كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

تُعْتَبَرْ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ بَلْ مِنْ حَيْثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْطٌ مِنْ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ مَجْمُوعِهَا أَوَّلًا فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ مَجْمُوعِهَا فَلَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ مِنْ حَيْثُ مَجْمُوعِهَا بَلْ مِنْ حَيْثُ آحَادِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنِهَا أَوَّلًا فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنِهَا فَلَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنِهَا لَكِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ إبْهَامِهَا فَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا غَيْرُ .
قَالَ ( فَمَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ تَرْكَهُ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِهِ بَلْ لَهُ تَرْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ بِفِعْلِ الْآخَرِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ فَمَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّ مَفْهُومَ أَحَدِهَا لَيْسَ الْمُشْتَرَكُ بَلْ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِي الْمُشْتَرَكِ .
قَالَ ( وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَيُّهَا شَاءَ ) قُلْت : هَذَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ أَعْتَقَ حَصَلَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَسَا أَوْ أَطْعَمَ ) قُلْت : لَيْسَ أَحَدُهَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَلْ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ .
قَالَ ( وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ) قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِهَا لَيْسَ الْمُشْتَرَكَ .
قَالَ ( فَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ مَتَى تَعَلَّقَ بِمُشْتَرَكٍ حُرِّمَتْ أَفْرَادُهُ كُلُّهَا وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ ) قُلْت ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ : ( وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا

هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٌ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت إلَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ صُوَرٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ ) .
قُلْت : مَا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ السُّؤَالِ وَارِدٌ .
قَالَ ( قُلْت : هَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَمِنْ الْمُحَالِ عَقْلًا أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ فَرْدًا مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ كُلِّيٍّ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ إلَى قَوْلِهِ وَالتَّخْيِيرُ مَعَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ مُحَالٌ عَقْلًا ) قُلْت : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ " الْحَقِيقَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَيْفَ وَمِنْ قَاعِدَةِ مَنْ يُثْبِتُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِمَّا فِيهِ الْحَقِيقَةُ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ .
قَالَ ( وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الصُّوَرِ فَوَهْمٌ ) أَمَّا الْأُخْتَانِ وَالْأُمُّ وَابْنَتُهَا فَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ عَيْنًا لَا بِالْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا تَدْخُلَ مَاهِيَّةُ الْمَجْمُوعِ الْوُجُودَ وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ عَدَمَ الْمَاهِيَّةِ يَتَحَقَّقُ بِأَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَائِهَا لَا بِعَيْنِهِ فَلَا جَرَمَ أَيَّ أُخْتٍ تَرَكَهَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمَجْمُوعِ قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَجْمُوعِ النَّهْيَ عَنْ الْجَمْعِ أَوْ يُرِيدَ بِذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْجُمْلَةِ فَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ فَقَوْلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ

فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْجُمْلَةِ النَّهْيُ عَنْ آحَادِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مُبْهَم وَهُوَ قَوْلُ خَصْمِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَنْكَرَ .
قَالَ ( لَا ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُشْتَرَكِ ) قُلْت : لَوْ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْمُشْتَرَكِ لَزِمَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ .
قَالَ ( بَلْ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْمَجْمُوعِ يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ ) قُلْت : إنَّمَا يَكْفِي ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَجْمُوعِ الْجَمْعَ لَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَجْمُوعِ الْجُمْلَةَ .
قَالَ ( فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ لَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا بَلْ تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا ) قُلْت : قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ لَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَجْمُوعِ الْجُمْلَةَ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ فَخِلَافُهُ مُحَالٌ عَقْلًا ) قُلْت : مَا اخْتَارَهُ هُوَ الْمُحَالُ عَقْلًا وَمَا خَالَفَهُ هُوَ الْجَائِزُ عَقْلًا .
قَالَ ( وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَلَا بِالْمُسْتَحِيلَاتِ ) قُلْت : ذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشْتَرَكَ حَرَّمَ تَرْكَ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْمُشْتَرَكِ ) قُلْت : لَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشْتَرَكَ لَمَا جَازَ تَرْكُ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ .
قَالَ ( فَالْمُحَرَّمُ تَرْكُ الْجَمِيعِ لَا وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ الْخِصَالِ ) قُلْت : إذَا كَانَ الْمُحَرَّمُ تَرْكَ الْجَمِيعِ لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ تَرْكِ وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا .
قَالَ ( فَلَا تَجِدُ شَيْئًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْمُوعِ لَا بِالْمُشْتَرَكِ ) قُلْت : قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ أَيْ بِالْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَ

الْوُجُوبُ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهَا وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهَا .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ صَحَّ التَّخْيِيرُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ لَا فِي أَصْلِ النَّهْيِ ) قُلْت : قَدْ تَأَمَّلْت ذَلِكَ وَصَحَّ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ فِي النَّهْيِ كَمَا صَحَّ فِي الْأَمْرِ وَوَقَعَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ فِي أَصْلِ النَّهْيِ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ سَيْفَ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا صِحَّةَ النَّهْيِ مَعَ التَّخْيِيرِ كَالْأَمْرِ وَحَكَى عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَهُ ) قُلْت : مَا حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ صَحِيحٌ وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ صَحِيحٌ وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ .
قَالَ ( وَالْحَقُّ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ) قُلْت : قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ بِعَكْسِ مَا قَالَ وَأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْأَصْحَابِ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّخْيِيرِ ) عَلَى مَا زَعَمَ الْأَصْلُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُعْتَزِلَةُ دُونَ الْأَصْحَابِ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ الْحَقُّ وَبُيِّنَ سِرُّهُ بِمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّهُ هُوَ الْمُحَالُ عَقْلًا وَإِنْ مَا حَكَاهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ وَالصَّحِيحُ مَا حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ عَنْ الْأَصْحَابِ فَانْظُرْهُمَا وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَصْلًا لَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ .
أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَمْرَ أَوْ النَّهْيَ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ هَلْ يُوجِبُ أَوْ يُحَرِّمُ الْكُلَّ فَيُثَابُ بِفِعْلِ الْكُلِّ أَوْ تَرْكِهِ ثَوَابَ فِعْلِ وَاجِبَاتٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمَاتٍ وَيُعَاقَبُ بِتَرْكِ الْكُلِّ أَوْ فِعْلِهِ عِقَابَ تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمَاتٍ وَيَسْقُطُ فِعْلُ الْكُلِّ الْوَاجِبِ أَوْ تَرْكُهُ بِفِعْلِ أَوْ تَرْكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ أَوْ الْمُحَرَّمِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْقُطُ طَلَبُ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَرَّمِ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْهَا أَوْ بِتَرْكِهِ أَوْ تَرْكِ غَيْرِهِ مِنْهَا أَوْ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَرَّمِ فِي ذَلِكَ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ لِلْفِعْلِ أَوْ لِلتَّرْكِ مِنْهَا بِأَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى نَفْيِ إيجَابِ أَوْ تَحْرِيمِ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ لِمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ أَوْ إيجَابَهُ لِمَا فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْفِعْلُ وَإِنَّمَا يُدْرِكُهَا فِي الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ أَوْ النَّهْيَ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يُوجِبُ أَوْ يُحَرِّمُ وَاحِدًا مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ وَهُوَ

الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا فِي ضِمْنٍ أَيْ مُعَيَّنٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَتُعْرَفُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ لِتَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَرَّمِ بِأَيٍّ مِنْ الْأَشْيَاءِ يَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ خُصُومِهِ وَاجِبًا أَوْ مُحَرَّمًا عِنْدَ الْأَصْحَابِ بَلْ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ شَرْحِ الْمُحَلَّى وَمُفَادُ ذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ قَوْلِ الْأَصْحَابِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعْنَوِيٌّ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالْعَضُدِ قَالَ السَّعْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَوْ أَتَى بِوَاحِدٍ سَقَطَ عَنْهُ الْبَاقِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ يَسْقُطُ بِدُونِ الْأَدَاءِ .
ا هـ .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِكُلٍّ مِنْهَا بِخُصُوصِهِ عَلَى وَجْهِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا قُلْنَا : إنْ سَلَّمَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْكُلِّ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ وَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ لَفْظِيٌّ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِجَمِيعِهَا وَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَلِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّامًا كَانَ فَهُوَ بِعَيْنِهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْخُلْفُ لَفْظِيٌّ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا بِوُجُوبِ الْكُلِّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِرَارًا مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ فِيهِ مَصْلَحَةً بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ مِنْ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْأَحْكَامَ قَبْلَ الشَّرْعِ ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ الْعَلَّامَةُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُوَافَقَاتِ حَيْثُ قَالَ وَكُلُّ

مَسْأَلَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْخِلَافِ فِيهَا خِلَافٌ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَالْخِلَافِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ ، فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مُوَافِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّرٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ تَقْرِيرٌ أَيْضًا وَهُوَ هَلْ الْوُجُوبُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ غَيْرُهُمَا رَاجِعَةٌ إلَى صِفَاتِ الْأَعْيَانِ أَوْ إلَى خِطَابِ الشَّارِعِ .
ا هـ .
الْمُرَادُ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ وَأَشَارَ الْمَحَلِّيُّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا إلَى الْإِبْهَامِ فِي الْوَاجِبِ أَيْ وَالْمُحَرَّمِ وَبِقَوْلِهِ فِي ضِمْنٍ أَيْ مُعَيَّنٍ إلَى التَّعْيِينِ فِي الْمُخَيَّرِ فِيهِ ثُمَّ إنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهَا أَعْنِي ذَلِكَ الْمَفْهُومَ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ مُعَيَّنٌ فَالْوَاجِبُ مُعَيَّنٌ فَانْدَفَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كُلِّفَ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَأَمَّا خُصُوصِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ لَا وَاجِبٌ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ التَّكْلِيفُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ هَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْحِلِّ الَّذِي بَيَّنَهُ الْعَضُدُ بِمَا تَوْضِيحُهُ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ أَعْنِي هَذَا الْمَفْهُومَ الْكُلِّيَّ لَمْ يُخَيَّرْ فِيهِ ؛ إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ وَالتَّخْيِيرُ إنَّمَا هُوَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ لِتَضَمُّنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا مُبْهَمًا فَلَيْسَ مَعْنَى الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ خُيِّرَ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ كَمَا يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَلْ مَعْنَاهُ الْوَاجِبُ الَّذِي خُيِّرَ فِي أَفْرَادِهِ وَتَعَدَّدَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَحَدُهَا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ وَالتَّخْيِيرُ يَأْبَى كَوْنُ مُتَعَلِّقِ الْوُجُوبِ وَالتَّخْيِيرِ وَاحِدًا كَمَا لَوْ حَرَّمَ وَاحِدًا مِنْ

الْأَمْرَيْنِ وَأَوْجَبَ وَاحِدًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَيَّهمَا فَعَلْت حُرِّمَ الْآخَرُ وَأَيَّهُمَا تَرَكْت وَجَبَ الْآخَرُ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ أَوْ غَيْرِ وَاجِبٍ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ بِعَيْنِهِ وَغَيْرِ وَاجِبٍ بِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ ا هـ كَلَامُ الشِّرْبِينِيِّ .
وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُشْتَرَكِ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوْ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَمَفْهُومِ الْخِنْزِيرِ أَوْ مَفْهُومِ الْخَمْرِ وَكَمَفْهُومِ صَوْمِ رَمَضَانَ خِلَافًا لِلْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ تَحْرِيمُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَكُلِّ خِنْزِيرٍ وَكُلِّ خَمْرٍ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَكُلِّ صَوْمِ رَمَضَانَ بِعَامٍ مِنْ الْأَعْوَامِ ، قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ لَزِمَ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ ا هـ .
أَيْ كَإِيجَابِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ فِي آيَتِهَا الْأَمْرَ بِذَلِكَ تَقْدِيرًا أَيْ مَعْنًى ؛ إذْ هِيَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِيجَابُ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْإِيجَابُ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهَا وَهُوَ الْمَفْهُومُ الْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا مُبْهَمًا ، فَكَوْنُ الْمَقْصُودِ تَحْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ هُوَ نَفْسُ الْوَاجِبِ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْوَاجِبِ وَهُوَ

مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ نَفْسَ الْوَاجِبِ لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ مَذْهَبَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ لِلْفِعْلِ مِنْ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِأَنْ يَفْعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِينَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِأَيٍّ مِنْهَا يَفْعَلُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ قَوْلُ الْمَحَلِّيِّ أَنَّ الْخُرُوجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ لِكَوْنِهِ أَحَدَهَا لَا لِخُصُوصِهِ أَيْ كَوْنُهُ مُخْتَارَ الْمُكَلَّفِ لِلْقَطْعِ بِاسْتِوَاءِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرُ التَّأَدِّي الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ مَحَلَّ ثَوَابِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا هَلْ هُوَ الْأَعْلَى أَوْ الْأَوَّلُ أَوْ الْأَحَدُّ وَمَحَلُّ الْعِقَابِ هَلْ هُوَ الْأَدْنَى أَوْ الْأَحَدُّ ؟ خِلَافُ التَّحْقِيقِ وَالتَّحْقِيقُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّ مَحَلَّ ثَوَابِ الْوَاجِبِ وَالْعِقَابِ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا وَلَا نَظَرَ إلَى خُصُوصِيَّةِ مَا وَقَعَ لِأَنَّهُ حَتَّى بَعْدَ الْوُقُوعِ لَمْ يَزَلْ مِنْ حَيْثُ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ مُخَيَّرًا وَإِلَّا لَاخْتَلَفَ الْوَاجِبُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا قَائِلَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ وَكَذَا يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى مَنْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ مِنْهَا أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا لَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ وَمُقْتَضَاهُ الثَّوَابُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ .
وَأَمَّا خَصِيصِيَّةُ الْمُتَعَلِّقِ وَمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ دُخُولُهَا فِي الْأَمْرِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ ثَوَابُ الْمَنْدُوبِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ وَكَمَا لَا

يَلْزَمُ إيجَابُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرًا لِتَأَدِّي الْوَاجِبُ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ كَمَا فِي نَحْوِ لَا تَتَنَاوَلْ السَّمَكَ أَوْ اللَّبَنَ أَوْ الْبَيْضَ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَرْكَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِمُرَاعَاةِ الْخُصُوصِيَّةِ نَظَرًا لِتَأَدِّي تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بِهَا أَوْ تَرْكُ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحَدُهَا فِي ضِمْنٍ أَيْ مُعَيَّنٍ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ فَعَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ فِي أَيِّ مُعَيَّنٍ مِنْهَا ، وَلَهُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وَاحِدٌ فَتَحْرِيمُ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ بَلْ مِنْ بَابِ سَلْبِ الْعُمُومِ فَيَتَحَقَّقُ فِي وَاحِدٍ فَلَيْسَ النَّهْيُ كَالنَّفْيِ وَيُقَاسُ عَلَى التَّحْرِيمِ الْكَرَاهَةُ إلَّا فِي الْعِقَابِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَمْرِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يُوجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَلَا يُوجِبُهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ إنَّمَا يُوجِبُ الْكُلَّ وَيَسْقُطُ بِوَاحِدٍ أَوْ وَاحِدًا مِنْهَا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ أَوْ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ لِلْفِعْلِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ كَوْنِ النَّهْيِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ يُحَرِّمُ وَاحِدًا مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَلَا يُحَرِّمُهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ إنَّمَا يُحَرِّمُ الْكُلَّ وَيَسْقُطُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدًا مِنْهَا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ أَوْ مَا يَخْتَارُهُ الْمُكَلَّفُ لِلتَّرْكِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ نَعَمْ فَرَّقَ بَعْضُ

الْمُعْتَزِلَةِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اللُّغَةَ لَمْ تَرِدْ بِصِيغَةٍ مِنْ النَّهْيِ عَنْ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ كَمَا وَرَدَتْ بِالْأَمْرِ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ .
قَالَ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } نَهْيٌ عَنْ طَاعَتِهِمَا إجْمَاعًا أَيْ وَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ طَاعَةِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ صِيغَةٌ مِنْ النَّهْيِ عَنْ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ وَرَدَتْ بِهَا اللُّغَةُ لَكِنْ رَدَّ الْمَحَلِّيِّ هَذَا الْجَوَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ يُفْهَمُ مِنْهَا النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ فَهِيَ طَرِيقٌ لِذَلِكَ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ ثَبَتَ وُرُودُ اللُّغَةِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مَانِعٌ فَافْهَمْ هَكَذَا يَنْبَغِي تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ وَإِنْ أَرَدْت زِيَادَةَ تَوْضِيحِهِ فَعَلَيْك بِشَرْحِ الْمَحَلِّيِّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَحَوَاشِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا ) جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرَهُ إذَا خَيَّرَ بَيْنَ أَشْيَاءَ يَكُونُ حُكْمُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَاحِدًا وَأَنْ لَا يَقَعَ التَّخْيِيرُ إلَّا بَيْنَ وَاجِبٍ وَوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ وَمَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ وَمُبَاحٍ وَكَذَلِكَ هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُنَالِكَ تَخْيِيرٌ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَتَخْيِيرٌ لَا يَقْتَضِيهَا وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ وَقَعَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقَعْ التَّسْوِيَةُ وَيَتَّضِحُ لَك هَذَا الْفَرْقُ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) تَخْيِيرُهُ تَعَالَى بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا وَالتَّخْيِيرُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَحُكْمُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ الْخِصَالِ حُكْمُ الْخَصْلَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُتَبَايِنَةٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } أَيْ اُنْقُصْ مِنْ النِّصْفِ وَالْمُرَادُ الثُّلُثُ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى النِّصْفِ ، وَالْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ السُّدُسُ

فَيَكُونُ الْمُرَادُ الثُّلُثَيْنِ كَذَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا تَخْيِيرٌ وَقَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالنِّصْفُ وَالثُّلُثَانِ مَنْدُوبَانِ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَفِعْلُهُمَا أَوْلَى فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِسَبَبِ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ وَالْأَقَلُّ جُزْءٌ فَهَذَا مُفَارِقٌ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَهُوَ لَا يَكَادُ يَخْطُرُ بِالْبَالِ إلَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مُطْلَقًا .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْله تَعَالَى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } الْآيَةَ خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسَافِرَ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ وَالرَّكْعَتَانِ وَاجِبَتَانِ جَزْمًا وَالزَّائِدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَأَمَّا الرَّكْعَتَانِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ مِنْ الْقَاعِدَةِ وَسَبَبُهُ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ لَا بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَبَايِنَةٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ النَّظِرَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَأَنَّ الْإِبْرَاءَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ وَأَحَدُهُمَا وَاجِبٌ حَتْمًا وَهُوَ تَرْكُ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِبْرَاءُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَضَمَّنُ النَّظِرَةَ وَتَرْكَ الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ مِنْ بَابِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَاعِدَةُ التَّخْيِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِيَةُ قَاعِدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَنْدُوبِ فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ فَتَحَرَّرَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَأَنَّ التَّخْيِيرَ

إذَا وَقَعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَاتِ اقْتَضَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءُ وَالْكُلُّ لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةُ بَلْ يَتَحَتَّمُ الْأَقَلُّ وَالْجُزْءُ دُونَ الزَّائِدِ عَلَيْهِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ إلَى قَوْلِهِ وَتَخْيِيرٍ لَا يَقْتَضِيهِ ) قُلْت الصَّحِيحُ مَا اعْتَقَدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسُطِّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ دُونَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ وَارْتَضَاهُ .
قَالَ ( وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إلَى قَوْلِهِ بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا مُجَرَّدُ دَعْوَى .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَخْيِيرُهُ تَعَالَى بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ) قُلْت : قَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ .
قَالَ ( وَالتَّخْيِيرُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ ) قُلْت : ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ ) قُلْت : لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ لَوَجَبَ الْجَمِيعُ بَلْ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ .
قَالَ ( وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَحُكْمُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ الْخِصَالِ حُكْمُ الْخَصْلَةِ الْأُخْرَى ) ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُتَبَايِنَةٌ قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَأَنَّ حُكْمَ كُلِّ خَصْلَةٍ حُكْمُ الْأُخْرَى صَحِيحٌ لَا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُتَبَايِنَةً .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } إلَى قَوْلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالنِّصْفُ وَالثُّلُثَانِ مَنْدُوبَانِ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا وَفِعْلُهُمَا أَوْلَى قُلْت : لَيْسَ الثُّلُثُ وَاجِبًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ثُلُثٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا وَلَيْسَ النِّصْفُ وَالثُّلُثَانِ مَنْدُوبَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ تَرْكُهُمَا مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمَا

إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الثُّلُثِ .
قَالَ ( فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِسَبَبِ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ ) قُلْت : لَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَلَيْسَ كَوْنُ التَّخْيِيرِ وَقَعَ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ سَبَبًا فِي ذَلِكَ .
قَالَ ( فَهَذَا مُفَارِقٌ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ ) قُلْت : لَيْسَ مُفَارِقًا لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ إلَّا عِنْدَ مَنْ اعْتَرَاهُ الْغَلَطُ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُنْفَرِدَ الْمُنْفَصِلَ هُوَ الْجُزْءُ الْمُجْتَمِعُ الْمُتَّصِلُ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْهُ فَهُوَ لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِالْبَالِ إلَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مُطْلَقًا ) قُلْت : يَحِقُّ أَنْ لَا يَخْطُرَ غَيْرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَوْله تَعَالَى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } الْآيَةَ خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسَافِرَ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ وَالرَّكْعَتَانِ وَاجِبَتَانِ جَزْمًا وَالزَّائِدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَأَمَّا الرَّكْعَتَانِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَتَانِ جَزْمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَيْفَ وَلَهُ تَرْكُهُمَا وَإِبْدَالُهُمَا بِأَرْبَعٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الزَّائِدَ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا بَلْ يَجُوزُ عِنْدَ فِعْلِ بَدَلِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا عِنْدَ فِعْلِ بَدَلِهِمَا وَهُوَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ غَلَطُهُ تَوَهُّمَهُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ هُمَا الْمُجْتَمِعَتَانِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعِ .
قَالَ ( فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ

الْوَاجِبِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ مِنْ الْقَاعِدَةِ ) قُلْت : لَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ فَيَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ وَتَوَهَّمَهُ خِلَافَ الْمُتَعَارَفِ مِنْ الْقَاعِدَةِ .
قَالَ ( وَسَبَبُهُ أَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ لَا بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَبَايِنَةٍ ) قُلْت : لَيْسَ وُقُوعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ سَبَبًا فِيمَا ذَكَرَ وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ النَّظِرَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَأَنَّ الْإِبْرَاءَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ قُلْت : مَا قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى التَّخْيِيرِ هُنَا بِوَجْهٍ أَصْلًا بَلْ النَّظِرَةُ لِلْمُعْسِرِ مُتَعَيَّنٌ وُجُوبُهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِرَبِّ الدَّيْنِ إبْرَاءُ غَرِيمِهِ مِنْهُ وَإِسْقَاطُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا عَنْهُ تُوُهِّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ تَسْوِيغُ الْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ مُخْتَصًّا بِالْمُعْسِرِ .
قَالَ ( وَأَحَدُهُمَا وَاجِبٌ حَتْمًا وَهُوَ تَرْكُ الْمُطَالَبَةِ ) قُلْت : ذَلِكَ صَحِيحٌ وَهُوَ مَعْنَى النَّظِرَةِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ .
قَالَ ( فَصَارَ مِنْ بَابِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ) قُلْت : لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَخْذِ عِنْدَ الْمَيْسَرَةِ أَوْ التَّرْكِ جُمْلَةً ، وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : إنَّهُ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ .
قَالَ ( وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَاعِدَةُ التَّخْيِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِيَةُ قَاعِدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَنْدُوبِ فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ

الْإِنْظَارُ ) قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ وَلَعَلَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمَ وَغَايَتُهُ أَوْ غَايَةُ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ النَّظِرَةُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسَرَةِ ، وَالْإِبْرَاءُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِرَاحَةَ الْكُلِّيَّةَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْإِرَاحَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ فَتَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُحْتَجُّ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ قَاعِدَةٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ الْمُتَّحِدَةِ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ عَامِلِيهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاضُلُ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا ثَانِيًا ثُمَّ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةَ النَّفْعِ ثَالِثًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ } .
فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا تَفَاضُلَ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ لَسَبَقَتْ مِائَةُ الْأَلْفِ الدِّرْهَمَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ نَفْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلًا حَالُ الْعَامِلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَحَمُّلَ وَظِيفَةِ الْإِنْظَارِ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهَا وَاضْطُرَّ بِإِيجَابِهَا عَلَيْهِ إلَيْهَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِبْرَاءِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اخْتِيَارِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِهَا وَعَلَى هَذَا لَا تَنْخَرِمُ قَاعِدَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ وَمَا قَالَ مِنْ كَوْنِ التَّخْيِيرِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَاتِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ إلَى آخِرِهِ قَدْ تَبَيَّنَّ بُطْلَانُهُ

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا ) عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأَصْلُ وَارْتَضَاهُ مِنْ تَحَقُّقِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ خِلَافًا لِمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَاعْتَقَدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرُهُ إذَا خَيَّرَ بَيْنَ أَشْيَاءَ يَكُونُ حُكْمُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَاحِدًا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّخْيِيرُ إلَّا بَيْنَ وَاجِبٍ وَوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ وَمَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ وَمُبَاحٍ .
قَالَ : وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ كَمَا فِي تَخْيِيرِهِ تَعَالَى بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا وَالتَّخْيِيرُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي هِيَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُتَبَايِنَةٌ فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَمَتَى وَقَعَ أَيْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } الْآيَةَ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ جُزْءٍ وَهُمَا رَكْعَتَانِ وَكُلٍّ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ أَوْ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } أَيْ اُنْقُصْ مِنْ النِّصْفِ .
وَالْمُرَادُ الثُّلُثُ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى النِّصْفِ السُّدُسَ فَيَكُونُ

الْمُرَادُ الثُّلُثَيْنِ وَكَمَا فِي التَّخْيِيرِ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ بَيْنَ النَّظِرَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ لَمَّا كَانَ يَتَضَمَّنُ النَّظِرَةَ وَتَرْكَ الْمُطَالَبَةِ صَارَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّظِرَةِ مِنْ بَابِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ اقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ التَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُسَافِرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا وَاجِبَتَانِ جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا وَبَيْنَ الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَوَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى خِلَافِ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ لَا بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَبَايِنَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثُّلُثِ وَهُوَ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَبَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ وَهُمَا مَنْدُوبَانِ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا وَفِعْلُهُمَا أَوْلَى فَوَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ وَالْأَقَلُّ جُزْءٌ ، وَأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ وَقَعَ بِتَخْيِيرِ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ بَيْنَ النَّظِرَةِ أَيْ تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ حَتْمًا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّظِرَةِ وَتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إلَّا أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : قَاعِدَةُ التَّخْيِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِيَةُ قَاعِدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَنْدُوبِ ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ فِيمَا هُوَ بَابُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ كَمَا عَلِمْت ا هـ ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ : وَالصَّحِيحُ مَا اعْتَقَدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسُطِّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ

وَأُصُولِهِ دُونَ مَا اخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ وَارْتَضَاهُ وَمَا قَالَهُ مِنْ كَوْنِ التَّخْيِيرِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُتَبَايِنَاتِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ وَبَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ لَا يُوجِبُهَا بَاطِلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ خُصُوصِيَّاتِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ صَحَّ أَنَّهَا مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَأَنَّ حُكْمَ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا حُكْمُ الْأُخْرَى لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُتَبَايِنَةً وَلَا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوَجَبَ الْجَمِيعُ بَلْ إنَّمَا صَحَّ كَوْنُ مُتَعَلِّقِ التَّخْيِيرِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَأَنَّ حُكْمَ إلَخْ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْخِصَالِ كَمَا عَلِمْت وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ جَزْمًا عَلَى الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا كَيْفَ وَالْمُسَافِرُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُمَا وَإِبْدَالُهَا بِالْأَرْبَعِ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ غَلَطَهُ تَوَهُّمُهُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ هُمَا الْمُجْتَمِعَتَانِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعِ وَلَا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الزَّائِدَ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا وَالزَّائِدُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا بَلْ عِنْدَ فِعْلِ بَدَلِهِ فَلَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ وُقُوعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ جُزْءٍ وَكُلٍّ فَمَا ادَّعَاهُ وَتَوَهَّمَهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ مِنْ الْقَاعِدَةِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الثُّلُثَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ ثُلُثٌ وَإِلَّا لَكَانَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ مُطْلَقًا حَتَّى يَكُونَا مَنْدُوبَيْنِ بَلْ عِنْدَ قِيَامِ الثُّلُثِ فَلَمْ يَقَعْ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَلَا سَبَبُهُ وُقُوعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ بَلْ التَّخْيِيرُ هُنَا مُسَاوٍ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ

الْكَفَّارَةِ لَا مُفَارِقَ لَهُ إلَّا عِنْدَ مَنْ اعْتَرَاهُ الْغَلَطُ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُنْفَرِدَ الْمُنْفَصِلَ هُوَ الْجُزْءُ الْمُجْتَمِعُ الْمُتَّصِلُ ، وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّظِرَةِ لِلْمُعْسِرِ وَإِبْرَائِهِ بَلْ النَّظِرَةُ لَهُ مُتَعَيَّنٌ وُجُوبُهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِرَبِّ الدَّيْنِ إبْرَاءُ غَرِيمِهِ مِنْهُ وَإِسْقَاطُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا عَنْهُ تُوُهِّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَاخْتَصَّ تَسْوِيغُ الْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ بِالْمُعْسِرِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الْأَخْذِ عِنْدَ الْمَيْسَرَةِ أَوْ التَّرْكِ جُمْلَةً وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ .
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ أَصْلًا وَمَا زَعَمَهُ مِنْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبِ وَإِنْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ النَّظِرَةَ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسَرَةِ وَالْإِبْرَاءُ إرَاحَةٌ لِلْغَرِيمِ مِنْ مُؤْنَةِ الدَّيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِرَاحَةَ الْكُلِّيَّةَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ الْإِرَاحَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ فَتَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا ، إلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ هُنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ الْمُتَّحِدَةِ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ عَامِلِيهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاضُلُ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا ثَانِيًا ثُمَّ تَفَاضُلُ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةَ النَّفْعِ ثَالِثًا ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ } فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا تَفَاضُلَ أَحْوَالِ الْمُنْتَفِعِ لَسَبَقَتْ مِائَةُ الْأَلْفِ الدِّرْهَمَ ؛ لِأَنَّهَا

أَعْظَمُ نَفْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلًا حَالُ الْعَامِلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَحَمُّلَ وَظِيفَةِ الْإِنْظَارِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا بِإِيجَابِهَا عَلَيْهِ إلَيْهَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِبْرَاءِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اخْتِيَارِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِهَا فَلَمْ تَنْخَرِمْ قَاعِدَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ ا هـ .
قُلْت : وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَالصَّوَابُ إبْدَالُ هَذَا الْفَرْقِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ بِالْكُلِّ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا .
قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ لَا بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُبَاحِ بِالْجُزْءِ وَبِاعْتِبَارِهِ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ وَالْأَوَّلُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْنِ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالْآخَرُ مِنْ حَيْثُ يُقَالُ لَا حَرَجَ فِيهِ ، وَالثَّانِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ التَّرْكِ ، وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمُخَيَّرٍ فِيهِ ، وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلَ بِالْكُلِّ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ خَادِمٌ لَهُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ بِالْكُلِّ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَرَاجِعَانِ إلَى هَذَا الْقَسَمِ الثَّانِي وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إنْ كَانَ خَادِمًا يُعْتَبَرُ بِمَا يَكُونُ

خَادِمًا لَهُ وَالْخِدْمَةُ إنْ كَانَتْ فِي طُرُقِ التَّرْكِ كَتَرْكِ الدَّوَامِ عَلَى التَّنَزُّهِ فِي الْبَسَاتِينِ وَسَمَاعِ تَغْرِيدِ الْحَمَامِ وَالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ كَانَ تَرْكُ الدَّوَامِ فِيهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الضَّرُورِيَّاتِ وَهُوَ الْفَرَاغُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ كَانَ الدَّوَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَصْلُ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْخَادِمُ لِلْمُخَيَّرِ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَادِمٌ لَهُ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا فَهُوَ إذًا خَادِمُ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَانَ عَبَثًا أَوْ كَالْعَبَثِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا فَهُوَ إذًا خَادِمُ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ وَتَلَخَّصَ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِإِطْلَاقٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ خَاصَّةً وَأَمَّا بِالْكُلِّ فَهُوَ إمَّا مَطْلُوبُ الْفِعْلِ أَوْ مَطْلُوبُ التَّرْكِ مَثَلًا هَذَا الثَّوْبُ الْحَسَنُ مُبَاحُ اللُّبْسِ قَدْ اسْتَوَى فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَاقِعٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُقْتَصَرِ بِهِ عَلَى ذَاتِ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمُوَارٍ لِلسَّوْأَةِ وَجَمَالٌ فِي النَّظَرِ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ ، وَهَذَا النَّظَرُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ وَلَا بِهَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ نَظَرٌ بِالْكُلِّ لَا بِالْجُزْءِ ا هـ بِتَغْيِيرٍ وَتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَبَايِنَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ) وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيرِ اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ لَا لِمَعْنًى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ خِصَالَ الْكَفَّارَةِ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَلَا يُسَمُّونَ تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ رِقَابِ الدُّنْيَا فِي إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا وَاجِبًا مُخَيَّرًا ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ شِيَاهِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ لَا يُسَمُّونَهُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَكَذَلِكَ دِينَارٌ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا وَالسُّتْرَةُ بِثَوْبٍ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا وَالْوُضُوءُ بِمَاءٍ مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُسَمُّونَ ذَلِكَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا بَلْ يَقْصُرُونَ ذَلِكَ عَلَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهَا ، وَضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ وَمَتَى وَقَعَ بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فَالْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْغَنَمُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَغَيْرُهَا مِنْ النَّظَائِرِ فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ .
.
قَالَ الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَبَايِنَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ) وَضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى وَاجِبًا مُخَيَّرًا ، وَمَتَى وَقَعَ بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَتَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ رِقَابِ الدُّنْيَا فِي إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا وَبَيْنَ شِيَاهِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَبَيْنَ دَنَانِيرِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ دِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارٍ أَوْ بَيْنَ مِيَاهِ الدُّنْيَا فِي الْوُضُوءِ بِمَاءٍ مِنْهَا وَبَيْنَ ثِيَابِ الدُّنْيَا فِي الِاسْتِتَارِ بِثَوْبٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ لَا مِنْ عِقَابِهِ ) هَذَا الْمَوْضِعُ أَشْكَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَتَحْرِيرُهُ وَبَسْطُهُ وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنْ نَقُولَ : أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَيِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ فَعَلْت هَذَا بِعَيْنِهِ عَافَيْتُك فَهَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ التَّخْيِيرِ أَبَدًا ، وَأَمَّا مَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ فَوُقُوعُ التَّخْيِيرِ فِيهِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فَمِنْهَا { مَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ خَمْرٌ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ شُرْبِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَرْت الْفِطْرَةَ وَلَوْ اخْتَرْت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُك } فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْمُغْوِي حَرَامٌ وَالْفِطْرَةُ مَطْلُوبَةٌ فَكَيْفَ يُخَيَّرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَطْلُوبِ وُجُودُهُ ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَنَّ السَّبَبَ لِلضَّلَالِ حَرَامٌ وَشُرْبُ هَذَا الْقَدَحِ سَبَبُ ضَلَالِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ حَرَامًا وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّبَنِ .
وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا فَكَيْفَ يُخَيَّرُ بَيْنَ سَبَبِ الْهِدَايَةِ وَسَبَبِ الضَّلَالَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَاقِبَةِ لَا مِنْ بَابِ الْعِقَابِ وَالْمُمْتَنِعُ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَبَسْطُهُ أَنَّ الْعِقَابَ يَرْجِعُ إلَى مَنْعٍ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا وَالْعَاقِبَةُ تَرْجِعُ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فِي الْحَوَادِثِ لَا بِخِطَابِهِ

وَكَلَامِهِ فَلَا مُضَادَّةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يُضَادُّ الْإِذْنَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْعُ مِنْ الْكَلَامِ حَتَّى يَصِيرَ افْعَلْ لَا تَفْعَلْ ، أَمَّا أَثَرُ الْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ فَلَا يُضَادُّ الْإِذْنَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ سُكْنَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ مَثَلًا أَوْ تَزَوُّجِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ شِرَاءِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْفَرَسَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ النَّاشِئِ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ أَمْكَنَ أَنْ يُخْبِرَهُ الْمُخْبِرُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّك لَوْ اخْتَرْت مَا تَرَكْت مِنْ الدَّارَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَالْفَرَسَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ ضَلَالِك وَهَلَاكَ مَالِكِ وَذُرِّيَّتِك وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ } وَقَالَ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَمَّا { قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ دَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَكَنَّاهَا وَالْعَدَدُ وَافِرٌ وَالْمَالُ كَثِيرٌ فَذَهَبَ الْعَدَدُ وَالْمَالُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعُوهَا ذَمِيمَةً } وَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فَإِنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُلَابِسُهَا وَيَجْعَلُ عَاقِبَتَهَا رَدِيئَةً وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّخْيِيرَ الثَّابِتَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ الْكَائِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْقَدَحَيْنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مَأْذُونٌ بِإِقْدَامِهِ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدَحِ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ إثْمًا وَلَا عِقَابَ فِيهِ نَعَمْ فِيهِ سُوءُ الْعَاقِبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى أَثَرِ الْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ وَمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ

تَعَالَى فِي الْحَوَادِثِ مِنْ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ لَا لِلْمَنْعِ النَّفْسِيِّ الْمُنَاقِضِ لِلتَّخْيِيرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ مَعَ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَاتَّضَحَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَشْكَلَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَأَنَّهُ لِمَوْضِعِ إشْكَالٍ لَوْلَا هَذَا الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْفَرْقُ الْخَمْسُونَ قُلْت : مَا قَالَهُ فِي هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ لَا مِنْ عِقَابِهِ ) حَيْثُ قَالُوا : يَتَعَذَّرُ وُقُوعُ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَيِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ إذْ لَا يَجْتَمِعُ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَحَدَ الْأُمُورِ بِعَيْنِهِ مَعَ تَخْيِيرِهِ فِي فِعْلِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْهَا أَبَدًا ، وَقَالُوا : يُمْكِنُ وُقُوعُ الثَّانِي بَلْ قَدْ { وَقَعَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ خَمْرٌ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ شُرْبِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَرْت الْفِطْرَةَ وَلَوْ اخْتَرْت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُك } وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ شُرْبَ هَذَا الْقَدَحِ مِنْ الْخَمْرِ سَبَبُ ضَلَالِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالسَّبَبُ لِلضَّلَالِ حَرَامٌ فَيَكُونُ حَرَامًا فَكَيْفَ يَقَعُ التَّخْيِيرُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُ وَهُوَ حَرَامٌ وَسَبَبُ الضَّلَالَةِ وَبَيْنَ اللَّبَنِ الَّذِي هُوَ الْفِطْرَةُ الْمَطْلُوبَةُ الْوُجُودِ وَسَبَبُ الْهِدَايَةِ وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الَّذِي يَتَّضِحُ بِهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَنَّ الْعِقَابَ لَمَّا كَانَ يَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ النَّاشِئِ عَنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ كَانَ تَحْرِيمًا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ النَّاشِئِ عَنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَمَّا كَانَتْ تَرْجِعُ إلَى أَثَرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَهُ فِي الْحَوَادِثِ لَا بِخِطَابِهِ وَكَلَامِهِ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ النَّاشِئِ

عَنْ الْكَلَامِ مُضَادَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ سُكْنَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ تَزْوِيجِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ شِرَاءِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْفَرَسَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بِمُقْتَضَى أَنَّ الشَّرْعِيَّ النَّاشِئَ عَنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ أَمْكَنَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُخْبِرُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّك لَوْ اخْتَرْت مَا تَرَكْت مِنْ الدَّارَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَالْفَرَسَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ ضَلَالِك وَهَلَاكِ مَالِكَ وَذُرِّيَّتِك وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ } .
وَقَالَ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ { لَمَّا قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ دَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَكَنَّاهَا وَالْعَدَدُ وَافِرٌ وَالْمَالُ كَثِيرٌ فَذَهَبَ الْعَدَدُ وَالْمَالُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعُوهَا ذَمِيمَةً } بَلْ وَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فَإِنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلَابِسُهَا وَيَجْعَلُ عَاقِبَتَهَا رَدِيئَةً قَالَ تَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّخْيِيرَ الثَّابِتَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ الْكَائِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ فَلِذَا وَقَعَ تَخْيِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْقَدَحَيْنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مَأْذُونٌ بِإِقْدَامِهِ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدَحِ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَلَا عِقَابٌ نَعَمْ فِيهِ سُوءُ الْعَاقِبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى أَثَرِ الْقُدْرَةِ وَالْقَدْرِ وَمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَوَادِثِ مِنْ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ لَا لِلْمَنْعِ النَّفْسِيِّ الْمُنَاقِضِ

لِلتَّخْيِيرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا ) اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ وَالْفُضَلَاءِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لِضَرُورَةِ وُقُوعِهِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ دُخُولَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْوُجُودِ مُجَرَّدَةً مُحَالٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَخْصٍ تَدْخُلُ فِيهِ وَمَعَهُ فَلِذَلِكَ صَارَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْوُجُودِ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى مُطْلَقِ الْأَخَصِّ وَهُوَ أَخَصُّ مَا لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُطَّرِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ وَهُمَا قَاعِدَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَتَحْرِيرُ ضَبْطِهِمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعَامَّةَ تَارَةً فِي رُتَبٍ مُتَرَتِّبَةٍ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وَتَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَبَايِنَةٍ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مُطَلَّقُ الْفِعْلِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَرَّاتِ فَالْمَرَّةُ رُتْبَةٌ دُنْيَا وَالْمَرَّاتُ رُتْبَةٌ عُلْيَا لِأَنَّهَا فَوْقَ الْمَرَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ فِي دُخُولِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ عَيْنًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَقَعَ فِي الْمَرَّاتِ وَقَعَتْ الْمَرَّةُ وَإِنْ وَقَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَازِمَةٌ لِدُخُولِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ بِالضَّرُورَةِ وَالْمَاهِيَّةُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذَا النَّوْعِ الْأَخَصِّ عَيْنًا بِالضَّرُورَةِ وَكَذَلِكَ إخْرَاجُ مُطْلَقِ الْمَالِ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى إخْرَاجِ الْأَقَلِّ عَيْنًا وَكَذَلِكَ كُلُّ أَقَلَّ مَعَ أَكْثَرِ الْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مُشْتَرَكَةٌ

بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُ أَحَدُ نَوْعَيْهَا عَيْنًا وَهُوَ الْأَقَلُّ بِالضَّرُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذَا ضَابِطُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَأَمَّا مِثَالُ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدُ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا فَهَذَا هُوَ الْمَهِيعُ الْعَامُّ وَالْأَكْثَرُ فِي الْحَقَائِقِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُعْتَقَدُ غَيْرُهُ كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّاطِقَ وَلَا الْبَهِيمَ عَيْنًا مِنْ أَنْوَاعِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي نَاطِقٍ أَوْ بَهِيمٍ وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا وَسَبَبُ عَدَمِ الْتِزَامِهِ لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا تَبَايُنُهُمَا .
فَإِذَا قُلْنَا : فِي الدَّارِ حَيَوَانٌ لَا يُعْلَمُ أَهُوَ نَاطِقٌ أَوْ بَهِيمٌ وَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ لَهَا نَوْعَانِ الزَّوْجُ وَالْفَرْدُ وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ أَحَدَهَا عَيْنًا فَإِذَا قُلْنَا مَعَ زَيْدٍ عَدَدٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا يُشْعِرُ هَلْ هُوَ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ لِحُصُولِ التَّبَايُنِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا لَوْنٌ حَقِيقَةٌ كُلِّيَّةٌ لَا إشْعَارَ لِلَفْظِهَا بِسَوَادٍ وَلَا بَيَاضٍ بِخُصُوصِهِ نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ خُصُوصٍ لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ بِخِلَافٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ ، وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ بِعْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ هَذَا اللَّفْظِ لَا ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا النَّاقِصِ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ ثَمَنُ الْمِثْلِ مِنْ الْعَادَةِ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ ثَمَنَ الْمِثْلِ إنَّمَا تَعَيَّنَ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَصَحِيحٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّفْظَ لَا إشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُشْعِرُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا

الْفَرْقِ وَالْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّخْيِيرِ أَنَّ ذَوَاتَ الرُّتَبِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ مَعَ التَّخْيِيرِ وَقَاعِدَةِ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا فَإِنَّ الْأَعَمَّ فِيهَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ الْمَبَاحِثِ

قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا ) اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ وَالْفُضَلَاءِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا إلَى قَوْلِهِ : ( لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ ) قُلْت : مَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَلَا وَجْهَ هُنَا لِيَكَادُ .
قَالَ ( وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ وَهُمَا قَاعِدَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ) قُلْت : بَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَيْسَ هَا هُنَا قَاعِدَتَانِ بِوَجْهٍ بَلْ هِيَ قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا الْفَرْقُ بَاطِلٌ .
قَالَ ( وَتَحْرِيرُ ضَبْطِهِمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعَامَّةَ تَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَرَتِّبَةٍ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وَتَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَبَايِنَةٍ ) قُلْت : ذَلِكَ مُسَلَّمٌ .
قَالَ ( فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَرَّاتِ فَالْمَرَّةُ رُتْبَةٌ دُنْيَا وَالْمَرَّاتُ رُتْبَةٌ عُلْيَا لِأَنَّهَا فُوقَ الْمَرَّةِ ) قُلْت : وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ .
قَالَ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ فِي دُخُولِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ عَيْنًا إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا ضَابِطُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ) قُلْت : مَا أَبْعَدَ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّحْصِيلِ وَهَلْ يَسْتَرِيبُ ذُو عَقْلٍ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِعْلٌ مَا فِي الْوُجُودِ مَرَّاتٍ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَرَّاتٍ ؟ وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَفْهَامِ شَيْءٌ إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إلَى دَلِيلِ وَمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ إلَّا تَوَهُّمُهُ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ

مِنْ الْفِعْلِ الْمُنْفَرِدَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا الْمُجْتَمِعَةُ مَعَ أُخْرَى أَوْ آخَرَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَ كَيْفَ وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الِانْفِرَادِ وَالْمَرَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِأُخْرَى أَوْ آخَرَ مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الِاجْتِمَاعِ وَالْقَيْدَانِ وَاضِحٌ تَنَاقُضُهُمَا وُضُوحًا لَا رَيْبَ فِيهِ .
قَالَ ( وَأَمَّا مِثَالُ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدُ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا فَهَذَا هُوَ الْمَهِيعُ الْعَامُّ وَالْأَكْثَرُ فِي الْحَقَائِقِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُعْتَقَدُ غَيْرُهُ كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّاطِقُ وَلَا الْبَهِيمُ عَيْنًا مِنْ أَنْوَاعِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي نَاطِقٍ أَوْ بَهِيمٍ وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ ) قُلْت : قَوْلُهُ فَهَذَا هُوَ الْمَهِيعُ الْعَامُّ الْأَكْثَرُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ الْمَهِيعُ الَّذِي لَا مَهِيعَ سِوَاهُ .
وَقَوْلُهُ " بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " قَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخِلَافِهِ .
قَالَ ( وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ بِعْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ هَذَا اللَّفْظِ لَا ثَمَنَ الْمِثْلِ وَلَا الْفَاحِشَ وَلَا النَّاقِصَ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ ثَمَنُ الْمِثْلِ مِنْ الْعَادَةِ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ ثَمَنَ الْمِثْلِ إنَّمَا تَعَيَّنَ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَصَحِيحٌ ) قُلْت : تَسْلِيمُهُ مَا سَلَّمَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّفْظَ لَا إشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُشْعِرُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ ) قُلْت : لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوهُ أَحَدٌ بِأَشَدَّ فَسَادًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَكَيْفَ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَا

يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَلَا جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ وَلَا عُرْفٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ وَهَلْ يُرِيدُ عَاقِلٌ بَيْعَ مَبِيعِهِ بِالْبَخْسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ الْبَخْسُ هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الثَّمَنِ وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ هُوَ الْبَخْسُ بِعَيْنِهِ وَهَلْ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُمَا نَقِيضَانِ هَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ تَوَهُّمُهُ أَنَّ الْأَقَلَّ الْمُنْفَصِلَ جُزْءٌ مِنْ الْأَكْثَرِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَعَمَّ فِيهَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا ) قُلْت : لَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا قَاعِدَتَانِ بَلْ قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَفَرَّعُ وَلَا تَنْقَسِمُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِوَجْهٍ وَكَذَلِكَ قَاعِدَةُ التَّخْيِيرِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ الْمَبَاحِثِ ) قُلْت : فِي اقْتِضَائِهِ مِنْ الْخَطَأِ إلَى أَبْعَدِ الْغَايَاتِ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا ) عَلَى مَا زَعَمَهُ الْأَصْلُ مِنْ أَنَّهُمَا قَاعِدَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَا قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ ضَرُورَةَ أَنَّ دُخُولَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْوُجُودِ مُجَرَّدَةً مُحَالٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُطْلَقِ شَخْصٍ تَدْخُلُ مَعَهُ فِيهِ وَتَكُونُ مَاهِيَّةً مَخْلُوطَةً وَمَاهِيَّةً بِشَرْطِ لَا شَيْءَ خِلَافٌ لِمَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ وَالْفُضَلَاءِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْفِقْهِيَّاتِ بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِهِ أَنَّ الْأَقَلَّ مِنْ الْفِعْلِ كَالْمَرَّةِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ هُوَ عَيْنُ نَفْسِهِ فِي حَالِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ كَكَوْنِ الْمَرَّةِ مَعَ أُخْرَى أَوْ آخَرَ حَتَّى صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بِالْكَثِيرِ وَالْأَكْثَرِ وَكَذَلِكَ الْجُزْءُ مُنْفَرِدًا عَيْنُ نَفْسِهِ مَعَ الْكُلِّ فَقَالَ : إنَّ الْأَعَمَّ إذَا وَقَعَ فِي رُتَبٍ مُتَرَتِّبَةٍ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ اسْتَلْزَمَ نَوْعُهُ الْأَقَلَّ وَالْجُزْءَ جَزْمًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِدُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ مَعَ الْأَقَلِّ وَالْجُزْءِ عَيْنًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَقَعَ فِي الْأَكْثَرِ وَالْكُلِّ فَقَدْ وَقَعَ الْأَقَلُّ وَالْجُزْءُ عَيْنًا وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَقَلِّ وَالْجُزْءِ فَقَدْ وَقَعَا عَيْنًا أَيْضًا ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْأَعَمُّ فِي رُتَبٍ مُتَبَايِنَةٍ كَالْحَيَوَانِ إنْ وَقَعَ فِي نَوْعَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ هُمَا النَّاطِقُ وَالْبَهِيمُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدُ نَوْعَيْهِ عَيْنًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي نَاطِقٍ أَوْ بَهِيمٍ لِتَبَايُنِ نَوْعَيْهِ .
فَإِذَا قُلْنَا : فِي الدَّارِ حَيَوَانٌ لَا يُعْلَمُ أَهُوَ نَاطِقٌ أَوْ بَهِيمٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ بِعْ فَإِنَّ لَفْظَهُ هَذَا يُشْعِرُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ

مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَثَمَنُ الْمِثْلِ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا اللَّفْظُ فَظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ لَفْظَ بِعْ لَا دَلَالَةَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ لَا ثَمَنَ الْمِثْلِ وَلَا الْفَاحِشَ وَلَا النَّاقِصَ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ ثَمَنُ الْمِثْلِ مِنْ الْعَادَةِ لَا مِنْ اللَّفْظِ .
ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَمَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَلَيْسَ هَاهُنَا قَاعِدَتَانِ بَلْ هِيَ قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَفَرَّعُ وَلَا تَنْقَسِمُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ بِوَجْهٍ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ بَاطِلٌ إنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ تَوَهَّمَهُ أَنَّ الْأَقَلَّ الْمُنْفَصِلَ جُزْءٌ مِنْ الْأَكْثَرِ الْمُتَّصِلِ وَأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ الْفِعْلِ مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الِانْفِرَادِ هِيَ عَيْنُ نَفْسِهَا مَقْرُونَةً بِأُخْرَى أَوْ آخَرَ وَمُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ وَاضِحُ الْبُطْلَانِ وُضُوحًا لَا رَيْبَ فِيهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الشَّيْءَ مَعَ غَيْرِهِ غَيْرُهُ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّ قَيْدَ الِانْفِرَادِ يُنَاقِضُ قَيْدَ الِاجْتِمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوهُ أَحَدٌ بِأَشَدَّ فَسَادًا مِمَّا بَنَاهُ عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ بِعْ يَدُلُّ الْتِزَامًا عَلَى الثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَثَمَنُ الْمِثْلِ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا اللَّفْظُ إذْ كَيْفَ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَلَا جَرَتْ عَادَةٌ وَلَا عُرْفٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ ، وَهَلْ يُرِيدُ عَاقِلٌ بَيْعَ مَبِيعِهِ بِالْبَخْسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى ذَلِكَ ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ الْبَخْسُ هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الثَّمَنِ ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ هُوَ الْبَخْسُ بِعَيْنِهِ ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ

اجْتِمَاعُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ؟ هَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ا هـ .
قُلْت : وَحَيْثُ ثَبَتَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ فَالصَّوَابُ إبْدَالُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ وَقَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا قَالَ : إنَّ دَمَ الْحَيْضِ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالِ الدَّمِ .
وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ أَذًى فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنِ الدَّمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ قَالَ : وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ ) وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلِهِ { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ فَهَذَا هُوَ خِطَابُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَعُرِفَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الشَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ

تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْله تَعَالَى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ هَا هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهَذَا لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْله تَعَالَى { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ ؟ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مِنْ جِنْسٍ لَهُ حَالَتَانِ تَارَةً يَدُلُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَارَةً يُحَرِّمُ الْجَمِيعُ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي : الظَّنُّ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَكَيْفُ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ هَا هُنَا ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : أَنْ نَقُولَ لَنَا هَا هُنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ الْمُحَرَّمُ الْجَمِيعُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ الْبَعْضِ فَيَخْرُجَ مِنْ الْعُمُومِ كَمَا إذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ مَعَ الْمُذَكَّيَاتِ إذَا اخْتَلَطْنَ ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَابَسْنَاهُ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ وَكَانَ ذَلِكَ

تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا تَحْصُلُ الظُّنُونُ الْمَأْذُونُ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الظُّنُونِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَبْقَيْنَاهُ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ .
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ : أَنْ نَقُولَ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الظُّنُونِ بَلْ نَقُولُ هَذَا الْبَعْضُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الظَّنِّ بِعَيْنِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مُهِمٌّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ قُلْنَا هُوَ مُبَاحٌ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي فَنَقُولُ قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ دُونَ الضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ فَإِذَا وَرَدَ خِطَابٌ وَكَانَ مُتَعَلِّقُهُ مَقْدُورًا حُمِلَ عَلَيْهِ نَحْوَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ صُرِفَ الْخِطَابُ لِثَمَرَتِهِ أَوْ لِسَبَبِهِ وَمِثَالُ مَا يُحْمَلُ عَلَى ثَمَرَتِهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَالْآثَارِ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا نُنْقِصُ الْحَدَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ .
وَمِثَالُ مَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَيُحْمَلُ عَلَى سَبَبِهِ قَوْله تَعَالَى { سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ

رَبِّكُمْ } وَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ عَبَّرَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ عَكْسُ الْأَوَّلِ وقَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَالطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ ، وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَالْمَوْتُ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَوْتِ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْمَوْتُ حِينَئِذٍ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ نَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى آثَارِهِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ وَآثَارُهُ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظُنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّتُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُ ذَلِكَ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ إلَى قَوْلِهِ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ إنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ مَا هُوَ ظَاهِرُهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَالْإِلْزَامَ فَمَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ : لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبَتْكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ ، وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وَالسِّرَّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ لَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ هُنَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ بَعْدُ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ كَمَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } إلَى آخِرِهَا .
وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّكْلِيفُ

لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ ، أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَاسَةِ ، ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَاسَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَتَوَجَّهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ إلَى الْجَمِيعِ ثُمَّ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ .
قَالَ ( وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } الْآيَةَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ ) قُلْت : لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ بَلْ بِالْبَعْضِ

غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ ) قُلْت لَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ إلَّا بِالْكُلِّ وَالْإِلْزَامِ وَالتَّكْلِيفِ لِلْبَعْضِ وَلَا يَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّ ثُمَّ سُقُوطِهِ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ .
قَالَ ( فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ مِنْ الْعِقَابِ ) قُلْت : وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْبَعْضِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مَعَ مُخَاطَبَةِ الْكُلِّ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ مَتَى أَهْمَلُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ كُلُّهُمْ لَزِمَهُمْ الْعِقَابُ وَمَتَى قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ الْمُعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِمْ إيَّاهُ أَوْ بِانْبِعَاثِهِ إلَى ذَلِكَ وَعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِإِمْكَانِ الْعِلْمِ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْعِلْمُ خَصَّهُ الثَّوَابُ انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِأَنَّ غَيْرِي انْبَعَثَ لِذَلِكَ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا إلَى قَوْلِهِ وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَثِيرٌ جِدًّا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا سَبَقَ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إلَى آخِرِهَا قُلْت : مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ

إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ) قُلْت هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ وَلَعَلَّهُ فِيهِ تَصْحِيفٌ أَوْ فِيهِ تَغْيِيرٌ .
قَالَ ( غَيْرَ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْأَوَّلُ مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ) قُلْت : الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا مُحْتَمَلَانِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي إلَى آخِرِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ ) عَلَى مَذْهَبِ الْأَصْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إذْ لَوْ وَقَعَ لَأَدَّى إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ لِتَنْبَعِثَ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وقَوْله تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُعَيِّنْ الشَّرْعُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ كَمَا عَلِمْت .
قَالَ : وَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ

الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ لِمَا ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ الْحُضُورَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِنْ اقْتَضَى لَفْظُ الْآيَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحُضُورِ الْمَذْكُورِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَاقِعٌ وَجَائِزٌ وَإِنْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَوَجُّهِ السُّؤَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الظَّنِّ الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَحَدُهُمَا : أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ فَإِمَّا أَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَاقِعَ هَا هُنَا ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) بِأَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ كَمَا حَرَّمَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ تَخْتَلِطُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ وَالْمَيْتَةُ تَخْتَلِطُ بِمُذَكَّيَاتٍ .
فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ اعْتَبَرْنَاهُ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ بَلْ لَابَسْنَاهُ وَأَبْقَيْنَا مَا لَا دَلِيلَ عَلَى إبَاحَتِهِ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَبَحْنَاهُ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ

وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَالسُّؤَالُ الثَّانِي كَيْفَ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ الظَّنِّ وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّهْيَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى آثَارِ الظَّنِّ وَسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّته بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُهُ فَفِي الْآيَةِ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ أَيْ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ سَبَبِ الظَّنِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَحْذُوفَ مَجَازًا مُطْلَقًا أَوْ مُرْسَلًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ لَا بِالضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ ، فَإِذَا وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ صُرِفَ إمَّا لِثَمَرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَالنَّهْيُ عَنْهَا نَهْيٌ عَنْ ثَمَرَتِهَا الَّتِي هِيَ نَقْصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَنْقُصْ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبِّبِ .
كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَمَّا لِسَبَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } فَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ ، فَالْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهَا أَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ لِسَبَبِهَا ، وَالْمَعْنَى إمَّا سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ وَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِهَا عَنْ سَبَبِهَا مَجَازًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ هَذَا مَذْهَبُ الْأَصْلِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِمَعْنَى تَكْلِيفِهِ وَإِلْزَامِهِ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِلَا فَرْقٍ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : إذْ

لَا مَانِعَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا لِلْجَمِيعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبْتُكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } إلَى آخِرِهَا فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَابَةِ ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَابَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى

قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَالْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ انْتَهَى .
( وَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا بَنَى عَلَيْهِ الْأَصْلُ مَذْهَبَهُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ ا هـ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ : وَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّيِّ الطَّلَبِ وَأَمَّا مِنْ جِهَةٍ جُزْئِيِّهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا وَرُبَّمَا تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَوِيلًا وَلَكِنَّ الضَّابِطَ لِلْجُمْلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَبَ وَارِدٌ عَلَى الْبَعْضِ وَلَا عَلَى الْبَعْضِ كَيْفَ كَانَ وَلَكِنْ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ عُمُومًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } فَوَرَدَ التَّخْصِيصُ عَلَى طَائِفَةٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ ، وَقَوْلِهِ { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } الْآيَةَ ، وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرَدَ الطَّلَبُ فِيهَا نَصًّا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ

.
وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى أَوْ الصُّغْرَى فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَوْصَافُهَا الْمَرْعِيَّةُ لَا عَلَى كُلِّ النَّاسِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا شَرْعًا بِاتِّفَاقٍ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِهَا وَالْغَنَاءِ أَيْ النَّفْعِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ حَيْثُ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْقِيَامُ بِهِ عَلَى مَنْ فِيهِ نَجْدَةٌ وَشَجَاعَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا مَنْ لَا يُبْدِي فِيهَا وَلَا يُعِيدُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ وَمِنْ بَابِ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ أَوْ الْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَدْفَعَةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَالثَّالِثُ مَا وَقَعَ مِنْ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ وَمَا وَقَعَ أَيْضًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ { عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ } وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَهَاهُ عَنْهُمَا فَلَوْ فُرِضَ إهْمَالُ النَّاسِ لَهُمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ بِدُخُولِ أَبِي ذَرٍّ فِي حَرَجِ الْإِهْمَالِ وَلَا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ وَفِي الْحَدِيثِ { لَا تَسْأَلُ الْإِمَارَةَ } .
وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي أَنَّهَا غَيْرُ عَامَّةِ الْوُجُوبِ وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ الْإِمَارَةِ فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ : نَهَيْتنِي عَنْ الْإِمَارَةِ ثُمَّ وُلِّيت ، فَقَالَ لَهُ : وَأَنَا الْآنَ أَنْهَاك عَنْهَا وَاعْتَذَرَ لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ هُوَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا ، وَرُوِيَ

أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي أَنْ يَقُصَّ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَصَصِ الَّذِي طَلَبَهُ تَمِيمٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ مَطْلُوبَاتِ الْكِفَايَةِ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَلَى هَذَا الْمَهِيعِ جَرَى الْعُلَمَاءُ فِي تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَفَرْضٌ هُوَ فَقَالَ أَمَّا عَلَى كُلِّ النَّاسِ فَلَا يَعْنِي بِهِ الزَّائِدُ عَلَى الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ .
وَقَالَ أَيْضًا : أَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْإِمَامَةِ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَالْأَخْذُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ فَأَنْتَ تَرَاهُ قَسَّمَ فَجَعَلَ مَنْ فِيهِ قَبُولِيَّةً لِلْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا جَعَلَهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرَ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ وَبَاقِي الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْكُولٌ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَبَيَانُ بَعْضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَظْهَرَ وَجْهُهَا وَنَتَبَيَّنَ صِحَّتَهَا بِحَوْلِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْخَلْقَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهِمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ثُمَّ وَضَعَ فِيهِمْ الْعِلْمَ بِذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ تَارَةً بِالْإِلْهَامِ كَمَا يُلْهِمُ الطِّفْلَ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَارَةً

بِالتَّعْلِيمِ فَطَلَبَ النَّاسَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَصَالِحُ أَوْ كَافَّةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفَاسِدُ إنْهَاضًا لِمَا جُبِلَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمَطَالِبِ الْإِلْهَامِيَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ لِلْقِيَامِ بِتَفَاصِيلِ الْمَصَالِحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ أَوْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَوْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعَادِيَّةِ .
وَفِي أَثْنَاءِ الْعِنَايَةِ بِذَلِكَ يَقْوَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَمَا أُلْهِمَ إلَيْهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَيَظْهَرُ فِيهِ وَعَلَيْهِ وَيَبْرُزُ فِيهِ أَقْرَانَهُ مِمَّنْ لَمْ يُهَيَّأْ تِلْكَ التَّهْيِئَةَ فَلَا يَأْتِي زَمَانُ التَّعَقُّلِ إلَّا وَقَدْ نَجَمَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِيَّتِهِ فَتَرَى وَاحِدًا قَدْ تَهَيَّأَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَآخَرَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَآخَرَ لِلتَّصَنُّعِ بِبَعْضِ الْمِهَنِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَآخَرَ لِلصِّرَاعِ وَالنِّطَاحِ إلَى سَائِرِ الْأُمُورِ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ غُرِزَ فِيهِ التَّصَرُّفُ الْكُلِّيُّ فَلَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ مِنْ غَلَبَةِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ فَيَرِدُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا فِي حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَضُ الطَّلَبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَطْلُوبَاتِ بِمَا هُوَ نَاهِضٌ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِمْ الِالْتِفَاتُ إلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسَبِهَا وَيُرَاعُونَهَا إلَى أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا إذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ

يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ .
فَإِذَا فُرِضَ مَثَلًا وَاحِدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إدْرَاكٍ وَجَوْدَةُ فَهْمٍ وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا إلَى بَعْضٍ فَيُؤْخَذَ بِهِ وَيُعَانَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ رَبَّانِيُّو الْعُلَمَاءِ ، فَإِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فَمَالَ بِهِ طَبْعُهُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَأَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ تُرِكَ وَمَا أَحَبَّ وَخُصَّ بِأَهْلِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ إنْهَاضُهُ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إهْمَالٍ لَهُ وَلَا تَرْكٍ لِمُرَاعَاتِهِ ، ثُمَّ إنْ وَقَفَ هُنَالِكَ فَحَسَنٌ وَإِنْ طَلَبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِهِ أَوْ طَلَبَ بِهِ فَعَلَ مَعَهُ فِيهِ مَا فَعَلَ فِيمَا قَبْلَهُ هَكَذَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ الْأَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ يُصَرَّفُ إلَى مُعَلِّمِيهَا فَصَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ فِيمَا طَلَبَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهِمْ ، فَإِذَا انْتَهَضَ عَزْمُهُ بَعْدُ إلَى أَنَّ صَارَ يَحْذِقُ الْقُرْآنَ صَارَ مِنْ رَعِيَّةِ مُفَسِّرِيهِ وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ كَذَلِكَ .
وَمِثْلُهُ إنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ أَوْ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ إلَى سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ مِنْ الْعُلُومِ وَهَكَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمُورِ فَيُمَالُ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَيُعَلَّمُ آدَابَهُ الْمُشْتَرَكَةَ ثُمَّ يُصَارُ بِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ صَنَائِعِ التَّدْبِيرِ كَالْعِرَافَةِ أَوْ النِّقَابَةِ أَوْ الْجُنْدِيَّةِ أَوْ الْهِدَايَةِ أَوْ

الْإِمَامَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ وَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ نَجَابَةٌ وَنُهُوضٌ وَبِذَلِكَ يَتَرَبَّى لِكُلِّ فِعْلٍ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةِ قَوْمٍ ؛ لِأَنَّهُ سَيْرٌ أَوَّلًا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ فَحَيْثُ وَقَفَ السَّائِرُ وَعَجَزَ عَنْ السَّيْرِ فَقَدْ وَقَفَ فِي مَرْتَبَةٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ زَادَ فِي السَّيْرِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ الْكِفَائِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَنْدُرُ مَنْ يَصِلُ إلَيْهَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْإِمَارَةِ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِيمُ أَحْوَالُ الدُّنْيَا وَأَعْمَالُ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ التَّرَقِّي فِي طَلَبِ الْكِفَايَةِ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ وَلَا هُوَ عَلَى الْكَافَّةِ بِإِطْلَاقٍ وَلَا عَلَى الْبَعْضِ بِإِطْلَاقٍ وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَقَاصِدِ دُونَ الْوَسَائِلِ وَلَا بِالْعَكْسِ بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ نَظَرٌ وَاحِدٌ حَتَّى يُفَصَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ وَيُوَزَّعُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ هَذَا التَّوْزِيعِ وَإِلَّا لَمْ يَنْضَبِطْ الْقَوْلُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ التَّجَوُّزِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْفَرْضِ قِيَامٌ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَهُمْ مَطْلُوبُونَ بِسَدِّهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَبَعْضُهُمْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً وَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهَا أَهْلًا وَالْبَاقُونَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَادِرُونَ عَلَى إقَامَةِ الْقَادِرِينَ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوِلَايَةِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِقَامَتِهَا وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَطْلُوبٌ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ إقَامَةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَالْقَادِرُ إذًا مَطْلُوبٌ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ وَغَيْرُ الْقَادِرِ مَطْلُوبٌ بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ الْقَادِرِ إذْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى قِيَامِ الْقَادِرِ إلَّا بِالْإِقَامَةِ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَرْتَفِعُ مَنَاطُ الْخِلَافِ فَلَا يَبْقَى لِلْمُخَالَفَةِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ ا هـ كَلَامُ أَبِي إِسْحَاقَ بِتَغْيِيرٍ مَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ ) أَمَّا إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَوْ صَلَّى الْإِنْسَانُ أَلْفَ رَكْعَةٍ مَا أَجْزَأَتْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَدَفَعَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً لَا تُجْزِئُ عَنْ دِينَارِ الزَّكَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ فِي سَبْعِ مَسَائِلَ : الْأُولَى : إذَا تَوَضَّأَ مُجَدِّدًا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا قَوْلَانِ وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا اغْتَسَلَ لِجُمُعَتِهِ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وَقِيلَ تُجْزِئُ .
الثَّالِثَةُ : إذَا نَسِيَ لُمْعَةً مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى فِي وُضُوئِهِ وَكَانَ غَسْلُهَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ هَلْ تُجْزِئُهُ إذَا غَسَلَ الثَّانِيَةَ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ كَالتَّجْدِيدِ .
الرَّابِعَةُ : إذَا سَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ تُجْزِئَاهُ عَنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
الْخَامِسَةُ : إذَا ظَنَّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ فَرْضِهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ فَرْضِهِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ السَّادِسَةُ : إذَا سَهَا عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَاهِيًا هَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي نَسِيَ مِنْهَا السَّجْدَةَ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
السَّابِعَةُ : إذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَرَاحَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ .
فَهَذَا هُوَ الَّذِي رَأَيْته وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْمَذْهَبِ ، وَأَمَّا قَاعِدَةُ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالْمُسَافِرَ وَنَحْوَهُمْ لَمَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ فَإِذَا حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ

فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْجُمُعَةُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا كَالْوَاجِبِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إحْدَى الْخِصَالِ ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ أَحْرَمَ بِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَمَا يُعَيِّنُ الْمُكَفِّرُ إحْدَى الْخِصَالِ بِالْعِتْقِ فَهُوَ مُعَيِّنٌ لِلْوَاجِبِ لَا فَاعِلٌ لِغَيْرِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ غَيْرِ الْوَاجِبِ هَا هُنَا هُوَ خُصُوصُ الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقُ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَالْجُمُعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهَا جُمُعَةً وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ كَوْنُهَا إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَأَجْزَأَتْ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهَا الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا أَنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ فِي عِتْقِهِ أَمْرَانِ : خُصُوصٌ وَهُوَ كَوْنُهُ عِتْقًا ، وَعُمُومٌ وَهُوَ كَوْنُهُ إحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فَيُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي الِامْتِنَاعِ وَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ أُخَرَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالُوا : الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ ، فَقِيلَ : إذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَصَارَ مُفْتَرِضًا فَمَا ائْتَمَّ الْحُرُّ إلَّا بِمُفْتَرِضٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فَيَكُونُ الشُّرُوعُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَيَقَعُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ قِيلَ فَإِنْ كَانَ الشُّرُوعُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَقَدْ أَجْزَأَهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ فَخُصُوصُ الْجُمُعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ

وَغَيْرُ الْوَاجِبِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ فَكَيْفَ أَجْزَأْته تَكْبِيرَةُ إحْرَامِهِ فَقِيلَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ أَيْضًا فِيهَا خُصُوصٌ وَهُوَ كَوْنُهَا بِالْجُمُعَةِ وَعُمُومٌ وَهُوَ كَوْنُهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ أَمَّا بِالْجُمُعَةِ وَأَمَّا بِالظُّهْرِ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ عَيَّنَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي إحْرَامٍ خَاصٍّ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ الرُّبَاعِيَّةِ أَيْضًا خُصُوصُ إحْرَامِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ يُعَيِّنُ الْوَاجِبَ وَإِذَا عَقِلْتَ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَاعْقِلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَفِي الرُّكُوعِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ مُطْلَقُ الرُّكُوعِ ، وَفِي السُّجُودِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي جُمُعَةٍ أَوْ فِي ظُهْرٍ وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ مُطْلَقٌ السُّجُودِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ فَيَكُونُ الْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ تَكُونُ مِنْ بَابِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْبَحْثِ أَنْ لَا يَقْتَدِيَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ فِي ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا أَرْبَعًا أَيْضًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرِضٍ بِالْخُصُوصِيَّاتِ بِخِلَافِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ظُهْرِ غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُفْتَرِضٌ بِالْخُصُوصِيَّاتِ وَالْعُمُومِ فَاسْتَوَى الْحُرُّ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ مَعَ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْ أَنِّي رَأَيْت هَذَا الْفَرْعَ مَنْقُولًا غَيْرَ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ وَيَلْحَقُ بِالْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَنَحْوُهُمَا حَرْفًا بِحَرْفٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْدِيدِ الْمَسَائِلِ بِذِكْرِهِمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَمَضَانَ

وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ شَهْرَ الْقَضَاءِ فَخُصُوصُهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ خُصُوصُ الْقَضَاءِ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ آخِرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِتَعَذُّرِ مَا قَبْلَهُ وَتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَى الْمُفَرِّطِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي حَقَّةِ الْأَدَاءُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُفَرِّطِ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ وَعَلَى الْمُسَافِرِ بِسَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ الَّذِي فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ ، وَثَانِيهِمَا خُرُوجُ شَهْرِ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَصُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ خُصُوصَ الْقَضَاءِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمَرِيضُ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهَذَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْخِطَابَ بِخُصُوصِ رَمَضَانَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَيَبْقَى مُخَاطَبًا بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ وَيَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ بِالسَّبَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَإِنْ كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ فَهَذَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْأَدَاءُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْقَضَاءِ لِلْوُجُوبِ إنْ بَقِيَ مُسْتَجْمِعَ الشَّرَائِطِ سَالِمَ الْمَوَانِعِ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ أَقْدَمَ وَصَامَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِبِ بَعْدَ عُمُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ ؟ قَالَ

الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى : يَحْتَمِلُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ وَيَحْتَمِلُ الْإِجْزَاءَ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ شَهْوَتَيْ فَمِهِ وَفَرْجِهِ جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ بِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَجَانٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) الصَّبِيُّ إذَا صَلَّى بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ قَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مَا قَارَنَهُ مِنْ إجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ مَا أَوْقَعَهُ أَوَّلًا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ثَانِيًا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ مَثَلًا إنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ فَعَلَهَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى لَكَانَ الزَّوَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاتَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَامَةَ كُلَّهَا أَسْبَابٌ فَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ وَسَبَبٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذَا الْفَرْقِ فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقَامَةِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ سَبَبٌ لِلْفِعْلِ وَالْجُزْءُ الَّذِي قَارَنَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ الزَّوَالَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَيَكُونَ ذَلِكَ مُصَادَرَةً عَلَى صُورَةِ النِّزَاعِ وَإِنْ ادَّعَاهُ فِيمَا عَدَا صُورَةَ النِّزَاعِ فَلَا يُمْكِنُهُ إلْحَاقُ صُورَةِ النِّزَاعِ بِصُورَةِ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِالْقِيَاسِ فَإِذَا قَاسَ فَرَّقْنَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ وُجِدَ فِيهَا حَالَتَانِ تَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَهُمَا الصِّبَا وَالْبُلُوغُ بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا حَالَةٌ

وَاحِدَةٌ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ وَاحِدَةً لِاتِّحَادِ الشَّرْطِ أَمَّا مَعَ تَعَدُّدِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِهِ جَازَ اخْتِلَافُ الْمَشْرُوطِ وَالصِّبَا شَرْطٌ فِي تَوَجُّهِ النَّدْبِ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي تَوَجُّهِ الْوُجُوبِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا الَّذِي رَأَيْته وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْمَذْهَبِ ) قُلْت إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا .
قَالَ وَذَكَرَ مَا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَسْأَلَةُ الْمُجَدِّدِ وَالْمُغْتَسِلِ لِلْجُمُعَةِ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ وَنَاسِي اللُّمْعَةِ مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ الطَّهَارَةِ ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ بِالْإِجْزَاءِ فِي هَذِهِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوقِعِينَ لِهَذِهِ الطِّهَارَاتِ إنَّمَا أَرَادَ بِهَا إحْرَازَ كَمَالِهَا ، وَالْكَمَالُ فِي رَأْيِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ بِخِلَافِ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْكَمَالَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ أَيْضًا بِالْإِجْزَاءِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَلَا نِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَلِّمِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالظَّانُّ أَنَّهُ سَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ أَعْنِي مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَمَّا السَّادِسَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ السَّاهِي عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَى الْقَائِمِ إلَى خَامِسَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إنَّمَا قَامَ فِي الْخَامِسَةِ لِأَدَاءِ بَقِيَّةِ فَرْضِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُ ، وَأَمَّا السَّابِعَةُ وَهِيَ نَاسِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَمِنْ تِلْكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَيْنِ وَهِيَ مَحَلٌّ

لِاحْتِمَالِ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَأَمَّا قَاعِدَةُ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ ) فَلَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إلَى قَوْلِهِ وَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ .
قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا بَلْ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالُوا الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَمُوقِعُ نَوْعَيْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَوْ أَنْوَاعِهِ لَا يُوقِعُ إلَّا وَاجِبًا فَالْعَبْدُ إذَا اخْتَارَ إيقَاعَ الْجُمُعَةِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاجِبَةً فَالْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ لَمْ يَكُنْ مُفْتَرِضًا ائْتَمَّ بِمُتَنَفِّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُصُوصَاتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مُسَلَّمٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ هِيَ خُصُوصَاتٌ مُعَيَّنَاتٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْعُمُومَ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ هُوَ وَاجِبٌ وَهَلْ يُمْكِنُ إيقَاعُ الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ الشَّخْصِيِّ خَاصَّةً لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ فَالْعَامُّ عَلَى هَذَا لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْخَاصِّ وَهَذَا كُلُّهُ مُجَارَاةٌ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ وَذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَعْنِي الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ وَعَلَى هَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْوُجُوبُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ إلَّا بِخُصُوصٍ لَكِنَّهُ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ

الْآمِرِ وَتَعَيُّنُهُ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لَا مَا سِوَاهُ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ قُلْت : ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَمَضَانَ وَعُمُومٍ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إذَا اخْتَارَ صِيَامَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ وَاجِبٍ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ قَدْ عَيَّنَهُ لِإِيقَاعِ الْوَاجِبِ كَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَعْيِينُهُ وَقَوْلُهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَهَلْ رَمَضَانُ إلَّا أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ وَهَلْ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إلَّا رَمَضَانُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ شَهْرَ الْقَضَاءِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( مُفَرِّقٌ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَى الْمُفَرِّطِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْأَدَاءُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت : أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُفَرِّطِ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَلَى الْمُسَافِرِ بِسَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ الَّذِي فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ فَلَمْ تُوجِبْ الرُّؤْيَةُ الْعُمُومَ فَإِنَّ الْعُمُومَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عُمُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وَلَيْسَ الْعُمُومُ هُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ بَلْ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمَرِيضُ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ

فَهَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِخُصُوصِ رَمَضَانَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَيَبْقَى مُخَاطَبًا بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إلَى قَوْلِهِ إنْ بَقِيَ مُسْتَجْمِعَ الشَّرَائِطِ سَالِمَ الْمَوَانِعِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ أَقْدَمَ وَصَامَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِبِ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ ) قُلْت : مَا قَالَهُ ظَاهِرٌ قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) الصَّبِيُّ إذَا صَلَّى بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ ، قَالَ مَالِكٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً أُخْرَى إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ : الْأُولَى : أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى خُصُوصٌ مُعَيَّنٌ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ لَا مَوْكُولٌ تَعَيُّنُهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ وَالْوَاجِبُ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ وَإِنَّمَا تَعَيُّنُهُ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ ، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى لَمَّا تَعَيَّنَ فِيهَا الْوَاجِبُ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ إجْزَاءِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَإِنَّمَا جَرَى إجْزَاءُ غَيْرِ الْوَاجِبِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الْمَذْهَبِ أَشَارَ لَهَا الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّوَاوِيُّ كَمَا فِي كَبِيرِ مَيَّارَةَ عَلَى نَظْمِ ابْنِ عَاشِرٍ بِقَوْلِهِ : مَسَائِلُ يَجْرِي نَقْلُهَا عَنْ فَرِيضَةٍ شُذُوذًا فَلَا تَتْبَعْ سِوَى قَوْلِ شُهْرَةِ مُجَدِّدٌ طَهُرَ سَاهِيًا وَهُوَ مُحْدِثٌ وَلُمْعَةُ عُضْوٍ طَهُرَتْ بِفَضِيلَةِ وَآتٍ بِغُسْلٍ سَاهِيًا عَنْ جَنَابَةٍ نَوَى جُمُعَةً وَاحْكُمْ لِتَارِكِ سَجْدَةِ مِنْ الْفَرْضِ يَأْتِي بِالسُّجُودِ لِسَهْوِهِ وَمُبْطِلُهَا يَأْتِي بِخَامِسِ رَكْعَةِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ ظَنَّ فِيهَا سَلَامَهُ وَآتٍ بِنَفْلٍ قَبْلَ خَتْمِ فَرِيضَةِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَوْ يَظُنُّ سَلَامَهُ لِثَالِثَةٍ قَدْ قَامَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ وَيُجْزِئُ فِي الْمَشْهُورِ مَنْ طَافَ عِنْدَهُمْ طَوَافَ وَدَاعٍ ذَاهِلًا عَنْ إفَاضَةِ وَذُو مُتْعَةٍ قَدْ سَاقَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَيُجْزِئُ قَدْ قَالُوا لِوَاجِبِ مُتْعَةِ وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا رَمَى جِمَارًا لِسَهْوٍ لَا يُعِيدُ لِجَمْرَةِ وَبَيَانُهَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مُحْتَوٍ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَشْهُورُهُمَا الثَّانِي وَذَكَرَهَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ : الْأُولَى : إذَا تَوَضَّأَ مُجَدِّدًا

ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا اغْتَسَلَ لِجُمُعَةٍ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وَقِيلَ تُجْزِئُ الثَّالِثَةُ : إذَا نَسِيَ لُمْعَةً مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى فِي وُضُوئِهِ وَكَانَ غَسْلُهَا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ كَالتَّجْدِيدِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ بِالْإِجْزَاءِ فِي هَذِهِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْ إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوقِعِينَ لِهَذِهِ الطِّهَارَاتِ إنَّمَا أَرَادَ بِهَا إحْرَازَ كَمَالِهَا وَالْكَمَالُ فِي رَأْيِهِ يَتَضَمَّنُ الْأَجْزَاءَ بِخِلَافِ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْكَمَالَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْمَسَائِلِ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ أَيْضًا بِالْإِجْزَاءِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَلَا نِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ .
ا هـ .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مُحْتَوٍ عَلَى خَمْسِ مَسَائِلَ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَشْهُورُهُمَا الثَّانِي ذَكَرَ الْأَصْلُ مِنْهَا ثَلَاثَةً : الْأُولَى : إذَا سَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ تُجْزِئَاهُ عَنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا ظَنَّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ فَرْضِهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ فَرْضِهِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
الثَّالِثَةُ : إذَا سَهَا عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَاهِيًا هَلْ تُجْزِئُهُ

عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي نَسِيَ مِنْهَا السَّجْدَةَ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَسْأَلَةُ الْمُسَلِّمِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالظَّانِّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السَّاهِي عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَى الْقَائِمِ إلَى خَامِسَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إنَّمَا قَامَ فِي الْخَامِسَةِ لِأَدَاءِ بَقِيَّةِ فَرْضِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُ الرَّابِعَةُ أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَاحْكُمْ لِتَارِكِ سَجْدَةٍ مِنْ الْفَرْضِ يَأْتِي بِالسُّجُودِ لِسَهْوِهِ يَعْنِي وَاحْكُمْ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ لِتَارِكِ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي حَالِ إتْيَانِهِ بِسَجْدَةِ سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ .
الْخَامِسَةُ : أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَوْ يَظُنَّ سَلَامَهُ لِثَالِثَةٍ قَدْ قَامَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ يَعْنِي وَمَنْ قَامَ مِنْ ثَانِيَةِ فَرْضٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ يَظُنَّ السَّلَامَ لِثَالِثَةٍ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا أَمَّا إنْ سَلَّمَ أَوْ ظَنَّ السَّلَامَ فَهُمَا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَلِذَا قَالَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مُحْتَوٍ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْ الْحَجِّ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا هُنَا الْإِجْزَاءُ ذَكَرَ الْأَصْلُ مِنْهَا وَاحِدَةً .
الْأُولَى : إذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَرَاحَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَذَا فِي الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَيْنِ وَهِيَ مَحَلٌّ لِاحْتِمَالِ الْخِلَافِ ا هـ .
قُلْت : وَقَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ فِيهَا كَغَيْرِهَا وَأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا

الْإِجْزَاءُ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيِّ وَيُجْزِئُ فِي الْمَشْهُورِ مَنْ طَافَ عِنْدَهُمْ طَوَافَ وَدَاعٍ ذَاهِلًا عَنْ إفَاضَةٍ الثَّانِيَةُ أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَذُو مُتْعَةٍ قَدْ سَاقَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَيُجْزِئُ قَدْ قَالُوا لِوَاجِبِ مُتْعَةِ يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إذَا سَاقَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ فِي عُمْرَتِهِ فَلَمَّا حَلَّ مِنْهَا وَجَبَ نَحْرُهُ إلَّا إنْ أَخَّرَهُ لِيَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ يُجْزِئُهُ عَنْ مُتْعَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ سَوْقِهِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي مُتْعَتِهِ عَلَى تَأْوِيلِ سَنَدٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا أَجْزَأَ عَنْ قِرَانِهِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ لِلْوَالِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
الثَّالِثَةُ : أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا رَمَى جِمَارَ السَّهْوِ لَا يُعِيدُ لِجَمْرَةِ أَيْ إذَا نَسِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ رَمَاهَا سَاهِيًا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَيْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ كَمَا فِي كَبِيرِ مَيَّارَةَ عَلَى ابْنِ عَاشِرٍ قُلْت وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي حَاشِيَتِهِ كَمَا أَجْزَأَ أَيْ هَدْيُ التَّطَوُّعِ عَنْ قِرَانِهِ زِيَادَةُ مَسْأَلَةٍ رَابِعَةٍ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَنَظَمْتهَا فِي بَيْتٍ يَلْحَقُ بِنَظْمِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِي : وَزِدْ قَارِنًا يُجْزِئُهُ هَدْيُ تَطَوُّعٍ بِوَاجِبِ هَدْيٍ لِلْقِرَانِ كَمُتْعَةِ وَمِنْ هُنَا اُشْتُهِرَ أَنَّ تَطَوُّعَاتِ الْحَجِّ تُجْزِئُ عَنْ وَاجِبِ جِنْسِهَا فَتَكُونَ جُمْلَةُ النَّظَائِرِ اثْنَيْ عَشْرَ مَسْأَلَةً أَرْبَعَةٌ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ شُذُوذًا عَلَى احْتِمَالٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ شُذُوذًا بِدُونِ احْتِمَالٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَمَا عَدَا هَذِهِ النَّظَائِرَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ اتِّفَاقًا فَلَوْ صَلَّى الْإِنْسَانُ

