمور بإعطاء غيره قال أصحابنا : لا يملك إعطاء ولده ووالده لأنهم كنفسه ويحتمل جواز ذلك لأنه لفظ يعمهم ولا قرينة تخرجهم
فصل :
والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف تحت يده بغير تفريط بجعل وبغير جعل لأنه نائب المالك أشبه المودع والقول قوله فيما يدعيه من تلف وعدم تفريط وخيانة لذلك القول قوله في الرد إن كان متطوعا لأن قبض المال لنفع مالكه فهو كالمودع وإن كان بجعل ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل قوله لأنه أمين أشبه المودع
والثاني : لا يقبل لأنه قبضه لنفع نفسه أشبه المستعير
وإن قال : بعت وقبضت الثمن فتلف في يدي ففيه وجهان ذكرناهما في الرهن وإن اختلفا في أصل الوكالة فالقول قول من ينكرها لأن الأصل عدمها وإن اختلفا في دفع المال إلى الوكيل فالقول قوله لذلك فإن أنكره ثم اعترف به ثم ادعى تلفه أو دره لم يقبل لأن خيانته ثبتت بجحده وكذلك الحكم في المودع وإن أقام بدعواه ببينة ففيه وجهان :
أحدهما : تقبل لأنها شهدت بما لو قر به لثبت فقبلت : كما لو لم ينكر
والثاني : لا تقبل لأنه مكذب بها بجحده فإن كان جحوده : إنك لا تستحق علي شيئا لتلفه أو رده وإن اختلفا في صفة الوكالة فقال : وكلتني في بيع هذا فقال : بل في بيع هذا أو قال : وكلتني في بيعه بعشرين قال : بل بثلاثين أو قال وكلتني في بيعه نسيئة قال : بل نقدا فالقول قول الموكل لأنه منكر للعقد الذي يدعيه الوكيل فأشبه ما لو أنكر أصل الوكالة ولأنهما اختلفا في صفة قول الموكل فكان القول قوله كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق ونص أحمد رضي الله عنه في صفة المضارب على أن القول قوله والوكيل في معناه لأنه أمين في التصرف فكان القول قوله في صفته كما لو اختلفا في بيع الثوب المأذون في بيعه وإن قال : اشتريت هذا لك بعشرة قال : بل بخمسة فالحكم فيه كذلك وإن قال : اشتريت لك هذه الجارية لك بإذنك بعشرة فأنكر الإذن في شرائها فالقول قول الموكل فيحلف ويبطل البيع إن كان بعين المال ويرد الجارية على البائع إن صدق الوكيل في أنه وكيل وإن أنكر الشراء لغيره فالقول قوله وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله وتبقى الجارية في يده ولا تحل له لأنها ليست ملكا له فإذا أراد استحلالها اشترى ممن هي له في الباطن فإن أبى بيعها استحل للحاكم أن يرفق به لبيعه إياها ولا يجبر لأنه عقد مراضاة فإن أبى فقد حصلت في يده لغيره وله في ذمة صاحبها ثمنها فأقرب الوجوه فيها أنه يأذن للحاكم في بيعها ويوفيه حقه من ثمنها لأن الحاكم باعها في وفاء دينه فإن قال صاحبها : إن كانت لي فقد بعتكها بعشرين فقال القاضي : لا يصح لأنه بيع معلق على شرط ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع يعلمانه فلا يضر جعله شرطا كما لو قال : إن كانت جارية فقد بعتكها
فصل :
فإن قال : تزوجت لك فلانة بإذنك فصدقته المرأة وأنكره فالقول قول المنكر لأن الأصل معه ولا يستحلف لأن الوكيل يدعي حقا لغيره وإن ادعته المرأة استحلف لأنها تدعي صداقها عليه فإن حلف برئ من الصداق ولم يلزم الوكيل في أحد الوجهين لأن حقوق العقد تتعلق بالموكل فإن كان الوكيل ضمنه لها فلها مطالبته به وليس لها نكاح غيره لاعترافها أنها زوجته فتؤخذ بإقرارها ولا يكلف الطلاق لأنه لم يثبت في حقه نكاح ويحتمل أن يكلفه لإزالة احتمال لأنه يحتمل صحة دعواها فينزل منزلة النكاح الفاسد ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر لأنه لم يثبت صداقها فترث وهو ينكر أنها زوجته فلا يرثها

باب الشركة
يجوز عقد الشركة في الجملة لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ قال الله تعالى : انا ثالث الشركين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما ] رواه أبو داود
وتكره شركة الذمي إلا أن يكون المسلم يتولى البيع والشراء لما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهودي والنصراني إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم ولأنه لا يأمن معاملتهم بالربا والعقود الفاسدة
فصل :
والشركة على أربعة أضراب :
أحدها : شركة العنان وهو أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما فإذا صحت فما تلف من المالين فهو من ضمانهما وإن خسرا كانت الخسارة بينهما على قدر المالين لأنهما صارا كمال واحد في ربحه فكذلك في خسرانه والربح بينهما على ما شرطاه لأن العمل يستحق به الربح وقد يتفاضلان فيه لقوة أحدهما وحذقه فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب
فصل :
