كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَغَيْرِهِ فَإِنَّهَا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَتَطَرَّقُ النَّقْضُ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَنَدُ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ لَيْسَ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ ، وَأَنَّا لَا نَعْتَقِدُهُ مُدْرَكًا بَلْ مُسْتَنَدًا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ كَمَا نَنْقُضُهُ إذَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ فِي النَّقْضِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَدَارِكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنِّي قَدْ تَرَجَّحَ عِنْدِي فِيمَا ، وَضَعْته فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى ، وَالْأَحْكَامِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمُدْرَكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ فِيهِ ، وَيُعَيِّنُهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ الْمُدْرَكِ مَوْطِنُ اجْتِهَادٍ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالْحُكْمِ فِيهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ هِيَ ضَابِطُ مَا يُنْتَقَضُ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ لَا يُنْقَضُ ، وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ تَنَاوُلُ الْوِلَايَةِ لَهُ ، وَالدَّلِيلِ ، وَالسَّبَبِ ، وَالْحُجَّةِ ، وَانْتَفَتْ فِيهِ التُّهْمَةُ ، وَوَقَعَ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ

( الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) مَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ تَنَاوَلَتْهُ الْوِلَايَةُ ، وَصَادَفَ السَّبَبَ وَالدَّلِيلَ وَالْحُجَّةَ وَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحُجَّةِ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اتَّفَقَ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى جَوَازِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْعِهِ فِيمَا عَدَاهُمَا مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا ، وَمَذْهَبُ ابْنِ حَنْبَلٍ ، وَجَوَازُهُ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحْكَمُ فِي الْحُدُودِ بِمَا شَاهَدَهُ مِنْ أَسْبَابِهَا إلَّا فِي الْقَذْفِ ، وَلَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ ، لَنَا سَبْعَةُ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَسْمُوعِ لَا بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ ( الثَّانِي ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ } فَحَصَرَ الْحُجَّةَ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينَ دُونَ عِلْمِ الْحَاكِمِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( الثَّالِثُ ) مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ ثُمَّ قَالَ أَفَأَخْطُبُ فَأُعْلِمُ النَّاسَ بِرِضَاكُمْ ؟ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ فَأَعْلَمَ فَقَالُوا مَا رَضِينَا فَأَرَادَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ، وَنَزَلَ فَجَلَسُوا إلَيْهِ فَأَرْضَاهُمْ فَقَالَ أَأَخْطُبُ النَّاسَ فَأُعْلِمُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ

فَأَعْلَمَ النَّاسَ فَقَالُوا رَضِينَا } ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ .
( الرَّابِعُ ) مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ وَشَرِيكٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِهِلَالٍ يَعْنِي الزَّوْجَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ يَعْنِي الْمَقْذُوفَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا .
وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَ فَيَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا لَهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا رَجَمَ ، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ ( الْخَامِسُ ) قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُمْ .
( السَّادِسُ ) أَنَّ الْحَاكِمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيُتَّهَمُ بِالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ فَلَعَلَّ الْمَحْكُومَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ صَدِيقٌ ، وَلَا نَعْلَمُ نَحْنُ ذَلِكَ فَحَسَمْنَا الْمَادَّةَ صَوْنًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ عَنْ الْمُتَّهَمِ .
( السَّابِعُ ) أَنَّ أَبَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَتَلَ أَخَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَاتِلٌ أَنَّهُ كَالْقَاتِلِ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّهْمَةِ ، وَاحْتَجُّوا بِتِسْعَةِ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ لِهِنْدَ خُذِي لَك وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ } ، وَلَمْ يُكَلِّفْهَا الْبَيِّنَةَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ قِصَّةَ هِنْدَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّبْلِيغُ فُتْيَا لَا حُكْمٌ ،

وَالتَّصَرُّفُ بِغَيْرِهَا قَلِيلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى حَاضِرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ .
( وَثَانِيهَا ) مَا رَوَاهُ الِاسْتِذْكَارُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ادَّعَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ انْهَضْ إلَى الْمَوْضِعِ فَنَظَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْمَوْضِعِ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَا هُنَا فَضَعْهُ هَا هُنَا فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ خُذْهُ لَا أُمَّ لَك وَضَعْهُ هُنَا فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ ، وَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْت أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ وَأَذْلَلْته لِي بِالْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مَا ذَلَلْتُ بِهِ لِعُمَرَ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَحْسُنُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَكَانَتْ مُجْمَلَةً فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا .
( وَثَالِثُهَا ) قَوْله تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } وَقَدْ عُلِمَ الْقِسْطُ فَيُقَوِّمُ بِهِ ، وَجَوَابُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقِسْطِ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا مُحَرَّمٌ .
( وَرَابِعُهَا ) أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُحْكَمَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْبَيِّنَةِ فَالْعِلْمُ أَوْلَى ، وَمِنْ الْعَجَبِ جَعْلُ الظَّنِّ خَيْرًا مِنْ الْعِلْمِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ إلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُ لِلتُّهْمَةِ

، وَفَسَادِ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ أَوْجَبَ مَرْجُوحِيَّتِهِ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الْقَضَاءِ يَخْرِقُ الْأُبَّهَةَ ، وَيَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ .
( وَخَامِسُهَا ) أَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْبَيِّنَةِ فَيَقْبَلُ مَنْ لَا يُقْبَلُ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ التُّهْمَةَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ أَضْعَفُ بِخِلَافِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهَمَ كُلَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةٌ بَلْ بَعْضُهَا .
( وَسَادِسُهَا ) أَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ بِمَا نَقَلَتْهُ الرُّوَاةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ، وَيَحْكُمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْفُتْيَا تُثْبِتُ شَرْعًا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْقَضَاءُ فِي فَرْدٍ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ فَخَطَرُهُ أَقَلُّ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالسَّمَاعَ وَالرُّؤْيَةَ اسْتَوَى الْجَمِيعُ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ .
( وَسَابِعُهَا ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِعِلْمِهِ لِفِسْقٍ فِي صُوَرٍ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَعْلَمَ وِلَادَةَ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَتَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَهُ مِنْ وَطْئِهَا ، وَهِيَ ابْنَتُهُ ، وَهُوَ فِسْقٌ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَعْلَمَ قَتْلَ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فَتَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ فَإِنْ قَبِلَهَا ، وَقَتَلَهُ قَتَلَ الْبَرِيءَ ، وَهُوَ فِسْقٌ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( وَمِنْهَا ) لَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ ثَلَاثًا فَأَنْكَرَ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدَةٍ فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَهُوَ فِسْقٌ ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِعِلْمِهِ بَلْ تَرْكُ الْحُكْمِ ، وَتَرْكُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ لَيْسَ فِسْقًا ، وَتَرْكُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ ( وَثَامِنُهَا ) { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى

فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَشْهَدُ لَك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَشْهَدُ وَلَا حَضَرْت فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُصَدِّقُك أَفَلَا نُصَدِّقُك فِي هَذَا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ } فَهَذَا وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ يَدُلُّ لَنَا مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِهِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي التُّهْمَةِ مِنْ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخَذَ الْفَرَسَ قَهْرًا مِنْ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ حَكَمَ أَمْ لَا ، وَهَلْ جَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَتَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ مُبَالَغَةً فَمَا تَعَيَّنَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا سَمَّى خُزَيْمَةَ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ مُبَالَغَةً لَا حَقِيقَةً .
( وَتَاسِعُهَا ) الْقِيَاسُ عَلَى التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّهُ فِي التَّجْرِيحِ أَوْ التَّعْدِيلِ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ نَفْيًا لِلتَّسَلْسُلِ الْحَاصِلِ إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْجَرْحِ أَوْ التَّعْدِيلِ ، وَتَحْتَاجُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةً أُخْرَى ، وَهَكَذَا بِخِلَافِ صُورَةِ النِّزَاعِ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْمَعُونَةِ قَدْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا ، وَإِلَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ غَيْرُهُ مِنْ نَقْضِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ تَرْكُ شَهَادَتِهِ ، وَتَفْسِيقُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ : إذَا حَكَمَ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ أَوْ بَعْدَهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ

الْحُكُومَةِ أَوْ فِيهِ فَلِلْقَاضِي الثَّانِي نَقْضُهُ فَإِنْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بَعْدَ جُلُوسَهُمَا لِلْحُكُومَةِ ثُمَّ أَنْكَرَ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَحْكُمُ بِهِ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَحْكُمُ بِهِ فَلَوْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَوْضِعٍ يَقْبَلُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ، وَلَا أَرَى أَنْ يُبَاحَ هَذَا الْيَوْمَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ ، وَاخْتُلِفَ إذَا حَكَمَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ هُوَ نَفْسُهُ مَا كَانَ قَاضِيًا لَمْ يُعْزَلْ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ فَلَا أُحِبُّ لَهُ نَقْضَهُ قَالَ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقُضُهُ هُوَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ رَأْيِهِ ، وَقِيلَ لَا يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ رَأْيٍ إلَى رَأْيٍ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ شَيْئًا ، وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِمِثْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْقُضْهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي مَعَ فَسَادِ حَالِ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ حِينَئِذٍ يَدَّعِي الْعَدَالَةَ فَيَنْقُضُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّرِيعَةِ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ يُنْقَضُ ، وَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ فِي النَّقْضِ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاَلَّذِي يَنْقُضُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُهُ فَالْحُكْمُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ يُنْقَضُ فَنَقَضَهُ لِذَلِكَ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا نَقْضُ الْحُكْمِ إذَا وَقَعَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَقْضِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ هُوَ بِدْعَةٌ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ بَلْ

أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ إلَّا بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَالْحُكْمُ الْوَاقِعُ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَغَيْرِهِ فَإِنَّهَا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَتَطَرَّقُ النَّقْضُ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَنَدُ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ لَيْسَ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ ، وَأَنَّا لَا نَعْتَقِدُهُ مُدْرَكًا بَلْ مُسْتَنَدًا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ كَمَا يَنْقُضُهُ إذَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ فِي النَّقْضِ جَمِيعُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَدَارِكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنِّي قَدْ تُرَجَّحُ عِنْدِي فِيمَا وَضَعْته فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمُدْرَكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ فِيهِ ، وَيُعَيِّنُهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ الْمُدْرَكِ مَوْطِنُ اجْتِهَادٍ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالْحُكْمِ فِيهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ا هـ .
كَلَامُ الْأَصْلِ بِلَفْظِهِ وَسَلَّمَهُ ، وَسَائِرَ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ إنْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِيهَا الْمَدَارِكُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ فَحُكْمُهُ إنْشَاءُ رَفْعٍ لِلْخِلَافِ فَإِذَا قَضَى الْمَالِكِيُّ مَثَلًا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ فِي الَّتِي عُلِّقَ طَلَاقُهَا عَلَى نِكَاحِهَا فَقَضَاؤُهُ إنْشَاءُ نَصٍّ خَاصٍّ وَارِدٍ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا بِعَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ اسْتِنَادًا لِدَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَذِهِ الصُّورَةِ وَلِغَيْرِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَصًّا خَالِصًا وَارِدًا مِنْ قِبَلِهِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ ، وَقَطْعًا

لِلْمُشَاجَرَةِ ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ إذَا تَعَارَضَ خَاصٌّ وَعَامٌّ قُدِّمَ الْخَاصُّ نَعَمْ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفْتِيَ وَيَحْكُمَ فِي غَيْرِهَا بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ كَذَا لَوْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ ، وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ ، وَهَكَذَا حُكْمُهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ كَانَ دَاخِلَ الْمَذْهَبِ أَوْ خَارِجَهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ ، وَرُفِعَ الْخِلَافُ إلَخْ قُلْت وَهَذَا فِي الْمُجْتَهِدِ أَوْ الْمُقَلِّدِ الَّذِي مَعَهُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ مِنْ النَّظَرِ مَا يُرَجِّحُ بِهِ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَمُحْجَرٌ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ أَوْ الرَّاجِحُ أَوْ مَا بِهِ الْعَمَلُ فَحُكْمُهُ بِذَلِكَ إخْبَارٌ وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ نَعَمْ إذَا تَسَاوَى الْقَوْلَانِ فِي التَّرْجِيحِ فَحُكْمُهُ إنْشَاءُ رَفْعٍ لِلْخِلَافِ ، وَخَرَجَ بِاجْتِهَادِيَّةٍ حُكْمُ حُكْمِهِ فِي مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ مَحْضٌ لَا إنْشَاءَ فِيهِ لِتَعْيِينِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَثُبُوتِهِ ، وَيُقَيِّدُ التَّقَارُبُ إلَخْ الْمُدْرَكَ الضَّعِيفَ كَالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَاسْتِسْعَاءِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ بِسُقُوطِهِمَا إخْبَارٌ مَحْضٌ ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِهِمَا يُنْقَضُ لِضَعْفِ الْمُدْرَكِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ ، وَيُقَيِّدُ الْمَصْلَحَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْعِبَادَاتُ ، وَتَحْرِيمُ السِّبَاعِ ، وَطَهَارَةُ الْأَوَانِي وَالْمِيَاهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ لَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلْآخِرَةِ فَهَذِهِ تَدْخُلُهَا الْفَتْوَى فَقَطْ إذْ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ بِخِلَافِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْأَمْلَاكِ وَالْأَوْقَافِ وَالرُّهُونِ وَنَحْوِهَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْمَصْلَحَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ ، وَكَذَا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَهُوَ حُكْمٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ

وَالْأَغْنِيَاءِ لَا إنْ أَخْبَرَ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَفَتْوَى فَقَطْ ا هـ .
الْمُرَادُ بِتَوْضِيحِ مَا هُوَ عَيْنُ مَا يَأْتِي لِلْأَصْلِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ ، وَيَأْتِي فِيهِ مَا لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ مِنْ الْبَحْثِ فَتَرَقَّبْ .

( فَائِدَتَانِ الْأُولَى ) الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ ، وَبِكَسْرِهَا الدَّلِيلُ ، وَهُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ تَسْلِيمُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ بِأَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ اسْتِلْزَامِهِ الدَّلِيلَ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَشَاهِدُهُ أَيْ الدَّالُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } فِي جَوَابِ { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } الْمَحْكِيِّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَيْ صَحِيحُ ذَلِكَ لَكِنْ هُمْ الْأَذَلُّ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَعَزُّ ، وَقَدْ أَخْرَجَاهُمْ فَقَدْ سَلِمَ مُوجَبُ الدَّلِيلِ وَمُقْتَضَاهُ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي الْأَعَزِّ مَنْ هُوَ ، وَالْأَذَلُّ مَنْ هُوَ ، وَلَيْسَ هُوَ تَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ فَقَطْ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْمَعَانِي كَمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَشَرْحِ الْمَحَلِّيّ وَعَطَّارِهِ ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } مُسَلَّمٌ مُقْتَضَاهُ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ أَيْ الْعَدْلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ مِنْهُ أَمْ لَا ، وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَنَا فَتَنَبَّهْ قَالَ الْعَطَّارُ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، وَجَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ مِنْ الْقَوَادِحِ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي تَسْلِيمَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَسْلِيمَ الدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعِي الْمُسْتَدِلِّ بَلْ تَسْلِيمُ صِحَّتِهِ عَلَى خِلَافِهِ فَهُوَ قَادِحٌ فِي الْعِلَّةِ ا هـ .
بِتَوْضِيحٍ ( الثَّانِيَةُ ) فِي شَرْحِ التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ مِثْلُ التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ تَأْدِيبُ مَنْ أَسَاءَ عَلَيْهِ ، وَضَرْبُ خَصْمٍ لَهُ إلَخْ فَمَا يُسْتَنَدُ فِيهِ لِعِلْمِهِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ا هـ فَافْهَمْ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَتْوَى وَقَاعِدَةِ الْحُكْمِ ) : وَيَنْبَنِي عَلَى الْفَرْقِ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا قَالَ فِي الْفُتْيَا فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْفُتْيَا فَقَطْ فَكُلُّ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنْ الْإِخْبَارَاتِ فَهِيَ فُتْيَا فَقَطْ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ ، وَلَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَيَكُونُ نَجِسًا فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَلْ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فُتْيَا إنْ كَانَتْ مَذْهَبَ السَّامِعِ عَمِلَ بِهَا ، وَإِلَّا فَلَهُ تَرْكُهَا ، وَالْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ ، وَيَلْحَقُ بِالْعِبَادَاتِ أَسْبَابُهَا فَإِذَا شَهِدَ بِهِلَالِ رَمَضَانَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَأَثْبَتَهُ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ ، وَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَاكِمٌ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي الدَّيْنُ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُسْقِطُهَا أَوْ مِلْكُ نِصَابٍ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُبَاحِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْأَضَاحِيِّ ، وَالْعَقِيقَةِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَوْ فِي أَسْبَابِهَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ بَلْ يَتَّبِعُ مَذْهَبَهُ فِي نَفْسِهِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا فِي عِبَادَةٍ ، وَلَا فِي سَبَبِهَا وَلَا شَرْطِهَا ، وَلَا مَانِعِهَا ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَالَ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا هَلْ تَفْتَقِرُ الْجُمُعَةُ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ أَمْ لَا ، وَلِلنَّاسِ أَنْ يُقِيمُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ صُورَةُ الْمَشَاقَّةِ

