كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد

باب قطع النفقة
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها فسخ النكاح لقول الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقد تعذر الإمساك بالمعروف فيتعين التسريح بإحسان وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم : يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنه إذا ثبت لها الفسخ لعجزه عن الوطء فلأن يثبت بالعجز عن النفقة أولى لأن الضرر فيه أكثر وإن أعسر ببعضها فلها الفسخ لأن البدن لا يقوم بدونها وإن أعسر بكسوة المعسر فلها الفسخ لأن البدن لا يقوم بدونها فأشبهت القوت وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر فلا خيار لها لأنها تسقط بإعساره ولأن البدن يقوم بدونها ومن لم يجد إلا قوت بيوم فليس بمعسر بالنفقة لأن هذا هو الواجب وإن كان يجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعيشها فلا خيار لها لأنها الأصل إلى كفايتها وإن كان يجد قوت يوم دون يوم فلها الخيار لأنها لا تصل إلى كفايتها وإن كان صانعا يعمل في كل أسبوع ثوبا يكفيه ثمنه للأسبوع كله فلا خيار لها لأنها تصل إلى كفايتها ومتى عازه أمكنه الاقتراض ثم يقضيه فلا تنقطع النفقة فإن كانت نفقته من عمل عجز عنه لمرض مرجو الزوال أو غيبة ماله وأمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وفعل فلا خيار لها وإن عجز عن الاقتراض وكان العارض يزول في ثلاثة أيام فما دون فلا خيار لها لأن ذلك قريب وإن كثر فلها الفسخ لأن الضرر يكثر وإن أعسر بالمسكن فيه وجهان :
أحدهما : لا خيار لها لأن البدن يقوم بدونه
والثاني : لها الخيار لأنه مما لا بد منه أشبه النفقة والكسوة
فصل :
فإن منع النفقة من يساره وقدرت له على مال أخذت منه قدر كفايتها بالمعروف لما روي أن هندا جاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه وإن منعها بعض الكفاية فلها أخذه للخبر ولها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير للخبر فإن وجدت من جنس الواجب لها أخذته وإن لم تجد أخذت بقدره من غيره متحرية للعدل في ذلك فإن لم تجد ما تأخذه رفعته إلى الحاكم ليأمره بالإنفاق أو الطلاق فإن أبى حبسه فإن صبر على الحبس وقدر الحاكم على ماله أنفق منه وإن لم يجد إلا عروضا باعها وأنفق منها فإن تعذر ذلك فلها الفسخ لما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه إذا ثبت الفسخ مع العذر دفعا للضرر فمع عدمه أولى وإن كان الزوج غائبا كتب الحاكم إليه كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم فإن لم يعلم خبره أو تعذرت النفقة منه ولم يوجد له مال فلها الفسخ لما ذكرنا وهذا اختيار الخرقي و أبي الخطاب وذكر القاضي : أن الفسخ لا يثبت مع اليسار لأن الخيار لعيب الإعسار ولم يثبت ذلك وما ذكرناه أصح فإن الإعسار ليس بعيب وإنما الفسخ لدفع الضرر وهما فيه سواء ومن كان له دين يتمكن من استيفائه فهو كالموسر لأنه قاد عليه وإن لم يتمكن من استيفائه فهو كالمعدوم لأنه عاجز عنه
فصل :
فإن كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة فأراد أن يحتسب به عليها وهي موسرة فله ذلك لأن له أن يقضي دينه من أي ماله شاء وهذا منه وإن كانت معسرة لم يملك ذلك لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية ولا فضل لها
فصل :
ومتى ثبت لها الفسخ فرضيت بالمقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من القوت والأدم والكسوة والمسكن والخادم تطالبه بها إذا أيسر لأنها حقوق واجبة عجز عنها فثبتت في ذمته كالدين وقال القاضي : لا يثبت في ذمته شيء قياسا على الزائد عن نفقة المعسر والفرق ظاهر فإن الزائد غير واجب على معسر وهذا معسر بخلاف هذا ولا يلزمها التمكين من الاستمتاع ولا الإقامة في منزله لأن ذلك في مقابلة النفقة فلا يجب مع عدمها ومتى عن لها الفسخ فلها الفسخ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم فيتجدد حق الفسخ ولو تزوجت معسرا عالمة بإعساره ثم بدا لها الفسخ لعسرته فلها الفسخ لما ذكرنا وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه ليس لها الفسخ في الموضعين لأنها رضيت بعيبه فأشبه امرأة العنين إذا رضيت بعنته
فصل :
وإن اختارت الفسخ لم يجز لها ذلك إلا بحكم حاكم لأنه مختلف فيه فلم يجز بغير الحاكم كالفسخ بالعنة ولها المطالبة بالفسخ بالحال لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع لفلس المشتري
فصل :
وإن أعسر زوج الأمة فلم تختر الفسخ لم يكن لسيدها الفسخ لأن الحق لها فلم يكن له الفسخ كالفسخ للعنة وإن أعسر زوج الصغيرة والمجنونة فليس لوليها الفسخ لأنه فسخ لنكاحهما فلم يملكها وليهما كالفسخ للعيب وحكي عن القاضي : أن لسيد الأمة الفسخ لأن الضرر عليه ويحتمل أن يملك ولي الصغيرة والمجنونة الفسخ لأنه فسخ لفوات العوض فملكه كفسخ البيع لتعذر الثمن
فصل :
وإذا وجد التمكين الموجب للنفقة فلم ينف حتى مضت مدة صارت النفقة دينا في ذمته سواء تركها لعذر أو غيره لحديث عمر ولأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة قلم يسقط بمضي الزمان كالصداق وإن أعسر بقضائها لم تملك الفسخ لأنها دين يقوم البدن بدونه فأشبهت دين القرض وعنه : لا يثبت في الذمة وتسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها لأنها نفقة توجب يوما بيوم فإذا لم يفرضها الحاكم سقطت بمضي الزمن كنفقة الأقارب فعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ليس مآلها إلى الوجوب وعلى الرواية الأولى يصح ضمان ما وجب منها وما يجب في المستقبل لأن مآله إلى الوجوب
فصل :
وإذا ادعى الزوج أنه دفع إليها نفقتها فأنكرته فالقول قولها مع يمينا لأن الأصل عدم القبض وإن مضت مدة لم ينفق فيها فادعت أنه كان موسرا فأنكرها ولم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدمه وإن عرف له مال فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن ادعت التمكين الموجب للنفقة فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدمه وإن قالت : فرض الحاكم نفقتي منذ سنة فقال : بل منذ شهر فالقول قوله كذلك وإن ادعى نشوزها فأنكرته فالقول قولها كذلك وإن طلقها طلقة رجعية وكانت حاملا فقال الزوج : طلقتك قبل الوضع فانقضت عدتك به وقالت : بل بعده لم يبق له رجعة لإقراره بانقضاء عدتها ولزمتها العدة لإقرارها بها والقول قولها مع يمينها في وجوب نفقتها لأن الأصل بقاؤها

باب نفقة الأقارب
وهما صنفان : عمود النسب وهم الولدان وإن علوا والولد وولده وإن سفل فتجب نفقتهم لقول الله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } ومن الإحسان الإنفاق عليهما وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] وقال الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فثبتت نفقة الوالدين والولد بالكتاب والسنة وثبتت نفقة الأجداد وأولاد الأولاد لدخولهم في اسم الآباء والأولاد قال الله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } وقال تعالى : { يا بني آدم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم في الحسين : [ إن ابني هذا سيد ] وسواء كان وارثا أو غير وارث لأن أحمد قال : لا تدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن ابني هذا سيد ] وإذا منع دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب أن تلزمه نفقتهم وذكر القاضي ما يدل على هذا وذكر في موضع آخر أنه لا تجب النفقة إلى على وارث وهو ظاهر قول الخرقي وغيره من أصحابنا
الصنف الثاني : كل مورث سوى من ذكرنا وسوى الزوج لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } إلى قوله : { وعلى الوارث مثل ذلك } فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي فيجب أن تلزمه نفقته وروي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أبر ؟ قال : [ أمك وأبوك وأختك وأخوك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصول ] رواه أبو داود وقضى عمر رضي الله عنه على بني عم منفوس بنفقته ولأنها قرابة تقتضي التوريث فتوجب الإنفاق كقرابة الولد
فصل :
فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فلا نفقة عليهم في المنصوص لعدم النص فيهم وامتناع قياسهم على المنصوص لضعف قرابتهم ويتخرج وجوبها عليهم لأنهم يرثون في حال فتجب النفقة عليهم في تلك الحال وإن كان الوارث غير موروث كالمعتقة وعم المرأة وابن عمها وابن أخيها والمعتق وجب عليهم الإنفاق في المنصوص لأنهم وارثون فيدخلون في العموم وعنه : لا نفقة عليهم لأنهم غير مورثون أشبهوا ذوي الأرحام
فصل :
ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط :
أحدها : فقر من تجب نفقته فإن استغنى بمال أو كسب لم تجب نفقته لأنها تجب على سبيل المواساة فلا تستحق مع الغنى عنها كالزكاة وإن قدر على الكسب من غير حرفة ففيه روايتان :
إحداهما : لا نفقة له لأنه يستغني بكسبه أشبه المحترف
والثانية : له النفقة لأنه لا مال له ولا حرفة أشبه الزمن
الثاني : أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح ولأن نفقة القريب مواساة فيجب أن تكون الفاضل عن الحاجة الأصلية ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية وكذلك نفقة زوجته لأنها تجب لحاجته فأشبهت نفقة نفسه وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته تقدم كذلك
الثالث : اتفاقهما في الدين والحرية فلا يجب على الإنسان الإنفاق على من ليس على دينه لأنه لا ولاية بينهما ولا يرث أحدهما صاحبه لأنها تجب على سبيل المواساة والصلة فلمن تجب له مع اختلاف الدين كالزكاة وعنه في عمودي النسب : أنها تجب مع اختلاف الدين لأنهم يعتقون عليه فينفق عليهم كما لو اتفق دينهما وأما العبد فلا نفقة عليه لأنه لا شيء له يواسي به فلا تجب نفقته على قريبه لأن نفقته على سيده ولأنه لا توارث بينهما ولا ولاية فلم ينفق أحدهما على صاحبه كالأجانب
فصل :
ولا يشترط في وجوب النفقة نقصان الخلقة بزمانة أو صغر أو جنون لعموم الخبر وعن أحمد أنه يشترط ذلك في غير الوالدين لأن من علم ذلك فيه في مظنة التكسب فكان في مظنة الغنى ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب النفقة عليه بل يجب على الصبي والمجنون نفقة قريبهما إن كانا موسرين لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما كأرش جنايتهما
فصل :
ومن كان له أب لم تجب نفقته على غيره لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقوله سبحانه : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وأمر النبي صلى الله عليه و سلم هندا : أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم فإن لم يكن لهم أب لم يكن له إلا وارث واحد فالنفقة عليه وإن كان له وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما فإذا كان لهم أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة وعلى الجد الثلثان وإن كان له جدة وأخ فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ وإن كان له أخوان أو أختان فالنفقة عليهما نصفين وإن كان له أخ وأخت فالنفقة عليهما أثلاثا وإن كان له أخت وأم فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة وعلى الأم الخمسان لأنه مال يستحق بالقرابة فكان على ما ذكرناه كالميراث وإن كان له من الورثة ثلاثة أو أكثر فنفقته عليهم على قدر إرثهم لما ذكرنا وإن اجتمع أم أم وأبو أم فالنفقة على أم الأم لأنها الوارثة
فصل :
ومن كان وارثه فقيرا وله قريب موسر محجوب به كعم معسر وابن عم موسر وأخ فقير وابن أخ موسر فلا نفقة عليهما ذكره القاضي و أبو الخطاب لأنه علة الوجوب الإرث فيسقط بحجبه كما يسقط ميراثه وإن كانا من عمودي النسب كأب معسر وجد موسر فالنفقة على الجد لأن وجوب النفقة عليه لقرابته وهي باقية مع الحجب ويحتمل أن يجب الإنفاق على الموسرة في التي قبلها لأن الموجب للنفقة القرابة الموجبة للميراث لا نفس الميراث وهي موجودة مع الحجب ووجود المعسر كعدمه
فصل :
ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة بدأ بالأقرب فالأقرب لأنه أولى فإذا كان له أب وجد فالنفقة للأب وإن كان له ابن وابن ابن فهي للابن وإن اجتمع أب وابن صغير أو زمن فالنفقة للابن لأن نفقته وجبت بالنص وإن كان كبيرا ففيه ثلاث أوجه :
أحدها : يقدم الابن كذلك
والثاني : يقدم الأب لأن حرمته آكد
والثالث : هما سواء لتساويهما في القرب لأن كل واحد يدلي بنفسه وإن اجتمع أبوان ففيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : هما سواء لتساويهما في القرابة
والثاني : الأم الأحق لما روي أن رجلا قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : [ أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أباك ]
والثالث : الأب لأنه ساواه في القرابة وهي الولادة وانفرد بالتعصيب وإن اجتمع أخ وجد احتمل أن يقدم الجد لأنه آكد حرمة وقرابته قرابة ولادة ولهذا لا يقاد به ويحتمل تساويهما لتساويهما في التعصيب والإرث وإن كان مع الجد عم أو ابن عم قدم الجد لتقديمه في الحرمة والإرث ولأنهما يدليان به فقدم عليهما كالأب مع الأخ
فصل :
وعلى المعتق نفقة عتيقه إذا وجدت الشروط لأنه وارثه ولا نفقة للمعتق على عتيقه لأنه لا يرثه
فصل :
وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية لأنها لا تجب للحاجة فيجب ما تندفع به وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته لأنه من تمام الكفاية وعنه : لا يلزم الرجل نفقة زوجة ابنه فعلى هذه الرواية لا يلزمه نفقة غير القريب لأن الواجب نفقته لا نفقة غيره
فصل :
ويلزمه إعفاف أبيه وجده وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك لأنه يحتاج إليه ويضره فقده فأشبه النفقة وهو مخير بين أن يزوجه حرة أو يسريه بأمة ولا يجوز أن يزوجه أمة لأنه بوجوب إعفافه يستغني عن الأمة ونكاحها ولا يعفه بعجوز ولا قبيحة لأن القصد الاستمتاع ولا يحصل ذلك بهما وإن أعفه بزوجة فطلقها أو بأمة فأعتقها لم يلزمه إعفافه ثانيا لأنه ضيع على نفسه وإن أعفه بأمة فاستغنى عنها لم يملك استرجاعها لأنه دفعها إليه في حال وجوبها عليه فم يملك استرجاعها كالزكاة ويجيء على قول أصحابنا : أن يلزمه إعفاف كل من لزمه نفقته لأنه من تمام كفايته فأشبه النفقة
فصل :
وإن احتاج الطفل إلى الرضاع لزمه إرضاعه لأن الرضاع من حق الصغير كنفقة الكبير ولا يجب إلا في حولين لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فإن امتنعت الأم من رضاعه لم تجبر سواء كانت في حبال الأب أو مطلقة لقول الله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ولأنها لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب فلا تجبر على الرضاع إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه فيلزمها إرضاعه كما لو لم يكن له أحد غيرها ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة أو بأجرة مثلها فهي أحق به سواء وجد الأب متبرعة برضاعه أو لم يجد لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } إلى قوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقوله سبحانه : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولأنها أحق بحضانته فوجب تقديمها وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها لم يلزمه ذلك ويسقط حقها لأنها أسقطته باشتطاطها ولأن ما لا يوجد بثمن المثل كالمعدوم مثل الرقبة في الكفارة وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل فمنعها زوجها من الرضاع سقط حقها وإن أذن لها فهي على حقها من ذلك
فصل :
وتفارق نفقة القريب نفقة الزوجة في أربعة أشياء :
أحدها : أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار لأنها بدل فأشبهت الثمن في المبيع ونفقة القريب مواساة فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو }
الثاني : أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي لما ذكرنا ونفقه القريب لا تجب لما مضى لأنها وجبت لإحياء النفس وتزجية الحال وقد حصل ذلك في الماضي بدونها
الثالث : إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها أو كسوة عامها فمضت المدة ولم تتصرف فيها فعليه ما يجب للمدة الثانية والقريب بخلاف ذلك
والرابع : أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب ليومها أو لعامها فسرق أو تلف لم يلزمه عوضه والقريب بخلافه لما ذكرنا

باب الحضانة
إذا افترق الزوجان وبينهما طفل أو مجنون وجبت حضانته لأنه إن ترك ضاع وهلك فيجب إحياؤه وأحق الناس بالحضانة الأم لأن أبا بكر الصديق قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمه أم عاصم وقال لعمر : [ ريحها وشمها ولطفها خير له منك ] رواه سعيد واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر فكان إجماعا ولأن الأم أقرب وأشفق ولا يشاركها في قربها إلا الأب وليس له شفقتها ولا يلي الحضانة بنفسه فإن عدمت الأم أو لم تكن من أهل الحضانة فأحقهم بها أمهاتها الأقرب فالأقرب لأنهن أمهات ولا يشاركهن إلا أمهات الأب وهن أضعف منهن ميراثا ثم الأب لأنه أحد الأبوين ثم أمهاته وإن علون ثم الجد ثم أمهاته وعنه : أن أمهات الأب أولى من أمهات الأم لأنهن يدلين بعصبة فعلى هذا يكون الأب بعد الأم ثم أمهاته ثم أمهات الأم وعنه : أن الخالة والأخت من الأم أحق من الأب لقوله عليه السلام : [ الخالة أم ] فعلى هذا الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما لأنها أدلت بالأم وزادت بقرابة الأب والأول المشهور في المذهب فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت إلى الأخت من الأبوين ويحتمل أن ينتقل إلى الأخ لأنه عصبة والأول أولى لأنها امرأة فتقدم على من في درجتها من الذكور كالأم والجدة ولأنها تلي الحضانة بنفسها ثم الأخت من الأب لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين وترث ميراثها ثم الأخت من الأم لأنها ركضت معها في الرحم ثم الأخ للأبوين ثم الأخ للأب ثم بنوهم كذلك فإذا انقرض الأخوة والأخوات فالحضانة للخالات ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات لأنهن يدلين بعصبة فقدمن كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم والأولى أولى لأنهن استوين في عدم الميراث فكان من يدلي بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات ولأن الخالة أم ثم العمات وتقدم التي من الأبوين ثم التي من الأب ثم التي من الأم ثم الأعمام ثم بنوهم
فصل :
وللرجال من العصبات حق في الحضانة بدليل ما روي أن عليا وجعفرا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة بنت حمزة فقال علي : بنت عمي وعندي بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال زيد بن حارثة : بنت أخي لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بين زيد وحمزة وقال جعفر : بنت عمي وعندي خالتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الخالة أم ] وسلمها إلى جعفر رواه أبو داود إلا أن العم لا حضانة له في جارية لأنه ليس بمحرم لها فلا تسلم إليه وأولادهم بالحضانة أولادهم بالميراث فأما الرجال من ذوي الأرحام كالأخ من الأم والخال وأبي الأم والعم من الأم فلا حضانة لهم مع أحد من أهل الحضانة لأنهم لا يحضنون بأنفسهم وليس لهم قرابة قوية يستحقون بها ولا حضانة لمن يدلي بهم من النساء لأنه إذا لم يثبت لهم حضانة فمن أدلى بهم أولى فإن عدم أهل الحضانة احتمل أن تنتقل إليهم لأنهم يرثون عند عدم الوارث فكذلك يحضنون عند عدم من يحضن واحتمل أن لا يثبت لهم حضانة وتنتقل إلى الحاكم لما ذكرناه أولا
فصل :
ولا حضانة لرقيق لعجزه عنها بخدمة المولى ولا لمعتوه لعجزه عنها ولا لفاسق لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته ولا لكافر على مسلم كذلك ولا للمرأة إذا تزوجت أجنبيا من الطفل لما روى عبد الله بن عمر بن العاص : أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت أحق به ما لم تنكحي ] رواه أبو داود ولأنها تشتغل عن الحضانة بالاستمتاع و قد روي ههنا عن أحمد : إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها قيل له : فالجارية مثل الصبي ؟ قال : لا الجارية تكون معها إلى سبع سنين لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل بنت حمزة عند خالتها إلى سبع وهي مزوجة والأول : المذهب وإنما تركت بنت حمزة عند خالتها لأن زوجها من أهل الحضانة
وإن تزوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة كالجدة المزوجة بالجد لم تسقط حضانتها لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردا فمع اجتماعهما أولى ومتى زالت الموانع منهم مثل أن طلقت المرأة المزوجة أو عتق الرقيق أو عقل المعتوه أو أسلم الكافر أو عدل الفاسق عاد حقهم من الحضانة لأنه زال المانع فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع
فصل :
ومن ثبتت له الحضانة فتركها سقط حقه منها وهل يسقط حق من يدلي به ؟ على وجهين :
أحدهما : يسقط لأنه فرع عليه فإذا سقط الأصل سقط التبع
والثاني : لا يسقط لأن حق القريب سقط لمعنى اختص به فاختص السقوط به كما لو سقط لمانع فعلى هذا إذا تركت الأم الحضانة فهي لأمها وعلى الأول : تنتقل إلى الأب وإذا استوى اثنان من أهل الحضانة كالأختين والعمتين أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قدم لأنهما استويا من غير ترجيح فقدم أحدهما بالقرعة كالعبدين في العتق والزوجتين في السفر بإحداهما
فصل :
وإذا بلغ الغلام سبعا وهو غير معتوه خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما لما روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت ] فأخذ بيد أمه فانطلقت به فإن لم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة لأنهما تساويا وتعذر الجمع فصرنا إلى القرعة وإن اختار الأم أو صار لها بالقرعة كان عندها ليلا ويأخذه الأب نهارا ليسلمه في مكتب أو صناعة لأن القصد حظ الولد وحظه فيما ذكرنا وإن اختار أباه كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيارة أمه لما فيه من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه لأنه صار كالصغير في حاجته إلى من يقوم بأمره وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضروه عنده لما ذكرنا وإن اختار أحدهما ثم عاد فاختار الآخر سلم إليه ثم إن اختار الأول رد إليه لأن هذا اختيار تشه وقد يشتهي أحدهما في وقت دون وقت فأتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب وإن لم يكن له أب خير بين أمه وعصبته لما روى عامر بن عبد الله قال : خاصم عمي أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي رضي الله عنه فخيرني علي ثلاث مرات فاخترت أمي فدفعني إليها
فصل :
وإذا بلغت الجارية سبعا تركت عند الأب بلا تخيير لأن حظها في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى الحفظ والأب أولى به ولأنها تقارب الصلاحية للتزويج وإنما تخطب من أبيها لأنه وليها والمالك لتزويجها وتكون عنده ليلا ونهارا لأن تأديبها وتخريجها في البيت ولا تمنع الأم من زيارتها من غير أن يخلو بها الزوج ولا تطيل ولا تتبسط لأن الفرقة بين الزوجين تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها لما ذكرناه في الغلام وإن مرضت الأم لم تمنع الجارية من عيادتها لما ذكرنا
فصل :
وإن كان الولد بالغا رشيدا فلا حضانة عليه والخيرة إليه في الإقامة عند من شاء منهما وإن أراد الانفراد وهو رجل فله ذلك لأنه مستغن عن الحضانة ويستحب ألا ينفرد عنهما ولا يقطع بره لهما لقول اله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } وإن كانت جارية فلأبيها منعها من الانفراد لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين
فصل :
وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر والآخر الإقامة والطريق أو البلد الذي يسافر إليه مخوف أو كان السفر لحاجة ثم يعود فالمقيم أحق بالولد لأن في السفر ضررا وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له ومشقة عليه وإن كان السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن فالأب أحق بالولد لأنه كونه مع أبيه أحفظ لنسبه وأحوط عليه وأبلغ في تأديبه وتخريجه وإن انتقلا جميعا فالأم على حقها من الحضانة وإن كانت النقلة إلى مكان قريب بحيث يمكن الأب رؤيتهم كل يوم فالأم على حضانتها لأن مراعاة الأب له ممكنة وإن كان أبعد من ذلك فظاهر كلام أحمد : انقطاع حق أمه من الحضانة لعجز الأب عن مراعاة ولده فهو كالسفر البعيد وقال القاضي : إن كان دون مسافة القصر فالأم على حضانتها لأنه في حكم القريب

باب نفقة المماليك
ويجب على الرجل نفقة مملوكه مما لا غنى عنه وكسوته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف في العمل ما لا يطيق ] متفق عليه ويجب نفقته من قوت بلده لأن المتعارف والمستحب أن يطعمه مما يأكل ويكسوه مما يلبس لما روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه ] متفق عليه وإن ولي طعامه استحب له أن يطعمه منه لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي دخانه وحره ] رواه البخاري وهو مخير بين أن يجعل نفقته في كسبه وبين أن ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه أو يجعله برسم خدمته لأن الكل خدمته فإن جعل نفقته في كسبه وكان وفق الكسب فحسن وإن كان في الكسب فضل فهو لسيده وإن كان فيه عوز فعلى سيده تمامه ويستحب التسوية بين عبيده وإمائه في النفقة والكسوة ويجوز له التفضيل وإن كان في بعض إمائه من يعدها للتسري فلا بأس بزيادتها في الكسوة لأن ذلك هو العادة
فصل :
وعلى السيد إعفافه إذا طلب ذلك فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب ذلك وإن طلبت الأمة التزويج وكان يستمتع بها لم يجبر على تزويجها لأنه يكفيها وعليه في تزويجها ضرر وإن لم يستمتع بها لزمه إجابتها أو بيعها وإن كان لعبده زوجة مكنه من الاستمتاع بها ليلا لأنه إذنه في النكاح تضمن إذنه في الاستمتاع
فصل :
ولا يجوز أن يكلفه في العمل ما يغلبه أو يشق عليه للخبر وإن سافر به أركبه عقبة ولا يجبر العبد على المخارجة لأنه معاوضة فلم يجبر عليها كالكتابة وإن طلب العبد ذلك لم يجبر عليه المولى كذلك وإن اتفقا عليها وله الكسب جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا عنه من خراجه وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة حل فلم يجز وإن مرض العبد أو الأمة أو زمنا أو عميا لزمه نفقتهما لأن نفقتهما بالملك وهو موجود
فصل :
وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه لأن فيه إضرارا بولدها واللبن مخلوق له فوجب أن يقدم فيه على غيره
فصل :
ومن ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعا فدخلت النار فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض ] متفق عليه ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق لأنه إضرار بها فمنع منه كترك الإنفاق ولا يحلب منها إلا ما فضل عن ولدها لأنها غذاء للولد فلم يملك منعه منه فإن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على بيعها فإن أبى اكتريت وأنفق عليها فإن أمكن وإلا بيعت كما يزال ملكه عن زوجته إذا أعسر بنفقتها بلغت القراءة والحمد لله رب العالمين

كتاب الجنايات
قتل الآدمي بغير حق محرم وهو من الكبائر إذا كان عمدا لقول الله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } الآية ويوجب القصاص لقول الله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } الآية وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدى ] متفق عليه
فصل :
والقتل على ثلاثة أضرب عمد وهو : أن يقصده بمحدد أو ما يقتل غالبا فيقتله
والثاني : الخطأ وهو : أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله فلا قصاص فيه لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ] ولأن القصاص عقوبة فلا تجب بالخطأ كالحد
والثالث : خطأ العمد وهو أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالبا فيقتله فلا قصاص فيه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ] رواه أبو داود ولأنه لم يقصد القتل فلا تجب عقوبته كما لا يجب حد الزنا بوطء الشبهة
فصل :
يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط :
أحدها : العمد لما ذكرنا
والثاني : كون القاتل مكلفا فلا يجب على صبي لا مجنون ولا نائم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] ولأنه عقوبة مغلظة فلم تجب عليهم كالحد فإن وجب عليه القصاص ثم جن لم يسقط لأنه حق لآدمي فلم يسقط بجنونه كسائر الحقوق
فصل :
الثالث : أن يكون المقتول مكافئا للقاتل وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكرا كان أو أنثى ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم ذكرا كان أو أنثى تساوت قيمتاهما أو اختلفتا وعنه : لا يجري القصاص بين العبيد إلا أن تتساوى قيمتهم لأنه بدل مال فيعتبر فيه التساوي كالقيمة والأول : الصحيح لقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ولأنه قصاص فلا يعتبر فيه التساوي في القيمة كالأحرار وعن أحمد : أن الرجل إذا قتل المرأة يدفع إليه نصف ديته لأن ديتها نصف ديته و المذهب خلاف هذا لما روى عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن : أن الرجل يقتل بالمرأة رواه النسائي ولأنه قصاص واجب فلم يوجب رد شي كقتل الجماعة بالواحد
ويقتل الحر الذمي بالحر الذمي والعبد الذمي بمثله لأنهم تساووا فأشبهوا المسلمين ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر والمرتد بالذمي لأنه إذا قتل بمثله فبمن هو أعلى منه أولى
فصل :
ولا يقتل مسلم بكافر لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مسلم بكافر ] رواه النسائي ووافقه على آخره البخاري
ولا يقتل حر بعبد لقول الله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } فيدل على أنه لا يقتل به الحر وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : من السنة ألا يقتل حر بعبد وإن قتل ذمي حر عبدا مسلما فعليه قيمته ويقتل لنقضه العهد
فصل :
والاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب لأنه عقوبة على جناية فاعتبر بحالة الوجوب كالحد فلو قتل ذمي ذميا ثم أسلم القاتل أو جرح ذمي ذميا ثم اسلم الجارح ومات المجروح أو قتل عبد عبدا أو جرحه ثم عتق الجارح ومات المجروح وجب القصاص لأنهما متكافئان في حال الجناية ولأن القصاص قد وجب فلا يسقط بما طرأ كما لو جن
وإن جرح مسلم ذميا أو جرح عبدا ثم أسلم المجروح وعتق ومات لم يجب القصاص لعدم التكافؤ في حال الوجوب وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد أو حربي ثم أسلم ومات فلا قود ولا دية لأنه لم يجن على معصوم وإن قطع مسلم يد مسلم فارتد المجروح ومات فلا قصاص في النفس لأنه حال الموت مباح الدم وفي اليد وجهان :
أحدهما : يجب القصاص فيها لأن التكافؤ بينهما موجود في حال قطعها
والثاني : لا قصاص فيها لأننا تبينا أن قطعها قبل ولم يوجب القتل فلا يوجب غيره ولأن الطرف تابع للنفس فسقط تبعا لسقوط القصاص فيها وإن جرح مسلم مسلما فارتد المجروح ثم أسلم ومات وجب القصاص نص عليه لأنهما متكافئان حال الجناية والموت أشبه ما لو لم يرتد وذكر القاضي وجها آخر أنه إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية فلا قصاص لأن السراية في حالة الردة لا توجب فقد مات من جرح موجب وسراية غير موجبة فلا توجب كما لو قتله بجرحين خطأ وعمد
فصل :
ولا قصاص على قاتل حربي لقول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ولا على قاتل مرتد كذلك ولأنه مباح الدم أشبه الحربي ولا على قاتل زان محصن كذلك وسواء كان القاتل مسلما أو ذميا فإن قتل من عرفه مرتدا وكان قد أسلم ولا يعلم إسلامه ففيه وجهان :
أحدهما : لا قصاص عليه لأنه لم يقصد قتل معصوم فلم يلزمه قصاص كما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا بعد أن أسلم
والثاني : عليه القصاص لأنه قتل مكافئا عدوانا عمدا والظاهر أنه لا يخلى في دار الإسلام إلا بعد إسلامه بخلاف من في دار الحرب وإن قتل من يعرفه ذميا أو عبدا وكان قد أسلم وعتق فعليه القصاص لأنه قصد قتل معصوم وهو مكافئ له فأشبه من علم حاله
فصل :
الشرط الرابع : انتفاء الأبوة فلا يقتل والد بولده وإن سفل والأب والأم في هذا سواء وعنه : ما يدل على أن الأم تقتل بولدها والمذهب : الأول لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يقتل والد بولده ] رواه ابن ماجة ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب والجد والجدات من قبل الأب ومن قبل الأم وإن علوا يدخلون في عموم الخبر ولأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية
فصل :
وإذا ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل لحوق نسبه بأحدهما فلا قصاص فيه لأن كل واحد يجوز أن يكون أباه ويجوز أن يكونا أبويه وإن رجع أحدهما عن الدعوة أو ألحقه القافة بغيره انقطع نسبه وعليه القصاص لأنه أجنبي وإن رجعا جميعا عن الدعوة لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد وقد ثبت بإقرارهما فلم يقبل رجوعهما عنه كما لو أقر له بمال بخلاف ما لو رجع أحدهما منفردا فإن نسب الولد لا ينقطع برجوعه وحده وإن اشترك اثنان في وطء امرأة فأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل لحوقه بأحدهما فلا قصاص ولو أنكر أحدهما النسب لأن النسب لا ينقطع عنه بإنكاره بخلاف التي قبلها وإن قتل زوجته ولها منه ولد لم يجب القصاص لأنه إذ لم يجب عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته عل غيره وسواء كان لها ولد من غيره أو لم يكن لأن القصاص لا يتبعض فإذا سقط نصيب ولده سقط باقيه كما لو عفا أحد الشريكين وإن قتل خال ولده فورثته أمه ثم ماتت فورثها الولد سقط القصاص كذلك وإن اشترى المكاتب أباه فقتل أبوه عبدا له لم يجب القصاص كذلك وإن جنى المكاتب على أبيه لم يجب القصاص لأنه عبده فلا يقتص له من سيده
فصل :
ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين وعنه : لا يقتل لأنه لا تقبل شهادته له لأجل النسب أشبه الأب والمذهب : الأول لظاهر الآية والأخبار والقياس وقياسه على الوالد ممتنع لتأكد حرمة الوالد
فصل :
إذا شارك الإنسان غيره في القتل لم يخل من أربعة أقسام :
أحدها : أن يشترك جماعة في قتل من يكافئهم عمدا فيجني كل واحد منهم جناية يضاف إليها القتل لو انفردت فيجب القصاص على جميعهم وعنه : لا يجب على واحد منهم لقول الله تعالى : { النفس بالنفس } مفهومه أنه لا يؤخذ به أكثر من نفس واحدة والمذهب الأول لما روى سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا واحدا وقال : لم تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ولم ينكره منكر فكان إجماعا ولأنه لو لم يجب القصاص على جميعهم جعل الاشتراك وسيلة إلى سفك الدماء
القسم الثاني : أن يقتلوه عمدا أو بعضهم غير مكافئ مثل أن يشترك اثنان في قتل ولد أحدهما أو حر وعبد في قتل عبد أو مسلم وذمي في قتل ذمي ففيه روايتان :
أظهرهما : أنه يجب القصاص على المكافئ لأنه شارك في القتل العمد العدوان فوجب عليه القصاص كشريك المكافئ
والثانية : لا يجب لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلا يوجب كما لو كان شريكه خاطئا
القسم الثالث : أن يقتلا مكافئا وأحدهما عامد والآخر خاطئ ففيه روايتان :
أظهرهما : لا قصاص فيه لأنه قتل لم يتمخض عمدا فلم يوجب القصاص كعمد الخطأ وكما لو قتله بجرحين عمد وخطأ
والثانية : يجب القصاص على العامد لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد والحكم في شريك الصبي والمجنون كالحكم في شريك الخاطئ لأن عمدهما خطأ
القسم الرابع : شارك سبعا أو إنسانا في قتل نفسه مثل أن يجرح رجلا عمدا أو يجرح الرجل نفسه عمدا ففيه وجهان :
أحدهما : يجب القصاص لذلك
والآخر : لا يجب القصاص لأنه إذ لم يجب على شريك الخاطئ وجنايته مضمونة فهاهنا أولى وإن جرحه فتداوى بسم غير موح إلا أنه يقتل غالبا أو خاط لحم جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات أو فعل هذا وليه ففيه وجهان :
أحدهما : الحكم في شريكه كالحكم فيما لو جرح نفسه عمدا لأنه عمد هذا الفعل
والثاني : أنه كشريك الخاطئ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه إنما قصد المداواة فكان فعله عمدا خطأ فلم يجب القصاص على شريكه
فصل :
وإن جرح رجلا جرحا وجرح آخر مائة فهما سواء لأنه قد يموت من الواحد ولا يموت من المائة ولا يمكن إضافة القتل إلى أحدهما بعينه ولا الإسقاط فوجب على الجميع وإن قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فهما سواء لأنهما جرحان حصل الزهوق عقيبهما فأشبه ما لو كانا في يدين وإن قطع أحدهما يده ثم ذبحه الآخر أو شق بطنه أو أبان حشوته فعلى الأول ما على قاطع اليد منفردة
والثاني : هو القاتل لأنه قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل القطع ثم قتله وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل ولا ضمان على قاطع اليد لأنه صار في حكم الميت إنما يتحرك حركة المذبوح ولا حكم لكلامه في وصيته ولا غيرها وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها إلا أن الحياة فيه مستقرة ثم ذبحه آخر فالقاتل هو الثاني لأن حكم الحياة باق ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه وأيس منه فعمل بوصيته فأشبه المريض المأيوس منه وإن ألقى رجلا من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده قبل وقوعه فالقصاص على من قده لأنه مباشر للإتلاف فانقطع حكم المتسبب كالحافر مع الدافع