وتصح الشركة على الدراهم والدنانير لأنهما أثمان البياعات وقيم الأموال ولا تصح بالعروض في إحدى الروايتين لأن قيمة أحدهما ربما تزيد قبل بيعه فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه والثانية : تصح الشركة بها ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد لأن مقصودها نفوذ تصرفهما في المال المشترك وكون ربحه بينهما وهذا ممكن في العروض والحكم في النقرة والمغشوش والمفلس كالحكم في العروض لأن قيمتها تزيد وتنقص فأشبهت العروض ولا تجوز الشركة بمجهول ولا جزاف لأنه لا يمكن الرجوع به عند المفاضلة ولا بدين ولا غائب لأنه مما لا يجوز والتصرف فيه وهو مقصود الشركة
فصل :
ويجوز في المختلفين فيكون لأحدهما دنانير وللآخر دراهم ولأحدهما صحاح وللآخر مكسرة أو لأحدهما مائة والآخر مائتان لأنهما أثمان فصحت الشركة بهما كالمتفقين ويرجع كل واحد منهما عند المفاضلة بمثل ماله نص عليه لأنها أثمان فيجب الرجوع بمثلها كالمتفقين وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المالين لأنه يقصد بها كون الربح بالمالين فلم يشترط خلط المال كالمضاربة
فصل :
ومبناها على الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما بتفويض المال إلى صاحبه أمنه وبإذنه له في التصرف وكله ولكل واحد منهما العمل في المالين بحكم الملك في حصته والوكالة في حصة شريكه وحكمها في جوازها وانفساخها حكم الوكالة لتضمنها للوكالة فإن عزل أحدهما صاحبه قبل أن ينض المال فذكر القاضي : أن ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنه لا ينعزل حتى ينض كالمضارب إذا عزله رب المال وقال أبو الخطاب ينعزل لأنها وكالة فإذا عزله فطلب أحدهما البيع والآخر القسمة أجيب طالب القسمة لأنه يستدرك ما يحصل من الربح بالقسمة فلم يجبر على البيع بخلاف المضارب وهذا إنما يصح إذا كان الربح على قدر المالين فإن زاد ربح أحدهما عن ماله لم يستدرك ربحه بالقسمة فيتعين البيع كالمضاربة
فصل :
فإن مات أحدهما فلوارثه إتمام الشركة فيأذن للشريك ويأذن له الشريك في التصرف لأن هذا إتمام للشركة وليس بابتداء لها فلا تعتبر شروطها وكذلك إن مات رب المال في المضاربة فلوارثه إتمامها في ظاهر كلامه ويحتمل أن لا يجوز إتمامها إلا أن يكون المال ناضا لأن العقد قد بطل بالموت وهذا ابتداء عقد فلا يجوز بالعروض وإن مات عامل الضاربة لم يجز إتمامها إلا على الوجه الذي يجوز ابتداءها لأنه لم يخلف أصلا يبنى عليه ولو كان مال الشركة والمضاربة موصى به والموصى له كالوارث في هذا فإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء فليس للموصي الإذن في التصرف لأنه قد وجب دفعه إليهم
فصل :
ولكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة ويقبض المبيع والثمن ويقبضهما ويطالب بالدين ويخاصم فيه ويرد بالعيب العقد الذي وليه هو أو صاحبه ويحيل ويحتال ويستأجر ويفعل كل ما هو من مصلحة التجارة بمطلق الشركة لأن هذا عادة التجار وقد أذن له في التجارة وهل لأحدهما أن يبيع نساء أو يبضع أو يودع أو يسافر بالمال ؟ يخرج على روايتين :
إحداهما : له ذلك لأنه عادة التجار ولأن المقصود الربح وهو في هذه أكثر
والأخرى : لا يجوز لأن فيه تغريرا بالمال وهل له التوكيل ؟ يخرج على الروايتين في الوكيل لأنه وكيل وإذا وكل أحدهما فللآخر عزله لأنه وكيله وهل له أن يرهن ويرتهن ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء وهو يملكهما فيملك ما يراد لهما
والثاني : لا يجوز لأن فيه خطرا وفي الإقالة وجهان أصحهما : أنه يملكها لأنه إن كانت بيعا فقد أذن فيه وإن كانت فسخا ففسخ البيع المضر من مصلحته التجارة فملكه كالرد بالعيب والآخر لا يملكها لأنها فسخ فلا تدخل في الإذن في التجارة
فصل :
وليس له أن يكاتب رقيقه ولا يزوجه ولا يعتقه بمال ولا يقرض ولا يحابي لأن ذلك ليس بتجارة وليس له المشاركة بمال الشركة ولا المضاربة به ولا خلطه بماله ولا مال غيره لأنه يثبت بالمال حقوقا وليس هو من التجارة المأذون فيها ولا يأخذ به سفتجة ولا يعطيها لأن فيه خطرا ولا يستدين على مال الشركة ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه لأنه يؤدي إلى الزيادة في مال الشركة ولم يؤذن فيه فإن فعل فعليه ثمن ما اشتراه ويختص بملكه وربحه وضمانه وكذلك ما استدانه أو اقترضه ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه لأنه لا يفضي إلى الزيادة فيها وإن أقر على مال الشركة قبل في حقه دون صاحبه سواء أقر بعين أو دين لأن الإقرار ليس من التجارة وقال القاضي : يقبل إقراره على مال الشركة ويقبل إقراره بعيب في عين باعها كما يقبل إقرار الوكيل على موكله به نص عليه لأنه تولى بيعها فقبل إقراره بالعيب كمالها فإن رد عليه المعيب فقبله أو دفع أرشه أو أخر ثمنه أو حط بعضه لأجل العيب جاز لأن العيب يجوز الرد وقد يكون ما يفعله من هذا أحظ من الرد فأما إن حط بعض الثمن ابتداء أو أسقط دينا عن غريمهما أو أخره عليه لزم في حقه دون صاحبه لأنه تبرع فجاز في حقه دون شريكه كالصدقة فإن قال له : اعمل برأيك فله عمل ما يقع في التجارة من الرهن والارتهان والبيع نساء والإبضاع بالمال والمضاربة به والشركة وخلطه بماله والسفر به وإيداعه وأخذ السفتجة ودفعها ونحوه لأنه فوض إليه الرأي في التصرف في التجارة وقد يرى المصلحة في هذا وليس له التبرع والحطيطة والقرض وكتابة الرقيق وعتقه وتزويجه لأنه ليس بتجارة وإنما فوض إليه العمل برأيه في التجارة
