كتاب : الوسيط في المذهب
المؤلف : محمد بن محمد بن محمد الغزالي أبو حامد

البدنية وفي صحة صومه عن الكفارة قبل البلوغ وجهان لأنها عبادة بدنية ولكن لزم في الصبي
وأما الحي فاحترزنا به عمن حفر بئرا فتردى فيها بعد موته إنسان ففي وجوب الكفارة في تركته وجهان ووجه الإسقاط أن الكفارة عبادة بدنية فلا ينشأ وجوبها بعد الموت وعليه ينبني الخلاف في أن من قتل نفسه هل تخرج كفارته من تركته ولغلبة شائبة العبادة قضينا بأن جماعة إذا اشتركوا في قتل واحد فعلى كل واحد كفارة كاملة وفيه وجه أنها تتجزأ كما في جزاء الصيد
أما القتيل فشرطه أن يكون آدميا معصوما والجنين آدمي وخرج منه الأطراف والبهائم ودخل تحت المعصوم الذمي والمعاهد والعبد إذا قتله السيد لزمته الكفارة
وخرج منه الحربي والنساء والذراري من الكفار إذ لا عاصم والامتناع من قتلهم لمصلحة المال
ودخل تحته المسلم في دار الحرب كيفما قتل نعم الدية قد تسقط قطعا مهما رمى إلى الكفار ولم يعلم أن فيهم مسلما فأصاب مسلما ولو علم أن فيهم مسلما وقصد الكافر فأصاب المسلم وجبت الدية قطعا ولو قصد شخصا معينا ظنه كافرا وكان قد أسلم قبله وبقي على زي الكفار ففي الدية قولان وطرد الشيخ أبو محمد القولين فيما إذا علم أن فيهم مسلما ولكن مال السهم إلى غير من قصد
هذا تمام النظر في موجبات القتل فلنخص في الحجج المثبتة له كتاب دعوى الدم والقسامة والشهادة فيه
كتاب دعوى الدم والقسامة والشهادة فيه

فهذه ثلاثة أمور
الأول الدعوى ولها خمسة شروط
الأول أن تكون متعلقة بشخص معين فلو قال قتل أبي لم تسمع ولو قال قتل هؤلاء جميعا وتصور اجتماعهم على القتل قبل ولو قال أحد هؤلاء العشرة ولا أعرف عينه فوجهان
أحدهما لا تسمع للإبهام
والثاني تسمع للحاجة ولا ضرر على المدعى عليه بل كل واحد يقدر على يمينصادقة لكنهم لو نكلوا باجمعهم أشكل اليمين المردودة على الدعوى المبهمة
والوجهان يجريان في دعوى الغصب والإتلاف والسرقة ولا يجري في الإقرار والبيع إذا قال نسيت لأنه مقصر وقيل يجري في المعاملات وقيل لا يجري إلا في الدم
الثاني أن تكون الدعولا مفصلة في كون القتل عمدا أو خطأ انفرادا أو شركة فإن أجمل دعواه استفصل القاضي وقيل يعرض عنه لأن الاستفصال تلقين وهو ضعيف

فرع
لو قال قتل هذا أبي مع جماعة ولم يذكر عددهم فإن كان مطلوبه المال لم تصح الدعوى لأن حصة المدعى عليه إنما تبين بحصة الشركاء وإن كان مطلوبه الدم وقلنا يوجب العمد القود المحض فالظاهر صحته
وإن قلنا أحدهما لا بعينه فوجهان
الثالث أن يكون المدعي مكلفا ملتزما حاله الدعوى وكونه صبيا أو مجنونا أو جنينا حالة القتل لا يضره إذ يعرف ذلك بالتسامع
الرابع أن يكون المدعى عليه مكلفا فلا دعوى على صبي ولا مجنون وتصح الدعوى على السفيه فيما ينفذ به إقراره كالقصاص وبإقراره بإتلاف المال قولانفإن رددناه سمعنا الدعوى لينكر فيقيم البينة وهل تعرض اليمين إذا أنكر إن قلنا إن اليمين المردودة كالبينة تعرض عليه رجاء النكول وإن قلنا كالإقرار فلا فائدة في نكوله ولكن هل تعرض اليمين فعساه يحلف فتنقطع الخصومة في الحال فيه وجهان الأصح أنه تعرض
الخامس أن تنفك الدعوى عما يكذبها فلو ادعى على شخص أنه منفرد بقتل أبي ثم ادعى على غيره بأنه شريك لم تسمع الثانية لأن الأولى تكذبه فإن أقر الثاني وقال المدعي كذبت في الأولى أو أخطأت فالصحيح أن له مؤاخذته لأن الغلط ممكن والحق لا يعدوهما
ولو ادعى العمد واستفسر فذكر ما ليس بعمد ففي بطلان دعواه لأصل القتل وجهان الأظهر أنه لا تبطل لأن الكذب في التفصيل ليس من ضروره الكذب في الأصل
ولو قال ظلمته فيما أخذت فنستفصله فإن قال كنت كاذبا في دعواي استرد المال وإن قال اخذت بالقسامة وأنا حنفي لا يسترد إذ لا يعتبر في الأحكام رأي الخصمين بل رأي الحاكم
النظر الثاني في القسامة

والنظر في أربعة أركان
الأول بيان مظنته وهو قتل الحر في محل اللوث فلا قسامة في الأموال والأطراف لأن البداية بالمدعي وتعديد اليمين خمسين خارج عن القياس ثبت لحرمة الدم فلا يقاس عليه الطرف والمال وفي قتل العبد قولان لتردده بين الدم والمال وإذا جرح مسلما فارتد ومات وقلنا الواجب بعض الدية جرت القسامة فيه لأنه بعض بدل الدم
وأما اللوث فنعني به علامة تغلب على الظن صدق المدعي وهو نوعان قرينة حال وإخبار
أما الحال فهو أن يصادف قتيلا في محلة بينه وبينهم عداوة أو دخل عليهم ضيفا فوجد قتيلا أو تفرق جماعة محصورون عن قتيل أو تفرق صفان متقاتلان عن قتيل في صف الخصم أو وجد قتيل في الصحراء وعلى رأسه رجل ومعه سكين متضمخ بالدم فهذا وأمثاله هو اللوث وقول المجروح قتلني فلان ليس بلوث لأنه مدع خلافا لمالك رحمه الله
وأما الإخبار فشهادة عدل واحد تقبل شهادته لوث وكذا من تقبل روايته على الأقيس وقيل لا بد في النسوان والعبيد من عدد
وأما العدد من الصبية والفسقة ففيهم خلاف لأنه يحصل بقولهم ظن لكن الشرع لا يلتفت إليه فيضاهي من أوجه قرينة عدالة المدعي في صدق لهجته
وأما مسقطات اللوث فخمسة
الأول أن يتعذر إظهاره عند القاضي فلا فائدة فيما ينفرد المدعي بدعواه نعم لو ظهر عند القاضي لوث على جمع فللمدعي أن يعين شخصا منهم إذ يعسر إثبات اللوث في المعين ولو كان اللوث في قتيل خيبر متعلقا بجميع اليهود نعم لو قال القاتل واحد منهم ولست أعرفه لم تمكنه القسامة
فإن حلفوا إلا واحدا كان نكوله لوثا فيجوز له أن يحلف على تعيينه فلو نكل جميعهم وأراد أن يعين واحدا وزعم أنه ظهر له الآن لوث معين ففي تمكينه منه وجهان وجه المنع أنه سبق الاعتراف منه في الجهل
الثاني إذا ثبت اللوث في أصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا ففي القسامة على أصل القتل وجهان وجه المنع أن القتل المطلق لا موجب له فإن العاقلة لا يلزمها شيء ما لم يكن خطأ والجاني لا يلزمه ما لم يكن عمدا
الثالث أن يدعي المدعى عليه كونه غائبا عن البلد عند القتل فالقول قوله مع يمينه وتسقط يمينه أثر اللوث
فإن تعارضت بينتان في حضوره وغيبته تساقطتا إلا إذا تعرض بينة الغيبة لعدم الحضور فقط فيكون ذلك شهادة النفي بخلاف ما إذا ذكر مكانه الذي غاب إليه
ولو كان وقت القتل محبوسا أو مريضا مدنفا ولم يمكن كونه قاتلا إلا على بعد ففيسقوط اللوث به وجهان
ومهما حكم بالقسامة فأقام بينة على الغيبة نقض الحكم لأن القسامة ضعيفة
الرابع لو شهد شاهد بأن فلانا قتل أحد هذين القتيلين لم يكن لوثا ولو قال قتل هذا القتيل أحد هذين الرجلين فهو لوث هكذا قاله القاضي مفرقا بين إبهام القاتل وإبهام القتيل
وقيل بإسقاط اللوث في المسألتين والفرق أوضح لأن تعيين القاتل غير عسير دون تعيين القتيل
الخامس تكاذب الورثة فلو ادعى أحد الإثنين في محل اللوث فكذبه الآخر فيه قولان
اختيار المزني رحمه الله أن اللوث لا يبطل لأن للورثة أغراضا في التكذيب والتصديق
والثاني أنه يبطل لأن اللوث ضعيف وهذا يضعف الظن
فإن قلنا يبطل فلو قال أحدهما قتل أبانا زيد ورجل آخر لا نعرفه وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا نعرفه فلا تكاذب فلعل من لا يعرفه هو الذي ادعاه أخوه إلا أن يصرح بنفي ما ادعاه
ثم مدعي زيد اعترف بان الواجب على زيد نصف الدية وحصته منها الربع فلا يطالب إلا بالربع وكذا مدعي عمرو
وليس من مبطلات اللوث عندنا أن لا يكون على القتيل أثر خلافا لأبي حنيفة رحمه الله لأن القتل بالتخنيق ممكن بحيث لا يظهر أثره
الركن الثاني في كيفية القسامة
وهو أن يحلف المدعي خمسين يمينا متوالية بعد التحذير والتغليظ وتفصيل الدعوى في اليمين كما في سائر الأيمان وهل يشترط أن تكون في مجلس واحد فيه وجهان منشؤهما أن للموالاة وقعا في النفس فيحتمل أن تكون واجبا
فإن قلنا واجب فإذا جن ثم أفاق بنى لأنه معذور
ولو عزل القاضي استأنف عند قاض آخر ولو مات في أثنائه فالوارث لا يبني بل يستأنف وقال الخضري يبني الوارث
وفي جواز القسامة في غيبة المدعى عليه وجهان وجه المنع أن اللوث إنما يظهر إذا سلم عن قدح الخصم فيضعف في غيبته
هذا إذا كان الوارث واحدا فإن كانوا جمعا فنوزع عليهم الخمسين أو يحلف كل واحد خمسين فعلى قولين
أحدهما أنه يوزع لأن جملتهم في حكم شخص واحد
والثاني لا لأن قدر حق كل واحد لا يثبت بيمين المدعي إلا بخمسين إذ لا خلاف أنه لو نكل واحد وجب على الآخر أن يحلف تمام الخمسين فكيف يستحق بيمين غيرهوإن قلنا بالتوزيع فلننبه على ثلاثة أمور
الأول أنهم لو كانوا ثلاثة والواحد حاضر والآخران صغيران أو غائبان فغيبتهم كنكولهم فيحلف الحاضر خمسين ويأخذ ثلث الدية فإذا حضر الآخر حلف نصف الأيمان وأخذ ثلث نفسه والثالث يحلف ثلث الأيمان ويأخذ حصة نفسه
الثاني أن التوزيع بالميراث فمن يستحق الثمن أو السدس حلف بقدره فإن انكسر كمل المنكسر فإن كانوا ستين حلفوا ستين كل واحد يمينا ولا يمين على إخوة الأب في مسائل المعادة
الثالث لو كان في الورثة خنثى حلف كل واحد أكثر ما يتوهم أن يكون نصيبه ويعطى أقل ما يتوهم أخذا بالأحوط في الجانبين
فلو خلف ولدا خنثى وأخا لأب حلف الخنثى خمسين لاحتمال أنه مستغرق وأخذ نصف الدية لاحتمال أنه أنثى
فإذا أراد الأخ أن يحلف فيحلف خمسا وعشرين وفائدته أن ينتزع النصف من يدي الجاني ويوقف بينه وبين الخنثى فإن بانت أنوثته سلم إلى الأخ بيمينه السابق وإن بانت الذكورة سلم إلى الخنثى باليمين السابقة
ولو خلف ولدا خنثى وبنتا حلف الخنثى ثلثي الأيمان لاحتمال أنه ذكر وأخذ ثلث الدية لاحتمال أنه أنثى وحلفت البنت نصف الأيمان لاحتمال أن الخنثى أنثى ولم يعتد من أيمانها إلا بالنصف ثم تأخذ ثلث الدية والثلث الباقي متروك في يد المدعى عليه موقوف بينهما وبين بيت المال وليس لبيت المال نائب حتى يحلف عنه فنعود إلى القياس فيتصديق المدعى عليه
هذا كله في يمين المدعي فأما سائر الأيمان في الدم فكيمين المدعى عليه واليمين مع الشاهد ففي تعدده خمسين قولان منشؤهما أن علة العدد الميل عن القياس بتصديق المدعي أو حرمة الدم والقولان جاريان في الأطراف مع القطع بأن القسامة غير جارية فيها فإن قلنا لا تتعدد فلو بلغ الأرش مبلغ الدية فقولان وإن قلنا تتعد فلو نقص ففي التوزيع قولان
فرعان

أحدهما لو شهد واحد على اللوث وقلنا يتحد اليمين مع الشاهد فإن استعملنا الشهادة في القتل وجاء بصيغة الشهادة حلف معه يمينا واحدة وإن جاء بصيغة الإخبار أو شهد على اللوث حلف معه خمسين يمينا
الثاني إذا ادعى على اثنين أنهما قتلا ففي توزيع الخمسين على قول التعدد من القولين ما في التوزيع على الوارثين
الركن الثالث في حكم القسامة وفيه قولان
القديم أنه يناط به القصاص كما يناط به حد المرأة بلعان الزوج
والجديد أنه لا يناط به إلا الدية لأن سفك الدم بقول المدعي بعيد وأما المرأة فإنها تقدر على دفع لعانه بلعانهاثم إن حلف على القتل خطأ طالب العاقلة وإن حلف على العمد طالب الجاني وإن نكل عن القسامة ومات لم يكن لوارثه أن يحلف
ولا يسقط حقه عن تحليف المدعى عليه لنكوله عن القسامة فإن نكل المدعى عليه فأراد المدعي أن يحلف اليمين المردودة ففيه قولان
أحدهما المنع لأنه نكل مرة والثاني لا لأنه نكول عن القسامة وهذه يمين أخرى وكذا إذا أراد أن يحلف مع الشاهد بعد النكول عن اليمين المردودة أو القسامة
ومنشؤه أن المدعي عليه بعد أن صرح بالنكول ليس له الرجوع إلى اليمين لانه تعلق به حق المدعي أما نكول المدعي عن اليمين المردودة في الحال لا تمنعه من الرجوع إليه فإنه حقه فلا يسقط بالتأخير ويمين القسامة من حيث إنه يتعلق بها حق المدعى عليه في انقلاب التصديق إليه يشبه يمين المدعى عليه
الركن الرابع فيمن يحلف أيمان القسامة وهو كل من يستحق بدل الدم وفيه أربعة فروع
الأول إذا قتل عبد المكاتب وأجرينا القسامة في العبد حلف المكاتب لأنه المستحق فإن عجز عن النجوم قبل النكول حلف السيد إذ صار مستحقا فإن عجز بعد النكول لم يحلف السيد كما لا يحلف الوارث بعد نكول الموروث
الثاني لو قتل عبده فأوصى بقيمته لمستولدته ومات فللورثة أن يقسموا وإن كانتالقيمة للمستولدة لأن لهم حظا في تنفيذ وصية مورثهم
ولو أوصى بعين لغيره فادعاه مستحق ففي حلف الوارث لتنفيذ الوصية تردد ووجه الفرق أن المستولدة مدعية وتصديقها بالقسامة على خلاف القياس ولم تكن صاحبة حق عند القتل فكان الوارث أولى به
ومهما حلف الورثة سلمت القيمة لأم الولد فإن نكلوا ففي قسامة المستولدة قولان وكذا في الغرماء إذا أرادوا أن يحلفوا أيمان القسامة عند نكول الوارث لتقضي من الدية ديونهم ووجه المنع أن القسامة لإثبات القتل ممن يدلي بسبب الحق عند القتل وهؤلاء تجدد حقهم بعد القتل
وإن قلنا لا يحلفون أو نكلوا فللوارث ولهم طلب يمين المدعي أما الوارث فلغرض التنفيذ وأما هم فلغرض الإستحقاق
الثالث إذا قطع يد العبد فعتق ومات فعلى الجاني كل الدية فإن كانت الدية مثل نصف القيمة انفرد السيد بالقسامة لأنه مستحق الجميع وإن فرعنا على أنه لا قسامة في بدل الرقيق فها هنا وجهان لأنه دية حر بالإعتبار الآخر ولكن صرف إليه لأنه جناية على الرقيق
ثم إن كان الواجب فاضلا عن أرش اليد فيصرف الفاضل إلى الورثة ويتصدى النظر في توزيع اليمين أو تكميلها
الرابع إذا ارتد الولي ثم أقسم فإن قلنا لا ملك للمرتد بطل يمينه وإن قلنا له الملك صح وثبت الدية وإن قلنا موقوف فالنص أنه يصح ويصرف إلى بيت المال فيئا إن قتل المرتدوفيه إشكال إذ بان أنه لم يكن مستحقا فكيف يثبت بحلفه فمنهم من قال فرع الشافعي رضي الله عنه على قول بقاء الملك ومنهم من علل بأنه على الجملة سبب استحقاق الدية لانه كان مسلما حال القتل فلا يكون يمينه كيمين الأجنبي
النظر الثالث من الكتاب في إثبات الدم بالشهادة

ولها شروط
الأول الذكورة فلا يثبت القصاص برجل وامرأتين ويثبت القتل الموجب للمال برجل وامرأتين فإن كان موجبا للقود عند الشهادة ثم رجع إلى المال لم يستوف المال بتلك الشهادة لأنها كانت باطلة في الحال ولو أنشئت الشهادة بعد العفو على مال فوجهان وجه المنع أن أصل القتل كان موجبا للقصاص
فرع نص الشافعي رضي الله عنه أنه لو شهد رجل وامرأتان على هاشمة مسبوقة بإيضاح فكما لا يثبت الإيضاح الموجب للقصاص لا يثبت الهشم في حق الأرش ونص على أنه لو شهدوا على أنه رمى عمدا إلى زيد فمرق السهم وأصاب غيره خطأ أن الخطأ يثبت فقيل قولان بالنقل والتخريج ومنشؤهما أن الشهادة واحدة وقد سقط بعضها فهل يسقط الباقي ومنهم من فرق لأن قتل عمرو منفصل عن قتل زيد والهشم لا ينفصل عن الإيضاح
ولا خلاف على أنه لو ادعى قتل عمرو خطأ فشهدوا وذكروا هذه الكيفية وهو مروق السهم من زيد لم يقدح في الشهادة لأن زيدا ليس مقصودا بالشهادة وكذلك إذا قالوا نشهد أنه أوضح ثم عاد بعد ذلك وهشم
التفريع
إذا أثبتنا أرش الهاشمة فقد ذكر في إثبات قصاص الموضحة وأرشها على سبيل التبعية خلاف وهو بعيد
الشرط الثاني أن تكون صيغة الشهادة صريحة فلو قال أشهد أنه جرح وأنهر الدم ومات المجروح لم يقبل ما لم يقل قتله إذ ربما يموت بسبب آخر والموت عقيب الجراحة يعرف أنه بالجراحة بقرائن خفية فلا يغني إلا ذكر القتل وذكر العراقيون وجها أنه يكفي كما تقوم الشهادة على اليد والتصرف مقام الملك لأنه مستند العلم
ولو قال أشهد أنه أوضح رأسه لم يكف ما لم يصرح بالجراحة وإيضاح العظم
فإن صرح وعجز عن تعيين محل الموضحة لالتباسها بموضحات على رأسه سقط القصاص وفي الأرش وجهان أحدهما لا كما إذا شهد رجل وامرأتان على موضحة عمدا فإنه إذا لم يثبت المقصود لم يثبت غيره
والصحيح أنه يثبت لأنه لا قصور في نفس الشهادة وإنما التعذر في استيفاء القصاص
ولو شهد على أنه قتله بالسحر لم يقتل لأن ذلك مما لا يشاهد وجه تأثيره فالقتل بالسحر لا يثبت إلا بالإقرار ثم قال الشافعي رضي الله عنه لو قال الساحر أمرضه سحري ولكن مات بسبب آخر فلولي الدم القسامة واعترافه بالمرض لوث وهذا يدل على أن المقر بالجرح إذا ادعى أن الموت بسبب آخر يجعل إقراره لوثا وقد قيل إن القول قول الجاني وهو جار في السحر
فإن قيل تعلم السحر حرام أم لا قلنا إن كان فيه مباشرة محظور من ذكر سخف أو ترك صلاة فذلك هو الحرام فأما تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليها فليس بحرام وإنما الحرام الإضرار بفعل السحر لا بتعلمه
الشرط الثالث أن لا تتضمن جرا ولا دفعا فلو شهد على الجراحة من يرث المجروح ردت شهادته لأنه سبب استحقاقه
ولو شهد الوارث للمريض بدين أو عين فوجهان والفرق أن جرح المشهود عليه سبب الإستحقاق دون الدين ولو شهدوا على الجرح وهما محجوبان حال الشهادة ثم مات الحاجب أو بالعكس فالصحيح أن النظر إلى حالة الشهادة للتهمة وقيل قولان كخما في الإقرار للوارث
فإن رددنا فلو أعاد بعد الحجب لا تقبل كالفاسق إذا أعاد
فأما الشهادة الدافعة فصورتها أن تشهد العاقلة على فسق بينة القتل الخطأ
ولو شهد اثنان من فقراء العاقلة نص أنه لا تقبل ولو شهد اثنان من الأباعد مع أن الواجب مستوفى بالأقارب نص أنه تقبل فقيل قولان بالنقل والتخريج وقيل إن الفقير أمله في الغني قريب وتقدير موت الأقارب بعيد فلا يورث تهمة
الشرط الرابع أن تسلم الشهادة عن التكاذب وفيه صور
الأولى إذا شهدا على رجلين بالقتل وشهد المشهود عليهما بأنهما قتلا هذا القتيل نقدم على هذا مقدمة وهو أن شهادة الحسبة تقبل في حقوق الله تعالى وفي القصاصثلاثة أوجه
أحدها نعم صيانة للحقوق عن الضياع
والثاني لا لأن للدم طالبا كما للمال
والثالث أنه إن لم يعرف المستحق قبلت الشهادة
فإن قلنا تقبل فتساوق أربعة إلى مجلس القاضي فشهد اثنان على الآخرين بالقتل فشهد الآخران على الأولين بذلك القتل ففيه ثلاثة أوجه
أحدها الرد وإن قبلنا شهادة الحسبة إذ هي متكاذبة فلا ترجح
والثاني أنا نراجع صاحب الحق ونحكم بشهادة من صدقهما
والثالث أن الأولى صحيحة وشهادة الآخرين غير مقبولة لأنهما دافعان ولأنهما صارا عدوين للأولين ولكن إثبات العدواة بمجرد الشهادة ضعيف
وإن فرعنا على رد شهادة الحسبة فلو جاء المدعي بعد ذلك لم تنفع تلك الشهادة وهل تقبل إعادتها فيه ثلاثة أوجه
أحدها لا كما لو رد بعلة الفسق
والثاني نعم لانه لم ترد بتهمة
والثالث أنهما إن تابا عن المبادرة قبلت الإعادة
رجعنا إلى مسألتنا فإذا شهد المشهود عليهما على الشاهدين واستمر المدعي على تكذيبهما فلا أثر لشهادتهما لانهما دافعان وعدوان ومبادران وإن صدقهما بطل حقه بتناقض الدعويينفإن كان ذلك من وكيل فلا يؤخذ بإقرار لم يؤثر في إبطال الدعوى الأولى فإن صدق الموكل الآخرين انبنى على أنهما مبادران أو دافعان
المسألة بحالها لو شهد المشهود عليهما على أجنبي سوى الشاهدين فهما مبادران ودافعان وليسا عدوين وإن شهد أجنبيان على الشاهدين فهما مبادران وليسا دافعين ولا عدوين
الصورة الثانية لو شهدوا على القتل فشهد أحد الورثة بعفو بعضهم سقط القصاص بقوله من حيث إنه إقرار لا من حيث إنه شهادة حتى تسقط ولو كان فاسقا
الصورة الثالثة إذا شهد أحدهما أنه قتله غدوة وقال الآخر عشية فهو تكاذب وكذا إذا نسبا إلى مكانين أو آلتين وكذا لو شهد أحدهما على الإقرار والآخر على القتل لم يثبت لأنهما لم يتفقا على شيء
ولو شهد أحدهما على الإقرار بالقتل المطلق والآخر على الإقرار بالقتل العمد ثبت أصل القتل فالقول قول المدعى عليه في نفي العمدية إلا أن يكون ثم لوث يشهد للعمدية فتثبت القسامةوإن قال أحدهما قتله عمدا وقال الآخر خطأ فوجهان
أحدهما أنه تكاذب
والآخر أنه يثبت القتل ومن يشهد بالخطأ فكأنه يشهد بعدم العمد فيبقى النزاع في العمدية
وحيث يثبت التكاذب في الآلة والمكان والزمان قال المزني رحمه الله يفيد قولهما لوثا فاتفقت المراوزة على تغليطه لأنهما تساقطا بالتكاذب ونقل العراقيون فيه قولين للشافعي رضي الله عنه
كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات

وهي سبعة
البغي والردة والزنا والقذف والشرب والسرقة وقطع الطريق
الجناية الأولى البغي والنظر في صفة البغاة وأحكامهم وقتالهم

الطرف الأول في صفاتهم ويعتبر فيهم ثلاثة شروط الشوكة والتأويل ونصب إمام فيما بينهم
الشرط الأول الشوكة وهو أن يجتمع قوم ذو نجدة على مخالفة الإمام ولا يعتبر مساواة عددهم لجند الإمام كم من فئة قليلة غالبة لكن يكفي أن يكون الظفر مرجوا ثم إن كانوا في موضع محفوف بولاية الإمام فلا بد من زيادة نجدة كما إذا كانوا على طرف من أطراف الولاية ثم لا يخفى أن الشوكة لا تتم ما لميكن فيهم واحد مطاع
الشرط الثاني أن يكون بغيهم عن تأويل فلو اجتمع جماعة ممن توجه عليهم حدود أو حقوق من زكاة أو غيرها وخالفوا الإمام قاتلهم الإمام كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة وليس لهم حكم البغاة
والمرتدون إذا اجتمعوا لشبهة في دينهم فلا يعد ذلك تأويلا معتبرا
ولو كان لهم تأويل باطل قطعا لكنهم غلطوا فيه ففي اعتباره وجهان
أحدهما أنه لا يعتبر كتأويل أهل الردة ومعاوية رحمه الله عند هذا القائل لم يكن مبطلا قطعا بل بالظن
والثاني يعتبر لأن الغلط في القطعيات كثير ومعاوية كان مبطلا على القطع عند هذا القائل لكنه لم يعرف ذلك
وأما الخوارج ففيهم على رأي الإمتناع من تكفيرهم وجهان منهم من ألحقهمبأهل الردة ولم يكترث بتأويلهم لظهور فساده
الشرط الثالث نصب الإمام فيما بينهم وفي اشتراطه خلاف ومن شرطه علل بأن هذه الشروط تعتبر لتنفيذ قضاء قاضيهم ولا ينتصب القاضي إلا بالتبعية فلا بد لهم من إمام يولي القضاة ومن لا يشترط ذلك يقول ربما لا يصادفون موصوفا بصفات الأئمة ولا يمكن تعطيل أحكامهم
الطرف الثاني في أحكام البغاة في الشهادة والقضاء والغرم

أما شهاداتهم فمقبولة لجهلهم بالتأويل وأما قضاء قاضيهم فنافذ على وفق الشرع
وما يستوفيه من زكاة وجزية وحد ويصرفه إلى مصرفه فواقع موقعه ولو صرفوا السهم المرصد لمرتزقة الإسلام إلى جندهم ففيه اختلاف مشهور لأنه وإن كانوا جند الإسلام لكنهم في الحال على الباطل وتصحيح ذلك إعانة لهم
وإذا كتبوا الكتاب إلى قاضينا بعد إبرام الحكم أمضي وإن سمع البينة والتمس الحكم فقولانأقيسهما الحكم كي لا يؤدي إلى إبطال حقوق الرعايا
والثاني لا لأنه مساعدة لهم على بغيهم وقيل بطرد القولين فيما أبرموه واستعانوا بقاضينا في الإستيفاء والقياس الإمضاء
هذا فيمن له الشوكة والتأويل فإن عدمت الشوكة فلا ينفذ حكمهم إذ يرجع ذلك إلى محاورات في خلوات وإن عدم التأويل دون الشوكة لم ينفذ قضاؤهم على الظاهر ويحتمل أن يخرج ذلك على ما إذا شعز الزمان عن الإمام فإن أحكام الرعايا لا يمكن تعطيلها فلذلك ينفذ القضاء بحكم الحاجة
أما الغرم فهو واجب بالإتلاف في غير القتال على الفريقين جميعا أما في القتال فلا غرم على العادل وما يتلفه الباغي في القتال فيه قولان
أحدهما أنه يجب لأنه أتلف مالا معصوما بغير حق
والثاني وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجب كما في أهل الحرب لأن المؤاخذة بتبعات القتال تمنع من الفيئةوالطاعة ولذلك أتلفت أموال وأريقت دماء في قتال معاوية وعلي رضي الله عنهما وكان علي رضي الله عنه يعرف القاتل وما اقتص من أحد ولا غرم
وإن قلنا لا ضمان ففي الكفارة وجهان ووجه الإسقاط الإهدار كما في أهل الحرب فإن قلنا يجب الضمان ففي القصاص وجهان لأجل الشبهة فإن لم نوجب القصاص فالدية على العاقلة أو على الجاني فيه خلاف كما لو قتل إنسانا على ظن أنه كافر
هذا إذا وجد الشوكة والتأويل فإن وجد تأويل بلا شوكة وجب الضمان قتل ابن ملجم أخزاه الله عليا كرم الله وجهه فأقيد به وكان من تأويله أن امرأة زعمت أن عليا رضي الله عنه قتل أقاربها فوكلته باستيفاء القصاص
وأما الشوكة دون التأويل فطريقان منهم من قطع بوجوب الضمان كمثل واقعة مانعي الزكاة ومنهم من أجرى القولين لأن إسقاط القصاص وإسقاط التبعية للترغيب في الطاعة وأجرى الشافعي رضي الله عنه ترديد القولين في المرتدين إذا أتلفوا في القتال وقيل هو أولى بالسقوط لمشابهة أهل الحرب
فأما وجود الإمام فليس بشرط لسقوط الضمان
الطرف الثالث في كيفية القتال

ويرعى فيه أمور
الأول أنا لا نغتالهم بل نقدم النذير أولا فإن لم يرجعوا إلى الطاعة قاتلناهم وفي أواخر القتال لا نتبع مدبرهم ولا نذفف على جريحهم لأن قتالهم مثل الدفع عن منع الطاعة والمدبر من سقطت شوكته وأمن غائلته لا من يتحرف من جانب إلى جانب فلو تبددوا سقطت شوكتهم ولكن يتوهم اجتماعهم فهل يجوز اتباعهم بالقتل فيه وجهان ينظر في أحدهما إلى الحال وفي الثاني إلى غائلة المآل وكذا من انهزم على أن يتصل بفئة أخرى
الثاني أن أسيرهم لا يقتل ولا يطلق ما داموا على شوكتهم فإذا بطلت الشوكة وكان اجتماعهم في المآل متوقعا ففي إطلاقه وجهان
فأما نساؤهم وذراريهم فيخلى سبيلهم وقال أبو إسحاق المروزي رحمه الله نحبسهم ففي ذلك كسر قلوبهم
وأما أسلحتهم وخيولهم فلا يحل استعمالها في القتال خلافالأبي حنيفة رحمه الله لكن إنما ترد إليهم إذا جاز إطلاق أسيرهم والصبي المراهق والعبد كالخيل والصغير كالنسوان
الثالث لا ننصب عليهم المجانيق ولا نوقد عليهم النيران ولا نرسل السيول الجارفة وكذا كل سبب يعم إلا إذا كان بحيث نصطلم لو لم نفعل لأن هذه الأسباب لا يمكن حسمها وربما يرجعون في أثنائها
وإن تحصنوا بقلعة ولم يتوصل إلا بهذه الأسباب فإن كان فيهم رعايا لم يجز وإن لم يكن إلا المقاتلة ففيه نظر والأولى منعه والإقتصار على المحاصرة والتضييق
الرابع لا ينبغي أن يقتل العادل واحدا من أرحامه ولا ينبغي أن يستعين الإمام بأهل الشرك عليهم ولا بمن يرى قتل مدبرهم
الخامس إن استعان البغاة علينا بأهل الحرب لم ينفذ أمانهم علينا واتبعنا مدبر أهل الحرب وهل ينفذ الأمان في حق أهل البغي فيه وجهان الصحيح أنه لا ينفذ لأنه بني على الفساد لكن لا يجوز لهم الاغتيال بكل أمان فاسد ويجوز لنا اغتيالهم وقيل إنه لا يجوز إذا انعقد لهم أمان فاسد وهو ضعيف نعم لو قال أهل الحرب ظننا أنهم المحقون ففي إلحاقهم بمأمنهم خلاف ومنهم من قال لا نبالي بظنونهم
ولو استعانوا بطائفة من أهل الذمة انتقض عهدهم فنقتل مدبرهم ونغنم مالهم وفيه وجه أنهم إذا انهزموا ألحقاهم بمأمنهم فإن كانوا مكرهين لم ينتقض عهدهم فلا نتبع مدبرهم فإن قالوا ظننا انهم الفئة المحقة ففي انتقاض العهد قولان
التفريع حيث ألحقناهم بأهل الحرب غنمنا مالهم ولا ضمان عليهم فيما يتلفون فإن قلنا لا بد من تبليغهم مأمنهم فما أتلفوه مضمون عليهم إذ بقي في حقنا عهدة الأمان فيبقى عليهم عهدة الضمان فإن فرعنا على أن العهد لا ينتقض في بعض الصور قطع الأصحاب بوجوب الضمان عليهم لأن الإسقاط عن البغاة لترغيبهم في الطاعة ولا يجري ذلك في الذمي
السادس من يوجد منهم قتيلا يغسل ويصلي عليه وليس بشهيد وقالأبو حنيفة رحمه الله لا يغسل ولا يصلي عليه إهانة لهم
والعادل إذا قتل في المعترك فقولان في كونه شهيدا
ولا ينقطع التوارث بينهم بين أهل العدل
الجناية الثانية الردة

والنظر في أركان الردة وأحكامها
الطرف الأول في الردة وهو عبارة عن قطع الإسلام من مكلف
احترزنا بالقطع عن الكفر الأصلي وبالمكلف عن المجنون والصبي وفي السكران قولان لتردده بين الصاحي والمجنون وعلى طريق يصح تنفيذا لما عيه دون ما له وعلى هذا لو أسلم في السكر لا يصح فليعد الإسلام إذا أفاق فلو قتل قبل الإفاقة فمهدر وإن قلنا تصح ردته لأنه كالصاحي فيصح إسلامه لكن إذا أفاق جددنا عليه التوبة فلو قتل قبل التجديد فالصحيح وجوب الضمان وقيل لا يجب أخذا من اللقيط إذا قتل بعد البلوغ وقبل أن ينطق بالإسلام ووجه الشبهة أنه إسلام حكمي لا عن قصد صحيح وهو ضعيف لأن الردة أيضا كان كذلك فيكفي لتلك الردة هذا الإسلام إلا أن يخصص ذلك الوجه بأن يرتد صاحيا ثم أسلم في السكر
وأما نفس الردة فهو نطق بكلمة الكفر استهزاء أو اعتقادا أو عنادا ومن الأفعال عبادة الصنم والسجود للشمس وكذلك إلقاء المصحف في القاذورات وكل فعل هو صريح في الإستهزاء بالدين وكذلك الساحر يقتل إن كان ما سحر به كفرا بأن كان فيه عبادة شمس أو ما يضاهيه
فروع

الأول إذا شهد اثنان على أنه ارتد فقال كذبا لم ينفعه التكذيب لكنه ينفعه تجديد الإسلام في رد القتل ولا ينفع في بينونة زوجته
ولو قال صدقا ولكنني كنت مكرها فإن ظهر مخايل الإكراه بأن كان أسيرا بين الكفار فالقول قوله وإن لم تكن مخايل الإكراه حكم بالبينونة وهذا ينبغي أن يخصص بما إذا حكى الشاهد كلمة الردة ولا ينبغي أن تقبل الشهادة مطلقا لأن للناس في التكفير مذاهب مختلفة فإذا نقل الشاهد كلمة هي ردة ولم يقل ارتد ولكنه قال قال كذا فقال المشهود عليه صدق ولكن كنت مكرها قال الشيح أبو محمد رحمه الله يصدق إذ ليس في تصديقه تكذيب الشهود بخلاف ما إذا شهدوا على الردة فإن كونه مكرها يدفع الردة ولكن الجزم أن يجدد الإسلام فلو قتله مبادر قبل التجديد ففي الضمان وجهان مأخوذان من تقابل الأصلين وهو عدم الإكراه وبراءة الذمة
الثاني إذا خلف المسلم ابنين فقال أحدهما مات أبي كافرا وأنكر الآخر ففي حصة المقر قولان
أحدهما أنه للفيء مؤاخذاة له بإقراره
الثاني أنه يصرف إليه لأن للناس أغراضا في التكفير ومذاهبوهو لم يصرح به 3 والصحيح أن يستفصل فإن فسر بما هو كفر صرف إلى الفيء وإلا صرف إليه فإن لم يفسر توقف
الثالث الأسير إذا ارتد مكرها فإذا أفلت أمرناه بالتجديد وإن أبى تبين أنه كان مرتدا بالاختيار هكذا قاله العراقيون وفيه نظر لأن المسلم لا يكفر بمجرد الامتناع عن تجديد الإسلام وحكم الإسلام كان دائما له ثم قال العراقيون إذا ارتد الأسير مختارا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين حكم بإسلامه بخلاف الكافر الأصلي وفي الفرق إشكال
الطرف الثاني في حكم الردة
وذلك يظهر في نفس المرتد وولده وماله وفي أمور أخر ذكرناها في مواضعها
أما نفسه فتهدر في الحال ويجب قتله إن لم يتب فإن تاب تقبل إلا إذا كان زنديقا ففي قبول توبته أربعة أوجه
الظاهر أنه تقبل إذ باب الهداية غير محسوم فلعله اهتدى وقد قال صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه تنبيها على أن النظر إلى الظاهر دون السرائر
والثاني لا تقبل لأن التقية عند الخوف عين الزندقة
والثالث أنه إن أسلم ابتداء من غير مطالبة قبل وإن كان تحت السيف فلا
والرابع أنه إن كان داعيا إلى الضلال لم تقبل وإلا فتقبل
وقال أبو إسحاق المروزي رحمه الله إنما تقبل توبة المرتد مرة واحدة وإن أعاد ثانيا لم تقبل وهو بعيد إذ من يتصور أن يخطىء مرة يتصور أن يخطىء مرتينوفي المبادرة إلى قتل المرتد قولان
أحدهما يبادر إلى ذلك لأن جنايته قد تمت
والثاني يمهل ثلاثة أيام لما روي أن عمر رضي الله عنه قال في مرتد بادر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى قتله اللهم إني أبرأ إليك مما فعله أبو موسى هلا حبستموه ثلاثا تلقون إليه كل يوم رغيفا لعله يتوب
التفريع إن قلنا الإمهال لا يجب فيستحب أو يمنع فيه وجهان فإن قلنا يمنع فإن قال أمهلوني ريثما تجلو شبهتي بالمناظرة فهل يناظر فيه وجهان
أحدهما نعم لأن الحجة مقدمة على السيف
والثاني لا لأن الخيالات الفاسدة لا حصر لها فليقبل الإسلام ظاهرا ثم يبحث
وأما ولد المرتد فإن تراخت الردة عن الولادة فالولد مسلم فإن علقت مرتدة من مرتد ففي الولد ثلاثة أقوال
أحدها أنه كافر أصلي
والثاني أنه مرتد يردد بعد البلوغ بين الإسلام والسيف ويكون أسوة أبويه
والثالث أنه مسلم لأن علقة الإسلام باقية في المرتد والإسلام يعلو
ولو خلف المعاهدون أولادا فيما بيننا فإما أن نقبل منهم الجزية أو نلحقهم بمأمنهم وأما أهل الردة فإن التحقوا بدار الحرب فلا يثبت لهم حكم أهل الحرب في الإسترقاق خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
وأما مال المرتد ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يزول ملكه في الحال كملك النكاح
والثاني لا إذ لا إهانة فيه على المسلم بخلاف النكاح
والثالث أنه موقوف فإن مات أو قتل على الردة تبين زوال ملكه إلى أهل الفيء وإن عاد تبين استمرار ملكه
التفريع إن قلنا بزوال ملكه فكل دين كان لزمه قبل الردة يقضي من ماله كما يقضي من تركة الميت ولا خلاف أنه ينفق عليه من ماله وهل ينفق على أقاربه المسلمين وهل تقضى ديونه التي التزمها في الردة بإتلافه فيه وجهان فلو احتطب حصل الملك للفيء كما يحصل باحتطاب العبد للسيد وكذا في اتهابه وشرائه من الخلاف ما في العبد ولا خلاف أنه إذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه ورهنه كما يعود إن صار الخمر خلا
وإن فرعنا على بقائه فللسلطان ضرب الحجر عليه في التصرف نظرا للفيء
ثم هل يتحجر بالردة أم يحتاج إلى حجر السلطان فيه خلاف ثم ذلك الحجر كحجر السفيه أو المفلس فيه خلاف وحكمهما مذكور في موضعه
فإن قلنا يحتاج إلى ضرب الحجر نفذ تصرفه قبله وقيل هو كتصرف المريض وتكون حقوق أهل الفيء كحقوق الغرماء حتى لا ينفذ معه التبرعات ولا في الثلث
وإن فرعنا على الوقف لم ينفذ منه إلا كل تصرف قابل للوقف
كتاب حد الزنا
الجناية الثالثة هي الزنا