باب جنايات العمد الموجبة للقصاص
وهي تسعة أقسام :
أحدها : أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد كالسيف والسكين والسنان والقدوم وما حدد من حجر أو خشب أو قصب أو زجاج أو غيره أو بما له مور وغور كالمسلة والسهم والقبة المحددة فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعا وإن غرزه بإبرة في مقتل كالصدر والفؤاد والخاصرة والعين وأصل الأذن فمات وجب القود لأن هذا في المقتل كغيره في غيره وإن غرزه في غير مقتل كالألية والفخذ فبقي منه ضمانا حتى مات وجب القود لأن الظاهر موته به وإن مات في الحال ففيه وجهان :
أحدهما : لا قود فيه لأنه لا يقتل غالبا أشبه ما لو ضربه بعصاة
والثاني : فيه القود لأن له مورا وسراية في البدن وفي البدن مقاتل خفية أشبه ما لو غرزه في مقتل
فصل :
القسم الثاني : ضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالبا سواء كان من حديد أو خشب أو حجر أو ألقى عليه حائطا أو حجرا كبيرا أو رض رأسه بحجر فعليه القود لما روى أنس : أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين متفق عليه وفي مسلم : فأقاده ولأنه يقتل غالبا أشبه المحدد وإن ضربه بقلم أو إصبع أو شبههما أو مسه بكبير مسا فلا قود فيه لأنه لم يقتله وإن كان مما لا يحتمل الموت به كالعصا والوكزة بيده فكان في مقتل أو مرض أو صغر أو شدة برد أو حر أو والى الضرب به أو عصر خصيتيه عصرا شديدا بحيث يقتل غالبا ففيه القود لأنه يقتل غالبا أشبه الكبير وقد وكز موسى عليه السلام القبطي فقضى عليه وإن لم يكن مثله يقتل غالبا فهو عمد الخطأ لا قود فيه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ] رواه أبو داود
فصل :
القسم الثالث : منع خروج نفسه إما بخنقه بحبل أو غيره أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالبا ونحو هذا ففيه القود لأنه يقتل غالبا وإن خلاه حيا متألما فمات فعليه القود لأنه مات من سراية جنايته أشبه الميت من الجرح وإن صح منه ثم مات لم يضمنه لأنه لم يقتله أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات وإن كان ما فعله به لا يموت منه غالبا فمات فهو عمد الخطأ
فصل :
القسم الرابع : إلقاؤه في مهلكة كالنار والماء الكثير الذي لا يمكن التخلص منه لكثرته أو ضعف الملقى أو ربطه ونحو ذلك أو في بئر ذات نفس أو ألقاه من شاهق يقتل غالبا ففيه القود لأنه يقتل غاليا وإن كان لا يقتل غالبا أو التخلص منه ممكن فلا قود فيه لأنه عمد الخطأ وإن التقمه في الماء القليل حوت فلا قود فيه كذلك وإن ألقاه في لجة لا يمكن التخلص منها فالتقمه الحوت فيها أو قبل وصوله إليها ففيه وجهان :
أحدهما : فيه القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك أشبه ما لو هلك بها
والثاني : لا قود لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به أشبه الذي قبله
فصل :
القسم الخامس : أن ينهشه حية أو سبعا قاتلا أو يجمع بينه وبين أسد أو نمر أو حية في موضع ضيق أو ألقاه مكتوفا بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالبا ففعل به السبع فعلا أو فعله الملقي أوجب القود ففيه القود لأن فعل السبع كفعله لأنه صار آلة له والحيات كلها سواء في أحد الوجهين لأنها جنس يقتل سمه غالبا وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالبا كحية الماء وثعبان الحجاز فلا قود فيها لأن هذا لا يقتل غالبا أشبه الضرب بمثقل صغير وإن ألقاه مكتوفا في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته فلا قود فيه لأنه مما لا يقتل غالبا فكان عمد الخطأ وقال القاضي : حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته
فصل :
القسم السادس : سقاه سما مكرها أو خلطه بطعامه أو بطعام قدمه إليه أو أهداه إليه فأكله غير عالم بحاله ففيه القود لما روي أن يهودية أهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر شاة مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ثم قال : [ ارفعوها فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة ] فأرسل إلى اليهودية فقال : [ ما حملك على ما صنعت ؟ ] فقالت : إن كنت نبيا لم يضرك وإن كنت ملكا أرحت الناس منك فأكل منها بشر بن البراء بن معرور فمات فأرسل إليها فقتلها رواه أبو داود ولأنه يقتل غالبا أشبه القتل بالسلاح وإن خلطه بطعام وتركه في بيت نفسه فدخل رجل فأكل فمات فلا قود لأنه عمد قتل نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فقتل بها نفسه وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل ففيه وجهان :
أحدهما : عليه القود لأن السم يقتل غالبا
والثاني : لا قود فيه لأنه يجوز خفاء ذلك عليه فتكون شبهة يسقط بها القود
فصل :
القسم السابع : قتله بسحر يقتل غالبا ففيه القود لأنه يقتل غالبا أشبه السكين وإن كان مما لا يقتل غالبا فهو خطأ العمد وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبا وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه فلا قود عليه لأنه يخل بمتحض العمد
فصل :
القسم الثامن : حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالبا فمات ففيه القود لأنه يقتل غالبا وإن كانت المدة لا يموت فيها غالبا فهو شبه عمد وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالبا زيادة تقتله فمات منه ففيه القود لأنه يقتل غالبا وإن كانت الزيادة غير معلومة فهو شبه عمد وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله ففيه روايتان :
إحداهما : عليه القصاص لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالبا فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا
والثانية : لا قصاص لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك ] أخرجه الدارقطني ولأنه حبس إلى الموت فيفعل به مثل فعله وسواء حبسه بيديه أو بجناية عليه أو غير ذلك وإن أمسكه لغير القتل فقتل فلا ضمان على الممسك لأنه لم يقتله ولا قصد قتله
فصل :
القسم التاسع : أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا أربعة أنواع :
أحدها : أن يكره غيره على قتله فيجب القصاص على المكره والمكره جميعا لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا أشبه ما لو أنهشه حية أو أسدا أو رماه بسهم والمكره قتله ظلما لاستبقاء نفسه فلزمه القصاص كما لو قتل في المجاعة ليأكله
النوع الثاني : أن يأمر من لا يميز بين المجانين والصبيان أو عبدا أعجميا لا يعلم تحريم القتل بقتله فيقتله فعلى الآمر القصاص دون المأمور لأن المأمور صار كالآلة له فأشبه الأسد والحية وإن كان المأمور مميزا فلا قود على الآمر لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلا عاقلا فإن كان العبد يعلم تحريم القتل فالقصاص عليه لأنه مباشر للقتل مختار عالم بتحريمه فأشبه الحر ويؤدب السيد لتسببه إليه وإن أمر السلطان رجلا يقتل رجل بغير حق ولم يعلم الحال فقتله فالقصاص على الآمر لأن المأمور معذور في قتله لكونه مأمورا بطاعة السلطان من غير المعصية والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ] من المسند فصار كالقاتل من غير أمر وإن أمر غير السلطان بالقتل فقتل فالقصاص على القاتل وحده علم أو جهل لأنه لا تلزمه طاعته
النوع الثالث : أن يشهر رجلان على رجل بما يوجب القتل فقتل بغير حق ثم رجعا عن الشهادة وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل فعليهما القود لما روى القاسم بن عبد الرحمن : أن رجلان شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن الشهادة فقال : لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالبا أشبه المكره
الرابع : الحاكم إذا حكم عليه بما يوجب قتله ظلما متعمدا فقتل فعليه القصاص لذلك وكذلك الولي الذي أمر بقتله إذا أقر أنه علم براءته وأمر بقتله ظلما

باب القصاص فيما دون النفس
يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع لقول الله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } و روى أنس أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النصر فقال : يا رسول الله تكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كتاب الله القصاص ] فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] أخرجه البخاري و مسلم ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى الحفظ فكان كالنفس في القصاص
فصل :
ومن لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دونها بغير خلاف ومن يقاد بها في النفس يقاد بها فيما دونها وعنه : لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال والمذهب : الأول لأن ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص فكان كالنفس فيما ذكرنا
فصل :
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملا واحدا حتى يبينوا يده فعلى جميعهم القصاص لحديث علي رضي الله عنه ولأنه أحد نوعي القصاص فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد كالنفس وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع كل واحد من جانب أو قطع واحد وأتمه آخر أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة فلا قصاص لأن فعل كل واحد في بعض العضو فلم يجز أخذ جميع عضوه كما لو لم يقطع الآخر وعنه : لا يؤخذ طرف الجماعة بواحد كما ذكرنا في النفوس ولأن ذلك مما يجب في النفوس للزجر كي لا يتخذ الاشتراك وسيلة إلى إسقاط القصاص ولا يوجد ذلك في الأطراف لندرة الحالة التي يمكن إيجاب القصاص بها
فصل :
والقصاص فيما دون النفس نوعان : جروح وأطراف فأما الجروح : فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم سواء كان موضحة في رأس أو وجه أو ساعد أو عضد أو فخذ أو ساق أو ضلع أو غيره لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف فوجب كما في الطرف وما لا ينتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد و الهاشمة والمنقلة والمأمومة لم يجب القصاص لأن المماثلة غير ممكنة ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط إلا إذا كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة لأنها بعض جنايته وقد أمكن القصاص فوجب كما لو كانت جناية في محلين وفي وجوب الأرش الباقي وجهان :
أحدهما : يجب وهو قول ابن حامد لأنه تعذر فيه القصاص فوجب الأرش كما لو تعذر في جميعها
والثاني : لا يجب وهو اختيار أبي بكر لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص وأرش كالشلاء بالصحيحة
فصل :
ويجب في الموضحة قدرها طولا وعرضا لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } والقصاص : المماثلة ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة فإن كانت في الرأس حلق موضعها في رأس الجانب وعلم القدر المستحق بسواد أو غيره ثم اقتص فإن كانت في مقدم الرأس أو مؤخره أو وسطه فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها لم يجز غيره وإن زاد قدرها على موضعها من رأس الجاني استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله لأن الجميع رأس وإن زاد قدرها على رأس الجاني كله لم يجز أن ينزل إلى الوجه ولا القفا لأنه قصاص في غير العضو المجني عليه فيقتص في رأس الجاني كله وهل له الأرش لما بقي ؟ على وجهين كما تقدم وإن كانت الموضحة في الساعد و زاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كان في السياق لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما ذكرنا في الرأس وإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني لأن الجميع محل الجناية وله أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره إلا أن يكون في ذلك زيادة ضرر أو شين فيمنع لذلك لأنه لم يجاوز موضع الجناية ولا قدرها ويحتمل أن لا يجوز لأنه يأخذ موضحتين بموضحة وإن أوضحه موضحتين قدرهما جميع رأس الجاني فللمجني عليه الخيار بين أن يوضحه في جميع رأسه موضحة واحدة وبين أن يوضحه موضحتين يقتص فيهما على قدر الواجب له ولا أرش له في الباقي وجها واحدا لأنه يترك الاستيفاء مع إمكانه
فصل :
النوع الثاني : الأطراف ويجب القصاص فيها إذا كان القطع ينتهي إلى عظم فتقلع العين بالعين لقول الله تعالى : { والعين بالعين } ولأنه يمكن القصاص فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب كالموضحة وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض ولا تؤخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لأنها دون حقه كالشلاء بالصحيحة ولا أرش له معها لأن التفاوت في الصفة وإن جنى على رأسه بلطمة فأذهب ضوء عينيه وجب القصاص لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس فإن كانت اللطمة لا تفضي إلى تلف العين غالبا فلا قصاص فيه لأنه شبه عمد أشبه ما لو قتله
فصل :
وإن قلع الأعور عين مثله عمدا ففيه القصاص لتساويهما وإن قلع عين صحيح فلا قصاص عليه وعليه دية كاملة لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ولأنه لم يذهب بجميع بصره فلم يجز أن يذهب بجميع بصره كما لو كان ذا عينين ويجب جميع الدية لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته ضوعفت الدية عليه كالمسلم إذا قتل الذمي عمدا وإن قلع عيني صحيح خير بين قلع عينه ولا شيء له سواه لأنه أخذ جميع بصره لجميعه وبين دية عينيه لأن القصاص لم يتعذر وإن قلع صحيح عين الأعور فله الاقتصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية نص عليه لأن عينه كعينين لاشتمالها على جميع البصر ومقامها مقام العينين
فصل :
ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله سبحانه : { والجروح قصاص } ولأنه ينتهي إلى فصل ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر لأنهما متساويان في السلامة والنقص وعدم البصر نقص في غيره فلم يمنع جريان القصاص فيه
فصل :
ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى : { والأنف بالأنف } ولا يجب القصاص إلا في المارن وهو ما لان منه لأنه ينتهي إلى مفصل ويؤخذ الشام بالأخشم والأخشم بالشام لتساويهما في السلامة وعدم الشم ونقص في غيره ويؤخذ البعض بالبعض فيقدر ما قطعه بالأجزاء كالنصف والثلث ثم يقتص من مارن الجاني بمثله ولا يؤخذ بالمساحة لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه أو انخرم لأنه يأخذ أكثر من حقه ولا يؤخذ صحيح بمستحشف كذلك ويحتمل أن يؤخذ لأنه يقوم مقام الصحيح ويؤخذ الذي سقط بعضه بالصحيح وفي الأرش في الباقي وجهان ويؤخذ المستحشف بالصحيح من غير أرش لأنه نقص معنى فهو كالشلل
فصل :
وتؤخذ الأذن بالأذن لقوله سبحانه : { والأذن بالأذن } ولأنها تنتهي إلى حد فاضل وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم وأذن الأصم بأذن السميع كما ذكرنا في الأنف والمثقوبة للزينة كالصحيحة لأن الثقب ليس بنقص ويؤخذ البعض بالبعض ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة وتؤخذ المخرومة بالصحيحة وفي الأرش للباقي وجهان
وتؤخذ المستحشفة بالصحيحة وفي أخذ الصحيحة بالمستحشفة وجهان كما ذكرنا في الأنف وإن شق أذنيه فألصقهما صاحبها فالتصقت فلا قصاص لتعذر المماثلة وإن قطعها فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت فقال القاضي : له القصاص لأنه وجب بالقطع فلم يسقط بالإلصاق وقال أبو بكر : لا قصاص فيها لأنا لم تبن على الدوام أشبه الشق وله أرش الجرح فإن سقطت بعد ذلك قريبا أو بعيدا رد الأرش وله القصاص وإن اقتص من الجاني فقطع أذنه فألصقها فالتصقت برئ من حقه لأن الاستيفاء حصل بالإبانة وإن لم يبنها قطع بعضها فالتصقت فله قطع جميعها لأنه استحق إبانته ولم يفعل والحكم في السن كالحكم في الأذن فيما ذكرنا
فصل في السن بالسن :
وتؤخذ السن بالسن لقوله تعالى : { والسن بالسن } ولحديث الربيع ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب كالأذن ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة وتؤخذ المكسورة بالصحيحة وفي الأرش للباقي وجهان وإن كسر بعض السن برد من سن الجاني مثله بقدر الأجزاء إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها فيسقط القصاص لأن توهم الزيادة يسقط القصاص كقطع اليد من غير مفصل ولا يقتص الحال كالشعر وإن مات قبل اليأس من عودها فلا قصاص لعدم تحقق الإتلاف فلا يجوز استيفاؤه مع الشك فإن لم تعد ويئس من عودها وجب القصاص لأن ذلك حصل بالجناية وإن يئس من عودها فاقتص أو اقتص من سن كبير فنبت له مكانها فعليه دية سن الجاني لأنه قلع سنا بغير سن فإن نبتت سن الجاني أيضا أو قلع النابتة للمجني عليه فلا شيء لواحد منهما وإن نبتت سن الجاني دون المجني عليه فله قلعها لأنه أعدم سنه على الدوام فملك أن يفعل به ذلك ويحتمل ألا يملكه لأنه قلعت له سن فلا يملك قلع سنين
فصل :
وتؤخذ الشفة بالشفة وهي : ما جاوز حد الذقن والخدين علوا وسفلا لقوله تعالى : { و الجروح قصاص } ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب كالأنف ويؤخذ البعض بالبعض ويقدر بالأجزاء كبعض المارن
فصل :
ويؤخذ اللسان باللسان للآية والمعنى وبعضه ببعضه لما ذكرنا ولا يؤخذ أخرس بناطق لأنه أكثر من حقه ويؤخذ الأخرى بالناطق لأنه دون حقه ولا أرش معه لأن التفاوت في المعنى لا في الأجزاء ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ ولسان الصغير كما يؤخذ الكبير الصحيح بالطفل المريض
فصل :
وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل وكل إصبع بمثلها وكل أنملة بمثلها للآية والمعنى فإن قطع يده من الكوع أو المرفق فله أن يقتص من موضع القطع وليس له أن يقتص من دونه لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه فلم يجز أن يستوفي من غيره وإن قطعت يد من العضد أو الساعد لم يجز الاقتصاص من موضع القطع بغير خلاف لأنه لا يأمن الزيادة وهل له أن يقتص من مفصل دونه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : ليس له ذلك اختاره أبو بكر لما روى نمران بن جارية عن أبيه : أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستدعى عليه النبي صلى الله عليه و سلم فأمر له بالدية فقال : إني أريد القصاص : قال : [ خذ الدية بارك الله لك فيها ] ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجة ولأنه يقتص من غير محل الجناية فلم يجز كما لو أمكن القصاص من محل الجناية
والثاني : له أن يقتص اختاره بعض أصحابنا فإذا قطعت من الساعد فله أن يقتص من الكوع وإن قطعت من العضد فله أن يقتص من المرفق لأنه عجز عن استيفاء حقه وأمكنه أخذه دونه فجاز كما لو جرح مأمومة فأراد أن يقتص موضحة وفي أخذ الحكومة للباقي وجهان وإذا قطعت يده من العضد لم يملك أن يقطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصا فلم يكن له قطع ما دونه كما لو قطع من المرفق وإن قطعها من الكتف فقال أهل الخبرة يمكن الاقتصاص من غير جائفة فله ذلك لأنه مفصل وليس له أن يقتص مما دونه وإن قالوا : نخاف الجائفة فلا قصاص منها لأنها يخاف الزيادة وفي الاقتصاص من المرفق وجهان وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك حكم اليد سواء على ما بينا
فصل :
ولا تؤخذ صحيحة بشلاء لأنها فوق حقه فأما الشلاء بالصحيحة أو بالشلاء فإن قال أهل الخبرة : لا يخاف عليه اقتص لأنه يأخذ حقه أو دونه ولا أرش بالشلل لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فأشبه الذمي مع المسلم وإن قالوا : إن قطعت خيف ألا تنسد العروق ويدخل الهواء البدن فيفسد لم يجز أن يقتص لخوف الزيادة
فصل :
ولا تؤخذ كاملة بناقصة فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها ولا ذات خمس أصابع بذات أربع ولا بذات خمس بعضها أشل لأنه أكثر من حقه وهل له أن يقطع من أصابع الجاني بقدر أصابعه ؟ على الوجهين فإن قلنا : له قطعها فهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تدخل كما تدخل في ديتها
والثاني : لا تدخل لأنه جزء يستحق إتلافه تعذر عليه أخذه فوجب أرشه كالمنفرد فإن كانت الزائدة من أصابع الجاني زائدة في الخلقة لم تمنع القصاص عند ابن حامد لأنها عيب ونقص في المعنى فلم يمنع وجودها أخذها بالكاملة كالسلعة فيها واختار القاضي : أنها تمنع لأنها زيادة في الأصابع أشبهت الأصلية فإن قطع ناقص الأصابع يدا كاملة وجب القصاص لأنه يأخذ دون حقه وفي وجوب الدية للأصابع الزائدة وجهان
فصل :
وإن قطع ذو يد كاملة كفا فيها أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة لم يجب القصاص لأنه يأخذ أكثر من حقه وفي جواز الاقتصاص من أصابعه الأصلية وجهان فإن اقتص منها فهل له حكومة في الزيادة ؟ على وجهين لما تقدم وإن قطع له من أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كفا كاملة الأصابع ملك القصاص ولا أرش له لنقصان الزائدة لأنها كالأصلية في الخلقة وإنما هي ناقصة في المعنى وإن كان في يد كل واحد منهما إصبع زائدة أخذت إحداهما بالأخرى لتساويهما وإذا قطع إصبعا فتآكلت إلى جانبها أخرى وسقطت من مفصل أو تآكل الكف وسقط من الكوع وجب القصاص في الجميع لأنه تلف بسراية قطع مضمون بالقصاص فوجب فيه القصاص كالنفس وإن شلت إلى جانبها أخرى لم يجب القصاص في الشلاء لأنها لو شلت بجنايته مباشرة لم يجب القصاص فهاهنا أولى
فصل :
وتؤخذ الأليتان بالأليتين لقوله سبحانه : { والجروح قصاص } ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كالشفتين
فصل :
وتؤخذ الذكر بالذكر كذلك ويؤخذ بعضه ببعضه لما ذكرنا في الأنف ويؤخذ كل واحد من الأقلف والمختون بمثله لأن زيادة أحدهما على الآخر بجلدة تستحق إزالتها ولا يؤخذ صحيح بأشل لأن الأشل ناقص فلم يؤخذ به كامل كاليد ولا يؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي لأنه ناقص لعدم الإنزال والإيلاد ولا بذكر خنثى لأنه لا يعلم أنه ذكر وفي أخذ الصحيح بذكر العنين وجهان :
أحدهما : لا يؤخذ به لنقصه
والثاني : يؤخذ به لأنه غير مأيوس منه أشبه المريض
فصل :
وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين للآية والمعنى فإن قطع إحداهما وقال أهل الخبرة : يمكن أخذها من غير تلف الأخرى اقتص منه وإن قالوا : يخاف تلف الأخرى لم يقتص منه لتوهم الزيادة
فصل :
ولا قصاص في شفري المرأة عند القاضي لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه فلم يقتص منه كلحم الفخذ وقال أبو الخطاب : فيهما القصاص لأنه يعرف انتهاؤهما فجرى فيهما القصاص كالشفتين وأجفان العينين
فصل :
وإن قطع خنثى مشكل وأنثييه وشفريه فلا قصاص له حتى يتبين لأننا لا نعلم أن المقطوع فرج أصلي وإن طلب الدية وكان يرجى انكشاف حاله أعطي اليقين وهو دية شفري امرأة وحكومة في الذكر والأنثيين وإن كان مأيوسا من كشف حاله أعطي نصف دية ذلك كله وحكومة في نصفه الباقي وعلى قول ابن حامد : لا حكومة فيه لأنه نقص
فصل :
وإن اختلف العضوان في صغر أو كبر أو طول أو قصر أو صحة أو مرض لم يمنع القصاص لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني يسقط القصاص فيسقط اعتبارها كما في النفس
فصل :
وما انقسم إلى يمين ويسار كالعينين والأذنين والمنخرين واليدين والرجلين أو إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك ولا تؤخذ سن بسن غيرها ولا إصبع بإصبع تخالفها ولا أنملة بأنملة لا تماثلها في موضعها واسمها لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض كالعين والأنف ولا تؤخذ أصلية من الأصابع والأسنان بزائدة ولا زائدة بأصلية لعدم التماثل بينهما وتؤخذ الزائدة بالزائدة وإذا اتفق محلاهما لتماثلهما وإن اختلف محلاهما لم تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما مختلفتان في أصل الخلقة أشبه الوسطى بالسبابة وإن تراضى الجاني والمجني عليه بأخذ ما لا يجب القصاص فيه لم يجز لأن الدماء لا تستباح بالإباحة
فصل :
وإن جرحه جرحا فيه القصاص فاندمل ثم قتله وجب القصاص فيهما لأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما منفردة فوجب عند الاجتماع كاليدين وإن قتله قب اندمال الجرح ففيه روايتان
إحداهما : يجب القصاص أيضا لما ذكرناه
والثانية : يقتل ولا قصاص في الجرح لأن القصاص في النفس أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية
فصل :
وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضوا من جماعة لم تتداخل حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون لكن إن رضي الكل باستيفاء القصاص منه جاز لأن الحق لهم فجاز أن يرضى الجماعة بالواحد كما لو قتل عبدا عبيدا خطأ فرضوا بأخذه وإن طلب واحد القصاص والباقون الدية فلهم ذلك وإن طلب كل واحد استيفاء القصاص مستقلا قدم الأول لأن له مزية السبق فإن أسقط حقه قدم الثاني ثم الثالث ويصير حق الباقين في الدية لأن القود فاتهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات وإذا قتلهم دفعة واحدة أو أشكل السابق قدم من تقع له القرعة لأن حقوقهم تساوت فوجب المصير إلى القرعة كالسفر بإحدى النساء فإن عفا من له القرعة أعيدت للباقين لتساويهم ومتى ثبت القصاص لأحدهم بالسبق أو بالقرعة فبادر غيره فقتله كان مستوفيا لحقه ووجب للآخر الدية كما لو قتل مرتدا كان مستوفيا لقتل الردة وإن أساء في الافتئات على الإمام وإن كان الأول غائبا أو صغيرا انتظر لأن الحق له وإن كان القتل في المحاربة فهو كالقتل في غيرها لأنه قتل موجب للقصاص فأشبه غيره
فصل :
وإن قطع طرف رجل وقتل آخر قطع لصاحب الطرف ثم قتل للآخر تقدم القتل أو تأخر لأنه أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص فلم يجز إسقاط أحدهما بخلاف التي قبلها وإن قطع يد رجل وإصبعا من آخر قدمنا السابق منهما أيهما كان لأن اليد تنقص بنقص الإصبع ولذلك لا تؤخذ الصحيحة بالناقصة بخلاف النفس فإنها لا تنقص بقطع الطرف بدليل أخذ الصحيح الأطراف بمقطوعها
فصل :
وإن قتل وارتد أو قطع يمينا وسرق قدم حق الآدمي لأن حقه مبني على الشديدة لشحه وحاجته وحق الله مبني على السهولة لغنى الله وكرمه