فصل :
الضرب الثاني : شركة الأبدان وهو أن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما كالصانعين يشتركان على أن يعملا في صناعتهما أو فيما يكتسبان من مباح كالحشيش والحطب والمعادن والتلصص على دار الحرب فما رزق الله هو بينهما فهو جائز لما روى عبد الله بن مسعود قال : اشتركت أنا و عمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال : فلم أجئ أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة واحتج به أحمد ومبناها على الوكالة لأن كل واحد منها وكيل صاحبه وما يتقبله كل واحد من الأعمال فهو من ضمانهما يطالب به كل واحد منهما ويلزمه عمله قال القاضي : ويحتمل أن لا يلزم كل واحد منهما ما لزم صاحبه كالوكيلين ويصح مع اتفاق الصنائع واختلافها لأنهما اتفقا في مكسب واحد كما لو اتفقت الصنائع وقال أبو الخطاب : لا تصح مع اختلافها لأن الشركة تقتضي أن ما يتقبله أحدهما يلزمه صاحبه ولا يمكن أن يلزمه عمل صناعة لا يحسنها
فصل :
والربح بينهما على ما شرطاه من مساواة أو تفاضل لأنهما يستحقان بالعمل والعمل يتفاضل فجاز أن يكون الربح متفاضلا وما لزم أحدهما من ضمان لتعديه وتفريطه فهو عليه خاصة لأن ذلك لا يدخل في الشركة ولكل واحد منهما طلب الأجرة وللمستأجر دفعها إلى أيهما شاء وإن تلفت في يد أحدهما بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنه وكيل
فصل :
وإن عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما لحديث ابن مسعود حين جاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران و إن ترك أحدهما العمل لعجز أو غيره فللآخر مطالبته بالعمل أو بإقامة من يعمل عنه أو يفسخ
فصل :
إذا كان لرجلين دابتان فاشتركا على أن يحملا عليهما فما رزق الله تعالى من الأجرة فهو بينهما صح ثم إن تقبلا حمل شيء في ذمتهما فحملاه عليهما صح والأجرة على ما شرطاه لأن تقبلهما الحمل أثبته في ذمتهما وضمانهما والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه وإن أجراهما على حمل شيء اختص كل واحد منها بأجرة دابته ولا شركة لأنه لم يجب الحمل في ذمته وإنما استحق المكتري منفعة هذه البهيمة التي استأجرها ولهذا تنفسخ الإجارة بموتها ولا يصح أن يكون كل واحد منهما وكيل صاحبه في إجارة دابة نفسه ولهذا لو قال : أجر دابتك وأجرها بيتي وبيتك لم يصح فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل فله أجرة مثله لأنها منافع وفاها بشبه عقد
فصل :
فإن دفع دابة إلى رجل يعمل عليها أو عبده ليكتسب ويكون ما يحصل بينهما نصفين أو أثلاثا صح نص عليه لأنها عين تنمى بالعمل عليها فجاز العقد عليها ببعض نمائها كالشجر في المساقاة ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي الفرس على نصف الغنيمة : أرجو أن لا يكون به بأس ووجهه ما ذكرناه وإن دفع ثيابا إلى خياط ليخيطها ويبيعها وله جزء من ربحها أو غزلا لينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز وإن جعل معه دراهم لم يجز وعنه : الجواز والأول المذهب لأنه لا يجوز أن يشترط في المساقاة دراهم معلومة وإنما أجاز أحمد ذلك تشبيها بالمساقاة قال : نراه جائزا لأن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى خيبر على الشطر
فصل :
وإن دفع رجل بغله وآخر راوية إلى رجل ليستقي ما رزقهم الله بينهم فقياس المذهب صحته لأن كل واحدة منها عين تنمى بالعمل عليها فصح دفعها بجزء من النماء كالتي قبلها وقال القاضي : لا يصح لأن المشاركة بالعروض لا تصح والأجرة للعامل لأنه ملك الماء باغترافه في الإناء ولصاحبيه أجرة المثل لأنه استوفى منافع ملكهما بشبه عقد ولو اشترك صانعان على أن يعملا بأداة أحدهما في بيت الآخر والكسب بينهما صح لأن الأجرة على عملهما وبه يستحق الربح ولا يستحق بالآلة والبيت شيء إنما يستعملانها في العمل فصارا كالدابتين في الشركة ولو اشترك صاحب بغل وراوية على أن يؤجراهما والأجرة بينهما لم يصح لأن حاصله أن كل واحد منهما يؤجر ملكه ويعطي الآخر من أجرته وليس بصحيح والأجرة كلها لمالك الدابة لأنه صاحب الأصل والآخر أجرة مثله
فصل :