وهي جريمة موجبة للعقوبة إما الرجم وإما الجلد
والنظر في طرفين
الأول في الموجب والموجب والضبط فيه أن إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهي طبعا إذا انتفت الشبهة عنه سبب لوجوب الرجم على المحصن ولوجوب الجلد والتغريب على غير المحصن وفي الرابطة قيود لا بد من كشفها
أما الإحصان فهو عبارة عن ثلاثة خصال التكليف والحرية والإصابة في نكاح صحيح فإذا انتفى التكليف سقط أصل الحد فلا حد على المجنون والصبي وإذا انتفت الإصابة فقد سقط الرجم ووجب جلد مائة وتغريب عام ولا تقوم الإصابة في ملك اليمين مقامه وأما في النكاح الفاسد ووطء الشبهة فقولان أصحهما أنه لا يحصن كما في التحليل والأصح أنه لا يشترط وقوع الإصابة بعد الحرية والتكليف وفيه وجه أنه لا أثر للإصابة في الصبا والجنون والرق إذ ليس يحصل التحصن بالمباح بهولا خلاف أنه لا يعتبر وجود هذه الخصال في الواطئين فالرقيق إذا زنا بحرة رجمت وكذا بالعكس فإذا وطىء البالغة صغير ففيه وجهان وكذا بالعكس
وإنما ينقدح هذا في الذي لا يتشهي أما المراهق فلا ينقدح فيه خلاف إذ العاقلة إذا مكنت مجنونا رجمت والمراهق المشتهي كالمجنون والثيب إذا زنى ببكر رجم وجلدت وكذا بالعكس
أما الحرية إذا انعدمت اقتضى تشطير الحد فيجلد الرقيق خمسين جلدة وفي تغريبه قولان
أحدها أنه لا يغرب نظرا للسيد
والثاني أنه يغرب وفي قدره وجهان
أحدهما أنه يغرب نصف سنة تشطيرا
والثاني أنه يكمل لأن ما يتعلق بالطباع لا يؤثر فيه الرق كمدة العنة
ثم في أصل التغريب مسائل
الأولى أن المرأة لا نغربها إلا مع مرحم فإن كانت الطرق آمنة ففي تغريبها من غير محرم وجهان ووجهه أن هذا سفر واجب كالهجرة
فإن أوجبنا المحرم ولم يوافق إلا بالأجرة فأجرته عليها على وجه وعلى بيت المال على وجه كأجرة الجلاد
وهل للسلطان إجبار المحرم بالأجرة فيه وجهان
أحدهما لا لأنه تغريب من لا ذنب له
والثاني نعم وإنما هو استعانة في إقامة حد فتجب الإجابة
الثانية مسافة الغربة يقدرها السلطان ولكن لا تنقص عن مرحلتين لأن الوحشة تلتقي بتواصل الخبر
ثم إذا غربناه إلى بلدة لم نمنعه من الإنتقال إلى أخرى وقيل يمنع وهو زيادة حبس ضم إلى تغريب بغير دليل
نعم لو عين الإمام جهة المشرق والتمس جهة المغرب ففيه خلاف والظاهر اتباع رأي الزاني لأن الغرض الإزعاج نعم الغريب إذا زنى أزعجناه لينقطع عن محل الفاحشة فلو كان إلى وطنه مرحلتان فلا نغربه إلى وطنه وإن غربناه إلى بلدة فانتقل إلى وطنه ففي منعه نظر والظاهر أنه لا يمنع
الثالثة لو عاد المغرب إلى مكانه غربناه ثانيا ولم تحسب المدة الماضية على الأظهر لأن لتوالي الغربة تأثيرا لا ينكر كتوالي الجلدات
هذا بيان الإحصان أما الإسلام فليس من الإحصان عندنا بل يرجم الذمي إذارضي بحكمنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم يهوديين بإقرارهما كانا قد أحصنا وذلك إذا رضوا بحكمنا ولو رضوا في شرب الخمر لمنحدهم لأنهم لا يعتقدون تحريمه وقد التزمنا متاركتهم والأظهر أن الحنفي يحد على شرب النبيذ لأنه في قبضة الإمام والحاجة مآسة إلى زجره
فأما قولنا إيلاج فرج في فرج فيتناول اللواط وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه يقتل الفاعل والمفعول به بالسيف لقوله صلى الله عليه وسلم
من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به
والثاني أنه يرجم بكل حال تغليظا
والثالث وهو مخرج أن الواجب التعزير
والرابع أنه كالزنا فيوجب الرجم على المحصن والجلد على غيره
ثم الإصابة في نكاح صحيح هل ينقدح اعتبارها في المفعول به فيه نظر وتردد وفيما إذا أتى امرأة أجنبية قيل هو كاللواط وقيل هو كالزنا قطعا والغلام المملوك كغير المملوك وقيل إنه كوطء الأخت المملوكة
ولو أتى زوجته أو جاريته في دبرها فالمذهب سقوط الحد لأنها محل الإستمتاع بخلاف الغلام وفيه وجه بعيد
فأما قولنا مشتهى طبعا احترازا به عن الإيلاج في الميت فلا حد فيه بل التعزير
وفي البهيمة قولان المنصوص أنه التعزير لا غير لأنه غير مشتهى في حالة الإختيار وفيه قول مخرج أنه كاللواط
وعلى هذا في قتل البهيمة وجهان ووجه القتل قوله صلى الله عليه وسلم
اقتلوا الفاعل والمفعول به فقيل للراوي ما ذنب البهيمة فقال إنما تقتل حتى لا تذكر
وفيه وجه أنها إن كانت مأكولة ذبحت وإلا فلا لأن حرمة الروح مرعية ولا تكليف فإن قلنا تقتل وكانت محرمة اللحم ففي وجوب قيمتها وجهان
أحدهما لا تجب لأنه مستحقة القتل شرعا
والثاني نعم لأنه السبب
ثم تجب على الفاعل أو على بيت المال فيه وجهان وإن كانت مأكولة اللحم ففي حل أكلها وجهان إذا ذبحت والأصح الحل
والثاني لا لأنه حيوان وجب قتله
فإن أوجبنا الحد فلا بد من أربعة عدول وإن أوجبنا التعزير ففيه وجهان والنص يدل على اشتراط العدد
وقولنا محرم احترزنا به عن وطء المنكوحة الصائمة والمحرمة والحائض والرجعية فلا حد فيه إذ ليس التحريم لعينه
وقولنا قطعا احترزنا به عن الوطء بالشبهة وفي النكاح الفاسد وفي المتعة فإن فيه كلاما
وقولنا لا شبهة فيه مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم
ادرءوا الحدود بالشبهات
والشبهة ثلاثة وهي إما في المحل أو الفاعل أو طريق الإباحة
أما الشبهة في المحل فكالملك فلا حد على من يطأ مملوكته وإن كانت محرمة عليه برضاع أو نسب أو شركة في ملك أو تزويج أو عدة من الغير لأن المبيح قائم كما في وطء الصائم والحائض
وإذا وطىء جارية ابنه وأحبلها فلا حد إذ انتقل الملك إليه وإن لم تحبل
فالظاهر أن لا حد لأن له في ماله شبهة استحقاق الإعفاف وللشافعي رضي الله عنه قول قديم أن الحد يجب حيث يحرم الوطء بالنسب والرضاع ويجري في كل تحريم مؤبد ولا يجري في الحيض والصوم وهل يجري في المملوكة المعتدة والمزوجة فيه تردد
وأما الشبهة في الفاعل فهو أن يظن التحليل كما لو زفت إليه غيرت زوجته فظنها زوجته أو صادف امرأة على فراشه ظنها زوجته القديمة أو عقد عقدا ظنه صحيحا وليس بصحيح فلا حد إذ لا إثم مع الظن
وأما الشبهة في الطرق فهو كل ما اختلف العلماء في إباحته فلا حد على الواطىء في نكاح المتعة لمذهب ابن عباس رضي الله عنه وفي نكاح بلا ولي لمذهب أبي حنيفة رحمه الله وبلا شهود لمذهب مالك رحمه الله وفي القديم قول أنه يجب في نكاح المتعة لأنه ثبت نسخه قطعا وذهب الصيرفي إلى إيجابه في نكاح بلا ولي حتى على الحنفي لظهور الأخبار فيه وجعله كالحنفي إذا شرب النبيذ وهو بعيد
وما جاوز هذه الشبهات فلا عبرة بها عندنا فيجب الحد على من نكح أمه أو محارمه أو زنى بها
وكذا إذا استؤجرت للزنا أو أباحت المرأة نفسها أو جاريتها أو زنا ناطق بخرساء أو أخرس بناطقة أو عاقلة مكنت مجنونا أو اعترف أحد الواطئيندون الثاني أو زنا بامرأة يستحق عليها القصاص أو زنا في دار الحرب وخالف أبو حنيفة رحمه الله في جميع ذلك
نعم اختلف أصحابنا في إقامة الحد في دار الحرب لما فيه من إثارة الفتنة واختلفوا في المكره على الزنا والظاهر أنه لا يجب أما المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا فلا خلاف أنه لا حد عليها
هذا بيان موجب الحد وينبغي أن يظهر للقاضي بجميع قيوده وحدوده حتى يجوز له إقامة الحدود وذلك بالشهادة والإقرار ويكفي الإقرار مرة واحدة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا بد من التكرار حتى قال لو ثبت الحد بالشهادة فصدق الشهود فلا حد وإن كذب أقيمالحد ولا خلاف عندنا أنه إذا رجع وكذب نفسه لم نقم الحد لأن حق الله تعالى على المساهلة والقصاص لا يسقط بالرجوع وفي حد السرقة خلاف والأظهر أنه يسقط
وهل ينزل منزلة الرجوع التماسه ترك الحد أو هربه أو امتناعه من التمكين فيه وجهان أقيسهما أنه لا يؤثر ووجه الإعراض عنه أن شارب خمر هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحده فهرب ولاذ بدار العباس فلم يتعرض له
ثم هذا إنما ينفع فيما يثبت بالإقرار فإن ثبت بالشهادة لم ينفعه شيء إلا التوبة وفيه قولان
أصحهما أنه لا يسقط إذ يصير ذلك ذريعة
والثاني أنه يسقط كما يسقط عن قطاع الطريق إذا تابوا قبل الظفر بهم كما ورد به القرآن وفي توبته بعد الظفر به أيضا قولان والهرب لا يبعد أن يؤثر على رأي وإن ثبت بالشهادة
وفي المسقطات في الشهادة عليه مسائل
إحداها لو شهد أربعة على زنا امرأة لكن شهد اثنان على أنها مطاوعة واثنان أنها مكرهة فلا حد عليها وفي وجوب حد القذف على شاهدي المطاوعة قولان إذ لم يكمل عدد شهادتهم أما الرجل المذكور بالزنا فقد كمل العدد في حقه فإن حددنا الشاهدين حد القذف فقد صارا فاسقين فلا يجب الحد على الرجل بشهادتهما وإن قلنا لا حد عليهما فالأظهر وجوب حد الزنا عليه وفيه وجه من حيث إن اختلاف الشهادة في الصفة أورث إشكالا في الأصل
الثانية لو شهد أربعة على زناها فشهدن أربعة على أنها عذراء فلا حد عليها ولا يجب حد القذف على الشهود لاحتمال عود العذرة فيسقط كل حد باحتمال
الثالثة لو شهد أربعة على الزنا وعين كل واحد زاوية أخرى من البيت فلا حد عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
الطرف الثاني في الاستيفاء

والنظر في كيفيته ومتعاطيه
أما الكيفية فيرعى منها أربعة أمور
أحدها حضور الوالي والشهود وبداية الشهود بالرمي وذلك مستحب عندنا وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب حضور الوالي إن ثبتت بالإقرار وحضور الشهود إن ثبتت بالشهادة ويجب بدايتهم بالرمي
الثاني حجارة الرجم لا بد منها فلو عدل إلى السيف وقع الموقع ولكن فيه ترك التنكيل المقصود ثم لا ينبغي أن يثخن بصخرة كبيرة دفعة ولا أن يطول عليه بحصيات خفيفة
الثالث إن كان الزاني مريضا وهو مرجوم فيرجم لأنه مستهلك وإن كان يجلد فيؤخر إلى البرء إن كان منتظرا ولا يحبس إن ثبتت بإقراره لأنه مهما أراد قدر على الرجوع وإن ثبتت بالبينة حبس كما تحبس الحامل
وإن كام مجروحا ولا ينظر زوال ما به ولا يحتمل مائة جلدة فقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله
خذوا عثكالا عليه مائة شمراخ فاجلدوه به والأظهر أنه يضرب به ضربا فيه إيلام ولا يكتفي بما يكتفى به في اليمين ولا يشترط أن تمسه جميع الشماريخ بل يكفي أن تتثاقل عليه وتنكبس فلو كان عليه خمسون ضربناه مرتين فلو كان يحتمل كل يوم سوطا فلا نفرق بل يجلد في الحال ولو كان يحتمل سياطا خفافا
فظاهر كلام الأصحاب أنه يعدل إلى العثكال لإطلاق الخبر ويحتمل أن يقال ذلك أقرب إلى الحد فإذا ضربناه بالعثكال فزال مرضه على الندور لم نعد الحد بخلاف حج المعضوب
الرابع الزمان فلا يقام الجلد في فرط الحر والبرد بل يؤخر إلى اعتدال الهواء والرجم إن ثبت بالبينة يقام بكل حال وإن ثبت بالإقرار يؤخر إلى اعتدال الهواء لأنه ربما يرجع إذا مسته الحجارة فيسري القليل منه في الحر
وإذا بادر الإمام في الحر المفرط فجلد ومات فالنص أنه لا يضمن ونص أنه لو ختن الإمام ممتنعا عن الختان في الحر فسرى ضمن فقيل قولان بالنقل والتخريج
أحدهما أنه يضمن لإفراطه في البدار في غير وقته
والثاني لا يجب لأن الحد مستحق ولم يزد على المستحق
وقيل بالفرق لأن الخيار ليس إلى الولاة في الأصل فجاز بشرط سلامة العاقبة بخلاف الحد فإن قلنا يضمن أوجبنا التأخير وإن قلنا لا جعلنا التأخير مستحبا لا واجبا ويجوز أن يقال يباح التعجيل ولكن بشرط سلامة العاقبة
ثم يحتمل أن يقال شرطه أن تغلب السلامة منه إذ ليس المراد من الحد القتل حتى لو تعدى به متعد فلا قصاص ويحتمل أن يقال لا يعتبر ذلك إلا في التعزير أما الحد فلا يبعد أن يكون قاتلا فلا يجب القصاص به ومن مات به فالحق قتله ويدل عليه نص الشافعي رضي الله عنه على جواز المبادرة في الحر
فأما المستوفي للحد فهو الإمام في حق الأحرار والسيد في حق المماليك عندنا لا في المكاتب ومن نصفه حر ونصفه رقيق فأما المدبر وأم الولد فقن وللإمام الاستيفاء أيضا
ثم إذا اجتمع السيد والسلطان فأيهما أولى فيه احتمال وهل للسيد تعزير عبده الظاهر أن له ذلك وقيل لا إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا زنت أمة أحدكم فليحدها فلم يرد الخبر إلا في الحد
ثم اختلفوا في أن مأخذه الولاية أو استصلاح الملك فإن قلنا مأخذه الولاية لم يكن ذلك للمرأة والفاسق وللمكاتب في عبيدهم وكذلك اختلفوا في القطع والقتل فمن جعله ولاية سلط السيد عليه ومن جعله استصلاحا فهو استهلاك فلا يقدر عليه ومنهم من قال في القطع استصلاحا فهو استهلاك فلا يقدر عليه ومنهم من قال في القطع استصلاح بخلاف القتل
ثم هذا فيه إذا شهد السيد الفاحشة أو أقر فأما إذا شهد الشهود فإن قلنا استصلاح فليس له منصب الحكم وإن قلنا ولاية فوجهان لأن الحكم يستدعي منصبا فإن منعناه فيستوفيه إذا قضى به القاضي فإن جوزنا له سماع البينة لم نشترط كونه مجتهدا بل يكفيه العلم بما يوجب الحد
فرع من قتل حدا غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين كالمقتول قصاصا
الجناية الرابعة هي القذف كتاب حد القذف

والنظر في الموجب والواجب
أما الموجب فالنظر في القذف والقاذف والمقذوف
أما القذف فقد ذكرناه في اللعان والذي نزيده الآن أنه لا بد أن يكون في معرض التعيير فلو كان في معرض الشهادة فلا حد إلا إذا ردت الشهادة لعدم الأهلية كما لو كان الشاهد عبدا أو ذميا فعليهم حد القذف وإن ردت الشهادة بنقصان العدد بأن شهد ثلاثة ففيه قولان
أقيسهما أنه لا يجب لأن الشهادة أمانة يجب أداؤها وكل واحد لا يكون على ثقة من مساعدة غيره
والثاني أنه يجب لقصة عمر رضي الله عنه مع أبي بكرة
وأما إذا شهد له أربعة ثم رجع واحد فالراجع محدود والمصر غير محدود إذ تمت الشهادة أولا وقيل بطرد القولين وهو بعيد
ثم ذلك لا ينقدح في الرجوع بعد القضاء أصلا
أما إذا ردت الشهادة بالفسق فإن كان بفسق يجاهر به ففيه قولان وإن كان بفسق خفي انكشف فقولان مرتبان وأولى بأن لا يحد ووجه إسقاط الحد أن الفاسق من أهل الشهادة عند بعض العلماء
أما رد شهادتهم بأداء اجتهاده إلى فسقهم فلا حد عليهم إذ الحد يسقط بالإحتمال
أما القاذف فيعتبر فيه التكليف والحرية وإن انتفى التكليف فلا حد وإن انتفت الحرية تشطر الحد وهذا يدل على مشابهته حقوق الله تعالى لكن الغالب في حد القذف حق الآدمي إذ يسقط بعفو المقذوف ولكن لا يسقط بإباحة القذف على الصحيح
ولا يقع الموقع إذا استوفى المقذوف لأن للإجتهاد دخلا في تقدير وقع الجلدات فهو من شأن الولاة لا كالقتل الذي يقع موقعه في حق الزاني المحصن إذا بادر إليه واحد من المسلمين وإن تعدى به
ومستحق القطع والقتل قصاصا عليه أن يرفع إلى القاضي فإن استقل به وقع موقعه وينقدح وجه في حد القذف أيضا أنه يقع موقعه
أما المقذوف فيعتبر إحصانه لإيجاب الحد وقد ذكرناه في اللعان
الطرف الثاني في قدر الواجب وهو ثمانون جلدة على الحر وأربعون على الرقيق فإن تعدد القذف بأن نسبه إلى زنيتين فإن لم يتخلل استيفاء الحد تداخل وإن تخلل فقولان
أصحهما أنه يحد حدا آخر لتجدد الموجب
والثاني لا لأنه قد ظهر كذبه في حقه مرة واحدة
ولو عين الزنا بشخص أولا ثم أطلق الزنا ثانيا حمل على الأول ما أمكن ولم نستأنف الحد
ولو قذف شخصين بكلمتين فحدان ولو قال زنيتما ففي تعدد الحد خلاف وقد ذكرناه في اللعان في جملة من أحكام القذف والحد فلا نعيده
الجناية الخامسة الموجبة للحد السرقة

كتاب حد السرقة

والكلام فيه في الموجب وفي طريق إيجابه بالحجة وفي الواجب
الطرف الأول في الموجب وهو السرقة ولها ثلاثة أركان المسروق والسرقة والسارق
الركن الأول المسروق

وله ستة شروط أن يكون نصابا مملوكا لغير السارق ملكا محترما تاما محرزا لا شبهة للسارق فيه فلنشرح هذه القيود
الشرط الأول النصاب وهو عندنا ربع دينار فصاعدا لقوله صلى الله عليه وسلم
لا قطع إلا فيربع دينار وقال أبو حنيفة رحمه الله هو دينار أو عشرة دراهم وقال مالك رحمه الله هو ربع دينار أو ثلاثة رداهم وقال داود رحمه الله لا يشترط النصاب
ثم نريد الربع المضروب دون الإبريز
فروع

الأول لو سرق ربع مثقال من الإبريز لا يسوى ربعا مضروبا ففيه وجهان
أحدهما أنه لا قطع لأنا نقوم السلع بالمضروب وهو كسلعة
والثاني يجب لأن الاسم ينطلق عليه فيجب به وإن لم يقوم به وعلى هذا لو سرق خاتما قيمته ربع ووزنه سدس وجب القطع إن اعتبرنا التقويم وإن اعتبرنا بالوزن فلا قطع
الثاني لو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تساوي ربعا وجب القطع ولا يشترط علمه بكونه نصابا ولو سرق جبة قيمتها دون النصاب لكن في جيبها دينار وهو لم يشعر به وجب الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب ولأصحابنا وجه يوافقه من حيث إنه لم يقصد إخراج دينار
الثالث لو نقص قيمة النصاب بأكله أو تمزيقه قبل الإخراج من الحرز فلا قطع وإن نقص بعد وجب القطع وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب
الرابع لو أخرج نصابا ولكن بكرات وكل كرة ناقص عن نصاب فلا قطع وإنما تتعدد الكرات بأن يعاد إحكام الحرز ويطلع المالك على الأول فلو لم يتخلل ذلك ولكن كان يخرجه شيئا شيئا فثلاثة أوجه
أحدها أنه لا يجب لتعدد الصورة
والثاني يجب إذ السارق قد يحتاج إلى أن يخرجه مفرقا
والثالث أنه إن تخلل طول زمان أو رد المسروق إلى بيت السارق ولو في زمان قصيرفلا قطع وإن لم يتخلل شيء من ذلك فمتحد
الخامس لو فتح أسفل كندوج وكان يخرج شيئا شيئا على التواصل فإن قلنا يجب ثم وإن لم يتواصل فها هنا أولى وإن لم نوجب ثم فها هنا وجهان لأن الفعل متحد ولا خلاف أنه لو أخذ طرف منديل فكان يجره ويخرج من الحرز شيئا شيئا وجب القطع لأن ذلك في حكم المتحد ولو أخرج نصفه وترك النصف الآخر في الحرز فلا قطع وإن كان القدر المخرج لو فصل لكان يساوي نصابا لأنه شيء واحد ولم يتم إخراجه
السادس لو جمع من البذر المبثوث في الأرض ما يبلغ نصابا وهو محرز فالصحيح وجوب القطع وقيل لا يجب لأن كل حفرة حرز حبة فلم يخرج من كل حرز إلا بعض النصاب
السابع إذا اشترك رجلان في حمل ما دون نصف دينار فلا قطع عليهما ولو حملا مقدار نصف لزمهما إذ يخص كل واحد نصاب فإن قيل كيف يجب القطع بالتقويم وهو مجتهد فيه قلنا ينبغي أن يقطع المقوم بأنه يساوي الربع فلو قال أظن أنه يساوي لم يجب
الشرط الثاني أن يكون مملوكا لغير السارق
فلا قطع على من سرق ملك نفسه وإن كان مرهونا أو مستأجرا وكذا لو طرأ ملكه قبل إخراجه بموت الموروث فلا قطع ولو طرأ بعد الإخراج لم يؤثر عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
ثم لو ادعى السارق الملك سقط الحد بمجرد دعواه إذ صار خصما يجب اليمين بدعواه على صاحب اليد فيبعد أن تقطع يده بيمين غيره وفيه قول مخرج أنه يجب الحد لأن هذا يصير ذريعة
ثم إذا فرعنا على النص فلو ادعى الملك لشريكه في السرقة أو لسيده وهو عبد سقط أيضا نعم لو كذب السيد أو الشريك سقط عن المدعي أيضا ولكن هل يسقط عن الشريك المكذب فيه وجهان أظهرهما أنه لا يسقط لأنه لم يدع لنفسه شبهة وقال القفال يسقط لأنه جرت الدعوى لو صدق لسقط فصار كما لو أقر المسروق منه للسارق فكذب فإنه لا قطع
الشرط الثالث أن يكون محترما
فلا قطع على سارق الخمر والخنزير لأنه لا مالية ولا حرمة ولا على سارق الطنبور والبربط والملاهي وإن كان الرضاض بعد الكسر يساوي نصابا مهما أخرجه على قصد الكسر وإن قصد السرقة فوجهان
أحدهما يجب لأنه لم يخرجه على الوجه الجائز
والثاني لا يجب لأن الحرز لا يتحقق معه وهو مسلط على الدخول والإخراج ويطرد هذا في أواني الذهب والفضة حيث يجب كسرها
الشرط الرابع أن يكون الملك تاما قويا
احترزنا بالتمام عما يكون للسارق فيه شركة أو حق فلو سرق أحد الشريكين مالا مشتركا من صاحبه فالظاهر أنه لا قطع عليه حتى لو لم يكن له من ألف دينار سرقة إلا دينار فلا قطع إذ لا جزء منه إلا وله فيه حق شائع فيصير شبهة ومنهم من قال لا أثر للشركة بل لو سرق نصف دينار من مال مشترك بينهما قطع إذ قدر النصاب ليس ملكا له مما أخرجه ومنهم من قال هو كذلك إن لم يكن المال قابلا للقسمة
أما إذا كان بينهما ديناران فسرق أحدهما دينارا فلا قطع ويحمل ذلك على قسمة فاسدة ولو سرق دينارا وربعا لزمه لا محالة
أما ما للسارق فيه حق كمال بيت المال ففيه وجهان
أحدهما أنه لا قطع لأنه مرصد لمصلحته إذا مست حاجته إليه ولا ينظر إلى استغنائه في الحال كالابن لا تقطع يده بسرقة مال أبيه وإن كان غنيا
والثاني أنه إن سرق من مال الصدقات من هو فقير فلا قطعوإلا فيجب وأما الإبن فلا قطع لأجل البعضية ويدل عليه أن الذمي لو سرق قطع ويتصور أن يقدر إسلامه وفيه وجه أنه يقدر كما يقدر الفقر في الغني
ولا خلاف في أن ما أفرز للمرتزقة أو ميز من الخمس لذي القربى واليتامى وقلنا إنه ملكهم فإذا سرقه من ليس منهم يقطع
فأما القوة فاحترزنا به عن الملك الضعيف كالمستولدة والوقف وفيهما وجهان أصحهما الوجوب لتحقق أصل الملك ولزومه
وأما المساجد ففي حصرها وقناديلها ثلاثة أوجه يفرق في الثالث بين القناديل والزينة وبين الفرش التي ينتفع به كل أحد وأما باب المسجد وأجذاعه وسائر أجزائه فيجب فيه القطع ويتجه فيه أيضا تخريج وجه من القنديل والظاهر أن من وطىء جارية منبيت المال حد كالابن يطأ جارية أبيه وفي جارية بيت المال وجه أنه لا يجب
الشرط الخامس كون المال نقيا عن شبهة استحقاق السارق
فمستحق الدين إذا سرق مال من عليه دين ومن عليه الدين غير مماطل قطع وإن كان مماطلا وسرق جنس حقه فلا قطع إذ له أن يمتلك ذلك وإن كان غير جنس حقه فالمذهب أنه لا قطع أيضا وقيل إنه يجب إن قلنا إنه لا يتملكه
أما استحقاق النفقة فهو سبب لإسقاط القطع فلا يقطع الابن بسرقة مال أبيه وجده وسائر أبعاضه لأن ماله مرصد لحاجته وهو محتاج إلى أن لا تقطع يده ولا ينظر إلى غنائه في الحال أما نفقة الزوجية ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا تقطع يد كل واحد من الزوجين بمال الآخر لما بينهما من الإتحاد العرفي وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله
والثاني أنه يقطع إذ هو اتحاد لا يوجبه الشرع
والثالث أن الزوجة لا تقطع لأجل حق النفقة والزوج يقطع
التفريع
إن قلنا لا يقطع فلو سرق عبد أحدهما من مال الآخر ففيهوجهان ووجه إيجابه أنه يلزم عليه أن لا يقطع ولد أحدهما بسرقة مال الآخر وكيف يمكن ذلك وولد الأب يقطع وهو الأخ
هذه وجوه للشبهة المعتبرة ويؤثر أيضا ظن السارق أنه ملكه أو ملك أبيه وأن الحرز ملكه
فأما كون الشيء مباح الأصل كالكلأ والصيد والحطب أو رطبا كالفواكه والمرق أو مضموما إلى ما لا قطع فيه أو كونه مسروقا مرة أخرى وقد قطع فيه أو متعرضا لتسارع الفساد كالمرق والجمد والشمع المشتعل فكل ذلك يقطع فيه عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
وأما الماء فإن قلنا إنه مملوك وبلغ نصابا وجب القطع فيه أيضا
ولا خلاف أنه لا يشترط كون المسروق في يد المالك بل لو سرق في يد الوكيل والمودع والمرتهن وغيرهم وجب القطع
الشرط السادس كونه محرزا
ونعنى المحرز ما يكون سارقه على خطر وغرر خوفا من الإطلاع عليه فلا قطع على من يأخذ مالا من مضيعة وعمدة الحرز اللحاظ فلا قطع على من سرق مالا من قلعة حصينة في برية لأنه لا خطر في أخذه بالنقب والحيل نعم إن لم يكن للموضع حصانة فلا بد من لحاظ دائم كالشارع والصحراء وإن كان له حصانة كالدور والحانوت فلا بد من أصل اللحاظ ولا يشترط دوامه إذ حيلة التسلق والفتح والنقب ينبه الملاحظين والمحكم فيه العرف
هذه هي القاعدة وشرحه بصور
الأولى أن الإصطبل حرز للدواب دون الثياب مهما كان متصلا بالدور لأن عسر نقل الدواب مع أصل الحصانة واللحاظ يوجب خطرا في سرقتها وأما الثياب فيتيسر نقلها واخفاؤها وكذلك عرصة الدار حرز للفرش وثياب البذلة دون الدنانير لقضاء العرف فإن واضع الدنانير فيه مضيع والمحكم فيه العرف
الثانية ما أحرز بمجرد اللحاظ كالمتاع الموضوع في الصحراء أو الشارع أو المسجد فلا بد من دوام اللحاظ بحيث لا يتفق إلا فترات لطيفة قد ينحذق السارق في معافصتها وقد يخطىء فيه ويسقط ذلك بالنوم وبأن يوليه ظهره ويضعف أيضا بأن يكون في محل لا يلحقه الغوث فلا يبالي السارق به لأنه ضائع مع ماله
وهل يسقط الحرز بزحمة الناس كما في المسجد المزحوم أو الشارع فيه وجهان
أحدهما أنه لا يسقط لأن اللحاظ يحيط بالمتاع
والثاني نعم لأن الحس يشتغل بتزاحم الناس فيذهب عن المتاع وهذا جار في الخباز والتاجر إذا ازدحم الناس على حانوتهم للمعاملة أما المسجد الخالي فالفعل فيه ملحوظ إلا أن يكون وراء ظهره فيكون مضيعا
الثالثة ما يعتمد حصانة الموضع مع أدنى لحاظ كالموضوع في الدار فهو محرز وإن نام صاحب الدار لأن حركة السارق تنبه المالك غالبا إن كان الباب مغلقا وإن كان مفتوحا بالليل فهو ضائع وإن كان بالنهار واعتمد فيه لحاظ الجيران لأن بابه مطروق ففيه وجهان
أحدهما أنه محرز كالمتاع على أطراف حوانيت البقالين والصباغين وغيرهم فإنه ملحوظ من جهة الجيران ومحرز به
والثاني لا لأن الأعين تقع على الأمتعة ولا تقع على قعر الدار ويتساهل الجيران إذا علموا بأن المالك فيه ولذلك ذكروا وجهين فيما لو كان المالك مستيقظا في الدار ولكن تغفله السارق فهذا إنما يكون إذا لم يكن لحاظ دائم يكون مثله في الصحراء محرزا لكن قد يتردد المالك في جوانب الدار فلا يديم اللحاظ فلو ادعى السارق أنه كان لا يديم اللحظ بل نام أو أعرض فيسقط الحد بمجرد دعواه كما في الملك
الرابعة أن الخيام ليست حرزا لأنه يمكن سرقتها في نفسها ولكن إحكام الربط وتنضيد الأمتعة قد يغني عن دوام اللحاظ وكذلك الدواب في الصحراء ملحوظة بأعين الرعاة إذا كانوا على نشز فأما من يسوق قطارا من الإبل قال الأصحاب هو محرز بالقائد وأقصى عدد القطار تسعة وهو صحيح إذا كان يسوق في الأسواق فإن الأعين تلاحظه وفي سكة خالية وهو يلحظه وراءه فإن انحرفت السكة فما غاب عن بصره فغير محرز أما إذا كان المكان خاليا وهو لا يلتفت فالصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله وهو أنه محرز بالسائق والمحرز بالقائد هو الأول وبالراكب مركوبه وما أمامه وواحد من ورائه
الخامسة لا قطع على النباش إن سرق الكفن من قبر في مضيعة وقيل إنه يجب لأنه محرز بهيبة النفوس عن الموتى وهو ضعيف ويجب القطع إذا سرق من قبر في بيت محروس وكونه كفنا لا يدرأ القطع عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
أما المدفون في مقابر المسلمين على أطراف البلد ففيه وجهان
أحدهما أنه يجب لأنه محرز بلحاظ الطارقين مع حصانة القبر وهيبة النفوس عن الميت فمجموع هذا يخرجه عن كونه ضائعا
والثاني أنه لا قطع لأنه بعيد عن الأعين ولا مبالاة بهيبة النفوس فإن قلنا يجب ففي الثوب الموضوع مع الكفن أو الملفوف على الميت زائدا على العدد الشرعي وجهان ووجه الفرق أن العرف لا يجعل هذا حرزا لغير الكفن كما لا يجعل الإصطبل حرزا لغير الدواب
ثم الصحيح أن حق الخصومة للوارث لأن الملك في الكفن للوارث على الأصح ولو كفنه أجنبي فالخصومة للمكفن وكأنه إعارة لا رجوع فيها وإلا فلا يزال ملكه إلى الميت
السادسة إذا كان الحرز ملكا للسارق فله ثلاثة أحوال
إحداها أن يكون مستأجرا منه فعليه القطع إذ ليس له الدخول والإحراز من منافع الدار وقد زال ملكه بالإجارة
الثانية أن يكون مستعارا منه وفيه ثلاثة أوجه
أحدها أنه لا قطع إذ له الدخول إلى ملك نفسه
والثاني يجب القطع إذ الدخول على هذا الوجه غير جائز وإنما يجوز بعد الرجوع ولم يرجع
والثالث أنه إن قصد الرجوع بدخوله فلا قطع وإلا قطع وهو كالمسلم إذا وطىء حربية في دار الحرب فإن قصد القهر والإستيلاد فولده نسب وإن لم يقصد فهو زان ولا نسب لولده منه
الثالثة أن يكون مغصوبا منه فلا قطع عليه وإن أخذ مال الغاصب لأنه لا حرز في حقه
أما إذا لم يكن الحرز ملكه ولكن فيه مال مغصوب منه فدخل وأخذ غير مال نفسه ففي القطع وجهان
أحدهما أنه يجب إذ أخذ مال غيره من ملك غيره والثاني لا لأن له التهجم على الموضع لأجل مال نفسه فسقط الحرز في حقه
أما إذا دخل غير المغصوب منه فإن أخذ مال الغاصب قطع وإن أخذ المال المغصوب ففيه وجهان مبنيان على أن غير المغصوب منه هل له انتزاع المال من يد الغاصب بطريق الحسبة
فرع الدار المغصوبة هل هي حرز عن المغصوب منه قال القفال رحمه الله ليس بحرز لأن منفعة الدار غير مملوكة والإحراز من المنافع وفي كلام غيره إشارة إلى أنه حرز
الركن الثاني نفس السرقة

وهي عبارة عن إبطال الحرز ونقل المال والنظر فيه يتعلق بثلاثة أطراف
الطرف الأول في إبطال الحرز وذلك إما بالنقب أو بفتح الباب وفيه صور
الأولى أنه لو نقب وعاد ليلة أخرى للإخراج فالظاهر وجوب القطع كالمتصل إلا أن يكون المالك قد اطلع وأهمل فإنه لا قطع إذ أخذه من مضيعة
وإن أخرج المال غير الناقب إما على الإتصال أو بعده فلا قطع إذ الأول لم يخرج والثاني أخذ من مضيعة وذكر العراقيون وجها في قطع المخرج إذا جرى ذلك عن تعاون كيلا يصير ذلك ذريعة إلى الإسقاط
الثانية إذا تعاون رجلان في النقب والإخراج جميعا وأخرجا ما يخص كل واحد نصابا قطعا ولا يشترط امتزاج الفعلين في النقب كما في قطع اليد لإيجاب القصاص أما الإخراج فلا بد وأن يأخذ كل واحد منهما قدر نصاب أو يحملا قدر نصف دينار معا فلو أخذ أحدهما سدسا والآخر ثلثا قطع صاحب الثلث دون صاحب السدس
الثالثة لو اشتركا في النقب وانفرد أحدهما بإخراج نصاب فعلى المخرج القطع لأن مشاركته في النقب كالإنفراد ولا يشترط امتزاج الفعلين بالنقب بل لو أخرج أحدهما لبنة والآخر لبنة هكذا تمت الشركة وفيه وجه أنه لا بد من الإمتزاج والتحاملعلى آلة واحدة حتى يصير كالمنفرد كالشركة في قطع اليد وفي إخراج المال
الرابعة لو اشتركا في النقب ودخل أحدهما وأخرج المال إلى باب الحرز وهو بعد في الحرز فأدخل الآخر يده وأخرج فالقطع عليه لأنه المخرج من الحرز ولو أخرج الداخل يده إلى خارج الحرز وأخذه الواقف فالقطع على الداخل ولو وضعه على وسط النقب فأخذه الخارج فقولان مشهوران
أحدهما لا قطع على واحد منهما إذ لم يتم الإخراج من أحدهما
والثاني أنه يجب عليهما إذ تم الإخراج بتعاونهما
الطرف الثاني في وجوه نقل المال وفيه صور
إحداها أنه لو أرسل محجنا فتعلق به في الحرز ثوب أو آنية وأخرجه قطع ولو رماه إلى خارج الحرز قطع أخذه أو تركه وقيل إذا لم يأخذ فلا قطع لأنه تفويت وليس بسرقة ولو أكل الطعام في الحرز وخرج فلا قطع ولو ابتلع درة وخرج فثلاثة أوجه
أحدها أنه لا يقطع كالطعام فإن استهلاك
والثاني أنه يقطع لأنه لا تهلك بالابتلاع
والثالث أنه إن أخذها بعد الإنفصال يقطع وإلا فلا
الثانية لو نقب أسفل كندوج فانصب إلى خارج الحرز قطع كما لو وضع المتاع على الماء حتى جرى به إلى خارج الحرز وقيل بينهما فرق لأنه لم يوجد في الكندوج إلا النقب والإنتقال لم يقع به وأما الإلقاء على الماء فهو سبب في النقل
الثالثة لو كان في الحرز متاع ودابة فوضع المتاع على ظهر الدابة فخرجت فالأظهر أنه لا قطع لأن الدابة ذات اختيار بخلاف الماء والقطع لا يجب بالسبب مع مباشرة حيوان ومنهم من قال إن تراخى سير الدابة عن الوضع فلا قطع وإن اتصل فيه وجهان وقيل إن اتصل قطع وإن تراخى ففيه وجهان
وكأن هذا خلاف في أن السبب هل يكتفي به لإيجاب القطع وإن كان يكفي لإيجاب الغرم وكذا لو أخذ شاة ليست بنصاب فاتبعها الشاء أو الفصيل فيخرج على الخلاف لأجل اختيار الدابة وقطع الشيخ أبو علي هاهنا بالوجوب
الرابعة العبد الصغير إذا اخذه وحمله من دار السيد أو حريم داره قطع فإن بعد عن سكة السيد وحريم داره فهو ضائع فإن دعاه وخدعه وهو مميز فلا قطع لأنه المستقل وإن كان لا يعقل فهو كالبهيمة وسوقها واستتباع الشاة بها وقد سبق وإن أكرهه وهو مميز فوجهان
أحدهما لا يجب لأنه خرج باختياره
والثاني يجب كما لو ضرب الدابة حتى خرج فإنه يقطع وجها واحدا لكن الآدمي وإن كان مكرها فاعتبار فعله أولى فلذلك ينقدح الفرق على وجه أما إذا حمل عبدا قويا يقدر على الإمتناع ولم يمتنع فلا قطع لأن حرزه قوته وهي معه ولو حمله وهو نائم أو سكران فهو ضامن لو مات في يده ولكن في كونه سارقا نظر لأنه محرز بقوته لا بالدار
الخامسة لو حمل حرا وأخرجه من داره وعليه ثيابه فإن كان قويا لم يدخل الثوب تحت يد الحامل وإن كان صغيرا ففي ثبوت اليد عليه وجهان فإن أثبتنا اليد للضمان ففي جعلهسارقا وجهان اما إذا نام على بعير وعليه امتعته فجاء السارق وأخذ زمامه وأخرجه من القافلة ففيه أربعة أوجه
أحدها أنه سارق للبعير والأمتعة إذ أخرجه من الحرز
والثاني لا لأن الكل تحت يد النائم وهو محرز بقوته
والثالث أنه إن كان الراكب قويا فليس بسارق وإن كان ضعيفا فهو سارق
والرابع أنه إن كان حرا فليس بسارق وإن كان عبدا فهو أيضا مسروق مع الأمتعة وهذا يستمد من الأصول السابقة
الطرف الثالث في المحل المنقول إليه
فنقول لو نقل المتاع من زاوية البيت إلى زاوية أخرى وهرب فلا قطع ولو أخرج وألقاه في مضيعة قطع وإن أخرجه إلى صحن الدار في البيت فإن لم يكن البيت مقفلا فلا قطع إذ جميع الدار حرز واحد وإن كان مقفلا وباب الدار مفتوح قطع وإن كان مغلقا أو مفتوحا بفتح السارق قطع أيضا فإن إبطاله الحرز لا يؤثر في حقه فالدار والبيت جميعا حرزان أما إذا كان الدار أيضا مغلقا والمال محرز بالبيت والدار جميعا ففي نقله إلى العرصة ثلاثة أوجه
أحدها أنه يجب لأنه أخرج من بيت مستقل بالإحراز
والثاني لا لأن إغلاق باب الدار لإكمال الحرز ولم يخرجه من كمال الحرز
الثالث أنه يجب فيما لا تجعل العرصة حرزا له كالدنانير والجواهر دون الفرش والأواني
أما الخانات فالإخراج من حرزها إلى عرصة الخان كالإخراج إلى عرصة الدار
أما السكة المنسدة الأسفل فإن كانت مملوكة كعرصة الخان فالنقل إليها من الدور سرقة إذ صحن الخان تلحظه الأعين وتوضع فيه الأمتعة بخلاف السكة
أما سكان السكة فالحجرة المقفلة حرز في حقهم والعرصة ليست بحرز في حقهم وهي حرز في حق غير السكان لأنها ملحوظة بالأعين نهارا وبابها مغلق ليلا وكذلك الضيف إذا سرق شيئا أو بعض الجيران إذا سرق من حانوت جاره حيث يحرز باللحاظ فلا قطع لأنه غير محرز فيه
الركن الثالث السارق