باب استيفاء القصاص
إذا قتل الآدمي استحق القصاص ورثته كلهم لما روى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ] رواه أبو داود وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل له قتيل فهو بخير النظيرين إما أن يقتل وإما أن يفدى ] ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه فأشبه المال فإن كان الوارث صغيرا لم يستوف له الولي وعنه : للأب استيفاؤه لأنه أحد بدلي النفس فأشبه الدية والمذهب لأول لأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب فلم يملك استيفاؤه كالوصي والحاكم فعلى هذا : يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير ويعقل المجنون ويقدم الغائب لأنه فيه حظا للقاتل بتأخير قتله وحظا للمستحق بإيصال حقه إليه فإن أقام القاتل كفيلا ليخلى سبيله لم يجز لأن الكفالة بالدم غير صحيحة وإن وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان :
أحدهما : يصير مستوفيا لحقه لأنه عين حقه أتلفه فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل
والثاني : لا يصير مستوفيا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء فتجب له دية أبيه وعلى عاقلته دية القاتل بخلاف الوديعة فإنها لو تلفت من غير تعد برئ منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية وإن كان القصاص بين صغير وكبير أو مجنون وعاقل أو حاضر وغائب لم يجز للكبير العاقل الحاضر الاستيفاء لأنه حق مشترك بينهما فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه كما لو كان بين بالغين عاقلين وإن قتل من لا وارث له فالقصاص للمسلمين لأنهم يرثون ماله واستيفاؤه إلى السلطان فإن كان له من يرث بعضه كزوج أو زوجة فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان ليس لأحدهما الانفراد به لما ذكرنا
فصل :
فإن بادر بعض الورثة فقتل القاتل بغير أمر صاحبه فلا قصاص عليه لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه فلم تلزمه عقوبته كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة ويجب لشركائه حقهم من الدية وفيه وجهان :
أحدهما : يجب على القاتل الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما لزمه ضمان حق الآخر كالوديعة لهما يتلفها أحدهما
والثاني : يجب في تركة القاتل الأول لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية ماعدا نصيبه من موروثهم فلو قتلت امرأة رجلا له ابنان فقتلها أحدهما كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص لم يجب عليه قصاص لأن ذلك شبهة فدرأت القصاص كالوكيل إذا قتله بعد العفو وقبل العلم وإن قتله بعد العلم فعليه القصاص لأنه قتل معصوما مكافئا له لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم فإن اقتصوا منه فلورثته عليهم نصيبه من الدية وإن اختاروا الدية سقط عنه من الدية ما قابل حقه ولزمه باقيها وإن كان عفو شريكه على الدية فله نصيبه منها في ترك القاتل لأنه حقه انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته فأشبه الدين بخلاف التي قبلها
فصل :
ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى اجتهاد ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع لأنه استوفى حقه ويعزر لافتئاته على السلطان ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين لئلا ينكر المقتص الاستيفاء وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها فإن كانت كالة أو مسمومة منعه الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإن قتلتم فأحسنوا القتلة وإن ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم و أبو داود ولأن المسمومة تفسد البدن وربما منعت غسله وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء لم يكن منه في الطرف لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص أشبه القصاص في النفس وإن كان في النفس وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ] ولأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وتمكينه منه أبلغ في ذلك فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل لأن فيه تعذيبا للجاني ولا مزية لأحدهم فوجب التقديم بالقرعة ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم وإن كان فيهم من يحسن وباقيهم لا يحسنوا أمروا بتوكيله وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء أمر بالتوكيل فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض بذل العوض من بيت المال لأنه من المصالح فإن لم يمكن بذل من مال الجاني لأن الحق عليه فكان أجر الإيفاء عليه كأجر كيل الطعام على البائع وإن قال الجاني : أنا أقتص لك من نفسي لم يجب إلى ذلك لأن من وجب عليه إيفاء حق لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع
فصل :
وإذا وجب القتل على حامل لم تقتل حتى تضع لما روى معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها ] رواه ابن ماجة ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها ولا يجوز قتله فإذا وضعت لم تقتل حتى تسقيه اللبأ لأنه لا يعيش إلا به وإن لم يكن له من يرضعه لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع لقوله عليه السلام : [ حتى تكفل ولدها ] ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل وحفظه وهو مولود أولى وإن وجدت مرضعة راتبة قتلت لأنه يستغنى بها عن أمه وإن وجدت مرضعات غير رواتب أو لبن بهيمة يسقي منه راتب جاز قتلها لأن له ما يقوم به ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام لأن عليه ضررا في اختلاف اللبن عليه وفي شرب لبن البهيمة فإن ادعت الحمل حبست حتى تتبين حالها لأن صدقها محتمل وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها وفيه وجه آخر أنها ترى القوابل فإن شهدن بحملها أخرت وإلا قتلت لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بدعواها من غير بينة فإن أشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك أخرت حتى يتبين لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة فتأخيره أولى
فصل :
ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف إلا بعد الاندمال لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : طعن رجل رجلا بقرن في رجله فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقدني قال : [ دعه حتى يبرأ ] فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ دعه حتى يبرأ ] فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال : برأ صاحبي وعرجت رجلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا حق لك ] فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه رواه الدارقطني ولأنه قد يسري إلى النفس فيصير قتلا وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص
فصل :
وإذا اقتص من الطرف على الوجه الشرعي فسرى لم يجب ضمان السراية سواء سرى إلى النفس أو عضو آخر لما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا : من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد في سننه ولأنه قطع مقدر مستحق فلم تضمن سرايته كقطع السارق وإن تعدى في القطع أو قطع بآلة كالة أو مسمومة فسرى ضمن السراية لأنه سراية قطع غير مأذون فيه أشبه سراية الجناية وسراية الجناية مضمونة لأنها سراية قطع مضمون فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال ثم سرت الجناية كانت سرايتها هدرا لخبر عمر بن شعيب ولأنه استعجل ما ليس له استعجال فبطل حقه كقاتل موروثه وإن سرى القطعان جميعا فهما هدر كذلك وإن اقتص بعد الاندمال ثم انتقض جرح الجناية فسرى إلى النفس وجب القصاص به لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص فإن اختار الدية فله دية إلا دية الطرف المأخوذ في القصاص فإن كانت دية الطرف كدية النفس فليس له العفو على مال كذلك وإن كان الجاني ذميا قطع أنف مسلم فاقتص منه بعد البرء ثم سرى إلى نفس المسلم فلوليه قتل الذمي وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن دية أنف اليهودي نصف دية المسلم فيبقى له النصف
والثاني : ليس له ذلك لأنه استوفى بدل أنفه أشبه ما لو كان الجاني مسلما
فصل :
ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة أو تلف النفس أو قلع عينه بأصبع لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع كذلك
فصل :
فأما النفس فإن كان القتل بالسيف لم يجز قتله إلا بالسيف لأنه آلة القتل وأوجاه فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت كرر عليه حتى يموت لأن قتله مستحق ولا يمكن إلا بتكرار الضرب وإن قتله بحجر أو تغريق أو حبس حتى يموت أو خنق ففيه روايتان :
إحداهما : يقتل بمثل ذلك لقول الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين متفق على معناه وروي عنه عليه السلام : أنه قال : [ من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] ولأن القصاص مشعر بالمماثلة فيجب أن يعمل بمقتضاه
والثانية : لا يقتل إلا بالسيف في العنق لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قود إلا بالسيف ] رواه ابن ماجة ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة وقال : [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] ولأنه زيادة تعذيب في القتل فلم تجز المماثلة فيه كما لو قتله بسيف كال
وإن قتله بمحرم لعينه كالسحر وتجريع الخمر واللواط قتل بالسيف رواية واحدة لأن ذلك محرم لعينه فسقط وبقي القتل وإن قتله بسيف كال لم يقتل بمثله لأن المماثلة فيه لا تتحقق وإن حرقه فقال القاضي : فيه روايتين كالتغريق وقال بعض أصحابنا : لا يحرق بحال لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحرق بالنار إلا رب النار ] رواه ابن ماجة وإن قطع يده من المفصل أو أوضحه ثم ضرب عنقه فهل يفعل به كما فعل أو يقتصر على ضرب عنقه ؟ على روايتين ذكرهما الخرقي وإن لم يضرب عنقه بل سرت الجناية إلى نفسه ففيه أيضا روايتان :
إحداهما : لا يقتل إلا بالسيف في العنق لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتى به
والثانية : يفعل به كما فعل فإن مات وإلا ضربت عنقه لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كقطع الساعد والجائفة فمات أو ضرب عنقه بعده فقال أبو الخطاب : لا يقتل إلا بالسيف في العنق رواية واحدة لأنها جناية لا قصاص فيها فلا يستوفي بها القصاص كتجريع الخمر وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها لأن النبي صلى الله عليه و سلم رض رأس اليهودي بين حجرين ولأن المنع من القصاص فيها منفردة لخوف سرايتها إلى النفس وليس بمحذور هاهنا
فصل :
وكل موضع قلنا : ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني إذا خالف وفعل فلا شيء عليه لأنه حقه وإنما منع منه لتوهم الزيادة ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده فاقتص منه مثل ذلك ولم يسر فلا شيء عليه كذلك وإن سرى ضمن سرايته لأنها سراية قطع غير مأذون فيه
فصل :
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه فكانت مما يجب به القصاص كالموضحة اقتص منها فإن ذهب ضوء عينيه فقد استوفي حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء ولا يذهب بالحدقة مثل أن يحمي حديدة ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما غطيت العين الأخرى وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها لما روى يحيى بن جعدة : أن أعرابيا قدم بحلوبة له المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان : هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه ؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه فإن لم يمكن إلا بالجناية على العضو سقط القصاص وإن أذهب بصره بجناية لا قصاص فيها كالهاشمة واللطمة عولج بصره بما ذكرنا ولم يقتص منه للأثر ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كالقتل بالسحر وله أرش الجرح وذكر القاضي في اللطمة : أنه يفعل به كما فعل والصحيح : الأول لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة فكذلك إذا أذهب العين كالهاشمة
فصل :
ومن وجب له القصاص في النفس فضرب في غير موضع الضرب عمدا أساء ويعزر فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه قبل قبوله مع يمينه لأنه يدعي محتملا وهو أعلم بنفسه وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم قبل قوله لعدم الاحتمال فإن أراد العود إلى الاستيفاء لم يمكنه منه لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانيا وقال القاضي : يمكن لأن الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه فلا قصاص عليه لأنه قطع طرفا يستحق إتلافه ضمنا فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته لأنه طرف له قيمة حين القطع قطعه بغير حق فوجب ضمانه كما لو قطعه بعد العفو عنه
فصل :
وإن وجب له القصاص في الطرف فاستوفى أكثر منه عمدا وكان الزائد موجبا للقصاص مثل أن وجب له قطع أنملة فقطع اثنتين فعليه القود وإن كان خطأ أو لا يجب في مثله القود مثل من وجبت له موضحة فاستوفى هاشمة فعليه أرش الزائد كما لو فعله في غير قصاص فغن كانت الزيادة لاضطراب الجاني فلا شيء فيها لأنها حصلت بفعله في نفسه فهدرت وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب القصاص لأنه تلف من جائز وغيره ويجب نصف الدية لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون فقسم ضمانه بينهما
فصل :
وإن وجب له قصاص في يد فقطع الأخرى فقال أبو بكر : يقع الموقع ويسقط القصاص سواء قطعها بتراضيهما أو بغيره لأن ديتها واحدة وألمهما واحد واسمهما ومعناهما واحد فأجزأت إحداهما عن الأخرى كالمتماثلتين ولأن إيجاب القصاص في الثانية يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها وقال ابن حامد : لا يجزئ لأن ما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجزئ بدلا كاليد عن الرجل فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما فلا قصاص على قاطعها لأنه قطعها بإذن صاحبها ويسقط القصاص في الأخرى وفي أحد الوجهين لأن عدوله عن التي يستحقها رضي بترك القصاص فيها ولكل واحد على الآخر دية يده
والثاني : لا يسقط لأنه أخذ الثانية بدلا عن الأولى ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فيقتص من اليد الأخرى ويعطيه دية التي قطعها وإن قطعها كرها عالما بالحال فعليه القصاص فيها وله القصاص في الأخرى وإن قال : أخرج يمينك لأقتص منها فأخرج يساره فقطعها يظنها اليمين وقال المخرج : عمدت إخراجها عالما أنها لا تجزئ فلا ضمان فيها لأن صاحبها بذلها راضيا بقطعها بغير بدل وإن قال : ظننتها اليمنى أو أنها والواجب قطع اليسرى أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة فعلى قاطعها ديتها لأنه بذلها لتكون عوضا فلم تكن عوضا فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد فتلفت عنده وإن علم المستوفي حال المخرج وحال اليد ففيها القود في أحد الوجهين لأنه تعمد قطع يد معصومة وفي الثاني : لا قود عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه وعليه ديتها وإن جهل الحال فلا قصاص عليه وعليه ديتها وإن كان القصاص على مجنون فقال له المقتص : أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها عمدا فعليه القصاص وإن كان جاهلا فعليه الدية لأن بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه وإن كان القصاص للمجنون فأخرج إليه يساره فقطعها ذهبت هدرا لأنه ليس من أجل الاستيفاء فإذا سلطه على إتلاف عضوه لم يضمنه كما لو أذن له في إتلاف ماله
فصل :
ومن وجب عليه القصاص في نفسه أو طرف فمات عن تركة وجبت دية جنايته في تركته لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وإن لم يخلف تركة سقط الحق لتعذر استيفائه
فصل :
ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إليه لم يجز الاستيفاء منه في الحرم لقول الله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } ولما روى أبو شريح الكعبي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولن يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ] متفق عليه ولا يبايع ولا يشاري ولا يطعم ولا يؤوي ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل فإذا خرج استوفي منه لأن ابن عباس قال ذلك ولأن في إطعامه تمكينا في تضييع الحق الذي عليه ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات وروى حنبل عنه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل لأن حرمة النفس أعظم والمذهب : الأول قال أبو بكر : انفرد حنبل عن عمه في هذه الرواية ولأن ما حرم النفس حرم الطرف كالعاصم فإن خالف واستوفى في الحرم أساء ووقع الموقع كما لو استوفى من غير حضرة السلطان ومن جنى في الحرم جاز الاستيفاء منه في الحرم لأنه انتهك حرمته فلم ينتهض عاصما له ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عن الجنايات رعاية لحفظ مصالحهم كحاجة غيرهم فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم

باب العفو عن القصاص
وهو مستحب لقول الله تعالى : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ومن وجب له القصاص فله أن يقتص وله أن يعفو عنه مطلقا إلى غير بدل وله أن يعفو على المال لقول الله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو وروى أبو شريح الكعبي : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا لقتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بن خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] رواه أبو داود وإذا عفا عن القصاص أو عن بعضه سقط كله لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض فإذا سقط بعضه سقط جميعه كالرق وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم سقط كله لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل : قد عفوت عن حقي فقال عمر : الله أكبر عتق القتيل قبل أن رواه أبو داود ولما ذكرنا في المعنى ثم إن عفا على مال انتقل حق الجميع إلى الدية وإن عفا مطلقا انتقل حق الباقين إلى الدية كما يسقط حق أحد الشريكين إذا أعتق شريكه إلى القيمة وقد روى زيد بن وهب : أن رجلا دخل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها فاستعدى عليه إخوتها عمر رضي الله عنه فقال بعض أخوتها : قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية
فصل :
ويصح العفو بلفظ العفو لقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه } وبلفظ الصدقة لقوله تعالى : { فمن تصدق به } وبلفظ الإسقاط لأنه إسقاط للحق وبكل لفظ يؤدي معناه لأن المقصود المعنى فبأي لفظ حصل ثبت حكمه كعقد البيع
فصل :
واختلفت الرواية في موجب العمد فعنه : موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية لخبر أبي شريح لأن له أن يختار أيهما شاء فكن الواجب أحدهما كالهدي والطعام في جزاء الصيد وعنه : موجبه القصاص عينا لقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ولأنه بدل يجب حقا الآدمي فوجب معينا كبدل ماله فإن قلنا بهذا فعفا عنه مطلقا سقط القصاص ولم تجب الدية لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه العفو وإن قلنا : موجبة أحد الشيئين فعفا عن القصاص مطلقا وجبت الدية لأن الواجب أحدهما فإن ترك أحدهما تعين الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال وإن اختار القصاص تعين وقال القاضي : وله الرجوع إلى المال لأن القصاص أعلى فكان له أن ينتقل إلى الأدنى ولهذا قلنا : له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجبا عينا ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه تركها فلم يرجع إليها كما لو عفا عنها وعن القصاص ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه بأرشها سقط القصاص لأن شراءه بالأرش اختيار للمال ثم إن كان أرشها مقدرا بذهب أو فضة صح الشراء لأنه ثمن معوم وإن كان إبلا لم يصح لأن صفتها مجهولة فلم يصح جعلها عوضا كما لو اشترى بها غير الجاني
فصل :
ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص لأن الحجر عليها في المال وليس هذا بمال فإن عفوا إلى مال ثبت وإن عفو إلى غير مال وقلنا : الواجب أحد شيئين ثبت المال لأنه واجب وليس لهما إسقاط المال وإن قلنا : الواجب القصاص عينا صح عفوهما لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه
فصل :
وإن وجب القصاص لصغير فليس لوليه العفو على غير مال لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه وإن عفا إلى مال وللصغير كفاية من ماله أو له من ينفق عليه لم يصح عفوه لأنه يسقط القصاص من غير حاجة وإن لم يكن له ذلك صح عفوه لأن للصغير حاجة إليه لحفظ حياته ويحتمل أن لا يصح لأن نفقته في بيت المال وإن قتل من لا ولي له فالأمر إلى السلطان وإن رأى قتل وإن رأى عفا على مال لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه وإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه ويحتمل جواز العفو على غير مال لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان ولم ينكره أحد من الصحابة ولأنه ولي الدم فجاز له العفو على غير مال كسائر الأولياء
فصل :
وإذا وكل من يستوفي له القصاص ثم عفا عنه ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح العفو لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه فلم يصح كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني
والثاني : يصح لأنه حق له فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل كالدين ولا قصاص على الوكيل لأنه جهر تحريم القتل وعليه الدية لأنه قتل معصوبا ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين لأنه غره فرجع عليه بما غرم كالمغرور بحرية الأمة
والثاني : لا يرجع عليه لأنه محسن بالعفو بخلاف الغار بالحرية
فصل :
وإذا جنى عليه جناية توجب القصاص فيما دون النفس فعفا عنها ثم سرت إلى نفسه فلا قصاص فيها لأن القصاص لا يتبعض وقد سقط في البعض فسقط في الكل وإن كانت الجناية لا توجب القصاص كالجائفة وجب القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يؤثر العفو وإن كان عفوه على مال فله الدية كاملة في الموضعين وإن عفا عن دية الجرح صح عفوه لأن ديته تجب بالجناية بدليل أنه لو جنى على طرف عبد فباعه سيده ثم برأ كان أرش الجناية للبائع دون المشتري وإنما تتأخر المطالبة به كالدين المؤجل فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء لأن القطع غير مضمون فكذلك سرايته والأول أولى لأن القطع موجب وإنما سقط الوجوب بالعفو فيختص السقوط بمحل العفو وإن قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولا قصاص في سرايتها ولا دية لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه فصح كالعفو عن الشفعة بعد البيع ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث نص عليه لأن الواجب القصاص عينا أو أحد شيئين فما تعين إسقاط أحدهما وعنه : أنه إن مات من سرايتها لم يصح العفو لأنها وصية لقاتل وعنه : تصح وتعتبر من الثلث
فصل :
وإن قطع إصبعا فعفا عنها ثم سرى إلى الكف ثم اندمل فالحكم فيه على ما فصلناه في السراية إلى النفس فإن قال الجاني : عفوت عن الجناية وما يحدث منها فأنكر الولي العفو عن سرايتها فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه
فصل :
وإن قطع يده فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية فعاد الجاني فقتله فلوليه القصاص في النفس لأن القتل انفرد عن القطع فوجب القصاص فيه كما لو قتله غير القاطع فإن اختار الدية فقال أبو الخطاب : له الدية كلها لأن القتل منفرد عن القطع فلم يدخل حكمه في حكمه كما لو كان القاطع غيره ولأن من ملك القصاص في النفس ملك العفو عن الدية كلها كسائر أولياء المقتولين وقال القاضي : له نصف الدية لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها كان بمنزلة سرايتها ولو سرى القطع لم يجب إلا نصف الدية كذا هاهنا
فصل :
إذا قطع يد إنسان فسرى إلى نفسه فاقتص وليه في اليد ثم عفا عن النفس على غير مال جاز ولا شيء عليه سواء سرى القطع أو وقف لأن العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفي فأشبه ما لو قبض بعض ديته ثم أبرأه من باقيها وإن عفا على مال فوجب له نصف الدية لأنه أخذ مال ما يساوي نصف الدية وإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فاستوفى من يديه ثم عفا عن النفس لم يجب له شيء لأنه لم يبق من الدية شيء وإن قطع نصراني يد مسلم فسرى فقطع الولي يده ثم عفا عن نفسه على ماله ففيه وجهان :
أحدهما : له نصف دية مسلم لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه فبقي له النصف
والثاني : يجب له ثلاثة أرباعها لأنه استوفى يدا قيمتها ربع دية مسلم فبقي له ثلاثة أرباعها وإن قطع يده فسرى إلى نفسه فاستوفى من يده وعفا عن نفسه فعلى الوجه الأول : لا شيء له لأنه رضي بيده بدلا من يديه فيصير كما لو استوفى ديته وعلى الوجه الثاني : له نصف الدية لأنه أخذ ما يساوي نصفها وبقي له نصفها وإن كان الجاني امرأة على رجل فعلى ما ذكرناه من التفصيل

كتاب الديات
تجب الدية بقتل المؤمن والذمي والمستأمن ومن بيننا وبينه هدنة لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } إلى قوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } فأما من لم تبلغه الدعوة فلا يضمن لأنه لا إيمان له ولا أمان فأشبه الحربي
وقال أبو الخطاب : تجب ديته لأنه محقون الدم من أهل القتال أشبه الذمي وإن قتل في دار الحرب مسلما كاتما لإسلامه يظنه حربيا ففيه روايتان :
إحداهما : لا دية فيه لقول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر دية
والثانية : يضمنه لأنه قتل مؤمنا معصوما خطأ وإن أرسل سهمه إلى حربي فتترس بمسلم فقتله ففيه روايتان :
أحدهما : يضمنه ذلك
والثانية : لا يضمنه لأنه مضطر إلى رميه غير مفرط في فعله
فصل :
وإن قطع طرف مسلم فارتد ومات ففيه وجهان :
أحدهما : لا يضمن شيئا لأن القطع صار قتلا لنفس لا ضمان فيها
والثاني : تجب دية الطرف لأن الجناية أوجبت ديته لأن الجناية أوجبت ديته والردة قطعت سرايته فلا يسقط ما تقد وجوبه كما لو قطع يده فقتل المجروح نفسه وفي قدر الواجب وجهان :
أحدهما : أرش الجرح بالغا ما بلغ كما لو قتل الرجل نفسه
والثاني : أقل الأمرين من أرشه أو دية النفس لأنه لو لم يرتد لم يجب أكثر من دية النفس فإذا ارتد كان أولى ألا يريد ضمانه
فصل :
وإن قطع يد مسلم فارتد تم أسلم ومات وزمن الردة مما لا تسري فيه الجناية ففيه دية كاملة لأنه زمن الردة لا أثر له وإن كان مما تسري فيه الجناية فكذلك على ظاهر كلامه لأنه مسلم في حال الجرح والموت وقال القاضي : يحتمل و جوب دية كاملة اعتبارا بحال استقرار الجناية ويحتمل أن يجب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة أشبه من مات من جرح نفسه وأجنبي
فصل :
وإن قطع يد مرتد أو حربي فأسلم ومات لم يضمن لأنه مات من سراية جرح مأذون فيه فلم يضمن كالسارق إذا سرى قطعه ولو رمى حربيا أو مرتدا فلم يقطع به السهم حتى أسلم فلا ضمان فيه لأنه وجد السبب منه في حال هو مأمور بقتله على وجه لا يمكن تلافيه أشبه ما لو جرحه ثم أسلم ويحتمل كلام الخرقي وجوب ديته لأنه قال : لو رمى إلى كافر أو عبد فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فعليه دية حر مسلم ولأن الاعتبار في الضمان بحال الجناية دون حال السبب بدليل ما لو حفر بئرا لحربي فوقع فيها بعدما أسلم ويحتمل التفريق بين الحربي والمرتد لأن قتل الحربي مأمور به وقتل المرتد إلى الإمام وإن أرسل سهمه إلى مسلم فأصابه بعد أن ارتد لم يضمنه لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون أشبه ما لو أرسله على حي فأصابه بعد موته
فصل :
وإذا اشترك الجماعة في القتل فعليهم دية واحدة تقسم على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فيقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال وإن جرحه أحدهم جراحات وسائرهم جرحا واحدا فهم سواء لما تقدم وإن كان القتل عمدا فالدية واحدة وقال ابن أبي موسى : إذا قلنا : له أن يقتص من جميعهم ففيه روايتان :
أظهرهما : أن على كل واحد دية كاملة بدلا عن نفسه
والثانية : تجب دية واحدة وهذا أصح لأن الدية بدل المحل فلا يختلف بكثرة المتلفين وقلتهم كبدل المال وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم ويعفوا عن البعض ويأخذ الدية من الباقين فله ذلك ويأخذ منهم حصتهم من الدية لما ذكرنا والمكره والمكره مشتركان في القتل حكمهما ما ذكرنا وكذلك حكم الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة لما ذكرناه من حيث علي رضي الله عنه ومن المعنى فيه
فصل :
وإن طرح إنسانا في ماء يسير يمكنه التخلص منه فأقام فيه قصدا حتى هلك لم يجب ضمانه لأن طرحه لم يهلكه وإنما هلك بإقامته فكان هو المهلك لنفسه وإن طرحه في نار يمكنه الخلاص منها فلم يفعل حتى هلك ففيه وجهان :
أحدهما : لا يضمنه كذلك
والثاني : يضمنه لأن تركه التخلص لا يسقط ضمان الجناية كما لو جرحه فترك مداواة نفسه حتى هلك به وفارق الماء لأن الناس يدخلونه للسباحة وغيرها
وإن شده في موضع فهلك بزيادة الماء ضمنه فإن كانت الزيادة معلومة كمد البصرة فهو عمد محض وإن كانت تحتمل ويحتمل فهو شبه عمد وإن كانت نادرة فهو خطأ وإن ألقاه في ماء يسير فالتقمه حوت فهو خطأ محض وإن كان الماء كثيرا فهو شبه عمد وإن ألقاه مكتوفا فأكله سبع فهو شبه عمد لأنه عمد إلى فعل لا يهلك به غالبا فهلك به أشبه ما لو وكزه
فصل :
وإن صاح بصبي أو تغفل غافلا فصاح به فسقط عن شيء هلك به ضمنه لأنه هلك بسببه فإن قصده بالصياح فهو شبه عمد وإن لم يقصده فهو خطأ وإن كان العاقل متيقظا لم يضمنه لأن ذلك لا يقتله وإن اتبع إنسانا بسيف فوقع في شيء هلك به ضمنه لأنه تسبب إلى إهلاكه وكذلك إن طرده إلى موضع فأكله به سبع
فصل
وإن بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها ففزعت فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر ؟ ! فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار بعضهم : أن ليس عليك شيء إنما أنت مؤدب فصمت علي فأقبل عليه عمر فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وإن كانو قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقت
وإن هلكت المرأة بسبب و ضعها ضمنها أيضا لأنه سبب لإتلافها وإن فزعت فماتت لم يضمنها لأنه ليس بسبب لهلاكها غالبا ويحتمل أن يلزمه ضمانها لأنها هلكت بفعله فضمنها كما لو ضربها سوطا فماتت وإن زنى بامرأة مكرها فأحبلها فماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب تعدى به
فصل :
وإن رمى إنسانا من علو فتلقاه آخر بسيفه فقتله فالضمان على القاتل لأنه مباشر والملقي متسبب فكان الضمان على على المباشر كالحافر والدافع
فصل
ومن حفر بئرا في الطريق أو وضع حجرا أو حديدة أو قشر بطيخ أو ماء فهلك به إنسان ضمنه لأنه تعدى به ولزم ضمان ما هلك به كما لو جنى عليه فإن دفعه آخر في البئر أو على الحجر أو الحديدة فالضمان على الدافع لأنه مباشر والآخر صاحب سبب وإن حفر بئرا أو نصب حديدة ووضع آخر حجرا فعثر بالحجر فوقع في البئر أو على الحديدة فمات فالضمان على واضع الحجر لأنه الذي ألقاه فأشبه ما لو ألقاه بيده
فصل
ومن حفر بئرا في طريق لنفسه ضمن ما هلك بها لأنه ليس له أن يختص بشيء من طريق المسلمين وكذالك إن حفرها فيي ملك غيره بغير إذنه لأنه متعد بحفرها وإن حفرها في الطريق لمصلحة المسلمين وكانت في طريق ضيق ضمن ما تلف بها لأنه ليس له ذلك وإن كانت في طريق واسع لم يضمن لأنه لم يتعد بها فلم يضمن ما تلف بها كما لو أذن فيها الإمام وعنه : إن حفرها بغير إذن الإمام ضمن لأن ما يتعلق بمصلحة المسلمين يختص الإمام بالنظر فيه فمن افتأت عليه كان متعديا به فضمن ما هلك به وإن بنى مسجدا في موضع لا ضرر فيه أو علق قنديلا في مسجد أو بابا أو فرش في حصيرا لم يضمن ماتلف به لأن هذا من المصالح التي يشق استئذان الإمام فيها فملك فعله بغير إذنه كإنكار المنكر وذكر القاضي : أنه كحفر البئر في الطريق وإن حفر بئرا في موات لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون أو ليتملكه لم يضمن ما تلف بها لأنه غير متعد بحفرها وإن كان في داره بئر أو كلب عقور فدخل إنسان بغير إذنه فهلك بها أو عقر الكلب لم يضمنه لأن التفريض من الداخل وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في موضع يراها الداخل لم يضمنه وإن كانت مغطاة أو في ظلمة أو الداخل ضريرا ضمنه لأنه فرط في ترك إعلامه وإن وضع حجرا في ملكه وحفر آخر بئرا في الطريق فتعثر بالحجر فوقع في البئر فالضمان على الحافر لأن العدوان منه فكان الضمان عليه والواضع في ملكه لا عدوان منه فلم يضمن وإن وضع جرة على سطحه فألقتها الريح على شىء فأتلفته لم يضمنه لأنه غير متعد بالوضع ولا صنع له في إلقائها
فصل :
وإن بنى حائطا مائلا إلى الطريق أو إلى ملك غيره فسقط على شىء أتلفه ضمنه لأنه تلف بسبب تعدى به وإن بناه في ملكه مستويا فمال إلى الطريق أو إلى ملك غيره فأمره المالك بنقضه أو أمره مسلم أو ذمي بنقص المائل إلى الطريق وأمكنه ذلك فلم يفعل ضمن ما تلف به أحد الوجهين لأن ذلك يضر المالك والمارة فكان لهم المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو بناه مائلا والثاني : لا يضمن لأنه وضعه في ملكه وسقط بغير فعله فأشبه الجرة التي ألقتها الريح ويحتمل أن يضمن وإن لم يطالب بنقضه لأن بقائه مائلا يضر فلزمه إزالته وإن لم يطالب به كالذي بناه مائلا وإن لم يمكنه نقضه لم يضمن لأنه غير مفرط وإن أخرج جناحا أو ميزابا إلى الطريق فوقع على إنسان ضمنه لأنه تلف بسبب تعدى به فأشبه ما لو بنى حائط مائلا
فصل :
وإذا رمى إلى الهدف فمر صبي فأصابه السهم فقتله أو مرت بهيمة فأصابها ضمن ذلك لأنه أتلفه وإن قدم إنسان الصبي أو البهيمة إلى الهدف فأصابهما السهم فالضمان على من قدمهما لأن الرامي كالحافر والآخر كالدافع وإن أمر من لا يميز أن ينزل بئرا أو يصعد نخلة فهلك بذلك ضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه وإن أمر من يميز بذلك فهلك به لم يضمنه لأنه يفعل ذلك باختياره فإن كان الآمر السلطان ففيه وجهان :
أحدهما : لايضمنه كذلك
والثاني : يضمنه لأن عليه طاعة السلطان فأشبه ما لو أكرهه على فعله وإن غصب صبيا فأصابته عنده صاعقة أو نهشته حية ضمنه لأنه تلف في يده العادية وإن مرض فمات ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه كذلك فأشبه العبد الصغير
والثاني : لايضمنه لأنه حر لا تثبت اليد عليه في الغصب فأشبه الكبير وإن أدب المعلم صبيانه أو الرجل ولده أو زوجته أو السلطان رعيته الأدب المأمور به لم يضمن ما تلف به لأنه أدب مأمور به فلم يضمن ما تلف به كالحد ويحتمل أن يضمن كما لو أرسل إلى امرأة ليحضرها فأجهضت جنينها
فصل :
وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها ضمنه راكبها وقائدها وسائقها وما أتلفت برجلها أو ذنبها لم يضمنه لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : [ الرجل جبار ] رواه سعيد فمفهومه أن جناية اليد مضمونة والفم في معناها ولأن اليد يمكن حفظها فضمن ما تلف بها بخلاف الرجل وعنه : في السائق أنه يضمن جناية الرجل والذنب لأنه يشاهدهما فأشبه اليد في حق القائد وإن بالت في الطريق ضمن ما تلف به لأنه كما لو صبه فيها ويحتمل أن لا يضمن في هذا لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه جناية الرجل وإن كان على دابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها وإن كان لها قائد وسائق اشتركا في الضمان لا شتراكهما في تمشيتها وإن كان معهما راكب فالضمان بينهم أثلاثا كذلك ويحتمل أن يختص به الراكب لأنه أقوى منهما يدا والجمل المقطور إلى جمل عليه راكب كالذي في يده لأن يده عليه وليس عليه ضمان ما جنى ولد البهيمة لأنه لا يمكنه حفظه وكذلك ما جنت الدابة إذا لم يكن عليها يد لم يضمن مالكها كذلك
فصل :
وإذا اصطدم نفسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه لأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قرب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد وإن ماتت دابتاهما ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر وإذا كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر دية الواقف وضمان دابته لأنه قتلهما بصدمته ولا ضمان على الواقف لأنه لا فعل منه إلا أن يقف في طريق ضيق فيكون الضمان عليه لأنه تعدلى بالوقوف فيه فأشبه واضع الحجر فيه وإن تصادما عمدا وذلك مما يقتل غالبا فدماؤهما هدر لأن ضمان كل واحد منهما يلزم الآخر في ذمته فيتقاصان ويسقطان وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما فاصطدما فهما كالبالغين وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما فعليه ضمان ما تلف منهما لأنه تلف بسبب جنايته وإن أركب الصبي من لا ولاية له فصدمه كبير فقتله فالضمان على الصادم لأنه تلف بسبب جنايته وإذا اصطدمت امرأتان حاملان فحكمهما في أنفسهما ما ذكرنا وعلى كل واحد منهما نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين الأخرى لأنهما اشتركا في قتلهما لجنايتهما عليهما وإن تصادم عبدان فماتا فهما هدر لأن جناية كل واحد منهما تتعلق برقبته فتفوة بفواته فإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر كسائر جناياته
فصل :
وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا لتفريط من القيمين مثل تقصيرهما في آلتهما وتركهما ضبطهما مع إمكانه إو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها كالفارسين إذا اصطدما فإن لم يفرطا فلا ضمان عليهما لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه ولا تفريط منهما أشبه التلف بصاعقة وإن فرط أحدهما دون صاحبه ضمن المفرط وحده وإن فرطا جميعا وكان أحدهما منحدرا والآخر مصعدا فعلى المنحدر ضمان المصعد لأن المنحدر كالسائر والمصعد كالواقف فيختص المنحدر بالضمان كالسائر ومن غرق سفينة فيها ركبان بسبب يقتل مثله غالبا عمدا فعليه القصاص وإن كان خطأ فعلى عاقلته دية الركبان وإن كان عمدا بسبب لا يقتل مثله غالبا فقتلهم شبه عمد
فصل :
وإذا قال بعض ركبان السفينة لرجل : ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه وجب عليه ضمانه لأنه استدعى منه إتلاف ماله بعوض لغرض صحيح فأشبه ما لو قال : أعتق عبدك وعلي ثمنه وإن قال : ألقه وضمانه علي وعلى ركبان السفينة ففعل فعليه بحصته من الضمان إن كانوا عشرة فعليه العشر ويسقط سائره لأنه جعل الضمان على الجميع فلم يجب أكثر من حصته وإن قال : ألق ونحن نضمنه لك وعلي تحصيله لك لزمه لأنه تكفل له بتحصيل عوضه وكذلك إن قال : قد أذنوا لي في الضمان عنهم فألقه ونحن ضمنا لك ضمن جميعه لأنه غره
فصل :
وإذا رمى أربعة بالمنجنيق فقتل الحجر رجلا فعلى كل واحد منهم ربع ديته وإن قتل الحجر أحدهم ففيه وجهان :
أحدهما : يسقط ربع ديته ويلزم ثلاثة أرباعها لأنه مات بفعله وفعلهم فهدر ما قابل فعله ولزم شركاءه الباقي كما مات من جراحاتهم وجراح نفسه
الثاني : يلزم شركاءه جميع ديته ويلغو فعل نفسه قياسا على المصطدمين وإن كانوا ثلاثة فما دون ففيه وجه ثالث وهو أن يجب ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته
فصل :
إذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فمات الأول وجبت ديته على الثاني لما روى علي بن رباح اللخمي : أن بصيرا كان يقود أعمى فخرا في بئر ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم :
( يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معا كلاهما تكسرا )
ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه وإن مات الثاني هدرت ديته لأنه لا صنع لغيره في هلاكه وإن ماتا معا فعليه ضمان الأول ودمه هدر كذلك وإن وقع عليهما ثالث فدية الأول على الثاني والثالث لأنه مات بوقوعهما عليه ودية الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته ودم الثالث هدر هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله فإن كان البئر عميقا يموت الواقع بمجدر وقوعه لم يجب الضمان على أحد لأن كل واحد منهم مات بوقعته لا بفعل غيره وإن احتمل الأمرين فكذلك لأن الأصل عدم الضمان
فصل :
فإن خر رجل في زبية أسد فجذب ثانيا وجذب الثاني ثالثا وجذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فدم الأول هدر لأنه لا صنع لأحد في إلقائه وعليه دية الثاني لأنه السبب في قتله وعلى الثاني دية الثالث كذلك وعلى الثالث دية الرابع كذلك وفيه وجه آخر : أن دية الثالث على الأول والثاني نصفين لأن جذب الأول الثاني سبب في جذب الثالث ودية الرابع على الثلاثة أثلاثا كذلك وقد روي عن أحمد : أنه ذهب فيها إلى قضية علي رضي الله عنه وهو ما روى حنش الصنعاني : أن قوما من أهل اليمين حفروا زبية للأسد فوقع فيها فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا ثم جذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال : للأول ربع الدية لأنه هلك فوقه فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع الدية كاملة وقال : وإني أجعل الدية على من حفر رأس البئر فبلغ ذلك النبي ( ص ) فقال : [ هو كما قال ] رواها سعيد بن منصور بإسناده وذكرها أحمد واحتج بها وذهب إليها فإن كان هلاكهم لوقوع بعضهم على بعض فلا شيء على الرابع لأنه لا صنع له وتجب ديته علىالثالث في إحدى الوجهين لأنه المباشر لجذبه وفي الثاني : ديته على الثلاثة أثلاثا وتجب دية الثالث على الثاني في أحد الوجوه والثاني تجب ديته على الأول والثاني نصفين ويلغى فعل نفسه والثالث يهدر ما قابل فعله في نفسه ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته والرابع يهدر نصف ديته ويجب على عاقلة الثاني نصفها وأما الثاني : ففيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : تجب ديته على الأول والثالث : نصفين :
والثاني : يهدر من ديته ثلثها لأنه قابل فعل نفسه ويجب ثلثاها على الأول والثالث
والثالث : تجب الدية على عواقلهم ثلاثتهم
وفي الأول ثلاثة أوجه :
أحدهما : تجب ديته على الثاني والثالث نصفين
والثاني : يجب عليهما ثلثاها ويسقط ثلثها
والثالث : تجب الدية على عواقلهم كلهم
فصل :
إذا تجارح رجلان زعم كل واحد منهما أنه جرح الآخر دفعا عن نفسه وجب على كل واحد منهما ضمان صاحبه لأن الجرح قد وجد وما يدعيه من القصد لم يثبت فوجب الضمان والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في النفي القصاص لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص لأنه يندرئ بالشبهات
فصل
ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه فمنعه مع غناه عنه فهلك ضمنه لأن عمر رضي الله عنه قضى بذلك ولأنه قتله بمنعه طعاما يجب دفعه إليه فضمنه كما لو منعه طعامه فهلك بذلك وإن رآه في مهلكة فلم ينجيه لم يضمنه لأنه لم يتسبب إلى قتله بخلاف التي قبلها وقال أبو الخطاب رحمه الله : يلزمه ضمانه على قياس التي قبلها ولا يصح لأنه في الأول منعه من تناول ما تبقى حياته به فنسب هلاكه إليه بخلاف هذا فإن لا صنع له فيه