الضرب الثالث : شركة الوجوه وهو : أن يشترك رجلان فيما يشتريان بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال على أن ما اشترياه فهو بينهما على ما اتفقا عليه من مساواة أو تفاضل ويبيعان فما رزق الله تعالى من الربح فهو بينهما على ما اتفقا عليه فهو جائز سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه أو قال : ما اشتريت من شيء فهو بيننا نص عليه والربح بينهما على ما اشترطاه وقال القاضي : الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى ولنا أنهما شريكان في المال فجاز تفاضلهما في الربح مع تساويهما في الملك كشركي العنان والوضيعة على قدر ملكيهما في المشترى لأنه رأس مال ومبناها على الوكالة لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه فيما يشتريه ويبعه وحكمهما في جواز ما يجوز لكل واحد منهما أو يمنع منه حكم شركة العنان
فصل :
الضرب الرابع : شركة المفاوضة وهو أن يشتركا في كل شيء يملكانه وما يلزم كل واحد منهما من ضمان غصب أو جناية أو تفريط وفي ما يجدان من ركاز أو لقطة فلا يصح لأنه يكثر فيها الغرر ولأنها لا تصح بين المسلم والكافر فلا تصح بين المسلمين كسائر العقود المنهي عنها ولأنه يدخل فيها أكساب غير معتادة وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم

باب المضاربة
وهو أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه والربح بينهما وهي جائزة بالإجماع يروى إباحتها عن عمر وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام رضي الله عنهم في قصص مشتهرة ولا مخالف لهم فيكون إجماعا وتسمى مضاربة وقراضا وتنعقد بلفظهما وبكل ما يؤدي معناهما لأن القصد المعنى فجاز بما دل عليه كالوكالة وحكمها حكم شركة العنان في جوازها وانفساخها وفي ما يكون رأس المال فيها وما لا يكون وما يملكه العالم وما يمنع منه وكون الربح بينهما على شرطاه لأنها شركة فيثبت فيها ذلك كشركة العنان
فصل :
ويشترط تقدير نصيب العامل ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع لأن النبي صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها والمضاربة في معناها فإن قال : خذه مضاربة والربح بيننا صح وهو بينهما نصفين لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما فاقتضى التسوية كقوله : هذه الدار بيني وبينك وإن قال : على أن لك ثلث الربح صح والباقي لرب المال لأنه يستحقه لكونه نماء ماله فلم يحتج إلى شرطه وإن قال : على أن لي ثلث الربح ولم يذكر نصيب العامل ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط له
والثاني : يصح والباقي للعامل لأنه يدل بخطابه على ذلك كقوله تعالى : { وورثه أبواه فلأمه الثلث } دل على أن باقيه للأب وإن قال : لي النصف ولك الثلث وترك السدس فهو لرب المال لأنه يستحقه بماله وإن قال : خذه مضاربة بالثلث صح وهو للعامل لأن الشرط يراد من أجله ورب المال يأخذه بماله لا بالشرط ومتى اختلفا لمن الجزء المشروط فهو للعامل لذلك واليمين على مدعيه
فصل :
وإن لم يذكر الربح أو قال لك جزء من الربح أو شركة لم تصح المضاربة لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب وإن قال : لك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمانه صح وإن جهلاه أو أحدهما لم يصح ولا يجب أن يجب أن يشرط لأحدهما دراهم معلومة لأنه يحتمل أن لا يربحها أو لا يربح غيرها فيختص أحدهما بجمع الربح ولو شرط لأحدهما ربح أحد الألفين أو أحد الكيسين أو أحد العبدين وللآخر ربح الآخر أو جعل حقه في عبد يشتريه أو أنه إذا اشترى عبدا أخذه برأس المال لم يصح لإفضائه إلى اختصاص أحدهما بالربح
فصل :
وإن قال : خذه مضاربة والربح كله لك أو قال : لي لم يصح لأن موضوعها على الاشتراك في الربح فشرطه كله له ينافي مقتضى العقد فبطل وإن قال : خذه فاتجر به والربح كله لك فهو قرض لأن اللفظ يصح للقرض وقد قرن به حكمه فتعين له وإن قال : والربح كله لي فهو إبضاع لأنه قرن به حكمه
فصل :
فإن قال لغريمه : ضارب بالدين الذي عليه لم يصح لأن ما في يد الغريم لنفسه لا يصير لغريمه إلا بقبضه فإن عزل شيئا واشترى به فالشراء له لأنه اشترى بماله ويحتمل أن تصح المضاربة لأنه اشترى له بإذنه ودفع المال إلى من أذن له في دفعه إليه فبرئت به ذمته وإن كانت له وديعة فقاتل للمودع : ضارب بها صح لأنه عين ماله وإن كان عرضا فقال : بعه وضارب بثمنه صح لأن الثمن عين مال رب المال وإن قال : اقبض ما لي على فلان فضارب به ففعل صح لأنه وكيل في قبضه فيصير كالوديعة
فصل :
ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال ولا يتجر به إلا في بلد بعينه أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلا بعينه لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة ويصح توقيتها فيقول : ضاربتك بهذه الدراهم سنة لذلك نص عليه وعنه : لا يصح اختارها أبو حفص لأنه عقد يجوز مطلقا فلم يجز توقيته كالنكاح ويصح أن يشرط نفقة نفسه حضرا وسفرا قاسيا على الوكيل
فصل :
ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد نحو أن يشرط لزوم المضاربة أو لا يعزله مدة بعينها أو لا يبيع إلا برأس المال أو أقل أو يوليه ما يختار من السلع لأنه يفوت المقصود من العقد وإن شرط أن يتجر له في مال آخر مضاربة أو بضاعة أو خدمة في شيء أو يرتفق بالسلع أو شرط على العامل الضمان أو الوضيعة أو سهما منها أو متى باع سلعة فهو أحق بها بالثمن فالشرط فاسد لأنه ليس في مصلحته العقد ولا مقتضاه
فصل :
وكل شرط يؤثر في جهالة الربح يبطل المضاربة لأنه يمنع التسليم الواجب وما لا يؤثر فيه لا يبطلها في قياس قوله لنصه فيما إذا شرط سهما من الوضيعة أن المضاربة صحيحة لأنه إذا حذف الشرط بقي الإذن بحاله ويحتمل البطلان لأنه إنما رضي بالعقد بهذا الشرط فإذا فسد فات الرضى به ففسد كالمزارعة إذا شرط البذر من العامل وكالشروط الفاسدة في البيع ومتى فسدت فالتصرف صحيح لأنه بإذن رب المال والوضيعة عليه لأن كل عقد لا ضمان له في صحيحه لا ضمان في فاسده والربح لرب المال لأنه نماء ماله وإنما يستحق بالشرط وهو فاسد ها هنا لا يستحق به شيء وللعامل أجر مثله لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له وإن فسدت الشركة قسم الربح على رؤوس أموالهما ورجع كل واحد منهما على الآخر بأجر عمله لما ذكرنا وقال الشريف أبو جعفر : الربح بينهما على ما شرطاه لأنه عقد لا يجوز أن يكون عوضه مجهولا فوجب المسمى في فاسده كالنكاح
فصل :
وعلى العامل عمل ما جرت العادة بعمله له من نشر وطي وإيجاب وقبول وقبض ثمن ووزن ما خف كالنقود والمسك والعود لأن لإطلاق الإذن يحتمل على العرف والعرف أن هذه الأمور يتولاها بنفسه وإن استأجر من يفعلها فعليه الأجرة في ماله لأنه بذلها عوضا عما يلزمه وما جرت العادة أن يستنيب فيه كحمل المتاع ووزن ما يثقل والنداء فله أن يستأجر من مال القراض من يفعله لأنه العرف فإن فعله بنفسه ليأخذ أجرة لم يستحقها نص عليه لأنه تبرع بفعل ما لم يلزمه فلم يكن له أجر كالمرأة تستحق على زوجها خادما إذا خدمت نفسها ويتخرج أن له الأجر لأنه فعل ما يستحق الأجر فيه فاستحقه كالأجنبي
فصل :
وليس له أن يشتر أكثر من رأس المال لأن الإذن لم يتناول غيره فإن كان ألفا فاشترى عبدا بألف فهو للمضاربة لأنه مأذون فيه فإن اشترى آخر لم يدخل في المضاربة لأنه غير مأذون فيه وحكمه حكم ما لو اشترى لغيره شيئا بغير إذنه فإن تلف الألف قبل نقده في الأول فعلى رب المال الثمن لأن الشراء بإذنه ويصير رأس المال الثمن الثاني لأن الأول تلف قبل تصرفه فيه وإن تلف قبل الشراء لم يدخل المشتري في المضاربة لأنها انفسخت قبل الشراء لتلف رأس المال وزوال الإذن
فصل :
وليس له التصرف إلى على الاحتياط كالوكيل لأنه وكيل رب المال إلا أن له شراء المعيب لأن مقصودها الربح وقد يربح في المعيب بخلاف الوكالة فإن الشراء فيها يراد للقنية فإن اشترى شيئا فبان معيبا فله رده فإن اختلف هو ورب المال في رده فعل ما فيه النظر لأن مقصود الحظ لهما فإذا اختلفا قدم الأحظ
فصل :
فإن اشترى من يعتق على رب المال صح لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كالذي نذر رب المال عتقه ويعتق وعلى العامل الضمان علم أو لم يعلم لأن مال المضاربة تلف بتفريطه وفي قدر ما يضمن وجهان :
أحدهما : ثمنه لأنه فات فيه
والثاني : قيمته لأنها التالفة وقال أبو بكر : إن لم يعلم لم يضمن لأنه معذور فلم يضمن كما لو اشترى معيبا لم يعلم عيبه ويتخرج أن لا يصح شراؤه لأن الإذن تقيد بالعرف لما يمكن بيعه والربح فيه فلا يتناول غيره ولأنه تقيد بما يظن الحظ فيه وهذا لا حظ للتجارة فيه ولهذا جعلناه مفرطا وألزمناه الضمان وإن اشترى زوجة رب المال أو زوج ربة المال صح وانفسخ النكاح لملكه إياه فإن كان قبل الدخول فعلى العامل نصف الصداق لأنه أفسد نكاحه بالرضاع
فصل :
فإن اشترى من يعتق على نفسه ولا ربح في المال لم يعتق وإن ظهر فيه ربح وقلنا : لا يملك العامل إلى بالقسمة لم يعتق أيضا وإن قلنا : يملكه بالظهور عتق عليه قدر حصته منه وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وغرم قيمته وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلى ما ملك وقال أبو بكر : لا يعتق بحال لأنه لم يتم ملكه لأنه لم يتم ملكه في الربح لكونه وقاية لرأس المال
فصل :