ولا يشترط فيه التكليف والإلتزام ويستوي في وجوب القطع الحر والعبد والذكر والأنثى ولا قطع على الصبي والمجنون ويجب على الذمي لإلزامه أحكامنا نعم هذا إذا سرق مال مسلم فإن سرق مال ذمي فهو موقوف على ترافعهم إلينا فإن زنى بذمية فلا يحد ما لم يرضوا بحكمنا وإن زنى بمسلمة أقمنا الحد قهرا كما سرق مال مسلم وقيل لا بد من رضاهم لأن حد الزنا حق الله ولا خصم فيه بخلاف السرقة وهذا ركيك إذ يجر ذلك فضيحة عظيمة فإنه لا يرضى بحكمنا وغايتنا نقض عهده ويجب تجديده إذا التزم وتاب
أما المعاهد إذا سرق ففي قطعه نصوص مضطربة وحاصلها ثلاثة أقوال
أحدها أنه كالذي لأجل العهد
والثاني أنه لا حد أصلا لأنه حربي دخل لسفارة
والثالث أنه يقطع إذا شرط ذلك عليه في ابتداء الأمان وإلا فلا
وسرقة المسلم ماله يخرج على سرقته مال المسلم إذ يبعد أن يقطع المسلم بسرقة ماله ولا يقطع بسرقة مال المسلم ولو زنى بمسلمة فطريقان منهم من قال كالسرقة ومنهممن قطع بانه لا يقام الحد لأنه حق الله تعالى لا يتعلق بطلب العبد ولا خلاف في أنه يطالب بضمان الأموال وإنما النظر في الحدود
النظر الثاني من الكتاب في إثبات السرقة ومعرفتها بيمين مردودة أو إقرار أو بينة
أما اليمين فإذا أنكر السرقة وحلف انقطعت الخصومة وإن نكل وحلف المدعي ثبت الغرم وثبت القطع أيضا كما يثبت القصاص باليمين المردودة
ولو ادعى استكراه جاريته على الزنا ثبت المهر باليمين المردودة ويبعد إثبات الرجم به لأن اليمين المردودة وإن جعلت بينة فلا تتعدى حق الحالف والرجم حق الله تعالى ومن هذا ينقدح احتمال أيضا في قطع السرقة
وأما الإقرار فإن كان بعد الدعوى ثبت به القطع بشرط الإصرار فإن رجع لم يسقط الغرم وفي سقوط الحد قولان
أحدهما أنه يسقط كحد الزنا
والثاني لا لارتباطه بحق الآدمي وبقاء الغرم الذي هو ملازم له ومنهم من عكس وقال القطع ساقط وفي الغرم قولان ووجه إسقاطه تبعية القطع وهو فاسد
أما إذا أقر باستكراه جارية على الزنا ثم رجع فالأصح أنه يسقط الحد ويجب المهر وقيل يحتمل أن يجعل كالسرقة ولكن مفارقة الحد للمهر أقرب من مفارقة القطع للغرم فلذلك يتردد فيه
وإن رجع السارق بعد القطع فلا تدارك فإن رجع في أثنائه كف الجلاد عن البقية إن قلنا يؤثر رجوعه
أما إذا أقر قبل الدعوى فهل يقطع دون حضور المالك وطلبه فيه وجهان ووجه اعتبار طلبه أنه ربما يقر له بالملك أو بالإباحة فإنه يسقط الحد وإن كذبه السارق
والصحيح أنه لو أقر بالزنا بجارية الغير فإنه يحد في الحال إذ لا مدخل للطلب فيه ومساق هذا يشعر بأن مالك الجارية لو قال كنت ملكته الجارية قبل ذلك فأنكر أن الحد يجب ولا يؤثر قول مالك الجارية فإنه لا يتعلق بخصومته فهو كما لو قالت الحرة كنت زوجته وكذبها فإنه يحد
فإن قلنا إنه لا يقطع في الحال ففي حبسه إلى حضور المالك خلاف يلتفت علىأنه هل يسقط برجوعه
هذا كله في الحر أما في العبد إذا أقر بسرقة لا توجب القطع فلا يقبل في المال ولا نعلقه برقبته دون تصديق السيد فإن أقر بما يوجب القطع قطعت يمينه وإن كذبه السيد خلافا للمزني وأبي يوسف رحمهما الله وإنما قبل لأنه غير متهم فيه
ثم هل يتعلق غرم المال برقبته تابعا لثبوت القطع فيه نصوص مضطربة وحاصلها أربعة أقوال
أحدها أنه لا يقبل لأنه إقرار على السيد لا على
العبد والثاني أنه يقبل لأن رقبته أيضا مملوكة للسيد فإن قبل في قطع يده لنفي التهمة فليقبل في الغرم أيضا ورد المال
والثالث أنه إن أقر بعين هي في يده قبل لأن ظاهر اليد للعبد فإن أقر بالإتلاف فلا يقبل لأن رقبته في يد السيد وهذا يوجب التعلق فيكون كما لو قال جميع ما في يد السيد أنا سرقته وسلمته إليه فإنا لا نقبل قطعا
والرابع عكسه وهو أنه يقبل إقراره بالإتلاف فإن السيد على الأصح يفدي بأقل الأمرين من قيمته أو قيمة العبد فقيمة العبد مرد الإضرار بالسيد أما الأعيان إن فتح باب الإقرار بها تضرر به السيد إذ لا مرد له
فإن قيل هل للقاضي أن يحث السارق على ستر السرقة أو الرجوع عن الإقرار قلنا أما الستر فيجوز مع رد المال لقوله صلى الله عليه وسلم للسارق
ما إخالك سرقت وهذا كالتلقين للإنكار وقوله
أسرقت قل لا لم تصححه الأئمة وأما الرجوع عن الإقرار
فلا يحث عليه القاضي لقوله صلى الله عليه وسلم
من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته نقيم عليه حد الله فدل ذلك على الفرق ما بين قبل الظهور وما بعده
الحجة الثالثة للسرقة الشهادة ولا يثبت القطع إلا بشهادة رجلين فإن شهد رجل وامرأتان ثبت الغرم دون القطع بخلاف ما لو شهدوا على القتل العمد فإنه لا يثبت القصاص ولا الدية لأن الدية كالبدل عن القصاص والغرم ليس بدلا عن القطع بل يجب معه وفيه وجه أن الغرم أيضا لا يثبت كالدية وهو ضعيف
ثم البينة الكاملة لا توجب القطع بالشهادة على السرقة مطلقا بل لا بد من التفصيل فيه فكم من سرقة لا توجب قطعا ولذلك يشترط التفصيل في الإقرار أيضا ويشترط في بينة الزنا وهل يشترط في الإقرار بالزنا فيه خلاف وسببه أن حد الزنا ظاهر ووجودهعند الزاني محقق وأما الشاهد فإنما يعول فيه على المخايل وحد السرقة غير ظاهر للسارق ولا شك أن النسبة إلى الزنا المطلق قذف لأن التعيير حاصل به
فرعان

أحدهما لو قامت شهادة حسبة على أنه سرق مال فلان الغائب فالنص أنه لا يقطع ما لم يحضر ولو شهدوا على أنه زنى بجاريته قال يحد في الحال فقيل قولان بالنقل والتخريج وطردوا ذلك في الإقرار في المسألتين ومنهم من فرق وهو الأصح لأنه أباحه الملك فإقراره بالملك يدرأ حد السرقة دون حد الزنا وله على الجملة تعلق بطلبه
فإن قلنا لا يقطع فهل يحبس يبني على أن شهادة الحسبة مقبولة في حق الله تعالى والظاهر أنه مردود في حقوق الآدميين والسرقة كالمترددة بينهما فينقدح فيه خلاف فإن لم تقبل لم يحبس وإن قلنا تقبل فيحبس ثم يكفي المالك إذا رجع أن يدعي ويستوفي المال فإن قلنا لا تسمع فيجب إعادة البينة لأجل المالوالظاهر أنه لا تعاد لأجل القطع
الثاني دعوى السارق الملك تدفع عنه القطع إذا لم تكن بينه فإن قامت البينة نظر فإن لم يكن في دعواه تكذيب الشهادة اندفع أيضا كما إذا شهدوا على أنه سرق من حرزه متاعا أو شهدوا على أنه سرق ملكه ولكن قال السارق كان قد وهب مني في السر والشاهد اعتمد على الظاهر
فأما إن قال كان ملكي أصلا وغصبته فهذا تكذيب للبينة ففي سقوط القطع ها هنا تردد ويحتمل أن يبنى على أن المدعى عليه بعد قيام البينة عليه لو قال المدعي يعلم سرا أنه ملكي وإنما الشاهد اعتمد ظاهر اليد فهل له تحليف المدعي فيه خلاف فإن قلنا له ذلك فها هنا يرجع وجوب القطع إلى يمين المالك وهو بعيد فلا يبعد إسقاطه
النظر الثالث من الكتاب في بيان الواجب

وهو الغرم والقطع والحسم والتعليق
أما رد العين فواجب بالاتفاق مع القطع فإن تلف وجب الغرم عندنا مع القطع وقال أبو حنيفة رحمه الله القطع والغرم لا يجتمعان
ثم الواجب القطع من الكوع وقال بعض أهل الظاهر من المنكب
ثم الواجب أولا قطع اليمين وفي الكرة الثانية قطع الرجل اليسرى حذرا من استيعاب جنس البطش أو المشي أو استيعاب أحد الجانبين فيتعذر المشي وفي الثالثة تقطع اليد اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى واقتصر أبو حنيفة رحمه الله في الثالثة على التعزير وقد ورد الخبر بما ذكرناه وورد في بعض الروايات فإن عاد خامسة فاقتلوه وقيل هو قول قديم للشافعي رضي الله عنه لكن هذه الزيادة شاذة
وأما الحسم فهو غمس محل القطع في الزيت المغلي لتنسد أفواه العروق والصحيح أن ذلك واجب نظرا للسارق كيلا يسري وهو إلى اختياره وعليه مئونته وفيه وجه أنه زيادة عقوبة حفا لله تعالى إذ لم تزل الأئمة يفعلون ذلك مع كراهية السارق
وأما التعليق فهو أن تعلق يده في رقبته وتترك ثلاثة أيام للتنكيل وقد ورد به خبر ولم يصحح ثم هو استحباب إن صح التنكيل إن رآه الإمام
فروع أربعة

الأول من سقطت يده اليمنى بآفة سماوية فإذا سرق قطعنا رجله اليسرى ولو سرق أولا ثم سقطت يده سقط القطع لأنه تعين الإستحقاق وقيل إنه يعدل إلى الرجل اليسرى وهو غلط
الثاني لو بادر الجلاد وقطع اليسرى فإن قصد فعليه القصاص وقطع اليمين باق وإن دهش وغلط فقد نص الشافعي رضي الله عنه في الأم على سقوط القطع ونقل أيضا أن الدية تجب باليسرى ثم يطقع يمينه فتحصلنا على قولين
وقال أبو إسحق المروزي لو سقطت يسراه بآفة سماوية قبل قطع اليمين فلا يبعد أن يجعل كغلط الجلاد وهو بعيد
الثالث لو كانت على يده أصبع زائدة قطعنا اليد ولا نبالي ولو كان ناقصا اكتفينا بالموجود ولو وجدنا أصبعا واحدة فإن لم نجد إلا الكف فالظاهر الاكتفاء به تنكيلا بقطع المعصم وفيه وجه أنه يعدل إلى الرجل اليسرى إذا لم يبق من آلة البطش شيء واليد عبارة عنها وأما اليد الشلاء فيكتفى بها إلا إذا خيف الهلاك لنزف الدم فيعدل إلى الرجل
الرابع لو كان للمعصم كفان قطعنا الأصلية وتركنا الزائدة إن أمكن وإلا قطعناهما وإن كانتا متساويتين ولا تبين الأصلية قال الأصحاب نقطعهما جميعا لنتيقن استيفاء الأصلية ولا نبالي بالزيادة
الجناية السادسة قطع الطريق

والنظر في صفة قطاع الطريق وفي عقوبتهم وفي حكم العفو
النظر الأول في صفتهم

والأصل فيهم قوله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيره فقال
أن يقتلوا إذا قتلوا أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا الأموال أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال أو يلحق الطلب بهم إذا هربوا لينفوا من الأرض
وقال داود يجمع بين هذه العقوبات لظاهر الآية وقال مالك رحمه الله الشاب يقطع والشيخ ذو الهرم يقتل ومن ليس له نجدة الشباب ولا رأي الشيوخ ينفىثم يعتبر عندنا فهيم صفتان النجدة والبعد عن محل الغوث
أما النجدة فلأنه إن لم يكن لهم شوكة بل كان اعتمادهم على الإختلاس والهرب فلا يجب به إلا التعزير ثم لا يشترط للنجدة الذكورة ولا السلاح ولا العدد بل لو اجتمع نسوة وكانت لهن شوكة فهن قطاع الطريق وقال أبو حنيفة رحمه الله لو كان في جميع القطاع امرأة سقط الحد
والضرب واللطم كإشهار السلاح بالإتفاق
والواحد إذا قاوم واحدا أو جمعا بفضل قوة فهو قاطع طريق ولا نقول إن المسافر الواحد مضيع لماله بل ماله محفوظ به إلا أن يقصد فمن قصده فهو قاطع
وقال الإمام ينبغي أن يرد ذلك إلى العادة فحيث يعد الواحد مفرطا فلا يجب على سالب ماله إلا التعزير
فرع
لو هجم على الرفاق قوم تستقل الرفقة بدفعهم من غير ضرر بين فاستسلموا فهم المضيعون وليسوا قطاعا لانهم لم يأخذوا بشوكتهم بل بتسليم الملاك إليهم وإن علموا أنهم لا يقاومون فهربوا منهم فهم قطاع وكذلك إذا كان الأمر في قوة الجانبين كالمتقاوم إذا تقاتلوا وانكف الفريقان من غير ظفر فالظاهر أنهم قطاع إن جرى قتل وسلب لأن الشوكة قد تحققت
وأما الصفة الثانية فهو بعدهم عن محل الغوث أما ما يجري من الأخذ على أطراف العمران فيعتمد فيه الهرب والاختلاس دون الشوكة إلا إذا فترت قوة السلطان وثار ذوو العرامة في البلاد فهم قطاع عند الشافعي رضي الله عنه وإن كانوا في البلاد أما إذا دخلوا في وقت قوة السلطان دار بالليل مع المشاعل مكابرين ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة وانصرفوا وهم متلثمون ففيهم وجهان
أحدهما أنهم قطاع ونزل منعهم من الإستغاثة كبعدهم عن محل الغوث
والثاني أنهم سراق فإن الطلب يلحقهم على القرب وإنما اعتمادهم على التواري والاختفاء
ولم يذهب أحد إلى أنهم مختلسون مع انهم لم يأخذوه في خفية واختزال
فإذن قد حصل أن قطاع الطريق من يعتمد على الشوكة في الحال مع بعد الغوث لا على الاختلاس والهرب في الوقت
النظر الثاني في العقوبة الواجبة

ويمتزج به النظر في جرائمهم ولهم في الجرائم أحوال
الأولى أن يقتصر على أخذ ربع دينار فصاعدا فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى سواء كان الربع ملكا لواحد أو لجماعة الرفقة وكذلك في السرقة لا يفرق بين الخالص والمشترك في النصاب مهما كان الحرز واحدا وقال ابن خيران لا يشترط النصاب
الثانية أن يقتصر على القتل المجرد فيقتل وليس فيه زيادة تغليظ إلا كون القتل محتوما كما سيأتي
الثالثة أن يقتصر على الإرعاب وتكثير الشوكة وكان ردءا للقوم فعليه تعزير وقال أبو حنيفة رحمه الله هو شريك
الرابعة أن يجمع بين الأخذ والقتل فالمذهب المشهور أنه يصلب ويقتل ولا يقطع ويكون الصلب زيادة تنكيل وتغليظ لأجل الجمع وقال أبو الطيب بن سلمة تقطع يده ورجله لأخذه ويقتل لقتله ويصلب لجمعه بينهما وذكر صاحبالتقريب وجها أنه إن أخذ نصابا وقتل قطع وقتل ولم يصلب وإن أخذ أقل منه قتل وصلب ولم يقطع ويكون الصلب لأجل الأخذ والمذهب هو الأول وقال أبو حنيفة الإمام بالخيار إن أحب قتل وصلب ولم يقطع وإن أحب قطع وقتل ولم يصلب
ثم إذا جمعنا بين القتل والصلب فالمذهب أنه يقتل على الأرض ثم يصلب مقتولا وفيه وجه أنه يقتل مصلوبا إما بأن يترك حتى يموت جوعا على وجه أو يقصد مقتله بحديدة مذففه على وجه وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله
ثم كم يترك على الصليب فيه قولان
أحدهما أنه يترك ثلاثة أيام
وعلى هذا إن كان يتعرض للتهري قبله فهل يترك فعلى وجهين
أحدهما لا يترك ثلاثة أيام لأن التنكيل قد حصل فيصان عن التفتت والنت
والقول الثاني أنه يترك حتى يتهرى ويسيل ودكه لأن الصليب اسم الودك ومنه اشتق اسم الصليبوالصحيح أنه يقتل أولا ويغسل ويصلى عليه ثم يصلب ولا سبيل إلى ترك الصلاة بكل حال خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ويتعذر على قول من يقتله بعد الصليب ثم يترك حتى يتهرى نعم وإن قلنا يقتل بعد الصليب ولكن ينزل بعد ثلاث فيمكن أن يسلم إلى أهله للغسل والصلاة بعد الاسترسال فأما عقوبة النفي فالصحيح أنها غير مقصودة بل إن وجدوا أقيم الحد والتعزير وإلا لحق بهم طلب أعوان السلطان حتى يتشردوا في البلاد وينتفوا من تلك الأرض ومنهم من قال هي عقوبة مقصودة في حق من اقتصر على الإرعاب ثم منهم من قال ينفيهم الإمام إلى بلد معين ويعزرهم بها إما ضربا أو حبسا ومنهم من قال له أن يقتصر على النفي
النظر الثالث في حكم العقوبة
وله حكمان
الأول أن التوبة قبل الظفر مؤثر فيها لنص القرآن العظيم فيسقط بها تحتم القتل دون أصله على الظاهر ويسقط به الصلب وقطع الرجل أما قطع اليد هل يسقط إذا كان المأخوذ نصابا فيه وجهان أحدهما لا كأصل القتل وإنما الذي يسقط خاصية قطع الطريق
والثاني وهو الأصح أنه يسقط لأن هذا يخالف صورة السرقة واليد والرجل كعضو واحد هاهنا وكذلك إن وجدنا رجله اليسرى دون يده اليمنى اكتفينا به ولم نقطع يده اليسرى ومهما عاد ثانيا قطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى
أما التوبة بعد الظفر ففيه قولان يجريان في جميع حدود الله تعالى
أحدهما أنه لا يؤثر لأن القرآن خصص ما قبل التوبة
والثاني أنه يسقط لأنه إن خصص هاهنا فقد أطلق في آية السرقة فقال تعالى { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح }وقال القاضي قرنت التوبة هاهنا بالإصلاح فيدل على أن التوبة بعد الظفر لا تؤثر إلا بعد الإستبراء وصلاح الحال إذ يمكن أن يكون للهيبة
وعلى الجملة فمن ظهر تقواه وحسنت حاله امتنع مؤاخذته بما جرى له في الجاهلية أما إذا أنشأ التوبة حيث أخذ لإقامة الحد فهو متهم والتوقف إلى استبرائه مشكل إن حبس وإن خلي فكيف نتبع أحواله
الحكم الثاني أن هذا القتل قد ازدحم عليه حق الله تعالى ولأجله تحتم وإن عفا ولي القتيل عن حق القتيل فإنه معصوم ولا شك في أنه إذا جرح خطأ أو شبه العمد فلا يقتلوإن تمحض العمد فقد تعلق به حق الله تعالى قطعا فإنه يقتل وإن عفا ولي القتيل ولكن هل يثبت للقتيل حق مع حق الله تعالى للشافعي رضي الله عنه فيه قولان وتظهر فائدته في خمس مسائل
إحداها لو قتل ذميا أو عبدا أو أمة ومن لا يكافئه بالجملة فإن محضنا حق الله تعالى قتل وإن قلنا فيه قصاص لم يقتل وهكذا لو قتل عبد نفسه قال القاضي يخرج على القولين وقطع الصيدلاني بأنه لا يقتل وإن جعلناه حدا لأنه مملوكه فلا يصلح لمقاتلته ومخاصمته في القتال
الثانية إن مات القاتل وقلنا إنه محض حد فلا دية للقتيل وإن قلنا فيه حق الآدمي فله الدية
الثالثة إذا قتل جماعة اكتفي به إن جعلناه حدا وإلا قتل بواحد وللآخرين الدية
الرابعة لو عفا الولي على مال فلا أثر له إن جعلناه حدا وإلا فله الدية ويقتل حدا وهو كمرتد استوجب القصاص وعفي عنه
الخامسة لو تاب قبل الظفر سقط الحد وبقي القصاص حتى يسقط بعفوه إن جعلنا له حقا وإلا فيسقط بالكلية
ولعل الأصح الجمع بين الحقين ما أمكن فإن سقط الحد بالتوبة أو القصاص بالعفو فيبقى الآخر خاليا عن الزحمة فيستوفى فأما إسقاط القصاص والحد أو الدية فبعيد جدا
فروع

الأول إذا جرح المحارب جرحا ساريا فهو كالقتل في التحتم وإن كان الجرح واقفا فلا قصاص فيه كالجائفة فلا يجرح فإن قطع عضوا فيه قصاص استوفى وهي يتحتم فيه ثلاثة أقوال
أحدها نعم كالنفس
والثاني لا لأن القتل عهد حدا فلذلك يتحتم بخلاف القطع
والثالث أن قطع اليدين والرجلين يتحتم إن عهد حدا في السرقة بخلاف الأذن والعين وسائر الأعضاء
الثاني يثبت قطع الطريق بشهادة أهل الرفقة يشهد كل واحد لرفيقه لا لنفسه ولا يصرح ولو قال تعرضوا لنا ولرفقائنا فسدت صيغة الشهادة وكذا لو قال الشاهد قذفني مع أم فلان فلاتقبل شهادته
الثالث يوالي بين قطع اليد والرجل بخلاف ما لو استحق يسراه في القصاص ويمناه في السرقة فإنه يقدم القصاص ويمهل ريثما يندمل لأن الموالاة عظيم الضرر لكنالقطعين في المحاربة عقوبة واحدة ولو استحق يمينه قصاصا قطعت اليمين في القصاص ويكتفي بالرجل اليسرى وهل يمهل ريثما يندمل فيه وجهان
أحدهما يمهل لاختلاف العقوبة
والثاني لا لأن الموالاة كانت مستحقة فإن فاتت اليد فيبقى استحقاق الموالاة
وإنما يقدم القصاص على حد السرقة والحراب ولا يبني على الخلاف في تقديم حق الآدمي وحق الله تعالى إذا اجتمعا لأن الخلاف في الأموال التي لا يسقط عنها حق الله تعالى بالشبهة وأما حدود الله تعالى فتسقط بالشبهة والرجوع عن الإقرار فيقدم عليها حق الآدمي
الرابع إذا اجتمعت عقوبات للآدميين كحد القذف وقطع الطريق والقتل فإن ازدحموا على الطلب يجلد ثم يقطع ثم يقتل ولا يبادر بالقطع عقيب الجلد إن كان مستحق القتل غائبا إبقاء على روحه حتى لا يفوت القصاص ولو كان حاضرا وقال لا تتركوا الموالاة لأجلي فإني أبادر بعد القطع وأقتل ففيه وجهان
أحدهما أنه يبادر ولا يمهل لأن النفس مستوفاة فلا معنى للتأخير لأجل المقتول ولا لأجل المستحق وقد رضي
والثاني أنه يمهل فإنه ربما يعفو مستحق القتل فتصير النفس هدرا بالموالاة
أما إذا أخر بعضهم حقه فإن كان المؤخر مستحق النفس قدم الجلد ويمهل ثم يقطع وإن كان المؤخر مستحق الطرف فلا يمكن البدار إلى القتل ففيه تفويت الطرف فيجب على مستحق النفس الصبر وهذا يؤدي إلى أن يصير مستحق الطرف إلى غير نهاية ويندفعالقتل ولا صائر إلى أن مستحق النفس يسلط على القتل ويقال لصاحب الطرف بادر إن شئت وإلا ضاع حقك ولو قيل به لكان منقدحا لكنه لو بادر وقتل بغير إذن وقع الموقع ورجع صاحب الطرف إلى الدية
أما إذا كان المجتمع حدود الله تعالى كحد الشرب وجلد الزنا وقطع السرقة والقتل فالبداية بالأخف وهو ترتيب مستحق ثم يمهل إلى الإندمال حتى لا يفوت القتل بالموت بالسراية فإن لم يبق إلا القتل فلا إمهال
ولو كان بدل جلد الزنا جلد القذف فجلد الشرب أخف منه ولكن هل حق الآدمي مقدم ففيه وجهان
أحدهما أن البداية في الشرب لأنه اخف
والثاني أنه يبدأ بحد القذف لأنه حق الآدمي
وكذا الخلاف لو كان بدل حد القذف قطع قصاص للآدمي
ولو زنى وهو بكر ثم زنى وهو ثيب فقد اجتمع الجلد والرجم فالظاهر الاكتفاء بالرجم واندرج الجلد تحته وفيه وجه أنه يجلد ثم يرجم لأنه لا تداخل مع الاختلاف
الجناية السابعة شرب الخمر

والنظر في الموجب والواجب
أما الموجب فنقول يجب الجلد على كل ملتزم شرب ما أسكر جنسه مختارا من غير ضرورة وعذر
أما قولنا ملتزم احترزنا به عن الحربي والمجنون والصبي فلا حد عليهم
وقولنا أسكر جنسه إشارة إلى أن ما أسكر كثيره فقليله وإن لم يسكر يوجب الحد ككثيره وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الحد بقليل الخمر وإن لم يسكر وسائر الأشربة لا يحد فيها إلا في القدر المسكر
وقولنا مختارا احترزنا به عن المكره فإنه يباح له الشرب لدفع ضرر الإكراه فلا يحد بخلاف الزنا فإن فيه خلافا ولا خلاف أن الزنا لا يباح بالإكراهوقولنا من غير ضرورة أردنا به أن من غص بلقمة ولم يجد غير الخمر فله أن يسيغها بها وكذلك إذا خاف الهلاك من العطش وأما التداوي بالخمر في علاج الأمراض فلا يجوز لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقوله
إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ولأن الشفاء به مظنون بخلاف دفع العطش وإساغة اللقمةولكن يجوز التداوي بالأعيان النجسة كلحم السرطان والحية والمعجون الذي فيه الخمر لأن تحريم الخمر المسكر مغلظ وتركه مقصود لا يقاومه ظن الشفاء
وأما الزجر عن تناول النجاسات مع أن مصير الأطعمة إلى النجاسة فهو من قبيل المروءات المستحسنة فيجوز أن تزول بعذر المرض وقد قال القاضي لا يحد الشارب إن قصد التداوي بها فكأنه جعل ذلك شبهة في الإسقاط ولم يصرح أحد بجواز التداوي بهاوقولنا من غير عذر احترزنا به عن التداوي إذ الظاهر أنه لا حد وإن عصى وعن حدث العهد بالإسلام إذا لم يعلم التحريم وكذا الغالط إذا ظنه شرابا آخر قال الشافعي رضي الله عنه لو سكر مثل هذا الرجل لم يلزمه قضاء الصلوات لأنه كالمغمى عليه وقال لو شرب الحنفي النبيذ حددته ونص أن الذمي لا يحد وإن رضي بحكمنا وسببه أن الحنفي في قبضة الإمام والحاجة قد تمس إلى زجره بخلاف الذمي الذي لم يلتزم حكمنا ومن أصحابنا منقال لا يحد في المسألتين ومنهم من قال يحد في المسألتين
ثم الموجب بقيوده يجب أن يظهر للقاضي بشهادة رجلين أو إقرار صحيح ولا يعول على النكهة والرائحة فلعله غلط أو أكره
ولو قال مطلقا شربت المسكر أو قال الشاهد شرب مسكرا أو شرب شرابا شربه غيره فسكر كفى ذلك ولو تقدر احتمال الإكراه مع ظاهر الإضافة
الطرف الثاني في الواجب

والنظر في قدره وكيفيته
أما القدر فأربعون جلدة وأصله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب فقال
اضربوه بالنعال فضربوه بالنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال بكتوه أو عيروه ونحوه ثم قال أرسلوه فلما كان في زمان أبي بكر رضي الله عنه أحضر الذين شاهدوا ذلك فعدلوه بأربعين جلدة فكان يجلد أربعين وكذلك عمر رضي الله عنه في صدر خلافته حتى تتايع الناس بشرب الخمر واستحقروا ذلك فشاور الصحابة فقال علي رضي الله عنه من شرب سكر ومن سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفترين فكان عمر رضي الله عنه يجلد ثمانين وعثمان رضي الله عنه يجلد ثمانين ثم عادعلي رضي الله عنه إلى أربعين وروي عنه أنه عليه السلام أمر حتى جلد الشارب أربعين وروي أنه قال إن شرب فاجلده فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه ولا خلاف أن القتل منسوخ في الشرب
ثم اختلف الأصحاب في شيئين
أحدهما أنه هل يكفي الضرب بالنعال وأطراف الثياب والحديث يدل على جوازه ومن منع قال ذلك لا ينضبط فقد كفينا مئونة التعديل فيتبع
الثاني أن الإمام لو رأى أن يجلد ثمانين هل له ذلك فمنهم من منع لرجوع علي رضي الله عنه ومنهم من جوز
أما الكيفية فالنظر في السوط ورفع اليد والضرب والزمان
أما السوط فليكن وسطا ويقوم مقامه الخشبة الزائدة على القضيب الناقصة من العصا ولا ينبغي أن يكون في غاية الرطوبة ولا في غاية اليبس
وأما رفع اليد فلا يرفعه فوق الرأس فيعظم الألم ولا يكتفي بالرفع اليسير فلا يؤلم بل يراعي التوسط
وأما الضرب فيفرقه على جميع بدنه ويتقي المقاتل كالقرط والأخدع وثغرة النحر والفرج ويتقي الوجه ففيه نهي في البهائم فكيف في الآدمي ولا يتقي الرأس عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله لقول أبي بكر رضي اللهعنه للجلاد اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس
ولا تشد اليدان من المجلود بل يترك حتى يتقي إن شاء بيديه
ولا يتل للجبين بل يضرب وهو قائم
وتضرب المرأة وهي جالسة ويلف عليها ثيابها لكيلا تنكشف
وأما الزمان فلا بد من موالاة الضرب فلو فرق مائة سوط على مائة يوم لم يجز ولو ضرب خمسين في يوم وخمسين في يوم آخر قال إنه جائز والضبط فيه عسير فالوجه أن يقال إذا انمحى أثر الألم الأول لم يجز وإن كان باقيا جاز
هذا هو القول في الجناية الموجبة للحدود ولا بد من الاختتام بباب في التعزير
باب في التعزير

والنظر في الموجب والمستوفي والقدر وأصل الوجوب
أما الموجب فكل جناية سوى هذه السبعة مما يعصي العبد بها ربه فيستوجب بها التعزير سواء كان على حق الله تعالى أو على حق الآدمي إذ حق الآدمي أيضا لا يخلو عن حق الله تعالى
وأما المستوفي فهو الإمام وليس ذلك للآحاد إلا الأب والسيد والزوج أما الأب فلا يعزر البالغ والصغير لا يعصى لكن للأب الضرب تأديبا وحملا على التعلم وردا عن سوء الأدب وللمعلم أيضا ذلك بإذن الأب وكل ذلك جائز بشرط سلامة العاقبة فإن أفضى إلى الهلاك وجب الضمان على العاقلة ويكن شبه عمد ويتبين أنهم جاوزوا حد الشرع إلا ما يظهر كونه عمدا محضا ففيه القصاص
وأما السيد فالصحيح أن له تعزير عبده في حق الله تعالى وأما في حق نفسه فجائز بلاخلافوأما الزوج فلا يعزر زوجته إلا على النشوز على الترتيب الوارد في القرآن العظيم فإن كانت لا تنزجر بالضرب اليسير بل بضرب مخوف فلا يعزر أصلا لأن المبرح مهلك والخفيف غير مفيد
أما أصل الموجب فقد قال العلماء ما يتمحض لحق الله تعالى فالاجتهاد فيه إلى الإمام فإن رأى الصلاح في سحب ذيل العفو والتغافل عنه في بعض المواضع فعل وإن رأى الاقتصار على الزجر بمجرد الكلام فعل إذ المصلحة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال وكم تجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أقوام أساءوا آدابهم
أما المتعلق بحق الآدمي فلا يجوز إهمال أصله مع طلب المستحق لكن هل يجوز للإمام ترك الضرب والاقتصار على الزجر بالكلام إن رأى ذلك فيه وجهان
ولو عفا المستحق فهل للإمام التعزير فيه ثلاثة أوجهأحدها لا لأنه ليس المستحق
والثاني نعم لأن ذلك لا يخلو أيضا عن الجناية على حق الله تعالى وربما أراد الإمام زجره عن العود إلى مثله
والثالث أنه إن عفا عن الحد سقط وإن عفا عن التعزير فللإمام التعزير لأن أصل التعزير موكول إلى الأئمة
أما قدر الموجب فلا مرد لأقله وأكثره محطوط عن الحد ومنهم من قال يحط كل تعزير وإن عظم عن أقل الحدود وهو حد الشرب ومنهم من قال تعزير مقدمات الشرب يحط عن حده ولا يحط تعزير مقدمات الزنا إلا عن حد الزنا وكذلك تعزير مقدمات القذف فإن إمساك العبد سيده حتى يقتله غيره كبيرة أعظم من شرب قطرة من خمر وروى صاحب التقريب حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا يجلد فوق العشرة إلا في حد وقال الحديث صحيح فإن صح فمذهب الشافعي رضي الله عنه اتباع الحديث وإن لم يصحالحديث فيحط عن عشرين في حق العبد لأنه حد الشرب في حقه وفي حق الحر هل يحط عن العشرين الذي هو أقل ما يجب حدا كاملا أو عن الأربعين الذي هو حده فيه وجهان
وأما مالك رحمه الله فإنه جاوز الحد وجوز القتل في التعزير للاستصلاح وهو ضعيف إذ الاستصلاح التام يحصل بالحدود والتعزيرات والحبس فلا حاجة إلى القتل والله أعلم
وإذا فرغنا من موجبات الحدود فجدير بنا أن نشير إلى موجبات الضمانات سوى ما ذكرناه في كتاب الغصب
كتاب موجبات الضمانات

والنظر في ضمان الولاة وضمان الصائل وضمان ما أتلفه البهائم فنعقد في كل واحد بابا
الباب الأول في ضمان الولاة