باب مقادير الديات
دية الحر المسلم : مائة من الإبل لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن : [ وإن في النفس الديات مائة من الإبل ] رواه مالك عن الموطاء و النسائي في السنن
فصل :
ودية العمد المحض وشبه العمد أرباع خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون ينت لبون وخمس وعشرون بنت مخاض في إحدى الروايتين لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال : كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنتا لبون وخمس وعشرين بنت مخاض ولأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه
والثانية : يجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعن خلفة أي حاملا لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ] رواه أبو داود وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذو الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم ] رواه الترمزي وقال : حديث حسن والخلفة : الحامل وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له : قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فأخذ منه عمر ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في الموطأ وهل يعتبر في الأربعين أن تكون ثنايا ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يعتبر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق الخلفات فاعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بديل
والثاني : يجب أن تكون ثنايا لأن في بعض الألفاظ منها أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلا بازل ولأن سائر الأنواع مقدرة السن فكذلك الخلفات
فصل :
ودية الخطأ ما أجري مجراه أخماس عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ في دية الخطأ عشرن جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض ] رواه أبو داود وعمد الصبي والمجنون جار مجرى الخطأ وحكمه حكمه لأنه لا يوجب قصاصا بحال وكذلك فعل النائم مثل أن ينقلب على شخص فيقتله والقتل بالسبب مثل حفر البئر ووضع الحجر وسائر ما ذكرناه حكمه حكم الخطأ
فصل :
وتجب الإبل صحاحا غير مراض ولا عجاف ولا معيبة لأنه بدل متلف من غير جنسه لم يقبل فيه معيب كقيمة المال ومتى أحضرها على الصفة المشروطة لزم قبولها سواء كانت من جنس ماله أو لم تكن لأنها بدل متلف فلم يعتبر كونها من جنس ماله كسائر قيم المتلفات
فصل :
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت الصفة المشروطة وجب أخذها قلت قيمتها أو كثرت لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق الإبل فتقييدها بالقيمة يخالف ظاهر الخبر ولأنه خالف بين أسنان دية العمد والخطأ تخفيفا لدية الخطأ عن دية العمد واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما وإزالة للتخفيف المشروع
وعن أحمد : أنه يعتبر أن يكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهما لأن عمر قومها باثني عشر ألف درهم ولأنها إبدال محل واحد فيجب أن تستوي قيمتها كالمثل والقيمة في المتلفات
فصل :
وظاهر كلام الخرقي أن الإبل هي الأصل في الدية قال أبو الخطاب : هذا إحدا الروايتيم عن أحمد لما روينا من الأخبار والرواية الأخرى : أن الأصول ستة أنواع الإبل و البقر والغنم و الذهب والورق و الحلل لما روي في كتاب عمرو بن حزم وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب أبيه عن جده إن عمر قام خطيبا فقال : إن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق إثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعا وقال القاضي : لا يختلف المذهب في أن هذه الأنواع أصول في الدية إلا الحلل فإن فيها روايتين فأي شيء منها أحضره من عليه الدية لزم الولي قبوله لأنها أبدال فائت فكانت الخيرة إلى المعطي كالأعيان في الجنس الواحد وإذا قلنا : الأصل الإبل خاصة وجب عليه تسليمها وأيهما أراد العدول إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها كالمثل في المثليات فإن أعوزت أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن مثلها فله الإنتقال الى أحد هذه الأنواع لأنها أبدال عنها فيصار إليها عند إعوازها كالقيمة في بدل المثليات
فصل :
وقدرها من هذه الأنواع على ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه : وهي ألف مثفال من الذهب الخالص أو اثنا عشر ألف درهم من دراهم الإسلام التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة مقدرة بما تجب في الزكاة ففي البقر النصف مسنات والنصف أتبعة وفي الغنم يجب النصف ثنايا والنصف أجذعة إذا كانت من الضأن ويجب في الحلل المتعارف من حلل اليمن كل حلة بردان ويجب أن يكون كل نوع منها تبلغ قيمته اثني عشر ألف درهم على الرواية التي تعتبر فيها قيمة الإبل فيكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما وقيمة كل شاة ستة دراهم لما ذكرنا ولما روى بن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ديته اثني عشر ألفا رواه أبو داود
قصل :
وذهب أصحابنا إلى أن الدية تغلظ بالقتل في الحرم والإحرام والشهر الحرام وقال أبو بكر : وتغلظ أيضا بالرحم المحرم وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنها لاتغلظ به ومعنى التغليظ : أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث الدية فإن اجتمعت الحرمات الثلاث وجب ديتان وعلى قول أبي بكر : إذا اجتمعت الأربع وجبت ديتان وثلث لما روي عن عثمان رضي الله عنه : أن امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف وألفين تغليظا للحرم وعن ابن عمر أنه قال : من قتل في الحرم أو ذا رحم أو في شهر الحرام فعليه دية وثلث وعن ابن عباس أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال : ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف ولم يظهر خلاف هذا فكان إجماعا ولا تغلظ لغير ما ذكرنا لعدم الأثر فيه وامتناع قياسه على ما ورد الأثر فيه وظاهر كلام الخرقي أنها لا تزاد على مائة من الأبل لقوله الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وهذا عام في كل قتيل وفسر النبي صلى الله عليه و سلم الدية بمائة من الإبل وإخبار النبي صلى الله عليه و سلم في تقدير الواجب بالقتل بمائة من الإبل أو غيرها مطلقة في الأمكنة والأزمنة والقرابة وقد قتلت خزاعة قتيلا من هذيل بمكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل ؟ ! وأنا والله عاقله فمن قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا وإما أن يأخذوا الدية ] ولم يزد
وقتل قتادة ابنه فلم يأخذ منه عمر أكثر من مائة ولأنه بدل متلف فلم يختلف بهذه المعاني كسائر المتلفات
فصل :
ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب عمرو ابن حزم أنه قال : [ دية المرأة على النصف من دية الرجل ] ولأنه إجماع الصحابة روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولا مخالف لهم وتساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ] رواه النسائي وعن ربيعة قال : قلت لسعيد ابن المسيب : كم في أصبع المرأة ؟ قال : عشر قلت : ففي أصبعين ؟ قال : عشرون قلت : في ثلاث أصابع ؟ قال : ثلاثون قلت : ففي أربع أصابع ؟ قال : عشرون قلت : لما عظمت مصيبتها قل عقلها ؟ ! قال : هكذا السنة يا ابن أخي رواه سعيد بإسناده وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل
ودية الكاتبي : نصف دية المسلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ دية المعاهد نصف دية المسلم ] رواه أبو داود وروي عنه : أن ديته ثلث الدية لما روي أن عمر : جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف إلا أنه رجع عن هذه الرواية وقال : كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم فإن قتله المسلم عمدا أضعفت الدية على قاتله لإزالة القود لأن عثمان رضي الله عنه حكم بذلك ولو قتله الكافر لم تضعف ديته لأن القود واجب ونساؤهم على النصف من دياتهم كما أن نساء المسلمين على النصف منهم ودية المجوسي : ثمانمائة درهم لما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا : ديته ثمانمائة درهم والمستأمن : كالذمي وإن كان وثنيا فديته : دية المجوسي لأنه كافر لا يحل نكاح نسائه فأما من لم تبلغه الدعوة إم لم يكن له عهد فلا ضمان فيه لأنه كافر لا عهد له أشبه نساء أهل الحرب وقال أبو الخطاب : يضمن بما يضمن به أهل دينه لأنه محقون الدم من أهل القتال أشبه المستأمن
فصل :
وإذا قطع طرف ذمي فأسلم ثم مات ففيه وجهان :
أحدهما : تجب دية مسلم اختاره ابن حامد لأن الاعتبار بحال استقرار الجناية بدليل ما لو قطع يديه ورجليه فمات وجبت دية واحدة اعتبارا بحال الاستقرار
والثاني : يجب دية ذمي وهو ظاهر قول أبي بكر و القاضي لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها بدليل عدم وجوب القصاص فيها وهو في حالة الجناية ذمي فأما إن رمى إلى ذمي فلم يقع به السهم حتى أسلم فعليه دية مسلم لأن الإصابة لمسلم
فصل : ودية الخنثى المشكل : نصف دية ذكر ونصف دية أنثى وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر لأنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالا على السواء فيجب التوسط بينهما كالميراث والحكم في جراحه كالحكم في ديته فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى وفيما زاد ثلاثة أرباع دية حر ذكر
فصل :
ودية العبد والأمة : قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه فأشبه الفرس وإن جنى عليه جناية غير مقدرة في الحر ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح كسائر الأموال وإن كانت مقدرة في الحر فهي مقدرة في العبد من قيمته فما وجبت فيه الدية كالأنف واللسان والذكر والأنثيين ضمن من العبد بقيمته وما يجب فيه ديتان كإذهاب سمعه وبصره ففيه مثلا قيمته وما ضمن بجزء من الدية كاليد والرجل والإصبع ضمن من العبد بمثله من قيمته لأن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه ولأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة فساواه في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس كالرجل والمرأة وعن أحمد رواية أخرى : أن الجناية على العبد بما نقص من قيمته سواء كانت مقدرة في الحر أو لم تكن مقدرة لأن ضمانه ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم والحكم في المكاتب وأم الولد كالحكم في القن لأنهم رقيق فأما من بعضه حر ففيه بالحساب من دية حر وقيمته عبد فإن كان نصفه حرا ففيه نصف دية حر لورثته ونصف قيمته لسيده وهكذا في جراحه لأن الضمان يتجزأ فوجب أن يقسم على قدر ما فيه منهما كالكسب
فصل :
إذا فقأ عيني عبد قيمته ألفان فاندمل ثم أعتق ومات وجبت قيمته بكاملها لسيده لأنه استقر حكم الجرح وهو مملوك وكذلك إن اندمل بعد العتق لأن الضمان يجب بالجناية وهو حينئذ مملوك وإن سرى الجرح إلى نفسه فروى حنبل عن أحمد أن على الجاني قيمته السيد وهذا اختيار أبي بكر و القاضي لأن الضمان يجب بالجناية وهو حينئذ مملوك فأشبه ما لو اندمل الجرح وقال ابن حامد : يجب فيه دية حر لأن اعتبار مقدار الواجب بحال الاستقرار بدليل ما لو فقأ عينه وقطع أنفه فمات من سراية الجرح لم يجب إلا قيمة واحدة ويصرف ذلك إلى السيد لأن الجناية في ملكه فإن فقأ إحدى عينه فسرى إلى نفسه بعد العتق فعلى الوجه الأول تجب القيمة بكمالها للسيد اعتبارا بحال وجودها وعلى قول ابن حامد : يجب دية حر لسيدة منها أقل من الأمرين من نصف القيمة أو كمال الدية لأنه إن كان نصف القيمة أقل فهو الذي وجب له والزيادة حصلة حال الحرية وإن كانة الدية أقل فنقصها بسبب من جهته وهو العتق
فصل :
وإن قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ومات فلا قصاص على الأول لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف القيمة لسيده على قول أبي بكر وعلى قول ابن حامد : عليه نصف ديته لسيده منها الأقل من نصف قيمته يوم القطع أو نصف الدية لأن نصف القيمة إن كان أقل فهو أرش الجناية الموجودة في ملكه وإن كان أكثر فالحرية نقصت ما زاد عليه وأما الثاني : فعليه القصاص في الطرف إن وقف قطعه وفي النفس إن سرى لأنه شارك في القتل العمد العدوان فأشبه شريك الأب ويتخرج أن لا قصاص عليه بناء على الرواية الأخرى في شريك الأب والفرق بين هذه السألة والتي قبلها أن الجناية ثم من واحد فكانت الدية جميعها عليه وها هنا من اثنين فقسمت الدية عليهما فإن عاد الأول فذبحه بعد اندمال الجرحين فعليه القصاص للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الثاني : القصاص في الطرف أو نصف الدية وإن كان قبل الاندمال فعلى الأول القصاص في النفس دون الطرف فإن اقتصوا سقط حق السيد وإن عفوا على مال فلهم الدية لا غير وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش القطوع وعلى الثاني : القصاص في طرف أو نصف الدية لأن الذبح قطع سرايتها فصارت كالمندملة فإن كان قاطع اليد الأخرى هو قاطع الأولى ولم يقتل فلا قصاص في اليد الأولى لما ذكرنا ويجب في الثانية إن وقف القطع وإن سرى القطعان فلا قصاص في النفس لأن أحد الجرحين موجب والآخر غير موجب ولكن له القصاص من اليد الثانية فإن عفا عنه على مال وجب عليه مثل ما يجب على القاطعين في المسألة الأولى للسيد منه نصف القيمة على قول أبي بكر وأقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية على قول ابن حامد وإن اقتص منه في اليد الثانية فعليه في اليد الأولى نصف القيمة أو نصف الدية على اختلاف الوجهين وإن قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع آخر رجله فمات من الجرحات فلا قصاص على الأول لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الآخرين القصاص في النفس في ظاهر المذهب بناء على شريك الأب فإن عفا على مال فالدية عليهم أثلاثا وفيما يستحقه السيد وجهان :
أحدهما : أقل الأمرين من نصف قيمته أو ثلث ديته لأنه بالقطع استحق النصف فإذا صارت نفسا صار الواجب ثلث الدية فله أقلهما وعلى الآخر له أقل الأمرين من ثلث الدية أو ثلث القيمة اعتبارا للجناية بما آلت إليه
فصل :
وإذا جنى على عبد في رأسه أو وجهه من دون الموضحة فزاد أرشها على الموضحة ففيه وجهان :
أحدهما : يرد إلى أرش الموضحة كالجناية على الحر
واحتمل أن يجب ما نقص من قيمته بالغا ما بلغ أن ذلك الأصل في ضمان العبيد خولف فيما قدر الشرع أرشه ففيما عداه يرد إلى الأصل
فصل :
ودية الجنين الحر المسلم : غرة : عبد أو أمة قيمتها خمس من الأبل وهو : نصف عشر الدية لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى فيه بغرة : عبد أو أمة وهو : نصف عشر الدية قال : لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة متفق عليه وروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما أنهما قالا في الغرة قيمتها خمس من الإبل ولأنه أقل ما قد في الشرع في الجنايات وهو دية السن والموضحة ولا يقبل في الغرة معيبة وإن قل العيب ولا خصي وإن كثرت قيمته لأنه عيب و لا قيمة الغرة مع وجودها كما لا يجبر على قبول ما ليس بأصل في الدية فيها فإن أعوزت وجبت قيمتها من أحد الصول في الدية وسواء كان الجنين ذكرا أو أنثى لأن الخبر مطلق ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث
فصل :
وإنما يجب ضمانه إذا علم تلفه بالجناية ولو ضرب بطنا منتفخا أو فيه حركة فزالت ولم يسقط لم يجب شيء لأنه يحتمل أن ذلك ريح ذهبت وإن قتل حاملا فلم تسقط لم يضمن جنينها لعدم التقين لحملها وإن ضرب بطن امرأة فألقت يدا أو رجلا أو غيرها من أجزاء الآدمى وجبت الغرة لأننا تيقنا أنه جنين والظاهر تلفه بالجناية فأشبه ما لو ألقته وإن ألقت رأسين أو أربعة أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يحتمل أن يكون من واحد فلا يجب الزائد بالشك وإن ألقت جنينين فعليه غرتان لأن في كل جنين غرة فأشبه ما لو كانا من امرأتين
فصل :
وإن ألقت جنينا حيا ثم مات من الضربة وكان سقوطه لوقت يعيش مثله ففيه دية كاملة لما ذكرنا من حديث عمر في التي أجهضت جنينها فزعا منه ولأننا تيقنا حياته وعلمنا موته بالجناية فأشبه غير الجنين وإن سقط لوقت لا يعيش مثله ففيه الغرة لأنه لم يعلم منه حياة يتصور بقاؤه بها فالواجب فيه غرة كالذي ألقته ميتا
فصل :
وإنما يجب ضمانه إذا علم أنه سقط بالضربة ومات بها بأن تلقيه عقيب الضرب أو تبقى متألمة إلى أن تلقيه ويموت عقيب وضعه أو يبقى متألما إلى أن يموت فإن بقي مدة سالما لا ألم به ثم مات لم يضمنه الضارب لأن الغالب أنه لم يمت من الضربة وإن ألقته حيا فيه حياة مستقرة فقتله غير الضارب فضمانه عليه لأنه القاتل وإن كانت حركته حركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه كمال ديته
فصل :
وإن كان الجنين كافرا فألقته ميتا ففيه غرة قيمتها عشر دية أمه فإن كان أحد أبويه كتابيا والآخر مجوسيا ففيه عشر دية كتابية لأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب بدليل ما لو قتل المحرم صيدا متولدا من مأكول وغيره وإن ضرب بطن كتابية حاملا من كتابي فأسلمت ثم ألقته ففيه غرة قيمتها : خمس من الإبل على قول ابن حامد لأن الضمان معتبر بحالة الاستقرار وعلى قياس قول أبي بكر : قيمتها عشر دية كتابية اعتبارا بحال الجناية وما وجب في الجنين الحر ورثه ورثته لأنه بدل حر فورث عنه كدية غيره
فصل :
وإن ألقت مضغة لا صورة فيها لم يجب ضمانها لأنه لا يعلم أنها جنين وإن شهد ثقات من القوابل أن فيها صورة خفية فيها غرة لأنه جنين وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان :
أحدهم : فيه الغرة لأنه بدء خلق آدمي أشبه المصور
والثاني : لا شيء فيه لأنه غير متصور أشبه العلقة
فصل :
إذا شربت الحامل دواء فأسقطت جنينا فعليها غرة لا ترث منها شيئا لأن القاتل لا يرث وتعتق رقبة
فصل :
وإن ضرب بطن مملوكة فألقت جنينا ميتا ففيه عشر قيمة أمه لأنه جنين آدمية فوجب فيه عشر دية أمة كجنين الحرة ولأنه جزء منها متصل بها فقدر بدله من ديتها كسائر أعضائها وتعتبر قيمتها يوم الجناية كموضحتها وإن ضرب بطنها وهي أمة فأعتقت ثم ألقت فعلى قول ابن حامد : فيه غرة اعتبارا بحاة الاستقرار وعلى قول أبي بكر : فيه عشر قيمة أمه لأن الجناية على عبد وفي جنين المعتق نصفها : نصف غرة ونصف عشر قيمة أمه لأن نصفه حر ونصف عبد ويستوي الذكر والأنثى لأنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف بالذكورية والأنوثية كجنين الحرة
فصل :
إذا غر بحرية أمة فوطئها فحملت منه ثم ضربها ضارب فألقت جنينا ففيه غرة لأنه حر وريثها ورثته كذلك وعلى الواطئ عشر قيمة أمه لسيدها لأنه لولا اعتقاده الحرية لوجب لسيدها عشر قيمتها على الضارب فقد حال بين سيدها وبين ذلك فألزمناه إياه سواء كان بقدر الغرة أو أقل أو أكثر ولو ضرب السيد بطن أمته ثم أعتقها فأسقطت جنينا ففي قياس قول أبي بكر لا ضمان على الضارب لأنه جنى على مملوكه وعلى قياس قول ابن حامد عليه غرة لأنه حر حين استقرار الجناية

باب ديات الجروح
وهي نوعان : شجاج وغيرها فالشجاج : جروح الرأس والوجه خاصة وهي عشر أولها : الحارصة : وهي التي تشق الجلد قليلا ثم البازلة : وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير ثم الباضعة : وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة : وهي التي تنزل في اللحم ثم السمحاق : وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم تسمى السمحاق فسميت الشجة بها فهذه الخمس لا توقيت فيها وعنه : في الدامية بعير والباعضة بعيران وفي المتلاحمة ثلاثة وفي السمحاق أربعة لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت ورواه سعيد عن علي وزيد في السمحاق والأول : ظاهر المذهب لأنها جروح لم يرد الشرع فيها بتوقيت فكان الواجب فيها الحكومة كجروح البدن قال مكحول : قضى رسول الله ( ص ) في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها ثم الموضحة : وهي التي تنهي إلى العظم فتبدي وضحه أي بياضه ثم الهاشمة التي تهشم العظم بعد إيضاحه ثم المنقلة وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره ثم المأمومة وتسمى الأمة وهي التي تصل إلى أم الدماغ وهي جلدة رقيقة تحيط به ثم الدامغة وهي التي تنتهي إلى الدماغ فهذه الخمس فيها مقدر ففي الموضحة خمس من الإبل لما ذكرنا ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ في المواضح خمس خمس ] رواه أبو داود وسواء في ذلك الكبيرة والصغيرة وموضحة الرأس والوجه وعنه : في موضحة الوجه عشر من الإبل لأن شينها أكثر ولا تسترها العمامة والأول : المذهب للخبر ولأننا سوينا الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما كذا ها هنا وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ففيهما عشر فإن أزال الحاجز بينهما بفعله أو ذهب بالسراية ففيهما أرش موضحة لأنهما صارا موضحة واحدة بفعله أو سرايته وسراية الفعل كالفعل وإن أزال الحاجز بعد اندمالهما فهي ثلاث مواضح لأن استقر أرش الأوليين باندمالهما وإن أزال الحاجز أجنبي فعليه أرش موضحة وعلى الأول أرش موضحتين سواء أزاله قبل اندمالهما أو بعده لأن فعل أحدهما لا ينبني على الآخر فصار كل واحد كالمنفرد بجنايته وإن أزاله المحني عليه فعلى الأول أرش موضحتين كذلك وإن أوضحه موضحتين وحرق ما بينهما في الظاهر دون الباطن فهما موضحتان لأ ما بينهما ليس بموضحة وإن حرق ما بينهما في الباطن دون الظاهر فكذلك في أحد الوجهين وفي الثاني : هما موضحة واحدة لا تصالهما في الباطن وإن أو ضحه في رأسه وأنزله إلى وجهه ففيه وجهان :
أحدهما : فيها أرش موضحتين لأنها في عضوين
والثاني : هي موضحة واحدة لأن الجميع إيضاح لا حاجز فيه أشبه ماكان في عضو واحد وإن أوضحه في هامته فنزل إلى قفاه ففيه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا لأنه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان ولو شق جميع رأسه سمحاقا إلا موضعا منه أوضحه لم يلزمه إلا دية موضحة لأنه لو أو ضح الجميع لم يجب إلا دية موضحة فها هنا أولى وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الشاج قدر ثلاثة أرباع رأس المشجوج فاقتص منه فله ربع أرش الموضحة لأن الباقي بعد القصاص ربعها فوجب ربع أرشها وقال أبو بكر : لا يجب مع القصاص شيء لئلا يجمع مع قصاص ودية في جرح واحد وفي الهاشمة عشر من الإبل لما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : في الهاشمة عشر من الإبل وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما دية هاشمتين وسائر فروعها على ما ذكرنا في الموضحة وإن ضربه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان :
أحدهما : فيه حكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح أشبه كسر عظ الساق
والثاني : فيه خمس من الإبل لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر ولو أوضحه ولم يهشمه وجب خمس فدل على أن الخمس الأخرى وجبت في الهشم فيجب ذلك فيه وإن انفرد على الإيضاح وفي المنقلة خمسة عش من الإبل وفي المأمومة ثلث الدية لما روي عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل االيمن : [ في الموضحة خمس من الإبل وفي المأمومة ثلث الدية ] رواه النسائي فأما الدامغة ففيها ما في المأمومة لأن الزيادة لم يرد الشرع يإيجاب شيء فيها وقيل : يجب للزيادة حكومة مع أرش المأمومة لتعديه بخرق جلدة الدماغ وإن أوضحه رجل ثم هشمه آخر ثم جعلها آخر منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى الأول أرش موضحة وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس من أرش المنقلة وعلى الرابع ثماني عشر وثلث تمام أرش المأمومة
فصل :
النوع الثاني : غير الشجاج وهي جروح سائر البدن وذلك قسمان :
أحدهما : الجائفة وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن أو ظهر أو ورك أو صدر أو ثغر نحر فيجب فيها ثلث الدية لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن : [ في الجائفة ثلث الدية ] رواه النسائي والكبيرة والصغيرة سواء لما ذكرنا في الموضحة وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز أو طعنة في جوفه فخرج من جانب آخر أو من ظهره فهما جائفان لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف فهي جائفتان ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف فوجب فيهما أرش الجائفتين كالواصلتين من خارج وإن أجافه رجل ووسع آخر الجائفة فعلى كل واحد منهما أرش جائفة لأن فعل الثاني لو انفرد كان جائفة وإن وسعها في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر فعليه حكومة لان جنايته لم تبلغ الجائفة وإن أجافه ونزل بالسكين إلى الفخذ فعليه دية جائفة وحكومة لجرح الفخذ لأنه في غير محل الجائفة لأن حكم الفم حكم الظاهر فإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه فليس بجائفه كذلك وعليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة وإن خاط الجائفة ففتقها آخر قبل التحامها عزر وعليه ضمان ما أتلف من الخيوط وأجرة الخياط ولا يلزمه ديو الجائفة لأنه لم يجفه وإن كانت قد التحمت فعليه دية جائفة لأنها بالاتحام عادت إلى ما كانت وإن التحم بعضها دون بعض ففتق ما التحم فعليه دية جائفة كذلك وقال القاضي : ليس عليه إلا حكومة فإن أدخل خشبة في دبر إنسان ففتح جلده في الباطن ففيه وجهان بناء على من وسع الموضحة في الباطن وحده فإن وطئ مكرهة أو امرأة بشبهة أو زوجته الصغيرة ففتقها وهو أن يجعل مسلك البول والمني واحدا فعليه ثلث الدية لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية ولأنها جناية تجرح جلدة تفضي إلى جوف أشبه الجائفة وإن وطئ زوجته التي يوطأ مثلها ففتقها لم يلزمه شيء لأنه من أثر فعل مباح أشبه أرش البكارة إن زنى بامرأة مطاوعة فلا شيء عليه لأنه فعل مأذون فيه فلم يلزمه أرش لذلك كما لو أذنت في قطع عضوها
فصل
والقسم الثاني : غير الجائفة مثل إن أوضح عظما أو هشمه أو نقله فلا يجب سوى الحكومة لأنه لا تقدير فيها ولا يمكن قياسها على المقدر لعدم المشاركة في الشين والخوف عليها منها وإن لطم إنسانا في وجهه أو غيره فلم يؤثر فلا أرش عليه وإن سود وجهه أو خضره وجبت عليه دية كاملة لأنه أذهب الجمال على الكمال فلزمته دية كما أو قطع أنفه وإن سود غيره من الأعضاء أو خضره ففيه حكومة وكذلك إن حمر وجهه أو صفره أو سود بعضه ففيه حكومة لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال وإن صعره وهو أن يصير وجهه في جانب ففيه الدية لما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال : في الصعر الدية ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت عليه الدية كإذهاب البصر وإن لم يبلغ الصعر لكن يشق عليه الالتفات أو ابتلاع الماء فعليه حكومة كذلك لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها فأشبه ما لو قلل بصره
فصل
ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من القيمة فله بقسطه من الدية كأن قيمته وهو عبد لا جناية به مائة وقيمته بعد الجناية تسعة وتسعون فيجب فيه عشر عشر ديته لأن الجناية نقصته عشر عشر قيمته لأنه لما عدم النص في أرشه وجب المصير فيه إلى الاجتهاد بما ذكرنا كالصيد الحرمي إذا لم يوجد نص في مثله رجع فيه إلى ذوي عدل ليعرف مثله ولا يقبل التقويم إلا من عدلين من أهل الخبرة بقيم العبيد كم في تقويم سائر المتلفات ويجب بقدر ما نقص من الدية لأنه مضمون بها كما يجب أرش المعيب من الثمن لكونه مضمونا به وإذا نقصته الجناية عشر قيمته وجب عشر ديته إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فتزيد الجراح بالحكومة على أرش موضحة أو على عضو فتزيد على ديته فإن يرد إلى الأرش الموضحة ودية العضو وينقص عنه بقدر ما يؤدي إليها اجتهاد الحاكم لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون الموضحة ما يجب فيها لأن من جرح الموضحة فقد أتى على ما دونها وزاد عليه وكذلك لا يجوز أن يجب في جراح الإصبع فوق ديتها
فصل :
وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع مثل قطع إصبع زائدة أو قلع سن زائدة أو لحية امرأة فاندمل الموضع من غير نقص أو زاده جمالا وقيمة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجب شيء لأنه لم يحصل بفعله فلم يجب شيء كما لو لكمه فلم يؤثر
والثاني : يجب ضمانه لأنه جزء من مضمون فوجب ضمانه كغيره فعلى هذا يقومه في أقرب أحواله إلى الاندمال لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله قوم في أقرب أحواله إليه كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد العلوق وهي عند الوضع فإن لم ينقص في تلك الحال قوم حين جريان الدم وإن قلع سنا زائدة قوم وليس خلفها سن أصلية وإن قلع لحية امرأة قومت كرجل لا لحية له ثم يقوم وله لحية ويجب ما بينهما
فصل :
وإن جنى عليه جناية لها أرش ثم ذبحه قبل اندمال الجروح دخل أرش الجروح في دية النفس لأنه مات بفعله قبل استقرار الجناية أشبه ما لو مات من سراية الجرح وإن قتله غيره وجب أرش الجرح لأنه لا ينبغي فعل غيره على فعله أشبه ما لو اندمل الجرح