وليس له وطء جارية من المال فإن فعل فعليه المهر لأنها مملوكة غيره ويعزر نص عليه ولا حد عليه لشبهة حقه فيها وقال القاضي : عليه الحد إن لم يظهر ربح لأنه لا ملك له فيها والأول أولى لأن ظهور الربح ينبني على التقويم وهو غير متحقق فيكون شبهة فإن ولدت منه ولم يظهر ربح فالولد مملوك ولا تصير به الجارية أم ولد لأنها علقت به في غير ملك وإن ظهر ربح فالولد حر وأمه أم ولد وعليه قيمتها ويسقط من القيمة والمهر قدر حصة العامل منها وإن أذن له رب المال في التسري فاشترى جارية خرجت من المضاربة وصار ثمنها قرضا لأن استباحة البضع لا تكون إلا بملك أو نكاح لقول الله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }
فصل :
وليس لرب المال وطء جارية من المضاربة لأن لغيره فيها حقا فإن فعل فلا حد عليه لأنها ملكه وإن لم تعلق منه فالمضاربة بحالها وإن علقت منه فالولد حر وتصير أم ولد له وتخرج من المضاربة وتحسب عليه قيمتها ويأخذ المضارب حصته من الربح مما بقي
فصل :
وليس له دفع المال مضاربة لأنه إنما دفع إليه المال ليضارب به وبهذا يخرج عن كونه مضاربا فإن فعل فهو مضمون على كل واحد منهما على الأول لتعديه وعلى الثاني لأخذه مال غيره بغير إذنه فإن غرم الأول ولم يعلم الثاني بالحال لم يرجع عليه لأنه دفعه إليه أمانة وإن علم رجع عليه وإن غرم الثاني مع علمه لم يرجع على أحد وإن لم يعلم فهل يرجع على الأول ؟ على وجهين بناء على المشتري من الغاصب وإن ربح فالربح لرب المال لأنه نماء ماله ولا أجرة لواحد منهما لأن الأول لم يعمل والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه فأشبه الغضب وعنه : له أجرة مثله لأنه عمل في المال بشبهة المضارب فأشبه المضاربة الفاسدة ويحتمل أنه إن اشترى في الذمة كان الربح له فأما إن دفعه إلى غيره بإذن رب المال صح ويصير الثاني هو المضارب فإن شرط الدافع لنفسه شيئا من الربح لم يستحق شيئا لأن الربح يستحق بمال أو عمل وليس له واحد منهما فإن قال له رب المال : اعمل برأيك فعن أحمد رضي الله عنه : جواز دفعه مضاربة كما ذكرنا في الشركة
فصل :
إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له فهو ضمان لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن كالغاصب والربح لرب المال ولا أجرة له لأنه عمل بغير إذن أشبه الغاضب وعنه له أجرة مثله ما لم تحط بالربح كالإجارة الفاسدة وعنه : له أقل الأمرين من أجرته أو ما شرط له لأنه رضي بما جعل له فلا يستحق أكثر منه ولا يستحق أكثر من أجرة المثل لأنه لم يفعل ما جعل له الربح فيه وقال القاضي : إن اشترى في الذمة ثم نقد المال فكذلك وإن اشترى بعين المال فالشراء باطل في رواية والنماء للبائع وفي رواية يقف على إجازة المالك فإن لم يجزه فالبيع باطل أيضا وإن أجازه صح والنماء له وإن أخذ الربح كان إجازة منه للعقد لأنه دل على رضاه وفي أجرة المضارب ما ذكرناه
فصل :
ونفقة عامل على نفسه حضرا وسفرا لأنها تختص به فكانت عليه كنفقة زوجته ولأنه دخل على أن له جزءا مسمى فلم يستحق غيره كالمساقي وإن اشترط نفقته فله ذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ المؤمنون على شروطهم ] ويستحب تقديرها لأنه أبعد من الغرر فإن أطلق جاز لأن لها عرفا تنصرف إليه فأشبه إطلاق الدينار في بلد له فيه عرف قال أحمد ينفق على ما كان ينفق غير متعد بالنفقة ولا مضر بالمال وله نفقة من المأكول خاصة إلا أن يكون سفره طويلا يحتاج لى تجديد كسوة فله أن يكتسي فإن كان معه مال آخر فالنفقة على المالين بالحصص لأن النفقة للسفر والسفر لهما وإن مات لم يجب تكفينه لأنه لم يبق عاملا وإن لقيه رب المال في السفر ففسخ المضاربة فلا نفقة له لرجوعه لذلك
فصل :
وللمضاربة أن يأخذ مضاربة آخرى إذا لم يكن فيه ضرر على الأولى لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها فلم يملك عقد آخر كالوكالة فإن كانت الثانية تشغله عن الأولى لم يجز لأنه تصرف يضر به فلم يجز كالبيع بغبن فإن فعل ضم نصيبه من الربح في الثاني ربح الأول فاقتسماه لأن ربحه الثاني حصل بالمنفعة الي اقتضاها العقد الأول وإن فعل ذلك بإذن الأول جاز لأن الحق له فجاز بإذنه فإن أخذ مالين من رجلين واشترى بكل مال عبدا فاشتبها عليه ففيه وجهان :
أحدهما : يكونا شريكين فيهما كما لو اشتركا في عقد البيع
والثاني : يأخذهما العامل وعليه رأس المال لأنه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما
فصل :
وإذا دفع إليه ألفا ثم دفع إليه ألفا آخر لم يجز له ضم أحدهما إلى الآخر لأنه أفرد بكل واحد بعقد له حكم فلم يملك تغييره فإن أمره بضمهما قبل التصرف فيهما أو بعد أن نضا جاز وصارا مضاربة واحدة وإن كان بعد التصرف أن ينضا لم يجز لأن حكم ما تصرف فيه قد استقر فصار ربحه وخسرانه مختصا به فضم الآخر إليه يوجب جبر وضيعة أحدهما بربح الآخر فلم يجز
فصل :