والنظر في موجب الضمان ومحله
أما الموجب فالصادر عن الإمام إما تعزير وإما حد أو استصلاح
أما التعزير فمهما سرى وجب الضمان وتبين خروجه عن المشروع إذ المشروع ما لا يهلك وهو منوط بالاجتهاد ومشروط بسلامة العاقبة فيجب الضمان على كل معزر إذا لم تسلم العاقبة
وأما الحدود فهي مقدرة فيما عدا الشرب فإذا اقتصر فمات قلنا الحق قتله أما إذا مال عن المشروع فلا يخلو إما أن يكون في وقت أو قدر أو جنس
فإن كان في الوقت بأن أقامه في شدة الحر فالنص أنه لا يضمن وفي مثله في الختان يضمن وذكرنا فيه النقل والتخريج فكأنه يرجع حاصل الخلاف إلى أن التأخير مستحب أو مستحق
أما الجنس فشارب الخمر إذا ضرب بالنعال وأطراف الثياب قريبا من أربعين فمات فلا ضمان إلا على الوجه البعيد في أن ذلك غير جائزوإن ضرب أربعين فقولان
أحدهما لا ضمان كسائر الحدود
والثاني نعم لقول علي رضي الله عنه إن ذلك شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بشرط أن لا يصح الخبر في جلد الأربعين
فإن أوجبنا فالصحيح إيجاب كل الضمان وفيه وجه أنه يوزع على التفاوت بين ذلك وبين الضرب بالنعال في الألم وهذا شي لا ينضبط ولا يدرك أصلا
أما القدر فهو أن يضرب في حد القذف أحدا وثمانين فقولان
أحدهما أنه يجب عليه من الضمان جزء من أحد وثمانين
والثاني أنه يجب النصف نظرا إلى الحق والباطل إذ ربما أثر آلام السياط لا تتساوى
أما إذا ضرب في الشرب ثمانين ضمن الشطر لأنه زاد عن المشروع مثله فلو أمرالجلاد بثمانين فزاد واحدا اجتمع من الأصول ثلاثة أوجه
أحدهما أنه يسقط من الضمان أربعون من واحد وثمانين ويجب أربعون على الإمام وواحد على الجلاد
والثاني أنه يجب في مقابلة الباطل نصف موزع على الإمام والجلاد بالسوية
والثالث أنه يجعل الضمان أثلاثا فيسقط ثلثه ويجب على الإمام ثلثه وعلى الجلاد ثلثه
أما الإستصلاح فهو إما بقطع سلعة أو بالختان
أما السلعة فللعاقل أن يقطها من نفسه إن لم يكن فيه خوف فإن كان مخوفا لم يجز لإزالة الشين وهل يجوز للخوف على البقية فيه ثلاثة أوجه
أحدها لا لأن الخوف موجود في الترك والقطع فلا فائدة في القطع
والثاني الجواز إذ الخوف متساو فإليه الخيرة
والثالث أن القطع إن كان أسلم في الظن الغالب جاز وإن اعتدل الخوف فلا وكذلك الخلاف في اليد المتآكلة
أما من به ألم لا يطيقه فليس له أن يهلك نفسه فإن كان الموت معلوما مثل الواقع في نار لا ينجو منها قطعا وهو قادر على إغراق نفسه وهو أهون عليه اختلف فيه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله والأصح أنه له أن يغرق نفسه
رجعنا إلى الوالي والولي وليس لهما ذلك في حق العاقل البالغ إجبارا بل الخيرة إلى العاقل فإن فعلوا وجب القصاص
أما المولي عليه بالصغر والجنون فللأب أن يتعاطى فيهم ما يتعاطى العاقل في نفسه لإزالة الشين والخوف
أما السلطان فله ذلك حيث لا خوف ويكون قطعه كالفصد والحجامة وهو جائز له وإن كان في القطع خطر فليس للسلطان ذلك كما ليس له الإجبار على النكاح لأن مثل هذا الخطر يستدعي نظرا دقيقا وشفقة طبيعية وليس للسلطان ذلك فإن فعل حيث لم نجوز فتجب الدية وفي القود قولان ووجه الإسقاط الشبهة إذ هذا مما تقتضيه ولاية الأب وإن لم تكن تقتضيه ولايته ثم الصحيح أن الدية في خاص ماله وإن سقط القود لأنه عمد محض وحيث جوزنا للأب والسلطان ذلك فسرى قال القاضي وجب الضمان كالتعزير لأنه غير مضبوط وإنما جوزنا بالاجتهاد والصحيح ما قاله الأصحاب وهو سقوطالضمان لأن الجرح فيه خطر وقد جوز مع الخطر وإنما جوز من التعزير مالا خطر فيه وكيف يتعرض الولي لضمان سراية الفصد والحجامة وذلك يزجره عن فعله ويضر بالصبي نعم يتجه ذلك في الختان بعض الإتجاه فإنه ليس على الفور ولا فيه خوف والصحيح أيضا أنه لا ضمان
أما الختان فمستحق عند الشافعي رضي الله عنه في الرجال والنساء لأنه جائز مع أنه جرح مخطر فيدل على وجوبه والواجب في الرجال قطع ما يغشى الحشفة وفي النساء ما ينطلق عليه الاسم
ثم أول وجوبه بالبلوغ وليس يجب على الصبي بخلاف الغدة إذ تنقضي من غير فعل والاولى أن يبادر الولي في الصبي لسهولة ذلك عند سخافة الجلد فإن بلغ وامتنع استوفى السلطان قهرا فلا ضمان إذ وجب استيفاؤه إلا أن يفعل في شدة الحر فإن النص أنه يضمن وفيه تخريج سبق
النظر الثاني في محله

والإمام كسائر الناس فيما يتعاطاه لا في معرض الحكم أو في معرض الحكم على خلاف الشرع عمدا أما إذا بذل الممكن في الاجتهاد فأخطأ ففي الضمان قولان
أحدهما أنه كسائر الناس يجب عليه أو على عاقلته
والثاني أنه في بيت المال لأن الوقائع تكثر وهو معرض للخطأ فكيف يستهلك ماله وعلى هذا ففي الكفارة وجهان لأنها من جنس العبادات فتبعد عن التحمل ويجري القولان فيما لو ضرب في الشرب ثمانين وقلنا له ذلك ولا يجري إذا أقام الحد على حامل مع العلم فإنه مقصر والغرة على عاقلته قطعا وكذلك إذا قضى بقول عبدين أو كافرين أو صبيين وقصر في البحث فإن بحث فأخطأ جرى فيه القولان إلا أنه يمكن الرجوع على الشهود لأنهم تصدوا لما ليسوا أهلا له ومنهم من قال لا رجوع لأنهم صدقوا أو أصروا وليس القاضي كالمغرور إذ المغرور غير مأمور بالبحث وهو مأمور به
فإن قلنا يرجع ففي تعلقه برقبة العبدين أو لزومه في ذمتهما خلاف وفي الرجوع على المراهق نظر لأن قوله بعيد أن يعتبر الإلزام ولكن يمكن أن يجعل كجناية حسية ولذلك تعلق برقبة العبد على رأي
فإن كانا فاسقين ورأينا نقض الحكم بظهور الفسق بعد القضاء ففي الرجوع عليهم ثلاثة أوجه
أحدها أنه يجب كالعبدين
والثاني لا لأنهما من أهل الشهادة على الجملة
والثالث أنه يرجع على المجاهر دون المكاتم فإن عليه ستر الفسق بخلاف الرق فإنه لا يستر
أما الجلاد فلا ضمان عليه لأنه كيد الإمام وسيفه ولو ضمن لم يرغب أحد فيه وكذا الحجام إذا قطع سلعة بالإذن فلا ضمان عليه مهما كان القطع مباحا أما إذا قطع يدا صحيحة بالإذن ففي الضمان خلاف لأن المستحق أسقطحقه ولكنه مرحم
ولو قتل حر عبدا وأمر الإمام بقتله والجلاد شفعوي ففيه وجهان ينظر في أحدهما إلى اعتقاد الجلاد وفي الثاني إلى اجتهاد الإمام
وكذا الخلاف فيما لو كان الإمام شفعويا فأخطأ بذلك والجلاد حنفي فالنظر إلى جانب الإمام يوجب القصاص على الجلاد
وكل هذا إذا كان للجلاد محيص عن الفعل فإن لم يكن فهو كالمكره على رأي وقد ذكرناه
الباب الثاني في دفع الصائل

والنظر في
المدفوع والمدفوع عنه وكيفية الدفع
أما المدفوع فلا تفصيل فيه عندنا بل كل ما يخاف الهلاك منه يباح دفعه ولا ضمان فيه لأنه مستحق الدفع يستوي فيه المسلم والكافر والصبي والمجنون والبهيمة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب ضمان البالغ ويجب ضمان البهيمة الصائلة وله في الصبي والمجنون تردد
واختلف الأصحاب في مسألتين
إحداهما جرة تدهورت من سطح أو جدار مطل على رأس إنسان فدفعها فكسرها فمن ناظر إلى أنه مستحق الدفع ومن ناظر إلى أنه لا اختيار لها حتى يحال عليها فصار كالمضطر في المخمصة إلى طعام الغير فإنه يأكل ويضمن
الثانية إذا اضطر إلى طعام في بيته وعلى بابه بهيمة صائلة لا تندفع إلا بالقتل فهو مردد بين ضرورة المخمصة والصيال ففيه وجهان
وهذا حكم جواز الدفع
أما جواز الإستسلام فينظر إن كان الصائل بهيمة أو ذميا لم يجز ووجب الدفع إذ عهد الذمي ينتقض بصياله وإن كان مسلما محقونا فقولان
أحدهما الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه في وصف الفتن
كن عبدالله المقتول ولا تكن عبدالله القاتل
والثاني المنع لأن الصائل لا حرمة له لظلمه والمصول عليه محترم وإنما يؤمر بترك القتل في الفتنة خوفا من إثارة الفتنة
نعم يجوز للمضطرين في المخمصة الإيثار لأن الحرمة شاملة للجميع
وأما الصبي والمجنون فمنهم من ألحقهما بالبهيمة ومنهم من طرد القولين ووجه القطع بالمنع أن قتل الصبي يجب منعه على المكلف إذا قدر كيلا يبوء بالإثم لأنه صورة ظلم
أما المدفوع عنه فله ثلاث مراتب
الأولى ما يخصه وهو كل حق معصوم من نفس وبضع ومال وإن قل حتى يهدر الدم في الدفع عن درهم وحكي عن الشافعي رضي الله عنه قول قديم أنه لا يدفع عن المال بالقتل وهو غريب
الثانية ما يخص الغير وهو يقدر على دفعه منهم من طرد القولين في وجوب الدفع ومنهم من قطع بالوجوب إذ لا مدخل للإيثار هاهنا وهو حق الغير ومن الأصوليين من قطع بالمنع وقال ليس شهر السلاح في مثل ذلك إلى الآحاد بل إلى السلطان لأنه يحرك الفتن
الثالثة ما يتعلق بمحض حق الله تعالى كشرب الخمر فظاهر رأي الفقهاءوجوب الدفع بسبب الأمر بالمعروف ولو بالسلاح ومنهم من منع ذلك إلا للسلطان خوفا من الفتنة وذكرنا في ذلك تفصيلا طويلا في كتاب الأمر بالمعروف من كتب إحياء علوم الدين
أما كيفية الدفع فيجب فيه التدريج فإن اندفع بالكلام لم يضرب أو بالضرب لم يجرح أو بالجرح لم يقتل وإذا اندفع لم يتبع
ولو رأى من يزني بامرأة فله دفعه إن أبى ولو بالقتل فإن هرب فاتبعه وقتله وجب القصاص عليه إن لم يكن محصنا فإن كان محصنا فلا قصاص لأنه مستحق القتل وإن لم يكن للآحاد قتله وكذا من استبد بقطع يد السارق فلا قصاص ولكن لا بد من إقامة بينة عليه فإنه لا يسمع مجرد دعواه للزنا والسرقة
وتبنى على هذه القاعدة مسائل
الأولى لو قدر المصول عليه على الهرب فالظاهر أنه ليس له الدفع ومنهم من جوز وكأن الموضع حقه فلا يلزمه الهرب
ولو كان الصائل يندفع بسوط لكن ليس في يد المصول عليه إلا ما لو ضرب به لجرح فالظاهر جواز الضرب لأن المعتبر حاجته وهو لا يقدر على غيره ولذلك نقول الحاذق الذي يقدر على الدفع بأطراف السيف من غير جرح يضمن إن جرح والأخرق الذي يعجز عنه لا يضمن
الثانية لو عض يد إنسان فله أن يسل يده فإن ندرت أسنانه فلا ضمانوإن لم يقدر على السل فله أن يضع السكين في بطنه ويعصر أنثييه وقيل لا يجوز إلا أن يقصد العضو الجاني ليندفع وهو بعيد
الثالثة إذا نظر إلى حرم إنسان من صير الباب وكوة الدار عمدا فله أن يقصد عينيه بحصاة أو مدرة من غير تقديم إنذار فلو أعماه الرمي فلا ضمان وهذا على خلاف تدريج الدفع ولكن نظر رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته من صير بابه وكان بيده عليه السلام مدرى يحك به رأسه فقال
لو علمت أنك تنظرني لطعنت بها عينيك
وقال القاضي لا بد من تقديم الإنذار على القياس والحديث محمول على أنه لو أصر على النظر فلم يندفع بالإنذار وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله
وعكس صاحب التقريب وقال يستدل بهذا على أن الدفع جائز ابتداء من غير إنذار ويتأيد ذلك بقولنا إنه يجوز قتل المرتد بغتة من غير إمهال وإنذار والمذهب الفرق لأجل الحديث ولأن النظر إلى الحرم جناية تامة فإن ما رآه وانكشف له لا يستتر باندفاعه بعده فللنظر هذه الخاصية لكن لا خلاف أنه بعدالإندفاع لا تقصد عينه بالجناية السابقة فكأن المسلط هذه الخاصية مع وجود الجناية
والصحيح أنه لو استرق السمع من كوة لم تقصد أذنه من غير إنذار وإن كان ما سمعه قد فات ولكن أمر الكلام أهون من أمر العورات وفيه وجه أنه يلحق به
وإن كان الباب مفتوحا فنظر لم يقصد لأن التقصير من رب الدار
ولا فرق بين أن ينظر في الصير من ملك نفسه أو من الشارع أو من السطح فإنه يقصد
هذا إذا كان في الدار حرم غير متسترات فإن لم يكن فثلاثة أوجه
أحدها الجواز للعموم ولأن الإنسان قد يكون مكشوف العورة
والثاني المنع إذ أمن الاطلاع على المستترة وعلى الرجال أسهل
والثالث أنه يجوز القصد إن كان في الدار حرم وإن كن مستترات وإن لم يكن إلا الرجال لم يجز
ولا خلاف أنه إن كان للناظر حرم في هذه الدار فيصير ذلك شبهة فلا يقصد
ثم إن لم تحصل الشرائط وجب القصاص وإن حصل فرشقه بنشابة وجب القصاص بل لا يترخص إلا في قصد العين بخشبة أو مدرة أو بندقة فقد يخطىء وقد يصيب ولا يعمي وأما الرشق فقتل صريح فلا يجوز
الباب الثالث فيما تتلفه البهائم

وفيه فصلان
الفصل الأول أن لا يكون معها مالكها

فإن انسرحت في المزارع نهارا فلا ضمان على مالك البهيمة وإن انسرحت ليلا ضمن بذلك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ العادة حفظ الدواب ليلا من ملاكها وحفظ المزارع نهارا من أصحابها فالمتبع فيه التقصير
ولو انعكست العادة في موضع انعكس الحكم فيهما للمعنى من فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه وجه أنه لا ينعكس لأن ضبط العادة يعسر فيتبع الشرع كيفما تقلبت العادات
فرعان

أحدهما أن البهائم أيضا لا تخلو عن الراعي نهارا ولكن يعذرون في الغفلة عنها إذا سرحت بعيدة من المزارع فلو سرحها في جوار المزارع مع اتساع المراعي فهو مقصر فيضمن
الثاني لو سرحها ليلا فدخلت البساتين وأبوابها مفتوحة لم يضمن لأن التقصير في البستان من صاحبه إذ لم يغلق الباب والتقصير من رب البهيمة في حق المزارع الضاحية
الفصل الثاني أن يكون معها مالكها

فيضمن مالك الدابة ما أتلفته بيديها إذا خبطت وبرجليها إذا رمحت وبفيها إذا عضت وكذلك كل ما كان يمكن حفظ الدابة عنه من غير انسداد رفق الطرق
أما الضرر الذي ينشأ من رشاش الوحل وانتشار الغبار إلى الفواكه فلا ضمان إذ هو ضرورة الطرق ولا يمكن المنع منه نعم لو خالف العادة بالركض في شدة الوحل أو ترك الإبل في الأسواق غير مقطرة أو ركب الدابة النزقة التي لا يركب مثلها إلا في الصحاري ضمن لكونه مقصرا في العادة
فروع

الأول لو أفلتت الدابة ليلا عن الرباط فهو كما لو غلبت صاحبها وقد ذكرناه في باب الاصطدام
الثاني لو تخرق ثوب إنسان بحطب على دابة وهو مقابل ومبصر ووجده منحرفا فلا ضمان وإن كان مستدبرا أو ناداه المالك منبها فكمثله وإن لم ينبهه ضمن صاحب الدابة
الثالث إذا أدخل الدابة مزرعة فأخرجها صاحب المزرعة فانسرحت في مزرعة غيره فلا ضمان على المخرج فإن كانت مزرعة محفوفة بالزراع فلا يمكن إخراجه إلا به فيضمن إذ عليه الصبر ليرجع على رب البهيمة ومهما كان رب الدابة مقصرا ولكن مالك الزرع حاضر وقادر على التنفير فلم يفعل فلا ضمان إذ هو المقصر بترك التنفير في العادة
الرابع الهرة المملوكة إذا قتلت طير إنسان أو قلبت قدره ففي وجوب الضمان على مالكها أربعة أوجه أحدها أنه لا ضمان إذ ما جرت العادة بربط السنانير ليلا ونهار
والثاني يجب إذ يمكن شد الروازن وغلق الأبواب حتى لا تخرج
والثالث أنها كالدآبة يجب حفظها ليلا لا نهارا
والرابع بالعكس فإن الأطعمة تصان بالليل دون النهار
الخامس الهرة الضاربة بالطيور والإفساد أو تنجيس الثياب قال القاضي يجوز قتلها في حال سكونها لأنها التحقت بالفواسق فأشبه الذئب الذي لا يحل اقتناؤه وقال القفال لا يحل لأن هذه ضراوة عارضة على خلاف الجنس فتدفع في حال الضراوة فقط
والكلب الضاري كالهرة والاولى تشبيهه بالذئب
كتاب السير

ومقصود الكتاب بيان الجهاد والنظر في وجوبه وكيفيته وتركه بالأمان فنعقد في كل واحد باباالله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل
الباب الأول في وجوبه
وقد يجب على التعيين وقد يجب على الكفاية وهو الغالب والنظر في طرفين في الواجبات على الكفاية وفي المعاذير المسقطة
الأول في الواجبات

فالجهاد واجب على الكفاية وقيل كان على الصحابة رضوان الله عليهم فرض عين وكان من يتخلف يحرس في المدينة وكانوا يتناوبون ويغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سنة بعد أن نزل القتال
وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل ظهور شوكة الإسلام مأمورا بالدعوة والصبر على الأذى حتى نزلالحث على الجهاد
والآن فيجب على الإمام في كل سنة أو ما يقرب منها غزوة ينهض إليها جنده إدامة للدعوة القهرية وإظهارا للإسلام ثم يرعى النصفة في المناوبة بين الجند ولا يخصص بعض أقاليم الكفار ولكن يقدم الأهم فالأهم ويتشوف إلى بث النكاية والرعب في الجميع وإنما يصير الفرض على الكفاية لا على التعيين إذا كان الشيء مقصود الحصول في نفسه للشرع ولم يكن الشخص مقصودا بالامتحان وذلك ينقسم ثلاثة أقسام
قسم يتعلق بمحض الدين كإقامة المدعوة الحجاجية بالعلم والقهرية بالسيف فلا ينبغي أن تخلو خطة الإسلام عنه وهذا يتعلق بأصل الدين ومنها ما يتعلق بفروع الدين وشعاره كإحياء الكعبة بالحج كل سنة وإشاعة الأمر بالمعروف ورد السلام وهو من الشعائر وإن لم تتعلق به مصلحة كلية بل مصلحة حسن المعاملة وأما إقامة الجماعات والأذان سوى أيام الجمع ففيه تردد
القسم الثاني ما يتعلق بالمعاش كدفع الضرر عن محاويج المسلمين وإزالة فاقتهم فإن بقيت ضرورة بعد تفرقة الزكوات كان إزالتها من فرض الكفاية وإن بقيت حاجة ففي وجوب إزالتها تردد
وأما البياعات والمناكحات والحراثة والزراعة وكل حرفة لا يستغني الناس عنها لوتصور إهمالها لكانت من فروض الكفايات حتى الفصد والحجامة ولكن في بواعث الطباع مندوحة عن الإيجاب لأن قوام الدنيا بهذه الأسباب وقوام الدين موقوف على قوام أمر الدنيا ونظامها لا محالة
القسم الثالث ما هو كالمركب من القسمين كتحمل الشهادات وإعانة القضاة على توفية الحقوق وتجهيز الموتى ودفنهم وغسلهم وهذه مصالح ولكن يتعلق بها أيضا إظهار شعائر الدين
وهذه الفروض مذكورة في مواضعها وإنما نذكر الآن الجهاد والتعلم والسلام ولتعلم أنه إذا تعطل فرض كفاية في موضع أثم من علم ذلك وقدر على إقامته ويأثم من لم يعلم إذا كان قريبا من الموضع وكان يليق به البحث فلم يبحث أما من هو معذور لبعده أو لتعذر البحث عليه فلا يأثم
الطرف الثاني في مسقطات الوجوب
وهو العجز إما حسيا أو شرعيا
أما الحسي فهو الصبا والجنون والأنوثة والمرض والفقر والعرج والعمى فلا جهاد على هؤلاء لعجزهم وضعفهم وقيل الأعرج كالصحيح إن كان يقاتل راكبا وهو بعيد لعموم قوله تعالى { ولا على الأعرج حرج } ولأنه لا تندر الحاجة إلى الترجل في مضايق القتال
وكل من لا يملك نفقة الذهاب والإياب والمركوب فهو فقير وتفصيله ما ذكرت في الحج إلا في شيئين أحدهما أنه يشترط وجود السلاح هاهنا بخلاف الحج والآخر أنه لا يسقط الجهاد بالخوف من المتلصصين على الطريق وإن كانوا من المسلمين لأن أهم الجهاد مع المتلصصين ومصير هؤلاء إلى الخوف الأعظم
أما الموانع الشرعية فهو الرق والدين ومنع الوالدين
أما الرقيق فلا جهاد عليه كما لا جمعة ولا حج عليه ولا يلزمه الجهاد وإن أمره السيد إذ لا حق له في روحه حتى يغرر به ويعرضه للهلاك وكذلك لا يجب على العبد أن يدفع عن السيد إذا قصد بالهلاك مهما خاف على روحه بل سيده كالأجانب في هذا المعنى نعمإن خرج سيده للجهاد فله استصحابه للخدمة على العادة لا ليقاتل قهرا
أما الدين فالحال منه يمنع من الخروج إلا أن يرضى المستحق والمؤجل لا يمنع عن سائر الأسفار وإن قربت المدة وطال السفر لكن على المستحق الخروج معه إن شاء ليطالب
وأما سفر الجهاد ففيه أربعة أوجه أحدها أنه يمنع منه لأن المصير فيه إلى الموت وبه يحل الأجل بخلاف سائر الأسفار وهو ضعيف والثاني أنه كسائر الأسفار فلا يمنع والثالث أنه يمنع إلا إذا خلف وفاء بالدين والرابع أنه إن كان من المرتزقة لم يمنع إذ ربما كان وجهه في قضاء الدين من القتال وإلا فيمنع
وأما رضاء الوالدين فشرط روي أن رجلا جاء فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أجاهد معك فقال كيف تركت والديك فقال تركتهما يبكيان فقال ارجع وأضحكهما كما أبكيتهما
أما حج الإسلام بعد الإستطاعة فيجوز بغير رضاهما لأنه فرض عين وفي التأخير خطر والغالب السلامة مع أمن الطريق
أما سفر طلب العلم فإن كان العلم المطلوب معينا أو كان يطلب رتبة الإجتهاد حيث شغر البلد عن المجتهد فلا يشترط الإذن كالحج بل أولى لأنه على الفور وإن كان يطلب رتبة الفتوى وفي البلد مفتون ففيه وجهان الظاهر أنه يجوز بغير إذن لأنه حر مستقل وإنما عليه دفع ضرر التحزن في سفر مهلك كالجهاد ومنهم من قال لا بد من الإذن لأن دفع الضرر عنهما واجب وهذا ليس بواجب
أما الأسفار المباحة كالتجارة وغيرها مما فيه خطر كركوب البحر والبوادي المخطرة فلا يجوز إلا بإذن وما عدا ذلك فالظاهر جوازه لان في منعه إضرارا به أيضا وحقه أولى وفيه وجه إذا كان فوق مسافة القصر
وأما الأب الكافر فلا يجب استئذانه في الجهاد لأنه يكرهه لا محالة وأما سائر الأسفار فيحتمل أن يلحق فيه بالأب المسلم وفي إلحاق الأجداد والجدات بالوالدين احتمال ظاهر
فرع
لو رجع الوالد وصاحب الدين عن الإذن أو تجدد دين وبلغه الكتاب وهو في الطريق لزمه الانصراف إن قدر فإن كان الطريق مخوفا فالظاهر أنه يجب عليه الوقوف بقرية إن أمكن إذ غرضهم ترك القتال وإن بلغه الكتاب وهو في أثناء القتال لم يجز الإنصراف إن كان يحصل به تخذيل ووهن للمسلمين وإن لم يكن فثلاثة أوجه أحدها الوجوب كما قبل الاشتغالوالثاني أنه لا يجب لأن فتح هذا الباب يشوش القتال والثالث أنه يتخير لتعارض الأمرين
وقد ذكر بعض الأصحاب أن فرض الكفاية يتعين بالشروع كالجهاد وبنوا عليه أن من أنس في التعلم رشدا في نفسه لزمه الإتمام فإن صلاة الجنازة تتعين بالشروع
وقال القفال لا تتعين صلاة الجنازة وذلك في العلم أولى لأن كل مسألة عبادة منفصلة عن الأخرى والصلاة خصلة واحدة ولا يليق بأصل الشافعي رضي الله عنه تغيير الحكم بالشروع هذا كله في قتال هو فرض كفاية
أما إذا تعين بأن وطىء الكفار بلدة من بلاد المسلمين فيتعين على كل من فيه منة من أهل تلك البلدة أن يبذل المجهود ويحل القيد عن العبيد فلهم القتال بل يجب عليهم ذلك وكذلك على النسوة إن كان فيهن منة على حال
وإن كان في الأحرار استقلال دون العبيد ولكن تزداد بهم قوة قلب ففي انحلال الحبس عن العبيد وجهان
وكذلك لو حصل الكفاية بطائفة نهضوا وخرجوا فهل يتعين على الباقين المساعدة فيه وجهان ووجه إيجابه تعظيم هذا الأمر وتفخيم الرعب والزجر ولو تهجموا ولم يبق لهم مهلة الإستعداد فعلى كل واحد من المرأة والعبد والمريض أن يدفع بغاية الإمكان فإن علم أنه لو كاوح يقتل قطعا ولو استسلم أسر وربما يجد خلاصا فليس عليه المكاوحة
والمرأة إن علمت ذلك ولكن تعلم أنها تقصد بالفاحشة ففي وجوب المكاوحة وجهان أحدهما نعم حتى تقتل فإن الفاحشة لا تباح بخوف القتل والثاني لا لأن القتل معلوم والفاحشة موهومة
هذا في أهل الناحية ومن هو فيها دون مسافة القصر أما من وراء ذلك فيتعين عليهم المساعدة إن لم يكن دونهم كفاية وإن كان ففيه وجهان مرتبان على أهل الناحية وأولى أن لا يجب
ولا يشترط المركوب فيمن هو دون مسافة القصر وفيمن وراءه هل يعذر لعدم المركوب فيه وجهانأحدهما يعذر كما في الحج والثاني لا لأن هذا أهم وأعظم
فرع استيلاؤهم على موات دار الإسلام هل ينزل منزلة دخولهم البلاد فيه وجهان ولا شك أن الأمر أهون فيه إلا إذا خيف السراية
ولو أسروا مسلما أو مسلمين فهل يتعين القتال كما لو استولوا على الديار فيه خلاف والظاهر أنه يتعين إذا أمكن إلا حيث يعسر التوغل في ديارهم ويحتاج إلى زيادة أهبة فقد رخص فيه في نوع من التأخير ولكن لا يجوز إهماله هذا كله في الجهاد
أما العلم فمنه فرض عين وهو الذي لا بد منه في الصلاة والزكاة وغيرهما وإن كان تاجرا فيلزمه تعلم شروط المعاملة على الجملة دون الفروع النادرة كما ذكرناه في كتاب آداب الكسب من كتاب إحياء علوم الدين وقد فرقنا بين ما يجب على الأعيان وما يجب على الكفاية من العلم في كتاب العلم من كتاب الأحياء
وأما الأصول فلا يتعين على كل شخص إلا اعتقاد صحيح في التوحيد وصفات الله تعالى فإن اعتراه شك تكلف إزالته وليس عليه تعلم الكلام ولا بد في كل قطر منمتكلم مشتغل بإماطة الشبه وإبطال البدع وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الإقتصاد في الإعتقاد وفن الفقه لا يحتمل شرحه
وأما السلام فالإبتداء به سنه مستحبة على الآحاد وسنة على الكفاية من الجمع وصيغته أن يقول السلام عليكم وإن كان المخاطب واحدا تعميما للملائكة والجواب فرض معين على المخاطب وحده وإن كان المخاطب جمعا ففرض على الكفاية عليهم ولا يسقط الحرج بجواب غيرهم وصيغته أن يقول وعليكم السلام ويستحب أن يزيد ورحمة الله وبركاته ولو قال عليكم لم يكن جوابا ولو قال وعليكم ففيه وجهان ثم لا ينبغي أن يسلم على المصلي والذي يقضي حاجته وفي الحمام وعلى المرأة الأجنبية ويجوز في المساومة والمعاملة ويجوز على الأكل إذا لم تكن اللقمة في فيه فيعسر عليه الجوابأو الصبر إلى الإزدراد
وأما تشميت العاطس فمستحب وجوابه غير واجب ثم هو على الكفاية وذكرنا جملة من آداب السلام والتشميت في كتاب آداب الصحبة فليطلب منه
الباب الثاني في كيفية الجهاد
والنظر في تفصيل ما يجوز أن يعامل الإمام به الكفار إما في أنفسهم بالقتل والقتال أو الإسترقاق وإما في أموالهم بالإتلاف والإغتنام
النظر الأول في معاملاتهم بالقتل
وفيه مسائل
الأولى فيمن تجوز الإستعانة به في القتال والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون ولكن يجوز للإمام الإستعانة بالعبيد إذا أذن السادة وبالمراهقين إذا كان فيهم منة وبالمشركين إذا أمن غائلتهم أو علم أنهم لو تحيزوا إلى الكفار لم يعجز الإمام عن جمعهم وقد استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهود في بعض الغزوات
وأما المخذل الذي يضعف القلوب ويكثر الأراجيف فيخرج عن الصف إذا حضر فإن شره عظيم ولا يستحق السهم والرضخ وإن حضر وهو أقل ما يعاقب به
وأما الذمي إذا حضر من غير إذن الإمام ففي استحقاقه الرضخ خلاف لأنه من أهل نصرة الدار إذ هو يستوطن بها وإن حضر بعد النهي لم يستحق
المسألة الثانية فيمن يستأجر والمذهب أن استئجار المسلم باطل لأن الجهاد يقع عن فرضه فكيف يأخذ الأجرة وهو كالضرورة ولا يستأجر على الحج
هذا في حق الآحاد أما السلطان إن رأى أن يستأجر قال الصيدلاني يجوز وقدخولف فيه والصحيح أن ذلك جائز في معرض الإعانة في الأهبة والزاد للطريق وقد قال لو أخرجهم إلى الجهاد قهرا لم يستحقوا أجرة المثل على الإمام وزاد فقال لو عين الإمام شخصا لغسل ميت ودفنه لم يستحق الأجرة وما ذكره في الجهاد صحيح وإنما يصح في الدفن إذا لم تكن تركة ولا في بيت المال متسع فعند ذلك يصير من فروض الكفايات
أما استئجار العبد فجائز إن قلنا لا يجب عليهم القتال إذا وطىء الكفار بلاد الإسلام وإن قلنا يجب فقد ثبتت لهم أهلية القتال فيقع عنهم
وأما استئجار الذمي فجائز ولكنه جعالة أو إجارة فيه خلاف لما في أعمال القتال من الجهالة لكن الصحيح أنا نحتمل في معاملات الكفار لمصالح القتال ما لا نحتمل في غيره كما سيأتي في مسألة القلعة ولو جعلناه جعالة للزم تجويز الإنصراف من الطريق مهما شاء وهو بعيد ثم في جواز استئجارهم لآحاد المسلمين خلاف كما في الأذان
فرع إذا خرج أهل الذمة إلى الجهاد قهرا استحقوا أجرة المثل من رأس الغنيمة على رأي ومن بيت المال على رأي فإن خرجوا ولم يقفوا في الصف فلهم أجرة الذهاب ولو خلى سبيلهم قبل الوقوف لم يستحقوا أجرة مدة الرجوع لتعطل المنافع لأنهم على خيرتهم فيترددون كما شاؤوا ولو وقفوا ولم يقاتلوا فوجهان أحدهما أنهم يستحقون أجرة القتال كما يستحق المسلم السهم والثاني أنهم لا يستحقون إلا منفعة مدة الوقوف والإحتباس إن قلنا إن حبس الحر يوجب ضمان منافعه
المسألة الثالثة فيمن يمتنع قتله كالقريب والصبي والمرأة والراهب والعسيف
أما القريب فقتله منهي عنه لقطيعة الرحم وإذا انضمت المحرمية إلى الرحم كان آكد نهي النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة وأبا بكر رضي الله عنهما عن قتل أبويهما
وأما الصبيان والنسوان فلا يقتلون لمصلحة الإسترقاق ولأنهم أيضا ليسوا أهل القتالوكذلك لا يجوز أن ترشق المرأة بالنشاب إذا عجز عن استرقاقها ومهما شك في البلوغ كشف عن المؤتزر وعول على نبات شعر العانة فلو قال استعجلته بالدواء فإن قلنا إنه عين البلوغ فلا يقتل وإن قلنا إنه علامة صدق مع اليمين ولا يعول على اخضرار الشارب ويعول على ما خشن من شعر الإبط والوجه
وأما الراهب والعسيف والحارف المشغول بحرفته والزمن والشيخ الضعيف الذي لا رأي له ففيهم قولان أحدهما أنهم يقتلون لأنهم من جنس أهل القتال والثاني لا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى خالد رضي الله عنه وقال لا تقتل عسيفا ولاامرأة
وأما الشيخ ذور الرأي فيقتل إذا حضر وإن لم يحضر ففيه نظر والظاهر قتله والشيخ الأخرق إذا حضر فالظاهر أنه يقتل ويحتمل طرد القولين فإن قلنا لا يقتلون ففي إرقاقهم ثلاثة أوجه أحدها أنهم كالنسوة يرقون بنفس الأسر والثاني أن للإمام أن يرقهم إن شاء ولا يرقون بنفس الأسر والثالث أنه يمتنع استرقاقهم وهذا في غاية الضعف وعلى هذا في استرقاق نسائهم وذراريهم ثلاثة أوجه تسترق في الثالث نساؤهم دون ذراريهم لأنهم كأجرائهم وأجري في سبي أموالهم الخلاف وهو تفريع على بعيد ومنهم من ألحق السوقة بالعسفاء في منع القتل أيضا
المسألة الرابعة يجوز نصب المنجنين وإضرام النار وإرسال الماء على قلاع الكفار وإن علمنا أنه يتناول النساء والذراري لأن ذلك ليس قصدا إلى عينهم ولأنهم منهم وإنما الكف لنوع مصلحة
أما إذا تترس كافر بصبي أو امرأة فإن كان يقاتل لم نبال بقصده وإن أصاب ترسه وإن كان دافعا فقولانأحدهما جواز قصد الترس كما في القلعة والثاني لا لأن هذا قصد عينه ومنهم من قال القولان في الكراهية ولا تحريم
ولو تترسوا بهم في القلعة منهم من قال يقصد الترس وإن أمكننا فتح القلعة بغير ذلك زجرا لهم عن هذه الحيلة ومنهم من قال إن عجزنا عن القلعة إلا بقتلهم ففي جوازه أيضا قولان إذ نحن في غنية من أصل القلعة
أما إذا كان في القلعة مسلم فلا تضرم النار ولا ينصب المنجنيق إذا علمنا أنه يصيبه وإن كان موهوما فقولان أحدهما المنع إذ زوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم مسلم وربما أصبناه والثاني الجواز لأنه موهوم والقلاع قلما تخلو عن الأسارى فلا يمكن تحصينهم عنالقتال بأن يمسكوا في كل قلعة مسلما
فأما إذا تترس كافر بمسلم فلا يجوز قصد الترس وإن خاف القاصد على نفسه لأن غايته أن يجعل كالإكراه وذلك لا يبيح القتل فإن قتل الترس ففي وجوب القصاص قولان كما في المكره ومنهم من قطع بالوجوب وجعله كالمضطر في المخمصة
أما إذا تترس الكفار في صف القتال بطائفة من الأسارى ولو تركناهم لانهزم المسلمون وعلت رايتهم فمنهم من جوز قصدهم لأنهم سيقتلون من المسلمين أكثر منهم والجزئيات محتقرة بالإضافة إلى الكليات ومنهم من منع وقال ذلك موهوم فلا يقدم بسببه على سفك دم المسلم
المسألة الخامسة في الهزيمة وهي محرمة بعد التقاء الصفين إلا بشرطين أحدهما زيادة عدد الكفار على الضعف والثاني التحيز إلى فئة أخرى
والصحيح أنه لا يجوز لمائة من الأبطال أن يفروا من مائتين من الضعفاء وواحد وإنما يرعىالعدد عند تقارب الصفات ومنهم من قال اتباع الصفات يعسر فيرعى صورة العدد وكذلك الخلاف في فرار عشرين من ضعفاء المسلمين عن تسعة وثلاثين من أبطال الكفار ولا شك في أنهم لو قطعوا بأنهم يقتلون لو وقفوا من غير نكاية منهم في الكفار وجب الهرب إذ الذل في الوقوف أكثر إذا كان لا يرجى فلاح بحال وكذلك إذا لم يكن مع المسلمين سلاح جاز الهرب وإن كان يمكن الرمي بالحجارة ففي وجوب الهرب خلاف وإن علموا أنهم مغلوبون قطعا ولكن بعد نكاية ما ففي جواز المصابرة وجهان
وأما التحيز إلى فئة أخرى فهو مباح وإن كان تركه للقتال وانهزامه في الحال ينجبر بعزمه على الإتصال بفئة أخرى فأكثر المحققين على أن تلك الفئة وإن كانت على مسافة شاسعة جاز لعموم الآية ولأن هذا أمر بينه وبين الله تعالى ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزائم فإذا ظهرت له تلك العزيمة جاز التوجه إليهم ومنهم من قال لا بد من فئة يتصور الإستنجاد بهم في هذا القتال وإتمامه ولا يمكن ذلك إلا بمسافة قريبة
وعلى الوجه الأول هل يجب عليه تحقيق عزمه بالقتال مع الفئة الأخرى الظاهر أنه لا يجب لأن العزم قد رخص فإن زال العزم بعده فلا حجر إذ الجهاد لا يجب قضاؤه بلالصحيح أنه لا يلزم بالنذر فكيف يلزمه القضاء والمنهزم عاص ليس عليه إلا الإثم
وإن اعتبرنا الفئة القريبة فإذا لم تكن وجبت المصابرة إذ تعذر التحيز وحيث يجوز التحيز إنما يجوز إذا لم يدخل بسببه كسر على المسلمين وقوة على الكفار فإن أدى إلى ذلك فهو ممتنع والمتحيز إلى الفئة البعيدة قبل حيازة المغنم لا يشترك في المغنم وفي المتحيز إلى فئة قريبة وجهان
المسألة السادسة تجوز المبارزة بإذن الإمام وفائدته صحة أمانه لقرنه فإن استقل دون الإذن ففي جواز أمانه للقرن ونفوذه وجهان وفي جواز أصل الإستقلال بالمبارزة أيضا وجهان إذ قد يكون للإمام رأي في تعيين الأبطال وفي جواز حمل الغزاة رءوس الكفار إلى بلاد الإسلام خلاف منهم من قال هو مكروه إذ لا فائدة فيه إلا أن يكون نكاية في قلب الكفار فلا يكره
المسألة السابعة ينتهي جواز قتل الكافر بإسلامه وتحصل به عصمته وعصمة مالهوأولاده الصغار دون الكبار فإنهم يستقلون بالإسلام وينتهي أيضا ببذل الجزية ويمتنع بسببه استرقاق زوجته وبنته البالغة لأن الإناث لا يستقللن بالجزية ويستقللن بالإسلام وفي استرقاق زوجة المسلم إذا كانت حربية وجهان ولا يمنع منه كونها حاملا بولد مسلم لكن الرق لا يسري وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تسترق
التصرف الثاني في رقابهم بالاسترقاق
وهو جائز كالإغتنام ولكن النظر في العلائق المانعة وهي النكاح والولاء والدين
أما النكاح فمنكوحة الحربي تسترق وينقطع نكاحه سواء سبيت معه أو مفردة بل لو سبي الزوج انقطع عندنا نكاحه خلافا لأبي حنيفة رحمه الله وكذلك الحربية إذا كانت منكوحة ذمي فإن كانت منكوحة مسلم ففي جواز الإسترقاق وجهان أحدهما لا لأن نكاح المسلم كالأمان لها فترعى حرمة إسلامهوالثاني نعم لأن النكاح مؤبد ولا عهد لنا بأمان مؤبد
وعلى هذا ينقطع نكاح المسلم حتى لا تبقى أمة كتابية في نكاح مسلم فإن ذلك يمتنع ابتداء لا كدار حربي استأجرها مسلم فإنه تملك بالإغتنام ولا تنفسخ الإجارة إذ لا عسر فيه وذكر فيه وجه غريب أن النكاح لا ينقطع وأن ذلك يحتمل في الدوام وهذا إن أريد به أن يتوقف إلى إسلامها قبل انقضاء العدة فله وجه ما وإلا فلا وجه له أما إذا سبينا زوجين رقيقين مسلمين أو كافرين الأهل الحرب ففي انقطاع نكاحهما وجهان أحدهما لا لأن هذا كالشراء فإنه تبدل ملك لا ابتداء رق والثاني أنه ينقطع لان ملك السبي مبتدأ غير مبني على ملك الكافر
أما علقة الولاء فإن ثبتت لمسلم بأن أعتق عبدا كافرا فالتحق بدار الحرب فالمذهب أنه لا يسترق لعلقة ولاء المسلم فإنه لا يقبل الفسخ بخلاف نكاح المسلم إذ فيه وجهان أما زوجة الذمي فتسبى وفي معتقه وجهان وفي معتق المسلم أيضا وجه غريب أنه يسبى
أما علقة الدين فالمسبي إذا كان عليه دين لمسلم أو لذمي فيسترق ويبقى الدين في ذمته يتبع به إذا عتق إن لم يبق له مال فإن كان له مال لكن اغتنم قبل إرقاقه فكأنه لا مال له وإن اغتنم بعد إرقاقه فإنه يؤدي الدين منه وينزل الرق منزلة الحجر بالفلس ويتعلق به حق الغرماء ولذلك ينقدح المصير إلى حلول الدين برقه على أحد الوجهين كما في الفلس بل الرق بالموت أشبه من الفلسوإن سبي معه ماله فلا يقضي الدين من المال لأنه يتملك ماله بمجرد السبي ولا يرق إلا بصرف الرق بعده
أما المرأة إذا كان عليها دين فسبيت مع مالها قدم حق الغانمين لأن سبب الملك أقوى من سبب تعلق الدين بالمال ويحتمل أن يقدم الدين ويشبه بملك الوارث إذ يقدم حق الدين عليه وإن كان حلول الدين والوراثة يحصل معا بالموت هذا إذا استرق من عليه الدين أما إذا استرق من له الدين فلا تبرأ ذمة من عليه الدين بل هو كودائع الحربي المسبي وسيأتي
أما إذا ما استقرض حربي من حربي شيئا أو التزم دينا بمعاملة ثم أسلما أو قبلا الجزية أو الأمان فالإستحقاق مستمر وكذلك يبقى مهر الزوجة إذا أسلما إن لم يكن المهر خمرا أو خنزيرا ولو سبق المستقرض إلى الإسلام أو الذمة فالنص أن اللزوم قائم ونص على أن الحربي إذا ماتت زوجته فدخل دارنا فجاء ورثتها يطلبون مهرها فليس لهم ذلك فقيل قولان بالنقل والتخريج ووجه السقوط بعد طلب الحربي المال من مسلم أو ذمي في دارنا وهذا ضعيف إذ قطعوا بأن رق من عليه الدين لا يسقط دين الحربي وهو أمان وأنهما إن أسلما على التعاقب استمر الطلب ولو برئت الذمة بإسلام من عليه الدين لما عاد الطلب فلعل الشافعي رضي الله عنه أراد ما إذا كان الدين خمرا أو خنزيرا
أما إذا كان قد أتلف الحربي على حربي مالا أو قهره وأخذ ماله فلا ضمان عليه إذا أسلم أو قبل الجزية وإنما اللزوم بحكم التراضي وإتلاف مال الحربي لا يزيد على إتلاف مال المسلم ولا ضمان له بعد الإسلام وفيه وجه أنه يبقى الضمان لأن ذلك ملتزم فيما بينهمبشرعهم كما في معاملتهم بخلاف مال المسلم
فرع إذا سبى الوالدة وولدها الصغير فلا يفرق بينهما في القسمة والبيع لقوله صلى الله عليه وسلم لا تولة والدة بولدها والجدة عند عدم الأم في معناها ولو بيع مع الجدة عند وجود الأم فهل يسقط التحريم به فيه قولان ولا خلاف أنه يباع مع الأم دون الجدة والأب هل يلحق بالأم في تحريم التفريق فيه قولان فإن ألحقناه فهل يعدى إلى سائر المحارم قولان وأما حكم صحة البيع وتفاريعه فذكرناه في كتاب البيع
التصرف الثالث في أموالهم بالإهلاك