، وَخَرْقُ أُبَّهَةِ الْوِلَايَةِ ، وَإِظْهَارُ الْعِنَادِ وَالْمُخَالَفَةِ فَتُمْنَعُ إقَامَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ مَوْطِنُ خِلَافٍ اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ ، وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا أَنْشَأَهُ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِيهَا الْمَدَارِكُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ فَاشْتِرَاطِي قَيْدَ الْإِنْشَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ حُكْمِهِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ ، وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ يُنْشِئُ حُكْمًا ، وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا ، وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَوْ قَضَى فِي امْرَأَةٍ عُلِّقَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِالنَّقْضِ ، وَلُزُومِ الطَّلَاقِ نَصٌّ خَاصٌّ تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعَيَّنَةُ ، وَهُوَ نَصٌّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُشَاجَرَاتِ ، وَهَذَا النَّصُّ الْوَارِدُ مِنْ هَذَا الْحَاكِمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الشَّافِعِيُّ يُفْتِي بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْهَا لِتَنَاوُلِهَا نَصٌّ خَاصٌّ بِهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ ، وَيُفْتِي الشَّافِعِيُّ بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِمْرَارِ

الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ وَأَفْتَى فِيهِ بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ ، وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِأَجَلِ مَا أَنْشَأَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْحُكْمِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَقَوْلِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ احْتِرَازٌ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَالِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَذَّرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا ، وَقَوْلِي تَتَقَارَبُ مَدَارِكُهَا احْتِرَازٌ مِنْ الْخِلَافِ الشَّاذِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَلْ يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ إذَا حَكَمَ بِالْفَتْوَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُدْرَكِ ، وَقَوْلِي لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا احْتِرَازٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْفَتْوَى بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ ، وَطَهَارَةِ الْأَوَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ لَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلْآخِرَةِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرُّهُونِ وَالْأَوْقَافِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا ذَلِكَ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَعَ الْفُتْيَا فَيُجْمَعُ الْحُكْمَانِ ، وَمِنْهَا لَا يَقْبَلُ إلَّا الْفَتْوَى ، وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا أَيْضًا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَقَعَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى أَوْ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ ، وَالْإِنْشَاءِ ، وَأَيْضًا يَظْهَرُ أَنَّ إخْبَارَ الْحَاكِمِ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَتْوَى ، وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَحُكْمٌ ، وَفَتْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ .
وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ ، وَلِذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السُّعَاةِ ، وَالْجُبَاةِ فِي الزَّكَاةِ أَحْكَامٌ لَا نَنْقُضُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا ، وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَذْهَبَنَا ، وَيَظْهَرُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ

أَيْضًا سِرُّ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ كَاسْتِثْنَاءِ الْمُصَرَّاةِ ، وَالْعَرَايَا ، وَالْمُسَاقَاةِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ ، وَيَظْهَرُ بِهَذَا أَيْضًا أَنَّ التَّقْرِيرَاتِ مِنْ الْحُكَّامِ لَيْسَتْ أَحْكَامًا فَتَبْقَى الصُّورَةُ قَابِلَةً لِحُكْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مَا قَضَى بِهِ مِنْ نَقْلِ الْأَمْلَاكِ ، وَفَسْخِ الْعُقُودِ فَهُوَ حُكْمٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْحَادِثَةِ لَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ كَامْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِلَ ، وَجَاءَ قَاضٍ بَعْدَهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ بِحُكْمٍ ، وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ حُكْمٌ لِأَنَّهُ أَمْضَاهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِإِجَازَتِهِ فَلَا يُنْقَضُ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ ، وَقَالَ إنَّهُ حُكْمٌ فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِيهِ بِإِمْضَائِهِ أَوْ فَسْخِهِ أَمَّا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا النِّكَاحُ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزُ هَذَا النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِ هَذَا النِّكَاحِ بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ فَتْوَى ، وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ أَوْ رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَهُوَ فَتْوَى مَا لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ عَلَى عَيْنِ الْحُكْمِ قَالَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خِلَافًا قَالَ وَإِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ، وَلَيْسَ بِنَقْلِ مِلْكٍ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الْآخَرِ ، وَلَا فَصْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَا إثْبَاتِ عَقْدٍ ، وَلَا فَسْخِهِ مِثْلُ رَضَاعِ كَبِيرٍ فَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَضَاعٌ مُحَرَّمٌ .
وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَجْلِهِ فَالْفَسْخُ حُكْمٌ ، وَالتَّحْرِيمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَثْبُتُ بِحُكْمِهِ بَلْ هُوَ

مَعْرِضٌ لِلِاجْتِهَادِ أَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَفَسَخَ نِكَاحَهَا ، وَحَرَّمَهَا عَلَى زَوْجِهَا فَفَسْخُهُ حُكْمٌ دُونَ تَحْرِيمِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَحُكْمُهُ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ فَتْوَى لَيْسَ حُكْمًا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَهِدَهُ ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِمَنْ يَأْتِي مِنْ الْحُكَّامِ وَالْفُقَهَاءِ فَظَهَرَ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْفَتَاوِي ، وَالْمَبَاحِثِ أَنَّ الْفَتْوَى وَالْحُكْمَ كِلَاهُمَا إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُهُمَا ، وَكِلَاهُمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَكِنْ الْفَتْوَى إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إلْزَامٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، وَالْحُكْمُ إخْبَارٌ مَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِلْزَامُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ أَنَّ الْمُفْتِيَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْقَاضِي يَنْقُلُ مَا وَجَدَهُ عَنْ الْقَاضِي ، وَاسْتَفَادَهُ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ تَرْكٍ ، وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ يُنْشِئُ الْأَحْكَامَ ، وَالْإِلْزَامَ بَيْنَ الْخُصُومِ ، وَلَيْسَ بِنَاقِلٍ ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ مُسْتَنِيبُهُ قَالَ لَهُ أَيُّ شَيْءٍ حَكَمْت بِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَقَدْ جَعَلْته حُكْمِي فَكِلَاهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَاضِي ، وَمُطِيعٌ لَهُ ، وَسَاعٍ فِي تَنْفِيذِ مَوَادِّهِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يُنْشِئُ ، وَالْآخَرُ يَنْقُلُ نَقْلًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ لَهُ فِي الْإِنْشَاءِ كَذَلِكَ الْمُفْتِي ، وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَابِلٌ لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْحَاكِمَ مُنْشِئٌ ، وَالْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ مَحْضٌ ، وَقَدْ ، وَضَعْت فِي هَذَا الْمَقْصِدِ كِتَابًا سَمَّيْته الْإِحْكَامَ فِي الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ ، وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي ، وَالْإِمَامِ ، وَفِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَكَرْت فِيهِ نَحْوَ ثَلَاثِينَ نَوْعًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ

الْحَاكِمِ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ ، وَلْنَقْتَصِرْ هُنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي هَذَا الْفَرْقِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ قَاعِدَةُ الْفَتْوَى وَقَاعِدَةُ الْحُكْمِ إلَى قَوْلِهِ وَإِلَّا فَلَهُ تَرْكُهَا ، وَالْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ ) : قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَيَلْحَقُ بِالْعِبَادَاتِ أَسْبَابُهَا فَإِذَا شَهِدَ بِهِلَالِ رَمَضَانَ وَاحِدٌ فَأَثْبَتَهُ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ ، وَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ ) قُلْت فِيمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ حُكْمٌ يَلْزَمُ جَمِيعَ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَاكِمٌ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الدَّيْنَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُسْقِطُهَا أَوْ مِلْكَ نِصَابٍ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ إلَى قَوْلِهِ لَا فِي عِبَادَةٍ ، وَلَا فِي سَبَبِهَا ، وَلَا شَرْطِهَا وَلَا مَانِعِهَا ) قُلْت لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ يَلْزَمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْحَاكِمَ مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ مَا بُنِيَ عَلَى ذَلِكَ الثُّبُوتِ كَمَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ، وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِهَا لَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ قَالَ ( وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَالَ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا إلَى قَوْلِهِ ، وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ) قُلْت بَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ لِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ اتَّصَلَ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُكْمِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا أَنْشَأَهُ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِيهَا الْمَدَارِكُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ فَاشْتِرَاطِي قَيْدَ الْإِنْشَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ حُكْمِهِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ ) قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إخْبَارٌ

بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ تَنْفِيذٌ مَحْضٌ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ إلَّا التَّنْفِيذُ ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَنَّ حَاكِمًا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِوَجْهِ الثُّبُوتِ أَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو مِائَةَ دِينَارٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ إنَّ مَوَاقِعَ الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بَلْ الْإِخْبَارُ بِوَجْهٍ أَصْلًا قَالَ ( وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ يُنْشِئُ حُكْمًا ، وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت إلْزَامُهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ وَإِمْضَاؤُهُ بِعَيْنِهِ قَالَ ( وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ) قُلْت وَكَيْفَ يَكُونُ إنْشَاءً ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبَرًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ قَالَ ( وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا ، وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ ) قُلْت لَا كَلَامَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
وَكَيْفَ يَكُونُ إنْشَاءُ الْحَاكِمِ الْحُكْمَ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ نَصًّا خَاصًّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ أَحَدُكُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } وَكَيْفَ يَصِحُّ الْخَطَأُ فِيمَا فِيهِ النَّصُّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا كَلَامٌ بَيِّنُ الْخَطَأِ بِلَا شَكٍّ فِيهِ ، وَمَا تَخَيَّلَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ يُعَيِّنُ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ وَثَبَاتِهِ ،

وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَوْ لَمْ يُنَفَّذْ لَا لِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْشَاءٌ مِنْ الْحَاكِمِ مَوْضُوعٌ كَنَصٍّ خَاصٍّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( وَقَوْلِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ احْتِرَازٌ مِنْ مَوْقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَالِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَذَّرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا ) قُلْت هَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ أَيْضًا ، وَكَمَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْحُكْمُ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ ثَابِتٌ بِالْخِلَافِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ كِلَاهُمَا حَقٌّ وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ أَحَدُهُمَا حَقٌّ ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنْ ثَبَتَ الْعُذْرُ لِلْمُكَلَّفِ فِي ذَلِكَ ، وَمَا أَوْقَعَهُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ إلَّا الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي لَفْظِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ يُقَالُ الْحُكْمُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى النِّكَاحِ اللُّزُومُ لِلْمُقَلِّدِ الْمَالِكِيِّ ، وَيُقَالُ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْفُلَانِيُّ عَلَى فُلَانٍ مُعَلِّقِ الطَّلَاقِ لُزُومُ الطَّلَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ لُزُومُ الطَّلَاقِ لِكُلِّ مُعَلِّقٍ لِلطَّلَاقِ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ مُقَلِّدٍ لِمَالِكِيٍّ ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الثَّانِي لُزُومُ الطَّلَاقِ بِإِلْزَامِ الْحَاكِمِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ غَيْرِ الْمَالِكِيِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَقَوْلِي تَتَقَارَبُ مَدَارِكُهَا احْتِرَازٌ مِنْ الْخِلَافِ الشَّاذِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَلْ يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ إذَا حُكِمَ بِالْفَتْوَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ ) قُلْت لِلْكَلَامِ فِي الْقَوْلِ الشَّاذِّ وَالْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ مَجَالٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ قَالَ ( وَقَوْلِي لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا احْتِرَازٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْفَتْوَى بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَطَهَارَةِ الْأَوَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ لَا لِلدُّنْيَا إلَى قَوْلِهِ لَا

نَنْقُضُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَذْهَبَنَا ) قُلْت لَا يَصِيرُ مَذْهَبَنَا ، وَلَكِنَّا لَا نَنْقُضُهُ لِمَصْلَحَةِ الْأَحْكَامِ قَالَ ( وَيَظْهَرُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَيْضًا سِرُّ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ إلَى قَوْلِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ ) قُلْت لَا رُجُوعَ هُنَا لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ إنْ كَانَ يَعْنِي قَاعِدَةَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا نُفِّذَ عَلَى مَذْهَبٍ مَا لَا يُنْقَضُ ، وَلَا يُرَدُّ ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْأَحْكَامِ وَرَفْعِ التَّشَاجُرِ وَالْخِصَامِ قَالَ ( وَيَظْهَرُ بِهَذَا أَيْضًا أَنَّ التَّقْرِيرَاتِ مِنْ الْحُكَّامِ لَيْسَتْ أَحْكَامًا إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى مَنْ يَأْتِي مِنْ الْحُكَّامِ وَالْفُقَهَاءِ ) قُلْت ذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَأَكْثَرُهُ أَوْ كُلُّهُ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( فَظَهَرَ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْفَتَاوَى وَالْمَبَاحِثِ أَنَّ الْفَتْوَى ، وَالْحُكْمَ كِلَاهُمَا إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُهُمَا ، وَكِلَاهُمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَكِنْ الْفَتْوَى إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إلْزَامٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، وَالْحُكْمُ إخْبَارٌ مَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ ، وَالْإِلْزَامُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ) قُلْت كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ إنْشَاءً ، وَقَدْ فَرَّقَ هُوَ قَبْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ بَيْنَهُمَا ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ إلْزَامًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مُمْكِنُ الْخَطَأِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ أَنَّ الْمُفْتِيَ مَعَ اللَّهِ كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ

الْقَاضِي بِنَقْلِ مَا وَجَدَهُ عَنْ الْقَاضِي ، وَاسْتَفَادَهُ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ تَرْكٍ ، وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ يُنْشِئُ الْأَحْكَامَ وَالْإِلْزَامَ بَيْنَ الْخُصُومِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ ، وَمَا مَثَّلَ بِهِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ يُرِيدُ بِالْإِنْشَاءِ التَّنْفِيذَ ، وَالْإِمْضَاءَ لِمَا كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَتْوَى ، وَإِلَّا فَلَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَتْوَى وَقَاعِدَةِ الْحُكْمِ ) : وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ ذَلِكَ ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ جِهَتَيْنِ : ( الْجِهَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الْفَتْوَى مَحْضُ إخْبَارٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إلْزَامٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، وَالْحُكْمُ إخْبَارُ مَا لَهُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِلْزَامُ أَيْ التَّنْفِيذُ وَالْإِمْضَاءُ لِمَا كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَتْوَى فَالْمُفْتِي مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْقَاضِي يَنْقُلُ عَنْهُ مَا ، وَجَدَهُ عِنْدَهُ ، وَاسْتَفَادَهُ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ تَرْكٍ ، وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ يُنَفِّذُ وَيُمْضِي بَيْنَ الْخُصُومِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتْوَى ، وَلَيْسَ بِنَاقِلٍ ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ مُسْتَنِيبُهُ قَالَ لَهُ أَيُّ شَيْءٍ حَكَمْت بِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَقَدْ جَعَلْته حُكْمِي فَكَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَرْجَمِ عَنْ الْقَاضِي ، وَنَائِبِ الْقَاضِي مُوَافِقٌ لِلْقَاضِي وَمُطِيعٌ لَهُ وَسَاعٍ فِي تَنْفِيذِ مُرَادِهِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْقُلُ نَقْلًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ لَهُ فِي التَّنْفِيذِ وَالْإِمْضَاءِ بَيْنَ الْخُصُومِ ، وَالْآخَرُ يُنَفِّذُ ، وَيُمْضِي مَا يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ بَيْنَ الْخُصُومِ كَذَلِكَ الْمُفْتِي ، وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَابِلٌ لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ مَحْضٌ ، وَالْحَاكِمُ مُنَفِّذٌ وَمُمْضٍ هَذَا ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ هُوَ مَا صَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَمِنْ قَوْلِهِ ، وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ ذَلِكَ إلَخْ قَالَ قَاضٍ لِخَصْمِهِ اتَّهَمَهُ فِي حُكْمِهِ أَيْ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ لَسْت بِمُؤْمِنٍ فَقَالَ ، وَبِمَ كَفَّرْتنِي قَالَ

لَهُ قَالَ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ا هـ .
( الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْحُكْمُ تَتَأَتَّى فِيهِ الْفَتْوَى ، وَلَا عَكْسَ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ إنَّمَا تَدْخُلُهَا الْفُتْيَا فَقَطْ فَكُلُّ مَا وُجِدَ بِهَا مِنْ الْإِخْبَارَاتِ فَهِيَ فُتْيَا فَقَطْ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ ، وَلَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَيَكُونُ بِحُلُولِ قَلِيلِ نَجَاسَةٍ فِيهِ لَمْ تُغَيِّرْهُ نَجِسًا فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَلْ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فُتْيَا إنْ كَانَتْ مَذْهَبَ السَّامِعِ عَمِلَ بِهَا ، وَإِلَّا فَلَهُ تَرْكُهَا ، وَالْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ قَالَهُ الْأَصْلُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْأَصْلُ ، وَيَلْحَقُ بِالْعِبَادَاتِ أَسْبَابُهَا فَإِذَا شَهِدَ بِهِلَالِ رَمَضَانَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَأَثْبَتَهُ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ ، وَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَاكِمٌ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الدَّيْنَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُسْقِطُهَا أَوْ مِلْكُ نِصَابٍ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِاسْتِعْمَالِ مُبَاحٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْأَضَاحِيِّ وَالْعَقِيقَةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَوْ فِي أَسْبَابِهَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ بَلْ يَتْبَعُ مَذْهَبَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا فِي عِبَادَةٍ ، وَلَا فِي سَبَبِهَا وَلَا شَرْطِهَا وَلَا مَانِعِهَا ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَالَ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا ، وَإِنْ