أَلْفَ رَكْعَةٍ مَا أَجْزَأَتْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ دَفَعَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً مَا أَجْزَأَتْ عَنْ دِينَارِ الزَّكَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا صَلَّى الصَّبِيُّ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مَا قَارَنَهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ مَا أَوْقَعَهُ أَوَّلًا لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ وَسَبَبٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَارَنَهُ شَرْطُ النَّدْبِ الَّذِي هُوَ الصِّبَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ سَبَبُ الْفِعْلِ نَدْبًا لَا وُجُوبًا وَالْجُزْءُ الَّذِي قَارَنَهُ بَعْدَ شَرْطِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْبُلُوغُ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ مَثَلًا إنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ فَعَلَهَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى لَكَانَ الزَّوَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاتَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَا يُرَدُّ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الزَّوَالَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاتَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُصَادَرَةً عَلَى صُورَةِ النِّزَاعِ وَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِيمَا عَدَا صُورَةَ النِّزَاعِ فَلَا يُمْكِنُهُ إلْحَاقُ صُورَةِ النِّزَاعِ بِصُورَةِ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِالْقِيَاسِ .
فَإِذَا قَاسَ فَرَّقْنَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ وُجِدَ فِيهَا حَالَتَانِ تَقْتَضِيَانِ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَهُمَا الصِّبَا وَالْبُلُوغُ وَلَيْسَ فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ إلَّا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ هِيَ الْبُلُوغُ فَاتَّحَدَتْ الصَّلَاةُ فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ لِاتِّحَادِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْبُلُوغُ وَتَعَدَّدَتْ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ لِتَعَدُّدِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِهِ فَلِذَا جَازَ فِيهَا اخْتِلَافُ

الْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ الصَّلَاتَانِ بِاخْتِلَافِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الصِّبَا الشَّرْطُ فِي تَوَجُّهِ النَّدْبِ وَالْبُلُوغِ الشَّرْطُ فِي تَوَجُّهِ الْوُجُوبِ وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا خُصُوصَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ لَمْ يَكُنْ إجْزَاءُ الْجُمُعَةِ عَنْ الظُّهْرِ مَثَلًا لِنَحْوِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ إذَا حَضَرُوهَا مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَا بِغَيْرِهِ إذْ الْوُجُوبُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْجُمُعَةُ فَإِذَا أَحْرَمَ كُلٌّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ أَحْرَمَ بِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَعُيِّنَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ الَّذِي عَلَّقَ الْآمِرُ بِهِ الْوُجُوبَ وَوَكَّلَ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ ، فَإِذَا اخْتَارَ إيقَاعَ الْجُمُعَةِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاجِبَةً فَالْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ لَمْ يَكُنْ مُفْتَرِضٌ ائْتَمَّ بِمُتَنَفِّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي الظُّهْرِ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ .
وَإِنْ قَالَ الْأَصْلُ مَعَ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْ أَنِّي رَأَيْت فَرْعَ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فِي ظُهْرِ غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَاقْتِدَائِهِ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ قَوْلُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ لَا يَؤُمُّ الْعَبْدُ فِي الْجُمُعَةِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ فَافْهَمْ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَاجِبُ نَوْعَانِ مُخَيَّرٌ وَوَاجِبٌ غَيْرُ مُخَيَّرٍ وَالْوُجُوبُ فِي غَيْرِ الْمُخَيَّرِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ أَيْ خَصَّهُ بِهِ الْآمِرُ وَلَمْ

يَكِلْ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ فَلِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ إجْزَاءِ غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِهِ عَنْهُ وَالْقَوْلُ بِإِجْزَائِهِ عَنْهُ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كَمَا عَلِمْت وَالْوُجُوبُ فِي الْمُخَيَّرِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ أَيْ لَمْ يُعَيِّنْهُ الْآمِرُ بَلْ وَكَّلَ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ فَمَا اخْتَارَهُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَأَوْضَحَ لَك قَاعِدَةَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ أُخَرَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَفِّرِ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ بِلَا تَعْيِينٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ بَلْ التَّعْيِينُ مَوْكُولٌ لِخِيرَةِ الْمُكَفِّرِ فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهَا كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ .
( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ بِدُونِ تَعْيِينٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ بَلْ التَّعْيِينُ وَكَّلَهُ لِخِيرَةِ الْمُسَافِرِ فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ شَهْرَ الْقَضَاءِ وَصَامَهُ كَانَ قَدْ صَامَ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَتَعَيَّنَ خُصُوصُ شَهْرِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَخْتَرْ صِيَامَ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ آخِرُ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِتَعَذُّرِ مَا قَبْلَهُ وَتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ فَقَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْمُفَرِّطِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْأَدَاءُ يُفَارِقُ الْقَضَاءَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ

وَالثَّانِي لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِهِ وُجُوبٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ خُصُوصُ شَهْرِ الْقَضَاءِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ بِسَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَثَانِيهِمَا خُرُوجُ شَهْرِ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَصُمْ فِيهِ فَافْهَمْ .
( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَا يُخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِخُصُوصِ رَمَضَانَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَيَبْقَى مُخَاطَبًا بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ وَيَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ بِالسَّبَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُسَافِرِ فَإِنْ كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا يَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ لِلْوُجُوبِ إنْ كَانَ مُسْتَجْمِعَ الشَّرَائِطِ سَالِمَ الْمَوَانِعِ زَمَنَهُ فَإِنْ أَقْدَمَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَصَامَ الْأَدَاءَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ احْتَمَلَ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى عَدَمَ الْإِجْزَاءِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْمُحَرَّمِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ وَالْإِجْزَاءُ نَظَرًا لِكَوْنِهِ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ شَهْوَتَيْ فَمِهِ وَفَرْجِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِبِ بَعْدَ عُمُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ حِفْظِهَا عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي التَّهْلُكَةِ كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَجَانٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ : الْأُولَى : أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى خُصُوصٌ مُعَيَّنٌ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ لَا مَوْكُولٌ تَعَيُّنُهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ وَالْوَاجِبُ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ وَإِنَّمَا تَعَيُّنُهُ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ ، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى لَمَّا تَعَيَّنَ فِيهَا الْوَاجِبُ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ إجْزَاءِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَإِنَّمَا جَرَى إجْزَاءُ غَيْرِ الْوَاجِبِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الْمَذْهَبِ أَشَارَ لَهَا الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّوَاوِيُّ كَمَا فِي كَبِيرِ مَيَّارَةَ عَلَى نَظْمِ ابْنِ عَاشِرٍ بِقَوْلِهِ : مَسَائِلُ يَجْرِي نَقْلُهَا عَنْ فَرِيضَةٍ شُذُوذًا فَلَا تَتْبَعْ سِوَى قَوْلِ شُهْرَةِ مُجَدِّدٌ طَهُرَ سَاهِيًا وَهُوَ مُحْدِثٌ وَلُمْعَةُ عُضْوٍ طَهُرَتْ بِفَضِيلَةِ وَآتٍ بِغُسْلٍ سَاهِيًا عَنْ جَنَابَةٍ نَوَى جُمُعَةً وَاحْكُمْ لِتَارِكِ سَجْدَةِ مِنْ الْفَرْضِ يَأْتِي بِالسُّجُودِ لِسَهْوِهِ وَمُبْطِلُهَا يَأْتِي بِخَامِسِ رَكْعَةِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ ظَنَّ فِيهَا سَلَامَهُ وَآتٍ بِنَفْلٍ قَبْلَ خَتْمِ فَرِيضَةِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَوْ يَظُنُّ سَلَامَهُ لِثَالِثَةٍ قَدْ قَامَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ وَيُجْزِئُ فِي الْمَشْهُورِ مَنْ طَافَ عِنْدَهُمْ طَوَافَ وَدَاعٍ ذَاهِلًا عَنْ إفَاضَةِ وَذُو مُتْعَةٍ قَدْ سَاقَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَيُجْزِئُ قَدْ قَالُوا لِوَاجِبِ مُتْعَةِ وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا رَمَى جِمَارًا لِسَهْوٍ لَا يُعِيدُ لِجَمْرَةِ وَبَيَانُهَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مُحْتَوٍ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَشْهُورُهُمَا الثَّانِي وَذَكَرَهَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ : الْأُولَى : إذَا تَوَضَّأَ مُجَدِّدًا

ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا اغْتَسَلَ لِجُمُعَةٍ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وَقِيلَ تُجْزِئُ الثَّالِثَةُ : إذَا نَسِيَ لُمْعَةً مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى فِي وُضُوئِهِ وَكَانَ غَسْلُهَا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ كَالتَّجْدِيدِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ بِالْإِجْزَاءِ فِي هَذِهِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْ إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوقِعِينَ لِهَذِهِ الطِّهَارَاتِ إنَّمَا أَرَادَ بِهَا إحْرَازَ كَمَالِهَا وَالْكَمَالُ فِي رَأْيِهِ يَتَضَمَّنُ الْأَجْزَاءَ بِخِلَافِ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْكَمَالَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْمَسَائِلِ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ أَيْضًا بِالْإِجْزَاءِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَلَا نِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ ا هـ .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مُحْتَوٍ عَلَى خَمْسِ مَسَائِلَ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَشْهُورُهُمَا الثَّانِي ذَكَرَ الْأَصْلُ مِنْهَا ثَلَاثَةً : الْأُولَى : إذَا سَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ تُجْزِئَاهُ عَنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا ظَنَّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ فَرْضِهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ فَرْضِهِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
الثَّالِثَةُ : إذَا سَهَا عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَاهِيًا هَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ

الرَّكْعَةِ الَّتِي نَسِيَ مِنْهَا السَّجْدَةَ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَسْأَلَةُ الْمُسَلِّمِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالظَّانِّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السَّاهِي عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَى الْقَائِمِ إلَى خَامِسَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إنَّمَا قَامَ فِي الْخَامِسَةِ لِأَدَاءِ بَقِيَّةِ فَرْضِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُ الرَّابِعَةُ أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَاحْكُمْ لِتَارِكِ سَجْدَةٍ مِنْ الْفَرْضِ يَأْتِي بِالسُّجُودِ لِسَهْوِهِ يَعْنِي وَاحْكُمْ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ لِتَارِكِ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي حَالِ إتْيَانِهِ بِسَجْدَةِ سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ .
الْخَامِسَةُ : أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَوْ يَظُنَّ سَلَامَهُ لِثَالِثَةٍ قَدْ قَامَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ يَعْنِي وَمَنْ قَامَ مِنْ ثَانِيَةِ فَرْضٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ يَظُنَّ السَّلَامَ لِثَالِثَةٍ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا أَمَّا إنْ سَلَّمَ أَوْ ظَنَّ السَّلَامَ فَهُمَا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَلِذَا قَالَ فَافْهَمْ بِصُورَةِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مُحْتَوٍ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْ الْحَجِّ وَقَعَتْ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا هُنَا الْإِجْزَاءُ ذَكَرَ الْأَصْلُ مِنْهَا وَاحِدَةً .
الْأُولَى : إذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَرَاحَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَذَا فِي الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَيْنِ وَهِيَ مَحَلٌّ لِاحْتِمَالِ الْخِلَافِ ا هـ .
قُلْت : وَقَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ فِيهَا كَغَيْرِهَا وَأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا

الْإِجْزَاءُ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيِّ وَيُجْزِئُ فِي الْمَشْهُورِ مَنْ طَافَ عِنْدَهُمْ طَوَافَ وَدَاعٍ ذَاهِلًا عَنْ إفَاضَةٍ الثَّانِيَةُ أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَذُو مُتْعَةٍ قَدْ سَاقَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَيُجْزِئُ قَدْ قَالُوا لِوَاجِبِ مُتْعَةِ يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إذَا سَاقَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ فِي عُمْرَتِهِ فَلَمَّا حَلَّ مِنْهَا وَجَبَ نَحْرُهُ إلَّا إنْ أَخَّرَهُ لِيَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ يُجْزِئُهُ عَنْ مُتْعَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ سَوْقِهِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي مُتْعَتِهِ عَلَى تَأْوِيلِ سَنَدٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا أَجْزَأَ عَنْ قِرَانِهِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ لِلْوَالِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
الثَّالِثَةُ : أَشَارَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الزَّوَاوِيُّ بِقَوْلِهِ : وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا رَمَى جِمَارَ السَّهْوِ لَا يُعِيدُ لِجَمْرَةِ أَيْ إذَا نَسِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ رَمَاهَا سَاهِيًا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَيْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ كَمَا فِي كَبِيرِ مَيَّارَةَ عَلَى ابْنِ عَاشِرٍ قُلْت وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي حَاشِيَتِهِ كَمَا أَجْزَأَ أَيْ هَدْيُ التَّطَوُّعِ عَنْ قِرَانِهِ زِيَادَةُ مَسْأَلَةٍ رَابِعَةٍ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَنَظَمْتهَا فِي بَيْتٍ يَلْحَقُ بِنَظْمِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِي : وَزِدْ قَارِنًا يُجْزِئُهُ هَدْيُ تَطَوُّعٍ بِوَاجِبِ هَدْيٍ لِلْقِرَانِ كَمُتْعَةِ وَمِنْ هُنَا اُشْتُهِرَ أَنَّ تَطَوُّعَاتِ الْحَجِّ تُجْزِئُ عَنْ وَاجِبِ جِنْسِهَا فَتَكُونَ جُمْلَةُ النَّظَائِرِ اثْنَيْ عَشْرَ مَسْأَلَةً أَرْبَعَةٌ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ شُذُوذًا عَلَى احْتِمَالٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ شُذُوذًا بِدُونِ احْتِمَالٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَمَا عَدَا هَذِهِ النَّظَائِرَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ اتِّفَاقًا فَلَوْ صَلَّى الْإِنْسَانُ

أَلْفَ رَكْعَةٍ مَا أَجْزَأَتْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ دَفَعَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً مَا أَجْزَأَتْ عَنْ دِينَارِ الزَّكَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا صَلَّى الصَّبِيُّ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مَا قَارَنَهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ مَا أَوْقَعَهُ أَوَّلًا لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ وَسَبَبٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَارَنَهُ شَرْطُ النَّدْبِ الَّذِي هُوَ الصِّبَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ سَبَبُ الْفِعْلِ نَدْبًا لَا وُجُوبًا وَالْجُزْءُ الَّذِي قَارَنَهُ بَعْدَ شَرْطِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْبُلُوغُ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ مَثَلًا إنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ فَعَلَهَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى لَكَانَ الزَّوَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاتَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَا يُرَدُّ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الزَّوَالَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاتَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُصَادَرَةً عَلَى صُورَةِ النِّزَاعِ وَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِيمَا عَدَا صُورَةَ النِّزَاعِ فَلَا يُمْكِنُهُ إلْحَاقُ صُورَةِ النِّزَاعِ بِصُورَةِ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِالْقِيَاسِ .
فَإِذَا قَاسَ فَرَّقْنَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ وُجِدَ فِيهَا حَالَتَانِ تَقْتَضِيَانِ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَهُمَا الصِّبَا وَالْبُلُوغُ وَلَيْسَ فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ إلَّا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ هِيَ الْبُلُوغُ فَاتَّحَدَتْ الصَّلَاةُ فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ لِاتِّحَادِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْبُلُوغُ وَتَعَدَّدَتْ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ لِتَعَدُّدِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِهِ فَلِذَا جَازَ فِيهَا اخْتِلَافُ

الْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ الصَّلَاتَانِ بِاخْتِلَافِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الصِّبَا الشَّرْطُ فِي تَوَجُّهِ النَّدْبِ وَالْبُلُوغِ الشَّرْطُ فِي تَوَجُّهِ الْوُجُوبِ .
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا خُصُوصَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ لَمْ يَكُنْ إجْزَاءُ الْجُمُعَةِ عَنْ الظُّهْرِ مَثَلًا لِنَحْوِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ إذَا حَضَرُوهَا مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَا بِغَيْرِهِ إذْ الْوُجُوبُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْجُمُعَةُ فَإِذَا أَحْرَمَ كُلٌّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ أَحْرَمَ بِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَعُيِّنَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ الَّذِي عَلَّقَ الْآمِرُ بِهِ الْوُجُوبَ وَوَكَّلَ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ ، فَإِذَا اخْتَارَ إيقَاعَ الْجُمُعَةِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاجِبَةً فَالْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ لَمْ يَكُنْ مُفْتَرِضٌ ائْتَمَّ بِمُتَنَفِّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي الظُّهْرِ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ .
وَإِنْ قَالَ الْأَصْلُ مَعَ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْ أَنِّي رَأَيْت فَرْعَ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فِي ظُهْرِ غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَاقْتِدَائِهِ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ قَوْلُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ لَا يَؤُمُّ الْعَبْدُ فِي الْجُمُعَةِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ فَافْهَمْ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَاجِبُ نَوْعَانِ مُخَيَّرٌ وَوَاجِبٌ غَيْرُ مُخَيَّرٍ وَالْوُجُوبُ فِي غَيْرِ الْمُخَيَّرِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ أَيْ خَصَّهُ بِهِ الْآمِرُ

وَلَمْ يَكِلْ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ فَلِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ إجْزَاءِ غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِهِ عَنْهُ وَالْقَوْلُ بِإِجْزَائِهِ عَنْهُ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كَمَا عَلِمْت وَالْوُجُوبُ فِي الْمُخَيَّرِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ أَيْ لَمْ يُعَيِّنْهُ الْآمِرُ بَلْ وَكَّلَ تَعَيُّنَهُ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ فَمَا اخْتَارَهُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَأَوْضَحَ لَك قَاعِدَةَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ أُخَرَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَفِّرِ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ بِلَا تَعْيِينٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ بَلْ التَّعْيِينُ مَوْكُولٌ لِخِيرَةِ الْمُكَفِّرِ فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهَا كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ .
( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ بِدُونِ تَعْيِينٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ بَلْ التَّعْيِينُ وَكَّلَهُ لِخِيرَةِ الْمُسَافِرِ فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ شَهْرَ الْقَضَاءِ وَصَامَهُ كَانَ قَدْ صَامَ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَتَعَيَّنَ خُصُوصُ شَهْرِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَخْتَرْ صِيَامَ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ آخِرُ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِتَعَذُّرِ مَا قَبْلَهُ وَتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ فَقَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْمُفَرِّطِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْأَدَاءُ يُفَارِقُ الْقَضَاءَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ

وَالثَّانِي لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِهِ وُجُوبٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ خُصُوصُ شَهْرِ الْقَضَاءِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ بِسَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَثَانِيهِمَا خُرُوجُ شَهْرِ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَصُمْ فِيهِ فَافْهَمْ .
( وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَا يُخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِخُصُوصِ رَمَضَانَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَيَبْقَى مُخَاطَبًا بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ وَيَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ بِالسَّبَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُسَافِرِ فَإِنْ كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا يَتَعَيَّنُ الْقَضَاءُ لِلْوُجُوبِ إنْ كَانَ مُسْتَجْمِعَ الشَّرَائِطِ سَالِمَ الْمَوَانِعِ زَمَنَهُ فَإِنْ أَقْدَمَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَصَامَ الْأَدَاءَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ احْتَمَلَ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى عَدَمَ الْإِجْزَاءِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْمُحَرَّمِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ وَالْإِجْزَاءُ نَظَرًا لِكَوْنِهِ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ شَهْوَتَيْ فَمِهِ وَفَرْجِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِبِ بَعْدَ عُمُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ حِفْظِهَا عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي التَّهْلُكَةِ كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَجَانٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ ) فَالْأَوَّلُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ وَالثَّانِي قَدْ يُجْزِئُ عَنْهُ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الزَّكَاةُ إذَا عُجِّلَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ إمَّا بِالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ عِنْدَنَا وَإِمَّا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَهَذَا الْمُعَجَّلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنَّ دَوَرَانَ الْحَوْلِ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ ، فَإِذَا دَارَ الْحَوْلُ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ أَجْزَأَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمُخْرَجِ وَبَيْنَ مَا إذَا نَوَى بِإِخْرَاجِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ فَلَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُعَجِّلُ لِلزَّكَاةِ فَهُوَ قَاصِدٌ بِالْمُخْرَجِ الْوَاجِبَ عَلَى تَقْدِيرِ دَوَرَانِ الْحَوْلِ وَلَمْ يَقْصِدْ التَّطَوُّعَ وَإِذَا قَصَدَ بِهِ الْوَاجِبَ فِي الْمَآلِ فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوسِعِ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَفِعْلُ الْمُعَجَّلِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفْلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْفَرْضِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فَقَالَ الْأَصْحَابُ لَهُمْ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَصَحَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيُجْزِئُ عَنْهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَيَكُونُ نَفْلًا سَدَّ مَسَدَّ الْفَرْضِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ بَعْدَ طَرَيَانِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِانْحِصَارِ الْوُجُوبِ عِنْدَكُمْ فِي آخِرِ الْقَامَةِ فَمَا وَقَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ ، فَإِذَا أَجْزَأَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْوَاجِبِ وَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ الْآخَرُ عَنْ الْوَاجِبِ ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَدْ قَصَدَ بِهِ

الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَوُّعَ قُلْنَا : وَكَذَلِكَ يَقْصِدُ بِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَيُجْزِئُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .
وَهَذَا السُّؤَالُ قَوِيٌّ جِدًّا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ غَيْرَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ آخِرِ الْقَامَةِ إنَّمَا وِزَانُهُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَيَنْوِي بِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَدَوَرَانِ الْحَوْلِ وَهَذَا لَا يُجْزِئُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ قَبْلَ سَبَبِهِ وَوِزَانُ مَسْأَلَتِنَا الْإِخْرَاجُ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ ؛ فَإِنَّ النِّصَابَ سَبَبٌ وَالزَّوَالُ أَيْضًا سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ آخِرَ الْقَامَةِ كَمَا أَنَّ النِّصَابَ سَبَبُ الْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالصَّلَاةُ قَبْلَ الزَّوَالِ إنَّمَا وِزَانُهَا الْإِخْرَاجُ قَبْلَ النِّصَابِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَنْوِي بِهَا الْوَاجِبَ فِي الْمَآلِ فِي أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْأَسْبَابِ مُطْلَقًا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي أَنَّهُ بَعْدَ السَّبَبِ فَلَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ مَا أَوْقَعَهُ الْمُصَلِّي نَفْلًا مُطْلَقًا لَا يَجِبُ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ بَلْ مَا يَجِبُ فِي الْمَآلِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ صَلَاتِهِ هَذِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) زَكَاةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِيَوْمٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَنَا وَتُجْزِئُ عَنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَبَبِهَا وَلَوْ أَخْرَجَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا بِنِيَّةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ طَرَيَان السَّبَبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ فَلَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ

، فَإِنْ قُلْت فَهَذَا وَاجِبٌ تَقَدَّمَ عَلَى سَبَبِهِ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَوْ طُلُوعُ الْفَجْرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَالْإِخْرَاجُ قَبْلَ ذَلِكَ إخْرَاجٌ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَالْإِخْرَاجُ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ لَا يُجْزِئُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تُجْزِئَ الزَّكَاةُ الْمُخْرَجَةُ هُنَا .
قُلْت : سُؤَالٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَهِيَ جَابِرَةٌ لِمَا عَسَاهُ اخْتَلَّ عَنْهُ بِالرَّفَثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّقْصِ كَمَا أَنَّ السُّجُودَ فِي السَّهْوِ جَابِرٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الصَّوْمُ فَيَكُونُ إخْرَاجُهَا بَعْدَ أَحَدِ سَبَبَيْهَا الَّذِي هُوَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ فِي الصَّوْمِ وَالْحُكْمُ إذَا تَوَسَّطَ بَيْنَ سَبَبَيْهِ أَوْ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ جَرَى فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمَا وَفِي الْإِخْرَاجِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَلَا جَرَمَ لَمْ يُجْزِئْ وَهَاهُنَا تَوَسَّطَ وَهُوَ سَبَبُ الْإِجْزَاءِ فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ أَبْعَدُ فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ إجْزَاءِ الثَّانِي عَنْ الْوَاجِبِ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ احْتِمَالِ الْخِلَافِ ظَاهِرٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ لَا بَأْسَ بِهِ وَالْأَصَحُّ نَظَرُ امْتِنَاعِ التَّقْدِيمِ فِي الزَّكَاةِ وَلُزُومُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَيُصَادِمُهُمْ الْإِجْمَاعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ ) مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ نَحْوَ مَا يُخْرِجُهُ مَالِكُ النِّصَابِ مُطْلَقًا نَاوِيًا بِإِخْرَاجِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَا الزَّكَاةَ فَلَا يُجْزِئُهُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ النِّصَابِ عَلَى تَقْدِيرِ دَوَرَانِ الْحَوْلِ قَطْعًا ؛ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا عَنْ الْوَاجِبِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ نَحْوَ مَا يُخْرِجُهُ مَالِكُ النِّصَابِ نَاوِيًا بِهِ الزَّكَاةَ لَا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الْحَوْلِ إمَّا بِالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ عِنْدَنَا وَإِمَّا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَفِي إجْزَائِهِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ النِّصَابِ عَلَى تَقْدِيرِ دَوَرَانِ الْحَوْلِ نَظَرٌ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَصَدَ بِالْمُخْرَجِ الْوَاجِبَ فِي الْمَآلِ عَلَى تَقْدِيرِ دَوَرَانِ الْحَوْلِ لَا التَّطَوُّعَ فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ عَلَى الْأَصْلِ وَثَانِيهِمَا قَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ وَلَوْ بَدَنِيًّا خِلَافًا لِجَدِيدِ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقَ بِسَبَبَيْنِ أَوْ بِسَبَبٍ وَشَرْطٍ لَا يَمْتَنِعُ قَطْعًا تَقْدِيمُهُ عَلَى شَرْطِهِ أَوْ ثَانِي سَبَبِهِ بِخِلَافِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ قَطْعًا وَعَدَمُ إجْزَائِهِ خِلَافٌ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَالْأَصَحُّ نَظَرًا امْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ فِي الزَّكَاةِ قُلْت وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ أَوْ السَّبَبِ الثَّانِي يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ قَبْلَ تَمَامِ سَبَبِهِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ نَفْلٍ عَنْ فَرْضٍ فَمِنْ هُنَا قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ : وَالْأَوْجَهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْدِيمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ لِعَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْحِنْثِ لَهَا دُونَ عَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْيَمِينِ لَهَا ؛ لِأَنَّ

الْكَفَّارَةَ فِي التَّحْقِيقِ لِسَتْرِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِخْلَالِ بِتَوْقِيرِ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلَافِيهِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الْحِنْثِ لَا عَنْ الْيَمِينِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ، وَأَيْضًا أَقَلُّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُهَا فَالْحِنْثُ شَرْطُ وُجُوبِهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ فَلَا تَقَعُ وَاجِبَةً قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالزَّكَاةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ .
قَالَ : وَمَا فَرَّقُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ لِلْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ دُونَ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الصَّوْمُ بِأَنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْيَمِينُ سَبَبُهَا وَالشَّرْطُ عِنْدَهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي تَأْخِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا فِي انْعِقَادِ السَّبَبِ ، وَالْحَقُّ الْمَالِيُّ لِلَّهِ تَعَالَى يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ لِتَغَايُرِ الْمَالِ وَالْفِعْلِ فَجَازَ اتِّصَافُ الْمَالِ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا فِي الْحَقِّ الْمَالِيِّ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْحَقِّ الْبَدَنِيِّ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ بَلْ نَفْسُ وُجُوبِهِ وُجُوبُ أَدَائِهِ فَلَوْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ أَدَائِهِ انْتَفَى الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ حِينَئِذٍ .
وَمِنْ ثَمَّةَ جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَهُوَ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ

تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهُوَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْمَرْءُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ وَالْمَالُ آلَةٌ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ كَمَنَافِعِ الْبَدَنِ فَيَكُونُ الْمَالِيُّ كَالْبَدَنِيِّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُجُوبِ الْأَدَاءُ وَأَنَّ تَعَلُّقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ فِي الْبَدَنِيِّ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ جَازَ اتِّفَاقًا وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى مَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ بِالْإِجْمَاعِ ا هـ كَلَامُهُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ مَتْنِ التَّحْرِيرِ بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ مَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ بِإِمْعَانٍ ( وَصْلٌ فِي زِيَادَةِ تَوْضِيحٍ ) هَذَا الْفَرْقُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَفِعْلُ الْمُعَجِّلِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفْلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْفَرْضِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فَقَالَ الْأَصْحَابُ لَهُمْ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَصَحَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيُجْزِئُ عَنْهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَيَكُونُ نَفْلًا سَدَّ مَسَدَّ الْفَرْضِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ بَعْدَ جَرَيَانِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِانْحِصَارِ الْوُجُوبِ عِنْدَكُمْ فِي آخِرِ الْقَامَةِ فَمَا هُوَ وَاقِعٌ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ ، فَإِذَا أَجْزَأَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْوَاجِبِ وَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ الْآخَرُ عَنْ الْوَاجِبِ ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَدْ قَصَدَ بِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَوُّعَ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ يَقْصِدُ بِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَيُجْزِئُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قُلْت وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْأَصْلُ لَهُمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَنْوِي بِهَا الْوَاجِبَ فِي الْمَآلِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ

بَعْدَ الزَّوَالِ وَيَنْوِي بِهَا الْوَاجِبَ فِي الْمَآلِ أَيْضًا بِأَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ آخِرِ الْقَامَةِ إنَّمَا وِزَانُهَا إخْرَاجُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَيَنْوِي بِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَدَوَرَانِ الْحَوْلِ وَهَذَا لَا يُجْزِئُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ قَبْلَ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَالصَّلَاةُ بَعْدَ الزَّوَالِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ آخِرِ الْقَامَةِ إنَّمَا وِزَانُهَا إخْرَاجُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ إذَا كَمَا أَنَّ النِّصَابَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَوْلِ كَذَلِكَ الزَّوَالُ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ آخِرَ الْقَامَةِ وَهَذَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَى عَدَمِ إجْزَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ لِلْفِعْلِ بَيْنَ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَالْحُكْمُ إذَا تَوَسَّطَ بَيْنَ سَبَبَيْهِ أَوْ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ جَرَى فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مَا أَوْقَعَهُ الْمُصَلِّي قَبْلَ الزَّوَالِ نَفْلًا مُطْلَقًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ بِخِلَافِ مَا أَوْقَعَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَفْلًا مُطْلَقًا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ أَمَّا إذَا نَوَى بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَفْلًا فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْمَآلِ فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ ا هـ بِتَوْضِيحٍ وَإِنْ كَانَ أَيْ مَا فَرَّقَ بِهِ الْأَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاةِ إلَخْ جَوَابًا عَنْ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إلَّا أَنَّهُ يُعْلَمُ سُقُوطُهُ مِمَّا قَدَّمْته عَنْ شَرْحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ فَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْأَصَحُّ نَظَرًا لُزُومُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَيُصَادِمُهُمْ الْإِجْمَاعُ ا هـ فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَتُجْزِئُ عَنْ الزَّكَاةِ

الْوَاجِبَةِ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَبَبِهَا الَّذِي هُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَنَوَى بِهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْمَآلِ عِنْدَ جَرَيَانِ السَّبَبِ لَا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ عَنْهُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهَا بَعْدَ أَحَدِ أَسْبَابِهَا الَّذِي هُوَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ فِي الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ جَابِرَةٌ لِمَا عَسَاهُ اخْتَلَّ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِالرَّفَثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّقْصِ كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جَابِرٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الصَّوْمُ وَالْحُكْمُ إذَا تَوَسَّطَ بَيْنَ سَبَبَيْهِ أَوْ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ جَرَى فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا عَلِمْت فَتَنَبَّهْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ وَدَمُ التَّمَتُّعِ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أَيْ وُجُوبًا غَيْرَ مُحَتَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِالْمَوْتِ وَالْفَوَاتِ فَإِذَا رَمَى الْعَقَبَةَ تَحَتَّمَ الْوُجُوبُ كَمَا نَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَوْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُحَتَّمٍ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ وَطَلَاقِهَا فَإِنْ وَطِئَ تَحَتَّمَ الْوُجُوبُ نَقَلَهُ كَنُونِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عبق وَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق إنَّ الْأَبِيَّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَحَادِيثِ الْإِشْرَاكِ فِي الْهَدْيِ عَلَى قَوْلِ الرَّاوِي فَأَمَرَنَا إذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ نَقْلٌ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَذْهَبُنَا أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ إنَّمَا يَجِبُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ .
وَفِي وَقْتِ جَوَازِ نَحْرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : فَالصَّحِيحُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَحْرُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ، وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ا هـ .
وَعَنْ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ

حُجَّةٌ لِمَنْ يُجِيزُ نَحْرَ الْهَدْيِ لِلتَّمَتُّعِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَنَا وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ جَارٍ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَعَلَى تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ وَقَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَالْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ لِقَوْلِهِ إذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ .
ا هـ .
قَالَ وَبِكَلَامِ الْأَبِيِّ هَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ صِحَّةُ حَمْلِ قَوْلِ خَلِيلٍ وَأَجْزَأَ قَبْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ وَأَجْزَأَ نَحْرُ دَمِ التَّمَتُّعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسُقُوطُ تَعَقُّبِ الشُّرَّاحِ الْمُعْتَدِّ بِهِمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّ نَحْرَ الْهَدْيِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مُجْزِئٌ وَتَأَوُّلِهِمْ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَأَجْزَأَ دَمُ التَّمَتُّعِ بِمَعْنَى تَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَلَوْ عِنْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بَلْ وَلَوْ سَاقَهُ فِيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ كَمَا يَأْتِي لَهُ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ لِذَلِكَ ا هـ .
بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ .
وَقَالَ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ وَاللَّفْظُ لَهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ وَلَا دَلِيلَ لِلْبُنَانِيِّ فِي كَلَامِ الْأَبِيِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ الْمَازِرِيِّ وَالْجُمْهُورِ إلَخْ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَطْلَقَهَا أَهْلُ الْخِلَافِ الْكَبِيرِ وَإِنْ كَانَتْ تَشْمَلُ الْإِمَامَ مَالِكًا لَكِنْ لَا تَصْرِيحَ فِيهَا بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ أَيْ كَالْبَاجِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَسَنَدٍ وَابْنِ الْفَرَسِ وَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِمْ نَسَبُوا لَهُ عَكْسَ ذَلِكَ نَصًّا .
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ عِيَاضٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْجَوَازِ هِيَ الْمَشْهُورَةُ أَوْ

الرَّاجِحَةُ أَوْ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُخْرَى عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ يُجِيزُ نَحْرَ هَدْيِ التَّمَتُّعِ إلَخْ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَبِيِّ كَذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا لِعِيَاضٍ فِي الْإِكْمَالِ فَإِنَّ الَّذِي فِيهِ تَقْلِيدُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ إلَخْ كَذَا فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ مَظْنُونٍ بِهَا الصِّحَّةُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَيْ عِيَاضًا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَوَازَ نَحْرِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَا قَبْلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ .
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ اللَّخْمِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي التَّقْلِيدِ لَا فِي النَّحْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَفْظَةَ نَحْرٍ فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ عَنْ عِيَاضٍ تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هِيَ تَقْلِيدٌ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ كَلَامُ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ اُنْظُرْهُ فِي الرَّهُونِيِّ وَالْحَطَّابِ ا هـ .
وَخُلَاصَةُ مَا يُفِيدُهُ كَلَامُهُمَا أَنَّ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ وَإِنْ أَفَادَ أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ بِجَوَازِ نَحْرِ دَمِ التَّمَتُّعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ قَوْلَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمَشْهُورُ بَلْ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَطْلَقَهَا أَهْلُ الْخِلَافِ الْكَبِيرِ وَشُمُولُهَا احْتِمَالًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ حِينَئِذٍ لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ كَيْفَ وَقَدْ نَسَبَ لَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ عَكْسَ ذَلِكَ نَصًّا وَأَنَّ كَلَامَ عِيَاضٍ عَلَى نَقْلِ الْأَبِيِّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْجَوَازِ مَشْهُورَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ أَوْ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُخْرَى عَلَى أَنَّ فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ مَظْنُونٍ بِهَا الصِّحَّةُ مِنْ نُسَخِ الْإِكْمَالِ مُخَالِفَةٍ لِمَا فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ عَنْهُ حَيْثُ إنَّهَا بِلَفْظٍ يُجِيزُ تَقْلِيدَ هَدْيِ التَّمَتُّعِ إلَخْ لَا بِلَفْظٍ يُجِيزُ نَحْرَ هَدْيٍ إلَخْ كَمَا فِي نَقْلِ

الْأَبِيِّ وَيُؤَيِّدُهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : ذَكَرَ عِيَاضٌ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ جَوَازَ النَّحْرِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَا قَبْلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَطْ فَكَيْفَ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَثَانِيهِمَا : أَنَّ اللَّخْمِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي التَّقْلِيدِ لَا فِي النَّحْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَفْظَةَ نَحْرٍ فِي نَقْلِ الْأَبِيِّ عَنْ عِيَاضٍ تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هِيَ تَقْلِيدٌ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ كَلَامُ حُفَّاظِ الْمَذْهَبِ ، نَعَمْ الْقَوْلُ بِجَوَازِ نَحْرِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَإِنْ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِنَا إلَّا أَنَّهُ قَوِيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مَالِيٍّ تَعَلَّقَ بِسَبَبَيْنِ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ثَانِيهِمَا كَمَا نَقَلَهُ الْجَمَلُ عَلَى الْجَلَالَيْنِ عَنْ شَيْخِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مِمَّنْ فَقَدَ الْهَدْيَ أَوْ ثَمَنَهُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى ثَانِي سَبَبَيْهَا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَالِيَّةٌ ا هـ .
قُلْت : وَقَدْ تَرَتَّبَ الْآنَ عَلَى إخْرَاجِ الْهَدْيِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِلِّ وَذَبْحِهِ بِمَكَّةَ وَعَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى وَذَبْحُهُ بِمِنًى إمَّا إتْلَافُ مَالٍ وَإِمَّا عَدَمُ انْتِفَاعِ الْفُقَرَاءِ بِالْهَدْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ حَجَّ وَشَاهَدَ ذَلِكَ فَالْأَسْهَلُ إمَّا الْعَمَلُ بِمُقَابِلِ الْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالشَّاذِّ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ وَأَنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَغَارِبَةِ وَإِمَّا تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ نَحْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِنَاءً عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ مِنْ

عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ بَلْ يُقَدِّمُ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ رَاجِحًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْغَيْرِ قَوِيٌّ فِي مَذْهَبِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْجَمْعِ فِي الْهَدْيِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَنَا فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي نَازِلَةٍ فَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ مَالِكٍ وَبَيْنَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً فَقَطْ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ وَعَلَيْهِ جَرَى عَمَلُ جَدِّ عج أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ لِلشَّيْخِ عَلِيٍّ الْعَدَوِيِّ وَإِذَا قَلَّدَ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ الْهَدْيِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّلْفِيقِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ مَذْهَبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فُسْحَةٌ فِي الدِّينِ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُحَقَّقًا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُقَدَّرًا لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ الْمُحَقَّقَ هُوَ أَنْ يُحَقَّقَ تَنَافِيهِ بِإِجْلَالِ الْآبَاءِ وَاحْتِرَامِ الْأَبْنَاءِ فَيُعْتَقُ الْأَبْنَاءُ وَالْآبَاءُ بِهِ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ الْخِلَافُ فَمَنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَقِبَلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا مُحَقَّقًا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا إنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَنْ كَفَّارَةٍ عَلَيَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِك فَأَعْتَقَ عَنْهُ أَبَا الطَّالِبِ لِلْعِتْقِ الَّذِي عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعِتْقَ يَصِحُّ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْعِتْقِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ فَلِأَجْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ الْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَكُونَ الْعِتْقُ فِي مِلْكٍ لَهُ فَتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَيَصِيرَ الْوَلَاءُ لَهُ بِمُقْتَضَى الْعِتْقِ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا مِلْكٌ مُقَدَّرٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ لَا إنَّهُ مِلْكٌ مُحَقَّقٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمِلْكِ الْمُقَدَّرِ هُوَ أَنَّ بِالْمَمْلُوكِ مِنْ جِهَةِ مَنْ قُدِّرَ الْمِلْكُ لَهُ فَإِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا الشَّرْعُ أَعْطَى هَذَا الْمِلْكَ الْمَعْدُومَ حُكْمَ الْمَوْجُودِ وَالْوَاقِعُ الْمُحَقَّقُ عَدَمُ الْمِلْكِ فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ بِهَذَا الْمِلْكِ الْمُقَدَّرِ عِتْقٌ بَلْ يَقَعُ عِتْقُ وَالِدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَتُجْزِئُ عَنْهُ ، وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ لَمْ يُجْزِئْ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْعَتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُحَقَّقًا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُقَدَّرًا لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْت : هَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمِلْكِ فِيمَا مَثَّلَ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِاللَّازِمِ فَلَا مَانِعَ مِنْ إجْزَاءِ الْعِتْقِ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مِلْكِهِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُحَقَّقًا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مِلْكِ الْقَرِيبِ مِلْكًا مُقَدَّرًا لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَالِكِ ) بِنَاءً عَلَى مَا زَعَمَهُ الْأَصْلُ مِنْ لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمِلْكِ لِلْقَرِيبِ كَالْأَبِ إذَا طَلَبَ قَرِيبُهُ كَابْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَعْتِقَ عَنْ كَفَّارَةٍ عَلَيْهِ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَأَعْتَقَ الْمَطْلُوبُ عَنْ الطَّالِبِ أَبَاهُ فِي الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَأَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الِابْنِ مِنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَصَيْرُورَةَ وَلَاءِ أَبِيهِ لَهُ بِعِتْقِ مَالِكِهِ لَهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَتِهِ يَتَوَقَّفَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ لِلِابْنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَنِ الْفَرْدِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ الْمُقَدَّرَ بِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ يُفَارِقُ الْمِلْكَ الْمُحَقَّقَ الْحَاصِلَ بِنَحْوِ الشِّرَاءِ لِلْآبَاءِ أَوْ لِلْأَبْنَاءِ أَوْ لِنَحْوِهِمْ فِي اقْتِضَاءِ الْمُحَقَّقِ الْعِتْقَ دُونَ الْمُقَدَّرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمِلْكِ الْمُقَدَّرِ هُوَ أَنَّ بِالْمَمْلُوكِ مِنْ جِهَةِ مَنْ قُدِّرَ الْمِلْكُ لَهُ حَتَّى يُنَافِيَ الْإِجْلَالَ لِلْآبَاءِ وَالِاحْتِرَامَ لِلْأَبْنَاءِ وَنَحْوَهُمْ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا كَمَا فِي الْمُحَقَّقِ فَإِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا الشَّرْعُ أَعْطَى هَذَا الْمِلْكَ الْمَعْدُومَ حُكْمَ الْمَوْجُودِ لِمَا ذَكَرَ وَالْوَاقِعُ الْمُحَقَّقُ عَدَمُ الْمِلْكِ فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ بِهَذَا الْمِلْكِ الْمُقَدَّرِ عِتْقٌ بَلْ يَقَعُ عِتْقُ وَالِدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَتُجْزِئُ عَنْهُ إذْ لَوْ قُلْنَا : إنَّهُ عِتْقٌ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ عِتْقَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْعَتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ا هـ .
وَالْحَقُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِاللَّازِمِ بَلْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ إجْزَاءِ الْعِتْقِ عَنْ