وكل ما يمكن اغتنامه لا يجوز إهلاكه ويجوز إحراق أشجارهم إذا رأى الإمام ذلك نكاية فيهم فإن توقعنا على القرب أن تصير للمسلمين لم يجز والمتبع فيه المصلحة
والمقصود أن لا حرمة للأشجار بخلاف البهائم فإنه لا يجوز قتلها غيظا لهم إلا قتل فرس المقاتل وهو عليه
وتتلف كتبهم المشتملة على الكفر وما لا يجوز الإنتفاع به وفي جواز استصحابه ليستعان به على معرفة تفصايل مذاهبهم تردد
وأما كلب الصيد في الغنيمة فلا يدخل في القسمة إذ لا ملك فيه لكن يخصص الإمام به من أراد
التصرف الرابع في أموالهم بالإغتنام

والغنيمة كل ما أخذه الفئة المجاهدة من أعداء الله تعالى على سبيل القهر والغلبة وأموال دار الحرب خمسة أقسام
أحدها ما ذكرناه
والثاني ما ينجلي عنه الكفار بالرعب من غير قتال وهو فيء وفي معناه كل مال وصل إلى المسلمين منهم بغير قتال
والثالث ما يستبد به آحاد المسلمين بسرقة واختلاس فهو لهم ولا يخمس شيء منه
والرابع صيد دار الحرب وحشيشه فهو كمباح في دار الإسلام
والخامس اللقطة وهي لآخذها إن لم يتوهم كونها لمسلم فإن توهم فلا بد من التعريف ثم الغنيمة لها أحكام
الأول جواز التبسط في الأطعمة ما داموا في دار الحرب وذلك رخصة ثبتت شرعا في الأطعمة خاصة قال ابن أبي أوفى كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاءوالنظر في جنس المأخوذ وقدره ومحله ووجه التصرف
أما الجنس فهو كل قوت أو ما يكمل به القوت كاللحم ومنه التبن والشعير للدواب أما السكر والفانيذ والعقاقير فلا لأن الحاجة إليها نادرة كالثياب وأما الفواكه الرطبة ففيها وجهان وكذلك الشحم إذا اخذ لتوقيح الدواب فإنه أخذ لا لتطعم لكن الحاجة إلى التوقيح تكثر
وأما الحيوانات فلا يتبسط فيها إلا الغنم فتذبح إن تعذر سوقه وإذا ذبح فهو طعام وقد ألحقه الشرع في اللقطة بالطعام وقال العراقيون يذبح الغنم وإن تيسر السوق ولكن هل يغرم من ذبحها وأكل منها فيه وجهان أما جلود الأغنام فمردودة إلى المغنم إلا ما يؤكل على الرءوس
أما القدر المأخذ فهو بقدر الحاجة ولا يشترط أن يأخذه من لا طعام معه إذ وردتالرخصة من غير تفصيل لكن له سد حاجته بطعام المغنم
ولو قدمه إلى من لا يشترك في المغنم كان كتقديم الطعام المغصوب إلى أجنبي ولو أخذ ما ظن أنه قدر حاجته فدخل دار الإسلام وبقي منه ماله قيمة رد على المغنم وإن كان نزرا فقولان وقد أطلق الأصحاب القولين من غير تفصيل بين القليل والكثير ولو لحق مدد قبل دخول دار الإسلام وبعد الإغتنام ففي جواز التبسط لهم وجهان
أما محل التبسط فما داموا في دار الحرب إذ لا يظفر فيها بالأسواق غالبا فإن وجد سوق في دار الحرب أو دخلوا أطراف دار الإسلام ولم يجدوا سوقا فوجهان ينظر في أحدهما إلى الحاجة وفي الثاني إلى ضبط مظنة الحاجة بالدار فإن ذلك لا ينضبط ودار الحرب عندنا في الأحكام كدار الإسلام وإنما هذا لأجل الحاجة
أما جنس التصرف فهو كالأكل وعلف الدواب فقط في حق الغانمين وإن أضاف أجنبيا كان كتقديم المغصوب إلى الضيف في وجوب الضمان وقراره فإن أتلف الطعام ضمنإذ لا حاجة إليه فليتلفه على وجه الرخصة
فرع
لو أخذ طعاما ثم أقرضه واحدا من الغانمين فالصحيح أنه كمناولة الضيفان بعضهم بعضا وكأن المستقرض هو الآخذ فلا يطالب برده وفيه وجه أنه قد اختص به أولا فيصح هذا القرض حتى يطالبه بمثله من طعام المغنم ما داموا في دار الحرب فإن لم يجد من طعام المغنم شيئا فلا طلبة إذ مجرد اليد لا تقابل بالملك كنحو اليد في الكلب ولو باع صاعا بصاع من طعام المغنم فلا حكم له بل هو كالإقراض حتى لو باع بصاعين لم يطالب إلا بصاع واحد إن صححنا القرض
الحكم الثاني للغنيمة سقوط الحق بالإعراض ومن أعرض عن الغنيمة يعد إعراضه لأن مقصود الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى فيقدر المعرض كأنه لم يكن ونشأ من هذا الخلاف في الغنيمة متى تملك وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنها تملك بالقسمة بدليل جواز الإعراض واثاني أنها بالإستيلاء تصير ملكا للغانمين لكن على ضعف كالملك في مدة الخيار بدليل أن من مات من الغانمين قام وارثه مقامه الثالث أنه موقوف فإنه أعرض بان أنه جرد قصده نحو إعلاء كلمة الله تعالى فلم يملك وإن قسم بان أنه ملك أولا وعلى هذا ترددوا في أن من قال اخترت القسمة ثم أعرض بعده فهل ينفذ إعراضه فمنهم من قال الإعراض جائز بعد ذلك ما لم تقسم والصحيح أنه يصح الإعراض بعد إفراز الخمس إذا لم تقسم بين الغانمين وقال ابن سريج لا يصح والنظر الآن في المعرض والمعرض عنه
أما المعرض فلو أعرض جميع الغانمين ففيه وجهانأحدهما أنه لا ينفذ إذ لا يبقي مصرف والثاني أنه يصح ويرجع إلى مصرف الخمس ولو أعرض جميع ذوي القربى عن حقهم ففي صحته وجهان ووجه المنع أنهم لم يستحقوا بالجهاد حتى يقال لم يقصد الغنيمة بل بالقرابة والغانم المفلس إذا أحاطت به الديون نفذ إعراضه ولا ينفذ إعارض السفيه ولا إعراض الصبي عن الرضخ إلا أن يبلغ قبل القسمة ولا يصح إعراض وليه عن حقه ولا يصح إعراض العبد عن رضخه ولكن يصح إعراض سيده
وأما المعرض عنه فهو الغنيمة والرضخ وحق ذوي القربى والسلب وقد ذكرنا جميع ذلك إلا السلب وفيه وجهان لأن السالب متعين فأشبه الوارث ومرتب على أقوال الملك مسائل
الأولى أنه لو سرق واحد شيئا من مال المغنم فهو كالمشترك فحيث وجب القطع في المشترك فهاهنا وجهان إذ كل واحد يمكن أن يستحق بإعراض الآخر
الثانية لو وقع في المغنم من يعتق على بعض الغانمين فالنص أنه لا تعتق حصته ما لم يقع في قسمته ولا يمنع ذلك عن الإعراض إن أراد ونص على أنه لو استولد جارية ثبت الإستيلاد لشركته لأن الإستيلاد اختيار منه للتمليك فثبت به ملكه في قدر حصته من الجارية وأما القريب فلم يوجد منه اختيار نعم لو اختار العتق حينئذ نفذ ومن أصحابنا من قال في المسألتين قولان بالنقل والتخريج ومأخذ القولين أصل التردد في ثبوت الملك وانتفائه
الثالثة لو وطىء جارية من المغنم ولم تحبل فلا حد على الصحيح والمهر يبتنى على أقوال الملك فإن قلنا لم يملك لكن ملك إن تملك فعليه كمال المهر ويوضع في المغنم وإن قلنا ملك فيحط عنه قدر حصته ويجب الباقي وإن قلنا إنه موقوف فإن وقع في حصته فلا شيء وإن وقع في حصة غيره فعليه جميع المهر فإن كثر الجند ولم يمكن ضبط حصته أخذنا المستيقن وحططنا المستيقن ويتوقف في قدر الإشكال أما إذا أحبل فحكم المهر والحد ما سبق
ويتجدد النظر في الإستيلاد وحرية الولد وقيمته
أما الإستيلاد إن قلنا لا يملك فلا ينفذ في الحال ولكن لو وقعت في حصته فهل ينفذ قولان يجريان في كل ملك طارىء فإن قلنا يملك ففي نفوذ الإستيلاد في حصته وجهان كما في زمان الخيار ومنهم من عكس وقال إن قلنا ملك نفذ في حصته وإن قلنا لا فقولان كاستيلاد الأب جارية الابن وأولى بالنفوذ لأن له حقا في الجارية بخلاف الأب فإن نفذنا في نصيبه سرى إن كان موسرا ونجعله موسرا بما يخصه من الغنيمة ولكن لو أعرض نفذ إعراضه ونجعله معسرا ولا نمنعه من الإعراض لتنفيذ عتقه
أما الولد فينعقد حرا نسيبا للشبهة وقال أبو حنيفة رحمه الله هو رقيق ولا نسب له وفي وجوب قيمة الولد قولان كالقولين في الجارية المشتركة مأخذهما أن الملك ينتقل قبيل العلوق أو بعده ثم مقدار حصته من قيمة الولد تتعرف كما ذكرناه في المهر ويسقط عنه وإن بعضنا العتقفي صورة المعسر فالولد هل يعتق جميعه لأجل الشبهة فيه وجهان جاريان في استيلاد الشريك المعسر وكذلك من وطىء امرأة نصفها حر ونصفها رقيق والأظهر أن يتبعض الولد هاهنا كالأم لا كالشبهة التي لا تختص ببعض المرأة وهل يجوز للإمام أن يرق بعض شخص ابتداء فيه وجهان والقياس جوازه
أما إذا فرعنا على الإستيلاد لا يحصل لضعف الملك وعدمه فالولد حر بسبب الشبهة ويعتق جميع الولد لاسترسال الشبهة وهذا يشير إلى أن الشركة أولى بأن تورث شهبة وإنما يتجه بعض رق الولد في امرأة نصفها حر ونصفها رقيق
ثم إذا لم ينفذ الإستيلاد وعتق الولد فهذه حامل بحر فالأصح منع بيعها ولا يمكن إدخالها في القسمة إن جعلنا القسمة بيعا فبالحري أن يطالب الواطىء بالقيمة للحيلولة ثم تقوم على الواطىء حتى تتعين لحصته من غير قسمة
أما إذا كان الواطىء من غير الغانمين فهو زان يحد إلا أن يكون له ابن في الغانمين أو وطىء قبل إفراز الخمس وقلنا إن الزاني بجارية بيت المال لا حد عليه
الحكم الثالث للمغانم أن الأراضي والعقارات تتملك عليهم إذا أمكن حفظها منهم وتقسم بين الغانمين
ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن أراضي العراق قسمها عمر رضي الله عنه بين الغانمين ثم خاف أن يتعلقوا بأذناب البقر والحراثة ويتركوا الجهاد فاستمال قلوبهم عنها بعوض وغير عوض ووقفها على المسلمين ثم آجرها من سكان العراق بخراج يؤدونه كل سنة وإجارته مؤبدة واحتمل ذلك لمصلحة العامة فلا يجوز بيع تلك الأراضي ويجوز لأربابها إجارتها لكن إجارة مؤقتة وفي إجارتها مؤبدة قولان الصحيح المنع لأنها احتملت في واقعة كلية ومصلحة عامة وليس لأحد من المسلمين أن يأخذ قطعة منها ممن وقع في يده من آبائه وأجداده ويقول أنا أعطي عليه لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه آجرها منهم على التأييد ولا تنفسخ الإجارة بموت العاقدين
وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يتملك عمر رضي الله عنه على سكانها بل ضرب عليهم خراجها مع تقدير ملكهم وزعم أن ذلك خراج لا يسقط بالإسلام
وقال ابن سريج رحمه الله يصح بيع أراضي العراق لأن عمر رضي الله عنه باعها من سكان العراق ليؤدوا الثمن على ممر الأيام إلا أن هذا ثمن غير مقدر ولا آخر له
وعلى الجملة لا يخلو المذهب عن الإشكال وهو أن يتقدر الثمن أو تتأبدبالإجارة أو لا يسقط الخراج بالإسلام ولكن الإعتماد على النقل والشافعي رضي الله عنه أعلم القوم بالنقل والتواريخ
وأما دور مكة وأراضيها فمملوكة عند الشافعي رضي الله عنه ويجوز بيعها لأصحابها وصح عنده أن مكة فتحت عنوة على معنى أنه صلى الله عليه وسلم مستعدا للقتال لو قوتل
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يصح بيع دور مكة هذه أحكام الغنيمة وما شذ عنها ذكرناه في كتاب قسم الغنائم في ربع البيع
الباب الثالث في ترك القتل والقتال بالأمان

واعلم أن الأمان من مكايد القتال ومصالحه وإن كان تركا للقتل لكن قد تمس الحاجة إليه
وينقسم إلى عام لا يتولاه إلا السلطان وإلى خاص فيستقل به الآحاد وهو المقصود بيانه والنظر في أركانه وشرائطه وأحكامه فأما الأركان فثلاثة
الأول العاقد وهو كل مكلف مؤمن له أهلية القتل والقتال بحال فيصح أمان العبد والمرأة والشيخ الهرم والسفيه والمفلس ولا يصح أمان الصبي والمجنون وقيل أمان الصبي كوصيته إذ لا ضرر عليه وهو بعيد
وأما الأسير إن أمن من أسره فالمذهب أنه لا يصح لانه يكون كالمكره فيه وإن أمن غيره فوجهان أحدهما نعم لأنه مؤمن مكلف الثاني لا لأنه ليس له استقلال في التخويف والأمان ترك التخويف وعلى هذا هل يلزمه حكمه في نفسه فعلى وجهين
الركن الثاني المعقود له وهو الواحد أو العدد المحصور من ذكور الكفار أما أمان المرأة عن الإسترقاق فهل يصلح فيه وجهان ينبنيان على القولين في أن الصلح مع أهل قلعة فيها نسوة لارجل بينهن هل يعصمهن عن الإسترقاق ومأخذه أن المرأة تابعة في الأمان فلا تستقل أما العدد الذي لا ينحصر كأهل ناحية فلا يصح أمان الآحاد فيه بل ذلك إلى السلطان
الركن الثالث نفس العقد وهو كل لفظ مفهم كناية أو صريحا والإشارة تقوم مقامه ولكن لا بد من تفهيم
وللكافر أن يرد الأمان فإن رد لم ينفذ وإن قبل نفذ وإن سكت ففيه تردد والظاهر اشتراط القبول بقول أو فعل فلو أشار مسلم إلى كافر في الصف فانحاز إلى المسلمين وفهما الأمان فهو آمن وإن قال الكافر ما فهمت الأمان فلنا أن نغتاله وإن قال فهمت الأمان وقال المسلم ما أردته فلا يغتال ويبلغ المأمن
وإنما تشترط الصيغة فيمن يدخل بلادنا لا لسفارة ولا لقصد سماع كلام الله وإن قصد ذلك فهو آمن من غير عقد وأما قصد التجارة فلا يؤمن فلو قال كنت أظن أنه كقصد السفارة فلا نبالي بظنه ونغتاله نعم لو قال الوالي كل من دخل تاجرا فهو آمن فله ذلك ولو قال ذلك واحد من الرعية لم يصح إذ ليس للآحاد التعميم فلو قال الكافر ظننت صحته ففي جواز اغتياله وجهان
أما الشرط فهو اثنان
أحدهما أن لا يكون على المسلمين ضرر بأن يكون طليعة أو جاسوسا فإن كان قتل ولا نبالي بالأمان ولا يشترط وجود مصلحة مهما انتفى الضرر
الثاني أن لا يزيد الأمان على سنة ويجوز إلى أربعة أشهر وفيما بين ذلك قولان كالقولين في مهادنة الكفار حيث لا ضعف للمسلمين وعند الضعف تجوز المهادنة إلى عشر سنين وأما الأمان فلا يزاد على السنة
وأما حكم الأمان فهو أنه جائز من جانب الكفار وله أن ينبذ العهد مهما شاء ولازم من جهة المسلمين كالذمة إلا أن العهد ينبذ بمجرد توقع الشر والذمة لا تنبذ إلا بتحقيق الشر
ثم يتبع في الامان موجب الشرط فلو قال أمنت نفسك خاصة لم يسر إلى ماله وأهله إلا أن يصرح ولو قال أمنتك ففي السراية وجهان أحدهما لا لاختصاص اللفظ والثاني نعم لأن أمانه بترك ما يتأذى به
ثم هذا فيما معه من المال والأهل أما تركه في داره فلا أمان فيه ومهما قتله بعد الأمان هو أو غيره لزمت الدية والكفارة دون القصاص
فرعان
الأول الأسير فيما بينهم إذا أمنوه بشرط أن لا يخرج من دارهم فله الخروج مهما تمكن بل يلزمه الخروج فإنه وإن كان متمكنا من إقامة وظائف شرعية لكنه لا يخلو عن ذل فيما بينهم فتلزمه الهجرة ويلزمه أن يحنث إن كان قد حلف ولا ترخص في المقام خوفا من وقوع الطلاق والعتاق إن كان قد حلف به
ولو أطلقوه إلى دار الإسلام بشرط الرجوع فلا يلزمه ولو شرط إنفاذ مال لم يلزمه أيضاوقيل فيه قول قديم أنه يجب الوفاء بوعد المال نعم إذا كان الأمان من الجانبين فإذا خرج لا يغتالهم ولا يأخذ أموالم إلا إذا خرجوا وراءه فله دفع الخارجين إليه خاصة
ولو باعوه شيئا وهو مختار لزمه بعثه الثمن إليهم فإن كان مكرها فعليه رد العين وقال في القديم يخير بين رد العين أو الثمن وكأنه تفريع على وقف العقود
وإذا أسلم الكافر وقد لزمه كفارة يمين لم تسقط الكفارة بالإسلام ويحكي فيه وجه أنه يسقط فعلى هذا يبطل بالإسلام إيلاؤه
الفرع الثاني المبارز بالإذن أو على الإستقلال إن جوزنا ذلك يلزمه الوفاء بشرطه مع قرنه ويلزم أهل الصف ذلك فلو شرط أن لا يتعرض له أهل الصف إلى أن يعود إلى صفهم لزم وإن شرط إلى أن ينتهي القتال فإذا ولى منهزما جاز قتله إذ قد انتهى قتاله بالهزيمة وإن شرط الأمان إلى الإثخان جاز قتل الكافر إذا أثخنه المسلم وإن أثخن المسلم وقصد تذفيفه منعناه وقتلناه وإن كان الأمان ممدودا إلى القتل بل مثل هذا الأمان باطل إذ فيه مضرة على المسلمين
ولو خرج جمع لإعانة الكافر قتلناهم مع المبارز إن كان باستنجاده وإن لم يكن بإذنه لم نتعرض له واختتام الباب بذكر ثلاث مسائل
المسألة الأولى مسألة العلج فإذا قال علج من علوج الكفار أدلكم على قلعة بشرط أن تجعلوا لي منها الجارية الفلانية التي فيها فهذه الجعالة صحيحة مع أن الجعل غير مملوك ولا معين معلوم ولا مقدور على تسليمه ولكن للحاجةولو كان الدليل مسلما فالصحيح أنه لا يصح لفقد الشروط وفيه وجه أنه يصح للحاجة وهو بعيد وإنما ينقدح إذا جوزنا للإمام استئجار المسلم وإلا فالدلالة جهاد يقع عنه ثم لنا مع الجارية خمسة أحوال
الحالة الأولى أن لا نقاتل القلعة فإن لم يكن ممكنا فلا شيء للعلج إذا دل على ما لا خير فيه وإن كان ممكنا فتركناه فيحتمل أن يستحق لأنه أتم عمل الدلالة ويحتمل أن لا يستحق وكأنه معلق بالقتال وإن قاتلنا فلم نقدر فهاهنا أولى بأن لا يستحق وإن جاوزناهم لمهم ثم وقعنا عليها ثانيا لا بعلامته فلا شيء له وإن رجعنا بعلامته فله الجارية وإن فتحنا طائفة أخرى فلا شيء عليهم لأن الشرط لم يجر معهم وإن بلغهم علامته
الحالة الثانية أن نفتح ولا نجد الجارية فإن أخطأ العلج فلا شيء له وكذلك إن كانت قد ماتت قبل معاقدة العلج ولو ماتت بعد المعاقدة فثلاثة طرق أحدها طرد القولين في وجوب البدل والثاني أنه يجب إن ماتت بعد الظفر وإن ماتت قبله فقولان والثالث لا يجب إن ماتت قبل الظفر وإن ماتت بعده فقولان ولا شك في أنه يجب البدل إن ماتت بعد التمكين من التسليم وجرى التقصير منا ثم إذا وجب البدل فهو قيمتها أو أجر المثل فيه قولان ينبنيان على أن الجعل المعينيضمن بضمان العقد أو ضمان اليد كما في الصداق ثم إذا وجب فهو من المغنم أو من مال المصالح فيه وجهان
الحالة الثالثة أن نجدها مسلمة فلا يمكن تسليمها إلى كافر فلا بد من الضمان وفيه وجه أن الإسلام كالموت وهذا بعيد إن أسلمت بعد الظفر أما قبله فيمكن أن يقال إذا تعذر ملكنا لها بالإسلام فصار كالموت
الحالة الرابعة أن لا نجد في القلعة إلا تلك الجارية ولا غرض لنا في استبقاء القلعة ففي تسليم الجارية وجهان ووجه المنع أنا لا نحصل على غرض فيكون عملنا للعلج خاصة
الحالة الخامسة إذا ظفر بها بعد أن صالحنا زعيم القلعة على الأمان في أهله وكانت من أهله فإن لم يرض الزعيم بتسليم الجارية ببدل قلنا له ارجع إلى القتال وأغلق الباب فإن الشرط مع العلج سابق والشرط معك مناقض له فلم يصح
ولا خلاف في أنه لا يشترط في أمان أهل الزعيم العلم بعددهم بل من ظهر أنه من أهله كان في أمان وإليه التعيين إذا طلب الأمان لعدد معلوم صالح أبو موسى رضي الله عنه عن بعض القلاع على أمان مائة فعد صاحب القلعة مائة فلما أتمها ضرب عنق صاحب القلعة لأنه كان زائدا على المائة
المسألة الثانية المستأمن إذا ثبت له ديون في ذمتنا أو أودع عندنا أموالا ثم رجع إلىبلاده ليعود فأمانه مطرد ولو نقض العهد والتحق بدار الحرب ففيما خلفه ثلاثة أوجه أحدها أنه فيء وانتقض أمانه لأنه الأصل وقد بطل أمانه في نفسه والثاني لا لأنه لم يفارق إلا بنفسه فأمانه باق في ماله والثالث أن المال إن عصم تبعا له انتقض وإن جرى بشرط مقصود فلا
التفريع إن قلنا بطل أمانه فهو فيء وإن قلنا بقي أمانه فلا يتعرض له ما دام حيا وله أن يعود لطلبه وعذر الطلب يغنيه عن الأمان كعذر السفارة إلا أن يتخذ ذلك ذريعة في كثرة الرجوع وإن مات في دار الحرب ففيه قولان
أحدهما أنه لورثته إتماما للأمان
والثاني أنه فيء إذ ضعف الأمان بانضمام الموت إلى نقض العهد
ولو كان قد خرج لشغل فمات فالظاهر أنه لورثته وفيه وجه بعيد أنه ينقطع الأمان بموته فإن قلنا لورثته فلهم الدخول بعذر الطلب من غير أمان
أما إذا استرق بعد الإلتحاق بدار الحرب ففي انقطاع الأمان بالرق قولان مرتبان على الموت وأولى بأن لا ينقطع فإن لم يقطعه فعتق رد إليه وإن مات حرا رجع القولان وإن مات رقيقا فهو فيء إذ الرقيق لا يورث والسيد أيضا لا يرثه هذا هو النص وفيه أيضا قول مخرج أنه يصرف إلى ورثته لأن إسقاط الإرث بالرق ونقض الأمان به حكم شرعي ولا يؤاخذ الكفار به وخرج هذا القول من مسألة في الجراح وهو أنه لو قطع يد ذمي فالتحقبدار الحرب واسترق ومات رقيقا من تلك الجناية ففي قدر الواجب على القاطع كلام طويل وقد نص الشافعي رضي الله عنه على صرف شيء إلى الورثة فقيل في المسألة قولان بالنقل والتخريج
المسألة الثالثة إذا حاصر الإمام أهل قلعة ورضي أهلها بحكم رجل عينوه فللإمام أن يستنزلهم على حكمه استنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة على حكم سعد رضي الله عنه وليكن المحكم عدلا امينا عالما بمصالح القتال ولا يشترط كونه مجتهدا
ثم حكم المحكم نافذ بالقتل والإرقاق والعفو وليس للإمام أن يقض بما فوقه وله أن يقضي بما دونه مسامحا فإذا حكم بالقتل فللإمام الاسترقاق أم لا فيه وجهان أحدهما نعم لأنه دونه والثاني لا لأن الإنسان قد يؤثر الموت على الذل المؤبد
وإذا حكم بالقتل فأسلم امتنع قتله وإن حكم بالرق فأسلم قبل الإرقاق فإن رأينا أن الرقفوق القتل لم يملكه وإن قلنا إنه دونه فقد كان يملكه قبل الإسلام فيملكه الآن إلا أن يسلم قبل الظفر
ولو حكم بضرب الجزية عليهم فهل عليهم القبول فيه وجهان ووجه المنع أنه معاقدة بالتراضي فلا يجبرون عليه
وينبغي أن يجري الخلاف في المفاداة أيضا فإن قلنا لا تلزمهم فلا يتعرض لهم بقتل وغيره إن منعوا بذل الجزية لكن نلحقهم بالمأمن ونستأنف القتال وإن قلنا يلزمهم فحكمهم حكم أهل الذمة إذا منعوا الجزية وسيأتي
ولو شرط الأمان لمائة نفر من أهل القلعة فالإختيار إليه فله أن يعين من شاء فإن عين مائة تامة فلنا أن نقلته لانه زائد على المائة كما فعله أبو موسى رضي الله عنه
كتاب الجزية والمهادنة
والعقود التي تفيد الأمن للكفار
ثلاثة الأمان وقد ذكرناه والذمة والمهادنة وهما مقصود الكتاب
العقد الأول عقد الذمة

وهو التزام تقريرهم في ديارنا وحمايتهم والذب عنهم ببذل الجزية والإستسلام من جهتهم وذلك جائز لقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن إنك سترد على قوم معظمهم أهل الكتاب فاعرض عليهم الإسلام فإن امتنعوا فأعرض عليهم الجزية وخذ من كل حالم دينارا فإن امتنعوا فاقتلهموالنظر في أركان هذا العقد وأحكامه
أما الأركان فخمسة
الركن الأول صيغة العقد وهو أن يقول نائب الإمام أقررتكم بشرط الجزية والإستسلام والصحيح أنه يشترط ذكر مقدار الجزية وقيل لا يشترط ولكن ننزل المطلق على الأقل وقال العراقيون لا يشترط ذكر الإستسلام لأنه حكم للعقد كالملك في البيع
لكن هل يجب التعرض لكف اللسان عن الله ورسوله فيه وجهان والصحيح أن الإستسلام من جانبهم مع الجزية كالعوض عن التقرير فيجب ذكره ثم يندرج تحته كف اللسان والتأقيت هل يبطل هذا العقد فيه قولان أحدهما أنه لا يبطل كالأمانوالثاني أنه يبطل لأن هذا بدل عن الإسلام فليتأبد
ولو قال الإمام أقركم بالذمة ما شئت أنا فقولان مرتبان وأولى بالجواز إذ نقل أنه عليه السلام قال لهم أقركم على ذلك ما أقركم الله إلا أن ذلك كان في انتظار الوحي ولا يتصور الآنولو قال
أقركم ما شئتم جاز لانه حكم المطلق إذ لا يلزم هذا العقد من جانبهم لكن يلزم من جانبنا إن صح وإذا فسد لم يلزم ولكن لا نغتالهم بل نلحقهم بالمأمن
فرع
لو اتفقت الإقامة على حكم الفساد سنة أو سنتين نأخذ لكل سنة دينار ولا نسامح بالتقرير مجانا ولو وقع كافر في ديارنا مدة ولم نشعر به حتى انقضت سنة فلا نأخذ منه الدينار لأنه لم نقبله أصلا نعم ونغتاله ونسترقه فإن قبل الجزية ففي منع استرقاقه وجهان
أحدهما أنه يسترق كالأسير إذا أراد منع الرق ببذل الجزية لم يمتنع
والثاني أنه يلزم قبول الجزية لأن هذا لم نقصد الإستيلاء عليه بخلاف الأسير
ولو قال دخلت لسماع كلام الله تعالى تركناه وإن قال دخلت لسفارة صدقناه إن كان معه كتاب وإن لم يكن فوجهان والظاهر نصدقه ولو قال دخلت بأمان مسلم ففي تصديقه بغير حجة وجهان من حيث إن إقامة الحجة عليه ممكن
ثم الذي يدخل للسماع لا نمكنه من المقام وراء أربعة أشهر وفيما دون ذلك إلى مدة البيان وجهان
الركن الثاني في العاقد ولا يعقده إلا الإمام فلو تعاطاه واحد بغير إذنه لم يصح ولكن يمنع الإغتيال ولو أقام سنة ففي أخذ الجزية وجهان
أحدهما أنه يؤخذ كعقد الإمام إذا فسد
والثاني لا لأن قبوله لا يؤثر إذ لم يكن القبول ممن هو من أهل الإيجاب
ويجب على الإمام قبول الجزية إذا بذلوها إلا أن يخاف غائلتهم فإن كثر جمعهم فليفرقهم في البلاد ولا يجب قبولها من الجاسوس لما فيه من المضرة
الركن الثالث فيمن يعقد له وهو كل كتابي عاقل بالغ حر ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية فهذه سبعة قيود
الأول الكتابي فلا يؤخذ من عبدة الأوثان والشمس وإنما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس أيضا يسن بهم سنة أهل الكتاب في الجزية دون أكل الذبيحة والمناكحة
وقال أبو حنيفة رحمه الله يقرر وثني العجم دون وثني العرب ولو ظهر قوم زعموا أنهم أهل الكتاب كالزبور وغيره فهل يقرون بالجزية فيه وجهان أحدهما نعم لأن الزبور كتاب محترم وكذا سائر كتب الله تعالى ولا يمكن أن نعلم دينهم إلا بقولهم
والثاني لا لأنه لا ثقة بقولهم والأولون لم يعولوا إلا على أهل التوراة والإنجيل
ثم لا شك في أنه لا تحل مناحكتهم لظهور هذه الشبهة كما أن من شك فيأن أول آبائه دان بدينهم قبل المبعث أو بعده يقرر ولا يناكح فإن علم أنه دان قبل المبعث يقرر ويناكح وإن علم أنه دان بعد المبعث لم يقرر وإن دان بعد التبديل قرر ولا يناكح وفيه وجه أنه لا يقرر
فروع

الأول اختلفت نصوص الشافعي رضي الله عنه في الصابئين وهم فرقة من النصارى وفي السامرة وهم فرقة من اليهود فمنهم من قال إنه تردد لتردده في أنهم مبتدعة عندهم أو كفرة فإن صح كفرهم بأن قالوا مدبر العالم النجوم السبعة أو قالوا بقدم النور والظلمة فلا يقرر لأنه يناقض موجب الكتب المنزلة ومنهم من قال وإن كانوا مبتدعة فالقولان جائزان إذ تضعف بالبدعة حرمتهم
وهذا الخلاف إنما ينقدح في نكاحهم لأن مبتدعة الإسلام يناكحون لأخبار منعت من التكفير فلا يعد في التغليظ على مبتدعة أهل الكتاب
الثاني قلو قبلنا جزيته فأسلم منهم رجلان عدلان شهدا أنه كافر بدينهم تبين انتقضا العهد ونغتاله لتلبيسه علينا وإنما تثبت علقة الأمان عند جهلهم
الثالث المتولد بين وثني وكتابية وبعكسه في مناكحته قولان الصحيحأنه يقرر ومنهم من طرد القولين
الرابع إذا توثن نصراني وله أولاد صغار فإن كانت الأم نصرانية استمر حكم تنصرهم بعد البلوغ وإن كانت وثنية فقولان أحدهما أنه تبقى علقة التنصير لهم فيقررون بعد البلوغ
والثاني أنهم يتبعون في التوثن أيضا لكن لا يغتالون وفي اغتيال أبيهم خلاف
الخامس الولد الحاصل من المرتدين في إسلامهم لأجل علقة الإسلام في المرتد خلاف فإن قضينا به فإن لم يصرحوا بعد البلوغ فهم مرتدون وإن لم نقض به فلا يقرون إذ لم يثبت دين آبائه قبل المبعث وفيه وجه بعيد لا اتجاه له إذ تخرم القاعدة في مراعاة تقديم الدين على المبعث ولعى هذا يتجه التردد في نكاحهم والصحيح المنع
والصحيح أنه لا يحل وطء سبايا غوراء إذ صح أنهم ارتدوا بعد الإسلام نعم ينقدح التردد في استرقاقهم بناء على أنهم كفار أصليون فإن عبدة الأوثان لا يمتنع إرقاقهم على ظاهر المذهب وفيه وجه أنه يمتنع لأن فيه أمانا مؤبدا لوثني
القيد الثاني العقل فلا يؤخذ من المجنون جزية بل هو تابع كالصبي ولو وقع في الأسر رق بنفس الأسر كالصبي وإن كان يجن يوما ويفيق يوما ففي وجه يعتبر آخر الحول وفي وجه تلفق أيام الإفاقة سنة ويؤخذ لها دينار وهو الأقيس وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله وفي وجه ينظر إلى الأغلب وفيوجه لا نظر إلى جنون منقطع بل هو كالغشية بل تجب جزية كاملة وفي وجه أنه لا ينظر إلى عقل منقطع فلا جزية عليه أصلا والوجهان الأخيران ضعيفان وإن وقع مثل هذا في الأسر فالصحيح أنه ينظر إلى وقت الأسر
القيد الثالث الصغير فلا يؤخد منه جزية بل هو تابع أبيه ثم إذا بلغ عاقلا ففيه وجهان
أحدهما أنه لا حاجة إلى الإستئناف بل يلزمه مثل ما التزم أبوه وكأنه عقد لنفسه ولولده بعد البلوغ والثاني أنه يستأنف لنفسه
فلو بلغ سفيها والتزم زيادة نفذ لأنه يحقن به دمه كما لو كان عليه قصاص فصالح على أكثر من الدية فليس للولي المنع لأن حقن الدم أهم من المال ولو عقد له الولي بزيادة لم يكن للسفيه المنع كما يشتري له الطعام فيالمخمصة قهرا لصيانة روحه
وإن قلنا لا يستأنف فإن كان الأب قد التزم زيادة لزمه بعد البلوغ وكان امتناعه كامتناع أبيه من الزيادة
القيد الرابع الحرية فالعبد تابع فلا جزية عليه وكذا من نصفه حر ونصفه رقيق
القيد الخامس الذكورة فلا جزية على المرأة إذ لا تتعرض للقتل بل هي تابعة وللرجل أن يستتبع بدينار واحد جمعا من النساء الأقارب والزوجات ولا يشترط المحرمية أما الأصهار والأحماء فمنهم من ألحقهن بالأجانب ومنهم من ألحقهن بالأقارب والصبيان والمجانين الأقارب أيضا يجوز استتباعهم
هذا فيه إذا شرط في العقد فإن أطلق لم يتبع الأقارب والأصهار أما أولاده الصغار فوجهان وفي زوجاته طريقان أحدهما أنهن كالأولاد والثاني أنهن كالأقارب
والأصح أن الزوجة والولد مما يقتضيه الإطلاق فلا حاجة إلى الشرط
ثم إذا دخل صبي أو امرأة دارنا من غير أمان وتبعية أوقفناهما وكذلك المجنون والحربي يتخير فيه بين القتل والإرقاق
فرع إذا حاصرنا قلعة وليس فيها إلا النسوان فإن فتحناها جرى الرق عليهن بمجرد الظفر وإن بذلن الجزية لدفع الرق فالصحيح أنه لا يجب القبول إذ لو جاز لها دفع الرق بالجزية كما يجوز للرجل دفع القتل لما كانت تابعة في الجزية بل صار أصلا كالرجل ولكان إذا دخلت دارنا لم يجز إرقاقها إن بذلت الجزية وهو بعيد
والثاني أنه يجب القبول وإنما التبعية إذا كان معها رجل قريب أو زوج وإنما لا تستقل إذا وقعت في الأسر لأنها رقت بمجرد الأسر
أما إذا كان فيهن رجل واحد وبذل الجزية كان عصمة لجميع النسوان إن كن من أهله وإن كن أجانب فلا وقد أطلق الأصحاب عصمة الجميع ولعل هذا مرادهم
القيد السادس المتأهب للقتال واحترزنا به عن الزمني وأرباب الصوامع ومن ذكرنا خلافا في قتلهم فمنهم من قال إذا منعنا قتلهم فهم كالنسوان فلا جزية عليهم ومنهم من قطع بأخذ الجزية للجنسية وهو الأصح
القيد السابع القدرة واحترزنا به عن الكافر الفقير الذي ليس بكسوب ففيه ثلاثة أقوال أحدهما أنه يخرج من الدار ولا يقرر مجانا والثاني أنه يقرر مجانا لأنه معذور والثالث أنه يقرر بجزية تستقر في ذمته إلى أن يقدر
الركن الرابع في البقاع التي يقرر بها الكافر ويجوز تقريرهم بكل بقعة إلا الحجاز فقد قال صلى الله عليه وسلم لو عشت لأخرجت اليهود والنصارى من جزيرة العرب ثم لم يعش صلى الله عليه وسلم ولم يتفرغ له أبو بكر رضي الله عنه فأجلاهم عمر رضي الله عنه وهم زهاء أربعين ألفا
ونعني بجزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها والطائف ووج وما ينسب إليها منسوب إلى مكة وفي بعض الكتب التهامة ولعله تصحيف اليمامة وخيبر من مخاليف المدينة
وقال العراقيون جزيرة العرب تمتد إلى أطراف العراق من جانب وإلى أطراف الشام من جانب وعلى هذا تلتحق اليمن بالجزيرة فتحصلنا فيه على خلاف
هذا في المخاليف والبلاد أما الطرق المعترضة بينهما فهل يمنعون من الإقامة بها وفيه وجهان أحدهما لا لأن المراد المنع من الإختلاط بالعرب حرمة لهم والثاني أنهم يمنعون لأن الحرمة للبقعة
ثم لا خلاف أنهم لا يمنعون من الإجتياز لسفارة أو تجارة ولكن بشرط أن لا يقيمون في موضع أكثر من ثلاثة أيام ولا يحسب يوم الدخول والخروج إلا في مكةفإنه يمنع ولا يمكن الكافر من دخولها مجتازا ولا برسالة بل يخرج إليه من يستمع الرسالة لقوله تعالى { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ولا يجري هذا التغليظ في المدينة
فرع
لو دخل مكة ومرض وخيف من نقله الموت فلا يبالي وينقل ولو دفن نبش قبره وأخرج عظامه تطهيرا للحرم وإن مات على طرف الحجاز وأمكن نقله نقل قبل الدفن وإن دفن ففي نبش قبره وجهان
ولو مرض في الحجاز لم ينقل إن خيف موته فإن كان يشق النقل ولا يخاف الموت ففي وجوب نقله وجهان فإن مات في غير مكة ودفن وعظمت المشقة في نقله تركناه ولم نرفع نعش قبره
الركن الخامس في قدر الجزية الواجبة والواجبات عليهم خمسة