باب دية الأعضاء والمنافع
كل ما في الإنسان منه شيء واحد كاللسان والأنف والذكر ففيه الدية كاملة وما فيه منه شيئان كالعينين وغيرهما ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها وما فيه منه أربعة كأجفان العينين ففيهن الدية وفي إحداهن ربعها وما فيه منه عشر كأصابع اليدين والرجلين ففيها الدية وفي الواحدة عشرها وفي إتلاف منفعة الحس كالسمع أو البصر أو الشم أو العقل ونحوه الدية لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي فجرى مجراه في ديته
فصل :
يجب في العينين الدية لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمر بن حزم : [ وفي العينين الدية ] ولأنه إجماع وفي إحداهما نصف الدية لقول النبي ( ص ) [ وفي العين خمسون من الإبل ] رواه مالك في الموطأ وسواء في ذلك الصحيحة والمريضة وعين الصغير والكبير كذلك وفي عين الأعور دية كاملة لأنه يروى عن عمر و عثمان و علي وابن عمر رضي الله عنهم أنهم قضوا بذلك ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا ولأنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فكانت مثلهما في الدية وإن قلع الأعور عيني صحيح ففيها الدية لما تقدم وإن قلع عينيه التي لا تماثل عين القالع ففيها نصف الدية كذلك وإن قلع المماثلة لعينيه خطأ فكذلك وإن قلعها عمدا فلا قصاص وعليه دية كاملة لأنه يروى عن عمر و عثمان رضي الله عنهما ولأنه منع القصاص مع وجود سببه فأضعفت الدية كقاتل الذمي عمدا
فصل :
وفي البصر الدية لأنه النفع المقصود بالعين وفي ذهابه من إحداهما نصفها فإن ذهب بالجناية على رأسه أو عينيه أو بمداواة الجناية وجبت الدية لأنه بسببه فإن ذهب ثم عاد لم تجب الدية فإن كان قد أخذها ردها لأن عوده يدل على أنه لم يذهب إذ لو ذهب لما عاد وإن ذهب فقال عدلان من أهل الخبرة : إنه يرجى عوده إلى مدة انتظر إليها فإن مات قبلها وجبت الدية لأنه لم يعد وإن بلغ المدة ولم يعد وجبت لأننا تبينا ذهابه وإن قالا : يرجى عوده ولم يقدرا مدة لم ينتظر لأنه ذاهب في الحال وانتظاره لا إلى مدة إسقاط لموجب الجناية بالكلية وكذلك الحكم في السمع والشم والسن
فصل
وإن نقص الضوء وجبت الحكومة وإن نقص ضوء إحدهما عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص كما فعل علي برجل ادعى نقص ضوء عينيه فأمر بها فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت وفتحت العليلة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم خط عنه ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجده سواء فأعطاه بقدر نقص بصره من مال الآخر وإنما يمتحن بذلك مرتين ليعلم صدقه بتساوي المسافتين وكذبه باختلافهما والجناية على الصبي والمجون كالجناية على غيرهما إلا أن وليهما خصم عنهما فإن توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف وليهما حتى إذا بلغ الصبي وعقل المجون حلفا حينئذ وإن جنى عليه فأحول عينه أو شخصت ففيه حكومة لأنه نقص لم يذهب بالمنفعة كلها فأشبه ما لو قل بصره
فصل
ويجب في جفون العينين الدية لأن فيها جمالا كاملا ونفعا كثيرا لأنها تقي العينين ما يؤذيهما وسواء في هذا البصير والأعمى لأن العمى ءيب في غير الجفون وفي الواحد منهما ربع الدية لأنه ربع ما فيه الدية وإن قلع العينين بجفونهما لزمته ديتان لأنهما جنسان يجب في كل واحد منهما دية فيجب فيهما ديتان إذا أتلفا كاليدين والرجلين ويجب في أهداب العينين الدية لأن فيها جمالا ظاهرا كاملا لأنها وقاية للعين فأشبهت الجفون وفي الواحد منها ربع الدية فإن قلع الجفون بأهدابها لم يجب أكثر من دية لأن الشعر يزول تبعا لزوال الأجفان فلم يجب فيه شيء كالأصابع إذا زالت بقطع الكف
فصل
وفي الأذنين الدية لأن في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم [ وفي الأذنين الدية ] ولأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كاملا يجمعان الصوت و يوصلانه إلى الدماغ فأثسبها العينين وفي إحداهما نصفها لأنه نصف ما فيه الدية فأشبهت العين ودية أذن الأصم كدية أذن الصحيح لأن الصمم نقص في غير الأذن فلا يؤثر في ديتها كما لم يؤثر العمى في دية الجفون وإن جنى عليها فاستحشفت فعليه حكومة لأن نفعها لا يزول بذلك إن قطعت بعد استحشافها وجبت ديتها لأنها أذن فيها الجمال والمنفعة فأشبهت الصحيحة وفي قطع بعض الأذن بقسطه يقدر بالأجزاء لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه كالأصابع
فصل
وفى السمع الدية لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب بصره وسمعه وعقله ولسانه فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي ولأن جنايته تختص بمنفعة فأشبه البصر وفي سمع إحدى الأذنين نصف الدية كبصر إحدى العينين وان قطع الأذنين فذهب السمع وجب ديتان لأن السمع في غير الأذنين فلم تدخل دية أحداهما في الآخر كالبصر والجفون وإن قل السمع أو ساء ففيه حكومة وإن نقص سمع إحدى الأذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة وأمر الرجل يصيح من موضع يسمعه ويعمل كما عمل في نقص البصر من إحدى العينين ويؤخذ من الدية بقدر نقصه
فصل
وفي مارن الأنف وهو ما لان منه الدية ؟ لأنه في كتاب عمرو بن حزم ولما روى طاوس قال : كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم [ : في الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية ] رواه النسائي ولأن فيه جمالا ظاهرا ونفعا كاملا فإنه يجمع الشم ويمنع وصول التراب ونحوه إلى الدماغ والأخشم كالأشم لأن الشم في غير الأنف في قطع جزء من الأنف بقسطه كما في الأذن وفي كل واحد من المنخرين ثلث الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها لأنه يشتمل على ثلاثة أشياء فتوزعت الدية عليها ويحتمل أن يجب في كل واحد من المنخرين نصف الدية لأنه يذهب بذهاب أحدهما نصف الجمال والنفع فإن قطع أحدها والحاجز ففيهما ثلث الدية على الأول وعلى الاحتمال الثاني يجب نصف الدية و حكومة وفي الحاجز وحده حكومة واذ قطع
المارن وشيئا من القصبة ففيه دية للمارن وحكومة للقصبة وقياس المذهب أن الواجب دية واحدة كقطع اليد من الذراع
فصل
وفي الشم الدية وفي ذهابه من أحد المنخرين نصفها وفي نقصه حكومة وإن نقص من أحد المنخرين قدر بمثل ما يقدر به نقص السمع من إحدى الأذنين وإن قطع أنفه فذهب شمه وجبت ديتان لما ذكرنا في السمع
فصل
وفي ذهاب العقل الدية لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمرو بن حزم [ وفي العقل الدية ] ولما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه ولأن العقل أشرف الحواس به يتميز عن البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويدخل في التكليف فكان أحق بإيجاب الدية و إن نقص عقله نقصا يعرف قدره مثل من يجن نصف الزمان ويفيق نصفا وجب من الدية بقدره وان لم يعرف قدره بأن صار مدهوشا أو يفزعه الشيء اليسير ففيه حكومة لأنه تعذر إيجاب مقدر فيصير إلى الحكومة فإن كانت الجناية المذهبة للعقل لها أرش كالموضحة أو أذهبت سمعه وعقله وجبت ديتهما لحديث عمر رضي الله عنه ولأنها جناية أذهبت نفعا في غير محل الجناية مع بقاء النفس فلم يتداخلا كما لو أوضحه فذهب بصره وإن شهر سيفا على صبي أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة شديدة فذهب عقله فعليه ديته لأن ذلك سبب لزوال عقله وكذلك إن أنزعه بشيء مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق أو قدم إليه حية أو أسدا لما ذكرنا
فصل
وفي الشفتين الدية لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمرو بن حزم : [ وفي الشفتين الدية ] ولأن فيهما نفعا كبيرا وجمالا ظاهرا فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه ويردان الريق وينفخ بهما ويمسك بهما الماء ويتم بهما الكلام ويستران الأسنان وفي إحداهما نصف الدية وعنه : في العليا ثلثها وفي السفلى ثلثاها لأن ذلك يروى زيد بن ثابت ولأن النفع بالسفلى أعظم لأنها تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام والأول المذهب لأنه قول أبي بكر الصديق و علي رضي الله عنهما ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب في إحداهما نصفها كاليدين ولاعبرة بزيادة النفع بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع وإن ضربهما فأشلهما أو تقلصتا بحيث لا ينطبقان على الأسنان أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها ففيهما ديتهما لأن عطل نفعهما فأشبه ما أشل يده و إن تقلصتا بعض التقليص ففيهما حكومة
فصل
وفي اللسان الدية لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمرو بن حزم [ و في اللسان الدية ) ] و لأن فيه جمالا و نفعا كثيرا لأنه يقال : جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ولأنه يبلغ بع الأغراض و يقضي به الحاجات ويتم به العبادات ويذوق به الطعام والشراب و يستعين به في مضغ الطعام و في الكلام الدية لأنه من أعظم المنافع فإن جنى على لسانه فخرس وجبت عليه الدية لأنه أذهب المنفعة به فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت و إن ذهب بعض الكلام وجب بقدر ما ذهب لأن ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه بقدره منها كالأصابع ويقسم على الحروف الثمانية والعشرين ويحتمل أن يقسم على حروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفا يسقط منها حروف الحلق الستة وهي : العين والغين والحاء والخاء والهاء والهمزة وحروف الشفة وهي أربعة : الباء والفاء والميم والواو ولأن اللسان لا عمل له فيها والأول أولى لأن هذه الحروف ينطق بها اللسان أيضا
بدليل أن الأخرس لا ينطق بشيء منها وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة وجب أرش الحرف وحده لأن الضمان وجب لما تلف وإن صار ألثغ وجب دية الحرف الذاهب لأنه عجز عن النطق بحرف وإن حصل في كلامه ثقل أو تمتمة أو عجلة لم تكن ففيه حكومة لما حصل من النقص لأنه لم يمكن إيجاب مقدر وإن قطع جزءا من لسانه فذهب جزء من كلامه وجب دية الأكثر فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام أو نصف اللسان فذهب ربع الكلام وجب نصف الدية لأن ما يتلف من كل
واحد منهما مضمون فوجبت دية أكثرهما وان قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام ثم قطع آخر بقيته فعلى الأول نصفه الدية وعلى الثاني نصفها وحكومة لربع اللسان لأنه شل فكانت فيه حكومة وإن قطع نصف اللسان فذهب ربع الكلام وقط آخر باقيه فعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية لأنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام ولو جنى عليه فذهب ثلاث أرباع كلامه من غير قطع وجب ثلاثة أرباع الدية فمع قطع نصفه أولى وإن جنى على لسانه فاقتص مثل جنايته فذهب من الجاني مثل ما ذهب من المجني عليه فقد استوفى حقه وان ذهب من الجاني أكثر فكذلك لأن الزائد ذهب من سراية القود وإن ذهب من كلام المجني عليه أكثر أخذ من الجاني بقدر ما نقص عنه الجاني من الدية ليحصل تمام حقه و إن كان لسان رجل ذا طرفين فقطع أحدهما ولم يذهب من الكلام شيء وكانا متساويين في الخلقة فهما كلسان مشقوق فيهما الدية وفي أحدهما نصفها وإن كان أحدهما تام الخلقة والأخر ناقصا فالتام هو الأصلي فيه الدية كاملة والناقص زائد فيه حكومة
فصل
وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء وبما يعبر به الأطفال كقوله : بابا ونحوه ففيه الدية لأنه لسان ناطق وان كان لا يتحرك بشيء وقد بلغ حدا يتحرك به ففيه ما في لسان الأخرس لأن الظاهر أنه لو كان ناطقا لتحرك بما يدل عليه فإن قطع قبل مضى زمن يتحرك فيه اللسان ففيه الدية لأن الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه وان لم يظهر فيها بطش
فصل
وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشيء من المذاق وهي خمس الحلاوة و والمرارة والحموضة والعذوبة والملوحة وجبت الدية لأنه أتلف حاسة لمنفعة مقصودة فلزمته الدية كالبصر وإن نقص الذوق نقصا يتقدر بأن لا يدرك أحدها وحدها ففيها الخمس وفى الاثنين الخمسان وفي الثلاثة ثلاثة أخماس لأنه تقدر المتلف فيتقدر الأرش كالأصابع وإن لم يتقدر بأن يحس المذاق كلها لكن لا يدركها على كمالها وجبت الحكومة لتعذر التقدير وإن أذهب ذوق الأخرس فعليه الدية كذلك وإن جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان فعليه ديتان لأنهما منفعتان تضمن كل واحدة منهما منفردة فيضمنان إذا اجتمعتا كالسمع والبصر فإن قطع لسانه لم يلزمه إلا دية واحدة لأن نفع العضو لا يفرد بضمان مع ذهابه كالبطش في اليد
فصل
وفي كل سن خمس من الإبل سواء قلعت دفعة واحدة أو في دفعات لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمرو بن حزم : [ ( وفي السن خمس من الإبل ) ] رواه النسائي وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( ص ) أنه قال : [ وفي الأسنان خمس ) ] رواه أبو داود
والأضراس والأنياب والرباعيات سواء لما روى ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : [ الأصابع سواء والأسنان سواء والثفية والضرس سواء هذه وهذه سواء ] رواه أبو داود ولأنه جنس ذو عدد فلم تختلف ديته باختلاف منافعه كالأصابع وإن قلع السن بسنخها أو كسر ما ظهر منها وخرج من لحم اللثة ففيها دية السن لأن النفع والجمال فيما ظهر فكملت الدية فيه كالإصبع وإن قلع السنخ وحده ففيه حكومة ككف لا أصابع له وإن كسر بعض السن طولا أو عرضا وجب من دية السن بقدر ما كسر بقدر الأجزاء من الظاهر كالأصابع وإن ظهر السنخ المعيب بعلة اعتبر بما كان ظاهرا قبل العلة لأن الدية تجب بما كان ظاهرا فاعتبر المكسور منه وإن قلع سنا فيها داء أو أكلة ولم يذهب شيء من أجزائها كملت ديتها كاليد المريضة وإن ذهب منهما جزء سقط من ديتها بقدر الذاهب وان كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأخرى فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها لأنهما لا يختلفان عادة فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فنقصت ديتها كالإصبع الناقصة وإن قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وبعض نفعها باق كملت ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وإن ذهب نفعها فهي كاليد الشلاء وإن جنى على سنه فاحمرت أو اصفرت ففيها حكومة لأن نفعها باق و إنما ذهب جمالها وان اخضرت أو اسودت ففيها روايتان :
إحداهما : فيها ديتها لأنه يروى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأنه سود ما له دية فوجبت ديته كالوجه
والأخرى : فيها حكومة اختارها القاضي لأنه لم يذهب منها إلا الجمال فأشبه ما لو حمرها وإن نقصتها الجناية ففيها حكومة لنقصها وإن جنى على سنه فأذهب نفعها كله من المضغ وحفظ الريق والطعام ففيها ديتها كما لو أشل يده
فصل
وإن قلع سن صبي لم يثغر لم يلزمه شيء في الحال لأن العادة عودها فأشبه ما لو نتف شعره فإن لم تنبت وأيس من نباتها وجبت ديتها قال أحمد : ينتظر عاما لأنه الغالب في نباتها وقال القاضي : إذا أسقطت أخواتها ثم نبتن ولم تنبت وجبت ديتها فإن مات قبل اليأس منها ففيه وجهان :
أحدهما : تجب ديتها لأنه قلع سنا لم تعد
والثافي : لا يجب لأن الظاهر عودها و إنما فات بموته فأشبه نتف شعره وإن عادت لا نقص فيها لم يجب شيء وان نبتت خارجة عن صف الأسنان لا ينتفع بها ففيها ديتها وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة للنقص وإن نبتت قصيرة ففيها من ديتها بقدر النقص لأنه نقص حصل بجنايته وإن نبتت أطول من نظيرتها أو حمر أو صفر ففيها حكومة للشين الحامل بجنايته ويحتمل أن لا يجب شيء لطولها لأن الظاهر أن الزيادة لا تكون من الجناية وإن نبتت سوداء ففيها روايتان ذكرهما
القاضي
إحداهما : فيها ديتها
والثانية : فيها حكومة كما لو جنى عليها فسودها وهكذا الحكم فيمن قلع سن كبير إلا أنه إذا مات قبل عودها وجبت ديتها لأن الظاهر أنها لا تعود وتجب ديتها حين قلعها إلا أن يقول عدلان من أهل الطب : إنه يرجى عودها إلى مدة فينتظر إليها وان قلع سنا فردها صاحبها فنبتت في موضعها لم تجب ديتها نص عليه وهو اختيار أبي بكر وإن قلعها آخر بعد ذلك فعليه ديتها
وقال القاضي : على الأول الدية ويؤمر صاحبها بقلعها لأنها صارت ميتة ولا شيء على الثافي في قلعها لأنه محسن به وإن جعل مكانها سن حيوان مأكول أو ذهبا فثبت فقلعه قالع احتمل أن لا يلزمه شيء لأنه ليس من بدنه واحتمل أن يلزمه حكومة لأنه أزال جماله ومنفعته فأشبه عضوه
فصل
وفي اللحيين الدية وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما جمالا كاملا ونفعا كثيرا وفي أحدهما نصفها وإن قلعهما مع الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان لأنهما جنسان مختلفان يجب في كل واحد منهما دية مقدرة فلم تدخل دية أحدهما في الآخر كالشفتين مع الأسنان بخلاف الكف مع الأصابع
فصل
وفى اليدين الدية كاملة لما روى معاذ أن النبى ( ص ) قال : [ في اليدين الدية وفي إحداهما نصفها ] لأن في كتاب النبي ( ص ) لعمرو بن حزم : وفي اليد خمسون من الإبل ولأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كثيرا أشبها العينين وسواء قطعهما من الكوع أو المرفق أو المنكب أو مما بين ذلك نص عليه لأن اليد اسم للجميع بدليل قوله تعالى : { و أيديكم إلى المرافق } ولما نزلت آية التيمم مسح الصحابة إلى المناكب وفي كل أصبع عشر الدية لما روى ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : [ دية أصابع اليدين و الرجلين عشر من الإبل لكل إصبع ] ) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وفى لفظ قال : قال رسول الله [ هذه وهذه سواء يعفي الإبهام والخنصر ] أخرجه البخاري ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم يختلف
باختلاف منافعه كاليدين وفي كل أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي كل أنملة منها خمس من الإبل لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع وجب أن تقسم دية الإصبع على عدد الأنامل وإن جنى على اليد أو الإصبع فأشلها فعليه ديتها لأنه ذهب بنفعها فلزمه ديتها كما لو جنى على عين فأعماها أو لسان فأخرسه
فصل
وفي الرجلين الدية وفي إحداهما نصفها وفي كل أصبع عشر الدية وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام لما ذكرنا في اليدين
فصل
وفي قدم الأعرج و يد الأعسم السالمتين الدية لأن العيب في غيرهما لأن العرج لقصور أحد الساقين والعسم لاعوجاج الرسغ أو قصر العضد أو الذراع أو اعوجاج فيه فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف كأذن الأصم وان كسر ساعده أو ساقه أو خلع كفه أو قدمه فجبرت وعادت مستقيمة لم يجب شيء وإن حصل نقص وجبت الحكومة لجبر النقص وإن عادت معوجة كانت الحكومة أكثر فإن قال الجاني : أنا أعيد خلعها وأجبرها مستقيمة منع منه لأنه استئناف جناية فإن كابره وخلعها فعادت مستقيمة لم تسقط الحكومة لأنها استقرت باندمالها وما حصل من
الاستقامة حصل بجناية أخرى وتجب حكومة أخرى للخلع الثاني لأنه جناية ثانية
فصل
فإن كان لرجل كفان في ذراع لا يبطش بها فهي كاليد الشلاء لأن نفعها غير موجود فإن كان يبطش بأحدهما دون الآخر فالباطش هو الأصلي فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائد وإن كان يبطش بهما إلا أن أحدهما أكثر بطشا فهو الأصلي و الآخر زائد لأن اليد خلقت للبطش فاستدل به على الأصلي منهما كما يرجح في الخنثى الى بوله وان استويا في البطش وأحدهما مستو على الذراع والآخر منحرف فالمستوي هو الأصلي وان استويا في ذلك وأحدهما ناقص والآخر تام فالتام هو الاصلي فيه القصاص أو الدية ولا يرجح بالأصبع الزائدة لأن الزيادة نقص في المعنى وان استويا في جميع الدلائل فهما يد واحدة فيهما الدية وفي إحداهما نصفها وفي أصبع إحداهما نصف دية أصبع ولا قصاص في أحدهما لعدم المماثلة وإن قطعهما قاطع وجب القود أو الدية لأننا علمنا انه قد قطع يدا أصلية وحكومة للزيادة ويحتمل أن لا يجب حكومة لأن هذه الزيادة نقص في المعنى فأشبه السلعة والحكم في القدمين على ساق كالحكم في الكفين على ذراع واحد وإن كانت إحداهما أطول من الأخرى فقطع الطولى و أمكنه المشي على القصيرة فهي الأصلية وإلا فهي الزائدة
فصل
وان قطع يد أقطع أو رجله ففيها نصف الدية لما ذكرنا وعنه : إن كانت الأولى ذهبت في سبيل الله ففي الثانية ديتهما لأنه عطل منافعه من العضوين ولم يأخذ عوضا عن الأولى فأشبه ما لو قلع عين أعور والأول أصح لأن إحداهما لا يحصل بها من النفع والجمال ما يحصل بالعضوين فلم تجب فيه ديتهما كأحد الأذنين والمنخرين وكما لو ذهبت في غير سبيل الله وفارق عين الأعور لأنه يحصل بها من النفع والنظر وتكميل الأحكام ما يحصل بالعينين
فصل
وفي الثديين الدية وفي أحدهما نصفها لأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كثيرا وإن أشلهما ففيهما الدية لأنه أذهب نفعهما فأشبه ما لو أشل اليدين وإذ جنى عليهما فأذهب لبنهما فقال أصحابنا : تجب حكومة لنقصهما ويحتمل أن تجب ديتهما لأن ذلك معظم نفعهما فأشبه البطش وإن جنى على ثدي صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن وقال أهل الخبرة : إن الجناية قطعت اللبن فعليه ضمانه وإن قالوا : قد ينقطع من غير الجناية لم يضمن لأنه يحتمل أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا يجب الضمان بالشك وفي حلمتي الثديين الدية لأن نفعهما بالحلمتين لأن بهما يمتص الصبي فيبطل نفعهما بذهابهما فأشبه أصابع اليدين وفي الثندوتين الدية وهما ثديا الرجل لأن ما وجبت الدية فيه من المرأة وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه كاليدين
فصل
وفي الأليتين الدية لأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كبيرا فأشبها اليدين وفي إحداهما نصفها وفي تطع بعضها بقدره من الدية فإن جهل قدره وجبت الحكومة كنقص ضوء العين
فصل
وفي الذكر الدية لقول النبي ( ص ) في كتاب عمرو بن حزم [ وفي الذكر الدية ] وفي حشفته الدية لأن نفعه يكمل بها كما يكمل نفع اليد بأصابعها والثدي بحلمته وسواء في هذا ذكر الشيخ والطفل والخصي والعنين لأنه سليم في نفسه وعنه : في ذكر العنين والخصي حكومة لأن معظم نفع الذكر بالإنزال والإحبال وهو معدوم فيهما فأشبها الأشل وان جنى على الذكر فأشله لزمته ديته لأنه أذهب نفعه فأشبه ما لو أشل يده وان تطع بعض حشفته وجب من الدية بقدر ما قطع منها يقسط عليها وحدها كما تقسط دية اليد على الأصابع
فصل
وفي الأنثيين الدية لأن في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم [ في الأنثييي الدية ] وفي إحداهما نصفها لأن ما وجبت الدية فيهما وجبت في أحدهما نصفها كاليدين فإن قطع الذكر والأنثيين معا أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين فعليه ديتان كما لو قطع يديه ورجليه وإن قطع الأنثيين فعليه دية الأنثيين وحكومة لقطع الذكر نص عليه لأنه ذكر خصي وعنه ففيه دية على ما ذكرنا في ذكر الخصي
فصل
وفي أسكتي المرأة الدية وهما اللحم المحيط بالفرج كإحاطة الشفتين بالفم لأن فيهما جمالا ونفعا في المباشرة فأشبها الأنثيين وفي إحداهما نصفها لما ذكرناه وفي قطع بعض إحداهما بقدره من ديته إن أمكن تقديره وإلا فحكومة
فصل
وإن جنى على مثانته فلم يستمسك بوله وجبت الدية لأنها منفعة مقصودة ليس في البدن من جنسها فوجبت الدية بتفويتها كساثر المنافع وان جنى عليه فلم يستمسك غائطه فعليه الدية كذلك وإن أذهب المنفعتين لزمته ديتان كما لو أذهب سمعه وبصر وإن جنى على صلبه أو غيره فعجز عن المشي فعليه الدية كذلك وإن عجز عن الوطء لزمته كذلك دية وإن جنى على صلبه فبطل مشيه ونكاحه لزمته ديتان لأن في كل واحد منهما دية منفردا فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع كسمعه وبصره وعنه : عليه دية واحدة لأنهما منفعة عضو واحد فأشبه ما لو قطع أنثييه فذهب جماعه ونسله وإن ضعف المشي أو الجماع أو نقص فعليه حكومة وإن كسر صلبه فانجبر وعاد إلى حاله ففيه الحكومة للكسر وإن احدودب فعليه حكومة للشين وعنه : في الحدب الدية لما روى الزهري عن سعيد بن المتيثب أنه قال : مضت السنة أن في الصلب الدية ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة فأشبه ما ذكرناه
فصل
وفي الصلع بعير وفي الترقوة بعير وفي الترقوتين بعيران لما روى أسلم مولى عمر عن عمر رضي الله عنه : أنه قضى في الترقوتين بجمل وفي الصلع بجمل ويجب في كل زنا بعيران لما روى عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنه في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين ولأن في الزند عظمين ففي كل عظم بعير وإن كسر الزندين ففيهما أربعة أبعرة و ظاهر كلام الخرقي أنه لا توقيف في سائر العظام لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ولا توقيف فيها وقال القاضي في عظم الساق : بعيران وفي عظم الفخذ مثله قياسا على الزند
فصل
وفي اليد الشلاء والسن السوداء والعين القائمة ثلث ديتها لما روى عمرو بن شعيب من أبيه عن جده قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها رواه النسائي وقضى عمر رضي الله عنه بمثل ذلك وعنه رواية أخرى في ذلك كله حكومة لأنه تعذر إيجاب دية كاملة بعد ذهاب نفعه فوجبت الحكومة فيه كاليد الزائدة و هكذا الروايتان في كل عضو ذهب نفعه وبقيت صورته كالرجل الشلاء و الإصبع الشلاء و الشفة الشلاء والذكر الأشل وذكر الخصي ولسان الأخرس قياسا على ما تقدم وفي الكف الذي لا أصابع عليه روايتان مثل ما ذكرنا لأنه قد ذهب نفعه وبقي جماله وعلى قياسه ساق لا قدم له وذرع لا كف له وذكر لا حشفة له فأما اليد الزائدة والأصبع الزائدة ففيها حكومة لأنه لا مقدر فيها ولا يمكن قياسها على ما ذكرنا لأن هذه الأعضاء يبقى جمالها لبقاء صورتها والزائد يشين ولا يزين وذكر القاضي أنه في معنى الأشل فيقاس عليه فيكون فيه وجهان
فصل
وفي الأذن الشلاء والأنف الأشل دية كاملة كدية الصحيح لأن نفعهما وجمالهما باق بعد شللها فإن نفع الأذن جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه ونفع الأنف جمع الرائحة ومنع وصول شيء إلى دماغه وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء
فصل
ويجب في الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية وفي أحدهما نصفها لأن فيهما جمالا ونفعا لأنهما يردان العرق والماء عن العين ويفرقانه فوجبت الدية فيهما كالجفون وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية وفي اللحية إذا لم تنبت الدية لأن فيها جمالا كاملا فوجبت الدية فيها كأنف الأخشم وأذن الأصم وفي ذهاب نقص ذلك بقسطه من ديته يقدر بالمساحة فإن بقي منها ما لا جمال فيه كاليسير من لحيته ففيه وجهان :
أحدهما : يؤخذ بالقسط كما لو بقي من أذنه يسيرا
والثاني : تجب الدية بكمالها لأنه أذهب المقصود منها فأشبه ما لو أذهب وضوء العين ومتى عاد شيء من هذه الشعور سقطت الدية كما ذكرنا في عود السن
فصل
وذكر أبو الخطاب : أن في الظفر خمس دية الأصبع إذا قلعه أو سوده فإن عاد فنبت على صفته رد أرشه وعنه : أن له خمسة دنانير وإن نبت أسود فله عشرة نص عليه وهذا إنما يصار إليه بالتوقيف وما لا توقيف فيه من سائر الجروح تجب فيه الحكومة لأن القياس يقتضيها في جميع الجروح وخولف ذلك فيما ورد الشرع بتقديره ففي ما عداه يجب البقاء على مقتضى القياس والله أعلم

باب ما تحمله العاقلة و مالا تحمله
إذا قتل الحر حرا خطأ أو شبه عمد وجبت ديته على عاقلته لما روى أبو هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها و ما في بطنها فقضي رسول الله صلى الله عليه و سلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه و لأن القتل بذلك يكثر فإيجاب ديته على القاتل يجحف به و قال أبو بكر : لا تحمل العاقلة عقل شبه العمد لأنه موجب مثل قصده فأشبه العمد المحض فأما الجناية على ما دون النفس فإن العاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث فصاعدا و لا تحمل ما دونه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية : أن لا تحمل منها العاقلة شيئا حتى تبلغ الدية عقل المأمومة و لأن الأصل وجوب الضمان على الجاني و خولف الأصل في الثلث لإجحافه بالجاني لكثرته فما عداه يبقى في الأصل وتحمل العاقلة دية المرأة و الذمي و ما بلغ من جراحها ثلث دية الحر المسلم و لا تحمل ما دونه لما ذكرنا و تحمل دية الجنين إن مات مع أمه
لأن ديتهما وجبت بجناية واحدة وهي زائدة على الثلث ولا تحمله إذا مات منفردا لأن ديته دون الثلث
فصل
و لا تحمل العاقلة عمدا و لا عبدا ولا صلحا و لا اعترافا لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تحمل العاقلة عمدا و لا صلحا ولا اعترافا ] و روي ذلك موقوفا على ابن عباس و لأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل للتخفيف عن الجاني المعذور و العامد غير المعذور و لا يليق به التخفيف وضمان العبد مال فلم تحمله العاقلة كقيمة البهيمة و ما صلح عليه أو اعترف به ثبت بقوله فلا يلزم غيره و لأنه يتهم في أن يواطئ غيره بصلح أو اعتراف ليوجب العقل على عاقلته ثم يقاسمه
فصل
وجناية الصبي و المجنون حكمهما حكم خطأ و تحملهما العاقلة و إن عمدا لأنه لم يتحقق منهما كمال المقصود و لا توجب جنايتهما قصاصا فصارت كشبه العمد ومن اقتص بحديدة مسمومة من الطرف ففيه وجهان :
أحدهما : لا تحمله العاقلة لأنه قصد القطع بما يقتل غالبا فأشبه العمد المحض
و الثاني : تحمله لأنه ليس بعمد محض و لا يوجب قصاصا فأشبه شبه العمد و لو وكل وكيلا يستوفي له القصاص ثم عفا عن الجاني فلم يعلم الوكيل حتى اقتص فقال القاضي لا تحمله العاقلة لأنه عمد محض و قال أبو الخطاب : تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية
فصل
ومن جنى على نفسه أو طرفه خطأ ففيه روايتان :
إحداهما : هي هدر لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبير فرجع سيفه على نفسه فقتلها فلم يقض فيه النبي صلى الله عليه و سلم بشيء و لأنه جنى على نفسه فلم يضمن كالعمد لأن حمل العاقلة إنما كان معونة له على الضمان للغير و لا يتحقق ها هنا
و الثانية : ديته على عاقلته لورثته و دية طرفه على عاقلته لنفسه لما روي أن رجلا ساق حمارا بعصا كانت معه فطارت منها شظية فأصابت عينه ففقأتها فحعل عمر ديته على عاقلته و قال هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء و لأنها جناية خطأ فأشبه جنايته على غيره فإن كانت العاقلة هي الوارثة لم يجب شيء لأنه لا يجب شيء للإنسان على نفسه و إن كان بعضهم وارثا سقط ما عليه وحده
فصل
و ما يجب بخطأ الإمام و الحاكم في اجتهاده من الديات ففيه روايتان :
إحداهما : يجب على عاقلته لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعلي كرم الله وجهه في جنين المرأة اتي أجهضت لما بعث إليها : عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك
والثانية : في بيت المال لأن خطأه يكثر في أحكامه و اجتهاده فإيجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم فأما الكفارة ففي ماله على كل حال لأنها لا تتحمل في موضع ويحتمل أن تجب في بيت المال لأنها تكثر فأشبهت الدية
فصل
و كل ما لا تحمله العاقلة من دية العمد و ما دون الثلث وغيره يجب حالا لأنه بدل متلف لا تحمله العاقلة فوجب حالا كغرامة المتلفات و ما يجب بجناية الخطأ و عمد الخطأ مما تحمله العاقلة يجب مؤجلا لأنه يروى عن عمر و علي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالدية في ثلاث سنين و لا يعرف لهما مخالف في عصرهما فإن كان الواجب دية كاملة كدية الحر المسلم أو دية سمعه أو بصره أو يديه أو رجليه قسمت في ثلاث سنين لما ذكرنا ووجب في آخر كل حول ثلثها و إن كان الواجب ثلث دية كدية المأمومة و الجائفة وجب ذلك عند آخر الحول الأول و إن كانت نصف الدية كدية اليد أو العين أو ثلثي الدية كدية مأمومتين أو جائفتين وجب في رأس الحول الأول الثلث و الباقي في الحول الثاني و إن زاد على الثلثين و جب الزائد في الحول الثالث و إن وجب بجنايته ديتان كدية سمعه و بصره وجب في ست سنين في كل سنة ثلثها لأنها جناية على واحد فلم يجب له في كل حول أكثر من ثلث دية كما لو لم تزد على دية و إن وجب بجنايته ديتان لاثنين بأن قتلهما وجب لكل واحد منهما في كل حول ثلث لأنهما يجبان لمستحقين فلم ينقص واحد منهما من الثلث كما لو انفرد و إن كان الواجب دية نفس ناقصة كدية المرأة و الذمي ففيه وجهان :
أحدهما : تقسم في ثلاث سنين لأنه بدل نفس أشبه الدية الكاملة
و الثاني : يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية و باقيها في العام الثاني لأنها تنقص عن الدية أشبه دية اليد و يعتبر ابتداء الحول في دية النفس من وقت الموت لأنه حق مؤجل فاعتبرت المدة من حين وجود سببه كالدين و إن كان دية طرف اعتبرت المدة من حين الجناية لأنه وقت الوجوب فأشبه أرش المأمومة و إن تلف شيء بالسراية فابتداء مدته حين الاندمال لأن ما تلف بالسراية اعتبر بحالة الاستقرار كالنفس
فصل
و العاقلة : العصبة من كانوا من النسب و الولاء لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها ] رواه ابن ماجة و هذا اختيار أبي بكر و عن أحمد رواية أخرى : أن الآباء لا يعقلون مع العاقلة لما روى جابر بن عبد الله قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها فقال عاقلة المقتولة : ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ميراثها لزوجها و ولدها ] رواه أبو داود
فثبت هذا في الابن لأنه ولد و قسنا عليه الأب لتساويهما في العصبية و لأن الدية جعلت على العاقلة كيلا يكثر على القاتل فيجحف به و مال والده وولده كماله و جعل الخرقي الإخوة في هذا كالأبناء و غيره من أصحابنا يخص الروايتين بالأب و الأبناء لأنهم الذين لا تقبل شهادتهم له و شهادته لهم و بينهم قرابة جزئية و بعضية فإن كان الابن من بني العم حمل من العقل لأنه من بني عمه فيعقل كما لو لم يكن ابنا
فصل
و لا عقل على من ليس بعصبة كالإخوة من الأم و المولى من أسفل لأنهم من غير العصبات فلا يعقلون كالنساء و من لم يكن له عاقلة ففيه روايتان إن كان مسلما :
إحداهما : عقله في بيت المال لأن مال يصرف إليه فيعقله كعصبته
و الثاني : لا يعقله لأن فيه حقا للنساء و الصبيان و الفقراء و لا عقل عليهم فأما الذمي فلا يعقل من بيت المال لأنه للمسلمين و الذمي ليس منهم فإن لم يكن له عاقلة فقال القاضي : يؤخذ من ماله فأما المسلم فإن تعذر إيجاب ديته على العاقل أو بعضها و لم يؤخذ من بيت المال شيء فقال أصحابنا : لا يلزم القاتل شيء لأنه حق يجب على العاقلة ابتداء فلم يجب على غيرهم كالدين و يحتمل أن يجب عليه لأنه هو الجاني فإذا تعذر أداء موجب جنايته من غيره لزمه كالذمي و المضمون عنه إذا تعذر الاستيفاء من الضامن و كالمسائل التي تلي هذا
فصل
و يتعاقل أهل الذمة و عنه : لا يتعاقلون و هل يتعاقلون مع اختلافهم دينهم ؟ على وجهين بناء على الروايتين في توريثهم و لا يعقل مسلم عن كافر و لا كافر عن مسلم و لا حربي عن ذمي و لا ذمي عن حربي لأنه لا يرث بعضهم بعضا فلا يعقل بعضهم بعضا كغير العصبات فإن رمى نصراني صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم إنسانا فقتله و جبت الدية عليه لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى لأنه قتل و هو مسلم و لا على عاقلته من المسلمين لأنه رمى و هو نصراني و إن قطع نصراني يد رجل ثم أسلم فمات المقطوع فديته على عاقلته النصارى لأن الجناية وجدت و هو نصراني و لهذا يجب القصاص و لا يسقط بالإسلام و إن رمى مسلم سهما ثم ارتد فقتل إنسانا وجبت الدية في ذمته لما تقدم و إن قطع يدا ثم ارتد ثم مات المجروح فعقله على عاقلته المسلمين لما ذكرنا و يحتمل أن لا تحمل العاقلة أكثر من أرش الجراح في هذه المسألة و فيما إذا قطع نصراني يد رجل ثم أسلم فما زاد على أرش الجراح في مال الجاني لأنه حصل بعد مخالفته لدين عاقلته فأشبه ما ذكرنا من المسائل و لو جنى حر أمه مولاة و أبوه عبد عقله موالي أمه لأن ولاءه لهم فإن حصل سراية الجناية بعد عتق أبيه فالدية في مال الجاني لأنه تعذر إيجابه على مولى أمه لأن السراية حصلت بعد زوال تعصيبهم و لا يجب على موالي الأب لأن الجناية صدرت و هو مولى غيرهم و لو حفر العبد بئرا ثم أعتقه سيده ثم وقع فيها إنسان فضمانه على الحافر لما ذكرنا
فصل
و ليس على فقير من العاقلة لا امرأة و لا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية لأن وجوبها للنصرة و المواساة و ليس هؤلاء من أهل النصرة و الفقير ليس من أهل المواساة و حكى أبو الخطاب في الفقير المعتمل رواية أخرى أنه يعقل و المذهب الأول لما ذكرنا و لذلك لا تجب عليه الزكاة و يعقل الشيخ ما لم يهرم و المريض الذي لم يزمن و أما الشيخ الهرم و الزمن ففيهما وجهان :
أحدهما : يعقلان لأنهما من أهل المواساة و تجب عليهما الزكاة أشبها ما قبل ذلك
و الثاني : لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة أشبها المجنون و تعتبر صفاتهم عند الحول فمن مات أو افتقر أو جن قبل الحول سقط ما عليه فإن بلغ أو عقل أو استغنى عند الحول لزمه لأنه معنى يعتبر له الحول فاعتبر في آخره كالزكاة و من مات أو تغير حاله بعد الحول لم يسقط ما عليه كالزكاة
فصل
و الحاضر و الغائب سواء في العقل لأنهم تساووا في إرثه فيتساوون في عقله و يقدم الأقرب من العصبات لأنه حكم يتعلق بالعصبات فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالولاية و التوريث فيبدأ بإخوة القاتل و بنيهم و أعمامه و بنيهم و أعمام أبيه و بنيهم كذلك حتى ينقرض المناسبون فيجب على مولاه ثم عصباته ثم مولى مولاه ثم عصباته كالميراث بالولاء سواء فإذا كان القاتل هاشميا عقله بنو هاشم فإن فضل شيء دخل معهم بنو عبد مناف فإن فضل شيء دخل بنو قصي و هل يقدم ولد الأبوين على ولد الأب ؟ على وجهين بناء التقديم في الولاية و متى اتسع الأقربون لحمل العقل لم يدخل معهم من بعدهم و إن كثرت العاقلة في درجة قسم الواجب بينهم بالسوية لأنه حق يستحق بالتعصيب فيستوون فيه كالميراث
فصل
ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به و يشق عليه و لأنه حق لزمهم من غير جنايتهم على سبيل المواساة فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة لأنه و جب للتخفيف عن الجاني و لا يزال الضر بالضر و يرجع إلى اجتهاد الحاكم في قد الواجب فيفرض على كل واحد منهم قدرا يسهل و لا يؤذي لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف و لا توقيف ها هنا فوجب المصير إلى الاجتهاد و عنه : أنه يفرض على الموسر نصف مثقال و على المتوسط ربع مثقال و هذا اختيار أبي بكر لأن أقل مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة و أول مقدار يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال فوجب على المتوسط و لهذا قالت عائشة رضي الله عنها : كانوا لا يقطعون في
الشيء التافه و هل يتكرر هذا الواجب في الأحوال الثلاثة ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بالحول كالزكاة
و الثاني : لا يتكرر لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة فيكون مضرا و يعتبر الغنى و التوسط عند حلول الحول كالزكاة
فصل
و إذا جنى العبد جناية توجب المال تعلق أرشها برقبته لأنه لا يجوز إيجابها على المولى لعدم الجناية منه و إلا إهدارها لأنها جناية من آدمي و لا تأخيرها إلى العتق لإفضائه إلى إهدارها فتعلقت برقبته و المولى مخير بين فدائه و تسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم و إن قتل عبدان رجلا عمدا فقتل الولي أحدهما و عفا عن الآخر تعلق برقبته نصف ديته لأنه قتل واحدا بنصف و بقي له النصف