كَانَتْ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا هَلْ تَفْتَقِرُ الْجُمُعَةِ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ أَمْ لَا ، وَلِلنَّاسِ أَنْ يُقِيمُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ صُورَةُ الْمُشَاقَّةِ ، وَخَرْقُ أُبَّهَةِ الْوِلَايَةِ ، وَإِظْهَارُ الْعِنَادِ وَالْمُخَالَفَةِ فَتَمْتَنِعُ إقَامَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ مَوْطِنُ خِلَافٍ اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ ، وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ا هـ بِلَفْظِهِ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِيمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِثُبُوتِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ حُكْمٌ يَلْزَمُ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْحَاكِمَ مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ مَا بُنِيَ عَلَى ذَلِكَ الثُّبُوتِ كَمَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ، وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِهَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْإِمَامِ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي حُكْمُ حَاكِمٍ اتَّصَلَ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُكْمِهِ كَمَا قَالَهُ ذَلِكَ الْفَقِيهُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .
قُلْت وَخَالَفَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي قَوْلِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْإِمَامِ إلَخْ حَيْثُ وَافَقَ مَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ الْبُلْقِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ قَاضٍ حَضَرَ عِنْدَ سُلْطَانٍ ، وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعٍ بَنَاهُ ذَلِكَ السُّلْطَانُ فَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي نَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ ، وَهَذَا الْكَلَامُ بَاطِلٌ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ ، وَلَا نَحْوُهُ تَحْتَ الْحُكْمِ اسْتِقْلَالًا ، وَلَا تَضَمُّنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكِنْ يَدْخُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاقِعَةٍ

خَاصَّةٍ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى إلْزَامِ الشَّخْصِ لَا مُطْلَقًا ا هـ .
وَأَمَّا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَضَبَطَهُ الْأَصْلُ بِأَرْبَعَةِ قُيُودٍ فَقَالَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَنْشَأَهُ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِي الْمَدَارِكِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ قَالَ فَقَيْدُ الْإِنْشَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ حُكْمِهِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ ، وَأَمَّا فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ يُنْشِئُ حُكْمًا ، وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَإِذَا قَضَى الْمَالِكِيُّ فِيمَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ وُضُوءُهُ بِنَقْضِ وُضُوئِهِ أَوْ قَضَى فِي امْرَأَةٍ عُلِّقَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ تَنَاوَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ، وَكَانَ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِالنَّقْضِ وَلُزُومِ الطَّلَاقِ نَصًّا خَاصًّا تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعَيَّنَةُ ، وَهُوَ نَصٌّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ لِلْحُكَّامِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُشَاجَرَاتِ ، وَهَذَا النَّصُّ الْوَارِدُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَيَصِيرُ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ مَثَلًا مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذَا تَعَارَضَا فَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الشَّافِعِيُّ يُفْتِي بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَهَا نَصٌّ خَاصٌّ بِهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا

يُفْتِي الشَّافِعِيُّ بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ ، وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِأَجْلِ مَا أَنْشَأَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْحُكْمِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ ، وَقُيِّدَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ احْتِرَازًا عَنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَالِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَذَّرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا ، وَقُيِّدَ تَتَقَارَبُ مَدَارِكُهَا احْتِرَازًا مِنْ الْخِلَافِ الشَّاذِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَلْ يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ إذَا حُكِمَ بِالْفَتْوَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ ، وَقُيِّدَ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا احْتِرَازًا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْفَتْوَى بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَطَهَارَةِ الْأَوَانِي ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ لَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلْآخِرَةِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرُّهُونِ وَالْأَوْقَافِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ قِسْمَانِ : ( الْأَوَّلُ ) مَا يَقْبَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَعَ الْفَتْوَى فَيَجْتَمِعُ الْحُكْمَانِ ( وَالثَّانِي ) مَا لَا يَقْبَلُ إلَّا الْفَتْوَى ، وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا أَيْضًا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَقَعَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى أَوْ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْإِنْشَاءِ ، وَأَيْضًا يَظْهَرُ أَنَّ إخْبَارَ الْحَاكِمِ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَتْوَى ، وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَحُكْمٌ وَفَتْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ ،

وَلِذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السُّعَاةِ وَالْجُبَاةِ فِي الزَّكَاةِ أَحْكَامٌ لَا نَنْقُضُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا ا هـ .
وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الضَّابِطُ الْعَلَّامَةُ التَّسَوُّلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُيُودَ ثَلَاثَةً مُسْتَغْنِيًا عَنْ قَيْدِ الْإِنْشَاءِ بِقَيْدٍ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تُرْشِدُ لِذَلِكَ عِبَارَةُ الْأَصْلِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِبَارَةُ التَّسَوُّلِيِّ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فَلَا تَغْفُلْ ، وَخَالَفَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ أَوَّلًا فِي كَوْنِ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مُطْلَقًا كَانَتْ مِنْ مَوَاطِنِ الْخِلَافِ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ إنَّ دُخُولَ الْحُكْمِ فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ بِالصِّحَّةِ ، وَالْمُوجِبُ اسْتِقْلَالٌ وَاضِحٌ ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاتِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَاوَضَاتِ كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ ، وَبِالْمُوجِبِ فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ ، وَمِنْهَا الصَّيْدُ فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي صَيْدٍ ، وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ ، وَتَصَادَقَا عَلَى فِعْلَيْنِ صَدَرَا مِنْهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَثَلًا أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ الْمَالِكُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا صَحِيحًا ، وَثَابِتًا فِي الْعِبَادَاتِ ، فَقَسَمَهَا بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْحُكْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) مَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ قَالَ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَى جَوَازَ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجِبِهِ عِنْدَهُ ، وَهُوَ سُقُوطُ

الْفَرْضِ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ ، وَالْمُوجِبُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً ، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَدْخُلُهُ أَيْضًا ، وَذَلِكَ إذَا صَامَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرَجَ الطَّعَامُ فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْهُ ، وَتَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِمُوجِبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ حِينَئِذٍ ، وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الْوَارِثَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ .

( وَالثَّانِي ) مَا لَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا بَلْ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ فَقَطْ ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ وَالْأُضْحِيَّةُ قَالَ ( أَمَّا الطَّهَارَةُ ) فَلَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَلَا بِالْمُوجِبِ اسْتِقْلَالًا لَكِنْ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَى طَهَارَةِ مَاءٍ أَوْ نَجَاسَةٍ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْ الْمُعَلَّقِ لِوُجُودِ صِفَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالتَّضَمُّنِ مِثْلُ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بِوُضُوءٍ خَالٍ عَنْ النِّيَّةِ أَوْ مَعَ وُجُودِ مَسِّ الذَّكَرِ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِعَدَالَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَالْحَاكِمُ مُعْتَقِدٌ صِحَّةَ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مُتَضَمِّنًا صِحَّةَ وُضُوءُهُ ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الصَّلَاةِ الْخَالِيَةِ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ، وَعَنْ الطُّمَأْنِينَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا ، وَقَدْ يَدْخُلُهَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ فِي التَّعْلِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( وَالثَّالِثُ ) مَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا وَتَضَمُّنًا ، وَهُوَ الِاعْتِكَافُ وَالْحَجُّ قَالَ أَمَّا الِاعْتِكَافُ فَيَدْخُلُهُ اسْتِقْلَالًا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا أَنَّهُ يَقْضِي لِلْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ بِالِاعْتِكَافِ الْيَسِيرِ ، وَمِنْهَا مَنْ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَلَهُ مَنْعُهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ ، وَكَذَا لَوْ اعْتَكَفَ الْمِدْيَانُ هُرُوبًا مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ ، وَمِنْهَا إذَا وَطِئَ الْمُعْتَكِفُ أَدَّبَهُ الْحَاكِمُ ، وَيَدْخُلُهُ تَضَمُّنًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ أَيْ مِثْلُ مَا إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِعَدَالَةِ مَنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ صَوْمٍ ، وَالْحَاكِمُ مُعْتَقِدٌ صِحَّةَ ذَلِكَ الِاعْتِكَافِ كَانَ حُكْمُهُ بِعَدَالَتِهِ

مُتَضَمِّنًا صِحَّةَ اعْتِكَافِهِ .
وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَدْخُلُهُ اسْتِقْلَالًا فِي نَحْوِ مَا لَوْ فَسَخَ حَنْبَلِيٌّ حَجَّهُ إلَى عُمْرَةٍ حَيْثُ يَسُوغُ عِنْدَهُ ذَلِكَ ، وَلَهُ زَوْجَةٌ لَيْسَ مُعْتَقَدُهَا ذَلِكَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ حَنْبَلِيٍّ فَحَكَمَ عَلَيْهَا بِصِحَّةِ مَا فَعَلَ زَوْجُهَا الْحَنْبَلِيُّ أَوْ بِمُوجِبِ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَهُمَا مُسْتَوِيَانِ ، وَيَدْخُلُهُ تَضَمُّنًا فِيمَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالتَّمْكِينِ لِتَضَمُّنِهِ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ مَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ ، وَهُوَ نَفْسُ الْمُوجِبِ ا هـ .
قُلْت وَمُخَالَفَتُهُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ سَيَتَّضِحُ لَك وَجْهُهَا ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهَا ، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَلْخِيصِ بَعْضِ كَلَامِهِ فِي الْعِبَادَاتِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ كَلَامِ الْبُلْقِينِيِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبَعْضِهِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَلَعَلَّ مِمَّا لَخَصَّهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلْقِينِيِّ مُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ فِي الْعِبَادَاتِ فَافْهَمْ .
وَأَمَّا الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ فَنَظَرَ فِي كَلَامِهِ فِي مَوَاضِعَ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُهُ إنَّ مَوَاقِعَ الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بَلْ الْإِخْبَارُ حَيْثُ قَالَ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أَصْلًا إذْ لَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ إلَّا التَّنْفِيذُ ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِوَجْهِ الثُّبُوتِ أَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو مِائَةَ دِينَارٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ قَالَ وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ بِتَعَذُّرِ الْإِنْشَاءِ فِي الْأَوَّلِ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الثَّانِي سَاقِطٌ إذْ كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْحُكْمُ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ ثَابِتٌ

بِالْخِلَافِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ كِلَاهُمَا حَقٌّ ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ أَحَدُهُمَا حَقٌّ ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنْ ثَبَتَ الْعُذْرُ لِلْمُكَلَّفِ فِي ذَلِكَ ، وَمَا أَوْقَعَهُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ إلَّا الِاشْتِرَاكَ الَّذِي فِي لَفْظِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ يُقَالُ الْحُكْمُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى النِّكَاحِ اللُّزُومُ لِلْمُقَلِّدِ الْمَالِكِيِّ ، وَيُقَالُ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْفُلَانِيُّ عَلَى فُلَانٍ مُعَلِّقِ الطَّلَاقِ لُزُومُ الطَّلَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ لُزُومُ الطَّلَاقِ لِكُلِّ مُعَلِّقٍ لِلطَّلَاقِ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ مُقَلِّدٍ لِمَالِكِيٍّ ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الثَّانِي لُزُومُ الطَّلَاقِ بِإِلْزَامِ الْحَاكِمِ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ غَيْرِ مَالِكِيٍّ ا هـ .
قُلْت وَيُوَافِقُهُ إطْلَاقُ ابْنِ فَرْحُونٍ أَنَّ غَيْرَ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ ( الْمَوْضِعُ الثَّانِي ) قَوْلُهُ وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ إذْ كَيْفَ يَكُونُ إنْشَاءً ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبَرًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ( الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ ) قَوْلُهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ حَيْثُ قَالَ لَا كَلَامَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ قَوْلِهِ هَذَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إذْ كَيْفَ يَكُونُ إنْشَاءُ الْحَاكِمِ الْحُكْمَ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ نَصًّا خَاصًّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ أَحَدُكُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } ، وَكَيْفَ يَصِحُّ الْخَطَأُ فِيمَا فِيهِ النَّصُّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا بَيِّنُ الْخَطَأِ بِلَا شَكٍّ فِيهِ ، وَمَا تَخَيَّلَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ

لَا يَصِحُّ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ يُعَيِّنُ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ وَثَبَاتِهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ لَا لِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْشَاءٌ مِنْ الْحَاكِمِ مَوْضُوعٌ كَنَصٍّ خَاصٍّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِيرُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا مَذْهَبًا لَنَا وَلِغَيْرِنَا مِنْ الْأَحْنَافِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَلَكِنَّا لَا نَنْقُضُهُ ، وَلَا رُجُوعَ هُنَا لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَاعِدَةُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ ، وَلَكِنْ مَا هُنَا يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا نُفِّذَ عَلَى مَذْهَبٍ مَا لَا يُنْتَقَضُ ، وَلَا يُرَدُّ ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْأَحْكَامِ وَرَفْعِ التَّشَاجُرِ وَالْخِصَامِ قَالَ وَلِلْكَلَامِ فِي الْقَوْلِ الشَّاذِّ وَالْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ مَجَالٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ ا هـ .
قَالَ وَمَا قَالَهُ فِي الِاحْتِرَازِ بِقَيْدِ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا إلَى قَوْلِهِ لَا نَنْقُضُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا صَحِيحٌ ا هـ كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ضَابِطَ الْفُتْيَا أَنَّهَا مُجَرَّدُ إخْبَارٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا يَخْتَصُّ لُزُومُهُ بِالْمُقَلِّدِ لِلْمَذْهَبِ الْمُفْتَى بِهِ ، وَضَابِطُ الْحُكْمِ إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ إسْنَادِ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ ، وَتَنْفِيذٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ أَوْ مِنْ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ بِحَيْثُ لَا يُخَصُّ لُزُومُهُ بِمُقَلِّدِ أَيِّ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ لَكِنْ لَا لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذَا تَعَارَضَا بَلْ لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا نُفِّذَ عَلَى مَذْهَبٍ لَا يُنْتَقَضُ إلَخْ فَالْفُتْيَا أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ مَوْقِعًا وَأَخَصُّ لُزُومًا ، وَالْحُكْمُ

بِالْعَكْسِ ثُمَّ هَلْ يَتَرَتَّبُ حُكْمُهُ عَلَى قَوْلِهِ حَكَمْت فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْحَادِثَةِ أَوْ سُكُوتِهِ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْحَادِثَةِ أَوْ سُكُوتِهِ كَانَ حُكْمًا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مَا قُضِيَ بِهِ مِنْ نَقْلِ الْأَمْلَاكِ وَفَسْخِ الْعُقُودِ فَهُوَ حُكْمٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْحَادِثَةِ لَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ كَامْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَأَقَرَّهُ ، وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِلَ ، وَجَاءَ قَاضٍ بَعْدَهُ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ بِحُكْمٍ ، وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ حُكْمٌ لِأَنَّهُ أَمْضَاهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِإِجَازَتِهِ فَلَا يُنْقَضُ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ ، وَقَالَ إنَّهُ حُكْمٌ فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِيهَا بِإِمْضَائِهِ أَوْ فَسْخِهِ أَمَّا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا النِّكَاحُ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزَ هَذَا النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِ هَذَا النِّكَاحِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ فَتْوَى ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ أَوْ رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزَ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَهُوَ فَتْوَى مَا لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ عَلَى عَيْنِ الْحُكْمِ قَالَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خِلَافًا قَالَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا طَرِيقِهِ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ، وَلَيْسَ بِنَقْلِ مِلْكٍ لِأَحَدِ الْخَصْمَانِ إلَى الْآخَرِ ، وَلَا فَصْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَا إثْبَاتِ عَقْدٍ وَلَا فَسْخِهِ مِثْلُ رَضَاعِ كَبِيرٍ فَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَضَاعٌ مُحَرَّمٌ ، وَيَفْسَخُ النِّكَاحَ لِأَجْلِهِ فَالْفَسْخُ حُكْمٌ ، وَالتَّحْرِيمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَثْبُتُ بِحُكْمِهِ بَلْ هُوَ مَعْرِضٌ لِلِاجْتِهَادِ أَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَفَسَخَ نِكَاحَهَا وَحَرَّمَهَا عَلَى زَوْجِهَا فَفَسْخُهُ حُكْمٌ دُونَ تَحْرِيمِهِمَا فِي