الأول نفس الجزية وأقلها دينار في السنة على كل محتلم كما سبق أو اثني عشر درهما نقرة ويخير الإمام بينهما والتخيير مستنده قضاء عمر رضي الله عنه وإلا فلم يرد في الخبر إلا الدينار وشبب بعض الأصحاب بأن النقرة نقومها بالذهب كما في نصاب السرقة
ثم إن لم يبذلوا إلا دينار وجب القبول وللإمام أن يماكس في الزيادة فإن بذل زيادة ثم علم أن الزيادة لم تكن واجبة لم ينفعه وكان كمن اشترى بالغبن نعم لو نبذ إلينا العهد ثم رجع وطلب العقد بدينار وجبت الإجابة
وقال أبو حنيفة رحمه الله على الفقير دينار وعلى الغني أربعة وعلى المتوسط ديناران وعندنا لا فرق
ولو أسلم أو مات بعد مضي السنة استوفي عندنا ولو تكرر سنون لم تتداخل خلافا لأبي حنيفة رحمه الله في المسألتين ولو كان عليه ديون ومات قدمت الجزية على وصاياه وديونه ومنهم من قال بل الجزية من حقوقالله فتقدم على حق الآدمي في قول وتؤخر في قول وتستوي في قول
فرع
لو مات في أثناء السنة ففي وجوب قسطه قولان
أحدهما أنه لا يجب إلا لتمام السنة كالزكاة والثاني أنه يجب كالأجرة
ويشير هذا إلى تردد في أنها هل تجب بأول السنة لكن تستقر بتمامها أو تجب شيئا شيئا وبنوا على هذا أن الإمام لو طلب شيئا في أثناء السنة هل يجوزمع استمرار الحياة والظاهر المنع لأنه على خلاف سير الأولين
الواجب الثاني الضيافة وقد وظف عمر رضي الله عنه الضيافة لمن يطرقهم من أبناء السبيل فاتفقوا على جواز ذلك بشرط أن نبين لكل واحد عدد الضيفان وقدر الطعام والأدم وجنسه وعلف الدابة ومنازل الضيفان وليفاوت بين الغني والفقير في عدد الضيفان لا في جنس الطعام كي لا يؤدي إلى التزاحم على الغني ويبين مدة إقامة الضيف من يوم إلى ثلاثة أيام فقد ورد أن الضيافة ثلاثة أيام فما زاد صدقة ويقال إجازة يوم وليلة أعني ما يعطي الضيف ليتزود في الطريق إذا رحل
ثم هذا محسوب لهم من نفس الدينار إذ كان عمر رضي الله عنه لا يطالبهم بالجزية مع الضيافة ومنهم من أبى ذلك لأن الإطعام ليس بتمليك وهو كالتغدية في الكفارة
فإن قلنا إنه من الجزية فما نقص من الدينار يجب أن يكمل ولو أراد نقلهم عن الضيافة إلى الدنانير بعد ضربه بغير رضاهم ففيه وجهان وكأنه تردد في أن ضربه هل ينقعد لازما
والصحيح أنه إن قلنا إنه من الدينار فيجوز الإبدال وإن قلنا إنه أصل فلا بد من رضاهم في الإبدال
ثم إذا أبدلت فقد كانت الضيافة لجميع الطارقين فهل يصرف البدل إلى جميع المصالح أم يختص بأهل الفيء فيه وجهان والظاهر أنه لأهل الفيء لأن ذلك احتمل في الضيافة لعسر الضبط
الواجب الثالث الإهانة والتصغير عند الأخذ لقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قيل معناه أن يطأطىء الذمي رأسه ويصب ما معه في كف المستوفي فيأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهازمهوهذا مستحب أو مستحق فيه وجهان
فإن قلنا إنه مستحق لم يجز له توكيل المسلم في التوفية ولم يصح ضمان المسلم للجزية فإنه يجب قبولها إذا أسلم وتسقط الإهانة
ولكن الصحيح أنه مستحب إذ يجوز إسقاطها بتضعيف الصدقة كما فعل عمر رضي الله عنه فإن جماعة من نصارى العرب أنفوا من اسم الجزية والصغار فقالوا نحن عرب فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعني الزكاة فقال عمر رضي الله عنه إنها طهرة ولستم من أهلها فقالوا خذ بذلك الإسم وزد ما شئت فضعف عليهم الصدقة وحط اسم الجزية والإهانة ولا شك في أن المأخوذ جزية حتى لا تؤخذ من النساء والصبيان
ولا بد أن يفي بقدر الجزية إذا وزع على رءوس البالغين وله أن يأخذ ثلاثة أمثال الصدقة وله أن يأخذ نصف الصدقة إن وفى بالجزية ولكن لا يترك الإهانة إلا لغرض ظاهر
فإن كثروا ولم يمكن عدهم لتبيين الوفاء ففي جواز أخذه بغالب الظن وجهان والفقراء هل يدخلون في الحساب يخرج على القولين في العقد وهل يجوز ذلك مع غير العرب فيه وجهان والظاهر جوازه للمصلحة
ثم صيغة العقد أن يقول الإمام ضعفت عليكم الصدقة فيلزمه عليكم الصدقة فيلزمه الوفاء فيأخذ من خمس من الإبل شاتين ومن عشر أربع شياه ومن خمس وعشرين بنتي مخاض ولا يضعف المال فيجعله كالخمسين ويأخذ حقه بل نضعفه الصدقة ونأخذ الخمس مما سقته السماء والعشر مما سقي بدالية ومن عشرين دينارا دينارا واختلفوا في مسألتين
إحداهما أنه هل يحط لهم الوقص فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يحط كالصدقة والثاني لا لأن ذلك تخفيف عن المسلمين والثالث
أنه يأخذ إن لم يؤد إلى التجزئة فيأخذ من سبعة ونصف من الإبل ثلاث شياه وقد حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال يأخذ من عشرين شاة شاة ومن مائة درهم خمسة دراهم
الثانية لو ملك ستا وثلاثين من الإبل وليس في ماله بنت لبون فيأخذ بنتي مخاض وجبرانين لكل جبران واحد شاتين أو عشرين درهما ولا يضعف الجبران ثانيا ومن قال بذلك فقد غلط وكذلك إذا أخرج حقتين فعلى الإمام الجبران
الواجب الرابع العشر من البضاعة التي مع تجارهم إذا ترددوا في بلادنا والنظر فيمن يعشر ماله وفي قدر المأخوذ
أما من يؤخذ منه فهو كل حربي يتجر في بلادنا ضرب عمر رضي الله عنه عليهم العشر أما الذمي فلا شيء عليه إذا اتجر ولا على الحربي إذا دخل لسفارة أو سماع كلام الله تعالى
أما لو تردد في الحجاز لا للتجارة ففي أخذ شيء منه خلاف فقيل إنه لا يمكن تعشير ماله
ولا بد من تعظيم الحجاز فيؤخذ دينار وهو أقل الجزية والذمي إذا اتجر في الحجاز أخذ منه نصف العشر كذلك فعل عمر رضي الله عنه
ثم هذا إذا جرى الشرط وقبلوا فإن دخلوا بأمان من غير شرط فأصح الوجهين أنه لا شيء عليهم والثاني أن قضاء عمر رضي الله عنه بذلك قضاء على من سيكون منهم إلى يوم القيامة فيتبع
أما المقدار فلا مزيد على العشر وقل للإمام أن يزيد إن رأى وأما النقصان فجائز إلى نصف العشر وذلك في الميرة وكل ما يحتاج المسلمون إلى كثرةالمكاسب فيه كذلك فعل عمر رضي الله عنه ولو رأى رفع هذه الضريبة أصلا ففيه وجهان أحدهما أنه لا بد من قبول شيء والثاني أن هذا الجنس يتبع فيه المصلحة إذ عمر رضي الله عنه فعل ذلك برأيه واستصوابه وقد يتغير الصواب
ثم إذا أخذ العشر مرة فلا يأخذه ثانيا في تلك السنة بل يعطى جوازا حتى لا يطالبه عشار أصلا إلا إذا جوزنا الزيادة فعند ذلك يجوز أخذه في دفعات
أما إذا جرى ترديد مال واحد إلى الحجاز في سنة واحدة فهل يكرر العشر لتعظيم الحجاز فيه خلاف وهذا إذا خرج من الحجاز وعاد وما دام يتردد فيه فلا ولو بذل اللسان عند المشارطة بزيادة فالظاهر أنه لا يلزم إذ ليس ذلك عقدا أصليا بخلاف عقد الجزية
الواجب الخامس الخراج وذلك قد يكون أجرة فلا يسقط بالإسلام كما إذا ملكنا أراضيهم ثم رددناها إليهم بخراج كما فعله عمر رضي الله عنه وهذا واجب وراء الجزية
أما إذا صالحناهم على عقارهم بخراج يؤدونه فملكهم مطرد والمأخوذ في حكم جزيةومن أسلم سقط الخراج عنه في المستقبل خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
النظر الثاني في أحكام عقد الذمة

وهو يقتضي وجوبا علينا وعليهم أما ما علينا فيرجع إلى أمرين الكف عنهم وذب الكفار دونهم
أما الكف فمعناه أنا لا نتعرض لأنفهسم ومالهم ونعصمهم بالضمان ولا نريق خمورهم ولا نتلف خنازيرهم ما داموا يخفونه ولا نمنعهم من التردد إلى كنائسهم القديمة ولو أظهروا الخمور أرقناها ومن دخل دارهم وأراقها فقد تعدى ولا ضمان عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ولو غصبها وجب مئونة الرد وفيه وجه أنه لا يجب إلا التخلية ولو باع خمرا من مسلم أريق على المسلم ولا ثمن للذمي والظاهر أنه يجب رد الخمر المحترمة على المسلم إذا غصب
أما الذب عنهم فمعناه دفع الكفار عنهم ما داموا في دارنا وهو ذب عن الدار ولو دخلوا دار الحرب فلا مطمع للذب ولو انفردوا ببلدة غير متصلة ببلاد الإسلام ففي وجوب ذب أهل الحرب عنهم وجهان أحدهما أنه لا يجب إذ لم نلتزم إلا الكفوالثاني أنه يجب إذ بذلوا الجزية لنسلك بهم مسلك أهل الإسلام فعلى هذا لو شرطنا أن لا نذب عنهم لم يلزمنا ومنهم من ألغى هذا الشرط وعلى الأول لو شرطنا الذب لزمنا ومنهم من ألغى ذلك الشرط وكذلك لو ترافعوا إلينا هل يجب الحكم بينهم فيه خلاف ويرجع حاصله إلى دفع أذى بعضهم عن بعض
أما الواجب عليهم فهو الوفاء بالجزية والإنقياد للأحكام والكف عن الفواحش وعن بناء الكنائس ومطاولة المسلمين بالبنيان والتجمل بترك الغيار وركوب الخيول وسلوك جادة الطرق هذه مجامعها
الأول حكم الكنائس وتفصيله أن للبلاد ثلاثة أحوال
الأولى بلدة بناها المسلمون فلا يكون فيها كنيسة وإذا دخلوا وقبلوا الجزية منعوا من إحداث الكنائس قطعا وفي معناها بلدة ملك المسلمون عليهم رقبتها قهرا فإنه ينقض كنائسهم لا محالة ولو أراد الإمام أن ينزل منهم طائفة بجزية ويترك لهم كنيسة قديمة قطع المراوزة بالمنع وذكر العراقيون وجها في جوازه أما الإحداث فلا خلاف في المنع
الثانية بلدة فتحناها صلحا على أن تكون رقبة الأبنية للمسلمين وهم يسكنونها بخراج يبذلونه سوى الجزية فإن استثنى في الصلح البيع والكنائس لم تنقض وإن أطلق فوجهان أحدهما انها تنفض لأنها ملك المسلمين فلهم التصرف في ملكهم والثاني لا وفاء بشرط التقرير فإنه يمنع عليهم القرار من غير متعبد جامع
الثالثة أن تفتح على أن تكون الرقاب لهم ويضرب عليهم خراج فهذه بلدتهم وليس عليهم نقض الكنائس ولو أحدثوا كنائس فالمذهب أنهم لا يمنعون وقيل يمنع لأنها على الجملة تحت حكم الإسلام
ولا خلاف أنهم لا يمنعون من ضرب الناقوس وإظهار الخمور وإن كان المسلمون يدخلون على الجملة لأنها كعقر دارهم ولا نتعرض لما يجري في دورهم
فرع
حيث قضينا بإبقاء كنيسة قديمة والمنع من الإحداث فلا نمنعهم من العمارة إذا استرمت والأصح أنا لا نكلفهم إخفاء العمارة وقيل يجب الإخفاء حتى لو زال الجدار الخارج فلا وجه إلا بناء جدار داخل الكنيسة
نعم لو انهدمت الكنيسة ففي إعادتها وجهان من حيث إن هذا كالإحداث من وجه وإن قلنا لهم الإعادة ففي جواز زيادة في الخطة وجهان أصحهما المنع لأن هذا إحداث
وأما النواقيس فإنا نمنعهم في كنائسهم أن يظهر صوته فهو كإظهار الخمر وقيل لا يمنع فإنه تابع للكنيسة
الواجب الثاني ترك مطاولة البنيان فلو بنى دارا أرفع من دار جاره منع ولو كان مثله فوجهان ولو لم يكن بجنبه إلا حجرة ضعيفة منخفضة فعليه أن لا يعلوها بنيانه ولو كان في طرف بلد حيث لا جار أو كانت لهم محلة فلا معنى للمطاولة فلا حجر وقيل إنهم على الجملة يمنعون من رفع فيه تجمل
وهذا كله في البناء فلو اشترى دارا مرتفعة لم ينقض بناؤها وهذا المنع مستحب أو حتم فيه وجهان
الواجب الثالث يمنعون من التجمل بركوب الخيل ولا يمنعون من الحمار النفيس وليكن ركابهم من الخشب وقال الشيخ أبو محمد لا يمنع من الفرس الخسيس كالقتبيات ويمنع من البغال الغر
الواجب الرابع لا بد من الغيار ولون الصفرة باليهود أليق والكهبة بالنصارى والسواد بالمجوس والمقصود أن يتميزوا حتى لا نسلم عليهم ويضطرون إلى أضيق الطرق ويمنعون من سرارة الجادة إذا كانت مشغولة بالمسلمين وإن كانت خالية فلا منع ويخرج الكافر من الحمام إذا لم يكن عليهم غيار لأنه ربما ينجس الماء من حيث لا نعرف
والمرأة هل يلزمها الغيار في الحمام وخارجه فيه وجهان ثم أصل الغيار وترك ركوب الخيل حتم أو مستحب فيه وجهان
الواجب الخامس الإنقياد للأحكام بأن يذعن للحد والضمان إذا تعلقت الخصومة بمسلم أو زنا بمسلمة أو سرق مال مسلم أما ما لا يتعلق بمسلم ولم يعتقد تحريمه فلا يحد على الصحيح فيه كالشرب وما اعتقد تحريمه وترافعوا إلينا وجب عليهم الإنقياد فإن قيل فلو خالفوا في شيء من هذه الجملة فهل ينتقض عهدهم قلنا هذه الأمور على ثلاث مراتب
الأولى وهي أخفها إظهار الخمر وضرب الناقوس وترك الغيار وإظهار معتقدهم في المسيح عليه السلام وفي الله تعالى بانه ثالث ثلاثة وما يضاهيه مما لا ضرر على المسلمين فيه فلا ينتقض به العهد بل نعزرهم ولو شرط الإمام انتقاض العهد بذلك قال الأصحاب يحمل على التخويف شرطه ولا ينتقض به
الرتبة الثالثة وهي أغلظها القتال ومنع الجزية والأحكام والمشهور أن العهدينتقض بهذه الثلاث وهو ظاهر في القتال
أما منع الجزية فلا يبعد أن يجعل كمنع الديون فتستوفى قهرا ولا يبعد من حيث إنه ركن الأمان فكأن منعه إسقاط أمانه بخلاف سائر الديون ويحتمل أن يكون مراد الأصحاب منه أن يكون المنع بالتغلب فيؤدي إلى القتال
وأما منع الحكم فلا ينبغي أن ينقض إن كان بالهرب فإن كان بتمرد حملناه عليه وإن أدى إلى القتال انتقض عهده وعلى الجملة لا يظهر انتقاض العهد إلا بالقتال
الرتبة الثالثة ما هو محظور وفيه على المسلمين ضرر كالزنا بالمسلمة والتطلع على عورات المسلمين أو افتتان المسلم عن دينه ففي هذه الثلاثة ثلاثة أوجه أحدها أنه ينقض العهد كالقتال والثاني لا ينقض بل يعاقبون عليها كإظهار الخمروالثالث أنه إذا جرى شرط الإنتقاض انتقض وإلا فلا
وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص فمنهم من قال هو من هذا القسم ومنهم من قطع بإلحاقه بالقتال وكذلك في تعرضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء طريقان ومنهم من قال كالقتال ومنهم من قال على الأوجه الثلاثة
أما إذا كان الطعن على وفق اعتقادهم كقولهم إنه لي رسول الله والقرآن ليس بمنزل فهذا كقولهم إن الله ثالث ثلاثة وإنما الخلاف في السب والطعن في النسب وما لا يوافق عقيدتهم فإن قيل وما حكم انتقاض العهد قلنا أما في القتال فحكمه الإغتيال وأما في الرتبة الثالثة فقولان أحدهما الإغتيال وصار العهد كالمعدوم
والثاني أنا نلحقهم بالمأمن ولا اغتيال
ولو نبذ الذمي عهده إلينا من غير جناية فالصحيح أنه يلحق بالمأمن وقيل يخرج على القولين إذا كان يقدر على الخروج من غيرمجاهرة بنبذ العهد
فإن قيل فالمسلم إن طول لسانه في الرسول فما حكمه قلنا إن كذب عليه عذر وإن كذبه فهو مرتد فيقتل إلا أن يتوب وكذلك كل تعرض فيه استهزاء فهو ردة ولو نسبه إلى الزنا فهذا القذف كفر بالإتفاق فلو تاب ففيه ثلاثة أوجه أحدهما وهو اختيار الفارسي أنه يقتل إذ حد قذف الرسول قتل فلا يسقط الحد بالتوبة وفي الخبر من سب نبيا فاقتلوه ومن سب أصحابه فاجلدوه والثاني وهو اختيار القفال والأستاذ أبي إسحاق أنه لا شيء عليه لأن القتل صار مغمورا في الكفر فيسقط أثره بالإسلام والثالث وهو الذي ذكره الصيدلاني رحمه الله أنه يسقط القتل وتبقى ثمانون جلدة للحد وهذا يلزمه أن يجلد قبل القتل إذا لم يتب كالمرتد إذا قذف والإلتفات إلى هذا القياس الجروي في مثل هذا المقام بعيد
ثم إن قلنا ثبت حد القذف فلو عفا واحد من بني أعمامه ينبغي أن يسقط أو نقول هم لا ينحصرون فهو كقذف ميت لا وارث له وكذلك في قتل مثله قولان أحدهما أنه لا قصاص إذ في المسلمين صبيان ولأنه إن وجب على الإمام الإستيفاء ضاهى الحد وبطل خاصية القصاص وإن جاز له العفو فهو بعيد والثاني أنه يجب إذ يؤدي إلى إبطال عصمة من لا وارث له فينقدح أيضا القولان في قذف من لا وارث له
العقد الثاني مع الكفار المهادنة
والنظر في شروطه وأحكامه أما الشروط فأربعة
الأول أن هذا العقد لا يتولاه إلا الإمام لأنه يرجع حاصله إلى صلح جمع من الكفار على ترك قتالهم والكف عنهم من غير مال نعم لآحاد الولاة عقد ذلك مع أهل القرى والأطراف المتعلقة بهم فأما مهادنة إقليم كالهند والروم فليس إلا للإمام
الشرط الثاني أن يكون للمسلمين إلى ذلك حاجة فإن لم تكن حاجة ولا مضرة وطلبوا ذلك لم يجب على الإمام الإجابة على الصحيح بل يتبع الأصلح وفيه وجه مخرج أنه تجب الإجابة وفي الجزية وجه مخرج من المهادنة أنه لا تجب الإجابة والوجهان ضعيفان والصحيح الفرق فإن عقد الذمة كف بمال وهذه مسامحة
الشرط الثالث أن يخلو العقد عن شرط يأباه المسلم كما لو شرط أن يترك في أيديهم مال مسلم أو شرط أن يرد عليهم أسيرا مسلما أفلت منهم أو شرط لهم على المسلمين مالا فكل ذلك فاسد مفسد نعم لو كان على المسلمين خوف جاز التزام مال لدفع الشر كما يجوز فداء الأسير المسلم إذا عجزنا عن انتزاعه مجانا
الشرط الرابع المدة وهو يتقدر بأربعة أشهر إن لم يكن بالمسلمين ضعف وهو مدة السياحة قال الله تعالى { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }ولا يجوزو أن تبلغ سنة وهذه المدة للجزية لأن الكف سنة إنما جاز بعوض أما فيما دون السنة وفوق أربعة أشهر فقولان أحدهما الجواز للقصور عن مدة الجزية وهذا يستمد من قولنا إن طلب قسط من الجزية في بعض السنة لا يجوز والثاني المنع للزيادة على مدة التسييح أما إذا كان بالمسلمين ضعف وخوف جازت المهادنة عشر سنين هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين ولا مزيد عليه وفيه وجه أنه تجوز الزيادة بالمصلحة
فرع
لو أطلق الإمام المهادنة ولم يذكر المدة فالصحيح أنها فاسدة وقال الفوراني في حال القوة وجهان أحدهما أنه ينزل على الأقل والثاني على الأكثر وهو ما يقارب السنة
وإن كان في حالة الضعف فينزل على عشر سنين إذ لا يتقدر أقله وسببه أن مقتضى المطلق التأبيد فنحذف ما يزيد على المدة الشرعية
ولو صرح بالزيادة على المدة فالزيادة مردودة وفي صحتها في المدة قولا تفريق الصفقة وأصحهما الصحة إذ ليس فيها عوض تحدد جهالته
ثم حكم الفاسد أن ننذرهم ولا نغتالهم وحكم الصحيح وجوب الكف عنهم إلى انقضاء المدة أو إلى جناية تصدر منهم تناقض العهد فنغتالهم إن علموا أنها جناية وإن لم يعلموا ففي اغتيالهم من غير إنذار وجهان
ولو بنينا تطويل المدة على خوف لم ترتفع بزوال الخوف بل لا بد من الوفاء
ولو استشعر الإمام جناية فله أن ينبذ إليهم عهدهم بالتهمة وذلك لا يجوز في الجزية نعم لا يبتدىء عقد الجزية مع التهمة
النظر الثاني في أحكام العقد

وحكمه الوفاء بالشرط والمعتاد في الشرط أن يقول صالحناكم على أن من جاءكم من المسلمين رددتموه ومن جاءنا منكم رددناه ولا يجوز شرط رد المرأة إذا جاءت مسلمة ويجوز رد الرجل المسلم والمرأة الكافرة ولما هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن قال من جاءكم منا فسحقا سحقا ومن جاءنا منكم رددناه ثم جاء أبو جندل بن سهيل مسلما فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه فولى باكيا فقال إن الله تعالى يجعل لك مخلصا فقال عمر رضي الله عنه إن دم الكافر عند الله كدم الكلب كالتعريض له بقتل أبيه ثم جاء أبو بصير مسلما وجاء في طلبهرجلان فرده عليهما فقتل أحدهما وأفلت الآخر قال عليه السلام مسعر حرب لو وجد أعوانا كالتعريض له بالإمتناع وهذا يدل على أن الرجوع غير واجب عليه إذ لم يجر الشرط معه وإنما الرد يجب علينا فجاز تعريفه بالتعريض دون التصريح ولأن أبا بصير رجع مع أحد الرجلين وقتل الآخر فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يقال للذي أسلم بينهم أن يقتلهم إن قدر إذ لم يجر الشرط معه ويدل عليه تعريض عمر رضي الله عنه ويحتمل أن يقال لا يجوز إذ شرط الإسلام يتناوله وكذلك إذا استقر في دارنا لزمه الكف عنهم وعلى هذا هل يحملتعريض عمر رضي الله عنه على تصلب ولكن ترك الإنكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى له وجه إلا أن يقال إن الرجوع غير واجب فيجوز القتل في دفع من يكلفه الرجوع
ثم نزل قوله تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } فاختلف في أن النسوة هل كن مندرجات تحت قوله من جاءنا منكم رددناه فوردت الآية ناسخة أو وردت الآية مخصصة للعموم الظاهر وعلى هذا ترددوا في أنه عليه السلام عرف الخصوص فأوهم العموم أو ظنه عاما حتى تبين له
وقد أفادت الآية منع ردها ووجوب صداقها واختلف قول الشافعي رضي الله عنه في علة وجوب الصداق عليه فقال في قول لا يجب لأنه التزم ردهن ثم نسخ فخالف فغرم وعلى هذا يقتصر الغرم عليه ولا يلزمنا فإنا لا نلتزم رد المسلمة ولو التزمنا فسد الشرط وهل تفسد المهادنة بالشرط الفاسد أم تلغى فيه تردد كترددنا في الوقف أنه هل يفسد بالشرط الفاسد
والقول الثاني أنه وجب لأنه أوهم بالعموم ردها فعلى هذا إن عممنا وأوهمنا لم نردها وغرمنا وإن اطلقنا العقد أو صرحنا بأنها لا ترد فلا غرمومنهم من أوجب الغرم في المهادنة المطلقة وقال إطلاقها أيضا موهوم ويتشعب عن التفريع على إيجاب الغرم النظر في سبب الغرم ومصرفه وقدره
أما السبب فهو المنع عن الزوج بعلة الإسلام واحترزنا بالمنع عما إذا جاءت ولم تطلب إذ لا يجب الرد فلا غرم وكذلك كل كافر وكافرة لا طالب له ومن له طالب فليس علينا الرد لكنا لا نمنع من يسترجعه وقولنا من الزوج احترزنا به عما لو طلبها أبوها أو أقاربها فلا نرد ولا نغرم لأن الزوج هو المستحق
وقولنا بعلة الإسلام أردنا به أنها لو ماتت أو قتلت قبل الطلب فلا غرم إذ لا منع أما إذا قتلت بعد الطلب وجب القصاص على القاتل مع الصداق ويحتمل عندي أن يقال الغرم على بيت المال لأن المنع حال الطلب واجب شرعا والقتل واقع به استحقاق المنع فلم نفوت ردا ممكنا بل ردا ممتنعا شرعا ولو غرمنا فأسلم الزوج قبل انقضاء العدة استرددنا إذ النكاح يبقى وإن أسلم بعد انقضاء العدة لم نسترد ولو طلقها ثم أسلمت وهي منكوحة رجعية قال الشافعي رضي الله عنه لا نغرم إن لم يراجع لأن الفراق بالطلاق وفيه قول مخرج وهوالأقيس أنه يستحق الغرم لأن الرجعية منكوحة وإن لم يراجعها فلا معنى لرجعته مع إسلامها
أما المال فهو القدر الذي بذله الزوج قال الله تعالى { وآتوهم ما أنفقوا } فإن كان قد سلم بعض الصداق لم يستحق إلا ذاك وإن لم يسلم شيئا أو سلم خمرا أو خنزيرا لم يستحق شيئا وإن أخذت ووهبت منه فقولان كما في التشطير بالطلاق ولو أسلمت قبل قبض الصداق وبعد المسيس ثم أسلم الزوج بعد العدة أو قبل الجزية فلها مطالبته بالمهر لأجل المسيس إذ الظاهر صحة أنكحتهم فإذا غرم لها فهل نغرم له ما غرم فيه تردد من حيث إنه حيث كان أهلا للطلب لم يكن قد بذل شيئا
ثم لا نقبل مجرد قوله سلمت الصداق فإن أقرت فلا بد من التصديق إذ تعسر إقامة الحجة
وأما المغروم فيه فهو البضع والمالية في الرقيقة ولو دخلت كافرة ثم أسلمت فالأصح وجوب الغرم كما لو أسلمت ثم دخلت ولو دخلت مسلمة ثم ارتدت فلا نردها لعلقة الإسلام وفي وجوب الغرم وجهان إذ لا قيمة لبضعها والأصح الوجوب فإن دخلت مجنونة لم نرد لاحتمال أنها أسلمت قبل الجنون ولا نغرم لاحتمال أنها لم تسلم فنأخذ باليقين في الطرفين
والصبية إذا أسلمة وقلنا يصح إسلامها فكالبالغة وإن لم نصحح فلا نرد لحرمة الإسلام لأنا نحول بين الصبي المسلم وبين أبويه وإن منعناها فالصحيح الغرم وقيل إنها كالمجنونة وقيل إنها ترد وهو ضعيفوالرقيقة يمتنع ردها وتجب قيمتها لسيدها لا ما بذل من الثمن لأن المال تقويمه سهل وإنما العدول إلى ما أنفق في الصداق بنص القرآن فيما يعسر تقويمه
ولو جاء غير سيدها طالبا لم يلتفت إليه إلا إذا كانت مزوجة فإن جاء السيد والزوج معا غرمنا للسيد القيمة وللزوج ما بذل وإن جاء احدهما فثلاثة أوجه أحدها أنه لا يلزم شيء إذ ليس لأحدهما حق الإنفراد والثاني يجب أداء حقه وحده والثالث أن السيد مستحق الرد فنغرم له والزوج وحده لا يتسحق الرد والغرم تبع الرد
وإن جاءتنا زوجة عبد فحق البضع للعبد والسيد هو باذل المهر فلا يلزمنا شيء إلا إذا حضرا فإن حضر أحدهما لم نغرم شيئا
وأما العبد ففي وجوب رده وجهان ووجه المنع أنه يستضعف ويهان إذ لا ناصر له وفي الحر الذي لا عشيرة له وجهان مرتبان وأولى بأن يرد لظهور العموم في حقه فإن قلنا يرد فليشترط في أصل المهادنة أن من رد مسلما لا يستهان به إن احتملوا ذلك وإن قلنا لا نرد العبد فنغرم قيمته
فرع إن قلنا في المهادنة من جاءكم منا فسحقا سحقا فالتحق بهم مرتد فسحقاوإن كانت مرتدة استرددناها فإن تعذر غرمنا لزوجها المسلم ما أنفق لقوله تعالى { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } وكأنا بالمهادنة أحلنا بينه وبين زوجته المرتدة إذ لأجل المهادنة والأمن رغبت في الإلتحاق بهم
ثم جميع الكفار كشخص واحد فلو جاءتنا مسلمة سلمنا مهرها إلى زوج المرتدة إن تساويا وإن زاد مهر المسلمة سلمنا الزيادة إلى زوجها الكافر وقلنا واحدة بواحدة وكأن جملتهم كشخص واحد فيؤاخذ الواحد بحكم الجملة والله أعلم صلوات الله عليهم كرم الله وجهه الله تبارك وتعالى الرب عز وجل
كتاب الصيد والذبائح
والنظر في أسباب الحل وأسباب الملك
النظر الأول في سبب حل الذبيح
وأركان الذبح أربعة الذابح والذبيح والآلة الذابحة ونفس الذبح
الأول الذابح فكل مسلم أو كتابي عاقل بالغ يصير أهلا للذبح بيده وبجوارح الصيد فتحل ذبيحه اليهود والنصارى دون المجوس وعبدة الأوثان أما المتولد من كتابي ومجوسي أو وثني فقولانأحدهما تغليب التحريم والثاني النظر إلى جانب الأب وحل الذبيح يقارب حل النكاح إلا في الأمة الكتابية إذ تحل ذبيحتها دون مناكحتها
فرع لو اشترك مجوسي ومسلم في ذبيح فهو حرام وكذا لو أرسلا إلى الصيد سهمين أو كلبين فحصل الهلاك بهما ولو سبق أحدهما وصيره إلى حركة المذبوح فالحكم له ولو هرب الصيد من كلب المسلم فرده عليه كلب المجوسي وقتله كلب المسلم فهو حلال ولا تأثير لإعانته في الرد وحيث يحل الصيد فالملك للمسلم ولو أثخنه كلب المسلم فأدركه كلب المجوسي وبه حياة مستقرة فقتله فهو ميتة وضمن المجوسي للمسلم إذ أفسد ملكه
أما قولنا عاقل بالغ احترزنا به عن المجنون والصبي الذي لا يميز ففي ذبيحتهما قولان ووجه التحريم أن القصد قد انعدم وأما الصبي المميز فتحل ذبيحته وفيه وجه من حيث إنه إن اعتبر القصد فقد نقول عمد الصبي ليس بعمد
وأما الأعمى فيصح ذبحه وفي اصطياده وجهان من حيث إن قصده لا يتعلق بعين الصيد وهو لا يراه
الركن الثاني الذبيح والحيوان ينقسم إلى ما يحرم فلا أثر لذبحه وإلى ما يحل كما سيأتي في الأطعمة وهذا ينقسم إلى ما تحل ميتته كالجراد والسمك وإلى ما لا يحل
أما الذي يحل فلا حاجة إلى ذبحه بل لو اقتطع قطعة من سمكة فهي حلال لأن ما أبين من حي فهو ميت ولو ابتلع سمكة حية فمكروه للتعذيب ولكن الظاهر أنه حلال ومنهم من حرم وجعل الموت بدلا عن الذبح
وأما حيوان البحر فتحل جميعها إلا المستخبثات وما يعيش في البر كالضفدع والسرطان وأما ما له نظير محرم في البر ككلب الماء وخنزيره قفيه قولانأحدهما الحل لقوله عليه السلام الحل ميتته والثاني لا لأنه لا يتناوله اسم السمك
وللشافعي قول غريب أنه لا يحل إلا السمك وهو مرجوع عنه لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حيوانا عظيما يسمى العنبر فأكلوه ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم
أما ما لا تحل ميتته فيتعين ذبحه في الحلق والمريء كما سيأتي إن لم يكن من الصيد وإنكان صيدا فجميع أجزائه مذبح ما دام متوحشا فإن أنس أو ظفر به وفيه حياة مستقرة تعين الذبح
ولو توحشت إنسية ولم يمكن ردها فهو كالصيد يذبح في كل موضع وكذا لو تنكس بعير في بئر وخيف هلاكه فقد قال صلى الله عليه وسلم لو طعنت في خاصرته لحلت لك فقال المراوزة خصص الخاصرة ليكون الجرح مذففا فلا يجوز جرح آخر وإن كان يفضي إلى الموتومنهم من قال تكفي كل جراحة تفضي إلى الموت
أما إذا شردت شاة أو بعير فمثل هذا مصيره إلى الزوال فإن أمكن رده بالإستعانة وجب وإن أفلت وعسر ذلك في الحال فالظاهر أنه يصبر إلى القدرة عليه ومنهم من قال ربما يريد ذبحه في الحال فله أن يرمي كما يرمي الصيد ثم لا خلاف في أنه لو كان اتباعه يفضي به إلى مسبعة أو مهلكة فهو كالصيد يرمي بسهم وإن كان يفضي إلى موضع لصوص وغصاب فوجهان
فروع

الأول إذا جرح الصيد بسهم ثم أدركه وفيه حياة مستقرة وجب ذبحه في المذبح فإن صبر حتى مات فهو حرام وعليه أن يعدو في طلبه كعادة الصياد وفيه وجه أنه يكتفي بمشي كمشي الساعي إلى الجمعة أما الوقوف فلا رخصة فيه
فلو أدرك وليس معه مدية أو تشبث بالغمد أو سقط منه أو ضاع أو سرق فليس معذورا في شيء من ذلك ولو غصبه إنسان فوجهان والظاهر أنه حرام فكأن الشرط أن يموت بجراحته قبل أن يدركه وهو غير مقصر ولو ابتدر وقطع بعض الحلقوم فمات فهو حلال لعدم التقصير وذبح الثعلب في أذنه لأجل الجلد حرام ولا يفيد الحل
الثاني لو قد صيدا نصفين فالنصفان حلال ولو أبان عضوا والجراحة مذففة حل العضو أيضا فإن لم تكن مذففة وذبح الحيوان في المذبح أو حرج جرحا مذففا فالعضو حرام لان ما أبين من حي فهو ميت وإن مات من تلك الجراحة ففي ذلك العضو وجهانوإن جرحه بعد الأولى جراحة أخرى غير مذففة فوجهان مرتبان وأولى بالتحريم
الركن الثالث آلة الصيد والذبح وهي ثلاثة أقسام جوارح الحيوان وجوارح الأسلحة والمثقلات
أما جوارح الحيوان فتحل فريسة الكلب المعلم بنص الكتاب أعني ما مات بعضه وجراحته وإنما يصير معلما بثلاثة أمور أن يسترسل بإرساله وينزجر بزجره ويمتنع من الأكل خوفا من صاحبه ولا بد أن تتكرر هذه الأمور حتى يتبين أنه تأدب به وليس بوفاق فالرجوع فيه إلى العادة وإنما يشترط الإنزجار بزجره في ابتداء انطلاقه أما إذا احتد في آخر الأمر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يشترط لأن ذلك ما لا يطاوع الكلب عليه والثاني أنه يشترط لأن ذلك أيضا يعسر في الإبتداء مع جوع الكلب ولكن به يصير مؤدبا أما إذا ترك الأكل ثم أكل مرة نادرا ففي تلك الفريسة قولان أحدهما أنه يحرم وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتمرضي الله عنه إذا أرسلت كلبك المعلم فكل وإن أكل فلا تأكل ولأنه أخذ لنفسه لما أكل لا لصاحبه والثاني أنه يحل لقوله عليه السلام لأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهكل وإن أكل ولأن هذا يحمل على جرأة وفرط جوع ولا يخرج عن كونه معلما
التفريع إن قلنا يحرم فريسته فلا ينعطف التحريم على ما سبق من فرائسه خلافا لأبي حنيفة رحمه الله نعم لو أكل مرارا وواظب عليه فيقطع بأنه تحرم فرائسه إذ خرج عن كونه معلما وفي انعطاف التحريم على ما سبق من الفريسة التي أكل منها أولا وجهان أما ما لم يأكل منها فلا تحرم
ولا خلاف في أنه لو انكف في أول التعليم لم تحل فريسته فلو واظب عليه لم ينعطف الحل على ما سبق أما إذا اقتصر على لعق الدم فلا يؤثر ذلك وفيه وجه أنه كالأكل
أما فريسة الفهد والنمر فحرام لأنه لم يتعلم ولا يطاوع في ترك الأكل والإنزجاربالزجر فإن تصور ذلك على ندور فهو كالكلب
وأما البازي فهل يشترط في تعلمه الإنكفاف عن الأكل فيه قولان أحدهما أنه يشترط وإن كان لا يتعلم إذ لا يحتمل الضرب فهو كالفهد والثاني أنه لا يشترط لأنه لا يتعلم وجنس الطيور من الصيد لا بد لها من جارحة وهي من الجوارح لا تكف عن الأكل بخلاف الفهد فإن في الكلب غنية عنه
فرع إذا مات بعض الكلب ففي موضع عضه ثلاثة أوجه أحدهما أنه ينجس فيغسل سبعا ويعفر والثاني أنه يقور الموضع إذا تشرب اللحم لعابه وكذا كل لحم عض عليه الكلب والثالث أنه يعفى عنه لأن الأولين لم ينقل عنهم ذلك
وقال القفال لو أصاب سن الكلب عرقا نضاخا بالدم سرت النجاسة إلى جميع أعضائه وهذا غلط لأن تكليف الكلب الحذر من العروق محال ولأن ذلك كالعين الفوارةبالماء فلا ينجس أسفلها بنجاسة أعلاها
النوع الثاني من الآلات جوارح الأسلحة وجرح الصيد بالسيف والسهم وكل حديد مفيد للحل ويلتحق بالحديد كل شيء يجرح من قصب وخشب سوى السن والظفر فإنه لا يحل الذبح به متصلا كان أو منفصلا لنهي ورد فيه وجوز أبو حنيفة رحمه الله بالمنفصل
النوع الثالث ما يصدم بثقله أو بخنق وذلك لا يفيد الحل فلو انخنق الصيدبالأحبولة أو بصدمة الوقوع فيها أو البئر المحفورة للصيد أو ضرب الطير ببندقة فكل ذلك حرام إذ لا بد من جارح
واختلف قول الشافعي في الكلب إذا تغشى الصيد فمات تحته غما ففيه وجهان أحدهما أنه محرم لأنه منخنق وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله والثاني لا لأن ذلك يكثر من الكلب وتكليفه العض غير ممكن
فرعان