الْمُعْتَقِ عَنْهُ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مِلْكِهِ لِمَنْ أَعْتَقَ عَنْهُ فَفِي شَرْحِ الْمَوَّاقِ عَلَى خَلِيلِ : ابْنُ رُشْدٍ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَوَلَاؤُك لِي لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْوَلَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ ا هـ .
وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ صِحَّةُ الْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ ثُمَّ أَنَّ الْمُعْتِقَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَقْصِدْ إلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ وَلَوْ قَصَدَ إلَيْهِ لَمَا صَحَّ عِتْقُهُ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ كَأَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ مُعْتِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَقَدُّمِ تَوْكِيلِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ إنَّمَا يُتَّجَهُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ بِإِذْنِهِ أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يُتَّجَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالتَّقْدِيرِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْدِيرُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا بَلْ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ إلَّا الْعِلْمُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَوْ بِعَدَمِهِ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَرْجِعُ إلَيْنَا وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ سَبَبُ قِيَامِ الْخَبَرِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الِابْنِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَصَيْرُورَةِ وَلَاءِ أَبِيهِ لَهُ بِعِتْقِ مَالِكِهِ لَهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَتِهِ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْدِيرُنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَتَقْدِيرُنَا حَادِثٌ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ ذَلِكَ الْخَبَرِ لِضَرُورَةِ سَبْقِ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ أَوْ مَعِيَّتِه ، وَبِالْجُمْلَةِ الْقَوْلُ بِتِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَصِحُّ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ حَاشِيَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْ التَّرْدِيدِ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي وَإِرْجَاعِ سَبَبِيَّةِ التَّقْدِيرِ لِلْمُخْبِرِ بِهِ لَا لِقِيَامِ الْخَبَرِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَافْهَمْ وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِهَا ) هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ تَلْتَبِسَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْفُضَلَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى قَاعِدَةُ امْتِنَاعٍ وَاسْتِحَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الشَّرِيعَةِ وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَاقِعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاقِعِ الْخِلَافِ وَلَقَدْ حَضَرْت يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ فِيهِ فَاضِلَانِ كَبِيرَانِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : مَا مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ حِينِهِ قَوْلَانِ أَمَّا مِنْ حِينِهِ فَمُسَلَّمٌ مَعْقُولٌ .
وَأَمَّا مِنْ أَصْلِهِ فَغَيْرُ مَعْقُولٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّمَانُ الْمَاضِي ، وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ مُحَالٌ وَإِخْرَاجُ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّمَانُ الْمَاضِي مُحَالٌ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّهُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ ؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى رَفْعِ آثَارِهِ دُونَ نَفْسِ الْعَقْدِ فَقَالَ لَهُ : الْآثَارُ وَالْأَحْكَامُ هِيَ أَيْضًا وَاقِعَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاقِعَاتِ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا أَيْضًا الزَّمَانُ الْمَاضِي فَيَسْتَحِيلُ رَفْعُهَا كَالْعَقْدِ وَيَمْتَنِعُ إخْرَاجُهَا مِنْ الزَّمَانِ الْمَاضِي كَسَائِرِ الْمَاضِيَاتِ ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى مِثْلِي وَأَظْهَرَ الْغَضَبَ وَالنُّفُورَ لِقَلِقِهِ وَقُوَّةِ السُّؤَالِ وَافْتَرَقَا عَنْ غَيْرِ جَوَابٍ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إلَّا الْجَهْلُ بِهَذَا الْفَرْقِ وَهَا أَنَا أُوَضِّحُهُ لَك بِذِكْرِ مَسَائِلَ أَرْبَعٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الرَّدُّ بِالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَالسُّؤَالُ فِيهَا فَنَقُولُ الْعَقْدُ وَاقِعٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِهِ لَكِنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ التَّقْدِيرَاتِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَهَذَا الْعَقْدُ وَإِنْ

كَانَ وَاقِعًا لَكِنْ يُقَدِّرُهُ الشَّرْعُ مَعْدُومًا أَيْ يُعْطِيهِ الْآنَ حُكْمَ عَقْدٍ لَمْ يُوجَدْ لَا أَنَّهُ يُرْفَعُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ وَالْبَهَائِمِ الْمَبِيعَةِ لِمَنْ تَكُونُ وَكَذَلِكَ الْغَلَّاتُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ هَلْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِلْبَائِعِ إنْ قَدَّرْنَاهُ مَعْدُومًا مِنْ أَصْلِهِ أَوْ الْمُشْتَرِي إنْ جَعَلْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ حِينِهِ فَهَذَا كُلُّهُ فِقْهٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ قَاعِدَةٍ عَقْلِيَّةٍ حَتَّى يَلْزَمَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَهُوَ مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ لَا مِنْ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) رَفْضُ النِّيَّاتِ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَةِ وَرَفْعُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلَانِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ عَدَمُ الرَّفْعِ وَفِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ صِحَّةُ الرَّفْضِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ فَإِنَّ النِّيَّةَ وَقَعَتْ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ فَكَيْفَ يَصِحُّ رَفْعُ الْوَاقِعِ وَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَصْدُ إلَى الْمُسْتَحِيلِ بَلْ النِّيَّةُ وَاقِعَةٌ قَطْعًا وَالْعِبَادَةُ مُحَقَّقَةٌ جَزْمًا فَالْقَصْدُ لِرَفْضِ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ قَصْدٌ لِلْمُسْتَحِيلِ وَرَفْعُ الْوَاقِعِ وَإِخْرَاجُ مَا انْدَرَجَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مِنْهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ يُقَدِّرُ هَذِهِ النِّيَّةَ أَوْ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُوجَدْ لَا أَنَّهُ يُبْطِلُ وُجُودَهَا الْمُنْدَرِجَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا الْآنَ حُكْمُ عِبَادَةٍ أُخْرَى لَمْ تُوجَدْ قَطُّ وَمَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ يُسْتَأْنَفُ فِعْلُهُ فَيُسْتَأْنَفُ فِعْلُ هَذِهِ فَهِيَ مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ لَا مِنْ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ فَإِنْ قُلْت وَأَيُّ دَلِيلٍ

وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْمُكَلَّفِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ إسْقَاطِ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي بِطَرِيقِ التَّقْدِيرِ وَالْقَصْدِ إلَيْهَا فَيَقْصِدُ الْإِنْسَانُ إبْطَالَ مَا مَضَى لَهُ مِنْ جِهَادٍ وَهِجْرَةٍ وَسَعْيٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ بَلْ يَكُونُ إذَا قَصَدَ إلَى إبْطَالِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ وَلَا رِدَّةٍ وَلَا مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ أَنْ يَصِيرَ كَافِرًا غَيْرَ مُؤْمِنٍ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَأَنَّ حُكْمَ إيمَانِهِ الْمُتَقَدِّمِ الْآنَ حُكْمُ عَدَمِهِ وَحُكْمُ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا كَذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ يَقْصِدُ إلَى إبْطَالِ زِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ وَحِرَابَتِهِ وَأَكْلِهِ الرِّبَا وَأَمْوَالَ الْيَتَامَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَاحِسِ وَالْقَبَائِحِ أَنْ يَصِيرَ حُكْمُهَا الْآنَ حُكْمَ الْمَعْدُومِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَيَسْتَرِيحَ مِنْ مُؤَاخَذَتِهَا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ هِيَ أَثَرُ هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَا قَالَ فَقِيهٌ بِفَتْحِ هَذَا الْقِيَاسِ وَلَمْ نَجِدْهُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ وَجَمِيعُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مِنْ التَّعْلِيلِ أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصُّوَرِ أَوْ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ نَصٌّ يُخَصِّصُهَا بِهَذَا الْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا بَلْ الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ مَا وَقَعَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ غَيْرِ الرَّفْضِ كَالْإِسْلَامِ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا وَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالْحَجُّ وَعَكْسُهَا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَهَا مَا يُبْطِلُهَا وَهِيَ الرِّدَّةُ وَالنُّصُوصُ دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَمَّا الرَّفْضُ فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ دَلِيلًا

شَرْعِيًّا يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ مُؤَثِّرٌ فِي الْأَعْمَالِ هَذَا التَّأْثِيرَ قُلْت هَذَا سُؤَالٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ مُتَّجِهٌ وَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا لَهُ اتِّجَاهٌ يَقْتَضِي انْدِفَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ التَّامِّ فَالْأَحْسَنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ آخِرَ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ أَوَّلِهِ فَإِنَّهَا مُبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالْإِجْمَاعِ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ فَإِذَا قَدِمَ زَيْدٌ آخِرَ الشَّهْرِ هَلْ تَطْلُقُ مِنْ الْآنَ أَوْ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَهُوَ الَّذِي يَرَاهُ ابْنُ يُونُسَ مِنْ أَصْحَابِنَا مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ فَيَقْضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ وَالتَّحْرِيمُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيَرْفَعُ الْإِبَاحَةَ الْكَائِنَةَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ وَهِيَ كَانَتْ وَاقِعَةً فَيَلْزَمُ رَفْعُ الْوَاقِعِ وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنَى أَنَّا نُقَدِّرُ أَنَّ تِلْكَ الْإِبَاحَةَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ لَا أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الزَّمَنِ الْمَاضِي بَلْ حُكْمُهَا الْآنَ حُكْمُ الْمُرْتَفِعَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ فَرْقِ الشُّرُوطِ وَالْبَحْثِ فِيهَا مَعَ الشَّافِعِيِّ فَلْتُطَالَعْ مِنْ هُنَاكَ فَإِنَّهُ مُسْتَوْفًى .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إذَا أَعْتَقَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّا نُقَدِّرُ لَهُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْعِتْقِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ عَدَمُ مِلْكِهِ لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَذَلِكَ الْعَدَمُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاقِعَاتِ وَالْوَاقِعُ مِنْ عَدَمٍ أَوْ وُجُودٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ عَدَمُ الْمِلْكِ وَيَثْبُتُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيرِ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ الْعَدَمُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَفِعِ لَا لِأَنَّا نَرْفَعُهُ بَلْ نُعْطِيهِ الْآنَ حُكْمَ الِارْتِفَاعِ مِنْ إجْزَاءِ الْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ تُقَدَّرُ مِلْكُ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ مِنْ قَبْلِ الْمَوْتِ بِالزَّمَنِ لِيَصِحَّ الْإِرْثُ خَاصَّةً

وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَّةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ عَنْ التَّقْدِيرِ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ كُلُّهَا تَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَحِيلٌ مُطْلَقًا وَالثَّانِيَ مُمْكِنٌ مُطْلَقًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِهَا إلَى آخِرِهِ ) قُلْت : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ فَإِنَّهُ .
وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ حُكْمٌ فِي مَوَاضِعَ فَلَا حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَغَيْرَ قَوْلِهِ بِتَقْدِيرِ مِلْكِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ تَقْدِيرِ الْمِلْكِ أَعْنِي بَعْدَ إنْفَاذِ الْمُقَاتِلِ ، وَقَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ بَلْ هُوَ مَوْضِعُ تَحْقِيقٍ لِلْمِلْكِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْوَاقِعَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِهَا ) وَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعَاتِ مُسْتَحِيلٌ مُطْلَقًا وَأَنَّ تَقْدِيرَ ارْتِفَاعِهَا مُمْكِنٌ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِلتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِعْطَاءِ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ أَوْ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا تَقْدِيرُ النَّجَاسَةِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي صُوَرِ الضَّرُورَاتِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَوْضِعِ الْحَدَثِ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ .
وَمِنْهَا تَقْدِيرُ رَفْعِ الْإِبَاحَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا قَبْلَ الرَّدِّ وَنَقَلَ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ لَا مِنْ حِينِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ يُعْطِيهِ الْآنَ حُكْمَ عَقْدٍ لَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُ يُرْفَعُ بَعْدَ وُجُودِهِ حَتَّى يُقَالَ الْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ مُحَالٌ وَإِخْرَاجُ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّمَانُ الْمَاضِي مُحَالٌ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ وَالْبَهَائِمِ الْمَبِيعَةِ لِمَنْ تَكُونُ وَكَذَلِكَ الْغَلَّاتُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِلْبَائِعِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ الْعَقْدِ مَعْدُومًا مِنْ أَصْلِهِ وَلِلْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِهِ مَعْدُومًا مِنْ حِينِهِ ، وَمِنْهَا تَقْدِيرُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ الَّتِي قَالَ لَهَا : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ آخِرَ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَنْ يُقْدِمَ زَيْدٌ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ لَا أَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الزَّمَنِ الْمَاضِي حَتَّى يَلْزَمَ الْمُحَالُ مِنْ رَفْعِ الْوَاقِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَهَلْ تَطْلُقُ مِنْ الْآنَ أَوْ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَهُوَ الَّذِي يَرَاهُ ابْنُ يُونُسَ مِنْ أَصْحَابِنَا مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ فَيَقْضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالتَّحْرِيمِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَيُقَدَّرُ الْآنَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ الْكَائِنَةَ فِي

أَوَّلِ الشَّهْرِ وَوَسَطِهِ فِي حُكْمِ الْمُرْتَفِعَةِ لَا إنَّنَا نَجْزِمُ بِارْتِفَاعِهَا بِالْفِعْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْبَحْثُ فِيهَا مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ فَرْقِ الشُّرُوطِ فَلْتُطَالَعْ ثَمَّةَ ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ التَّقْدِيرِ الَّتِي لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ عَنْهَا ، نَعَمْ لَيْسَ مِنْهَا تَقْدِيرُ الْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ ؛ إذْ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْدِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا مِنْهَا تَقْدِيرُ مِلْكِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ بَعْدَ إنْقَاذِ الْمُقَاتِلِ وَقَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ بَلْ هُوَ مَوْضِعُ تَحْقِيقِ الْمِلْكِ كَمَا أَفَادَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
قُلْت : وَلَيْسَ مِنْهَا أَيْضًا مَسْأَلَةُ تَأْثِيرِ رَفْضِ النِّيَّةِ فِيمَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فِي الْأَثْنَاءِ اتِّفَاقًا فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالِاعْتِكَافِ وَلَا تَأْثِيرِ رَفْضِهَا فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَلَى الْخِلَافِ ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّفْضِ فِي الْأَثْنَاءِ فَلِأَنَّ الْحَقَّ صِحَّتُهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إلَى التَّقْدِيرِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ قَاصِدًا بِالْعِبَادَةِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ ثُمَّ أَتَمَّهَا بِنِيَّةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا كَالْمُتَطَهِّرِ يَنْوِي أَوَّلًا رَفْعَ الْحَدَثِ ثُمَّ يَنْسَخُ تِلْكَ النِّيَّةَ ثَانِيًا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوْ التَّنَظُّفِ مِنْ الْأَوْسَاخِ الْبَدَنِيَّةِ .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّفْضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّ صِحَّتَهُ حِينَئِذٍ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى رُجُوعِهِ لِلتَّقْدِيرِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ كَمَالِهَا عَلَى مَشْرُوطِهَا قَصْدُهُ أَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَةً وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُهَا مِنْ

إجْزَاءٍ أَوْ اسْتِبَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالْوَاقِعُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهَا بَلْ تَكُونُ عَلَى حُكْمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَصْدُ .
وَخَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالِاعْتِكَافِ فَمِنْ هُنَا نَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَرْجِعُ إلَى التَّقْدِيرِ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيلُ رَفْضُهُ وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَلِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْفَرَاغِ مِنْ الْفِعْلِ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ التَّكْلِيفَ يَرْجِعُ بَعْدَ سُقُوطِهِ لِأَجْلِ الرَّفْضِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ا هـ وَجَرَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغُسْلِ .
وَأَمَّا خِلَافُهُمْ فِي رَفْضِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْكَمَالِ فَإِنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ هُنَا لَهَا وَجْهَانِ فِي النَّظَرِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى فِعْلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالَ إنَّ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهَا لَازِمٌ وَمُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إلَّا بِنَاقِضٍ طَارِئٍ وَمَنْ نَظَرَ إلَى حُكْمِهَا أَعْنِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مُسْتَصْحَبًا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ وَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ الْأُولَى الْمُقَارِنَةِ لِلطَّهَارَةِ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِنِيَّةِ الرَّفْضِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا فَلَا يَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ الْآتِيَةِ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّفْضِ الْمُقَارِنِ لِلْفِعْلِ وَمَا قَارَنَ الْفِعْلَ مُؤَثِّرٌ فَكَذَلِكَ مَا شَابَهَهُ فَلَوْ انْتَفَتْ الْمُشَابَهَةُ بِأَنْ رَفَضَ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ مَا أَدَّى بِهَا الصَّلَاةَ وَتَمَّ حُكْمُهَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ

الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَفَضَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهَا وَقَدْ كَانَ أَتَى بِهَا عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ .
فَإِنْ قَالَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّفْضِ فِي مِثْلِ هَذَا فَالْقَاعِدَةُ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ اللُّزُومَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ طَرَيَان التَّنَاقُضِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ فَلِذَا لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَأَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِ الرَّفْضِ بَعْدَ كَمَالِهِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَسَاقُطِهَا ) اعْلَمْ أَنَّ التَّدَاخُلَ وَالتَّسَاقُطَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ قَدْ اسْتَوَيَا فِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي دَخَلَ فِي غَيْرِهِ وَلَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي سَقَطَ بِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّدَاخُلَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ مَعْنَاهُ أَنْ يُوجَدَ سَبَبَانِ مُسَبِّبُهُمَا وَاحِدٌ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مُسَبَّبٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مُسَبَّبًا مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ يَتَرَتَّبَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ مُسَبَّبَانِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَالثَّانِي أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَمَّا التَّدَاخُلُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ فَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ : الْأَوَّلُ : الطَّهَارَاتُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهُمَا الْمُخْتَلِفَةُ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ أَوْ الْمُتَمَاثِلَةُ كَالْجَنَابَتَيْنِ وَالْمُلَامَسَتَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ وُضُوءٌ وَاحِدٌ وَغُسْلٌ وَاحِدٌ وَدَخَلَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ وَكَالْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ فَإِنَّ سَبَبَ الْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ الْمُلَامَسَةُ انْدَرَجَ فِي الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ وُضُوءٍ وَأَجْزَأَهُ الْغُسْلُ ، الثَّانِي : الصَّلَوَاتُ كَتَدَاخُلِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ صَلَاةِ الْفَرْضِ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِمَا فَيَدْخُلُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّحِيَّةِ فِي الزَّوَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الظُّهْرِ مَثَلًا فَيَقُومُ سَبَبُ الزَّوَالِ مَقَامَ سَبَبِ الدُّخُولِ فَيُكْتَفَى بِهِ ، الثَّالِثُ : الصِّيَامُ كَصِيَامِ رَمَضَانَ مَعَ صِيَامِ الِاعْتِكَافِ ، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ سَبَبُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَيَدْخُلُ سَبَبُ الِاعْتِكَافِ فِي سَبَبِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَيَتَدَاخَلُ

الِاعْتِكَافُ وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ .
الرَّابِعُ : الْكَفَّارَاتُ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي حِلِّ الْأَيْمَانِ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ تَكْرَارِ الطَّلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ حَتَّى يُرِيدَ التَّكْرَارَ وَفِي كَفَّارَةِ إفْسَادِ رَمَضَانَ إذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا عَلَى الْخِلَافِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْيَوْمَيْنِ وَلَهُ قَوْلَانِ فِي الرَّمَضَانَيْنِ ، الْخَامِسُ : الْحُدُودُ الْمُتَمَاثِلَةُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ تَمَاثَلَتْ كَالزِّنَى مِرَارًا وَالسَّرِقَةِ مِرَارًا وَالشُّرْبِ مِرَارًا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَوْلَى الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاخُلِ ؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَهَا مُهْلِكٌ ، السَّادِسُ : الْأَمْوَالُ كَالْوَاطِئِ بِالشُّبْهَةِ الْمُتَّحِدَةِ إذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فَإِنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ أَوْجَبَتْ مَهْرًا تَامًّا مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَلَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ إلَّا صَدَاقٌ وَاحِدٌ وَكَدِيَةِ الْأَطْرَافِ مَعَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ إذَا قَطَعَ أَطْرَافَهُ وَسَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ اكْتَفَى صَاحِبُ الشَّرْعِ بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِلنَّفْسِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ السَّرَيَانِ نَحْوَ عَشْرِ دِيَاتٍ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ الْجَمِيعُ وَلَا يَلْزَمُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا قَدْ يَدْخُلُ الْقَلِيلُ مَعَ الْكَثِيرِ كَدِيَةِ الْأُصْبُعِ مَعَ النَّفْسِ وَالْكَثِيرُ مَعَ الْقَلِيلِ كَدِيَةِ الْأَطْرَافِ مَعَ النَّفْسِ وَالْمُتَقَدِّمُ مَعَ الْمُتَأَخِّرِ كَحَدَثِ الْوُضُوءِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْمُتَأَخِّرُ مَعَ الْمُتَقَدِّمِ كَالْوَطَآتِ الْمُتَأَخِّرَةِ مَعَ الْوَطْأَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأُولَى .
وَمُوجِبَاتُ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِي الْمُوجِبِ الْأَوَّلِ وَالطَّرَفَانِ فِي وَسَطٍ كَانْدِرَاجِ الْوَطْأَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تُوطَأُ أَوَّلًا وَهِيَ مَرِيضَةُ الْجِسْمِ عَدِيمَةُ الْمَالِ ثُمَّ تَصِحُّ وَتَرِثُ مَالًا عَظِيمًا ثُمَّ تَسْقَمُ

فِي جِسْمِهَا وَيَذْهَبُ مَالُهَا وَهِيَ تُوطَأُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا بِشُبْهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهَا يَجِبُ لَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَدَاقُ الْمِثْلِ فِي أَعْظَمِ أَحْوَالِهَا وَأَعْظَمُ أَحْوَالِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَالَةُ الْوُسْطَى فَيَجِبُ الصَّدَاقُ بِاعْتِبَارِهَا وَتَدْخُلُ فِيهَا الْحَالَةُ الْأُولَى وَالْحَالَةُ الْأَخِيرَةُ فَيَنْدَرِجُ الطَّرَفَانِ فِي الْوَسَطِ وَهَذَا الْمِثَالُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ الْوَطْأَةَ الْأُولَى كَيْفَ كَانَتْ وَكَيْفَ صَادَفَتْ وَيَنْدَرِجُ مَا بَعْدَهَا فِيهَا وَتَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ انْدِرَاجِ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْمُتَقَدِّمِ لَا مِنْ بَابِ انْدِرَاجِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْوَسَطِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ عَدَمُ التَّدَاخُلِ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَسْبَابِ فَكَالْإِتْلَافَيْنِ يَجِبُ بِهِمَا ضَمَانَانِ وَلَا يَتَدَاخَلَانِ وَكَالطَّلَاقَيْنِ يَتَعَدَّدُ أَثَرُهُمَا وَلَا يَتَدَاخَلَانِ بَلْ يُنْقِصُ كُلُّ طَلَاقٍ مِنْ الْعِصْمَةِ طَلْقَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّأْكِيدَ أَوْ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالزَّوَالَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ ظُهْرَيْنِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَسْبَابِهَا وَكَالنَّذْرَيْنِ يَتَعَدَّدُ مَنْذُورُهُمَا وَلَا يَتَدَاخَلُ وَكَالْوَصِيَّتَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ لَهُ الْمُوصَى بِهِ عَلَى الْخِلَافِ وَكَالسَّبَبَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ مُخْتَلِفٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ التَّعْزِيرِ وَالْمُؤَاخَذَةِ وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ شَهْرًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ شَهْرًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَإِنَّهُ يَحْمِلْ عَلَى شَهْرَيْنِ وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى صَاعَيْنِ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ ، الْأَصْلُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ مُسَبَّبُهُ ، وَالتَّدَاخُلُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ .
وَأَمَّا تَسَاقُطُ الْأَسْبَابِ فَإِنَّمَا

يَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَتَنَافِي الْمُسَبَّبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ يَقْتَضِي شَيْئًا وَالْآخَرُ يَقْتَضِي ضِدَّهُ فَيُقَدِّمُ صَاحِبُ الشَّرْعِ الرَّاجِحَ مِنْهُمَا عَلَى الْمَرْجُوحِ فَيَسْقُطُ الْمَرْجُوحُ أَوْ يَسْتَوِيَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ مَعًا هَذَا هُوَ ضَابِطُ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ : تَارَةً يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَارَةً فِي الْبَعْضِ .
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّنَافِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَكَالرَّدَّةِ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالْقَتْلِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ عَدَمَ الْإِرْثِ وَكَالدَّيْنِ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ وَأَسْبَابُهَا تُوجِبُهَا ، وَكَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا أَوْ الْأَصْلَيْنِ إذَا قُطِعَ رَجُلٌ مَلْفُوفٌ فِي الثِّيَابِ فَتَنَازَعَ هُوَ وَالْوَلِيُّ فِي كَوْنِهِ كَانَ حَيًّا حَالَةَ الْجِنَايَةِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْغَالِبَيْنِ وَهُمَا الظَّاهِرَانِ كَاخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْيَدَ لِلرَّجُلِ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ وَكَوْنُ الْمُدَّعِي فِيهِ مِنْ قُمَاشِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ فَقَدَّمْنَا نَحْنُ هَذَا الظَّاهِرَ وَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهُمَا مَعًا يَدًا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ وَمَالِكٌ يَقُولُ الْيَدُ خَالِصَةٌ بِالرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَتَاعُ يَصْلُحُ لَهُمَا قُدِّمَ مِلْكُ الرَّجُلِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْيَدِ وَكَالْمُنْفَرِدَيْ نِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْمِصْرُ كَبِيرٌ قُدِّمَ مِلْكُ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، وَقَدَّمَ سَحْنُونٌ ظَاهِرَ الْحَالِ وَقَالَ الظَّاهِرُ كَذِبُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْعَظِيمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ فَانْفِرَادُ هَذَيْنِ دَلِيلُ كَذِبِهِمَا وَلَمْ يُوجِبْ الصَّوْمَ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ كَالْمَقْبَرَةِ الْمَنْبُوشَةِ الْأَصْلُ عَدَمُ

النَّجَاسَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُودِهَا بِسَبَبِ النَّبْشِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ كُلُّهَا مُتَنَافِيَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا .
وَأَمَّا التَّسَاقُطُ بِسَبَبِ التَّنَافِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَالنِّكَاحِ مَعَ الْمِلْكِ إذَا عَقَدَ عَلَى أَمَتِهِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ إبَاحَةَ الْوَطْءِ وَالْمِلْكُ يُوجِبُ مَعَ ذَلِكَ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ فَسَقَطَ النِّكَاحُ تَغْلِيبًا لِلْمِلْكِ بِسَبَبِ قُوَّتِهِ وَتَكُونُ الْإِبَاحَةُ الْحَاصِلَةُ مُضَافَةً لِلْمِلْكِ فَقَطْ وَلَا يَحْصُلُ تَدَاخُلٌ فَلَا يُقَالُ هِيَ مُضَافَةٌ لَهُمَا أَلْبَتَّةَ وَكَمَا إذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ وَصَيَّرَهَا أَمَتَهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ السَّابِقَ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ اللَّاحِقُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ مَعَ بَقِيَّةِ آثَارِ الْمِلْكِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ النِّكَاحَ السَّابِقَ بِالْمِلْكِ اللَّاحِقِ عَكْسُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قُدِّمَ فِيهِ السَّابِقُ وَهَذَا قُدِّمَ فِيهِ اللَّاحِقُ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنْ النِّكَاحِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ فَلَمَّا كَانَ أَقْوَى قَدَّمَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَابِقًا وَلَاحِقًا وَلَاحَظْنَا أَنَّ السَّابِقَ يُقَدَّمُ بِحُصُولِهِ فِي الْمَحَلِّ وَسَبْقِهِ وَإِلَّا لَانْدَفَعَ الشِّرَاءُ عَنْ الزَّوْجَةِ وَبَقِيَتْ زَوْجَةً وَبَطَلَ الْبَيْعُ لَكِنَّ السِّرَّ مَا ذَكَرْته لَك ، وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْحَاكِمِ مَعَ الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِمَا يَعْلَمُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ لِلْبَيِّنَةِ دُونَ عِلْمِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْقَضَاءُ بِالْعِلْمِ سَاقِطٌ حَذَرًا مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْحُكْمِ بِالتُّهَمِ وَعَلَى النَّاسِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِلْمُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْعِلْمُ أَوْلَى مِنْ الظَّنِّ وَيَحْتَمِلُ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَجْعَلُ الْحُكْمَ مُضَافًا إلَيْهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ

سَبَبَانِ لِلتَّوْرِيثِ بِالْفَرْضِ فِي أَنْكِحَةِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِأَقْوَاهُمَا وَيَسْقُطُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يَقْتَضِي الْإِرْثَ كَالِابْنِ إذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَوَلَدُهَا حِينَئِذٍ ابْنُهُ وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِالْبُنُوَّةِ وَتَسْقُطُ الْأُخُوَّةُ أَمَّا إنْ كَانَا سَبَبَيْنِ الْفَرْضَ وَالتَّعْصِيبَ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهِمَا كَالزَّوْجِ ابْنُ عَمٍّ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ بِكَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ فَهَذِهِ مَثَلٌ وَمَسَائِلُ تُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ وَتَسَاقُطِهَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّدَاخُلِ وَالتَّسَاقُطِ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعِ وَالْخَمْسِينَ صَحِيحٌ .
.

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَسَاقُطِهَا ) التَّدَاخُلُ وَالتَّسَاقُطُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَإِنْ اتَّفَقَا فِي جِهَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي دَخَلَ فِي غَيْرِهِ وَلَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي سَقَطَ بِغَيْرِهِ ، وَثَانِيهِمَا : جَرَيَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُمَا تَفَارَقَا فِي جِهَاتٍ : الْجِهَةُ الْأُولَى : أَنَّ تَسَاقُطَ الْأَسْبَابِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَتَنَافِي الْمُسَبَّبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ يَقْتَضِي شَيْئًا وَالْآخَرُ يَقْتَضِي ضِدَّهُ فَيُقَدِّمُ صَاحِبُ الشَّرْعِ الرَّاجِحَ مِنْهُمَا عَلَى الْمَرْجُوحِ فَيَسْقُطُ الْمَرْجُوحُ أَوْ يَسْتَوِيَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ مَعًا وَتَدَاخُلُهَا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ مُسَبِّبِهَا بِأَنْ يُوجَدَ سَبَبَانِ مُسَبِّبُهُمَا وَاحِدٌ .
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ التَّدَاخُلَ جَرَى عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي اتِّحَادِ الْمُسَبَّبُ وَالتَّسَاقُطُ جَرَى عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي تَنَافِي الْمُسَبَّبَاتِ ؛ إذْ الْأَصْلُ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ التَّدَاخُلِ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَسْبَابِ بِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ مُسَبَّبُهُ .
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ التَّدَاخُلَ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ : الْأَوَّلُ : الطَّهَارَةُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهِ إجْزَاءُ غُسْلٍ وَاحِدٍ مَعَ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ أَوْ الْمُتَمَاثِلَةِ كَالْجَنَابَتَيْنِ وَمِنْهُ إجْزَاءُ وُضُوءٍ وَاحِدٍ مَعَ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ الْمُتَمَاثِلَةِ كَالْمُلَامَسَتَيْنِ أَوْ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْمُلَامَسَةِ وَإِخْرَاجِ الرِّيحِ ، وَمِنْهُ إجْزَاءُ الْغُسْلِ عَنْ الْوُضُوءِ وَإِنْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ الَّذِي هُوَ الْمُلَامَسَةُ مَعَ سَبَبِ الْغُسْلِ الَّذِي هُوَ الْجَنَابَةُ لِانْدِرَاجِ سَبَبِهِ فِي الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ وُضُوءٍ .
الثَّانِي : الصَّلَوَاتُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهَا تَدَاخُلُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبَيْهِمَا

فَيَدْخُلُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّحِيَّةِ فِي الزَّوَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الظُّهْرِ مَثَلًا فَيَقُومُ سَبَبُ الزَّوَالِ مَقَامَ سَبَبِ الدُّخُولِ فَيُكْتَفَى بِهِ .
الثَّالِثُ : الصِّيَامُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهِ تَدَاخُلُ الصَّوْمِ الَّذِي سَبَبُهُ الِاعْتِكَافُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ الَّذِي سَبَبُهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَيَقُومُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ مَقَامَ سَبَبِ الِاعْتِكَافِ فَيُكْتَفَى بِهِ .
الرَّابِعُ : الْكَفَّارَاتُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهِ حَمْلُ الْأَيْمَانِ فِي الْمَشْهُورِ عَلَى التَّكْرَارِ لَا عَلَى الْإِنْشَاءِ فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْوَطْءِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا عَلَى الْخِلَافِ وَفِي الْيَوْمَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ قَوْلَانِ فِي الرَّمَضَانَيْنِ .
الْخَامِسُ : الْحُدُودُ الْمُتَمَاثِلَةُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهِ تَدَاخُلُ أَسْبَابِهَا الْمُخْتَلِفَةِ كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْمُتَمَاثِلَةِ كَالزِّنَا مِرَارًا وَالسَّرِقَةِ مِرَارًا وَالشُّرْبِ مِرَارًا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَوْلَى الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاخُلِ ؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَهَا مُهْلِكٌ .
السَّادِسُ : الْأَمْوَالُ فَمِنْ التَّدَاخُلِ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي تَكْرَارِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ الْمُتَّحِدَةِ إلَّا صَدَاقٌ وَاحِدٌ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَطْأَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ أَوْجَبَتْ مَهْرًا تَامًّا مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَمِنْهُ اكْتِفَاءُ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِيمَا إذَا قَطَعَ أَطْرَافَهُ وَسَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ قَبْلَ السَّرَيَانِ نَحْوَ عَشْرِ دِيَاتٍ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَثِيرُ وَهُوَ دِيَةُ الْأَطْرَافِ فِي الْقَلِيلِ وَهُوَ دِيَةُ النَّفْسِ ، وَقَدْ يَدْخُلُ الْقَلِيلُ كَدِيَةِ الْأُصْبُعِ فِي الْكَثِيرِ كَدِيَةِ النَّفْسِ ( تَنْبِيهٌ ) : لَا يَتَنَافَى عِنْدَنَا فِي التَّدَاخُلِ إلَّا أَرْبَعُ صُوَرٍ : أَحَدُهَا دُخُولُ الْقَلِيلِ فِي الْكَثِيرِ .
وَثَانِيهَا : دُخُولُ

الْكَثِيرِ فِي الْقَلِيلِ وَقَدْ مَرَّتْ مِثْلُهُمَا .
وَثَالِثُهَا : دُخُولُ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمُتَأَخِّرِ كَحَدَثِ الْوُضُوءِ الْمُتَقَدِّمِ مَعَ الْجَنَابَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ .
وَرَابِعُهَا : دُخُولُ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْمُتَقَدِّمِ كَالْوَطَآتِ الْمُتَأَخِّرَةِ مَعَ الْوَطْأَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأُولَى ، وَأَسْبَابِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي الْمُوجِبِ الْأَوَّلِ مِنْهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَزِيدُ صُورَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ دُخُولُ الطَّرَفَانِ فِي الْوَسَطِ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ بِالشُّبْهَةِ الْوَاحِدَةِ أَوَّلًا وَهِيَ مَرِيضَةُ الْجِسْمِ عَدِيمَةُ الْمَالِ ، وَثَانِيًا : بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ وَوَرِثَتْ مَالًا عَظِيمًا وَثَالِثًا بَعْدَ سَقَمِ جِسْمِهَا وَذَهَابِ مَالِهَا فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ يَجِبُ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ فِي أَعْظَمِ أَحْوَالِهَا وَأَعْظَمُ أَحْوَالِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَالَةُ الْوُسْطَى فَيَجِبُ الصَّدَاقُ بِاعْتِبَارِهَا وَتَدْخُلُ فِيهَا الْحَالَةُ الْأُولَى وَالْحَالَةُ الْأَخِيرَةُ فَيَنْدَرِجُ الطَّرَفَانِ فِي الْوَسَطِ وَلَا يُعْتَبَرُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذَا الْمِثَالِ إلَّا الْوَطْأَةُ الْأُولَى كَيْفَ كَانَتْ وَكَيْفَ صَادَفَتْ ؟ وَيَنْدَرِجُ مَا بَعْدَهَا فِيهَا فَهَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ انْدِرَاجِ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْمُتَقَدِّمِ لَا مِنْ بَابِ انْدِرَاجِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْوَسَطِ .
وَأَمَّا التَّسَاقُطُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ التَّنَافِي فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا الرِّدَّةُ مَعَ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ يَقْتَضِيَانِ عَدَمَ الْإِرْثِ وَالْقَرَابَةُ تَقْتَضِي الْإِرْثَ وَمِنْهَا الدَّيْنُ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا تُوجِبُهَا ، وَمِنْهَا تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَمِنْهَا تَعَارُضُ الْأَصْلَيْنِ فِيمَا إذَا قُطِعَ رَجُلٌ مَلْفُوفٌ فِي الثِّيَابِ فَتَنَازَعَ الْقَاطِعُ وَالْوَلِيُّ فِي كَوْنِهِ كَانَ حَيًّا حَالَةَ الْجِنَايَةِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمِنْهَا تَعَارُضُ الْغَالِبَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ فِي بَحْثِ

اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْيَدَ لِلرَّجُلِ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي فِيهِ مِنْ قُمَاشِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَكَانَ ظَاهِرًا فِي كَوْنِهِ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ قَدَّمْنَا نَحْنُ هَذَا الظَّاهِرَ وَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهُمَا مَعًا يَدًا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالْيَدُ عِنْدَ مَالِكٍ خَاصَّةً بِالرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ وَإِذَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُمَا قَدَّمَ مِلْكَ الرَّجُلِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْيَدِ وَنَحْوَ الْمُنْفَرِدِينَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْمِصْرُ كَبِيرٌ فَمَالِكٌ قَدَّمَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ وَسَحْنُونٌ قَدَّمَ ظَاهِرَ الْحَالِ وَلَمْ يُوجِبْ الصَّوْمَ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَالَ : الظَّاهِرُ كَذِبُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْعَظِيمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ فَانْفِرَادُ هَذَيْنِ دَلِيلُ كَذِبِهِمَا .
وَمِنْهَا تَعَارُضُ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرُ فِي نَحْوِ الْمَقْبَرَةِ الْمَنْبُوشَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّجَاسَةِ وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا بِسَبَبِ النَّبْشِ قُلْت وَمِنْهَا مَا قَدَّمْته عَنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَعَارُضِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى فِي دَمِ الْحَيْضِ بَلْ هُوَ أَذًى وَالْعُمُومُ فِي خُصُوصِ الْحَالِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } فَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ قَلِيلُ دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءً فِي التَّحْرِيمِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ عَلَى الثَّانِي الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ : يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْ التَّسَاقُطُ بِسَبَبِ التَّنَافِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَهُ مَسَائِلُ مِنْهَا اقْتِضَاءُ النِّكَاحِ مَعَ الْمِلْكِ إبَاحَةَ الْوَطْءِ فَيَغْلِبُ الْأَقْوَى وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ يُوجِبُ إبَاحَةَ

الْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ وَتَكُونُ الْإِبَاحَةُ الْحَاصِلَةُ مُضَافَةً لَهُ فَقَطْ وَيَسْقُطُ النِّكَاحُ وَلَا يَحْصُلُ تَدَاخُلٌ فَلَا يُقَالُ الْإِبَاحَةُ مُضَافَةٌ لَهُمَا أَلْبَتَّةَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ كَمَا إذَا عَقَدَ عَلَى أَمَتِهِ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ وَصَيَّرَهَا أَمَتَهُ ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْحَاكِمِ مَعَ الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِمَا يَعْلَمُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ لِلْبَيِّنَةِ دُونَ عِلْمِهِ فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ حَذَرًا مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْحُكَّامِ بِالتُّهَمِ وَعَلَى النَّاسِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقَدِّمُ الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْعِلْمُ أَوْلَى مِنْ الظَّنِّ وَيَحْتَمِلُ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَجْعَلُ الْحُكْمَ مُضَافًا إلَيْهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَمِنْهَا مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ سَبَبَا تَوْرِيثٍ بِالْفَرْضِ فِي أَنْكِحَةِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِأَقْوَاهُمَا وَيَسْقُطُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يَقْتَضِي الْإِرْثَ كَالِابْنِ إذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَوَلَدُهَا حِينَئِذٍ ابْنُهُ وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَيَرِثُ بِالْبُنُوَّةِ وَتَسْقُطُ الْأُخُوَّةُ ، أَمَّا إنْ كَانَا سَبَبَيْنِ لِلتَّوْرِيثِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهَا كَالزَّوْجِ ابْنُ عَمٍّ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ بِكَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ .
( تَنْبِيهٌ ) عَدَمُ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ مَعَ تَمَاثُلِهَا الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَالْأَصْلُ مِنْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ مُسَبَّبُهُ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الشَّرِيعَةِ فَمِنْ مَسَائِلِهِ الْإِتْلَافَانِ يَجِبُ بِهِمَا ضَمَانَانِ وَلَا يَتَدَاخَلَانِ ، وَمِنْهَا الطَّلَاقَانِ يُنْقِصُ كُلُّ طَلَاقٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعِصْمَةِ طَلْقَةً وَلَا يَتَدَاخَلَانِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّأْكِيدَ أَوْ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهَا

الزَّوَالَانِ يُوجِبَانِ ظُهْرَيْنِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَسْبَابُهَا وَمِنْهَا النَّذْرَانِ يَتَعَدَّدُ مَنْذُورُهُمَا وَلَا يَتَدَاخَلُ وَمِنْهَا الْوَصِيَّتَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ لَهُ الْمُوصَى بِهِ عَلَى الْخِلَافِ وَمِنْهَا الْقَذَفَاتُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ مُخْتَلِفٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ التَّعْزِيرِ وَالْمُؤَاخَذَةِ وَمِنْهَا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ شَهْرًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ شَهْرًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى شَهْرَيْنِ وَمِنْهَا مَا إذَا اشْتَرَى مِنْهُ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى صَاعَيْنِ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ ) وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْ الْوَسَائِلِ بِالذَّرَائِعِ وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَصْحَابِنَا وَهَذَا اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ سَدُّ الذَّرَائِعِ وَمَعْنَاهُ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً لِلْمَفْسَدَةِ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ مِنْ خَوَاصِّ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ الذَّرَائِعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ وَكَذَلِكَ إلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبُّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا وَقِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لَا تُسَدُّ وَوَسِيلَةٌ لَا تُحْسَمُ كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَكَالْمَنْعِ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى .
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَدُّ أَمْ لَا ؟ كَبُيُوعِ الْآجَالِ عِنْدَنَا كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ قَبْلَ الشَّهْرِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : إنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الْآنَ وَأَخَذَ عَشْرَةً آخِرَ الشَّهْرِ فَهَذِهِ وَسِيلَةٌ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشْرَةٍ إلَى أَجَلٍ تَوَسُّلًا بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُنْظَرُ إلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْبُيُوعُ يُقَالُ إنَّهَا تَصِلُ إلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ اخْتَصَّ بِهَا مَالِكٌ وَخَالَفَهُ فِيهَا الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي النَّظَرِ إلَى النِّسَاءِ هَلْ يُحَرَّمُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الزِّنَى أَوْ لَا يُحَرَّمُ وَالْحُكْمُ بِالْعِلْمِ هَلْ يُحَرَّمُ ؛ لِأَنَّهُ

وَسِيلَةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ أَوْ لَا يُحَرَّمُ وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤَثِّرُونَ فِي السِّلَعِ بِصَنْعَتِهِمْ فَتَتَغَيَّرُ السِّلَعُ فَلَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا بِيعَتْ فَيَضْمَنُونَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْأَخْذِ أَمْ لَا يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ أُجَرَاءُ وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ قَوْلَانِ وَكَذَلِكَ تَضْمِينُ حَمَلَةِ الطَّعَامِ لِئَلَّا تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ فَنَحْنُ قُلْنَا بِسَدِّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
( تَنْبِيهٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَمَوَارِدُ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ مَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا وَوَسَائِلُ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلَيْهَا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ غَيْرَ أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْمَقَاصِدِ فِي حُكْمِهَا وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا يُتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِلِ الْحَسَنَةِ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ

وَسِيلَةَ الْوَسِيلَةِ .
( تَنْبِيهٌ ) الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ .
( تَنْبِيهٌ ) قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفَضْت إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسَارَى بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إلَّا بِذَلِكَ ، وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقَعَ الْقَتْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا ، فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا الدَّفْعُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَكْلِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِرُجْحَانِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ .
( تَنْبِيهٌ ) تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ فَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَسَائِلِ وَقَدْ الْتَبَسَتْ هَاهُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا .
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لِأَسْبَابِ الرُّخَصِ فَلَا تَمْتَنِعُ إجْمَاعًا

كَمَا يَجُوزُ لِأَفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمْ التَّيَمُّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَالْجُلُوسُ إذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الرُّخَصِ وَلَا تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ بَلْ هِيَ عَجْزُهُ عَنْ الصَّوْمِ وَنَحْوُهُ وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارَنَةٌ لِلسَّبَبِ لَا سَبَبٌ وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إذَا اضْطَرَّ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا سَفَرُهُ فَالْمَعْصِيَةُ مُقَارِنَةٌ لِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ لَا يُبِيحَ لِلْعَاصِي جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ فَهُوَ جَلِيلٌ حَسَنٌ فِي الْفِقْهِ وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَجْعَلَ السَّفَرَ هُوَ سَبَبُ عَدَمِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ حَتَّى احْتَاجَ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِيَسْرِقَ فَوَقَعَ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ أَنْ لَا يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَلَا يُفْطِرَ إذَا خَافَ مِنْ الصَّوْمِ وَمِنْ الْكَسْرِ الْهَلَاكَ وَأَنْ لَا يَتَيَمَّمَ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَتَّى يَتُوبَ كَمَا قَالَ فِي الْأَكْلِ فِي السَّفَرِ فَيَلْزَمُ بَقَاءُ الْمُصِرِّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِلَا صَلَاةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَتَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا قَائِلَ بِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَقَاصِدِ وَقَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ ) قُلْت : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ غَيْرَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ حُكْمُ مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيمَا لَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31