الْمُسْتَقْبَلِ ، وَحُكْمُهُ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ فَتْوَى لَيْسَ حُكْمًا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاهَدَهُ ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِمَنْ يَأْتِي مِنْ الْحُكَّامِ وَالْفُقَهَاءِ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ ، وَقَدْ وَضَعْت فِي هَذَا الْمَقْصِدِ كِتَابًا سَمَّيْته الْإِحْكَامَ فِي الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ ، وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ ، وَفِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَكَرْت فِيهِ نَحْوَ ثَلَاثِينَ نَوْعًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ ، وَلْنَقْتَصِرْ هُنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي هَذَا الْفَرْقِ ا هـ .
قُلْت ، وَقَوْلُ ابْنِ مُحْرِزٍ أَمَّا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا النِّكَاحُ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزُ هَذَا النِّكَاحَ إلَى قَوْلِهِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خِلَافًا هُوَ قَوْلُ ابْنِ شَاسٍ ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حُكْمٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا مَرَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ إخْبَارٌ عَنْ رَأْيِهِ وَمُعْتَقَدِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَسْخُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ بَقِيَ سَاكِتًا عَنْهُ ، وَالسُّكُوتُ تَقْرِيرٌ لَهُ ، وَهُوَ حُكْمٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ا هـ .
الْمُرَادُ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّقْرِيرَاتِ مِنْ الْحُكَّامِ لَيْسَتْ أَحْكَامًا فَتَبْقَى الصُّورَةُ قَابِلَةً لِحُكْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ، وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ا هـ .
فَتَحَصَّلَ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَرْقِ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أُمُورٌ : ( الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِأَنَّ الْفَتْوَى أَعَمُّ مَوْقِعًا وَأَخَصُّ لُزُومًا ، وَالْحُكْمُ بِالْعَكْسِ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَدْخُلُهُ

الْحُكْمُ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ كَالنِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَمَا لَا يَدْخُلُهُ كَالْعِبَادَاتِ بِأَنَّ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ لَا يَدْخُلُهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَصَالِح الدُّنْيَا فَيَدْخُلُهُ .
( الْأَمْرُ الثَّالِثُ ) الْفَرْقُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَةُ الْحُكَّامِ وَبَيْنَ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَتُهُمْ لَكِنْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَتُهُمْ نَحْوُ قَوْلِهِ حَكَمْت بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَاَلَّتِي لَمْ تَجْرِ بِهَا نَحْوُ قَوْلِهِ أَسْفَلَ الرَّسْمِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ وَرَدَ عَلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ فَقَبِلْتُهُ قَبُولَ مِثْلِهِ ، وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ أَوْ بِمَضْمُونِهِ فَلَيْسَ بِحُكْمِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي مُوجِبِهِ وَمَضْمُونِهِ عَلَى الْكِتَابِ ، وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْشَاءٍ لَيْسَ بِزُورٍ مَثَلًا فَيَكُونُ مُرَادُهُ تَصْحِيحَ الْكِتَابِ ، وَإِثْبَاتَ الْحُجَّةِ فَلِمَنْ بَعْدَهُ النَّظَرُ فِيهِ فَإِنْ قَالَ حَكَمْتُ بِمُوجِبِ الْإِقْرَارِ أَوْ الْوَقْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ فَهُوَ حُكْمٌ بِصِحَّةِ ذَلِكَ ا هـ .
وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ نَصًّا فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَهُوَ لَفْظُ الْحُكْمِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فَيَلْزَمُ ، وَمَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِصِحَّةِ مَضْمُونِ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ ، وَصِحَّةُ مَضْمُونِ الْكِتَابِ فَلَيْسَ بِلَفْظِ الْحُكْمِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فَلَا يَلْزَمُ بَلْ لِمَنْ بَعْدَهُ النَّظَرُ فِيهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( فَائِدَةٌ ) قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ عِلْمَا الْقَضَاءِ ، وَالْفَتْوَى أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْفِقْهِ كُلِّيٌّ مِنْ حَيْثُ صِدْقُ كُلِّيَّتِهِ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ فَحَالُ الْفَقِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَقِيهٌ كَحَالِ عَالِمٍ

بِكُبْرَى قِيَاسِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَقَطْ ، وَحَالُ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي كَحَالِ عَالِمٍ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِصُغْرَاهُ ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهَا أَشَقُّ وَأَخَصُّ ، وَأَيْضًا فِقْهَا الْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى مَبْنِيَّانِ عَلَى إعْمَالِ النَّظَرِ فِي الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِدْرَاكِ مَا اسْتَمَلْت عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْكَائِنَةِ فِيهَا فَيُلْغِي طَرْدِيَّهَا ، وَيُعْمِلُ مُعْتَبَرُهَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فَقَوْلُهُ ، وَأَيْضًا فِقْهَا إلَخْ هُوَ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِمَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَهُ بِالْمِثَالِ .
وَقَوْلُهُ طَرْدِيُّهَا أَيْ الْأَوْصَافَ الطَّرْدِيَّةَ الَّتِي لَا تَنْبَنِي عَلَى وُجُودِهَا أَوْ فَقْدِهَا ثَمَرَةٌ ، وَهَذَا وَجْهُ تَخْطِئَةِ الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا فَقَدْ يَبْنِي الْقَاضِي وَالْمُفْتِي حُكْمَهُ وَفَتْوَاهُ عَلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالنَّازِلَةِ ، وَيَغْفُلُ عَنْ أَوْصَافِهَا الْمُعْتَبَرَةِ ، وَأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَنَصُّهُ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ ، وَلَكِنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِأُمُورٍ لَا يُحْسِنُهَا كُلُّ الْفُقَهَاءِ ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ عَارِفًا بِفَصْلِ الْخِصَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَاعٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ ، وَلَا غَرَابَةَ فِي امْتِيَازِ عِلْمِ الْقَضَاءِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ ، وَإِنَّمَا الْغَرَابَةُ فِي اسْتِعْمَالِ كُلِّيَّاتِ الْفِقْهِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ ، وَهُوَ عَسِيرٌ فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ ، وَيَفْهَمُ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُ ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ بِبَعْضِ الْعَوَامّ مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا لَا يُحْسِنُ الْجَوَابَ عَنْهَا ، وَلِلشُّيُوخِ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ نَبَّهَ ابْنُ سَهْلٍ أَوَّلَ كِتَابِهِ عَلَى بَعْضِهَا ا هـ .
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي التَّوْضِيحِ : وَعِلْمُ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ أَحَد أَنْوَاعَ الْفِقْهِ لَكِنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِأُمُورٍ لَا

يُحْسِنُهَا كُلُّ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ يُحْسِنُهَا مَنْ لَا بَاعَ لَهُ فِي الْفِقْهِ ا هـ .
هُوَ أَنَّهُ مَنْ لَا بَاعَ لَهُ فِي حِفْظِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَكِنْ مَعَهُ مِنْ الْفَطِنَةِ مَا يُدْخِلُ بِهِ الْجُزْئِيَّاتِ تَحْتَ كُلِّيَّاتِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْحِفْظِ لِمَسَائِلِهِ لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْفَطِنَةِ شَيْءٌ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَلِذَلِكَ نَقَلْته بِرُمَّتِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحَمْقَاءِ اغْتَرَّ بِظَاهِرِ كَلَامِ التَّوْضِيحِ حَتَّى قَالَ إنَّ الْقَضَاءَ صِنَاعَةٌ يُحْسِنُهُ مَنْ لَا شَيْءَ مَعَهُ مِنْ الْفِقْهِ ، وَجَرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَاصِمٍ وَيُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعُ مَعَ كَوْنِهِ الْحَدِيثَ لِلْفِقْهِ جَمْعٌ ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ سَاقِطٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ لَيْسَ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ قُلْت وَمِنْ هَذَا تَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقَاضِي الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ السِّتَّةِ الْآتِيَةِ فَتَنَبَّهْ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحُكْمِ وَقَاعِدَةِ الثُّبُوتِ ) اُخْتُلِفَ فِيهِمَا هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الثُّبُوتَ يُوجِبُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَوَاطِنَ الَّتِي لَا حُكْمَ فِيهَا بِالضَّرُورَةِ إجْمَاعًا فَيَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ ، وَهِلَالُ رَمَضَانَ ، وَتَثْبُتُ طَهَارَةُ الْمِيَاهِ ، وَنَجَاسَتُهَا ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ، وَالتَّحْلِيلُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا .
وَإِذَا وُجِدَ الثُّبُوتُ بِدُونِ الْحُكْمِ كَانَ أَعَمَّ مِنْ الْحُكْمِ ، وَالْأَعَمُّ مِنْ الشَّيْءِ غَيْرُهُ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ الثُّبُوتِ هُوَ نُهُوضُ الْحُجَّةِ كَالْبَيِّنَةِ ، وَغَيْرِهَا السَّالِمَةِ مِنْ الْمَطَاعِنِ فَمَتَى وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُقَالُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِدُونِ الثُّبُوتِ أَيْضًا كَالْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ ، وَأَخَصَّ مِنْ وَجْهٍ ثُمَّ ثُبُوتُ الْحُجَّةِ مُغَايِرٌ لِلْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَالْإِنْشَائِيِّ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فَيَكُونَانِ غَيْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ ، وَيَكُونُ الثُّبُوتُ نُهُوضَ الْحُجَّةِ ، وَالْحُكْمُ إنْشَاءُ كَلَامٍ فِي النَّفْسِ هُوَ إلْزَامٌ أَوْ إطْلَاقٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الثُّبُوتِ ، وَهَذَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الثُّبُوتَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحُكْمِ ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الثُّبُوتُ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَهُ مَعْنَى مَا هُوَ الْحُكْمُ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحُكْمِ وَقَاعِدَةِ الثُّبُوتِ ) .
قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الثُّبُوتِ حُكْمٌ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحُكْمِ وَقَاعِدَةِ الثُّبُوتِ ) وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الثُّبُوتَ نُهُوضُ الْحُجَّةِ كَالْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا السَّالِمَةِ مِنْ الْمَطَاعِنِ يَعْنِي فِي ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ لِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ قَالَهُ التَّسَوُّلِيُّ فَمَتَى وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُقَالُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي ذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ إنْشَاءُ كَلَامٍ فِي النَّفْسِ هُوَ إلْزَامٌ أَوْ إطْلَاقٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الثُّبُوتِ أَعْنِي نُهُوضَ الْحُجَّةِ فَالثُّبُوتُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُهُ قَطْعًا قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَتَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي أَعْلَمُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِاسْتِقْلَالِهِ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي ، وَنَحْوَهُ يَكُونُ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيِّنَةِ ، وَقَبْلَ الْإِعْذَارِ فِيهَا لِأَنَّ الْإِعْذَارَ فَرْعُ ثُبُوتِهَا وَقَبُولِهَا فَلَا يُعْذَرُ لِلْخَصْمِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ، وَفِعْلُهُ جَهْلٌ إذْ الْإِعْذَارُ سُؤَالُ الْحَاكِمِ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ هَلْ لَهُ مَا يُسْقِطُهُ ، وَيَمْتَنِعُ سُؤَالُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ وَالثُّبُوتِ ا هـ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْأَعَمُّ مِنْ الشَّيْءِ كَذَلِكَ غَيْرُهُ بِالضَّرُورَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الثُّبُوتَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يُوجَدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي لَا حُكْمَ فِيهَا بِالضَّرُورَةِ إجْمَاعًا فَيَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ وَهِلَالُ رَمَضَانَ ، وَتَثْبُتُ طَهَارَةُ الْمِيَاهِ وَنَجَاسَتُهَا ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ وَالتَّحَلُّلِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا ، وَالْحُكْمُ أَيْضًا يُوجَدُ بِدُونِ الثُّبُوتِ كَالْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَيَجْتَمِعَانِ فِيمَا عَدَا مَا ذُكِرَ قَالَهُ الْأَصْلُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ نَعَمْ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الثُّبُوتِ

حُكْمٌ فَالْخِلَافُ فِيهِمَا هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ لَفْظِيٌّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
بِتَوْضِيحٍ قُلْت وَقَوْلُهُ نَعَمْ قَدْ يُطْلَقُ إلَخْ أَيْ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ الْحَادِثَةَ أَوْ سُكُوتَهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ حُكْمٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَافْهَمْ .
( تَتِمَّةٌ ) التَّنْفِيذُ غَيْرُ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ تَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ فِي الْمَذْهَبِ وَيَقُولَ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ الْحُكْمِ كَذَا فَهَذَا لَيْسَ حُكْمًا مِنْ الْمُنَفِّذِ أَلْبَتَّةَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا ، وَكَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ، وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ وَالْحَرَامَ قَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مُوجِبَ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ فَهُوَ كُلُّهُ كَحُكْمٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الثَّانِي حَكَمْت بِمَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ ، وَأَلْزَمْت بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الْمَذْهَبِ فَفِي كَوْنِهِ يَقِفُ عَنْ تَنْفِيذِهِ وَإِبْطَالِهِ لِأَنَّهُ إنْ نَفَّذَهُ ، وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا فِيهِ أَلْزَمَهُ مَا لَا يَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَهُ أَوْ كَوْنَهُ يُنَفِّذُهُ ، وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ الْحُكْمُ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَنْ إنْفَاذِهِ كَإِبْطَالِهِ .
وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ تَنْفِيذُ حُكْمِ نَفْسِهِ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِلْزَامَ بِالْحَبْسِ ، وَأَخْذَ الْمَالِ بِيَدِ الْقُوَّةِ ، وَدَفْعَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ ، وَتَخْلِيصَ سَائِرِ الْحُقُوقِ وَإِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ إيقَاعُهُ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ ، وَهُوَ غَيْرُ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ فَالثُّبُوتُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْأُولَى ، وَالْحُكْمُ

هُوَ الرُّتْبَةُ الْوُسْطَى وَالتَّنْفِيذُ هُوَ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ ، وَلَيْسَ كُلُّ الْحُكَّامِ لَهُمْ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ لَا سِيَّمَا لِلْحَاكِمِ الضَّعِيفِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ ، وَلَا يَخْطِرُ لَهُ تَنْفِيذُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَالْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَكَّمَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ ا هـ .
مُلَخَّصًا مِنْ ابْنِ فَرْحُونٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِي التَّحَمُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا ) قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ يَشْهَدُ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ شَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِغَيْرِهِ عَلَى أُمَمِهِمْ بِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، وَصَحَّتْ شَهَادَةُ خُزَيْمَةَ .
وَلَمْ يَحْضُرْ شِرَاءَ الْفَرَسِ ، وَمَدَارِكُ الْعِلْمِ أَرْبَعَةٌ الْعَقْلُ وَأَحَدُ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ وَالِاسْتِدْلَالُ ؛ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَشَهَادَةُ خُزَيْمَةَ كَانَتْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَمِثْلُهُ شَهَادَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَاءَ خَمْرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تَشْهَدُ أَنَّهُ شَرِبَهَا قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ قَاءَهَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا التَّعَمُّقُ فَلَا وَرَبِّك مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ الطَّبِيبِ بِقِدَمِ الْعَيْبِ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوَاتُرِ كَالنَّسَبِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ لِقَوْلِهِ { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وقَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ أَيْ مِثْلَ الشَّمْسِ } فَهَذَا ضَابِطُ مَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ بِالظَّنِّ وَالسَّمَاعِ قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ مَا اتَّسَعَ أَحَدٌ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ كَاتِّسَاعِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ الْحَاضِرُ مِنْهَا عَلَى الْخَاطِرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَوْضِعًا الْأَحْبَاسُ الْمِلْكُ الْمُتَقَادِمُ ، الْوَلَاءُ ، النَّسَبُ ، الْمَوْتُ ، الْوِلَايَةُ ، الْعَزْلُ ، الْعَدَالَةُ ، الْجُرْحَةُ ، وَمَنَعَ سَحْنُونٌ ذَلِكَ فِيهِمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ

الْمَجْرُوحِ وَالْمُعَدَّلِ فَإِنْ أَدْرَكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ ، الْإِسْلَام ، الْكُفْرِ ، الْحَمْلِ ، الْوِلَادَةِ ، التَّرْشِيدِ السَّفَهِ ، الصَّدَقَةِ ، الْهِبَةِ ، الْبَيْعِ ، فِي حَالَةِ الْمُتَقَادِمِ الرَّضَاعِ ، النِّكَاحِ ، الطَّلَاقِ ، الضَّرَرِ ، الْوَصِيَّةِ ، إبَاقِ الْعَبْدِ الْحِرَابَةُ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبُنُوَّةَ ، وَالْأُخُوَّةَ ، وَزَادَ الْعَبْدِيُّ فِي الْحُرِّيَّةَ الْقَسَامَةَ فَهَذِهِ مَوَاطِنُ رَأَى الْأَصْحَابُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ ضَرُورَةٍ فَيَجُوزُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْحِسِّ بَلْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَالْإِعْسَارِ يُدْرَكُ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِقَرَائِنَ كَالصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَالضُّرِّ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْيَقِينِ ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ خِلَافًا فِي الشَّهَادَةِ بِالظَّنِّ بَلْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطٍ فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ الْأَعْمَى قَدْ يَحْصُلُ لَهُ الْقَطْعُ بِتَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ فَيَشْهَدُ بِهَا ، وَيَحْصُلُ لِلْبَصِيرِ الْقَطْعُ بِبَعْضِ الْخُطُوطِ فَيَشْهَدُ بِهَا فَمَا شَهِدَ إلَّا بِالْعِلْمِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ لِالْتِبَاسِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ التَّزْوِيرِ فِي الْخُطُوطِ فَهَذَا هُوَ مُدْرَكُ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ .
( تَنْبِيهٌ ) : اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ إلَّا بِالْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَّا مَا هُوَ قَاطِعٌ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَدَاءُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الظَّنِّ الضَّعِيفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ بَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدْرِكِ عِلْمًا فَقَطْ فَلَوْ شَهِدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْ دَفَعَهُ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي

الْبَيْعِ مَعَ احْتِمَالِ دَفْعِهِ ، وَيَشْهَدُ بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ لِوَارِثِهِ مَعَ جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ ، وَيَشْهَدُ بِالْإِجَارَةِ ، وَلُزُومُ الْأُجْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ .
وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الضَّعِيفُ ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مَا يَبْقَى فِيهِ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الصُّوَرِ مِنْ ذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ فَيَبْقَى الْعِلْمُ عَلَى حَالِهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ النُّطْقِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ إذَا شَهِدَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ حَكَمَ بِنَقْضِهِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ فَأَكْثَرُهَا إنَّمَا فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي أَصْلِ الْمُدْرِكِ لَا فِي دَوَامِهِ فَقَدْ تَلَخَّصَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مُدْرَكٌ لِلتَّحَمُّلِ ، وَمَا لَيْسَ بِمُدْرَكٍ مَعَ مُسَبِّبَاتِهِ ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى عَدَدِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْحَوَاسِّ فَقَطْ كَمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَلْ لَوْ أَفَادَتْ الْقَرَائِنُ الْقَطْعَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِي التَّحَمُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا مُدْرَكُ التَّنَازُعِ ) : قُلْت أَكْثَرُ مَا قَالَ نُقِلَ وَمَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ قَالَ ( تَنْبِيهُهُ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الشَّاهِدَ فِي أَكْثَرِ الشَّهَادَاتِ لَا يَشْهَدُ إلَّا بِالظَّنِّ الضَّعِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ بِأَنَّ زَيْدًا وَرِثَ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مَثَلًا أَوْ اشْتَرَاهُ جَازِمًا بِذَلِكَ لَا ظَانًّا وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ بَاعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا تَتَعَرَّضُ لَهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ بِالْجَزْمِ لَا فِي نَفْيِهِ وَلَا فِي إثْبَاتِهِ وَلَكِنْ تَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِبَيْعِهِ أَوْ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُضَمَّنُ الشَّهَادَةِ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ فَهَذَا التَّنْبِيهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِي التَّحَمُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا ) وَهُوَ أَنَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِي التَّحَمُّلِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : ( الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ) الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ : كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ يَشْهَدُ بِهِ قَالَ : وَمَدَارِكُ الْعِلْمِ أَرْبَعَةٌ الْعَقْلُ وَإِحْدَى حَوَاسِّ الْخَمْسِ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَالَ وَشَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِغَيْرِهِ عَلَى أُمَمِهِمْ بِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ أَيْ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ كَشَهَادَةِ النَّسَبِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ قَالَ وَصَحَّتْ شَهَادَةُ خُزَيْمَةَ ، وَلَمْ يَحْضُرْ شِرَاءَ الْفَرَسِ أَيْ شِرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرَسَ مِنْ خَصْمِهِ الْمُنْكِرِ ذَلِكَ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَشَهَادَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَاءَ خَمْرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تَشْهَدُ أَنَّهُ شَرِبَهَا .
قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّهُ قَاءَهَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا التَّعَمُّقُ ؟ فَلَا وَرَبِّك مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا .
، وَكَشَهَادَةِ الطَّبِيبِ بِعَدَمِ الْعَيْبِ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) الظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْيَقِينِ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْحِسِّ بَلْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَالْإِعْسَارِ يُدْرَكُ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِقَرَائِنَ كَالصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَالضَّرَرِ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْيَقِينِ .
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى وَشَهَادَةِ الْبَصِيرِ ، عَلَى الْخَطِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ خِلَافًا فِي الشَّهَادَةِ بِالظَّنِّ ، بَلْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطٍ

فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ : الْأَعْمَى قَدْ يَحْصُلُ لَهُ الْقَطْعُ بِتَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ فَيَشْهَدُ بِهَا ، وَيَحْصُلُ لِلْبَصِيرِ الْقَطْعُ بِبَعْضِ الْخُطُوطِ فَيَشْهَدُ بِهَا فَمَا شَهِدَ إلَّا بِالْعِلْمِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ لِالْتِبَاسِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ التَّزْوِيرِ فِي الْخُطُوطِ فَهَذَا هُوَ مُدْرَكُ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ قَالَ الْأَصْلُ : وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وقَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ أَيْ مِثْلُ الشَّمْسِ فَهَذَا ضَابِطُ مَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ بِالظَّنِّ وَالسَّمَاعِ قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ : مَا اتَّسَعَ أَحَدٌ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ كَاتِّسَاعِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ، الْحَاضِرُ مِنْهَا عَلَى الْخَاطِرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَوْضِعًا الْأَحْبَاسُ الْمِلْكُ الْمُتَقَادِمُ الْوَلَاءُ النَّسَبُ الْمَوْتُ الْوِلَايَةُ الْعَزْلُ الْعَدَالَةُ الْجُرْحَةُ ، وَمَنَعَ سَحْنُونٌ ذَلِكَ فِيهِمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْمَجْرُوحِ وَالْعَدْلِ فَإِنْ أَدْرَكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ ، الْإِسْلَامِ ، الْكُفْرِ ، الْحَمْلِ ، الْوِلَادَةِ ، التَّرْشِيدِ ، السَّفَهِ ، الصَّدَقَةِ ، الْهِبَةِ ، الْبَيْعِ فِي حَالِهِ الْمُتَقَادِمِ ، الرَّضَاعِ ، النِّكَاحِ ، الطَّلَاقِ ، الضَّرَرِ ، الْوَصِيَّةِ ، إبَاقِ الْعَبْدِ ، الْحِرَابَةِ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبُنُوَّةَ ، وَالْأُخُوَّةَ ، وَزَادَ الْعَبْدِيُّ فِي الْحُرِّيَّةِ الْقَسَامَةَ فَهَذِهِ مَوَاطِنُ أَرَى الْأَصْحَابُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ ضَرُورَةٍ فَيَجُوزُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ انْتَهَى بِلَفْظِهِ قَالَ التَّاوَدِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ وَتَرْجِعُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ كَمَا فِي الْمُتَيْطِيِّ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْحَقَّ مَعَ الْيَمِينِ .
ابْنُ عَرَفَةَ : هِيَ لَقَبٌ لِمَا

يُصَرِّحُ فِيهِ الشَّاهِدُ بِاسْتِنَادِ شَهَادَتِهِ لِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَخْرُجُ شَهَادَةُ الْبَتِّ وَالنَّقْلِ أَيْ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ فِي شَهَادَةِ النَّقْلِ مُعَيَّنٌ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ وَشَهَادَةُ السَّمَاعِ لَهَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى تُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّوَاتُرِ كَالسَّمَاعِ بِأَنَّ مَكَّةَ مَوْجُودَةٌ فَهَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْمَرْوِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُفِيدُ الْعِلْمَ .
( الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ ) شَهَادَةُ الِاسْتِفَاضَةِ ، وَهِيَ تُفِيدُ ظَنًّا ، يَقْرَبُ مِنْ الْقَطْعِ ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ السَّمَاعِ ، مِثْلُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْهِلَالُ إذَا رَآهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَاسْتِفَاضَةِ الْعَدَالَةِ أَوْ الْجَرْحِ فَيَسْتَنِدُ لِذَلِكَ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ الْمَشْهُودِينَ ( الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ ) شَهَادَةُ السَّمَاعِ ، وَهِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي صِفَتِهَا ، وَفِي مَحَالِّهَا ، وَفِي شُرُوطِهَا فَأَمَّا صِفَتُهَا فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْبَاجِيِّ شَرْطُ شَهَادَةِ السَّمَاعِ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ الْأَخَوَيْنِ ، وَقَالَهُ مُحَمَّدٌ قَالَا : وَلَا يُسَمُّوا مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ فَإِنْ سَمَّوْا خَرَجَتْ مِنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْمَسْمُوعِ ثَالِثُهَا إلَّا فِي الرَّضَاعِ ا هـ وَسَيَقُولُ النَّاظِمُ وَشَرْطُهَا اسْتِفَاضَةٌ حَيْثُ لَا يَحْضُرُ مَنْ عَنْهُ السَّمَاعُ نُقِلَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ ارْتِيَابٍ يُفْضِي إلَى تَغْلِيطٍ أَوْ إكْذَابٍ وَيُكْتَفَى فِيهَا بِعَدْلَيْنِ عَلَى مَا تَابَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْعَمَلَا ( وَأَمَّا مَحَالُّهَا ) وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ فَفِيهِ طُرُقٌ ( إحْدَاهَا ) لِعَبْدِ الْوَهَّابِ

أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ قَالَ وَفِي قَبُولِهَا فِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ ( الثَّانِيَةُ ) لِابْنِ رُشْدٍ أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ تَصِحُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَلَّا تَصِحَّ فِي شَيْءٍ .
الثَّالِثُ تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : النَّسَبُ ، وَالْقَضَاءُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالْمَوْتُ ؛ إذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ فَيَشْهَدَ فِيهَا عَلَى الْقَطْعِ .
الرَّابِعُ عَكْسُهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ صَالِحٌ وَيَجْمَعُهَا قَوْلُك فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْقَاضِي نَكَحَ فَمَاتَ ( الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ ) لِابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا ، وَإِيَّاهَا سَلَكَ النَّاظِمِ فَقَالَ : وَأُعْمِلْت شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي الْحَمْلِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّضَاعِ وَالْحَيْضِ وَالْمِيرَاثِ وَالْمِيلَادِ وَحَالِ إسْلَامٍ أَوْ ارْتِدَادِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْوَلَاءِ وَالرُّشْدِ وَالتَّسْفِيهِ وَالْإِيصَاءِ وَفِي تَمَلُّكٍ لِمِلْكٍ بِيَدِ يُقَامُ فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْمَدَدِ وَحَبْسِ مَنْ حَازَ مِنْ السِّنِينَ عَلَيْهِ مَا يُنَاهِزُ الْعِشْرِينَ وَعَزْلِ حَاكِمٍ وَفِي تَقْدِيمِهِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَتْمِيمِهِ وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَهَذَا فِيمَا عِنْدَهُ ، وَحَضَرَهُ الْآنَ ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَقَالَ : أَيَا سَائِلِي عَمَّا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ وَيَثْبُتُ سَمْعًا دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي الْبَيْعِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرَّضَاعِ وَخُلْعٍ وَالنِّكَاحِ وَحِلِّهِ وَزَادَ وَلَدُهُ سِتَّةً فَقَالَ : وَفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُقِرِّ بِأَهْلِهِ وَمِنْهَا الْهِبَاتُ الْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ وَمُلْكٍ قَدِيمٍ قَدْ يُظَنُّ بِمِثْلِهِ وَمِنْهَا وِلَادَاتٌ وَمِنْهَا حِرَابَةٌ وَمِنْهَا الْإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ بِشَكْلِهِ فَدُونَكُمَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةٍ تَدُلُّ

عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ وَأَتْبَعْتهَا سِتًّا تَمَامًا لِفِعْلِهِ وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ خَمْسَةً ، وَنَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ : وَقَدْ زِيدَ فِيهَا الْفَقْرُ وَالْأَسْرُ وَالْمَلَا وَلَوْثٌ وَعِتْقٌ فَاظْفَرَنَّ بِنَقْلِهِ فَصَارَتْ لَدَى عَدٍّ ثَلَاثِينَ أُتْبِعَتْ بِثِنْتَيْنِ فَاطْلُبْ نَصَّهَا فِي مَحَلِّهِ وَنَظَمَهَا أَيْضًا الْعَبْدُوسِيُّ وَذَيَّلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ بِمَا زَادَهُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ : لَوْلَا التَّدَاخُلُ عِنْدَ عَدِّ الزَّائِدِ لَبَلَغَتْ خَمْسِينَ دُونَ وَاحِدِ ا هـ كَلَامُ التَّاوَدِيِّ مَعَ بَعْضِ إصْلَاحٍ .
وَحَذَفَ شَرْحَهُ لِأَبْيَاتِ الْعَاصِمِيَّةِ فَانْظُرْهُ ، وَأَمَّا مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فَهُوَ مَا عَدَا الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورِينَ ، وَمِنْهُ الظَّنُّ الضَّعِيفُ ، وَقَوْلُ الْأَصْلِ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ الْأَدَاءُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الظَّنِّ الضَّعِيفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ فَلَوْ شَهِدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْ دَفَعَهُ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ مَعَ احْتِمَالِ دَفْعِهِ ، وَيَشْهَدُ بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ لِوَارِثِهِ مَعَ جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ ، وَيَشْهَدُ بِالْإِجَازَةِ وَلُزُومِ الْأُجْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الضَّعِيفُ بَلْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ مَا يَبْقَى فِيهِ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الصُّوَرِ ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ فَيَبْقَى الْعِلْمُ عَلَى حَالِهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ النُّطْقِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ إذَا شَهِدَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ

لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ حَكَمَ بِنَقْضِهِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ فَأَكْثَرُهَا إنَّمَا فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي أَصْلِ الْمُدْرَكِ لَا فِي دَوَامِهِ فَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ إلَّا بِالْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَّا مَا هُوَ قَاطِعٌ بِهِ بَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدْرَكِ عِلْمًا فَقَطْ ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
قَالَ الْمُحَقِّقُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الشَّاهِدَ فِي أَكْثَرِ الشَّهَادَاتِ لَا يَشْهَدُ إلَّا بِالظَّنِّ الضَّعِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ بِأَنَّ زَيْدًا وَرِثَ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مَثَلًا أَوْ اشْتَرَاهُ جَازِمًا بِذَلِكَ لَا ظَانًّا ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ بَاعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا تَتَعَرَّضُ لَهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ بِالْجَزْمِ لَا فِي نَفْيِهِ ، وَلَا فِي إثْبَاتِهِ ، وَلَكِنْ تَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِبَيْعِهِ أَوْ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُضَمَّنُ الشَّهَادَةِ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ بِالْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَا أُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِأَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارًا عَنْ يَقِينٍ مِنِّي ، وَعِلْمٍ فِي ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ شَهَادَةً بَلْ هَذَا وَعْدٌ مِنْ الشَّاهِدِ لِلْقَاضِي أَنَّهُ سَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَعْدِ ، وَلَوْ قَالَ قَدْ أَخْبَرْتُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا كَانَ كَذِبًا لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ تَقَدُّمُ الْأَخْبَارِ مِنْهُ وَلَمْ يَقَعْ ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ فَالْمُسْتَقْبَلُ وَعْدٌ ، وَالْمَاضِي كَذِبٌ ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُقْتَضِي لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ أَنَا مُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اتِّصَافِهِ بِالْخَبَرِ لِلْقَاضِي ، وَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ إنَّمَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ فَظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلشَّاهِدِ بِأَيِّ شَيْءٍ تَشْهَدُ قَالَ حَضَرْت عِنْدَ فُلَانٍ فَسَمِعْته يُقِرُّ بِكَذَا أَوْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا أَوْ شَهِدْتُ بَيْنَهُمَا بِصُدُورِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ لَا يَكُونُ هَذَا أَدَاءَ شَهَادَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ تَقَدَّمَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا مَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ بِهِ مِنْ فَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ حُدُوثِ رِيبَةٍ لِلشَّاهِدِ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَلَا يَجُوزُ لِأَجْلِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ فَالْخَبَرُ كَيْفَمَا تَقَلَّبَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ الْأَخْبَارِ عَنْ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا ، وَالْإِنْشَاءُ لَيْسَ

بِخَبَرٍ ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ عِنْدَك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا كَانَ إنْشَاءً ، وَلَوْ قَالَ شَهِدْت لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً عَكْسُهُ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَالَ أَبِيعُك لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ بَلْ إخْبَارَتُهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ بَيْعٌ بَلْ وَعْدٌ بِالْبَيْعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك كَانَ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ فَالْإِنْشَاءُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْمُضَارِعِ ، وَفِي الْعُقُودِ بِالْمَاضِي ، وَفِي الطَّلَاقِ بِالْمَاضِي ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَأَنْتَ حُرٌّ ، وَلَا يَقَعُ الْإِنْشَاءُ فِي الْبَيْعِ ، وَالشَّهَادَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ ، وَلَوْ قَالَ أَنَا شَاهِدٌ عِنْدَك بِكَذَا ، وَأَنَا بَائِعُك بِكَذَا لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْوَضْعُ الْعُرْفِيُّ فَمَا وَضَعَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ لِلْإِنْشَاءِ كَانَ إنْشَاءً ، وَمَا لَا فَلَا فَاتَّفَقُوا أَنَّهُمْ وَضَعُوا لِلْإِنْشَاءِ الْمَاضِيَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُضَارِعَ فِي الشَّهَادَةِ وَاسْمَ الْفَاعِلِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَوْضُوعَةً لِلْإِنْشَاءِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ صَحَّ مِنْ الْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْمُضَارِعِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الصَّرِيحِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى غَيْرِ الصَّرِيحِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّ الْعَوَائِدَ تَغَيَّرَتْ .
وَصَارَ الْمَاضِي مَوْضُوعًا لِإِنْشَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُضَارِعُ لِإِنْشَاءِ الْعُقُودِ جَازَ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا صَارَ مَوْضُوعًا لِلْإِنْشَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَوَّلِ فَتَلَخَّصَ لَك أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَاشِئٌ عَنْ الْعَوَائِدِ ، وَتَابِعٌ لَهَا ، وَأَنَّهُ يَنْقَلِبُ وَيُنْتَسَخُ بِتَغَيُّرِهَا وَانْتِقَالِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ خَفَاءٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ أَنْ تُؤَدَّى بِهِ الشَّهَادَةُ

وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ بِهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ ، وَفِي الْفَرْقِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الشَّهَادَةُ قِسْمَانِ تَارَةٌ يَكُونُ مَقْصِدُهَا مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ نَحْوُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَنَحْوُهُ ، وَتَارَةً يَكُونُ الْمَقْصُودُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ الْحَصْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِمَا فِي الْعِبَارَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي التَّهْذِيبِ لَا يَكْفِي أَنَّهُ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يَقُولُوا فِي حَصْرِ الْوَرَثَةِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الدَّارُ لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ حَتَّى يَقُولُوا ، وَلَا نَعْلَمُ خُرُوجَهَا عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْمَوْتِ حَتَّى يُحْكَمَ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ .
فَإِنْ قَالُوا هَذَا وَارِثٌ مَعَ وَرَثَةٍ آخَرِينَ أَعْطَى هَذَا نَصِيبَهُ وَتَرَكَ الْبَاقِيَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ مُسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ يَدِهِ ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يُقِرُّ لَهُ بِهَا قَالَ سَحْنُونٌ ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا ، وَعَنْ مِلْكٍ يُنْزَعُ مِنْ الْمَطْلُوبِ .
وَيُوقَفُ لِتَيَقُّنِهَا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَدَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَقْضِ لِهَذَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَسْمِيَةِ الْوَرَثَةِ ، وَتَبْقَى الدَّارُ بِيَدِ صَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ وَتَشْوِيشِ الْأَحْكَامِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِهِ ) قُلْت هَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ مُعَيَّنَاتِ الْأَلْفَاظِ لَا فِي الْعُقُودِ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ( اعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ بِالْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ لَهُ فِي أَوَّلِ فَرْقٍ مِنْ الْكِتَابِ حِكَايَةً عَنْ الْإِمَامِ الْمَازِرِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ وَلَا رَدَّهُ بَلْ جَرَى فِي مَسَاقِ كَلَامِهِ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ وَصِحَّتِهِ قَالَ ( فَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي أَنَا أُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي إلَى قَوْلِهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ شَهَادَةٌ ) قُلْت ذَلِكَ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُخْبِرُك وَلَمْ يَقُلْ أَشْهَدُ عِنْدَك قَالَ ( بَلْ هَذَا وَعْدٌ مِنْ الشَّاهِدِ لِلْقَاضِي أَنَّهُ سَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَعْدِ ) قُلْت وَمِنْ أَيْنَ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ وَعْدٌ وَلَعَلَّهُ إنْشَاءُ أَخْبَارٍ فَيَكُونُ شَهَادَةً إذْ الشَّهَادَةُ خَبَرٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ هُنَالِكَ قَرِينَةً تَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ حُضُورِ مَطَالِبٍ وَشَبَهِ ذَلِكَ فَمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ قَالَ ( وَلَوْ قَالَ قَدْ أَخْبَرْتُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا كَانَ كَذِبًا إلَى قَوْلِهِ فَالْمُسْتَقْبَلُ وَعْدٌ وَالْمَاضِي كَذِبٌ ) قُلْت إنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ أَخْبَارٌ فَذَلِكَ كَذِبٌ كَمَا قَالَ قَالَ ( وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُقْتَضِي لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ أَنَا مُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اتِّصَافِهِ بِالْخَبَرِ لِلْقَاضِي وَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ إنَّمَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ ) .
قُلْت هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَفْهَمُ مُقْتَضَى الْكَلَامِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مَنْ يَقُولُ لِلْقَاضِي أَنَا أُخْبِرُك بِأَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو

دِينَارًا مُخْبِرًا لِلْقَاضِي أَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارًا بَلْ مُخْبِرًا بِأَنَّهُ مُخْبِرٌ وَهَلْ الْعِبَارَةُ عَنْ إخْبَارِهِ عَنْ الْخَبَرِ إلَّا عَيْنَ تِلْكَ ، وَهِيَ أَنَا مُخْبِرُك أَنِّي مُخْبِرُك لَا أَنَا مُخْبِرُك بِكَذَا ، هَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لَا يَفُوهُ بِهِ مَنْ يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مُضَمَّنَاتِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَى مَسَاقِهَا قَالَ ( فَظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ ) قُلْت لَمْ يَظْهَرْ مَا قَالَهُ أَصْلًا وَلَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلشَّاهِدِ بِأَيِّ شَيْءٍ تَشْهَدُ قَالَ حَضَرْت عِنْدَ فُلَانٍ فَسَمِعْته يُقِرُّ بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا أَوْ شَهِدْت بَيْنَهُمَا بِصُدُورِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ لَا يَكُونُ هَذَا أَدَاءَ شَهَادَةٍ إلَى قَوْلِهِ فَالْخَبَرُ كَيْفَمَا تَقَلَّبَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ ) قُلْت إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُ الشَّاهِدِ حَضَرْت عِنْدَ فُلَانٍ فَسَمِعْته يُقِرُّ بِكَذَا أَوْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا بَعْدَ قَوْلِ الْقَاضِي لَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَشْهَدُ شَهَادَةً فَلَا أَدْرِي بِأَيِّ لَفْظٍ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ وَمَا هَذَا كُلُّهُ إلَّا تَخْلِيطٌ وَوَسْوَاسٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ قَالَ ( بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ الْأَخْبَارِ عَنْ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا ) قُلْت يَا لِلْعَجَبِ وَهَلْ إنْشَاءُ الْأَخْبَارِ إلَّا الْإِخْبَارَ بِعَيْنِهِ قَالَ ( وَالْإِنْشَاءُ لَيْسَ بِخَبَرٍ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ) قُلْت مِنْ هُنَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَهْمُ وَهُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِنْشَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْكَلَامِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْخَبَرُ وَأَطْلَقَ لَفْظَ الْإِنْشَاءِ عَلَى قَسِيمِ الْخَبَرِ ثُمَّ تَخَيَّلَ أَنَّهُ أَطْلَقَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَحَكَمَ بِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي الْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْخَبَرِ وَغَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ إنْشَاءُ

الْخَبَرِ وَأَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَهُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَا الْخَبَرُ .
قَالَ ( فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ عِنْدَك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا كَانَ إنْشَاءً ) قُلْت وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِأَنَّهُ سَيَشْهَدُ عِنْدَهُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَانِعًا إلَّا التَّحَكُّمَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْخَبَرِ وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ قَالَ ( وَلَوْ قَالَ شَهِدْت لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً عَكْسُهُ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَالَ أَبِيعُك لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ قَالَ أَنَا شَاهِدٌ عِنْدَك بِكَذَا أَوْ أَنَا بَائِعُك بِكَذَا لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً ) قُلْت لَقَدْ كَلَّفَ هَذَا الرَّجُلَ نَفْسَهُ شَطَطًا وَأَلْزَمَهَا مَا لَمْ يُلْزِمْهَا كَيْفَ وَهُوَ مَالِكِيٌّ وَالْمَالِكِيَّةُ يُجِيزُونَ الْعُقُودَ بِغَيْرِ لَفْظٍ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ يَشْتَرِطُونَ مُعَيِّنَاتِ الْأَلْفَاظِ قَالَ ( وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْوَضْعُ الْعُرْفِيُّ إلَى قَوْلِهِ وَفِي الْفَرْقِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مُسَلَّمٌ وَصَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ أَرَادَ الشَّهَادَةَ بِالْإِنْشَاءِ لَا بِالْخَبَرِ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْهُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِهِ ) وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ اشْتِرَاطِ أَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا لَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُعَيَّنَاتِ الْأَلْفَاظِ لَا فِي الْعُقُودِ ، وَلَا غَيْرِهَا ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ لَمَّا وَضَعَ فِي الشَّهَادَةِ الْمُضَارِعَ لِلْإِخْبَارِ الْخَاصِّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ فَصْلُ الْقَضَاءِ وَفِي الْعُقُودِ الْمَاضِي لِإِنْشَائِهَا وَفِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْوَصْفَ أَعْنِي اسْمَيْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِإِنْشَائِهَا صَحَّ مِنْ الْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْمُضَارِعِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرِ صَرِيحٍ فِيهَا عُرْفًا ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الصَّرِيحِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى غَيْرِ الصَّرِيحِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ الْعَوَائِدَ تَغَيَّرَتْ ، وَصَارَ الْمَاضِي مَوْضُوعًا فِي الشَّهَادَةِ لِلْإِخْبَارِ الْخَاصِّ الَّذِي يَقْصَدُ بِهِ فَصْلَ الْقَضَاءِ ، وَالْمُضَارِعُ مَوْضُوعًا فِي الْعُقُودِ لِإِنْشَائِهَا جَازَ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا صَارَ مَوْضُوعًا فِي الْبَابَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَوَّلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَاشِئٌ عَنْ الْعَوَائِدِ ، وَتَابِعٌ لَهَا بِحَيْثُ يَنْقَلِبُ ، وَيَنْفَسِخُ بِتَغَيُّرِهَا وَانْتِقَالِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ خَفَاءٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ أَنْ تُؤَدَّى بِهِ الشَّهَادَةُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ بِهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا صَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ مِنْ كَلَامِ الْأَصْلِ هُنَا ، وَسَلَّمَهُ قُلْت لَكِنْ مِنْ حَيْثُ جَرَيَانُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَ عَلَى الْأَصْلِ أَنْ يُبَدَّلَ هَذَا الْفَرْقُ بِقَوْلِهِ

الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْ النَّفْيِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ إطْلَاقُ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ إلَّا أَنَّ فِي قَبُولِهَا ، وَعَدَمِهِ تَفْصِيلًا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ ، وَيَظْهَرُ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) نَفْيٌ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ ، وَنَحْوُهُ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ مَعَ الْقَطْعِ مَطْلَبٌ آخَرُ .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) نَفْيٌ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالظَّنِّ الْغَالِبِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَحْصِ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا التَّفْلِيسُ ، وَحَصْرُ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الْغَالِبُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا حُصُولُ الْمَالِ لِلْمُفْلِسِ ، وَهُوَ يَكْتُمُهُ ، وَحُصُولُ ، وَارِثٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا قَوْلُ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِصَحِيحٍ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ .
( وَمِنْهَا ) قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قُلْت ، وَمُرَادُهُمْ اسْمٌ عَرَبِيٌّ أَصَالَةً لَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ فِعْلٍ مُعْتَلٍ كَيَدْعُو ، وَلَا مِنْ اسْمٍ عَجَمِيٍّ كمسمند ووقمدوا فَافْهَمْ ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) نَفْيٌ يَعْرَى عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَحْصِ نَحْوُ أَنَّ زَيْدًا مَا وَفَّى الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ مَا بَاعَ سِلْعَتَهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ مَا اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ الْمُنْضَبِطِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا غَالِبًا كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَكَمَا

فِي نَحْوِ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقْتُلْ عَمْرًا أَمْسِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ إنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْبَلَدِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَيَظْهَرُ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْ النَّفْيِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْهُ ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ حَاصِلُ الشَّهَادَةِ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ النَّفْيِ مِنْهَا أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا عَرَفْته مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُجَرَّدُ النَّفْيِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ نَحْوُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ يُونُسَ لَوْ شَهِدُوا بِالْأَرْضِ وَلَمْ يُحِدُّوهَا ، وَشَهِدَ آخَرُونَ بِالْحُدُودِ دُونَ الْمِلْكِ قَالَ مَالِكٌ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ، وَقَضَى بِهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَجْمُوعِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ شَهِدُوا بِغَصْبِ الْأَرْضِ ، وَلَمْ يُحِدُّوهَا قِيلَ لِلْمُدَّعِي حَدِّدْ مَا غُصِبَ مِنْك ، وَاحْلِفْ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْحَقِّ ، وَقَالَتْ لَا نَعْرِفُ عَدَدَهُ قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ قِرْ بِحَقٍّ ، وَاحْلِفْ عَلَيْهِ فَتُعْطِيهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْك غَيْرُهُ فَإِنْ جَحَدَ قِيلَ لِلطَّالِبِ إنْ عَرَفْته احْلِفْ عَلَيْهِ وَخُذْهُ فَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ أَوْ أَعْرِفُهُ ، وَلَا أَحْلِفُ عَلَيْهِ سُجِنَ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يُقِرَّ بِشَيْءٍ ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَخَذَ الْمُقِرُّ بِهِ ، وَحَبَسَ حَتَّى يَحْلِفَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي دَارٍ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى يَحْلِفَ ، وَلَا يُحْبَسُ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَالَ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى ، وَعَنْ مَالِكٍ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِنِسْيَانِ الْعَدَدِ وَجَهْلِهِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي الشَّهَادَةِ قَالَ الْبَاجِيَّ نِسْيَانُ بَعْضِ الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ الْبَعْضِ إلَّا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ

وَالْهِبَةِ وَالْحَبْسِ وَالْإِقْرَارِ ، وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ حِفْظُهُ بَلْ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ فِي آخِرِهِ ، وَكَذَلِكَ سِجِلَّاتُ الْحَاكِمِ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا عَلِمَ مِنْ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ الْحَصْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِمَا فِي الْعِبَارَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي التَّهْذِيبِ لَا يَكْفِي أَنَّهُ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يَقُولُوا فِي حَصْرِ الْوَرَثَةِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الدَّارُ لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ حَتَّى يَقُولُوا ، وَلَا نَعْلَمُ خُرُوجَهَا عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْمَوْتِ حَتَّى يُحْكَمَ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَإِنْ قَالُوا هَذَا وَارِثٌ مَعَ وَرَثَةٍ آخَرِينَ أُعْطِيَ هَذَا نَصِيبَهُ ، وَتُرِكَ الْبَاقِيَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ مُسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَوَامُ يَدِهِ ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يُقِرُّ لَهُ بِهَا قَالَ سَحْنُونٌ ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا ، وَعَنْ مَالِكٍ يُنْزَعُ مِنْ الْمَطْلُوبِ ، وَيُوقَفُ لِتَيَقُّنِهَا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَدَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَقْضِ لِهَذَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَسْمِيَةِ الْوَرَثَةِ ، وَتَبْقَى الدَّارُ بِيَدِ صَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ وَتَشْوِيشِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِالنَّفْيِ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ لَا نَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَقُولُ فُلَانٌ وَارِثٌ ، وَهَذَا الْعَبْدُ لَهُ مَا بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ ، وَلَا يَدْرِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالنَّفْيِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ نَعَمْ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزْمُ بِأَنْ يَقُولَ مَا بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِغَيْرِ الْجَزْمِ لَا تَجُوزُ قَالَ وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ

أَظْهَرُ .
وَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْأَمْسِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَالِ لَمْ يُسْمَعْ حَتَّى يَقُولَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فِي عِلْمِي ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَمْسِ ثَبَتَ الْإِقْرَارُ ، وَاسْتُصْحِبَ مُوجِبُهُ ، وَلَوْ قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ مِلْكُهُ بِالْأَمْسِ نَزَعَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ تَحْقِيقٍ فَيُسْتَصْحَبُ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ هُوَ مِلْكُهُ بِالْأَمْسِ بِشِرَاءٍ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ لَمْ يُفْدِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَلَوْ شَهِدَتْ أَنَّهُ غَصَبَهُ جَعَلَ الْمُدَّعِيَ صَاحِبَ الْيَدِ ، وَلَوْ اُدُّعِيَتْ مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدَتْ بِالْمِلْكِ وَالسَّبَبِ لَمْ يَضُرَّ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ هَذَا تَهْذِيبُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَمَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ا هـ .
قُلْت : وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِاعْتِبَارِ مَا يَكْفِي مِنْهَا فِي الْمَشْهُورِ فَلِابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٍ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ، وَسَمُّوهَا مَرَاتِبُ عَدْلَانِ عَدْلٌ ، وَامْرَأَتَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ امْرَأَتَانِ ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا تُوجِبُهُ فَلِلْجَزِيرِيِّ فِي وَثَائِقِهِ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي نَظْمِهِ أَنَّهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ قَالَ فِي الْعَاصِمِيَّةِ : تَخْتَصُّ أُولَاهَا عَلَى التَّعْيِينِ أَنْ تُوجِبَ الْحَقَّ بِلَا يَمِينِ وَالثَّانِي قَالَ فِي الْعَاصِمِيَّةِ : ثَانِيَةٌ تُوجِبُ حَقًّا مَعَ قَسَمْ فِي الْمَالِ أَوْ مَا آلَ لِلْمَالِ تُؤَمْ وَالثَّالِثُ قَالَ فِيهَا : ثَالِثَةٌ لَا تُوجِبُ الْحَقَّ نَعَمْ تُوجِبُ تَوْقِيفًا بِهِ حُكْمُ الْحَكَمْ وَالرَّابِعُ قَالَ فِيهَا : رَابِعَةٌ مَا تَلْزَمُ الْيَمِينَا لَا الْحَقَّ لَكِنْ لِلْمُطَالِبِينَا ، وَالْخَامِسُ قَالَ فِيهَا : خَامِسَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَمَلُ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ اُنْظُرْ الْعَاصِمِيَّةَ وَشُرَّاحَهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَقُولُ فُلَانٌ وَارِثٌ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ لَهُ مَا بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ ، وَلَا يَدْرِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالنَّفْيِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ يَقُولُ لَا أَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ قَالَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزْمُ بِأَنْ يَقُولَ مَا بَاعَ ، وَلَا وَهَبَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِغَيْرِ الْجَزْمِ لَا تَجُوزُ قَالَ وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَظْهَرُ ، وَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْأَمْسِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَالِ لَمْ يُسْمَعْ حَتَّى يَقُولَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فِي عِلْمِي ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَمْسِ ثَبَتَ الْقَرَارُ ، وَاسْتُصْحِبَ مُوجِبُهُ ، وَلَوْ قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ مِلْكُهُ بِالْأَمْسِ نُزِعَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ تَحْقِيقٍ فَيُسْتَصْحَبُ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ هُوَ مِلْكُهُ بِالْأَمْسِ بِشِرَاءٍ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ لَمْ يُفِدْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَلَوْ شَهِدَتْ أَنَّهُ غَصَبَهُ جَعَلَ الْمُدَّعِي صَاحِبَ الْيَدِ ، وَلَوْ اُدُّعِيَتْ مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدَتْ بِالْمِلْكِ وَالسَّبَبِ لَمْ يَضُرَّ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ ابْنُ يُونُسَ لَوْ شَهِدُوا بِالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَحُدُّوهَا ، وَشَهِدَ آخَرُونَ بِالْحُدُودِ دُونَ الْمِلْكِ قَالَ مَالِكٌ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ، وَقَضَى بِهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَجْمُوعِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ شَهِدَتْ بِغَصْبِ الْأَرْضِ ، وَلَمْ يَحُدُّوهَا قِيلَ لِلْمُدَّعِي حَدِّدْ مَا غُصِبَ مِنْك ، وَاحْلِفْ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْحَقِّ ، وَقَالَتْ لَا نَعْرِفُ عَدَدَهُ قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ قِرْ بِحَقٍّ وَاحْلِفْ عَلَيْهِ فَتُعْطِيهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْك غَيْرَهُ فَإِنْ جَحَدَ قِيلَ لِلطَّالِبِ إنْ عَرَفْته احْلِفْ عَلَيْهِ وَخُذْهُ فَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ أَوْ أَعْرِفُهُ ، وَلَا أَحْلِفُ عَلَيْهِ سُجِنَ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يُقِرَّ بِالشَّيْءِ ، وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ أُخِذَ الْمُقِرُّ بِهِ ، وَحُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي دَارٍ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى يَحْلِفَ ، وَلَا يُحِسُّ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَالَ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى .
وَعَنْ مَالِكٍ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِنِسْيَانِ الْعَدَدِ وَجَهْلِهِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ فِي الشَّهَادَةِ قَالَ الْبَاجِيَّ نِسْيَانُ بَعْضِ الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ الْبَعْضِ إلَّا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَالْحِسّ الْإِقْرَارُ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ حِفْظُهُ بَلْ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ فِي آخِرِهِ ، وَكَذَلِكَ سِجِلَّاتُ الْحَاكِمِ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا عَلِمَ مِنْ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنَّ النَّفْيَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَحْصِ ، وَقَدْ يَعْرَى عَنْهُمَا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَفْرُسٌ ، وَنَحْوُهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ مَعَ الْقَطْعِ مَطْلَبٌ آخَرُ ( وَالثَّانِي ) نَحْوَ الشَّهَادَةِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا التَّفْلِيسُ ، وَحَصَرُ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الْغَالِبُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا حُصُولُ الْمَالِ لِلْمُفْلِسِ ، وَهُوَ يَكْتُمُهُ ، وَحُصُولُ وَارِثٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَاهُنَا قَوْلُ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِصَحِيحٍ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ ، وَمِنْهَا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ نَحْوُ أَنَّ زَيْدًا مَا وَفَّى الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ مَا بَاعَ سِلْعَتَهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نَفْيٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ الْمُنْضَبِطِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقْتُلْ عَمْرًا أَمْسِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْبَلَدِ فَهَذِهِ كُلُّهَا شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ بِالنَّفْيِ ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَيَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْ النَّفْيِ ، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مِنْهُ .

الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْبَيِّنَاتِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ) قُلْت يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِأَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ وَقَعَ فِي الْجَوَاهِرِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَقَالَ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ وَقُوَّةِ الْحُجَّةِ كَالشَّاهِدَيْنِ يُقَدَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالْيَدِ عِنْدَ التَّعَادُلِ وَزِيَادَةِ التَّارِيخِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَتَرَجُّحُ الْبَيِّنَةِ الْمُفَصَّلَةِ عَلَى الْمُجْمَلَةِ وَالنَّظَرُ فِي التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَعْدَلِيَّةِ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ نَظَرَ فِي الْأَعْدَلِيَّةِ ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ إحْدَاهُمَا بِحَوْزِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى بِرُؤْيَتِهِ يَخْدُمُهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ عَدَمِ الْحَوْزِ إذْ لَمْ تَتَعَرَّضْ الْأُخْرَى لِرَدِّ هَذَا الْقَوْلِ السَّادِسِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنْ اخْتَصَّتْ أَحَدُهُمَا بِمَزِيدِ الِاطِّلَاعِ كَشَهَادَةِ إحْدَاهُمَا بِحَوْزِ الرَّهْنِ ، وَالْأُخْرَى بِعَدَمِ الْحَوْزِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْحَوْزِ ، وَهِيَ زِيَادَةُ اطِّلَاعٍ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَقْضِي بِهِ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ .
السَّابِعُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ ، وَالْغَالِبُ وَمِنْهُ شَهَادَةُ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى ، وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَشَهِدْت الْأُخْرَى أَنَّهُ أَوْصَى ، وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ إذَا شَهِدَتْ بِأَنَّهُ زَنَى عَاقِلًا ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا إنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَاقِلٌ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَجْنُونٌ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجُنُونِ ، وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِشَهَادَةِ الْحَالِ وَهُوَ الثَّامِنُ .
وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا وَقْتُ الْقِيَامِ فَلَمْ

يُعْتَبَرُ ظَاهِرًا لِحَالٍ ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ إذَا شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا بِالْقَتْلِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ بِالزِّنَا ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ زِيَادَةً ، وَلَا يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ قَالَ سَحْنُونٌ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ كَالْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ وَقَفَ بِهِمْ أَوْ صَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ الْأَوْجُهِ هِيَ ضَابِطُ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَعِنْدَنَا يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ عِنْدَ التَّسَاوِي أَوْ هُوَ مَعَ الْبَيِّنَةِ الْأَعْدَلِ كَانَتْ الدَّعْوَةُ أَوْ الشَّهَادَةُ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ نَحْوَ هُوَ مِلْكِي نَسَجَتْهُ أَوْ وَلَدَتْهُ الدَّابَّةُ عِنْدِي فِي مِلْكِي كَانَ السَّبَبُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْمِلْكُ يَتَكَرَّرُ كَنَسْجِ الْخَزِّ وَغَرْسِ النَّخْلِ أَمْ لَا .
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ الْخَارِجُ أَوْلَى ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَصْلًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إنْ ادَّعَى مُطْلَقَ مِلْكٍ فَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ فَأَعَادَهُ كِلَاهُمَا فَكَذَلِكَ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوِلَادَةِ ، وَادَّعَيَاهُ ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ فَقَالَتْ كُلُّ بَيِّنَةٍ وَلَدٌ عَلَى مِلْكِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ لَنَا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَحَاكَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْيَدِ } ؛ وَلِأَنَّ الْيَدَ مُرَجَّحَةٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ، وَلَنَا عَلَى أَبِي

حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُضَافِ إلَى سَبَبٍ لَا يَتَكَرَّرُ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ، وَهُوَ يَقْتَضِي صِنْفَيْنِ مُدَّعِيًا ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّتُهُ ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْيَمِينُ حُجَّتُهُ فَبَيِّنَتُهُ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَا تُسْمَعُ كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى لَا تُفِيدُ شَيْئًا .
( الثَّانِي ) وَلِأَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَتَا فِي سَبَبٍ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوِلَادَةِ شَهِدَتْ هَذِهِ بِالْوِلَادَةِ ، وَالْأُخْرَى بِالْوِلَادَةِ تَعَيَّنَ كَذِبُهُمَا فَسَقَطَتَا فَبَقِيَتْ الْيَدُ فَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَأَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْكَذِبُ فَلَمْ تَفْدِ بَيِّنَتُهُ إلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ فَسَقَطَتْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ( الثَّالِثُ ) وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا لَمْ يُقِمْ الطَّالِبُ بَيِّنَةً لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، وَإِذَا لَمْ تُسْمَعْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَهِيَ أَحْسَنُ حَالَتَيْهِ فَكَيْفَ إذَا أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً لَا تُسْمَعُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَضْعَفُ ( الرَّابِعُ ) إنَّا إنَّمَا أَعْمَلْنَا بَيِّنَتَهُ فِي صُورَةِ النِّتَاجِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ أَفَادَتْ الْوِلَادَةَ ، وَلَمْ تُفِدْهَا يَدُهُ ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ فَأَفَادَتْ الْبَيِّنَةُ غَيْرَ مَا أَفَادَتْ الْيَدُ فَقُبِلَتْ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ جَعَلَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهِ سَلَّمْنَا عَدَمَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لَكِنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ فُسِّرَ بِالطَّالِبِ فَصَاحِبُ الْيَدِ طَالِبٌ لِنَفْسِهِ مَا طَلَبَهُ الْآخَرُ لِنَفْسِهِ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ فُسِّرَ بِأَضْعَفَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا فَالْخَارِجُ لَمَّا أَقَامَ بَيِّنَةً صَارَ الدَّاخِلُ أَضْعَفَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا

تُشْرَعُ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّهِ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُومَ الْمُخَصَّصُ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْآخَرِ { ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ } ، وَهُوَ يُفِيدُ وُجُوبَ الِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا وَأَنْ مَنْ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ حُكِمَ بِهَا ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَا نَسْمَعُ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا تَعَارَضَتَا فِي دَعْوَى طَعَامٍ ادَّعَيَا زِرَاعَتَهُ ، وَشَهِدْنَا بِذَلِكَ ، وَالزَّرْعُ لَا يُزْرَعُ مَرَّتَيْنِ كَالْوِلَادَةِ ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَبِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِ لَهُمَا فِي الْحَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُكِمَ لَهُ بِالْيَدِ دُونَ الْبَيِّنَةِ لَمَا حُكِمَ لَهُ إلَّا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ شَأْنُ الْيَدِ الْمُنْفَرِدَةِ .
وَلَمَّا لَمْ يُحْتَجْ إلَى الْيَمِينِ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا حُكِمَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حُكِمَ لَهُ حَيْثُ كَذَبَتْ بَيِّنَتُهُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُحْكَمَ بِهِ إذَا لَمْ تَكَذَّبَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ أَضْعَفُ مِنْ الْبَيِّنَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْيَدَ لَا يُقْضَى بِهَا إلَّا بِالْيَمِينِ ، وَالْبَيِّنَةُ يُقْضَى بِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً قُدِّمَتْ عَلَى يَدِ الدَّاخِلِ إجْمَاعًا فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ وَعَنْ ( الثَّالِثِ ) أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عِنْدَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَوِيٌّ بِالْيَدِ ، وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ الضَّعِيفِ فَوَجَبَ سَمَاعُهَا لِلضَّعْفِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا عِنْدَ إقَامَةِ الْخَارِجِ بَيِّنَتَهُ ، وَعَنْ ( الرَّابِعِ ) أَنَّ الدَّعْوَى ، وَالْيَدَ لَا يُفِيدَانِ مُطْلَقًا شَيْئًا ، وَإِلَّا لَكَانَ مَعَ الْمُدَّعِي حُجَجُ الْيَدِ ، وَالدَّعْوَى ، وَالْبَيِّنَةُ يُخَيِّرُهُ الْحَاكِمُ

بَيْنَهُمَا أَيُّهَا شَاءَ أَقَامَ كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ ، وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مَعَ إحْدَاهُمَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمُفِيدَ إنَّمَا هُوَ الْبَيِّنَةُ ، وَالْيَدُ لَا تُفِيدُ مِلْكًا ، وَإِلَّا لَمْ يُحْتَجْ مَعَهَا لِلْيَمِينِ كَالْبَيِّنَةِ بَلْ تُفِيدُ التَّبْقِيَةَ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَفَادَتْ ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ .
وَأَمَّا الْأَعْدَلِيَّةُ فَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ التَّرْجِيحَ بِهَا لَنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِمَا تُثِيرُهُ مِنْ الظَّنِّ ، وَالظَّنُّ فِي الْأَعْدَلِ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ إذَا رَجَّحَ إحْدَاهُمَا ، وَلِأَنَّ مُقِيمَ الْأَعْدَلِ أَقْرَبُ لِلصِّدْقِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ } ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّوَايَةِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ فَإِذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ مَطْلُوبًا أَكْثَرَ فِي الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ الْأَعْدَلِ ، وَالظَّنُّ أَقْوَى فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْخَبَرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَالْمُدْرَكُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الِاحْتِيَاطُ ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْجَامِعِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ .
وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجَوَامِعُ فِي الْقِيَاسَاتِ تَعَدَّدَتْ .
احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ .
( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الشَّهَادَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِالزِّيَادَةِ كَالدِّيَةِ ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِزِيَادَةِ الْمَأْخُوذِ فِيهِ فَدِيَةُ الصَّغِيرِ الْحَقِيرِ كَدِيَةِ الْكَبِيرِ الشَّرِيفِ الْعَالِمِ الْعَظِيمِ .
( وَثَانِيهَا ) أَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْفَسَقَةِ يَحْصُلُ الظَّنُّ أَكْثَرُ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَعُلِمَ أَنَّهَا تَعَبُّدٌ لَا يَدْخُلُهَا الِاجْتِهَادُ ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ مِنْ النِّسَاءِ