الأول لو أصاب الطير الضعيف عرض السهم وجرحه طرف النصل فمات بالجراحة والصدمة فهو حرام وكذلك لو مات ببندقة وسهم أصابه من راميين فإن تردد في أن الموت بهما أو بأحدهما فالمغلب التحريم أما إذا أصابه النصل فلا يخلو النصل عن ثقل وتحامل فذلك لا يمنع الحل
الثاني لو جرح طائرا فانصدم بالأرض ومات فهو حلال لأن الإحتراز من ذلك للطيور غير ممكن ولو وقع في الماء أو تدهور من جبل فمات بالجميع فهو حراملأن ذلك نادر وإن وقع الصيد في الجبال والبحار فذلك لا يندر فلا يبعد تحليله ولكن قد قالوا لو وقع من غصن إلى غصن كذلك حتى مات من الجراحة فهو حرام لندوره فيظهر أيضا تحريمه في الجبال
أما إذا انكسر جناحه ولم ينجرح ثم انصدم بالأرض ومات فهو حرام إذ لم تسبق الجراحة
الركن الرابع نفس الذبح والإصطياد وكيفية الذبح مذكور في الضحايا ونذكر الآن الإصطياد أعني الإصابة بآلة الصيد وهو كل جرح مقصود حصل الموت به أما الجرح فلا يخفى حده وأما القصد فله ثلاثة متعلقات
الأول أصل الفعل ولا بد منه فلو سقط السيف من يده وانجرح به صيد أو نصب في الأحبولة منجلا فانعقر به الصيد أو نصب في أسفل البئر سكينا فانجرح به أو كان في يده سكين فاحتكت الشاة به فالكل حرام إذ لم يحصل بفعله بل بفعل الحيوان
ولو كان يحرك اليد والبهيمة أيضا تتحرك حركة مؤثرة غلب التحريم ولذلك تضبط الشاة حتى لا تتحرك إلا حركة يسيرة لا تؤثر وكذلك الكلب إذا استرسل بنفسه لم تحل فريسته لأنه إنما يصير مضافا إليه كالآلة باسترساله بإشارته
فروع

الأول لو استرسل بنفسه فأغراه فازداد عدوا ففي الحل وجهان فلو زجره فلم ينزجر فأغراه فازداد عدوا فوجهان مرتبان وأولى بالتحريم وينبني عليه ما لو كان الإرسال من مسلم والإغراء من مجوسي أو العكس لكن يظهر أثره في الملك ومأخذ الكل أن الإفتراس يحال على فعله أو على اغراء المغري وعليه يخرج ما لو أغرى أجنبي كلبا استرسل بإشارة مالكه فإن أحلناه على الإغراء فقد اصطاد بكلب مغصوب وفيه وجهانأظهرهما أن الصيد للغاصب والكلب المغصوب كالسكين المغصوب
والثاني أنه يتبع الكلب لكن في صورة الإغراء يظهر كونه للمالك ويحتمل الإحالة عليهما حتى يكون مشتركا هاهنا وعند إغراء المجوسي يحرم
الثاني إذا رمى سهما وكان يقصر عن الصيد فساعدت ريح من ورائه وأصاب حل ولو انصدم بجدار فارتد إلى الصيد وجرح فوجهان لأن فعله انتهى لمصادمة الجدار من وجه وأما حركات الذبح فلا تدخل تحت الضبط فلا يلتفت إليها
الثالث لو نزع القوس ليرمي فانقطع الوتر وارتمى السهم فأصاب فوجهان أحدهما أنه يحل لأنه حصل بفعله هو وعلى وفق شهوته والثاني لا لأنه لم يكن على وفق قصده
المتعلق الثاني أن يقصد جنس الحيوان فلو رمى سهما في خلوة وهو لا يقصد صيدا فاعترض صيد وأصاب حرم وكذا لو كان يجيل سيفه فأصاب حلق شاة
أما نية الذبح فلا تشترط بعد تعلق القصد بالعين بيانه أنه لو رمى إلى شيء ظنه حجرا فإذا هو صيد فهو حلال ولو قطع في الظلمة شيئا لينا قصدا فإذا هو حلق شاة فحلال ما لم يعتقد أنه حلق آدمي أو فعل حرام فإن ظن ذلك فالظاهر أنه حلال ولا يعتبر ظنه ومنهم من قال يحرم إذا اعتقد ذلك وينقدح ذلك في ظنه آدميا أو ما يحرم ذبحه أما لو ظنه خنزيرا فينبغي أن يحل قطعا لأنه لم يظن تحريم الذبح بل تحريم اللحم
المتعلق الثالث عين الحيوان فلو رمى بالليل إلى حيث لا يراه لكن يقول ربما يصيب صيدا فاتفق أن أصاب ففيه ثلاثة أوجه أحدها التحريم لأن تعلق القصد بالذبيح مع عدم الإدراك محال والثاني يحل لأنه قصد الذبح والثالث أنه إن رمى حيث يغلب وجود الصيد حل وإن اتفق نادرا فهو عبث فلا يحل وعلى هذا يخرج رمي الأعمى واصطياده بالكلب أما إذا قصد سربا من الظباء ورمى فأصاب واحدا حل وإن لم يقصد عينه فإنه قصد الجنس وإن لم يقصد العين أما القصاص في مثل هذه الصورة فقد يسقط على رأي للشبهةولو عين ظبية من السرب فمال السهم إلى غيرها ففيه ثلاثة أوجه يفرق في الثالث بين أن يصيب ظبية من غير هذا السرب أو من هذا السرب ولو قصد حجرا فأصاب ظبية فوجهان مرتبان وأولى بالتحريم ولو ظن أن الحجر ظبية فمال السهم إلى ظبية فالجواز أولى ولو قصد خنزيرا فمال إلى ظبية فوجهان وأولى بالتحريم هذا بيان القصد
أما قولنا حصل الموت به أردنا به أنه لو أصاب فمات الصيد بصدمة أو افتراس سبع لم يحل وكذلك لو غاب عن بصره فأدركه ميتا وعليه أثر صدمة أو جراحة أخرى حرم وإن لم يظهر أثر آخر فقولان أحدهما أنه لا يحل فإنه لا يدري إذ لم يمت بين يديه والثاني أنه يحل حوالة على السبب الظاهر ولذلك توجب غرة الجنين والقصاص بالجرح وإن أمكن الموت فجأة بسبب آخر
أما التسمية فليست شرطا عندنا للذبح والإصطياد ولكن تستحب عند الذبح وعند الرمي وعند إرسال الكلب فلو سمى عند عض الكلب ففي تأدي الإستحباب به خلاف
النظر الثاني من الكتاب في أسباب الملك وفيه فصلان
الأول في السبب

وهو إبطال منعة الصيد بإثبات اليد عليه أو رده إلى مضيق لا يتخلص أو إزمانه أو قص جناحه أما إذا اضطره إلى مضيق له مخلص فأخذه غيره فهو للآخذ
ثم الأسباب التي تقيد الملك تنقسم فيما يعتاد ذلك به كالشبكة فيكفي وقوع الصيد فيه لحصول الملك أما ما لا يعتاد كما لو تحل الصيد في زرع سقاه لا للصيد أو دخل داره أو عشش الطائر في داره فالمذهب أن الملك لا يحصل بمجرده وإن كانت تحت قدرته لأنه لم يقصده نعم هو أولى به لكن لو أخذه غيره كان كما لو أحيا أرضا يحجرها غيره وهاهنا أولى بحصول الملك لأن التحجر مقدمة الإحياء فهو قصد ما وبناء الدار ليس بقصد للصيد
ولو قصد ببناء الدار تعشيش الطائر فهل يملكه فيه وجهان لأن هذا سبب غير معتاد ومن أصحابنا من ذكر وجها أنه يملك بدخول ملكه وإن لم يقصد وهو ضعيف
ثم إن قلنا لم يملك فلو أغلق الباب قصدا ملك وإن كان عن وفاق فلا ولو انسل عنيده شبكة فتعقل بها صيد ففيه وجهان ولو دخلت سمكة بركة إنسان فإن سد المنافذ وهو ضيق ملك وإن كان واسعا لم يملك ونزل منزلة التحجر
هذا هو سبب الملك أما زواله فلا يزول الملك بانفلات الصيد عن يده أو عن شبكته ولا بإطلاقه إياه ولو قصد تحريره ففيه وجهان أحدهما أن ملكه قائم كما لو أعتق حماره والثاني أنه يزول لأن للصيد منعة واستقلالا ولو أعرض عن كسرة خبز فاخذها غيره فهل يملك ففيه وجهان مرتبان وأولى بأن لا يملكولو أعرض عن إهاب ميتة فدبغها إنسان ففيه وجهان مرتبان وأولى بأن يملك لأن الملك كالمستحدث بالدباغ
فرع
إذا اختلط حمام برج مملوك بحمام برج آخر وعسر التمييز فليس لكل واحد بيع شيء منه إلا أن يبيع من صاحبه ففيه وجهان ووجه جوازه مع عسر التعيين الحاجة
ولو توافقا على بيع الكل أو البعض من ثالث وكانا يعلمان العدد أو القيمة حتى يوزع عليه جاز وإن جهل ذلك لم يجز إذ لا يدري حصة كل واحد والصفقة تتعدد بتعدد البائع وإن تصالحا على شيء صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع أما إذا اختلط حمامات مملوكة بحمام بلدة ما فلا يحرم الصيد إذا كان المباح غير محصور وإن اختلط بمباح محصور حرم كأخت من الرضاع اختلطت بنسوة وإن اختلط حمامات بلدة لا تحصى بحمام بلدة لا تحصى ففيه وجهان ووجه المنع أن نسبة ما لا يحصى إلا ما لا يحصى كنسبة المحصى إلى المحصى
الفصل الثاني في الإزدحام على الصيد
وله أحوال
إحداها في التعاقب في الإصابة فإذا رميا صيدا فأصاب وأحدهما مزمن والآخر جارح فالصيد للمزمن فإن سبقته الجراحة فلا شيء على الجارح وإن لحقت فقد جرحت صيد الغير فعليه أرش النقصان إن لم يذفف وإن ذففه وكان في الصيد حياة مستقرة ولم يصب التذفيف المذبح فهي ميتة وعليه قيمته لانه ذبح في حيوان مقدور عليه في غير المذبح وإن أصاب المذبح حل وهاهنا أدنى نظر إذ من رمى شاة فأصاب حلقه ففي حصول الحل احتمال لا سيما إذا لم يقصد المذبح لكن أصابه ولعل الأظهر حله
أما إذا لم يكن الجرح الثاني مذففا ووقع على غير المنحر وترك الصيد حتى مات بالجرحين ففي القدر الواجب من الضمان على الثاني نظر ينبني على مسألة وهو أنه لو جرح عبدا أو بهيمة قيمته عشرة جراحة أرشها دينار فجرح آخر بعده ما أرشه أيضا دينار ومات من الجرحين ففيما يجب عليهما خمسة أوجه لا ينفك وجه عن إشكال
الأول أنه يجب على الأول خمسة لأنه شريك في عبد كان قيمته عند جنايته عشرة وعلى الثاني أربعة ونصف لأنه شريك في عبد كان قيمته عند جراحته تسعة وهذا باطل قطعا لأن فيه تضييع نصف دينار على المالك إذ كان قيمة العبد عشرة وقد فات بجنايتهما
والثاني أنه يجب على كل واحد خمسة وهذا أيضا باطل لأن التسوية بين الثاني والأول محال وكان وقت جناية الثاني قيمته تسعة فكيف يغرم أكثر من أربعة ونصف
والثالث وهو اختيار القفال أن على الأول خمسة من حيث هو شريك وعليه أيضا نصف دينار وهو نصف أرش جنايته لأنه حصل منه نصف القتل فلا يندرج تحته إلا نصف الأرش ويبقى النصف الآخر وعلى الثاني خمسة ونصف دينار وهو نصف أرش جراحته وأربعة ونصف هو نصف قيمة العبد عند جنايته وقال ليس في هذا إلا زيادة على العشرة وذلك لا يبعد إذ لو قطع يدي عبد وقتله غيره كان ما يجب عليهما أكثر من القيمة وهذا فاسد لما فيه من الزيادة ولأن الأرش لا يعتبر عند سراية الجناية أصلا سواء كان الجرح مع شريك أو لم يكن
الرابع قال أبو الطيب بن سلمة ما ذكره القفال صالح لأن نجعله أصلا للقسمة حتى لا يؤدي إلى الزيادة فتتبسط الأجزاء آحادا فيكون المجموع أحدا وعشرين جزءا فتبسط العشرة عليها فيجب على الأول أحد عشر جزءا من أحد وعشرين جزءا من عشرة وعلى الثاني عشرة أجزاء من أحد وعشرين جزءا من عشرة ولا يؤدي إلى الزيادة وهو فاسد لأنه بناء على تمييز الأرش واعتباره مع سراية الجناية
الخامس وهو اختيار الإمام وصاحب التقريب أن الثاني لا يلزمه أكثر من أربعة ونصف أما الأول فعليه خمسة ونصف لإتمام القيمة لأنه كان تسبب إلى الفوات لولا الثاني فما لا يمكن تقريره على الثاني يبقى عليه وهذا أيضا لا يخلو عن محالولكنه أقرب أما الزيادة على العشرة أو النقصان منها أو التسوية بين الشريكين فظاهر البطلان
المسألة بحالها لو صدر إحدى الجراحتين من السيد جرت الوجوه لكن ما يقابل جناية السيد فهو مهدر والباقي يجب
رجعنا إلى مسألة الصيد منهم من قال هو كالسيد والأجنبي ومنهم من قطع بأنه يجب الجميع على الثاني لأن فعل المالك في الصيد ليس إفسادا بل هو سبب حل وقد صار إفسادا بجناية الثاني وأما فعل السيد فإفساد والصحيح هو وجه ثالث وهو أنه إن قدر المالك على مبادرة الذبح فلم يفعل حتى مات بالجرحين ففعله إفساد فهو كالسيد وإن لم يقدر ففعله مخل فعلى الثاني تمام قيمة الصيد المزمن
فلو كان غير مزمن يسوى عشرة ومزمنا تسعة قال الأصحاب يجب تسعة واستدركصاحب التقريب وقال لو كان مذبوحا يسوى ثمانية فيلزمه الثمانية ولكن الدرهم الذي نقص بالذبح ينبغي أن يعتبر فيه شركة المالك فإن فعل المالك إن لم يعتبر في الإفساد فإنه شريك في الذبح وهو استدارك حسن
الحالة الثانية أن يصيبا معا فالصيد بينهما إن تساويا في التذفيف والإزمان أو عدمه وإن كان أحدهما لو انفرد لأزمن والثاني لم يزمن قال الصيدلاني فالصيد لمن يزمن ولا ضمان على الثاني لأنه لم تتأخر الجراحة عن الملك
ولو كان أحدهما مذففا والآخر مزمنا فهو كما لو كان مذففين أو مزمنين فهو لهما إذ لكل واحد علة مستقلة بالتملك
وإن احتمل أن يكون الإزمان بهما أو بأحدهما فإن كان بأحدهما ولا يدري بأيهما فالصيد بينهما ولكن لا بد أن يستحل أحدهما الآخر تباعدا عن الشبهة
ولو علمنا أن أحدهما مذفف وشككنا في الآخر قال القفال هو بينهما وزاد فقال في مثل هذه الصورة يجب القصاص على الجارحين وهذا في القصاص بعيد مع الشبهة والحق هاهنا أن النصف للمذفف يقينا والنصف الآخر موقوف بينهما فإن أيسنا عن التبيين فالوجه قسمة النصف الآخر حتى يفوز المذفف بثلاثة أرباع الصيد
الحالة الثالثة علمنا تعاقب الجرحين وأحدهما مزمن والآخر مذفف ولا ندري سبق الإزمان فحرم بالتذفيف بعده أو هو أو بالعكس ففيه طريقان أحدهما القطع بالتحريم تغليبا للحظروالثاني طرد القولين كما في مسألة الإنماء
والأصح الأول أما في مسألة الإنماء فلم نشاهد إلى السبب المحلل والآخر موهوم وأما هاهنا فليس كذلك
الحالة الرابعة ترتب الجرحان وحصل الإزمان بهما قال الصيدلاني الصيد بينهما وهو القياس وقال غيره هو للثاني إذ حصل الإزمان عقيبه والأول ساع لقاعد فعلى هذا لو عاد الأول وجرح ثانيا فجرحه الأول مهدر وجرحه الثاني مضمن وقد فسد الصيد بالجراحات الثلاث كلها ففي قدر الواجب طريقان أحدهما أنه يجب قيمة الصيد وبه الجراحة الأولى فإنه هدر والجراحة الثانية فإنها من المالك ومنهم من قال هو كما لو جرح عبدا مرتدا فأسلم فجرحه سيده ثم عاد الأول وجرح ثانيا ففيما يلزمه وجهان أحدهما ثلث الدية توزيعا على حالة الإهدار والعصمة ثم قسمة حصة العصمة على الجراحتين وقد ذكرنا ذلك في القصاص فكذلك هاهنا والله تعالى أعلم
كتاب الضحايا

الضحايا من الشعائر والسنن المؤكدة فالضحية بذبح شيء من النعم يوم النحر وأيام التشريق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم
وقال أبو حنيفة رحمه الله تجب على كل مقيم ملك نصابا
وعندنا لا تلزم إلا بالنذر أو بأن يقول جعلت هذه الشاة أضحية ولو اشتراها بنية الضحية لم تلزمه بمجرد النية
ثم من عزم على التضحية يستحب له أن لا يحلق ولا يقلم في عشر ذي الحجة لاللتشبيه بالحج فإنه لا يمتنع من الطيب لكن على أكمل أجزائه إذ قال عليه السلام أكبر ضحيتك يعتق الله بكل جزء منها جزءا منك من النار والنظر في أركان التضحية وأحكامها والأركان أربعة الذبيح والذابح والذبح والوقت
الركن الأول الذبيح النظر في جنسه وصفته وقدره
أما الجنس فلا يجزىء إلا النعم وهو الإبل والبقر والغنم وأما السن فهو الجذعة من الضأن وهي التي استكملت سنة وطعنت في الثانية والثنية من المعز والبقر وهي التي طعنت في الثالثة والثني من الإبل وهي التي في السادسة وهذه الأسنان فيها بلوغ هذه الحيوانات فإنها لا تحملولا تنزو قبلها وقد ورد الخبر بها ويستوي الذكر والأنثى بالاتفاق
وأما الصفات فلا يجزىء الناقص والنقصان ينقسم إلى نقصان صفة وإلى نقصان جزء أما نقصان الصفة فقد قال عليه السلام أربع لا تجزىء العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي أي لا نقي لها وهو المخ ونهي عن الثولاء وهي المجنونة التي تستدير في المرعى ولا ترعى فلا بد من بيان هذه الصفات
أما المرض إذا لم يفض بعد إلى الهزال لكنه في الإبتداء فالظاهر المنع للحديث وفيهوجه أنه إنما يؤثر إذا ظهر بها الهزال والجرباء إن كثر جربها وفسد اللحم فيمنع ومبادئه لا يؤثر
وأما العرج فأدنى درجاته ما يمنع من كثرة التردد في المرعى وما دون ذلك لا يمنع ولو انكسر رجلها وقد أضجعت للتضحية باضطرابها ففيه وجهان أحدهما لا تجزىء للحديث والثاني تجزىء لأن ما يكون من مقدمات الذبح لا يعتبر
وأما العور فلا يقدح ما دامت ترى بالعينين وإن كان عليها سواد فإن زالت الرؤية بالفقء فلا تجزىء وإن كان مع بقاء الحدقة فالظاهر المنع للحديث وقال أبو الطييب بن سلمة فإنه لا يؤثر في الهزال ولا في ظاهر الصورة ويلزمه العمياء أيضا إلا أن العمى يؤثر في الهزال عى قرب بخلاف العوراء
وأما العجفاء فهي التي يأباها المترفهون في حالة رخاء الأسعار ولركاكة لحمها وقيل لا يؤثر ذلكوأما الثولاء فإنها لا تجزىء لأنه يؤثر في الهزال على قرب وللتعبد أيضا وأما الأنثى والفحل وإن كثرت ولادتها ونزوانها فتجزىء إلا أن يتفاحش الهزال به ولا يمنع منه كون لحمه مستكرها
وأما الخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة فقد نهى عنها علي رضي الله عنه وقال أمرنا باستشراف العين والأذن أي يتأملها وطلب سلامتها
والخرقاء هي المخروقة الأذن والشرقاء هي المشقوقة الأذن والمقابلة هي التي قطعت فلقة من أذنها فتدلت من قبالة أذنها والمدابرة ما تدلت من دبر أذنها وفي جملة ذلك طريقان أحدهما أن فيه وجهين أحدهما الجواز للقياس والثاني المنع لنهي علي رضي الله عنه
ومنهم من قال جميع ذلك يجزىء إلا إذا قطع معظم الأذن أو القدر الذي يظهر على بعد فذلك نقصان في عضو يقصد أكله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصلومة والمستأصلة
وإن قطع قدر يسير من الأذن فوجهان وقدر أبو حنيفة رضي الله عنه بثلث الأذن وقدر أبو يوسف رحمه الله بالنصف وللشافعي رضوان الله عليه اختلاف نص في التي لا أذن لها فقيل إن كان صغيرا في الخلقة جاز وإن كانت سكاء فلا
فأما نقصان الأجزاء فلها صور
الأولى ما يقتطعه الذئب من فخذ الشاة فيمنع الإجزاء لأنه عضو أصلي ولو اقتلع أليته فوجهان ولو لم تكن لها ألية في الخلقة فوجهان مرتبان وأولى بالجواز ووجه الجواز أن المعز لا ألية له ويجزىء ولكن قد يجاب بأن كثرة شحمه بدل عنه
الثانية الصغيرة الضرع تجزىء وفي المقطوعة طريقان أحدهما أنه كالألية والآخر أنه تجزىء لأنه ليس من الأطايب المقصودة فهو كالخصاء فإنه لا يمنع الإجزاء قطعا
الثالثة نقصان القرن وانكساره لا يؤثر وكذا تناثر الأسنان إذ لا يؤثر في اللحم ولم يرد فهي حديث بخلاف الأذن وقيل إن تناثر جميع الأسنان لا يجزىء وإن تناثر بعضه أجزأ وهو بعيد
وأما القدر فالشاة لا تجزىء إلا عن واحد ولو اشترك اثنان في شاة لم يجز نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ضحى هذا عن محمد وأمة محمد وهذا اشتراك في الثواب وهوجائز ولو اشتركا في شاتين مشاعين منهما فوجهان والبدنة تجزىء عن سبعة وكذا البقرة ولو وجب عليه سبع شياه بأساب مختلفة أجزأه بدنة أو بقرة إلا أن يكون من جزاء الصيد إذ يراعى فيه مشابهة الصورة فلا يتجزىء البدنة عن سبع ظباء
ولا يشترط في الإشتراك في البدنة والبقرة أن يكونوا من أهل بيت واحد خلافا لمالك رحمه الله ولا أن يكونوا بأجمعهم متقربين خلافا لأبي حنيفة رحمه الله لكن منيطلب اللحم يقاسم إذا قلنا القسمة إفراز وإن قلنا إنها بيع فوجهان ووجه الجواز الحاجة هذا بيان الواجب أما الإستحباب فالضأن أحب من المعز وسبع من الغنم أحب من بقرة وبدنة والبدنة أحب من البقرة والأبيض أحب من الأسود وفي الخبر لدم عفراء أحب عند الله من دم سوداوين وقال الشافعي رضي الله عنه الأنثى أحب من الذكر فقيل أراد به في جزاء الصيد إذ يطلب منه القيمة وقيمة الأنثى أكثر وإلا فلحم الذكر أطيب فهو أولى وقيل أراد الأنثى التي لم تلد فلحمها أطيب من الذكر وعلى الجملة يستحب استحسان الضحية واستسمانها تعظيما للشعائر فإنها من تقوى القلوب و { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم }
الركن الثاني الوقت ولا تجزىء الضحية إلا في يوم النحر وأيام التشريق ودماء الجبرانات في الحج لا تختص بوقت وفي منذورات دماء الحج خلاف
ثم النظر في أول الوقت وآخره وأوله إذا مضى من يوم النحر بعد طلوع الشمس مقدار ما تزول كراهية الصلاة وتسع ركعتين وخطبتين ثم في وجه تعتبر ركعتان يقرأ فيهما ق واقتربت وخطبتين طويلتين كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي وجه تكفي ركعتان خفيفتان وخطبتان خفيفتان لكن لا ينتهي إلى القناعة بأقل ما يجزىء وقال المراوزة يعتبر في الخطبة الخفة وإنما الخلاف في خفة الركعتين لقوله عليه السلام قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة عن فقه الرجل وقيل الخطبة لا تعتبر أصلا لأنه ليس بركن
وآما آخره فغروب الشمس من آخر أيام التشريق وتصح التضحية في هذه الأيام ليلا ونهارا وقال مالك رحمه الله لا تجزىء بالليل وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تجزىء في الثالث من أيام التشريقثم من فاته فلامعنى لقضائه فإنه لا بد من الصبر إلى العيد الثاني وعند ذلك يقع عن حق الوقت
الركن الثالث الذابح وكل من حل ذبيحته صح مباشرته للتضحية لكن لا يتصور الضحية من العبد والمستولدة والمدبر إذ لا ملك لهم على الصحيح ولا تصح من المكاتب بغير إذن سيده وبإذنه وجهان ولو وكل كتابيا بذبح الضحية دون النية جاز وعليه أن ينوي كما لو وكله بأداء الزكاة جاز إذا نوى هو ويستحب أن يتولى الذبح بنفسه فإن عجز فيشهد ضحيته وينوي عند الذبح ولو وكل مسلما بالذبح والنية جاز
الركن الرابع في كيفية الذبح والنظر في الواجبات والسنن وما يخص الضحايا
أما الواجبات فهو التذفيف بقطع تمام الحلقوم والمريء بآلة ليس بعظم من حيوان فيه حياة مستقرةأما القطع فاحترزنا به عن اختطاف رأس العصفور ببندقة فإنه لا يبيح وأما الحلقوم والمريء فظاهران وبقطعهما ينقطع الودجان ولكن لو تكلف ولم يقطعهما جاز وقال مالك رحمه الله لا يجوز وقال أبو حنيفة رحمه الله هذه أربعة فيكفي قطع ثلاثة منها ولا يكفي قطع اثنين
وأما التمام فاحترزنا به عما لو بقي من الحلق جلدة يسيرة فانتهى الحيوان إلى حركة المذبوح ثم قطع بعده فهو حرام ولو قطع من القفا وأسرع حتى لم ينته إلى حركة المذبوحقبل قطع المذبح فهو جائز
وأما التذفيف أردنا به أنه لو ابتدأ الذبح وابتدأ غيره نزع الحشوة منه فهو ميتة وكذلك كل جرح يقارن الذبح ويؤثر في التذفيف
أما العظم فهو منهي عنه حتى يحرم الصيد المجروح بسهم نصله من العظم
وأما الحياة المستقرة فلا بد منها ولو أخرجنا شاة من ماء أو تحت هدم وبها حركة المذبوح فلا نبيح ذبحها فلو شككنا في أن حياتها كانت مستقرة أم لا فالوجه تغليب التحريم فإن غلبت على الظن بعلامات استقرار حياته حل وقال المزني رحمه الله من علامته أن يتحرك بعد الذبح وقيل أن ينفرج الدم وليست هذه علامات قاطعة فقد تخرج حشوةالمذبوح وهو يتحرك بعد لكن جملة من هذه العلامات مع قرائن أحوال لا يمكن وصفها قد تحصل ظنا غالبا فيؤخذ به مع أن الأصل بقاء الحياة
أما السنن فيستحب تحديد الشفرة والتحامل عليها بالقوة وإسراع القطع وتوجيه الذبيح نحو القبلة كما جرت العادة والتسمية ولا بأس أن يقول بسم الله ومحمد رسول الله بالرفع ولا يجوز أن يقول بسم محمد ولا أن يقول بسم الله ومحمد رسول الله فإنه تشريك ويستحب ذبح البعير في اللبة فإن ذبحه يطول عليه العذاب لطول عنقه ثم النحر في اللبة بقطع الحلق والمريء أيضا وقال أبو حنيفة رحمه الله ترك التسمية عامدا محرم
أما ما يخص بالضحية فأن يقول اللهم منك وإليك فتقبل مني ولا بد من نية الضحية عند الذبح إلا أن يكون قد عين الشاة للضحية من قبل فالمذهب أن تلك النية تكفيه
وصريح لفظ التعيين أن يقول جعلت هذه ضحية أما لو قال لله علي ضحية ثم قال عينت هذه الشاة لنذري ففي التعيين وجهان ولو قال لله علي أن أضحي بهذه الشاة ففي التعيين وجهان مرتبان وأولى بالتعيين وكذا الخلاف في نظيره من العتق والعبد بالتعيين أولى لأنه ذو حق فيه ووجه قولنا لا يتعين أن الحق قد ثبت في الذمة فلا يتحول عنها إلى العين إلا بالأداء ولو قال جعلت هذه الدراهم صدقة ففي التعيين وجهان ولو كان عليه نذر فقال جعلت هذه عن نذري لغا تعيينه لضعف اللفظ والغرض في التعيين ولو قال لله علي أن أتصدق على هذا الشخص فهذا أولى بالتعيين من تعيين الدراهم بل هو قريب من العتق
ثم إذا تعين الشاة اختص بوقت الضحية ولو قال لله علي أن أضحي بشاة ففي تعيين الوقت وجهان من حيث إنه يشبه دماء الجبرانات لكونه في الذمة والصحيح أن ذكر وصف الضحية يوجب تعيين الوقت فإن قلنا لا يتعين الوقت فلو قال جعلت هذه الشاة عن جهة نذري ففي التأقيت وجهان والقياس أن لا يلزم لأنه عين عن جهة ما التزم
القسم الثاني من الكتاب النظر في أحكام الضحايا
وهي ثلاثة
الأول التلف فإذا قال جعلت هذه الشاة ضحية فماتت فلا شيء عليه إلا أن يكون قد عينها عن نذر سابق وقلنا إنها تتعين ففي وجه أنه كان تعيينه بشرط الوفاء فإن ماتت فعليه الإبدال
وأما إذا أتلفها أجنبي فعليه قيمتها يشتري بها ضحية فإن لم يف فليس عليه التكميل
أما المالك إذا أتلف ففي وجوب التكميل وجهان من حيث إنه كالملتزم للضحية والشقص لا يجزىء فلا بد من الإتمام وإن زادت القيمة فيشتري بها كريمة وإن تعذر فوجهان أحدهما أنه يشتري به شقص للضرورة وكذلك إذا كان ما غرمه الأجنبي أقل من ضحية والثاني أنه يصرف مصرف الضحايا حتى لو اشترى منه خاتما يقتنيه ولا يبيعه جازهذا في الإهلاك أما إذا ذبحه أجنبي في وقت الضحية فحيث لا تشترط النية اكتفاء بالتعيين السابق فقد وقع الموقع وإن قلنا لا بد من النية فقد فاتت القربة وفي لحمه وجهان أحدهما أنه يعود إلى مالكها وتنقل عنه الضحية وعلى الذابح أرش نقصان الذبح والثاني أنه يصرف مصرف الضحية وإن لم تكن ضحية وإنما تفوت القربة دون الإستحقاق ولا يجب على الأجنبي إلا نقصان الذبح وحيث قلنا يقع الموقع ففي لزوم أرش الذبح قولان أحدهما نعم لعدوانه والثاني لا لتأدي الواجب به
هذا إذا لم يفرق الأجنبي اللحم فإن فرق فاللحم مسترد ممن أخذه لأن التعيين إلى المضحي فإن تعذر فعلى الذابح قيمة اللحم وأرش الذبح جميعا وإنما سقط أرش الذبح على قول إذا تأدت القربة به والآن فقد فات بتفريقه
ثم في كيفية تغريم كل من ذبح شاة غيره وأكل لحمه وأتلف قولانأحدهما أنه تجب قيمتها حية والثاني أنه يجب أرش نقصان الذبح وقيمة اللحم لأنه ذبح ملكه وأكل ملكه وهذا قد يقتضي زيادة قيمة
الحكم الثاني التعيب ومهما لم يلزمه شيء بالتلف فلا يلزمه بالتعيب ولكن لو كان العيب بحيث يمنع الإجزاء في الضحية فهل ينفك عن الضحية والشاة معينة فوجهان أحدهما نعم كالتلف والثاني لا بل تجري مجرى الضحايا
ولو قال ابتداء لشاة معيبة جعلت هذه أضحية وجب صرفها إلى مصرف الضحايا على الصحيح إذ لا محمل لكلامه إلا هذا ولو قال لظبية جعلت هذه أضحية لغا قوله ولو قال لفصيل فوجهان وكأن السن دائر بين العيب والجنس
ولو قال لله علي أضحية ثم عين معيبة للنذر لا تبرأ بها ذمته وهل يلزمه تفرقة لحمها فيه وجهان ولو زال العيب ففي براءة الذمة بها وجهان وأما إذا كان تعيب المعينة بفعله فعليه التضحية بشاة صحيحة بدلا عنها وفي انفكاك المعينة الوجهان المذكوران
فروع

الأول طرآن العيب والإنكسار حالة قطع الحلقوم لا يؤثر وقبله وبعد الإضجاع للشاة وجهان ذكرناهما في انكسار الرجل وإنما يليق التردد بما يكون من اضطراب الذبح أما إذاكان بسبب آخر فيظهر تأثيره وقد قال القفال ما يطرأ على الهدي المسوق إلى الحرم بعد بلوغ الحرم لا يؤثر لأنه قد بلغ محله وخالفه الأصحاب لأن من اشترى في الحرم الهدي فتعيب قبل الذبح أثر ذلك فيه فأي أثر للسوق
الثاني لو قال لله علي أن أضحي بعرجاء ففيما يلزمه ثلاثة أوجه أحدها أنه تلزمه صحيحة والثاني أنه لا شيء عليه كنذر الظبية والثالث أنه لا يلزمه إلا العرجاء
الثالث ضلال الشاة كتلفها وإنما نريد أنها لو وجدت بعد أن أوجبنا عليه البدل وقد ضحاه ففي انفكاك الضالة قولان أحدهما أنه ينفك إذ لا وجه للتضعيف وقد ضحى البدل والثاني أنه يضحي أيضا لأنه الأصل
وإن لم يكن قد ضحى البدل اقتصر على الأصل إلا أن يكون قد عين البدل بلفظه فأي الشاتين تذبح فيه أربعة أوجه أحدها البدل والثاني الأصل والثالث كلاهما والرابع يتخير أيهما شاء
الحكم الثالث الأكل وهو جائز من المتطوع به وهل يجوز أكل الجميع أم لا تتأدىالسنة إلا بتصدق شيء منه فيه وجهان أحدهما أنه يجوز لأن المقصود إراقة الدم والضيافة وقد يستوي في ضيافة الله تعالى المالك وغيره والثاني أنه يتصدق بما ينطلق عليه الإسم لقوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير }
ولا يكفي في هذا القدر الإطعام بل لا بد من التمليك للفقير ولا يكفي تمليك الغني للفقير أن يملك من شاء من غني وفقير ويجوز إطعام الأغنياء من الضحية وعلى كل قول فالتصدق بالكل أحسن وكان من شعار الصالحين تناول لقمة من كبد الضحية أو غيرها وقال علي رضي الله عنه في خطبته بالبصرة أما إن أميركم رضي من دنياكم بطمريه لا يأكل اللحم في السنة إلا الفلذة من كبد أضحيته
ثم كمال الشعار يتأدى بالتصدق بالنصف لقوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا } إلى وقيل تتأدى بالثلث لقوله عليه السلام كلوا منها وادخروا واتجروا أي اطلبوا الأجر بالتصدقوما يجوز أكله فلا يجوز إتلافه ولا أن يملك الأغنياء ليتصرفوا فيها بالبيع لأن الضيافة مقصودة
فرع
لو أكل الكل على قولنا يمتنع ذلك ففيما يلزمه من الغرم وجهان أحدهما قدر ما ينطلق عليه الإسم وهو الصحيح والثاني النصف أو الثلث هذا كله في المتطوع به أما المنذورة ففي جواز الأكل منها وجهان أحدهما أنها كالمتطوعة والثاني أنه لا يجوز الأكل منها كدماء الجبرانات
فإن قيل ما حكم جلد الضحية قلنا الصحيح أنه لا يباع لكن ينتفع به في البيت أو يتصدق به وحكى صاحب التقريب قولا بعيدا أنه يباع ويصرف ثمنه مصرف الضحايا وهو ضعيف نعم قال لو تصدق بالجلد بدلا عن اللحم إذا قلنا إن عليه التصدق لم يجزه ذلك وهو أحسن
فرع
ولد الضحية المعينة لها حكم الأم والصحيح أن التصدق بجزء من الأم يسلط على أكل جميع الولد كما يسلط على أكل جميع اللبن فإنه في حكم جزء وفيه وجه أنه لا بد من التصدق بشيء من الولد لأنه حيوان مستقل
فرع
آخر لو اشترى شاة ثم قال جعلتها ضحية ثم وجد عيبا امتنع ردها ولهطلب الأرش كما بعد العتق وقال العراقيون يسلك بالأرش مسلك الضحايا وهو بعيد لأنه لم يعين إلا المعيبة وظنه السلامة لا ينبغي أن يلزمه أرش السلامة
واختتام الكتاب بباب العقيقة وهي سنة عندنا واجبة عند داود بدعة عند أبي حنيفة رحمه الله
وحكمها حكم الضحية في الأكل والتصدق والسلامة من العيوب لكنها عبارة عن شاة تذبح في سابع ولادة المولودة لا تتأقت بيوم النحر بل يدخل وقتها بالولادة كما يدخل وقت دماء الجبرانات بأسبابها
وفي الخبر يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة ثم تكفي الشاة عن الغلام وفاقا نعم تختص العقيقة بأنه لا يكسر منها عظام الشاة فقد ورد فيها خبر ولعله تفاؤل بسلامةأعضاء المولد فتنضج وتفصل المفاصل وتفريق اللحم أولى من دعاء الناس إليه وقال الصيدلاني يجوز التصدق بالمرقة وهذا إن أراد به أن يكفي عن التصدق بمقدار من اللحم إذا قلنا لا بد منه ففيه نظر
قال الشافعي رضي الله عنه وعادة العرب تلطيخ رأس الصبي بدم العقيقة وهو مكروه نعم يستحب أن يسمى الصبي في السابع ويحلق شعره ويتصدق بزنته ذهبا أو فضة
كتاب الأطعمة