وليس للمضارب ربح حتى يوفي رأس المال لأن الربح هو فاضل عن رأس المال فلو ربح في سلعة وخسر في أخرى جبرت الوضيعة من الربح وإن تلف بعض المال قبل التصرف فتلفه من رأس المال لأنه تلف قبل التصرف أشبه التالف قبل القبض وإن تلف بعد التصرف حسب من الربح لأنه دار في التجارة فإن اشترى عبدين بمائة فتلف أحدهما وباع الآخر بخمسين فأخذ منها رب المال خمسة وعشرين بقي رأس المال خمسين لأن رب المال أخذ نصف المال الموجود فسقط نصف الخسران ولو لم يتلف العبد وباعهما بمائة وعشرين فأخذ رب المال ستين ثم خسر العامل فيما معه عشرين فله من الربح خمسة لأن سدس ما أخذه رب المال ربح للعامل نصفه وقد انفسخت المضاربة فيه فلا يجبر به خسران الباقي وإن اقتسما العشرين الربح خاصة ثم خسر عشرين فعلى العامل رد ما أخذه وبقي المال تسعين لأن العشرة الباقية مع رب المال تحسب من رأس المال ومهما بقي العقد على رأس المال وجب جبر خسرانه من ربحه وإن قسما الربح قال أحمد : إلا أن يقبض رأس المال صاحبه ثم يرده إليه أو يحتسبها حسابا كالقبض وهو أن يظهر المال ويجئ به فيحتسبان عليه فإن شاء صاحبه قبضه ولا يكون ذلك إلا في الناض دون المتاع لأن المتاع قد يتغير سعره وأما قبل ذلك فالوضيعة تجبر من الربح ولذلك لو طلب أحدهما القسمة دون رأس المال لم يلزم الآخر إجابته لأنه لا يأمن الخسران في الثاني وإن اتفقا على قسمة أو قسم بعضه أو على أن يأخذ كل واحد منهما كل يوم قدرا معلوما جاز لأن الحق لهما ولو تبين للمضارب ربح لم يجز له أخذ شيء منه إلى بإذن رب المال
فصل :
ويملك العامل الربح بالظهور وعنه : لا يملكه لأنه لو ملكه اختص بربحه والأول المذهب لأنه يملك المطالبة بقسمه فملكه كالمشتري وإنما لم يختص بربحه لأنه وقاية من رأس المال
فصل :
ولكل واحد منهما فسخ المضاربة لأنها عقد جائز فإذا فسخ والمال عرض فاتفق على قسمه أو بيعه جاز وإن طلب العامل البيع وأبى رب المال وفيه ربح أجبر عليه لأن حقه في الربح لا يظهر عليه إلا بالبيع وإن لم يكن فيه ربح لم يجبر لأنه لا حق له فيه وإن طلب رب المال البيع وأبى العامل أجبر في أحد الوجهين لأنه يستحق عليه رد المال كما أخذه والآخر لا يجبر لأنه متصرف لغيره حكم عقد جائز فلم يلزمه التصرف كالوكيل وإن كان دينا لزم العامل تقاضيه لأن المضاربة تقتضي رد المال على صفته
فصل :
ويجوز أن يدفع المال إلى اثنين مضاربة فإن شرط لهما جزءا من الربح ولم يبين كيف هو بينهما فهو بينهما نصفين لأن إطلاق لفظ : لهما يقتضي التسوية وإن شرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر سدسه صح لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان وإن قارض اثنان واحدا بألف لهما جاز وكان بمنزلة عقدين فإذا شرطا له جزءا من الربح والباقي لهما على قدر ملكيهما فإن كان بينهما نصفين فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث والباقي بينهما نصفين فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث والباقي بينهما نصفين لم يجز لأن كل وحد منها يستحق ما بقي من الربح بعد شرطه فإذا شرطا التسوية فقد شرط أحدهما جزءا من ربح مال صاحبه بغير عمل وإن دفع إليه ألفا وقال : أضف إليها ألفا من مالك والربح بيننا لك ثلثه ولي ثلثه جاز وكان شركة وقراضا وللعامل النصف بماله والسدس بعمله وإن قال : والربح بيننا نصفين نظرنا في لفظه فإن قال : خذه مضاربه فسد لأنه جعل ربح ماله كله له وذلك ينافي مقتضى المضاربة وإن لم يقل مضاربة صح وكان إبضاعا وإن قال : ولي الثلثان فسد لأنه يشرط لنفسه جزءا من ربح مال صاحبه بغير عمل
فصل :
وإن أخرج ألفا وقال : أتجر أنا وأنت فيها والربح بيننا صح نص عليه وذكره الخرقي بقوله : أو بدنان بمال أحدهما وقال ابن حامد و القاضي : لا يصح لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل وهذا الشرط ينفي ذلك والأول أظهر لأن العمل أحد ما تتم به المضاربة فجاز انفراد أحدهما به كالمال ومقتضى المضاربة إطلاق التصرف في المال والمشاركة في الربح وهذا لا ينفيه فإن شرط المضارب أن يعمل معه غلام رب المال فهو أولى بالجواز لأن عمل الغلام يصح أن يكون تابعا لعمل العامل كالحمل على بهيمته وقال القاضي : لا يجوز لأن يد العبد كيد سيده
فصل :
والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد لأنه متصرف في المال بإذن المالك لا يختص بنفعه فأشبه الوكيل والقول قوله فيما يدعيه من تلف أو يدعي عليه من جناية لذلك إن قال : هذا اشتريته لنفسي أو للمضاربة أو اختلفا في نهي رب المال له عن شرائه فالقول قوله لأن الأصل عدم النهي وهو أعلم بنيته في الشراء وإن اختلفا في رد المال فالقول قول المالك لأنه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وإن اختلفا فيما شرط له من الربح ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول المالك لأن الأصل عدم ما اختلفا فيه