باب القسامة
إذا وجد قتيل فادعى وليه على إنسان قتله لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين لأنها دعوى في حق فاشترط لها تعيين المدعى عليه كسائر الدعوى فإذا حرر الدعوى و لم يكن بينهم لوث فالقول قول المدعى عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعا ويهم لادعى قوم دماء رجال و أموالهم و لكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم و لأن الأصل براءة ذمته فكان القول قوله كدعوى المال
و هل يستحلف ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يستحلف للخبر و لأنه دعوى في حقي آدمي أشبهت دعوى المال
و الأخرى : لا يستحلف و يخلى سبيله لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله فلم يستحلف فيها كالحدود و إذا قلنا : يستحلف حلف يمينا واحدة لأنها يمين يعضدها الظاهر و الأصل فلم تغلظ بالعدد كاليمن في المال
و إن كان بينهما لوث فادعى أنه قتله عمدا حلف المدعي خمسين يمينا و استحق القصاص لما روى سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود و عبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء عبد الرحمن و ابنا عمه حويصة و محيصة النبي صلى الله عليه و سلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] فقالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله متفق عليه
و لأن اللوث يقوي جنية المدعي و يغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه أولا كالزوج في اللعان و إذا حلف استحق القصاص لقوله صلى الله عليه و سلم : [ فيدفع إليكم برمته ] و في لفظ [ تحلفون و تستحقون دم صاحبكم ] و لأنها حجة يثبت بها القتل العمد فيجب بها القود كالبينة و ليس له القسامة على أكثر من واحد لقوله : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] و لأنها بينة ضعيفة خولف بها
الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه
فصل
و يقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين لأنها يمين في دعوى فلم تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان
و الثانية : يقسم من العصبة الوارث و غيرهم خمسون رجلا لقوله صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم ] فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يمينا واحدة و على الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم فإن كان له ابنان حلف كل واحد منهما خمسة و عشرين يمينا و إن كان فيها كسر جبر و كملت يمينا في حق كل واحد فإذا كانوا ثلاثة بنين حلف كل واحد سبعة عشر يمينا و إن كان له أب و ابن حلف الأب تسعة أيمان و حلف الابن اثنين و أربعين يمينا لأن اليمين لا تتبعض فوجب أن تكمل
فصل
و إن نكل المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا و برئ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] و عن أحمد رحمه الله أنهم يحلفون و يغرمون الدية لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه و الأول المذهب للخبر و في لفظ منه قال : فيحلفون خمسين يمينا و يبرؤون مز دمه ولأنها أيمان
مشروعة في حق المدعى عليه فبرئ بها كسائر الأيمان فإن لم بحلف المدعون و لم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم فدى الأنصاري بمائة من الإبل إذ لم يحلفوا و لم يرضوا بيمين اليهود فإن تعذرت ديته لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم كسائر الدعاوى و إن نكل المدعى عليهم ففيه ثلاث روايات :
إحداهن : يخلى سبيلهم لأنها يمين في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان قال القاضي : و يديه الإمام من بيت المال كالتي قبلها
و الثانية : يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان
و الثالثة : تجب الدية على المدعى عليه لأنه حكم يثبت بالنكول فثبت بالنكول هاهنا كما لو كانت الدعوى قتل خطأ
فصل
ومن مات ممن عليه لأيمان قام ورثته مقامه ويقسم حصته من الأيمان بينهم و يجبر كسرها عليهم كورثة القتيل فإن مات بعد حلفه البعض بطل ما حلفه و ابتدؤوا الأيمان لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة و لا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث وإن جن ثم أفاق بنى على ما حلفه لأو الموالاة غير مشترطة في
الأيمان
فصل
و تشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص سواء كان المقتول مسلما أو كافرا أو حرا أو عبدا لأنه قتل موجب للقصاص أسبه قتل المسلم الحر و ظاهر كلام الخرقي أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ و شبه العمد و قتل المسلم الكافر و الحر العبد و الوالد الولد لأن الخبر يدل على وجوب القود بها فلا تشرع في غيره و لأنها مشروطة باللوث و لا تأثير له في الخطأ فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء و قال غيره : تجري القسامة في كل قتل لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص فيثبت بها غيرها كالبينة فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص و إذا ردت الأيمان عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينا وقال بعض أصحابنا : تقسم الأيمان عليهم بالحصص لقوله صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ] لم يزد عليها و الأول : أقيس لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر الدعاوى و إن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث حلف المدعون على صاحب اللوث و أخذوا حصته من الدية و حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ و لا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح و الأطراف لأنها تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها كالكفارة
فصل
و يشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى فإن ادعى بعضهم القتل فكذبه البعض لم يجب القسامة لأن المكذب منكر لحق نفسه فقيل كالإقرار و إن قال بعضهم : قتله هذا و قال بعضهم : قتله هو و آخر فعلى قول الخرقي : لا قسامة و على قول غيره : يقسمان على المتفق عليه و يأخذان نصف الدية و يحلف الآخر و يبرأ و إن قال أحدهما : قتله زيد و آخر : لا أعرفه و قال الآخر قتله عمرو و آخر لا أعرفه فقال أبو بكر : ليس هاهنا تكذيب لأنه يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه و يحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا و له ربع الدية فإن عاد كل واحد منهما فقال : الذي جهلته هو الذي عينه أخي حلف خمسا و عشرين يمينا و استحق عليه ربع الدية و إن قال : الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي بطلت القسامة و عليه رد ما أخذ لأن التكذيب يقدح في اللوث و إن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت و لزمه رد ما أخذ لأنه يقر على نفسه فقبل إقراره و عليه رد ما أخذه
فصل
و أن كان في ورثة القتيل صبي أو غائب و كانت الدعوى عمدا لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي و يقدم الغائب لأن حلف أحدهما غير مفيد و إنك كانت موجبة للمال كالخطأ و نحوه فللحاضر المكلف أن يحلف و يستحق حصته من الدية و في قدر أيمانه وجهان :
أحدهما : يحلف خمسين يمينا هذا قول أبي بكر : لأننا لا نحكم بوجوب الدية إلا بالأيمان الكاملة و لأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في غيرها
و الآخر : يحلف خمسا و عشرين يمينا هذا قول ابن حامد لأنه لو كان أخوه كبيرا حاضرا لم يحلف إلا خمسا و عشرين فكذلك إذا كان صغيرا أو غائبا و لأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان فإذا قدم الغائب و بلغ الصغير حلف نصف الأيمان وجها واحدا لأنه يبني على يمين غيره و يستحق قسطه
من الدية فإن كانوا ثلاثة فعلى قول ابن حامد : يحلف كل واحد سبعة عشر يمينا و على قول أبي بكر : يحلف الأول خمسين و إذا قدم الثاني حلف خمسا و عشرين فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينا
فصل
قال أصحابنا : و لا مدخل للنساء في القسامة لأنه لا مدخل لهن في العقل فإذا كان في الورثة رجال و نساء أقسم الرجال دون النساء فإن كانت المرأة مدعى عليها فينبغي أن تقسم لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه و لو كان جميع ورثة القتيل نساء احتمل أن يقسم المدعى عليهم لتعذر الأيمان من المدعين و احتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلا و يثبت الحق للنساء إذا قلنا : إن القسامة تشرع في حق
غير الوارث فإن لم يوجد من عصبته خمسون قسمت على من وجد منهم
فصل
و اللوث المشترط في القسامة : هو العداوة الظاهرة بين القتيل و المدعى عليه كنحو ما بين الأنصار و يهود خيبر و ما بين القبائل المتحاربين و ما بين أهل البغي و العدل و ما بين الشرطة و اللصوص لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار : عدي على صاحبنا فقتل و ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم باليمن فوجب أن يعلل بذلك و يعدى إلى مثله و لا يلحق به ما يخالفه و عنه : أن اللوث : ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله إما العداوة المذكورة أن تفرق جماعة عن قتيل أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم أو يقتتل طائفتان فيوجد في إحداهما قتيل أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته من النساء و الصبيان و العبيد و الفساق أو عدل واحد لأن العداوة إنما كانت لوثا لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي فنقيس عليها ما شاركها في ذلك فأما قول القتيل : دمي عند فلان فليس بدوث لأن قوله غير مقبول على خصمه و لو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل لم يكن لوثا لأنهم لم يعينوا واحدا و من شرط القسامة التعين
فصل
و لا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار عن هذا و لو اشترط لاستفصل عليه السلام و سأل عنه و لأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره كغم الوجه و عصر الخصيتين و قال أبو بكر : يشترط ذلك و قد أومأ إليه أحمد لأن الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر أنه مات بغير قتل
فصل
و إذا ادعى رجل على رجل قتل وليه و بينهما لوث فجاء آخر فقال أنا قتلته و لم يقتله هذا لم تسقط القسامة بإقراره لأنه قول أجنبي و لا يثبت القتل على المقر لأن الولي لم يدعه و عن أحمد : أن الدعوى تبطل على الأول لأنها عن ظن و قد بان خلافه و له الدية على الثاني لأنه مقر على نفسه بها و لا قصاص عليه ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني فيمتنع القصاص و يحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك و إن كان قد أخذ الدية من الأول ردها عليه و الله سبحانه و تعالى أعلم

باب اختلاف الجاني و المجني عليه
إذا قتل رجلا وادعى أنه قتله و هو عبد فأنكر وليه فالقول قول الولي مع يمنيه لأن الأصل الحرية و الظاهر في الدار الحرية و لهذا يحكم بإسلام لقيطها و حريته و إن ادعى أنه كان قد ارتد فأنكر الولي فالقول قوله كذلك وإن قدم ملفوفا في كساء وادعى أنه كان ميتا فالقول قول الولي لأن الأصل حياته و كونه مضمونا فأشبه ما ذكرنا و إن جنى على عضو و ادعى أنه كان أشل بعد اتفاقهما على أنه كان سليما فالقول قول المجني عليه و إن لم يتفقا على ذلك فإن كان من الأعضاء الباطنة فالقول قول المجني عليه لأن الأصل السلامة و إن كان من الأعضاء الظاهرة ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول الولي لأن الأصل السلامة
و الثاني : القول قول الجاني لأن العضو يظهر و يعرف حاله فلو كان سليما لم تتعذر إقامة البينة عليه و هذا اختيار القاضي
فصل
و إذا زاد المقتص على حقه و ادعى أنه أخطأ و قال الجاني : تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه لأنه أعلم بقصده إلا أن يكون مما لا يجوز الخطأ في مثله فلا يقبل قوله فيه لعدم الاحتمال و إن قال : هذه الزيادة حصلت بإضرابه فأنكر الجاني فالقول قوله لأن الأصل عدم الاضطراب و فيه وجه آخر : أن القول قول المقتص لأن الأصل براءة ذمته
فصل
و إذا جرح ثلاثة رجلا فمات فادعى أحدهم أن جرحه برأ و أنكره الآخران فصدق الولي المدعي في موضع يريد القصاص قبل تصديقه و ليس على المدعي إلا ضمان الجرح لأنه لا ضرر على الآخرين في تصديقه لأن القصاص يلزمهما في الحالين وإن أراد أخذ الدية لم يقبل تصديقه في حقهما لأن عليهما ضررا فإنه إذا حصل القتل من ثلاثة وجب على كل واحد ثلث الدية و إذا برأ جرح أحدهم كان القتل من اثنين فلزم كل واحد نصفها و يقبل تصديقه في حق نفسه و يسقط عن المدعي ثلث الدية و يلزمه أرش الجرح و يجب على الآخرين ثلثا الدية
فصل
و إن أوضحه موضحتين بينهما حاجز فأزيل الحاجز فقال الجاني : تأكل بالسراية فلا يلزمني إلا دية موضحة و قال المجني عليه : أنا أزلته فالقول قول المجني عليه لأن الأصل بقاء أرش موضحتين و إن قال الجاني : ما أوضحتك إلا واحدة وقال المجني عليه بل أوضحتني اثنتين فخرقت ما بينهما فصارا واحدة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته من أرش أخرى و إن قطع أصابع امرأة فقال : قطعت من أصابعك أربعا فقالت : إنما قطعت ثلاثا و الرابعة قطعها غيرك فالقول قولها لأن الأصل وجوب دية ثلاث
فصل
و إن قطع أنف رجل و أذنيه فمات فقال الجاني : مات من الجناية فلا يلزمني إلا دية نفسه و قال وليه : بل اندملت الجنايتان فالقول قول وليه لأن الأصل وجوب ديتين فلا يسقط بالاحتمال و إن قطع ذلك ثم ضرب عنقه في مدة لا يحتمل البرء فيها فليس عليه إلا دية واحدة و إن كان بينهما مدة تحتمل البرء فادعاه الولي فالقول قوله و على الجاني ثلاث ديات لما ذكرنا و إن ضرب عنقه أجنبي آخر فعلى الأول ديتان و على الثاني : دية و إن كان قبل الاندمال لأن جناية الثاني قطعت سراية الأول فإن قال القاطع : أنا قتلته و قال الولي : بل قتله غيرك فالقول قول الولي : لما ذكرنا
فصل
و إن جنى على عين فأذهب ضوءها ثم مات المجني عليه فقال الجاني : عاد بصره قبل موته و أنكر الولي فالقول قوله لأن الأصل معه و إن قلع العين آخر و ادعى أنه قلعها قبل عود بصرها فأنكر الولي و الجاني الأول فالقول قول الثاني لأن الأصل معه فإن صدق الولي و المجني عليه الأول قبل قوله في إبرائه لأنه يسقط حقه و لم يقبل على الثاني لأنه يوجب عليه حقا الأصل عدمه
فصل
و إذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه بالجناية فأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد أخرى فإن ظهر منه انزعاج أو إجابة أو أمارة للسماع فالقول قول الجاني لأن الظاهر معه و يحلف لئلا يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقا و إن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر معه و يحلف لئلا يكون ذلك لجودة تحفظه و إن ادعى ذهاب شمه امتحن في أوقات غفلاته بالرائحة الطيبة و المنتنة فإن ظهر منه تعبيس من المنتنة و ارتياح للطيبة فالقول قول الجاني مع يمينه و إلا فالقول قول المجني عليه مع يمينه و إن ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه أو الشم من أحد منخريه سد الصحيح و امتحن بما ذكرنا و إن ادعى نقص سمعه أو شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه يدعي محتملا لا يعرف إلا من جهته و لا سبيل إلى إقامة البينة عليه فيقبل قوله مع يمينه كقول المرأة في حيضها و متى حكم له بالدية ثم انزعج عند صوت أو غطى أنفه عند رائحة منتنة فطولب بالدية فادعى أنه فعل ذلك اتفاقا فالقول قوله لأنه يحتمل ما قاله فلا ينقض الحكم بالاحتمال و إن تكرر منه ذلك بحيث تعلم صحة سمعه و شمه رد مأخذ لأننا تبينا كذبه و لو كسر صلبه فادعى ذهاب جماعه فالقول قوله مع يمينه لأنه محتمل لا يعرف إلا من جهته
فصل
و إن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا و قالت : هو من ضربك فأنكرها و كان الإسقاط عقيب الضرب أو بقيت متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لأن الظاهر معها و إن بقيت مدة غير متألمة فالقول قوله لأنه يحتمل ما قاله احتمالا ظاهريا و الأصل براءة ذمته و إن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم التألم و هو مما يظهر و يمكن إقامة البينة عليه و إن أسقطت الجنين حيا ثم مات فقالت المرأة : مات من ضربك فأنكرها و كان موته عقب الإسقاط أو بقي متألما إلى أن مات فالقول قولها لأن الظاهر معها و إن بقي مدة صحيحا ثم مات فالقول قول الجاني و إن اختلفا في تألمه فالقول قوله لما ذكرنا و إن قالت المرأة : استهل ثم مات فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدمه و إن اتفقا على استهلاله فقالت : كان ذكرا
و قال : بل أنثى فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الزائد على دية أنثى و إن صدق الجاني المرأة في حياته و كونه ذكرا و أنكرت العاقلة و جبت الدية في مال الجاني لأن العاقلة لا تحمل اعترافا و إن مات الجنين مع أمه و اعترف الجاني أنه سقط حيا ثم مات و أنكرت العاقلة فعلى العاقلة غرة لأنها لم تعترف بأكثر منها وما زاد على الجاني لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة
فصل
و إن اصطدمت سفينتان فتلفت إحداهما فادعى صاحبها أن القيم فرط في ضبطها فأنكر فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط و متى اختلفا في وجود جناية غير ما يوجب القسامة كالجناية على الأطراف و غيرها فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته و عدم الجناية
فصل
و إذا سلم دية العمد ثم اختلفا فقال الولي : لم يكن فيها خلفات و قال الجاني : كانت فيها و لم تكن رجع فيه إلى أهل الخبرة فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل وإن رجع في الدفع إليهم فالقول قول الدافع لأننا حكمنا بأنها خلفات بقولهم فلا ينقض ما حكمنا به إلا بدليل

باب كفارة القتل
تجب الكفارة على كل من قتل نفسا محرمة مضمونة خطأ بمباشرة أو تسبب كحفر البئر و شهادة الزور لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلمة إلى أهله } وتجب على من قتل في بلاد الروم مسلما يعتقده كافرا لقول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } وكذلك يلزم من رمى صف الكفار فقتل مسلما قياسا عليه ومن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا حيا أو ميتا فعليه كفارة لأنه آدمي محقون الدم لحرمته فوجبت فيه الكفارة كغيره و إن قتله وأمه فعليه كفارتان لأنه قتل نفسين و إن قتل نفسه أو عبده خطأ فعليه كفارة لأنها تجب لحق الله تعالى و قتل نفسه و عبده كقتل غيرهما في التحريم لحق الله تعالى و إن اشترك جماعة في قتل واحد فعلى كل واحد منهم كفارة لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل اشتركوا في سببها فلزم كل واحد كفارة كالطيب في الإحرام وعنه : على الجميع كفارة لأنها تجب بالقتل فإن كان واحدا وجبت كفارة واحدة كقتل الصيد
فصل
ولا تجب الكفارة بالعمد المحض سواء أوجب القصاص أو لم يوجبه لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره و لأنها لو وجبت في العمد لمحت عقوبته في الآخرة لأنها شرعت لستر الذنب و عقوبة القاتل عمدا ثابتة بالنص لا تمحى بها فوجب ألا تجب الكفارة فيه و عنه : أنها تجب لأنها إذا وجبت في الخطأ مع قلة إثمه ففي العمد أولى
وأما شبه العمد فتجب فيه الكفارة لأنه أجري مجرى الخطأ و في نفي عقوبته و تحمل العاقلة ديته و تأجيلها فكذلك في الكفارة و لأنه لو لم تجب الكفارة لم يلزم القاتل شيء لأن الدية تحملها العاقلة و تجب الكفارة في مال الصبي و المجنون إذا قتلا و إن تعمدا لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه و هذا من أحكامه و تجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله و على من قتلت بهيمته بيدها أو فمها إذا كان قائدها أو راكبها أو سائقها لأن حكم القتل لزمه فكذلك كفارته
فصل
و لا يجب بالجناية على الأطراف كفارة و لا بقتل غير الآدمي لأن وجوبها من الشرع و إنما أوجبها في النفس و قياس غيرها عليها ممتنع لأنها أعظم حرمة و لذلك اختصت بالقسامة و لا تجب بقتل مباح كقتل الزاني المحصن و القصاص و قتل أهل البغي و الصائل و من ضرب الحد فمات فيه أو في التعزير أو قطع بالسرقة أو القصاص فسرى إلى نفسه و نحو ذلك لأن الكفارة شرعت لتكفير و المحو و هذا لا شيء فيه يمحى
فصل
و الكفارة تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين للآية فإن لم يستطع ففيه روايتان :
إحداهما : يلزمه إطعام ستين مسكينا لأنها كفارة فيها العتق و صيام شهرين فوجب فيها إطعام ستين مسكينا إذا عجز عنهما ككفارة الظهار و الجماع في رمضان
و الأخرى : لا يجب فيها الإطعام لأن الله تعالى لم يذكره و صفة الرقبة و الصيام و الإطعام كصفة الواجب في كفارة الظهار على ما ذكر فيه و من عجز عن الكفارة بقيت في ذمته لأنها كفارة تجب بالقتل فلا تسقط بالعجز ككفارة قتل الصيد الحرمي

كتاب قتل أهل البغي
كل من ثبتت إمامته حرم الخروج عليه و قتاله سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أو بعهد الإمام الذي قبله إليه كعهد أبي بكر الى عمر رضي الله عنهما أو بقهره للناس حتى أذعنوا له و دعوه إماما كعبد الملك بن مروان لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } وروى أبو ذر و أبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية ] رواه مسلم من حديث أبي هريرة
فصل
و الخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام : قسم لا تأويل لهم فهؤلاء قطاع طريق نذكر حكمهم فيما بعد إن شاء الله و كذلك إن كان لهم تأويل لكنهم عدد يسير لا منعة عندهم و قال أبو بكر : هم بغاة لأن لهم تأويلا فأشبه العدد الكثير
و الأول : أصح لأن عليا رضي الله عنه لم يجر ابن ملجم مجرى البغاة و لأن هذا يفضي إلى إهدار أموال الناس
القسم الثاني : الخوارج الذين يكفرون أهل الحق و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و يستحلون دماء المسلمين فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة لأن عليا رضي الله عنه قال في الحرورية : لا تبدؤوهم بالقتال و أجراهم مجرى البغاة و كذلك عمرو بن عبد العزيز رضي الله عنه و ذهبت طائفة من أهل الحديث الى أنهم كفار حكمهم حكم المرتدين لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيهم : [ إنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ] رواه البخاري و في لفظ : [ لا يجاوز إيمانهم حناجرهم لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد ] فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء و قتل أسيرهم و اتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب و إلا قتل
القسم الثالث : قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ و راموا خلعه و لهم منعة و شوكة فهؤلاء بغاة و واجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم لقول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } و لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعي الزكاة و قاتل علي رضي الله عنه أهل البصرة يوم الجمل و أهل الشام بصفين و لا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه فإن اعتلوا بمظلمته أزالها أو شبهة كشفها لقول الله تعالى : { فأصلحوا بينهما } و في هذا إصلاح ولأن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة وأمر أصحابه ألا يبدؤوهم بقتال و قال : إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة وروى عبد الله بن شداد أن عليا لم اعتزلته الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف فإذا راسلهم فأبوا و عظهم و خوفهم القتال فإن أبوا قاتلهم فإن استنظروه مدة نظر في حالهم فإن بان له أن قصدهم تعرف الحق و كشف اللبس و الرجوع إلى الطاعة إنظارهم لأن في هذا إصلاحا وإن علم أن قصدهم الاجتماع على حربه أو خديعته عاجلهم لما في التأخير من الضرر فإن أعطوه مالا على أنظارهم أو رهنا لم يقبل بأنه لا يؤمن جعل ذلك طريقا إلى قهره و قهر أهل العدل
فصل
وإذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر و لم يجز على جريح ولم يقتل لهم أسير و لم يغنم لهم مال و لم يسب لهم ذرية لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي ؟ فقلت : الله و رسوله أعلم فقال : لا يقتل مدبرهم ولا يجاز على جريحهم و لا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم ] وعن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل : لا يذفف على جريح و لا يهتك ستر و لا يفتح باب ومن أغلق بابا أو بابه فهو آمن و عن أبي أمامة قال : شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح و لا يطلبون موليا و لا يسلبون قتيلا و لأن المقصود دفعهم فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله لأن عليا رضي الله عنه قال : إياكم و صاحب البرنس يعني محمد بن طلحت السجاد و كان قد حضر طاعة لأبيه ولم يقاتل ولأن القصد كفهم و هذا قد كف نفسه ومن أسر منهم فدخل في الطاعة خلي سبيله وإن أبى ذلك و كان رجلا جلدا حبس حتى تنقضي الحرب لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل فإذا انقضت الحرب خلي سبيله و إن لم يكن من أهل القتال خلي سبيله و لم يحبس لأنه لا يخشى الضرر من تخليته و قال أبو الخطاب : فيه وجه آخر : أنه يحبس كسرا لقلوب أصحابه و الأول أصح و حكم النساء و الصبيان حكم الرجال إن قاتلوا جاز دفعهم بالقتل و إلا فلا ومن قتل أحدا مما منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر بقتله و هل يلزمه القصاص ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه قتل مكافئا عمدا
و الثاني : لا يجب لأن في قتلهم اختلافا فكان ذلك شبه دارئة للقصاص
فصل
ولا يجوز قتالهم بالنار ولا رميهم بالمنجنيق و ما يعم إتلافه لأنه يعم من لا يجوز قتله ومن يجوز فإن دعت إليه ضرورة جاز كما يجوز قتل الصائل و لا يستعين على قتالهم بكافر و لا بمن يستبيح قتلهم لأن القصد كفهم لا قتلهم و هؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فقدر على كفهم عن فعل ما لا يجوز جازت الاستعانة بهم و إلا فلا و إن اقتتلت طائفتان من أهل البغي فقدر الإمام على قهرهما لم يعن واحدة منهما لأنهما على الخطأ وإن لم يقدر ضم إليه أقربهما إلى الحق فإن استويا اجتهد في ضم إحداهما إلى نفسه يقصد بذلك الاستعانة بها على الأخرى فإذا قهرها لم يقاتل المضمومة إليه حتى يدعوها إلى الطاعة لأنها حصلت في أمانة بالاستعانة بها
فصل
ولا يجوز أخذ مالهم لما تقدم و لأن الإسلام عصم مالهم وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة فبقي المال على العصمة كمال قاطع الطريق و لا يجوز الاستعانة بكراعهم و سلاحهم من غير ضرورة لذلك فإن دعت إليه ضرورة جاز كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة
فصل
ومن أتلف من الفريقين على الآخر مالا أو نفسا في غير القتال ضمنه لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي فكان ضمانه كضمانه قبل البغي وما أتلف أحدهما عل الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال لم يضمنه لما روى الزهري قال : كانت الفتنة العظمى و فيهم البدريون وأجمعوا على أن لا يجب حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن و لا يقتل رجل سفك دما حراما بتأويل القرآن و لا يغرم مالا أتلفه بأويل القرآن و لأن العادل مأمور بإتلافه فلم يضمنه كما لو قتل الصائل عليه و البغاة : طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل و لأن تضمينهم ذلك لفظي إلى تنفيرهم عن الطاعة فسقط كأهل الحرب و عنه : يلزم البغاة الضمان لأنهم أتلفوه بغير حق فضمنوه كقطاع الطريق
فصل
وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب فأمنوهم بشرط المعاونة لم ينعقد أمانهم لأن من شرط الأمان ألا يقاتلوا المسلمين فلم ينعقد بدون شرطه و إن أعانوهم فلأهل العدل قتلهم و غنيمة أموالهم كما قبل الاستعانة ولا يجوز لأهل البغي قتلهم و لا يحل لهم مالهم لأنهم أمنوهم فلزمهم الوفاء به و إن استعانوا بأهل الذمة فقاتلوا معهم طائعين عالمين بتحريم ذلك فيه وجهان :
أحدهما : ينتقض عهدهم لأنهم قاتلوا المسلمين من غير عذر فانتقض عهدهم كما لو كانوا منفردين
و الثاني : لا ينتقض عهدهم لأنهم تابعون لأهل البغي فعلى هذا حكمهم حكم البغاة في قتل مقاتلتهم دون مدبرهم و أسيرهم و تذفيف جريحهم و لكنهم يضمنون ما أتلفوا من نفس أو مال في الحرب أو في غيره لأن سقوط التضمين عن البغاة كي لا يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة و لا يخاف تنفير أهل الذمة و إن قالوا : كنا مكرهين أو ظننا أنه يجوز لنا معاونتهم لم تنتقض الذمة لأن ما ادعوه محتمل فلا ينقض العهد مع الشبهة و إن استعانوا بستأمن فحكمه حكم أهل الحرب إلا أن يقيم بينة على الإكراه
فصل
و إن ولوا قاضيا يستبيح دماء أهل العدل و أموالهم لم ينفذ حكمه لأن العدالة شرط للقضاء و ليس هذا بعدل و إن كان عدلا مجتهدا نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي الإمام ورد منه ما يرد منه لأن له تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد فأشبه قاضي أهل العدل و إن كتب إلى قاضي أهل العدل استحب ألا يقبل كتابه كسرا لقلوبهم فإن قبله جاز لأن حكمه ينفذ فجاز قبول كتابه كقاضي الإمام
فصل
و إن استولوا على بلد فأقاموا الحدود و أخذوا الزكاة و الخراج و الجزية احتسب به لأن عليا رضي الله عنه لم يتتبع ما فعله أهل البصرة و أخذه و كان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري و من ادعى دفع زكاته إليهم قبل منه ولم يستحلف لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ومن ادعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم لم يقبل إلا ببينة لأنها عوض فأشبهت الأجرة ومن ادعى دفع خراجه إليهم ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل لأنه أجرة للأرض فأشبه أجرة الدار و لأنه خراج أشبه الجزية
و الثاني : يقبل قوله لأن الدافع مسلم فقبل قوله في الدفع كالزكاة
فصل
و إن أظهر قوم رأي الخوارج و لم يخرج عن قبضة الإمام فقال أبو بكر : لا يتعرض لهم لأن عليا رضي الله عنه سمع رجلا يقول : لا حكم إلا لله - تعريضا به في التحكيم - فقال : كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله و لا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا و لا نبدأكم بقتال و حكمهم في ضمان النفس و المال و الحد حكم أهل العدل لأن ابن ملجم جرح عليا رضي الله عنه فقال : أطعموه و اسقوه و احبسوه فإن عشت فأن ولي دمي أعفو إن شئت و إن شئت استقدت وإن مت قتلتموه و لا تمثلوا به و لا يتحتم القصاص إذا قتلوا مسلما لقول علي رضي الله عنه : و إن شئت عفوت و فيه وجه آخر أنه يتحتم لأنه قتل بإشهار السلاح في غير المعركة فتحتم قتله كقاطع الطريق و إن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنه محرم لا حد فيه و لا كفارة فشرع التعذير فيه و إن عرضوا بالسب ففيه وجهان :
أحدهما : يعزرون كي يصرحوا به و يخرقوا الهيبة
و الثاني : لا يعزرون لما روي عن علي رضي الله عنه كان في صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج { لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين } فأجابه علي رضي الله عنه : { فاصبر إن وعد الله حق } ولم يعزره فأما من ذهب من أصحابنا إلى تكفيرهم فإنهم متى أظهروا رأي الخوارج استتيبوا فإن تابوا و إلا ضربت أعناقهم كسائر المرتدين
فصل
و إن اقتتلت طائفتان لطلب ملك أو رئاسة أو عصبية و لم تكن إحداهما في طاعة الإمام فهما ظالمتان يلزم كل واحدة منهما ضمان ما أتلفت على الأخرى فإن كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره فهي المحقة و حكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام لأنهم يقاتلون من أذن له الإمام فأشبه المقاتل لجيشه