وفيه بابان
الباب الأول في حالة الاختيار

والحيوان والجمادات أكثر من أن تحصى لكن الأصل فيه الإباحة لقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية فجميع ما يمكن أكله مباح إلا ما يستثنيه عشرة أصول
الأول ما حرم بنص الكتاب كالخمر والخنزير والدم والمنخنقة والموقوذة وكذلك ما حرم بالنص عليه في السنة كالحمر الأهلية
الأصل الثاني ما في معنى المنصوص عليه كالنبيذ الذي هو في معنى الخمر المنصوص عليه
الأصل الثالث كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويحرم الفيل لأنه ذو ناب مكاوح وكذا الدب ومن ذوات المخلب البازي والشاهين والصقر والعقاب والنسر وجميع جوارح الطير والثعلب والضبع والضب حلال عند الشافعي رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة رحمه الله لورود أحاديث فيها وترددوا في ثلاثة حيوانات
أحدها ابن آوى قطع المراوزة بتحريمه وذكر العراقيون خلافا
والثاني ابن عرس تردد العراقيون فيه لتردد شبهه بين الثعلب والكلب
والثالث الهرة الوحشية فيها تردد لترددها بين الهرة الأهلية والأرنب وربما يظن أن أصلها إنسية فتوحشت في سني القحط ولا يحل السنور لما روي أنه عليه السلام قال الهرة سبع ولأنه يصطادبالناب وتأكل الجيف فأشبه الأسد ويحل أكل الخيل لما روى جابر قال ذبحنا يوم خبير الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل
وأما الدلدل قطع الشيخ أبو محمد بتحريمه وأما السمور والسنجاب وما يشبههما فالأظهر إلحاقهما بالثعلب وقيل هو كابن عرس
الأصل الرابع ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله في الحل والحرم وهي الفواسق الخمسالغراب والحدأة والفأر والحية وفي معنى المنصوص كل سبع ضار كالذئب والأسد والفهد والنمر والكلب العقور وما ليس عقورا فهو محرم لأنه ذو ناب يعدو به كالهر
الأصل الخامص ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله فإن ذلك يدل على التحريم إذ لو حل لحل ذبحه كما أن الأمر بالقتل يدل على التحريم إذ لو حل لأمر بالذبح لا بالقتل وقد نهى عن قتل الهدهد والخطاف والنحل والصرد ولنملة وقد نص رضي اللهعنه على أن المحرم يفدي الهدهد بالجزاء ولا يفدي عنده إلا حلال واختلف الأصحاب في حله لذلك وأما اللقلق فالأظهر أنه يحل لأنه كالكركي
وأنواع الحمامات حلال وهن كل ذات طوق وأنواع العصافير وإن اختلفت ألوانها حلال وهي كثيرة والفاختة واليمام والقمري من الحمامات والزرزور والصعوة من العصافير وإنما ينظر فيه إلى تقارب الأشكال لا إلى الألوان
وأما الغربان فإنها من الفواسق مع الحدأ والبغاثة في معنى الحدأة وهي ذات مخلب ضعيف ولكنها تقرب من الحدأة والغراب الأبقع هو المقطوع بتحريمه أما الأسودالكبير فألحقه المراوزة بالأبقع وتردد فيه العراقيون وأما غراب الزرع وفيه غبرة ليست كثيرة ومنه المحمرة المناقير والأرجل ففيها تردد
وأما طير الماء فمباح كله وكذا في جميع حيواناته إلا ماله نظير في البر محرم ففيه قولان ذكرناهما
الأصل السادس كل ما استخبثته العرب فهو حرام قال الله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } وإنما خرج على ما هو طيب عندهم فالحشرات كلها مستخبثة وكانت العرب تستخبث الباز والشاهين والنسر والصقر كما تستخبث العظاية واللحكاء والخنافس واللحكاء دويبة تغوص في الرمل مثل الأصبع والعظاية مثل الوزغ والضفدع والسلحفاة من المستخبثات وكذا السرطان
ولا يحل من الحشرات شيء إلا الضبة وفي أم حبين تردد وفي الآثار أنها تفديبحلان وكأنه ولد الضب وذوات الأجنحة من الحشرات كالذباب فإنها مستخبثة وإنما يحل منها الجراد وفي الصرارة تردد لتردده بين الخنافس والجراد وهو بالخنفساء أشبه وفي القنفذ تردد لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه أفتى بحله واستدل بقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية فقام شيخ وقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها من الخبائث فقال ابن عمر رضي الله عنه إن قال فهو كما قال فسبب التردد في قول الشيخ وعدالته ثم لا وجه فيما أشكل خبثه إلا الرجوع إلى العرب فإنها وإن كانت أمة كبيرة فطباعها متقاربة
الأصل السابع ما أخبر الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه كان حراما على الأممالسالفة فهو حرام على أحد القولين وإن لم يكن في شرعنا ذكر تحريمه علينا ولا نرجع في ذلك إلى قول أهل الكتاب إذ لا يوثق بقولهم والقول الثاني أن الإعتماد على عموم آية الإباحة أولى من اعتماد استصحاب حال الشرائع السابقة
الأصل الثامن ما حكم بحله إذا خالطته نجاسة فهو حرام كالزيت النجس وبيعه حرام وإن ماتت فأرة في سمن ذائب أو غيره فكذلك وإن كان جامدا قور وطرح ما حوله والباقي طاهر كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
والجلالة وهي الحيوان الذي يتعاطى العذرة والأشياء القذرة حلال إن لم يظهر النتن في لحمه فإن ظهر النتن فهو نجس وحرام وإن تكلف بالعلف إزالة رائحتها حلت وإن تكلف بالطبخ فلا وجلدها يطهر بالدباغ والذكاة إن لم تبق الرائحة في الجلد وذكر العراقيون أن الجلالة تكره ولا تحرم أما الزرع فحلال وإن كثر الزبل فيه فإنه لا يظهر الرائحة فيه
الأصل التاسع ما حكم بحله فميتته ومنخنقته حرام وبالجملة كل ما لم يذبح ذبحا شرعيا كما وصفناه ولا يستثنى عن ميتته إلا الجراد وحيوانات البحر لقوله عليه السلامالحل ميتته وعن المنخنفة إلا الجنين الذي يوجد ميتا في بطن المذبوح فإنه حلال ورد فيه الخبر
الأصل العاشر ما اكتسب بمخامرة نجاسة ككسب الحجام فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فروجع مرارا فقال أطعمه عبدك وناضحكوهذه كراهية وليس بتحريم وقد علل بأن ذلك مكتسب من حرفة خسيسة جائزة ومخامرة نجاسة
وعندي أن التعليل بذلك يوجب إلحاق أجرة الكناس والدباغ به ولم يذهب إليه أحد ولعل السبب فيه أن الحجامة والفصد جرح مفسد للبنية وهو حرام في الأصل وإنما يباح بتوهم المنفعة وذلك مشكوك فيه ويطرد هذا في أجرة من يقطع يدا متآكلة لاستبقاء النفس ولا يطرد في أجرة الجلاد الذي يقطع في السرقة وقد أوردت هذه العلة في كتاب الحلال والحرام من كتب إحياء علوم الدين وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه في آخر هذا الكتاب الودك النجس والإنتفاع به وبيعه وقد ذكرناه في البيع
الباب الثاني في حالة الإضطرار

قال الله تعالى { إلا ما اضطررتم إليه } فيباح تناول الحرام للضرورة والنظر في حد الضرورة وجنس المستباح وقدره
أما الضرورة فنعني بها أن يغلب على ظنه الهلاك إن لم يأكل وكذلك إن خاف مرضا يخاف منه الموت لجنسه لا لطوله ون كان يخاف طول المرض وعسر العلاج ففيه قولان ولا شك في أنه لا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت فإن الأكل بعد ذلك لا ينعشه والظن كالعلم هاهنا كما في المكره على الإتلاف
ثم إذا جاز الأكل وجب أن لا يجوز السعي في الهلاك وفيه وجه أنه يجوز الإستسلام تورعا عن الحرام في الصيال وهو ضعيف لأن ذلك إيثار مهجة على مهجة
وأما تحريم الميتة فلا ينتهي إلى هذه الرتبة نعم يتجه ذلك ما دام المضطر غير قاطع بأن ترك الأكل يضره بل ظانا ظنا قريبا من الشك فإن ذلك يدرك بنوع اجتهاد
النظر الثاني في قدر المستباح وفي جواز الشبع بعد تحقق الضرورة نصوص مضطربة حاصلها ثلاثة أقوال أحدها أنه يجب الإقتصار على سد الرمق إذ رجع إلى حالة لا يجوز ابتداء الأكل على مثله وزال الخوف والإضطراروالثاني أنه يشبع إذ نبيح للمضطر الأكل مطلقا وتحققت الضرورة أولا والثالث أنه إن كان في بلد اقتصر على سد الرمق وإن كان في بادية وخاف إن لم يشبع أن لا يتقوى على المشي ويهلك فيشبع وهذا يستدعي مزيد تفصيل فإن من علم في البادية أنه لو لم يشبع ولم يتزود لا يقوى ولا يجد غيره ويهلك فيجب القطع بأنه يشبع ويتزود ولا يفارق الإبتداء الدوام في هذا ون كان في بلد ولو سد الرمق ثم توقع طعاما مباحا قبل عود الضرورة وجب القطع بالإقتصار إذ الضرورة تبيح إزالة الخوف دون الشبع فإن كان لا يتوقع طعاما ولكن يمكنه الرجوع إلى الميتة إن لم يجد مباحا فهاهنا يتجه التردد إذ لو شبع لم يعاود على قرب وإن اقتصر عاد على القرب فيحتمل أن يقال هذا وإن لم يجز في الإبتداء ولكن بعد أن وقع في الأكل فالأكل دفعة أقرب من المعاودة كل ساعة والأقيس ما اختاره المزني رحمه الله وهو سد الرمق إلحاقا للدوام بالإبتداء
النظر الثالث في جنس المستباح ويباح الخمر لتسكين العطش لأنه مستيقن كإساغة اللقمة بخلاف التداوي ويباح كل حرام إلا ما فيه سفك دم معصوم وليس لهقتل ذمي أو معاهد ولا قتل عبده وولده ويجوز له قتل المرتد والزاني المحصن وإن كان ذلك منوطا بالإمام تقاوم هذا القدر وكذلك قتل الحربية جائز على الظاهر وإباحة قتل ولد الحربي وهو صغير فيه نظر والأظهر جوازه لأنه لا يقاوم تحريمه روح مسلم
فروع

الأول لو قطع فلذة من فخذه ولم يكن الخوف منه كالخوف من الجوع ففي جوازه وجهان ولا يجوز أن يقطع من فخذ عبده وأجنبي آخر لأن له أن يفدي نفسه ببعض نفسه ولا يمكن ذلك في حق غيره
الثاني إذا ظفر بطعام من ليس مضطرا مثله فله أخذه وليس لمالكه منعه ولكن الأصح أن يستأذن أولا فإن منع أخذه قهرا فإن قاتله فدم المالك هدر ودم المضطر مضمون بالقصاص عليه ولو قال المالك أبيع منك فعليه الشراء ثم إن كان بثمن المثل لزمه الشراء وإن زاد الثمن فهو مضطر في شرائه كالمصادر فلا يلزمه على أحد القولين إلا إذا قدر على سلبه قهرا فاشترى فإنه يصير مختارا ولو أوجر المالك المضطر الطعام قهرا ففياستحقاقه القيمة عليه وجهان
الثالث إذا وجد ميتة وطعام الغير ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الميتة أولى ترجيحا لحق الآدمي والثاني المال أولى إذ تفويت العين ببدل أسهل من تناول الميتة والثالث أنه يتخير لتعارض الأمرين
والصيد في حق المحرم كطعام الغير ولو كان عنده لحم صيد فهو أولى من الميتة فإن المحذور حق الصيد في القتل وتحريم اللحم على المحرم أهون من تحريم الميتة العام تحريمها والله أعلم
كتاب السبق والرمي

وفيه بابان الباب الأول في السبق
ويجوز أن يشترط المتسابقون في الخيل مالا للسابق يستحق بالسبق والرخصة فيه تحريض على تعلم أسباب القتال قال الله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } ولا غناء في القوس والسهم إذا لم يسبقه تعلم الرمي ولا في الأفراس الجياد إذا لم يمارسها فارس حاذق وأبطل أبو حنيفة رحمه الله هذا العقد ويتهذب الباب بفصول ثلاثة
الفصل الأول فيما يجوز العقد عليه

وقد قال عليه السلام لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل وأراد بالخف الإبل وهو أيضا عدة للقتال وإن لم يبلغ مبلغ الفرس حتى لا يستحق به سهم الفارس والمعنى معقول من ذكر هذه الأشياء الثلاثة فيلحق به ما في معناه لكن من الأصحاب من يتبع الاسم ومنه من يتبع ظهور المعنى ومنهم من يتبع أصل المعنى وإن ضعف
أما الخف فألحق به الفيل لأنه أظهر غناء من الإبل في القتال وفيه وجه أنه لا يلحق به لأنه نادر ونعلم أنه عليه السلام ما أراده وهو بعيد
وأما البغال والحمير فلا تلحق على الظاهر إذ لا غناء لها في القتال وفيه وجه أنه تلحق لأن ركوبها مقدمة لتعلم ركوب الفرس ويكفي أصل المعنى وهو بعيد
وأما النصل فيستوي فيه أصحاب القسي من الناوك وغيره وكذلك أنواع النصل كالمسلة والإبرة فهو في معنى السهم والإسم أيضا يشمل
وأما الزانات والمزاريق فهي على رتبة بين الفيل والحمر والظاهر إلحاقها لغنائها ولشمول اسم النصل ولكن هذا الخلاف جار في الرمي بالحجارة والمقاليع لغنائها وإن لم يشملها اسم النصل
واستعمال السيف أيضا قريب من رتبة الزانات فإن غناه أظهر من الكل ولكن اسم النصل بعيد عنه ولكن هو الأصل في القتال وهو نفار من السكين والرمح نفار من السيف والرمي نفار من الرمح
فأما المسابقة بالطيور والحمامات وفائدتها نقل الأخبار فالظاهر منعه لبعد المعنى وضعفه وفيه وجه أنه يجوز
الفصل الثاني في شروط العقد
وهي خمسة
الأول الإعلام في المال ومقداره وفي الموقف والغاية بتعيينها والتساوي فيهما فلو شرط تقدم أحدهما بمسافة ويجري الآخر وزعم أنه يسبقه لم يجز بالإتفاق لأن اختلاف الأفراس بالفراهة لا تنضبط مقاديرها فليضبط بالتساوي
ثم إن كان أحد الفرسين بحيث يسبق قطعا لو تساوقا فالعقد باطل وكذلك لو شرطا أن يتساوقا في الركض إلى حيث يسبق أحدهما فيستحق المال لم يجز لأن الجواد قد يحتد في آخر الميدان فلا معنى لاقتحام جهالة بغير فائدة
ولو عينا الغاية ولكن شرطا استحقاق الشرط لمن يسبق في وسط الميدان ففيه وجهان وكذلك لو عينا الغاية ولكن شرطا غاية أخرى يمتدون إليها إن لم يسبق في الأولى ففيه وجهان مرتبان وأولى بالجواز
الشرط الثاني أنه إذا تسابق جماعة فينبغي أن يشترط السبق للسابق فلو شرط للمصلي وهو التالي للسابق ففيه ثلاثة أوجهأحدها المنع لأن المقصود إظهار الجلادة بالسبق دون التخلف والثاني الجواز لأن ضبط الفرس بعد احتداده على حد المراد يحتاج إلى جلادة والثالث أنه لا يشترط الكل إلا للسابق
أما لو شرط للمصلي قدرا دون ما للسابق وهكذا على الترتيب والتفاضل لكل من هو أقرب إلى السابق فهو جائز
وأما الفسكل وهو الأخير فلا يجوز أن يخصص بفضل قطعا وهل يجوزا أن يشترط له شيئا دون الآخرين فيه وجهان أحدهما لا لأن التخلف لا يعجز عنه أحد والثاني نعم لأنه منهم وقد اجتهد فيجوز أن يشرك فيه
الشرط الثالث أن يكون فيما بينهم محلل ليميل بالعقد عن صورة القمار والقمار أن يجتمع في حق كل واحد خطر الغرم والغنم بأن يخرج كل واحد منهما مالا يحرزه إن يسبق ويأخذ مال صاحبه وهذا حرام قطعا وإنما المباح أن يخرج الإمام مالاللسابق أو يخرج رجل من عرض الناس إذ يأخذ كل واحد لو سبق ولا يغرم لو تخلف وكذلك لو أخرج أحد المتسابقين مالا ورضي بأن يحرزه إن سبق ويبذله إن تخلف جاز وكذلك إن تسابق ثلاثة وأخرج رجلان منهم المال والثالث لم يخرج فهو محلل فإن شرط المال للمحلل إن سبق ولم يشترط لأحد المستبقين شيء إذا سبق بل الآخران فقط فهذا جائز لأن الذي يأخذ ليس يغرم شيئا والذي يغرم ليس يأخذ شيئا وإن شرطا أن يستحق المحلل كلا المالين وإن سبق أحد المستبقين أحرز ماله وأخذ مال صاحبه ففي صحة هذه المعاملة قولان أحدهما المنع لاجتماع الخطر في حق كل واحد منهما والثاني الجواز لأن هذه عادة المسابقة ولا يرضى باذل المال بمجرد الإحراز إن سبق
ودخول المحلل الواحد الذي لا يأخذ مالا ولا يعطي مالا يخرج بالعقد عن صورة القمار فيكفي على هذا محلل واحد بين مائة
وعبروا عن محل الخلاف بأن المحلل يحلل لنفسه فقط أو لنفسه ولغيره فعلى هذا لو قال لا سبق إلا للمحلل إذا سبق فسبق أحدهما والمحلل مصل والآخر فسكل فهل يسحق المحلل مال الفسكل وفيه وجهانأحدهما نعم لأنه سبقه والثاني لا لأنه مسبوق بالأول فلا يسمى سابقا مطلقا
والخلاف راجع إلى أن اسم السابق هل يحمل على السابق مطلقا أو على السابق بالإضافة وكذا الخلاف لو كان المصلي أحد المستبقين وقد شرط السبق للسابق وجوزنا ذلك على أحد القولين فإذا كان المستبق الثاني وراءه فهل يستحق شيئا من ماله وهو مسبوق وسابق فيه وجهان
فرع إذا شرط السبق للسابق وجوزنا ذلك فسبق المحلل وجاءوا متساوقين بعده أخذ المحلل ماليهما وإن تساوقا وأتى المحلل بعدهما فلا مال لأحد وإن سبق المحلل وتلاه المستبقان متلاحقين ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن المحلل يأخذ ماليهما لأنه سبقهما وهو الصحيح والثاني أنه يأخذ مال المصلي والمصلي يأخذ مال الفسكل لأنه سبقه أيضا وهذا ضعيف لأن المحلل أيضا سبقه والثالث أن المحلل يأخذ مال المصلي ومال الفسكل بين المصلي والمحلل لأنهما سبقاه وهو أيضا ضعيف
وأما إذا جاء المحلل مع أحدهما متساوقين والآخر فسكل فمال الفسكل لهما إلا إذاقلنا إن المحلل لا يحلل إلا لنفسه فيفوز إذ ذاك بالمال
أما إذا سبق أحدهما والمحلل مصل والآخر فسكل ففي مال الفسكل أوجه أربعة تجتمع من الأصلين المذكورين أحدها أنه للسابق وهو على قولنا إن السبق للسابق المطلق وإن المحلل يحلل لغيره والثاني أنه لا شيء لأحد منهما وهو على قولنا المحلل لا يحلل لغيره والمسبوق لا شيء له وإن سبق غيره والثالث أنه بين المحلل والسابق وهو على قولنا يحلل لغيره ولا يشترط السبق المطلق والرابع أنه للمحل وهو على قولنا إنه لا يحلل لغيره والمسبوق يستحق إذا سبق غيره
الشرط الرابع أن يكون سبق كل واحد منهما ممكنا فإن كان فرس أحدهما ضعيفا نعلم قطعا أنه يتخلف أو فرس الآخر فارها نعم أنه يسبق بطل العقد لأن المتخلف إنما يركض مع نفسه إذا لم يطمع في السبق وإن كان السبق ممكنا ولكن على الندور ففي صحته خلاف وتجوز المسابقة بين الفرس العربي والتركي فلا يضر اختلاف النوع وأما المسابقة بين البغل والفرس أو بين الإبل والفرس ففيه خلاف منهم من ألحق اختلاف الجنس باختلاف النوع
الشرط الخامس تعيين الفرسين ولا يجوز الإبدال بعد التعيين وهل يجوز العقد علىفرسين موصوفين من غير إحضار ثم يحضر كما وصف فيه وجهان
ثم اعلم أن الإعتماد في السبق على الأقدام وهو الذي يعتبر تساويهما في ابتداء الموقف دون العنق فإن ذلك يطول ويقصر ونقل العراقيون عن الشافعي رضي الله عنه أن الإعتبار في الإبل بالكتد والخف وفي الفرس بالعنق لأن الإبل تمتد أعناقها إذا عدت والخيل ترفع رءوسها
الفصل الثالث في حكم هذه المعاملة
وفي لزومها قولان أحدهما لا يلزم تشبيها لها بالجعالة والثاني يلزم تشبيها له بالمساقاة والإجارة ثم منهم من قطع بأنه لا يلزم في حق المحلل ومن أخذ ولا يبذل لأنه مغبوط بكل حال كالمرتهن والمكاتب ومنهم من طرد القولين لأن علمه في الفروسية مقصود للباذل حتى يتعلم منه
التفريع إن قلنا إنه جائز لم يشترط القبول على الصحيح وهل يصح ضمان السبق والرهن به فيه وجهان كما في الجعالة وإن قلنا يلزم فلا يجب تسليم السبق في الحال بخلاف الأجرة بل ولا بأس يجب البداية بتسليم العمل ولا يجوز الإبطال والتأخير ويجوز ضمانه والرهن به وقال القفال رحمه الله يبنى على ضمان ما جرى سبب وجوبه ولم يجب كنفقة العدو واليأس بما ذكره
وأما فساد هذه المعاملة بكون العوض خمرا أو مالا مغصوبا هل يوجب الرجوع بشيء فيه وجهانأحدهما نعم كما لو فسد القراض والثاني لا لأن هذا لم يتحصل على شيء وأكثر فائدة العمل هاهنا للعامل وهو الرياضة وقد فات الإستحقاق بما علق به
وإن قلنا يستحق شيئا فإن أمكن الرجوع إلى قيمة المشروط بأن يكون الفساد لجهالة الموقف والغاية وغيره ففيه طريقان منهم من قطع بالرجوع إلى أجر المثل كالقراض ومنهم من قال فيه قولان كما في بدل الخلع إذ ليس هذا معاوضة محضة فإن لم يكن له قيمة فالرجوع إلى أجر عمله في جملة الركض لا في قدر السبق قولا واحدا
الباب الثاني في الرمي وفيه فصول
الفصل الأول في الشروط
والنظر في ستة شروط
الشرط الأول في المحلل
وتفصيله كما ذكرناه في السبق فإن شرط الإمام أو غيره لمن زادت إصابته جاز وكذا لو شرط واحد من المترامين على ما ذكرناه
الشرط الثاني اتحاد الجنس
وفي العقد على السهام والمزاريق وجهان كما في مسابقة الخيل والبغال وهذا أولى بالجواز لأن أكثر الأثر في الرمي للعمل وأكثر الأثر للدابة في السبق فإنه حيوان مختار في العدو وأما اختلاف النوع فغير مانع كقسي العرب والعجم وكالناوك وهو قوس الحسبان معالسهم ثم إذا جرى التعيين فلا يجوز الإبدال بالأجود كإبدال العربية بالفارسية أما إبدال الفارسية بالعربية ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز لأنه يجوز إبداله بفارسية أخرى إذ عين القوس لا يتعين بل نوعه فبأن يجوز بالعربية وهو أردأ أولى والثاني لا لأن ذلك لا ينضبط فحسم الباب أولى
فرعان

الأول لو أطلق العقد ولم يعين النوع نزل على ما يغلب في العادة الترامي به وإن اختلفت العادة فوجهان أحدهما الفساد لتوقع النزاع والثاني أنه يصح أن يطابقا على شيء وإن طلب كل واحد نوعا آخر وقلنا إن العقد جائز فهو رجوع وإن قلنا إنه لازم فقد تعذر إمضاء العقد فيفسخ
الثاني تبديل القوس بمثله جائز بخلاف الفرس لأن الإعتماد هاهنا على العمل ولا عمل إلا له وإن شرط أن لا يبدل فهذا تضييق بغير فائدة وفي صحة هذا الشرط وجهان فإن قلنا لا يصح ففي فساد العقد به وبكل شرط فاسد يستقل العقد دونه لو ترك وجهانوإن قلنا إنه صحيح فيجب الوفاء به ما لم ينكسر فإن انكسر جاز الإبدال وإن شرط أن لا يبدل وإن انكسر بل تنقطع المعاملة فهذا لا يحتمل ويفسد العقد
الشرط الثالث أن تكون الإصابة المشروطة ممكنة لا ممتنعة ولا واجبة أما الممتنعة فكإصابة مائة رشق على التوالي من هدف صغير وغاية بعيدة أو أصل الإصابة من مسافة بعيدة في غاية البعد ولو كانت ممكنة على ندور ففي صحة المعاملة وجهان
أما الواجب فكإصابة واحد من مائة مع قرب المسافة يشرط ذلك على حاذق فلا خطر فيه وفي صحته وجهان أصحهما الجواز للتعلم بمشاهدة رميه كما لو قال من لا يرمي لرام ارم مائة ولك كذا والثاني أنه لا بد من خطر لصحة هذه المعاملة
فعلى هذا لو كان بينهما محلل علم قطعا أنه لا يفلح فوجوده كعدمه ولو علم قطعا أن المحلل يفوز خرج على الوجهين وكذلك إذا لم يكن محلل وشرط كل واحد مالا ولكن علم قطعا أن أحدهما يفوز فهو على صورة المحلل ولا أثر لذكر المال
فرع
لو تراضيا على أن يرامي كل واحد واحدا فقط والسبق لمن اختص بالإصابة فالأصح الصحة وفيه وجه أنه لا يجوز إذ رب رمية من غير رام فقد يصيب الأخرق بالإتفاق مرة فلا يظهر به حذق
الشرط الرابع الإعلام وكل ما يختلف به الغرض يجب إعلامه كمقدار المال وعدد الإصابة منها أما طول المسافة بين الموقف والهدف ففيه قولان وفي عرض الهدف قولان مرتبان وفي قدر ارتفاع الهدف من الأرض قولان مرتبان والصورة الأخيرة أولى بأن لا يشترط ذكرها فأحد القولين أنه لا يشترط بل ينزل على العادة كالمعاليق في استئجار الدابة فإنه ينزل على العادة على الأصح والثاني لا بد من ذكره لأن النزاع يكثر فيه والعرض يختلف فيه
وأما عدد الأرشاق ففي ذكره ثلاثة أقوال والرشق عبارة عن نوبة من الرمي تجري من الرامين كعشرة عشرة وعشرين عشرين وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه لا يشترط بل يكفي ذكر عدد الإصابات فيشترط السبق بعشر إصابات وربما يكون ذلك في خمسين وربما في عشرين والثاني أنه يجب وهو كالغاية في المسابقة حتى تنتهي المعاملة بها والثالث أنه يشترط في المحاطة فإن توقع الحط لا منتهى له ولا يشترط في المبادرة
والمحاطة أن يشترط حط إصابة أحدهما من الآخر حتى يخلص للواحد عشرة مثلا والمبادرة هو أن يستحق من يسبق إلى تمام العشرة حتى لو أصاب كل واحد تسعة ثم أصاب أحدهما ولم يصب الآخر في العاشرة استحق من أصاب وكذلك قد يتضايق الرماة فيالبداية إذ يكون الهدف خاليا والرامي على جمام قوته فالإصابة أغلب ففي لزوم ذكر ذلك قولان أحدهما وهو القياس أنه يجب والثاني أنه يبدأ بالمستبق وهو واضع المال فإنه عادة الرماة وهذا ترك للفقه والقياس بالعادة ولا يختلف القول في كل عادة تخالف القياس إذ الشافعي لا يترك القياس لأجل عادة مخالفة له بل أمر البداية أمر هين فلذلك تردد فيه الشافعي رضي الله عنه وفيه قول ثالث أنه يصح ويقرع بينهم
ثم إن شرطوا أن تكون البداية لمن خرج القرعة له في كل الرشقات فذاك وإلا ففي إعادة القرعة في كل رشقة أو عموم حكم الأول وجهان وكذلك مطلق شرط البداية وفي العقد هل يتناول كل رشقة فيه خلاف وأما إذا كان المستبق أكثر من واحد فلا وجه إلا الإفساد أو قول القرعة
فرع
في صحة العقد على البرتاب وجهان ومقصوده الإبعاد دون الإصابةأحدهما المنع إذ لا غرض فيما لا إصابة فيه والثاني أنه يصح وهو الأصح إذ قد يحتاج إلى إلقاء السهم في القلعة
ثم إذا صح فلا بد من تساوي السهمين والقوسين في اللين والخفة حتى إن الرماة يتضايقون فيه إلى حد يشرطون الرمي عن قوس واحد بسهم واحدة
الشرط الخامس أن يرد العقد على رماة معينين
ولا يجوز إيراده على الذمة ثم تعيين الرماة ويصح العقد بين الحزبين ولكن التحزب يكون بالتراضي لا بالتحكم ولا يجوز أن يكن بالقرعة لأنها قد يجتمع الحذاق في جانب إلا أن يقرعوا أولا ثم ينشئون العقد على ما ميزت القرعة فإن ذلك رضا مستأنف وهو جائز إلا إذا علم قطعا فوز أحد الحزبين فذلك لا ينعقد على وجه لانتفاء الخطر
ولا خلاف في أنه لو ترامى غريبان صح وإن أمكن أن يكون أحدهما بحيث لو علم حاله لتحقق عجزه أو ظفره ولكن إن بان تفاوت يرفع الإحتمال فيتبين بطلان العقد
ثم لا يشترط التساوي في عدد الرماة في التحزب بل في الإصابة فقد يرامي واحد اثنين ولكن يرمي الواحد سهمين وكل واحد من الإثنين سهما واحدا ثم يفض السبق على عدد الرءوس وإن اختلفوا في عدد الإصابة إلا أن يشترط التوزيع على عدد الإصابة
ثم المحلل في التحزب يجوز أن يكون من الحزبين ويجوز أن يكون خارجا عنهما يناضلهم أو لا يناضلهم فلو شرط أحد الحزبين لواحد منهم الغنم دون الغرم فقد حلل هذا لنفسه وهل يحلل لغيره فعلى الخلاف المذكور وها هنا اولى بأن يصح لأن المحلل هو الذي يستحق جميع السهم وهذا لا يستحق إلا بعض السهم
فرع
لو ترامى حزبان واجتاز بهما رجلان قبل العقد فاختار كل واحد واحدا ثمعقدا جاز فإن خرج أحدهما أخرق لم يكن له خيار الرد فإنه المقصر إذ عقد قبل البحث وإن بان أنه غير رام أصلا سقط وسقط مقابله وهذا ينقدح إذا لم يقدر على نزع القوس أما إذا لم يكن تعلم أصلا ولكن يقدر على الرمي فيحتمل خلافا في جواز مناضلة مثله إذ لا خطر فيه فإن لم نجوز فيسقط وإلا احتمل أن يجعل كالأخرق
الشرط السادس تعيين الموقف مع التساوي فلو شرط لبعضهم التقدم فهو باطل كما في المسابقة وأما الواقف في الوسط فلا شك أنه أقرب إلى المحاذاة ولكن هذا القدر يحتمل لضرورة الصف فإن تنازعوا فيه فهو كالبداية بالرمي والتنافس فيه وقد ذكرناه
فرع
لو تراضوا بتقدم واحد فلا يجوز وكأنهم رضوا بأن يفوز من غير رمي محسوب أو حطوا العشرة في حقه إلى التسعةأما إذا تطابقوا برد الجملة من العشرة إلى التسعة أو بالتقدم بأجمعهم أو التأخر فهذا تغيير لصفة العقد وسنذكره إن شاء الله تعالى أما إذا تأخر واحد بالرمي فوجهان أحدهما الجواز لأنه مضر بنفسه والثاني لا لأنه قد يستفيد به أمنا من مروق السهم ومروق السهم قد يمنع الإحتساب على رأي سنبينه وترداد الفارس ببعد الميدان زيادة حدة في الدابة
الفصل الثاني فيما يستحق به السبق
والسبق بنصب الباء عبارة عن المال المشروط للسابق وإنما يستحق بوجود الشرط وفي الشرط صور
الأولى أن يشترط الإصابة فلا يحسب ما يصيب بعرض السهم أو بفوقه ويحسب ما يصيب ويرتد ولا يخرق وإن أصاب جدارا أو شجرا ثم مرق إلى الهدف فعادة الرماة أن لا يحسب وللفقهاء فيه تردد ولو أصاب الأرض ثم ارتفع إلى الهدف فأولى بأن يحسب وإن خرق طرف الهدف فإن حصل فيه جميع جرم النصل حسب وإن حصل فيه بعض جرمه ففيه حلاف وأولى بأن يحسب
الثانية إذا شرط الخواسق وهي الخوارق أي التي تخرق الهدف فإن خرق طرف الهدف فهو كما ذكرناه في الإصابة وإن وقع في ثقبة قديمة وثبت فوجهان لأنه يخرق ولكن كان بحيث لو لم تكن الثقبة تخرق والأصح أنه يحسب وإن خرق ولم يثبت ولكن مرق حسب لأنه خرق وزاد وذكر صاحب التقريب قولين في أن الثبوت هل يشترط في الخواسق وهو بعيد
الثالثة إذا شرط عشر قرعات من مائة رشق مبادرة ومعنى القرعة الإصابة فرمى أحدهما خمسين وقد تمت له العشرة استحق السبق ولكن هل عليه إتمام العمل فيه وجهانوالثاني نعم لأن العمل مقصود للتعلم
ومع هذا فلا شك أن خارجيا لو شرط له على إصابته التي بها يستحق شيئا آخر استحق ذلك أيضا لأن العمل الواحد يفي في التعلم بالغرضين ولو شرط في المحاطة عشر قرعات خالصة فحصلت من خمسين وقلنا لا يشترط إتمام العمل في المبادرة فهاهنا وجهان لأنه يتوقع الحط في الثقبة والذي لا يوجب يقول إنما المحاطة قبل تمام العشرة خالصا لواحد وأما الحط من عشرة خالصة فلا وجه له والقائل الآخر يجوز الحط من الخالص أما إذا تمت عشرته في آخر الخمسين والآخر بعد ما رمى إلا تسعة وأربعين فلا يستحق الأول فإنه ربما يصيب صاحبه فيحطه إلى تسعة وكذلك في المبادرة لو تم له عشرة بالخمسين وتم للآخر تسعة في تسعة وأربعين فلا يستحق السابق حتى يساويه الآخر في الرشق فإن أصاب في آخر الخمسين فقد تساويا وإن أخطأ استحق الأول
الرابعة لو قال لرام ارم عشرة فإن كانت إصابتك أكثر فلك دينار فإن أصاب ستة على التوالي استحق وفي لوم إتمام العمل الخلاف أما إذا قال ارم خمسا عنك وخمسا عني فإن أصبت فيما عنك فلك كذا فهذا فاسد لأنه يناضل نفسه فيقصر في حق صاحبه
الخامسة إذا تشارطوا أن القريب محسوب وقدروه بالذراع جاز وكأنه وسع الهدف وإن أطلق ولهم عادة مطردة ينزل عليها وإلا فسد للجهالة وقيل إنه ينزل على احتساب الأقرب إذا كان سهم أحدهما أقرب فاز وإن كان بعضها أقرب وبعضها أبعد وجميعا أقرب من سهام صاحبه سقط سهام صاحبه وهل يسقط أقربه أبعده فيه تردد والصحيح أنه لا يسقط
أما إذا تشارطوا صريحا إسقاط القريب الأقرب أو إسقاط الإصابة للقريب فهو متبع وإن تشارطوا إخراج وسط القرطاس وما حواليه ذكر العراقيون قولين في صحة ذلك من حيث إن وسط القرطاس يتعذر قصده وقد يصيبه الأخرق وفاقا
فرع
في النكبات الطارئة فإذا مرق السهم منه فوق الهدف ووقع على بعد مفرط لسوء رميه فهو محسوب عليه ولو كان لانكسار قوس أو سهم أو انقطاع وتر ووقع على بعد مفرط فلا يحسب عليه من رشقه بل يرد إليه السهم ليعيد رميه وإن وقع على قرب حسب عليه على أحد الوجهين لأن النكبة لم يظهر أثرها في الإبعاد وعلى وجه آخر لا يحسب عليه ولو أصاب مع ذلك يحسب له على الوجه الأول وإن فرعنا على الثاني فوجهان لأنه يظهر حمله على وفاق فلا يظهر به الحذق ولو عرض بهيمة فأصابها ومرق إلى الهدف فالأصح أنه يحسب ويدل على استقامة رميه وقوته وفيه وجه أنه يحمل على وفاق فلا يحسب له ولا عليه وإن كان العارض هو الريح فإن اقترن بالإبتداء لم يعذر إذ هوالمقصر حيث ابتدأ مع الريح وللحذاق نيقة في الرمي عند الريح بإمالة النظر وكذا إذا انكسر القوس لسوء فعله فلا أثر فليتعلم وإن عصفت ريح عظيمة في وسط الرمي فهل يعذر فيه وجهان أحدهما لا يعذر لأن السهم أحد من الريح فلا يؤثر فيه والثاني أنه يعذر لأنه قد تؤثر
وأما الريح اللينة فلا تؤثر أما إذا انكسر السهم بنصفين وأصاب بالمقطع من النصف الذي فيه الفوق حسب وإن أصاب بالنصل لم يحسب لأن قوة الرمي تبقى في ذلك النصف لا في النصل ومنهم من عكس وقال النظر إلى النصل فأما إذا أصاب بالفوق أو العرض فلا يحسب
الفصل الثالث في جواز هذه المعاملة

وفيها قولان كما في المسابقة فإن قلنا باللزوم لم يجب تسليم السبق إلى تمام العمل وفيه وجه يجري في المسابقة أنه يجب كتسليم الأجرة لأن الإنهدام في الدار أيضا متوقع إلا أن انهدام الدار بعيد وأما الفوز فتقديره ليس بأغلب من نقيضه ويفارق الإجارة أيضا في أنه لو مات العاقد انفسخ لأن العقد متعلق بعينه ولو مات الفرس انفسخت المسابقة ولو مات المسابق والفرس قائم انقدح أن يقال على الوارث إتمامه لأن الأصل الفرس وفيه بعد أيضا لأن للفارس فيه دخلا ظاهرا وإن قلنا بالجواز تفرع أربعة أمور
أحدها جواز إلحاق الزيادة بالإرشاق والقرعات بالتراضي فلو استبد أحدهما دون صاحبه فثلاثة أوجه أحدها أنه لاغ والثاني أنه معتبر والثالث أنه يعتبر من الغالب دون المنضول لأن المنضول إذا استشعر الضعف فلا يزال يدافع بالزيادة ثم نعني بالغالب الذي ظهر استيلاؤه وقارب الظفر فلا يكفي التقدم بقرعة وقرعتين فإن ذلك سريع التغير وإذا قلنا إنه يعتبر لم يلزم في حق صاحبه بل إن تثاقلت عليه فليفسخ العقد كما لو زاد الجاعل عملا على المجعول يجري فيه هذا الخلاف فإن اعتبر فللمجعول فسخ العقد وطلب أجرة المثل بخلاف ما لو فسخ تشهيا بعد الشروع في العمل بغير عذر فإنه لا يستحق شيئا
الثاني الفسخ وذلك جائز لكل واحد عند التساوي وجائز من الناضل وهل ينفذ منالمنضول ينبني على أن زيادته هل تلتحق فإن قلنا لا تلتحق فكأنه صار لازما في حق المنضول ويجري مثل هذا الخلاف إذا فسخ الجاعل وقد فرغ المجعول عن بعض العمل وكان ما يخص عمله من المسمى يزيد على أجر المثل أنه هل ينفذ
الثالث النقصان من الإرشاق والقرعات كالزيادة وليس كالإبراء عن الثمن أما الإبراء عن السبق فيخرج على الإبراء قبل الوجوب وبعد جريان السبب
الرابع الإبطاء وذلك جائز على قول الجواز بل له الإعراض وعلى قول اللزوم يجب الجري على العادة
فرع
لو قال المنضول للنضال حط فضلك ولك علي كذا لم يجز على القولين جميعا لأنه مقابلة بحط الفضل بمال ولا أصل لمثل هذه المعاوضة سواء كان العقد جائزا أو لازما والله تعالى أعلم
كتاب الأيمان

والنظر في اليمين والكفارة والحنث فنعقد في كل واحد بابا
الباب الأول في اليمين وفيه فصلان
الفصل الأول في الصريح والكناية

واليمين عبارة عن تحقيق ما يحتمل المخالفة بذكر اسم الله تعالى أو بصفة من صفاته ماضيا كان أو مستقبلا لا في معرض اللغو والمناشدة
وأشرنا بالماضي إلى يمين الغموس فإنها توجب الكفارة عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله
وأشرنا باللغو إلى قول العرب لا والله وبلى والله في معرض المحاورة من غير قصد إلى التحقيق فلذلك لا يوجب الكفارة وهو لغو إلا في الطلاق والعتاق فإن العادة ما جرت باللغو فيه وإنما يخرج عن كونه لغوا بالقرينة الدالة على قصد التحقيق
وأما المناشدة فهو أن يقول أقسم بالله عليك لتفعلن فإنه لا ينعقد لا عليه ولا على المخاطب إلا أن يقصد العقد على نفسه فيصير حالفا فيحنث بمخالفة المخاطب
وأما قولنا بالله أو بصفاته احترزنا به عن قوله وحق الكعبة والنبي وقبره وشعره وجبريل والملائكة فاليمين به وبكل مخلوق لا يوجب الكفارة قال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف فليحلف بالله وإلا فليصمت
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11