والثانية : إن ادعى العامل أجرة المثل أو قدرا يتغابن الناس به فالقول قوله لأن الظاهر صدقه وإن ادعى أكثر فالقول قول المالك لأن الظاهر صدقة فأشبها الزوجين إذا اختلفا في المهر
فصل :
وإن أقر بربح ثم قال : خسرته أو تلف قبل قوله وإن قال : غلطت أو نسيت لم يقبل لأنه مقر بحق لآدمي فلم يقبل رجوعه كالمقر بدين ولو اقترض العامل شيئا تمم به رأس المال ثم عرضه على رب المال فأخذه لم يقبل رجوع العامل ولم يملك المقرض مطالبة رب المال لأن العامل ملكه بالقرض وأقر به لرب المال ويرجع المقرض على العامل
فصل :
فإن قال المالك : دفعت إليك المال قرضا قال : بل قرضا أو بالعكس أو قال : غصبتنيه قال : بل أودعتنيه أو بالعكس أو قال : أعرتكه قال : أجرتنيه أو بالعكس فالقول قول المالك لأنه ملكه فالقول قوله في صفة خروجه عن يده وإن قال المضارب : شرطت لي النفقة فأنكره فالقول قول رب المال لأن الأصل عدمه وإن اتفقا على الشرط فقال المضارب : إنما أنفقت من مالي فالقول قوله لأنه أمين فقبل قوله في الإنفاق كالوصي وله الرجوع سواء كان المال في يده أو لم يكن
فصل :
وإن اشترى رب المال شيئا من مال المضاربة لم يصح في إحدى الروايتين لأنه ملكه فلم يجز له شراؤه كماله الذي مع وكيله والثانية : يصح لأنه قد تعلق به حق غيره فأشبه مال مكاتبه ويصح أن يشتري المضارب من مال المضاربة لنفسه لأنه ملك غيره فصح شراؤه له كشراء الوكيل من موكله ولا يصح شراء السيد من عبده المأذون لأنه ماله ويحتمل أن يصح إذا ركبته الديون وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة بطل في نصيبه وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة ويحتمل أن يصح في الجميع بناء على شراء رب المال من مال المضاربة وإن استأجر أحد الشريكين من شريكه دارا ليحرز فيها مال الشركة أو غرائر صح نص عليه وإن استأجره أو غلامه أو دابة لنقل المتاع ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز قياسا على الدار
والثانية : لا يجوز لأن الحيوان لا تجب له الأجرة إلا بالعمل ولا يمكن إبقاؤه في المشترك لعدم تميز نصيب أحدهما من الآخر بخلاف الدار فإن الواجب موضع العين من الدار فيمكن تسليم العقود عليه
فصل :
ولا يجوز قسمة الدين في الذمم لأنها لا تتكافأ والقسمة بغير تعديل بيع ولا يجوز بيع دين بدين وعنه : يجوز لأن الاختلاف لا يمنع القسمة قياسا على اختلاف الأعيان ولا يمكن قسمة الدين في ذمة واحدة لأن معناها إفراز الحق ولا يتصور في ذمة واحدة
فصل :
إذا كان لاثنين دين في ذمة رجل بسبب واحد فقبض أحدهما منهم شيئا فهو بينهما إذ لا يجوز أن يكون المقبوض نصيب من قبضه لما فيه من قسمة الدين في ذمة واحدة وللشريك القابض مطالبته بنصيبه منه لذلك وله مطالبة الغريم لأنه لم يبرأ من حقه بتسليمه إلى غيره بغير إذنه ومن أيهما أخذ لم يرجع على الآخر لأنه حقه ثبت في أحد المحلين فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الآخر وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ولم يضمنه للغريم لأنه قدر حقه فما تعدى بالقبض وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته مشتركا وإن أبرأ أحدهما الغريم برئ من نصيبه ولم يرجع عليه الآخر بشيء لأنه كتلفه وإن أبرأه من نصف حقه ثم قبضا شيئا اقتسماه أثلاثا وإن أخر أحدهما حقه جاز لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى وإن اشترى بنصيبه شيئا فهو كما لو اشترى بعين مال مشترك بينهما وإن كان الحق ثابتا بسببين كعقدين أو إتلافين فلا شركة بينهما ولك واحد استيفاء حقه مفردا فلا يشاركه الآخر فيه
فصل :
إذا ملكا عبدا فباعه أحدهما بأمر الآخر فادعى المشتري أنه قبض ثمنه فأنكر البائع وصدقه الآخر برئ من نصف ثمنه لاعتراف صاحبه بقبض وكيله له والقول قول البائع مع يمينه في أنه لم يقبض لأن الأصل عدمه ولا تقبل شهادة شريكه عليه لأن له فيها نفعا فإذا حلف قبض نصيبه من المشتري ولم يشاركه شريكه فيه لأنه يدعي أنه يأخذه ظلما وإن كان البائع ادعى أن شريكه قبض الثمن كله فأنكر لم تبرأ ذمة المشتري لأنه لم يوكله في القبض وليس للبائع مطالبة المشتري بأكثر من نصيبه لاعترافه بأن ذمته برئت من نصيب صاحبه فإذا قبض نصيبه فلصاحبه مشاركته فيه لأن دينهما واحد فإذا رجع عليه لم يكن للمقبوض منه مطالبة المشتري بشيء آخر لاعترافه بقبضه لجميع حقه وأن ما يأخذه صاحبه منه ظلم ويحتمل أنه ليس لصاحبه مشاركته لأنه ملك لاثنين وعقد الواحد مع الاثنين كعقدين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10