باب أحكام المرتد
وهو : الراجع عن دين الإسلام ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل فأما المجنون و الطفل فلا يصح إسلامهما و لا ردتهما لأنه قول له حكم فلا يصح منهما كالبيع و غيره من العقود و أما الصبي المميز فيصح إسلامه و ردته لأن عليا رضي الله عنه أسلم و هو ابن سبع فصح إسلامه و ثبت إيمانه وعد بذلك سابقا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا و إما كفورا ] و لأن الإسلام عبادة محضة فصح منه كالصلاة و الحج و من صح إسلامه صحت ردته كسائر الناس و عنه : لا تصح ردته لقول عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاثة ] و لأنه قول يثبت به عقوبة فلم يصح منه كالإقرار بالحد و اختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه و ردته فقال الخرقي : هي عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضربهم على الصلاة و التفريق بينهم في المضاجع لعشر و عن أحمد : أنه إذا كان ابن سبع سنين صح إسلامه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مروهم بالصلاة لسبع ] و عن عروة أن عليا و الزبير أسلما و هما ابنا ثماني سنين و لأنه تصح عباداته فصح إسلامه كابن عشر و في ردة السكران روايتان كطلاقه
فصل
ولا تصح الردة من المكره لقول الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } و إن لفظ بالكفر و هو أسير فثبت أنه لفظ به و هو آمن كفر و إن لم يثبت لم يحكم بردته لأنه في محل المخافة وإن لفظ بها غير الأسير حكم بردته إلا أن يثبت إكراهه و من ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير أو شرب خمرا لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه و الأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه و يشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه ]
فصل
و الردة تحصل بجحد الشهادتين أو إحداهما أو سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم أو جحد كتاب الله تعالى أو شيء منه أو شيء من أنبيائه أو كتاب من كتبه أو فريضة ظاهرة مجمع عليها كالعبادات الخمسة أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه كالخمر و الخنزير و الميتة و الدم و الزنى و نحوه فإن كان ذلك لجهل منه لحداثة عهده بالإسلام أو لإفاقة من جنون و نحوه لم يكفر و عرف حكمه و دليله فإن أصر عليه كفر لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله و سنة رسوله فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله و سنة رسوله
فصل
ومن ارتد عن الإسلام وجب قتله لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس ]
فصل
وتقتل المرتدة للخبر و لأنها بدلت دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل
فصل
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا يدعى فيها إلى الإسلام و عنه : أنه يقتل من غير استتابة للخبر و لأنه يروى أن معاذا قدم على أبي موسى و عنده رجل محبوس على الردة فقال معاذ : لا أنزل حتى يقتل فقتل و الأول ظاهر المذهب لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قدمناه فضربنا عنقه قال عمر : فهل حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني و لو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم و لأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له فإذا تأنى عليه وكشفت شبهته رجع إلى الإسلام فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة و يحبس و يدعى إلى الإسلام و تكشف شبهته و يبين له فساد ما وقع له فإن قتل قبل الاستتابة لم يجب ضمانه لأن عصمته قد زالت بردته و إن ارتد و هو سكران لم يقتل قبل إفاقته لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره فإذا صحا و تمت له ثلاثة أيام من وقت ردته قتل و إن ارتد صبي لم يقتل قبل بلوغه لأن القتل عقوبة متأكدة فلا تشرع في حق الصبي كالحد و إذا بلغ استتيب ثلاثا لأن البلوغ مظنة كمال للعقل فاعتبرت الاستتابة فيه فإن لم يتب قتل و إن ارتد عاقل فجن لم يقتل في جنونه لأن القتل يجب بالإصرار على الردة و المجنون لا يوصف بالإصرار ومن قتل أحد هؤلاء عزر لارتكابه القتل المحرم ولم يضمن لأنه قتل كافرا لا عهد له فأشبه قتل نساء أهل الحرب
فصل
فإذا تاب المرتد قبلت توبته و خلي سبيله لقول الله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله : { إلا من تاب } و روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ] و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر و عن أحمد : أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره لأنه كان مستسرا به دهره فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه و لا توبة من تكررت ردته لقول الله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا } و قال أحمد : لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم و قال الخرقي : و من قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا و قال أبو الخطاب : هل تقبل توبة من سب الله تعالى و رسوله ؟ على روايتين :
إحداهما : لا تقبل لأن قتله موجب السب و القذف فلا يسقط بالتوبة كحد القذف
و الثانية : تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة و الولد لله سبحانه و تعالى و قد سماه الله تعالى شتما فقال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فقوله : إن لي صاحبة وولدا ] و التوبة من هذا مقبولة بالاتفاق
فصل
و تثبت التوبة من الردة و الكفر الأصلي بأن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله لخبر أنس إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمدا بعث إلى العرب خاصة أو يزعم أن محمدا نبي يبعث غير نبينا صلى الله عليه و سلم فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمدا نبي بعث إلى الناس كافة أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده وإن شهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقط ففيه روايتان :
إحداهما : يحكم بإسلامه لأنه لا يقر برسالته إلا وهو مقر بمن أرسله
والثانية : إن كان ممن يقر بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن كفره بجحده لرسالة محمد صلى الله عليه و سلم و إن كان ممن لا يوحد الله تعالى كالنصراني لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله لأنه غير موحد فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى و يقر بما كان يجحده و إن ارتد بجحد فرض أو استحلال محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده وإن صلى الكافر حكمنا بإسلامه سواء صلى جماعة أو فرادى في دار الحرب أو الإسلام لأنها ركن يختص به الإسلام فحكم بإسلامه بها كالشهادتين و لأن ما كان إسلاما في دار الحرب كان بإسلاما في دار الإسلام كالشهادتين و إن قال : أن مؤمن أو مسلم حكم بإسلامه و إن لم يلفظ بالشهادتين ذكره القاضي لأن ذلك اسم لشيء فإذا أخبر به فقد أخبر بذلك الشيء
فصل
و إن أصر على الردة قتل بالسيف لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ و إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] و لا يقتله إلا الإمام لأنه قتل يجب لحق الله تعالى فكان الى الإمام كرجم الزاني و إن قتله غيره بغير إذنه أساء و يعزر لافتئاته على الإمام و لا ضمان عليه لأنه أتلف محلا غير معصوم
فصل
و إذا ارتد لم يزل ملكه لأنه سبب مبيح لدمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن و إن و جد منه سبب يقتضي الملك كالاصطياد و الابتياع ملك به كذلك و يرفع الحاكم يده عن ماله و يمنعه التصرف فيه و يقضي ديونه من ماله و أرش جناياته و ينفق على من يلزمه الإنفاق عليه و إن تصرف المرتد في ماله ببيع أو هبة و نحوها كان تصرفه موقوفا إن أسلم تبينا وقوعه صحيحا و إن لم يسلم كان باطلا لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته فأشبه تبرع المريض لوارثه و قال أبو بكر : يزول ملكه بردته لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه فوجب أن يملكوا ماله كالأصلي لأنه زالت عصمته بردته فوجب أن تزول عصمة ماله فلا تصح تصرفاته و لا تملك بأسباب الملك و لا تنفق على أهله منه فإن أسلم رد إليه تمليكا مستأنفا و إن قتل أو مات قضيت ديونه لأن موته لا يمنع قضاء دينه
فصل
ولا يجوز استرقاق المرتد لأنه لا يجوز إقراره على ردته وإن ارتد وله ولد لم يجز استرقاق ولده لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده فإذا بلغ أستتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل والحمل كالولد الظاهر لأنه يحكم له بالإسلام ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة جاز استرقاقه لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد : إذا تزوج في دار الحرب وولد له ما يصنع بولده ؟ قال : يردون إلى الإسلام ويكونون عبيدا للمسلمين فظاهر هذا أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر ولا يقبل منه إلا الإسلام وإذا أسلم بعد سبيه رق لأنه ولد من لا يقر على كفره فلا يقر على كفره كوالده الذي كان موجودا قبل ردته
فصل
وما يتلفه المرتد مضمون عليه لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه و اعترافه به فلا يسقط عنه بجحده كمن جحد الدين بعد إقراره به فإن لحق بدار الحرب فقد روي عن أحمد : أنه إذا لحق بدار الحرب فقتل أو سوق قال : قد زال عنه الحكم يعني : لا يؤخذ بجنايته ثم توقف بعد ذلك فيحتمل أن يضمن ما أتلفه لما ذكرناه و يحتمل أن لا يضمن لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب فلم يضمن كالكافر الأصلي
و إن ارتدت طائفة و امتنعت وجب على الإمام قتالها لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة و لأنهم كفار لا عهد لهم فوجب قتالهم كالأصليين و ما أتلفوه في حال الحرب لم يضمنوه لما روى طارق بن شهاب قال : جاء وفد بزاخة و غطفان إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يسألونه الصلح فقال : تدون قتلانا و لا ندي قتلاكم فقال عمر رضي الله عنه : إن قتلانا قتلوا على أمر الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على قول عمر رضي الله عنه رواه البخاري
و إن أتلفوا في غير دار الحرب شيئا ففيه وجهان كالواحد إذا لحق بدار الحرب و ذكر ابن أبي موسى و القاضي و أبو الخطاب : أن ما أتلفه المرتد فهو مضمون عليه سواء كان واحدا أو جماعة ممتنعة بالحرب و يحتمل في الجماعة الممتنعة ألا تضمن ما أتلفت
فصل
و من أكره على الإسلام بغير حق كالذمي و المستأمن لم يصح إسلامه ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك بعد زوال الإكراه و إن أكره عليه بحق كالمرتد ومن لا يجوز إقراره على دينه حكم بإسلامه و من أسلم ثم قال : لم أعتقد الإسلام أو : لم أدر ما قلت لم يقبل منه و صار مرتدا نص عليه أحمد رضي الله عنه و عنه أنه يقبل منه و المذهب : الأول

باب الحكم في الساحر
السحر : عزائم و رقى و عقد تؤثر في الأبدان و القلوب فيمرض و يقتل و يفرق بين المرء و زوجه و يأخذ أحد الزوجين عن صاحبه قال الله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه } و قال الله سبحانه : { قل أعوذ برب الفلق } إلى قوله : { و من شر النفاثات في العقد } يعني : السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن و ينفثن في عقدهن و لولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه وروت عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم سحر حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء و لم يفعله و أنه قال لها ذات يوم : [ أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي و الآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم في مشط و مشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان ] رواه أحمد و البخاري و مسلم
و تعلم السحر و العمل به حرام فإن فعله رجل وجب قتله إذا كان مسلما لما روي عن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة : أن اقتلوا كل ساحر و ساحرة فقتلنا ثلاث سواحر في يوم رواه أحمد و أبوه داود و قتلت حفصة أمة لها سحرتها و رأى جندب بن كعب رجلا يعمل سحرا بين يدي الوليد بن عقبة فضربه بالسيف و أما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل نص عليه أحمد و قال : الشرك أعظم من ذلك و قد سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقتله
قال أصحابنا : و يكفر بتعلم السحر و العمل به لقول الله تعالى : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه و هل يستتاب ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يستتاب لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يستتيبوهم و لأن علم السحر لا يزول بالتوبة
و الثانية : يستتاب فإن تاب قبلت توبته و خلي سبيله لأن دينه لا يزيد على الشرك
و المشرك يستتاب و تقبل توبته فكذا الساحر و علمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم و لذلك صح إيمان سحرة فرعون و توبتهم
فصل
الكاهن - الذي له رئي من الجن - و العراف و قد نقل عن أحمد : أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما و ليس هو من أمر الإسلام قال أحمد : العراف طرف من السحر و الساحر أخبث لأنه شعبة من الكفر
فصل
فأما المعزم الذي يعزم على المصروع و يزعم أنه يجمع الجن و أنها تطيعه و الذي يحل السحر فذكرهما أصحابنا من السحرة الذين ذكرنا حكمهم و قد توقف أحمد لما سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر فقال : قد رخص فيه بعض الناس قيل : إنه يجعل في الطنجير ماء و يغيب فيه و يفعل كذا فنفض يده كالمنكر وقال ما أدري ما هذا ؟ قيل له : فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر ؟ قال : ما أدري ما هذا
و سئل ابن سيرين عن امرأة تعذبها السحرة فقال رجل : اخط خطأ عليها و اغرز السكين عند مجمع الخط و اقرأ عليها القرآن فقال محمد : ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال و لا أدري ما الخط و السكين و سئل سعيد بن المسيب عن رجل يؤخذ عن امرأته يلتمس من يداويه قال : إنما نهى الله تعالى عما يضر و لم ينه عما ينفع إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل و هذا يدل على أن مثل هذا لا يكفر صاحبه و لا يقتل

كتاب الحدود باب حد المحارب
و هو الذي يقطع الطريق و يخيف السبيل و على الإمام طلبه ليدفع عن الناس شره فإن ظفر به قبل أن يقتل و يأخذ مالا ففيه روايتان :
إحداهما : ينفيه فلا يتركه يأوي بلدا
و الثانية : يعزره بما يرى من حبس و غيره
ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } و ظاهر اللفظ وجوب نفيهم و وجه الثانية : أنه قد قيل : إن نفيهم : طلبهم لتعزيرهم و إقامة حد الله تعالى فيهم فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود و لأن نفيهم من البلد يقضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه
و إن شهر السلاح في الصحراء فقتل و أخذ مالا قتل حتما و إن عفا ولي الدم لأنه حد فلا يدخله عفو كسائر الحدود ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره و لا توقيت فيه لأن التوقيت طريقة التوقيف و لا توقيف فيه و لا يصلب قبل القتل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] ثم ينزل و يصلى عليه و يدفن و إن مات قبل قتله لم يصلب لأنه تابع للقتل فسقط بفواته و إن قتل و لم يأخذ مالا قتل حتما و لم يصلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده اليمنى و رجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا و خلي لقول الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } و روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال : وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بردة الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم : أن من قتل و أخذ المال قتل و صلب و من قتل و لم يأخذ المال قتل و من أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و هذا نص
وحكم الردء حكم المباشر في جميع هذه الجنايات لأنها محاربة فاستوى فيها الردء و المباشر كالجهاد يستوي الردء و المباشر في استحقاق الغنيمة و ذكر القاضي فيمن قتل و أخذ المال رواية أخرى : أنه يقطع ثم يقتل لأن القتل جزاء القتل و القطع جزاء أخذ المال مفردا و إذا اجتمعا وجب حدهما كالزنا و السرقة و الأول أولى لأنه متى كان في الحدود قتل سقط ما دونه كالرجم في الزنا و القطع في السرقة
فصل
و من شرط المحارب أن يكون مع سلاح أو يقاتل بسلاح لأن من لا سلاح له لا منعة له و إن قاتل بالعصا و الحجارة فهو محارب لأنه سلاح يأتي على النفس و لأطرف أشبه الحديد و هل من شروطه أن يكون في الصحراء ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يكون محاربا حتى يشهر السلاح في الصحراء فإن شهره في مصر أو قرية و سعى فيها بالفساد فليس بمحارب هذا ظاهر كلام الخرقي لأن الواجب على المحاربين يسمى : حد قطاع الطريق و قطع الطريق إنما يكون في الصحراء و لأن المصر يلحق فيه الغوث غالبا فتذهب شوكتهم و يكونون مختلسين و قال جماعة من أصحابنا : هم محاربون حيث كانوا لعموم الآية فيهم و لأن ضررهم في المصر أعظم فكانوا بالحد أولى و قال القاضي : إن كبسوا دارا في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين و إن حضروا قرية أو بلدا بحيث لا يلحقهم الغوث لكثرة العدد أو بعد البلد من الغوث فهم قطاع طريق لأن الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء
فصل
و يشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصدا لأخذ المال فإن قتل لغير ذلك فليس بمحارب و حكمه حكم القاتل في المصر و إن قتل المحارب من لا يكافئه كحر قتل عبدا أو مسلم قتل ذميا ففيه روايتان :
إحداهما : يقتل و يصلب لعموم ما روينا و لأنه حد الله تعالى فلم تعتبر فيه المكافأة كقطع السارق
و الثانية : لا تقتل به لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] و إن جرح إنسانا جرحا يجب في مثله القصاص وجب القصاص و هل يتحتم ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يتحتم لأنه نوع قود أشبه القود في النفس
و الثاني : لا يتحتم لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين فذكر القتل و الصلب و القطع و لم يذكر الجرح فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة
فصل
و يشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء :
أحدها : أن يأخذ المال مجاهرة و قهرا فإن أخذه مختفيا فهو سارق و إن اختطفه و هرب به فهو منتهب لا قطع عليه لأن عادة قطاع الطريق القهر فيعتبر ذلك فيهم
و الثاني : أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله لأنه قطع يجب بأخذ المال فاعتبر النصاب كقطع السارق فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع قطعوا كالمشتركين في السرقة
و الثالث : أن يأخذ من حرز فإن أخذ منفردا عن القافلة أو من جمال ترك القائد تعهدها لم يقطع لما ذكرناه
فصل
و إذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى و الرجل اليسرى و أخذ المال انبنى ذلك على الروايتين في السارق إن قلنا : يؤتى على أطرافه كلها قطعت هنا يده اليسرى و رجله اليمنى و إن قلنا : لا يؤتى عليها سقط القطع و إن وجد أحد طرفيه دون الآخر قطع الموجود حسب لأن ما يتعلق به الفرض معدوم فسقط كغسلها في الوضوء و إن قطع القاطع يد المحارب اليسرى و رجله اليمنى مع وجود الطرفين الآخرين أساء و أجزأ لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين أفضى إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة
فصل
و إن تاب المحارب قبل القدرة عليه سقط عنه حد المحاربة لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فيسقط عنه انحتام القتل و الصلب و القطع و النفي و لا يسقط حق الآدمي من القصاص و غرامة المال و حد القذف لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالضمان و إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه لأن الله تعالى شرطه في المغفرة لهم كون التوبة قبل القدرة فيدل على عدمها بعدها و لأن إسقاطه بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه بالكلية لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا عليه و لا نأمن أن يكون تقية فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك
فصل
ومن وجب عليه حد الله تعالى فتاب فهل يسقط عنه ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يسقط لقول الله تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وقال في الزانيين : { فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما } و لأنه حد فسقط بالتوبة كحد المحارب
و الثانية : لا يسقط لقوله تعالى : { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }
وقال سبحانه : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و لأن ماعزا و الغامدية جاءا مقرين تائبين فأقام النبي صلى الله عليه و سلم عليهما الحد
قال أصحابنا : و لا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التوبة تجب ما قبلها ] و لأنها توبة من ذنب فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل كالإسلام و يحتمل أن يعتبر إصلاح العمل مدة يتبين فيها أمره لقول الله : { فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح } و قال : { فإن تابا وأصلحا } علق الحكم على شرطين فلا يثبت بدونهما و لأنه لا يؤمن أن يكون إظهار التوبة تقية فلا يتحقق وجودها فلا يثبت الحكم بها بمجردها كتوبة المحارب بعد القدرة

باب حد السرقة
وحد السرقة : قطع اليد اليمنى لقول الله تعالى : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و يعتبر في وجوبه أمور تسعة :
أحدهما : السرقة : و هو أخذ المال مختفيا فإن اختطفه أو اختلسه فلا قطع عليه لما روى جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس على المنتهب قطع ] وروى عنه عليه السلام أنه قال : [ ليس على الخائن و لا المختلس قطع ] رواهما أبو داود و لأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق و ليس هؤلاء بسراق و في جاحد العارية روايتان :
إحداهما : لا قطع عليه لأنه خائن فلا يقطع للخبر و لأنه ليس بسارق فلا يقطع كجاحد الوديعة وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا و أبي الخطاب
و الثانية : يجب عليه القطع لما روي عن عائشة رضي الله عنها : أن امرأة كانت تستعير المتاع و تجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها متفق عليه
فصل
الثاني : أن يكون مكلفا فلا يجب الحد على صبي أو مجنون لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ و عن المجنون حتى يفيق و عن النائم حتى يستيقظ ] و لأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات و الإثم في المعاصي فالحد المبني على الدرء ولإسقاط أولى و لا قطع على مكره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ] و يخرج في قطع السكران وجهان بناء على الروايتين في طلاقه و قال القاضي : حكمه حكم الصاحي فيما يجب عليه من العقوبات و يجب القطع على السارق من أهل الذمة و المستأمنين و يقطع المسلم بسرقة مالهما لأنهم التزموا حكم الإسلام فأشبهوا المسلم مع المسلم
فصل
الثالث : أن يكون المسروق نصابا فلا قطع فيما دونه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] متفق عليه
و في قدر النصاب روايتان :
إحداهما : ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ذلك من غيرهما لما روت عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ] وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم متفق عليهما و قال عليه السلام : [ فما بلغ ثمن المجن ففيه القطع ] و عنه : أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة لهذا الخبر
و الثانية : الأصل الدراهم خاصة و يقوم الذهب بها لحديث ابن عمر و الأول أولى لخبر عائشة و لأن ما كان فيه أحد النقدين أصلا كان الآخر فيه أصلا كالديات و نصب الزكوات سواء في هذا الصحاح و المكسرة و التبر و المضروب للخبر فإنه اشترك اثنان في هتك حرز وسرقة نصاب منه فعليهما القطع لأنه قطع يجب على المنفرد فوجب على المشتركين فيه كالقصاص و يحتمل ألا يجب لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلا يجب عليه القطع للخبر و كما لو انفرد بسرقته فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه كالأب و الصبي و كانت سرقة الأجنبي البالغ نصابا فالقطع واجب عليه لأن المانع اختص بأحدهما فاختص السقوط به كالقصاص و يحتمل ألا يجب قطعه لأن سرقتهما علة قطعهما و سرقة الأب لا تصلح علة القطع فلم يجب على واحد منهما و إن كانت سرقة الأجنبي لم تبلغ نصابا لم يجب قطعه لأن ما سرقه لم يجب به القطع و لا يمكن بناء فعله على فعل شريكه لأن فعل الشريك لا يوجب و يحتمل أن يجب قطعه كما في القصاص و من هتك حرزا فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه درهما في ليلة أخرى أو وقيتين متباعدين فلا قطع عليه لأن كل سرقة منهما منفردة لا تبلغ نصابا و إن تقاربا وجب القطع لأنهما سرقة واحدة من حرز هتكه فأشبه ما لو أخرجهما معا و إذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فعلى فعل نفسه أولى و متى شككنا في المسروق هل يبلغ نصابا أو لا ؟ لم يجب القطع لأن الأصل عدمه فلا يجب الشك
فصل
و الشرط الرابع : أن يكون المسروق مما يتمول في العادة لأن القطع شرع لصيانة الأموال فلا يجب في غيرها و سواء في ذلك ما يبقى زمنا كالثياب و ما يفسده طول بقائه كالفاكهة و الأطعمة الرطبة وما أصله الإباحة كالصيود و الفخار و الآجر و اللبن و الخشب لأنه مال يتمول به عادة فوجب القطع بسرقته كالأثمان فإم سرق حرا صغيرا فلا قطع عليه لأنه ليس بمال و عنه : يقطع فإن قلنا : لا يقطع و كان عليه حلي يبلغ نصابا ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع لأنه سرق نصابا من المال
و الثاني : لا قطع عليه لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه بدليل أن اللقيط يحكم له بما عليه فأشبه ما لو سرق جملا صاحبه راكب عليه و إن سرق عبدا صغيرا أو مجنونا قطع لأنه مال ممكن سرقته و إن كان كبيرا عاقلا فلا قطع عليه لأن سرقته غير ممكنة فإن قهره و أخذه كان غاصبا لا سارقا إلا أن يكون نائما أو غريبا لا يميز بين سيده و غيره فيقطع لأن سرقته ممكنة فإن كانت أم ولد كذلك ققي قطع سارقها وجهان :
أحدهما : يقطع لأنها مضمونة بالقيمة أشبهت القن
و الثاني : لا يقطع لأن بيعها محرم أشبهت الحرة و يقطع سارق الوقف لأنه مملكوك للموقوف عليه و يحتمل أن لا يقطع لأنه لا يحل بيعه و لأنه غير مملوك على إحدى الروايتين
فإن سرق إناء يساوي نصابا في خمر أو ماء ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع لأنه سرق نصابا فلزمه القطع كما لو كان فيه بول
و الثاني : لا يقطع لأن الإناء يراد وعاء لما فيه فصار تابعا لما لا قطع فيه أشبه ثياب الحر إذا سرقه و إن سرق آلة لهو كالطنبور و المزمار و شبهه فلا قطع عليه لأنه آلة معصية فأشبه الخمر و سواء بلغ قيمة خشبه مكسورا نصابا أو لم يبلغ لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية فصار المباح فيه تابعا و إن سرق إناء ذهب أو فضة تبلغ زنته نصابا قطع لأن جوهره هو المقصود و الصناعة مغمورة فيه فصارت تابعة له بخلاف التي قبلها و إن سرق صليبا أو صنما من ذهب أو من فضة فقال أبو الخطاب : فيه القطع لما ذكرنا و قال القاضي فيه لأنه مجمع على تحريمه أشبه الطنبور
فصل
و إن سرق مصحفا فقال أبو الخطاب : عليه القطع للآية و لأنه متقوم يبلغ نصابا أشبه كتب الفقه و قال أبو بكر و القاضي : لا قطع فيه لأن المقصود منه كلام الله تعالى فإن كان محلى بحلية تبلغ نصابا ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع و هو قول القاضي لأنه سرق نصابا يجب به القطع منفردا فيجب به مع غيره كما لو كانت الحلية منفصلة عنه
و الثاني : لا قطع فيها لأنها تابعة لما لا قطع فيه أشبه ثياب الحر و يقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة لأنه يجوز بيعها أشبهت الثياب فإن كانت محرمة ككتب البدع و الشعر المحرم فلا قطع فيها لأنها محرمة أشبهت المزامير و لا يقطع بسرقة الماء لأنه لا يتمول عادة و لا بسرقة السرجين و إن كان طاهرا لذلك و لأنه يوجد كثيرا مباحا فلا تكثر تعلق الرغبات به فلا حاجة إلى الزجر عنه و إن سرق كلأ أو ملحا فقال أبو بكر : لا قطع عليه لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه أشبه الماء و قال أبو إسحاق بن شاقلا : يقطع لأنه يتمول عادة أشبه الصيد و الثلج مثله و قال القاضي : هو كالماء لأنه ماء جامد
فصل
الشرط الخامس : أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه لأن الحدود تدرا بالشبهات فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده و إن سفل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت و مالك لأبيك ] رواه أبو داود و الأم كالأب في هذا لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال والده و إن علا في إحدى الروايتين لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما لصاحبه أشبهت الأب و يقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم لعدم ذلك فيهم و لا يقطع العبد بسرقة مال سيده لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي قال لعمر : إن عبدي سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهما فقال : أرسله : لا قطع عليه غلامكم أخذ متاعكم و لأن يده كيد مولاه بدليل أنه لو كان في يده مال فتنازعه السيد و أجنبي كان لسيده و إن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه غير محرز عنه و إن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا قطع عليه لقول عمر : غلامكم أخذ متاعكم و لأن أحدهما يرث صاحبه من غير حجب و ترد شهادته له أشبه الولد وهذا اختيار الخرقي و أبي بكر
و الأخرى : يقطع لعموم الآية و لأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه أشبه الأجنبي و لا يقطع على من سرق مالا له فيه شركة لأن له فيه حقا فكان ذلك شبهة و لا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك و لأن عمر رضي الله عنه قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال : أرسله فما من أحد إلا و له في هذا المال حق و إن سرق منه ذمي قطع لأنه لا حق له فيه
ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع لذلك و إن لم يكن كذلك فسرق منها بعد إخراج الخمس قطع لأنه لا حق له فيها وأن سرق قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له حقا في خمس الخمس و إن سرق مسكين من وقف المساكين لم يقطع لأن له فيه حقا و إن سرق منه غني قطع لأنه لا حق له فيه و إن سرق حصير مسجد أو قنديله أو نحوه مما جعل لنفع المصلين لم يقطع لأن له فيه حقا و إن سرق بابه أو تأزيره أو شيئا من خشب سقفه ففيه وجهان
أحدهما : يقطع لأنه لا حق له فيه و هو محرز بحرز مثله أشبه سارق ذلك من بيت آدمي
و الثاني : لا قطع عليه لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين و لأنه ليس له مالك من المخلوقين و الكعبة و غيرها في هذا سواء و لا يقطع بسرقة ستارتها الخارجة منها لأنها غير محرزة و قال القاضي : إن كانت مخيطة عليها قطع سارقها لأن هذا حرز مثلها
فصل
و لا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] و لا على الضيف إذا منع قراه فأخذ بقدره لأن له حقا و إن سرق غير ذلك من البت الذي هو فيه لم يقطع لأنه غير محرز عنه و إن كان محرزا عنه فعليه القطع لعدم الشبهة و لا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة لأنه فعل ما له فعله قال أحمد : لا قطع في المجاعة لأن عمر رضي الله عنه قال : لا قطع في عام سنة قيل لأحمد تقول به ؟ قال : أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة و الناس في شدة و مجاعة و لا قطع على الغريم إذا جحده غريمه أو منعه و لم يقدر على استيفاء دينه فأخذ بقدره في أحد الوجهين و هو اختيار أبي الخطاب لأن طائفة من أهل العلم أباحت له ذلك فيكون شبهة و في الآخر عليه القطع و هو قول القاضي لأنه ليس له الأخذ فإن كان غريمه باذلا له قطع لأنه لا شبهة له في السرقة لإمكان التوصل إلى أخذه و إن سرق المسروق منه مال السارق و المغصوب منه مال الغاصب من حرز فيه ماله ففيه وجهان :
أحدهما : لا قطع عليه لأنه هتك حرزا له هتكه لأخذ ماله
و الثاني : يقطع لأنه لما أخذ غير ماله علم أنه قصد سرقة مال غيره و إن سرق ماله من حرز لا مال له فيه فحكمه حكم السارق من غريمه و إن أحرز المغصوب أو المسروق فسرقه أجنبي لم يقطع لأنه حرز لم يرضه مالكه و إن غصب دارا فأحرز فيها متاعه لم يقطع سارقه لأنه لا حكم لحرزه حيث كان متعديا به ظالما فيه و إن سرق المعير من الدار المستعارة أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئا قطع لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي
فصل
السادس : أن يسرق من حرز لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عم جده أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الثمار فقال : [ ما أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته و مثله معه وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ] رواه أبو داود
و يعتبر الحرز بما يتعارفه الناس فما عدوه حرزا فهو حرز و ما لا فلا لأن الشرع لما اعتبر الحرز و لم يبينه علمناه أنه رده إلى العرف كالقبض و التفرق و إحياء الموات هذا ظاهر قول أصحابنا و إليه ذهب ابن حامد و القاضي وذكر أبو بكر كلاما يدل على أن الإحراز لا يختلف فقال : إذا أفرد الشيء في الملك فهو محرز و العمل على الأول فحرز الأثمان و الجواهر و نحوها في الخانات الحريزة و الدور في العمران دونها الأغلاق و الأقفال أو حافظ مستيقظ أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه أو كمه أو وسطه أو معضدته و نحن ذلك و نقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل أو كمه لا قطع عليه و هذا محمول على من اختلس دون من سرق لأنه قد بينه في رواية ابن منصور فقال : الطرار يقطع إذا كان يطر سرا
وإن اختلس لم يقطع فأما الجواسق في البساتين و الخانات في البرية فإن كانت مغلقة و فيها حافظ فهي حرز نائما كان أو يقظان و إن كانت مفتوحة فلا تكون حرزا إلا أن يكون الحافظ يقظان و إن لم يكن فيها حافظ فليست حرزا بحال لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ
و الخيمة و الخركاه المنصوبة كالجواسق فيما ذكرنا و يقطع سارقها متى كان فيها حافظ و إن كان نائما لأنها تحرز بهذا و حرز متاع الباعة من العطارين و غيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق و الأقفال و إن كانت مفتوحة فبحافظ يقظان و حرز قدور الباقلا في الدكاكين و شرائح القصب و ما جرت العادة بإحرازها به و حرز باب الدار و الدكان نصبه في موضعه و حرز حلقة الباب تسميرها فيه و حرز آجر الحائط و حجارته كونه مبنيا في الحائط و حرز الخشب و الحطب بالحظائر و تغيبه بعضه على بعض مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه و إن كان في فندق مغلق أو فيه حافظ فهو محرز و إن لم يقيد و حرز متاع الباعة و أشباههم كونه بين أيديهم لأنه محفوظ بذلك فإن نام عنه أو اشتغل أو جعله خلفه بحيث تناله اليد خرج عن الحرز لأنه غير محفوظ و إن نام إنسان على ثوبه أو متاعه فقد أحرزه لما روى صفوان بن أمية أنه نام في المسجد و توسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر به أن يقطع فقال صفوان يا رسول الله : لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فهلا قبل أن تأتيني به ] رواه ابن ماجه فإن تدحرج عنه خرج من الحرز

فصل تابع باب حد السرقة
و حرز المواشي الراعية ينظر الراعي إليها فما استتر عنه بحائل أو نوم الراعي خرج عن الحرز لأنه غير محفوظ و حرز البارك من الإبل المعلقة بالحافظ نائما كان أو يقظان لأن العادة أن صاحبها يعقلها إذا نام و إذا لم تكن معقلة فحرزها بحافظ يقظان لما ذكرنا و حرز الحمولة بسائق يراها أو قائد يكثر الالتفات إليها و يراها إذا التفت لأنها لا تنحفظ إلا بذلك
فصل
ومن ترك ثيابه في الحمام لا حافظ لها فليست محرزة و إن استحفظها إنسانا فحفظها فعن أحمد أنها غير محرزة أيضا إلا أن يتوسدها أو يجلس عليها لأن الحمام مستطرق و قال القاضي في موضع يخرج في المسألة روايتان و في موضع آخر : تصير محرزة بذلك كالقماش بين يدي الباعة و إن نام الحافظ أو اشتغل فعليه الضمان و لا قطع على السارق لأنها خرجت عن الحرز و إن لم يفرط في الحفظ فلا ضمان عليه لأنه مؤتمن
فصل
و حرز الكفن كونه على الميت في القبر فمن نبشه و سرقه قطع لأنه سارق بدليل قول عائشة رضي الله عنها : ( سارق أمواتنا كسارق أحيائنا ) و لأن القبر حرز الكفن لأنه يوضع فيه عادة و لا يعد واضعه مفرطا و لا مضيعا و قد سرق منه و ما زاد على الكفن المشروع كاللفافة الرابعة لم يكن القبر حرزا له لأن تركه فيه تضييع فأشبه الكيس المدفون معه و إن أكل الضبع الميت و بقي الكفن فلا قطع على سارقه لأنه غير محرز و يكون للورثة لأن لهم ما فضل عن حاجته من ماله
فصل
السابع : أن يخرجه من الحرز سواء أخرجه بيده أو بفيه أو رماه إلى خارج أو اجتذبه بمحجن أو بيده أو تركه على ظهر بهيمة و ساقها أو على ماء جار أو في مهب ريح فأطارته أو على ماء راكد و حركه أو فجره فخرج به أو أمر صبيا مميزا فأخرجه أو فتح طاقا فانهال الطعام إليه أو بط جيبه إنسان أو كمه فسقط المال فأخذه فعليه القطع في هذا كله لأنه بسبب فعله فأشبه ما أخرجه بيده فإن جمعه في الحرز ثم تركه و مضى أو أخذ منه أو تركه في ماء راكد ففجره غيره فخرج به أو أخرج النباش الكفن من اللحد إلى القبر فتركه فيه أو التف المتاع في الحرز لم يقطع لأنه لم يسرق و إن ترك المتاع على دابة فخرجت به بنفسها أو في ماء راكد فانفجر فخرج به أو على حائط في غير مهب ريح فهبت ريح فأطارته ففيه وجهان :
أحدهما : عليه القطع لأن فعله سبب خروجه أشبه ما لو ساق البهيمة
و الثاني : لا قطع عليه لأن ذلك لم يكن آلة للإخراج و إنما خرج بسبب حادث أشبه ما لو فجر الماء آدمي آخر أو ساق البهيمة غيره و إن أخرجه من الحرز فألقاه خارج الحرز أو رده إلى الحرز لخوف أو غيره فعليه القطع لأنه وجب بإخراجه وإن أخرج خشبة فألقاها و منها شيء في الحرز لم يقطع لأن بعضها لا ينفرد عن البعض و لذلك لو أمسك عمامة و طرفها في يد صاحبها لم يضمنها و إن أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار و كان البيت مغلقا ففتحه أو نقبه قطع لأنه أخرج المتاع من الحرز و إن لم يكن كذلك فلا قطع عليه لأنه لم يخرجه من الحرز
فصل
و إن دخل الحرز فأمل طعاما فيه و خرج منه لم يقطع لأنه أتلفه و لم يخرجه و إن ابتلع دينارا فلم يخرج منه فلا قطع عليه كذلك و إن خرج منه ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع لأنه أخرجه في وعاء فأشبه ما لو أخرجه في كمه
و الثاني : لا قطع عليه لأنه ضمنه بالبلع فكان ذلك إتلافا
و إن دخل فشرب لبن ماشية فلا قطع عليه لأنه أتلفه و إن احتلب نصابا و أخرجه قطع لأنه محرز بحرز الماشية و إن ذبح الشاة و شق الثوب ثم أخرجه و قيمته بعد ذلك نصابا قطع لأنه أخرج نصابا من الحرز و إلا فلا قطع فيه لأنه لم يخرج نصابا و إن تطيب في الحرز ثم خرج و عليه من عين الطيب ما إذا لو جمع بلغ نصابا ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع لأنه أخرج من الحرز نصابا
و الثاني : لا قطع عليه لأنه أتلفه بالاستعمال و إن لم يبق من عينه نصاب لم يقطع وجها واحدا لأنه لم يخرج نصابا أشبه ما لو أكله
فصل
و إن أخرج نصابا فنقصت قيمته عن النصاب قبل القطع قطع لأنه وجد شرط القطع فيه وقت الوجوب فلم يسقط القطع بفواته بعد ذلك كالحرز إذا تغير و إن ملك المسروق بهبة أو غيرها لم يسقط القطع لحديث سارق رداء صفوان لأن ملكه لمحل الجناية لا يسقط الحد كما لو زنى بأمة ثم اشتراها
فصل
و إن نقب الحرز ثم دخل آخر فأخرج المتاع فلا قطع عليهما لأن الأول لم يسرق
والثاني : سرق من حرز هتكه غيره و يحتمل أن يقطعا إذا كانا شريكين و إن نقبا معا و دخل أحدهما فأخرج المتاع قطع الداخل لأن نقب و سرق و لم يقطع الآخر لأنه لم يسرق و كذلك إذا رمى المتاع إلى خارج الحرز فأخذه الآخر أو خرج هو فأخذه و إن نقبا و دخلا فأخرج أحدهما المتاع فالقطع عليهما لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه و معونته و إن دخل أحدهما فقرب المتاع من النقب فمد الخارج يده فأخرجه أو شده الداخل بحبل فمده الخارج فأخرجه قطعا لاشتراكهما في هتك الحرز و إخراج المتاع
فصل
الثامن : أن تثبت السرقة عند الحاكم لأنه المتولي لاستيفاء الحدود فلا يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته و لا يثبت إلا ببينة أو إقرار فأما البينة فيشترط أن يكون فيها شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين فإذا وجب القطع بشهادتهما ثم غابا أو ماتا لم يسقط القطع على ما سنذكر إن شاء الله تعالى و أما الإقرار فيعتبر أن يقر مرتين لما روى أبو أمية المخزومي : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بلص قد اعترف فقال له : [ ما أخالك سرقت ؟ ] قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع رواه أبو داود و لم وجب لقطع بأول مرة لم يؤخره و عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عليا رضي الله عنه أتاه رجل فقال : إني سرقت فطرده ثم عاد مرة أخرى فقال : إني سرقت فأمر به علي أن يقطع و قال : شهدت على نفسك مرتين و قطع يده رواه الجوزجاني و لأنه حد يتضمن إتلافا فاعتبر في إقراره التكرار كحد الزنا
فصل
قال أحمد : لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره لقول النبي صلى الله عليه و سلم للمقر بالسرقة : [ ما أخالك سرقت ] و طرد علي له و روي عن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل فقال : أسرقت ؟ قل : لا فقال : لا فتركه
و لا بأس بالشفاعة في السارق قبل أن يبلغ الإمام لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] و قال الزبير بن العوام رضي الله عنه في الشفاعة في الحد : يفعل ذلك دون السلطان فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه الله إن أعفاه و إذا بلغ الإمام حرمت الشفاعة فيه كذلك لما روي : أن أسامة ابن زيد شفع في المخزومية التي سرقت فغضب النبي صلى الله عليه و سلم و قال : [ أتشفع في حد من حدود الله ] و قال ابن عمر : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه
فصل
التاسع : أن يأتي مالك المسروق و يدعيه سواء ثبتت سرقته ببينة أو إقرار و قال أبو بكر : ليس بشرط لأن موجب الحد قد ثبت فوجب من غير طلب كالزنا
و الأول : أولى لأن المال يباح بالبذل و الإباحة فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو أذن له في دخول حرزه أو وقفه على طائفة السارق منهم فاعتبر الطلب لنفي هذا الاحتمال بخلاف الزنا فإن حضر المالك و طالب لكنه خالف المقر فقال : لم تسرق مني لكن غصبتني أو انتهبت مني أو خنتني أو جحدت وديعتي لم يقطع لأنه لم يوافق دعوى المدعي و إن كان النصاب لاثنين فخالفه أحدهما في إقراره لم يقطع لأنه لم يوافق على سرقة النصاب و إن كان لمن وافقه نصاب قطع لموافقته على سرقة نصاب و إن كان المالك غائبا و له وكيل حاضر قام مقامه في الطلب و إن لم يحضر له وكيل فقال القاضي : يحبس حتى يحضر و إن كانت العين في يده حفظها الحاكم للغائب
فصل
و إن ثبتت السرقة ببينة فأنكر السارق لم يلتفت إلى إنكاره لأن الإنكار شرط سماع البينة في مواضع فلم يقدح فيها و إن قال : إنما أخذت ملكي أو لي فيه ملك أو دخلت بإذن المالك فالقول قول المسروق منه مع يمينه و إن نكل قضي عليه و إن حلف ففي القطع ثلاث روايات :
إحداهن : لا يقطع لأنه يحتمل صدقه ولذلك أحلفنا خصمه و هذا شبهة يندرئ بها الحد
و الثانية : يقطع لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى إسقاط القطع فتفوت مصلحته
و الثالثة : إن كان معروفا بالسرقة لم تقبل دعواه لأننا نعلم كذبه و إن لم يعرف بالسرقة قبلت دعواه لاحتمال صدقه فيصير ذلك شبهة و الأول أولى فإن أقر العبد بسرقة مال في يده و ادعى ذلك المسروق منه و كذبه السيد و قال : بل هذه الدراهم لي قطع العبد و كانت الدراهم للسيد نص عليه أحمد لأن الموجب للقطع الإقرار مع مطالبة المدعي و قد و جد ذلك و تكون الدراهم للسيد لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده لأن يده كيده و يحتمل ألا يجب القطع لأن المال محكوم به لسيده فلا يجب القطع بأخذه كما لو ثبت له ببينة و لأنه لم تثبت المطالبة من المالك فيكون ذلك محكوما به للسيد و إن طالب المالك و ثبت القطع ثم عفا عن المطالبة بعد ذلك لم يسقط القطع بدليل أن صفوان عفا عن الطلب من سارق ردائه فلم يدرأ النبي صلى الله عليه و سلم عنه القطع و لأنه قد وجب فلم يسقط كما لو وهبه إياه و لأن أكذب المدعي نفسه و قال : لم يكن هذا المال لي و لم يسرق مني شيئا أو أنا أذنت له في أخذه و نحو هذا سقط القطع لأنه رجع عن شرط الوجوب فأشبه رجوع البينة عن الشهادة أو المقر عن الإقرار
فصل
و إذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع لأن في قراءة عبد الله بن مسعود ( فاقطعوا أيمانهما ) و لما روي عن أبي بكر و عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع و لا مخالف لهما في الصحابة و لأن البطش باليمنى و هو حاصل بالكف و ما زاد من الذراع تابع لهذا تجب الدية فيه وحده و يحسم موضع القطع و هو : أن يغلى الزيت غليا جيدا ثم تغمس فيه لتحسم العروق و ينقطع الدم لما روى أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي بسارق فقال : [ اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ] فقطع و أتي به فقال : [ تب إلى الله تعالى ] فقال تبت إلى الله فقال : [ تاب الله عليك ]
و لا يجب الحسم لأنه مداواة فلم يجب على القاطع كالمقتص و ثمن الزيت و أجرة القاطع من بيت المال لأنه من المصالح فإن لم يكن للسارق يد يمنى قطعت رجله اليسرى لأنه معدوم اليمنى فقطعت رجله اليسرى كالسارق في المرة الثانية و إن كانت يده ناقصة الأصابع قطعت لأن اسم اليد يقع عليها فإن ذهبت الأصابع كلها ففيه وجهان :
أحدهما : يقطع الكف لأنه بعض ما يقطع في السرقة فوجب قطعه كما لو كان عليه بعض الأصابع
و الثاني : لا يقطع لأنه تجب فيه دية اليد أشبه الذراع و إن كانت اليمنى شلاء لم تقطع نص عليه لأنها ذاهبة النفع فأشبه كفا لا أصابع عليه و ينتقل إلى الرجل و عنه : يسأل أهل الطب فإن قالوا : إنها إذا قطعت رقأ دمها و انسدت عروقها قطعت لأن اسم اليد يقع عليها فهي كالصحيحة و إن قالوا : لا يرقأ دمها لم تقطع لأن ذلك يؤدي إلى تلفه و يعدل إلى الرجل و إن سرق و له يد صحيحة فلم تقطع حتى ذهبت بآكلة أو نحوها سقط الحد لأن الحد تعلق بها فسقط بذهابها كما لو مات من عليه الحد
فصل
فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب و حسمت لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] و لأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى و رجله اليسرى كذا هاهنا و إنما قطعت اليسرى للرفق به لأنه يتمكن من المشي على خشبة و لو قطعت يمناه لم يمكنه ذلك و موضع القطع المفصل لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه و لأنها أحد المقطوعين فتقطع من المفصل كاليد
فصل
فإن سرق ثالثة ففيه روايتان :
إحداهما : يحبس و لا يقطع غير يد و رجل لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إني لأستحي من الله ألا أدع له يدا يبطش بها و لا رجلا يمشي عليها و لأن قطعها يفوت منفعة الحبس فلم يشرع كالقتل
و الثانية : تقطع يده اليسرى فإن عاد فسرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] و لأنها يد تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمنى و لأن أبا بكر و عمر رضي الله عنهما قطعا اليد اليسرى في المرة الثالثة فإن سرق بعد قطع يديه و رجليه حبس و عزر و كذلك إن سرق ثالثة على الرواية الأولى فإنه يحبس و لا يقطع لما روى سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن عبد الرحمن بن عائذ قال : أتي عمر بن الخطاب برجل أقطع اليد و الرجل قد سرق فأمر به عمر أن تقطع رجله فقال علي : إنما قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله } إلى آخر الآية و قد قطعت يد هذا و رجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها و إما أن تعزره أو تستودعه السجن فاستودعه السجن
فصل
فإن سرق ويده اليمنى صحيحة و اليسرى مقطوعة أو شلاء انبنى على الروايتين فإن قلنا : إن يسراه تقطع في المرة الثالثة قطعت يمناه هاهنا لأنها موجودة و سبب قطعها متحقق و إن قلنا : لا تقطع يسراه لم تقطع يمينه لأن قطعها يفوت منفعة الحبس و يتركه لا يد له يبطش بها و كذلك إن كانت يسراه صحيحة فقطعت أو شلت قبل يمينه فالحكم على ما ذكرنا و إن كانت اليد قد قطعت أصابعها أو معظمها فهو كقطعها لأنه يفوت منفعة البطش
فصل
و إذا وجب قطع يمنيه فقطع القاطع يساره أساء و أجزأ و لا تقطع يمينه لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة و لأن قطعها يفوت منفعة البطش و يتخرج على الرواية التي تقول : تقطع أربعته أن تقطع يمناه كما لو قطعت يسراه عدوانا فعلى هذا إن كان السارق أخرجها عمدا عالما أنها لا تجزئ فلا ضمان على قاطعها لأنه قطعها بإذنه و إن أخرجها دهشة أو ظنا أنها تجزئه فعلى القاطع ضمانها بالقصاص إن تعمد و بالدية إن كان جاهلا بالحال لأنه قطع يدا معصومة عمدا فضمنها كما لو قطع يد غير السارق
فصل
متى تكررت منه السرقة و لم يقطع أجزأ يده عن جميعها و ذكر القاضي فيما إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى : أنها لا تتدخل و الصحيح الأول و يقطع للثانية : لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزى حد واحد كسائر الحدود فأما إن قطع بسرقة ثم عاد فسرق قطع ثانية سواء سرق العين التي قطع بها أو لا أو غيرها من المسروق منه الأول أو من غيره لأنه حد يجب بفعل في عين فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان كالزنا
فصل
ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه لما روى فضالة بن عبيد : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه ] رواه أبو داود و فعل ذلك علي رضي الله عنه بالذي قطعه لأنه أبلغ في الزجر و لو قال السارق : أنا أقطع نفسي لم يمكن لأنه حق عليه فلم يمكن من استيفائه من نفسه كالقصاص
فصل
و إذا قطع فإن كان المسروق قائما رد إلى مالكه لأنه ملكه فرد إليه كما قبل القطع و إن كان تالفا فعلى السارق ضمانه لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية فوجب ضمانه كالذي تلف في يد الغاصب و لأن الضمان يجب للآدمي و الحد لحق الله تعالى فوجبا جميعا كالدية و الكفارة في قتل الآدمي

باب حد الزنا
الزنا حرام و هو من الكبائر العظام بدليل قول الله تعلى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم ؟ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ] متفق عليه
فصل
والزنا : هو وطء في الفرج لا يملكه و لا يحب الحد بغير ذلك لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لماعز : [ لعلك قبلت أو غمرت ] قال : لا قال : [ أفنكتها ] لا يكني قال : نعم قال فعند ذلك رجمه رواه البخاري و في رواية عن أبي هريرة قال : [ أنكتها ] قال : نعم قال [ حتى غاب ذاك منك في ذاك منها ] قال نعم قال : [ كما يغيب المرود في المكحلة و الرشاء في البئر ] قال : نعم رواه أبو داود
و أدناه أن تغيب الحشفة في الفرج للخبر و لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك لا بما دونه وسواء كان الفرج قبلا أو دبرا لأن الدبر فرج مقصود فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل و لأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل و هو مما يستباح فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى و لو تلوط بغلام لزمه الحد كذلك و في حده روايتان :
إحداهما : يجب عليه حد الزنا يرجم إن كان ثيبا و يجلد إن كان بكرا لأنه زان بدليل ما روى أبو موسى : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان و إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ] و لأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر و الثيب كالزنا بالمرأة
و الثانية : حده القتل بكرا كان أو ثيبا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به ] رواه أبو داود و في لفظ : [ فارجموا الأعلى و الأسفل ] واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه أنه كان يرى رجمه و لأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك و إن وطئ الرجل امرأة ميتة ففيه وجهان :
أحدهما : يلزم الحد لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه أشبه الحية
و الثاني : لا يجب لأنه لا يقصد فلا حاجة إلى الزجر عنه وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان :
إحداهما : يحد لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أتى بهيمة فاقتلوه و اقتلوها معه ] رواه أبو داود و لما ذكرنا فيما تقدم
و الثانية : لا يحد و لكن يعزر لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى و تميل إليه النفس و هذا مما تعافه و تنفر عنه
فإن قلنا : يحد ففي حده وجهان :
أحدهما : القتل للخبر
و الثاني : كحد الزنا لما ذكرنا في اللائط و إن تدالكت المرأتان فهما زانيتان للخبر و لا حد عليهما لأنه لا إيلاج فيه فأشبه المباشرة فيما دون الفرج و عليهما التعزير لأنها فاحشة لا حد فيها أشبهت المباشرة دون الفرج
فصل
ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة :
أحدها : أن يكون الزاني مكلفا كما ذكرنا في السرقة فإن كان أحد الزانيين غير مكلف أو مكرها أو جاهلا بالتحريم و شريكه بخلاف ذلك وجب الحد على من هو أهل للحد دون الآخر لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد و انفرد الآخر بما يسقطه فثبت في كل واحد منهما حكمه دون صاحبه كما لو كان شريكه فذا و أن كان أحدهما محصنا و الآخر بكرا فعلى المحصن حد المحصنين و على البكر حد الأبكار كذلك و إن أقر أحدهما بالزنا دون الآخر حد المقر وحده لما روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن رجلا أتاه فأقر عنده أنه قد زنا بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون قد زنت فجلده الحد و تركها رواه أبو داود و لأن عدم الإقرار من صاحبه لا يبطل إقراره كما لو سكت
فصل
الشرط الثاني : أن يكون مختارا فإن أكرهت المرأة فلا حد عليها سواء أكرهت بالإلجاء أو بغيره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ] و روى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال : أتي عمر بامرأة قد زنت قالت : إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها و لم يضربها و روي : أنه أتي بامرأة قد استسقت راعيا فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها فقال لعلي : ما ترى فيها ؟ فقال : إنها مضطرة فأعطاها شيئا و تركها فأما الرجل إذا أكره بالتهديد فقال أصحابنا : يجب عليه الحد لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة و الاختيار بخلاف المرأة و يحتمل أن لا يجب عليه حد لعموم الخبر و لأن الحد يدرأ بالشبهات و هذا من أعظمها فأما إن استدخلت امرأة ذكره وهو نائم فلا حد عليه لأنه غير مكلف و لم يفعل الزنا
فصل
و الثالث : أن يكون عالما بالتحريم و لا حد على من جهل التحريم لما روي عن عمر و علي رضي الله عنهما أنهما قالا : لا حد إلا على من علمه وروى سعيد بن المسيب قال : ذكر الزنا بالشام فقال رجل : زنيت البارحة قالوا : ما تقول ؟ قال : ما علمت أن الله حرمه فكتب بها إلى عمر رضي الله عنه فكتب : إن كان يعلم أن الله حرمه فحدوه و إن لم يكن علم فأعلموه فإن عاد فارجموه و سواء جهل تحريم الزنا أو تحريم عين المرأة مثل أن تزف إليه غير زوجته فيظنها زوجته أو يدفع إليه غير جاريته فيظنها جاريته أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته فيطأها فلا حد عليه لأنه غير قاصد لفعل المحرم و من ادعى الجهل بتحريم الزنا ممن نشأ بين المسلمين لم يصدق لأننا نعلم كذبه وإن كان حديث عهد بالإسلام أو بإفاقة من جنون أو ناشئا ببادية بعيدة عن المسلمين صدق لأنه يحتمل الصدق فلم يجب الحد مع الشك في الشرط و إن ادعى الجهل بتحريم شيء من الأنكحة الباطلة كنكاح المعتدة أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن و ادعى الجهل بالتحريم قبل لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه و يحتمل أن لا يقبل إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا لأنه زنا و الأول أصح لما روى عن عبيد بن نضلة قال : رفع إلى عمر رضي الله عنه امرأة تزوجت في عدتها فقال : هل علمتما ؟ فقالا : لا قال : لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطا ثم فرق بينهما و إن ادعى الجهل بانقضاء العدة قبل إذا كان يحتمل ذلك لأنه مما يخفى
فصل
الرابع : انتفاء الشبهة فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه و بين غيره أو وطء مكاتبته أو جاريته المرهونة أو المزوجة أو جارية ابنه أو وطء زوجته أو جاريته في دبرها و لا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود و نكاح الشغار و المتعة و أشباه ذلك لأن الحد مبني على الدرء و الإسقاط بالشبهات و هذه شبهات فيسقط بها
فصل
فأما الأنكحة المجمع على بطلانها كنكاح الخامسة و المعتدة و المزوجة و مطلقته ثلاثا و ذوات محارمه من نسب أو رضاع فلا يمنع وجوب الحد لما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي رضي الله عنه : أنه رفع إليه امرأة تزوجت و لها زوج فكتمته فرجمها و جلد زوجها الآخر مائة جلدة و لأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك و لا شبهة ملك أشبه وطأها قبل العقد و في حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد روايتان :
إحداهما : حده حد الزنا لعموم الآية و الخبر فيه
و الثانية : يقتل بكل حال لما روى البراء قال : لقيت عمي و معه الراية قال : فقلت : إلى أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه و آخذ ماله قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى ابن ماجة بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وقع على ذات محرم فاقتلوه ]
فصل
فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع كأمه و أخته فوطئها ففيه وجهان :
أحدهما : عليه الحد لأنها لا تستباح بحال فأشبهت المحرمة بالنسب
و الثاني : لا حد عليه لأنها مملوكته فأشبهت مكاتبته بخلاف ذات محرمه من النسب فإنه لا يثبت ملكه عليها و لا يصح عقد تزويجها
فصل
وإن استأجر أمة ليزني بها أو لغير ذلك فزنى بها فعليه الحد لأنه لا تصح إجارتها للزنا فوجوده كعدمه و لا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم و من وطئ جارية غيره أو زوجته بإذنه فهو زان عليه الحد لأنه لا يستباح بالبذل و الإباحة سواء كانت جارية أبيه أو أمه أو أخته أو غيرهم إلا جارية ابنه لما ذكرنا و ذكر ابن أبي موسى قولا في الابن يطأ جارية أبيه : لا حد عليه لأنه لا يقطع بسرقة ماله فلا يلزمه حد بوطء جاريته كالأب و جارية زوجته إذا أذنت له في وطئها فإنه يجلد مائة و لا يرجم بكرا كان أو ثيبا و لا تغريب عليه لما روى حبيب بن سالم أن عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير و هو أمير على الكوفة فقال : لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة و إن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوه قد أحلتها له فجلده مائة رواه أبو داود
فإن علقت منه فهل يلحقه نسبه ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يلحق به لأنه وطء لا حد فيه أشبه وطء الأمة المشتركة
و الثانية : لا يلحق به لأنه وطء في غير ملك و لا شبهة ملك أشبه ما لو لم تأذن له
فصل
الخامس : ثبوت الزنا عند الحاكم لما ذكرنا في السرقة و لا يثبت إلا بأحد شيئين إقرار أو بينة لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما و يعتبر في الإقرار ثلاثة أمور :
أحدها : أن يقر لأربع مرات سواء كان في مجلس واحد أو مجالس لما روى أبو هريرة قال : أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في المسجد فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أبع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أبك جنون ] قال : لا قال : [ فهل أحصنت ] ؟ قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ارجموه ] متفق عليه و لو وجب الحد الأول بأول مرة لم يعرض عنه و في حديث آخر : حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنك قد قلتها أربع مرار فبمن ؟ ] قال بفلانة رواه أبو داود و في حديث فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه له عند النبي : إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه و سلم
الأمر الثاني : أن يذكر حقيقة الفعل لما روينا في أول الباب و لأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد فيجب بيانه فإن لم يذكر حقيقته استفصله الحاكم كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم بماعز
الثالث : أن يكون ثابت العقل فإن كان مجنونا أو سكرانا لم يثبت قوله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لماعز : [ أبك جنون ] وروى أنه استنكهه ليعلم أبه سكر أم لا و لأنه إذا لم يكن عاقلا لا تحصل الثقة بقوله
فصل
و إن ثبتت ببينة اعتبر فيهم ستة شروط :
أحدها : أن يكونوا أربعة لقول الله تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } و قال : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }
الثاني : أن يكونوا رجالا كلهم لأن في شهادة النساء شبهة و الحدود تدرأ بالشبهات
و الثالث : أن يكونوا أحرارا لأن شهادة العبيد مختلف فيها فيكون ذلك شبهة فيما يدرأ بالشبهات
الرابع : أن يكونوا عدولا لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق ففي الحد أولى
الخامس : أن يصفوا الزنا فيقولوا : رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة لما ذكرنا في الإقرار
السادس : مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد سواء جاؤوا جملة أو سبق بعضهم بعضا لأن عمر رضي الله عنه لما شهد عنده أبو بكرة و نافع و شبل بن معبد على المغيرة حدهم حد القذف و لو لم يشترط المجلس لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر و لأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة لم تقبل شهادته و لولا اشتراط المجلس لوجب أن يقبل
فصل
و إن حبلت امرأة لا زوج لها و لا سيد لم يلزمها حد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه : أتى بامرأة ليس لها زوج و قد حملت فسألها عمر رضي الله عنه فقالت : إني امرأة ثقيلة الرأس ووقع علي رجل و أنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد و لأنه يحتمل أن يكون من وطء شبهة أو إكراه و الحد يدرأ الشبهات و لا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه و لأنه متهم في حكمه بعلمه فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه
فصل
ومن وجب عليه حد الزنا لم يخل من أحوال أربعة :
أحدها : أن يكون محصنا فحده الرجم حتى الموت لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه و سلم و أنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها و عقلتها ووعيتها و رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى و قد أحصن من الرجال و النساء إذا قامت ببينة أو كان الحبل أو الاعتراف و قد قرأتها : الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة متفق عليه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا و الغامدية و رجم الخلفاء من بعده و هل يجب الجلد مع الرجم ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يجب لقول الله تعالى : { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فلما وجب الرجم بالسنة انضم إلى ما في كتاب الله تعالى و لهذا قال علي رضي الله عنه في شراحة : جلدتها بكتاب الله و رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وروى عبادة بن الصامت : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم ] رواه مسلم
و الثانية : لا جلد عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا و الغامدية و لم يجلدهما و قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] و لم يأمره بجلدها ولو وجب لأمر به و لأنه معصية توجب القتل فلم توجب عقوبة أخرى كالردة
الثاني : الحر غير المحصن فحده مائة جلدة و تغريب عام للآية وخبر عبادة
الثالث : المملوك فحده خمسون جلدة بكرا كان أو ثيبا رجلا أو امرأة لقول الله تعالى { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } و العذاب المذكور في الكتاب مائة جلدة و نصف ذلك خمسون و لا تغريب عليه لأن تغريبه إضرار بسيده دونه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الأمة إذا زنت و لم تحصن فقال : [ إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها و لو بضفير ] متفق عليه و لم يأمر بتغريبها
الرابع : من بعضه حر فحده بالحساب من حد حر و عبد فالذي نصفه حر حده خمس و سبعون جلدة و تغريب نصف عام لأنه يتبعض فكان في حقه بالحساب كالميراث و المكاتب و أم الولد و المدبر حكمهم حكم القن في الحد لأنهم عبيد ومن لزمه حد و هو رقيق فعتق قبل إقامته فعليه حد الرقيق لأنه الذي وجب عليه و لو زنى ذمي حر ثم لحق بدار الحرب فاسترق حد حد الأحرار كذلك
فصل
و المحصن من كملت فيه أربعة أشياء :
أحدها : الإصابة في القبل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم ] و لا يكون ثيبا إلا بذلك
الثاني : كون الوطء في نكاح فلو وطئ بشبهة أو زنا أو تسرية لم يصر محصنا للإجماع و لأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك و لو وطئ في نكاح فاسد لم يصر محصنا لأنه ليس بنكاح في الشرع و لذلك لا يحنث به الحالف على اجتناب النكاح
الثالث : كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ و العقل و الحرية لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم ] فلو كان الوطء بدون الكمال إحصانا لما علق الرجم بالإحصان لأنه من لم يكمل بهذه الأمور لا يرجم و لأن الإحصان كمال فيشترط أن يكون في حال الكمال
الرابع أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال لأنه إذا كان ناقصا لم يحصل الإحصان فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة
و لا يشترط الإسلام في الإحصان لما روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بيهوديين زنيا فرجمهما
و إن تزوج مسلم ذمية فأصابها صارا محصنين لكمال الشروط الأربعة فيهما
فصل
ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا و اللواط حرمت مباشرته فيما دون الفرج لشهوة و قبلته و التلذذ بلمسه لشهوة أو نظرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يخلون رجل و امرأة فإن ثالثهما الشيطان ] فإذا حرمت الخلوة بها فمباشرتها أولى لأنها أدعى إلى الزنا و لا حد في هذا لما روى ابن مسعود أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني وجدت امرأة في البستان فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها فافعل بي ما شئت فقرأ عليه { أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } متفق عليه و عليه التعزير لأنها معصية ليس فيها حد و لا كفارة فأشبهت ضرب الناس و التعدي عليهم
فصل
ويحرم وطء امرأته و جاريته في دبرهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن ] رواه ابن ماجة و لأنه ليس بمحل للولد أشبه دبر الغلام و لا حد فيه لأنه في زوجته و ما ملكت يمينه فيكون شبهة و لكن يعزر لما ذكرنا و يحرم الاستمناء باليد لأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل فحرمت كاللواط و لا حد فيه لأنه لا إيلاج فيه فإن خشي الزنا أبيح له لأنه يروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم
فصل
ومن أتى بهيمة و قلنا لا يحد فعليه التعزير و يجب قتل البهيمة لحديث ابن عباس فإن كانت مأكولة ففيها وجهان :
أحدهما : تذبح و يحل أكلها لقول الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام }
و الثاني تحرم لأن ابن عباس قال : ما أرى أنه أمر بقتلها إلا لأنه كره أكلها و قد عمل بها بذلك العمل و لأنه حيوان أبيح قتله لحق الله تعالى فحرم أكله كالفواسق فإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن منعناه أكلها لأنه سبب تلفها إن أبيح أكلها لزمه ضمان نقصها
فصل
و لا يؤخر حد الزنا لمرض و لا شدة حر و لا برد لأنه واجب فلا يجوز تأخيره لغير عذر و قد روي عن عمر أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون و هو مريض لأنه إن كان رجما فالمقصود قتله فلا معنى لتأخيره و إن كان جلدا أمكن الإتيان به بسوط يؤمن معه التلف في حال المرض فلا حاجة إلى التأخير و يحتمل أن يؤخر الجلد عن المريض المرجو زوال مرضه لما روى علي أن جارية لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي فقال : [ أحسنت ] رواه مسلم
فصل
و لا يحفر للمرجوم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحفر لماعز وسواء كان رجلا أو امرأة قال أحمد : أكثر الأحاديث على أنه لا يحفر للمرجوم و قال القاضي : إن ثبت زنا المرأة بإقرارها لم يحفر لها لتتمكن من الهرب إن أرادت و إن ثبت ببينة حفر لها إلى الصدر لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة رواه أبو داود
و لأنه أستر لها و على كل حال يشد على المرأة ثيابها لئلا تتكشف و يدور الناس حول المرجوم و يرجمونه حتى يموت فإن هرب المحدود و الحد ببينة أتبع حتى يقتل لأنه لا سبيل إلى تركه و إن ثبت بإقراره ترك لما روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس و قد عجز عنه أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال : [ هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه ] رواه أبو داود و لأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن الإقرار و رجوعه مقبول فإن لم يترك و قتل فلا ضمان فيه لحديث ماعز ولأن إباحة دمه متيقنة فلا يجب ضمانه بالشك و إن ترك ثم أقام على الإقرار أقيم عليه الحد
فصل
وإن كان الحد جلدا لم يمد المحدود و لم يربط لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ليس في هذه الأمة مد و لا تجريد و لا غل و لا صفد و و يفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه و الرأس و الفرج و موضع القتل لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد : اضرب و أوجع و اتق الرأس و الوجه و الفرج و قال : لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه و الفرج و لأن القصد الردع لا القتل و يضرب الرجل قائما ليتمكن من تفريق الضرب على أعضائه و المرأة جالسة لأنه أستر لها و تشد عليها ثيابها و تمسك يداها لئلا تتكشف
فصل
فإن كان مريضا أو نضو الخلق أو في شدة حر أو برد أقيم الحد بسوط يؤمن التلف معه فإن كان لا يطيق الضرب لضعفه و كثرة ضرره ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة أو ضربتين أو بسوط فيه خمسون شمراخا لما روى أبو أمامة ابن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار : أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدا على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك و قال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يؤخذ له مائة شمراخ فيضربونه بها ضربة واحدة أخرجه أبو داود و النسائي
فصل
لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا مع ذي حرمة من أهلها ] فإن أعوز المحرم خرجت مع امرأة ثقة فإن أعوز استؤجر لها من مالها محرم لها فإن أعوز فمن بيت المال فإن أعوز نفيت بغير محرم لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره فأشبه الهجرة و يحتمل سقوط النفي هاهنا لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور و تعريضها للفتنة و مخالفة خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في السفر بغير محرم و يخص عموم حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم و يحتمل أن تنفى إلى دون مسافة القصر جمعا بين الخبرين
فصل
ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة لقول الله تعالى : { و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } و قال أصحابنا : أقل ذلك واحد مع الذي يقيم الحد لأن اسم الطائفة يقع على واحد بدليل قول الله تعالى : { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا } إلى قوله تعالى { بين أخويكم } و قد فسره ابن عباس بذلك و المستحب أن يحضر أربعة لأن بهم يثبت الحد و الله أعلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10