وَالصِّبْيَانِ إذَا كَثُرُوا ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ زِيَادَةُ الْعَدَالَةِ ، وَهِيَ صِفَةٌ لَاعْتُبِرَتْ زِيَادَةُ الْعَدَدِ ، وَهِيَ بَيِّنَاتٌ مُعْتَبَرَةٌ إجْمَاعًا فَيَكُونُ اعْتِبَارُهَا أَوْلَى مِنْ الصِّفَةِ ، وَالْعَدَدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَالصِّفَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ وَصْفَ الْعَدَالَةِ مَطْلُوبٌ فِي الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا ، وَهُوَ يَتَزَايَدُ فِي نَفْسِهِ فَمَا رَجَّحْنَا إلَّا فِي مَوْطِنِ اجْتِهَادٍ لَا فِي مَوْضِعِ تَقْدِيرٍ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ كَيْفَ كَانَ يُعْتَبَرُ بَلْ نَدَّعِي أَنَّ مَزِيدَ الظَّنِّ بَعْدَ حُصُولِ أَصْلٍ مُعْتَبَرٍ كَمَا أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ لَا نُثْبِتُ بِهَا الْأَحْكَامَ وَالْفَتَاوَى ، وَإِنْ حَصَّلَتْ ظَنًّا أَكْثَرَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْهَا مُدْرِكًا لِلْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ ، وَلَمَّا جَعَلَ الْأَخْبَارَ وَالْأَقْيِسَةَ مُدْرِكًا لِلْفُتْيَا دَخَلَهَا التَّرْجِيحُ فَكَذَا هَاهُنَا أَصْلُ الْبَيِّنَةِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالشُّرُوطِ الْمَخْصُوصَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا التَّرْجِيحُ .
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعَدَدِ يُفْضِي إلَى كَثْرَةِ النِّزَاعِ وَطُولِ الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِمَزِيدِ عَدَدٍ سَعَى الْآخَرُ فِي زِيَادَةِ عَدَدِ بَيِّنَتِهِ ، وَتَطُولُ الْخُصُومَةُ ، وَتُعَطَّلُ الْأَحْكَامُ ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيِّنَتَهُ أَعْدَلَ فَلَا يَطُولُ النِّزَاعُ ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ يُعَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ فَيَمْتَنِعُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ بِخِلَافِ وَصْفِ الْعَدَالَةِ ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ فَعُدُولُ زَمَانِنَا لَمْ يَكُونُوا مَقْبُولِينَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَلْبَتَّةَ مَعَ أَنَّا نَلْتَزِمُ التَّرْجِيحَ بِالْعَدَدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْبَيِّنَاتِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ) وَهُوَ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ ضَابِطِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ، وَمَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ ذَلِكَ الضَّابِطِ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ، وَضَابِطُ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ أَنَّهُ كُلُّ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ أَحَدُ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ ثَبَتَ تَرْجِيحُهُ عِنْدَ تَعَارُضِهَا ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) زِيَادَةُ الْعَدَالَةِ كَمَا فِي الْجَوَاهِرِ وَإِنْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ التَّرْجِيحَ بِهَا مُحْتَجِّينَ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الشَّهَادَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِالزِّيَادَةِ كَالدِّيَةِ لَا تَخْتَلِفُ بِزِيَادَةِ الْمَأْخُوذِ فِيهِ فَدِيَةُ الصَّغِيرِ الْحَقِيرِ كَدِيَةِ الْكَبِيرِ الشَّرِيفِ الْعَالِمِ الْعَظِيمِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْفَسَقَةِ يَحْصُلُ الظَّنُّ أَكْثَرُ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَعُلِمَ أَنَّهَا تَعَبُّدٌ لَا يَدْخُلُهَا الِاجْتِهَادُ ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إذَا كَثُرُوا ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ زِيَادَةُ الْعَدَالَةِ ، وَهِيَ صِفَةٌ لَاعْتُبِرَتْ زِيَادَةُ الْعَدَدِ ، وَهِيَ بَيِّنَاتٌ مُعْتَبَرَةٌ إجْمَاعًا فَيَكُونُ اعْتِبَارُهَا أَوْلَى مِنْ الصِّفَةِ ، وَالْعَدَدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَالصِّفَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَنَا وَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لَمَّا تُثِيرُهُ مِنْ الظَّنِّ ، وَالظَّنُّ فِي الْأَعْدَلِ أَقْوَى لِأَنَّ مُقِيمَ الْأَعْدَلِ أَقْرَبُ لِلصِّدْقِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ } فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ إذَا رَجَّحَ أَحَدُهُمَا .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الِاحْتِيَاطَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرُ مِنْ

الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ فَإِذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ مَطْلُوبًا أَكْثَرُ فِي الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ الْأَعْدَلِ ، وَالظَّنُّ أَقْوَى فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْخَبَرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَالْمُدْرَكُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الِاحْتِيَاطِ ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْجَامِعِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجَوَامِعُ فِي الْقِيَاسَاتِ تَعَدَّدَتْ ، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ وَصْفَ الْعَدَالَةِ مَطْلُوبٌ فِي الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا ، وَهُوَ يَتَزَايَدُ فِي نَفْسِهِ فَمَا رَجَّحْنَا فِي مَوْطِنِ تَقْدِيرٍ ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا فِي مَوْطِنِ اجْتِهَادٍ .
( وَعَنْ الثَّانِي ) إنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ يُعْتَبَرُ كَيْفَ كَانَ بَلْ نَدَّعِي أَنَّ مَزِيدَ الظَّنِّ مُعْتَبَرٌ فِي التَّرْجِيحِ بَعْدَ حُصُولِ أَصْلٍ مُعْتَبَرٍ أَلَا تَرَى أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ لَا تَثْبُتُ بِهَا الْأَحْكَامُ وَالْفَتَاوَى ، وَإِنْ حَصَلَتْ ظَنًّا أَكْثَرَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْهَا مُدْرَكًا لِلْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ ، وَأَنَّ الْأَخْبَارَ وَالْأَقْيِسَةَ لَمَّا جُعِلَتْ مُدْرَكًا لِلْفُتْيَا دَخَلَهَا التَّرْجِيحُ فَكَذَا هُنَا أَصْلُ الْبَيِّنَةِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالشُّرُوطِ الْمَخْصُوصَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا التَّرْجِيحُ .
( وَعَنْ الثَّالِثِ ) أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعَدَدِ يُفَارِقُ التَّرْجِيحَ بِالْأَعْدَلِيَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ : ( الْأُولَى ) أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعَدَدِ يُفْضِي إلَى كَثْرَةِ النِّزَاعِ وَطُولِ الْخُصُومَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ إذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِمَزِيدِ عَدَدٍ سَعَى الْآخَرُ فِي زِيَادَةِ عَدَدِ بَيِّنَتِهِ فَتَطُولُ الْخُصُومَةُ ، وَتُعَطَّلُ الْأَحْكَامُ ، وَلَيْسَ الْأَعْدَلِيَّةُ كَذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيِّنَتَهُ أَعْدَلَ فَلَا يَطُولُ النِّزَاعُ .
( وَالثَّانِيَةُ ) أَنَّ الْعَدَدَ يَمْتَنِعُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ وَصْفِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ

الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ فَعُدُولُ زَمَانِنَا لَمْ يَكُونُوا مَقْبُولِينَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّا نَلْتَزِمُ التَّرْجِيحَ بِالْعَدَدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) قُوَّةُ الْحُجَّةِ كَالشَّاهِدَيْنِ يُقَدَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَمَا فِي الْجَوَاهِرِ .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) الْيَدُ عِنْدَ التَّعَادُلِ كَمَا فِي الْجَوَاهِرِ قَالَ الْأَصْلُ فَعِنْدَنَا يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ عِنْدَ التَّسَاوِي أَوْ هُوَ مَعَ الْبَيِّنَةِ الْأَعْدَلِ كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ الشَّهَادَةُ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ نَحْوَ هُوَ مِلْكِي نَسَجَتْهُ أَوْ وَلَدَتْهُ الدَّابَّةُ عِنْدِي فِي مِلْكِي كَانَ السَّبَبُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْمِلْكُ يَتَكَرَّرُ كَنَسْجِ الْخَزِّ ، وَغَرْسِ النَّخْلِ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوِلَادَةِ ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ الْخَارِجُ أَوْلَى ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَصْلًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إنْ ادَّعَى مُطْلَقَ الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ إلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ فَادَّعَاهُ كِلَاهُمَا فَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوِلَادَةِ وَادَّعَيَاهُ ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ فَقَالَتْ كُلُّ بَيِّنَةٍ وُلِدَ عَلَى مِلْكِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ .
لَنَا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَحَاكَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْيَدِ } ، وَلِأَنَّ الْيَدَ مُرَجَّحَةٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ، وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَا تَقَدَّمَ ، وَالثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى الْمُضَافِ إلَى سَبَبٍ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَاحْتَجُّوا بِأَرْبَعَةِ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ

، وَهُوَ يَقْتَضِي صِنْفَيْنِ مُدَّعِيًا ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّتُهُ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْيَمِينُ حُجَّتُهُ فَبَيِّنَتُهُ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَا تُسْمَعُ كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى لَا تُفِيدُ شَيْئًا ، وَجَوَابُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ جَعَلَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهِ سَلَّمْنَا عَدَمَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لَكِنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ فُسِّرَ بِالطَّالِبِ فَصَاحِبُ الْيَدِ طَالِبٌ لِنَفْسِهِ مَا طَلَبَهُ الْآخَرُ لِنَفْسِهِ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ فُسِّرَ بِأَضْعَفِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا فَالْخَارِجُ لَمَّا أَقَامَ بَيِّنَةً صَارَ الدَّاخِلُ أَضْعَفَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا تُشْرَعُ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّهِ سَلَّمْنَا دَلَالَتُهُ أَيْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُومَ الْمُخَصَّصُ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ ، وَهُوَ يُفِيدُ وُجُوبَ الِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا ، وَأَنَّ مَنْ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ حَكَمَ بِهَا ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا فِي سَبَبٍ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوِلَادَةِ شَهِدَتْ هَذِهِ بِالْوِلَادَةِ ، وَالْأُخْرَى بِالْوِلَادَةِ تَعَيَّنَ كَذِبُهُمَا فَسَقَطَتَا فَبَقِيَتْ الْيَدُ فَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَأَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْكَذِبُ فَلَمْ تُفِدْ بِبَيِّنَتِهِ إلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ فَسَقَطَتْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا تَعَارَضَتَا فِي دَعْوَى طَعَامٍ ادَّعَيَا زِرَاعَتَهُ ، وَشَهِدَا بِذَلِكَ ، وَالزَّرْعُ لَا يُزْرَعُ مَرَّتَيْنِ

كَالْوِلَادَةِ ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَبِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُكِمَ بِالْيَدِ دُونَ الْبَيِّنَةِ لَمَا حُكِمَ لَهُ إلَّا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ لَهُ حَيْثُ كَذَبَتْ بَيِّنَتُهُ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْكَمَ لَهُ إذَا لَمْ تَكْذِبْ بَيِّنَتُهُ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ أَضْعَفُ مِنْ الْبَيِّنَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْيَدَ لَا يُقْضَى بِهَا إلَّا بِالْيَمِينِ ، وَالْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً قُدِّمَتْ عَلَى يَدِ الدَّاخِلِ إجْمَاعًا فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا لَمْ يُقِمْ الطَّالِبُ بَيِّنَةً لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، وَإِذَا لَمْ تُسْمَعْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَهِيَ أَحْسَنُ حَالَتَيْهِ فَكَيْفَ إذَا أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَتَهُ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَضْعَفُ فَعَدَمُ سَمَاعِهَا حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَجَوَابُهُ ) أَنَّهُ إنَّمَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عِنْدَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَوِيٌّ بِالْيَدِ ، وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ الضَّعِيفِ فَوَجَبَ سَمَاعُهَا لِلضَّعْفِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا عِنْدَ إقَامَةِ الْخَارِجِ بَيِّنَتَهُ .
( وَالرَّابِعُ ) أَنَّا إنَّمَا أَعْلَمْنَا بَيِّنَتَهُ فِي صُورَةِ النِّتَاجِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ أَفَادَتْ الْوِلَادَةَ ، وَلَمْ تُفِدْهَا يَدُهُ ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ فَأَفَادَتْ الْبَيِّنَةُ غَيْرَ مَا أَفَادَتْ الْيَدُ فَقُبِلَتْ .
( وَجَوَابُهُ ) أَنَّ الدَّعْوَى ، وَالْيَدَ لَا يُفِيدَانِ مُطْلَقًا شَيْئًا ، وَإِلَّا لَكَانَ مَعَ الْمُدَّعِي حُجَجُ الْيَدِ وَالدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ يُخَيِّرُهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهَا أَيُّهَا شَاءَ أَقَامَ كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مَعَ إحْدَاهُمَا فَعَلِمَ أَنَّ الْمُفِيدَ إنَّمَا هُوَ الْبَيِّنَةُ ، وَالْيَدُ لَا تُفِيدُ مِلْكًا ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا لِلْيَمِينِ كَالْبَيِّنَةِ بَلْ تُفِيدُ التَّبْقِيَةَ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ ،

وَلِأَنَّهَا لَوْ أَفَادَتْ ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ يُحْتَجْ إلَى يَمِينٍ .
( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) زِيَادَةُ التَّارِيخِ كَمَا فِي الْجَوَاهِرِ .
( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) الزِّيَادَةُ بِالتَّفْصِيلِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَتُرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ الْمُفَصَّلَةُ عَلَى الْمُجْمَلَةِ ، وَالنَّظَرُ فِي التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَعْدَلِيَّةِ ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا بِحَوْزِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى بِرُؤْيَتِهِ يَخْدُمُهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ عَدَمِ الْحَوْزِ إذْ لَمْ تَتَعَرَّضْ الْأُخْرَى لِرَدِّ هَذَا الْقَوْلِ .
( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) الِاخْتِصَاصُ بِمَزِيدِ الِاطِّلَاعِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنْ اخْتَصَّتْ إحْدَاهُمَا بِمَزِيدِ الِاطِّلَاعِ كَشَهَادَةِ إحْدَاهُمَا بِحَوْزِ الرَّهْنِ ، وَالْأُخْرَى بِعَدَمِ الْحَوْزِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْحَوْزِ ، وَهِيَ زِيَادَةُ اطِّلَاعٍ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُقْضَى بِهِ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، وَمِنْ هَذَا مَا إذَا شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا بِالْقَتْلِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ الزِّنَا ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ فَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ زِيَادَةً ، وَلَا يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ قَالَ سَحْنُونٌ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ كَالْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ وَقَفَ بِهِمْ أَوْ صَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ ا هـ قُلْت وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ : مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ .
( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) اسْتِصْحَابُ الْحَالِ وَالْغَالِبِ ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَوْصَى ، وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) ظَاهِرُ

الْحَالِ اعْتَبَرَهُ سَحْنُونٌ فَقَالَ إذَا شَهِدَتْ بِأَنَّهُ زَنَى عَاقِلًا ، وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا إنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَاقِلٌ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَجْنُونٌ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجُنُونِ ا هـ .
وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ ابْنُ اللَّبَّادِ فَقَالَ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا وَقْتُ الْقِيَامِ ا هـ هَذَا تَنْقِيحٌ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَرْقِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَمَا قَالَهُ فِيهِ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ ، وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كَبِيرَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي أُصُولِ الدِّينِ قَدْ مَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الصَّغِيرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا لَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ صَغِيرَةً بَلْ جَمِيعُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ جَمِيعُ مَعَاصِيهِ كَبَائِرَ ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقَدْحِ فِي الْعَدَالَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ يَسْقُطُ بِهَا الْعَدْلُ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَدَالَةِ فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِطْلَاقِ .
وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْفَرْقِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فَجَعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ رُتَبًا ثَلَاثًا كُفْرًا وَفُسُوقًا ، وَهُوَ الْكَبِيرَةُ ، وَعِصْيَانًا ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ مُتَكَرِّرًا إلَّا بِمَعْنًى مُسْتَأْنَفٍ ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ ؛ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ فِي الْمَعَاصِي لَيْسَ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَصَى بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَفْسَدَةِ الْكَائِنَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَالْكَبِيرَةُ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهَا ، وَالصَّغِيرَةُ مَا قَلَّتْ مَفْسَدَتُهَا ، وَرُتَبُ الْمَفَاسِدِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْكَرَاهَةُ ثُمَّ كُلَّمَا ارْتَقَتْ الْمَفْسَدَةُ عَظُمَتْ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ تَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ تَرْتَقِي رُتَبُ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ يَلِيهِ أَدْنَى الْكَبَائِرِ ثُمَّ تَرْتَقِي رُتَبُ الْكَبَائِرِ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا الْكُفْرُ

إذَا تَقَرَّرَ هَذَا .
وَأَرَدْنَا ضَبْطَ مَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ لِعِظَمِهِ نَنْظُرُ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَوْ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِجَعْلِهِ كَبِيرَةً أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَجَلْدِ الشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ قَادِحَةٌ فِي الْعَدَالَةِ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهِ وَعِيدٌ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ فَنَجْعَلُهُ أَصْلًا ، وَنَنْظُرُ فَمَا سَاوَى أَدْنَاهُ مَفْسَدَةً أَوْ رَجَحَ عَلَيْهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ ، وَرَدَدْنَا بِهِ الشَّهَادَةَ ، وَأَثْبَتْنَا بِهِ الْفُسُوقَ ، وَالْجَرْحَ ، وَمَا وَجَدْنَاهُ قَاصِرًا عَنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي شَهِدَتْ لَهَا الْأُصُولُ جَعَلْنَاهُ صَغِيرَةً لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ ، وَلَا تُوجِبُ فُسُوقًا إلَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَبِيرَةً إنْ وَصَلَ بِالْإِصْرَارِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ .
وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ ، وَيَعْنُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا لَا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ كِبَرَ الْكَبِيرَةِ أَلْبَتَّةَ فَفِي الْكِتَابِ فِيهِ ذِكْرُ الْكِبَرِ أَوْ الْعِظَمِ عَقِبَ ذِكْرِ جَرِيمَةٍ ، وَفِي السُّنَّةِ فِي مُسْلِمٍ { قَالُوا مَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا وَقَدْ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَوْفًا أَنْ يَأْكُلَ مَعَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ } وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَثَبَتَ فِي

الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْقُبْلَةَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ صَغِيرَةً } فَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا ، وَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ .
قَالَ ( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كَبِيرَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ إلَى قَوْلِهِ وَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ ) قُلْت مَا قَالَهُ وَنَقَلَهُ صَحِيحٌ إلَّا مَا قَالَهُ فِي ضَبْطِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَقَادِيرِ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ بَنَى عَلَى ذَلِكَ بَلْ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فَهِمْنَا مِنْهُ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ تَفَضُّلًا فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الْفَرْقُ بِالنَّظَرِ إلَى مَقَادِيرِ الْمَفَاسِدِ لِجَهْلِنَا ذَلِكَ وَعَدَمِ وُصُولِنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنَّمَا الضَّابِطُ لِمَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مَا دَلَّ عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ الشَّارِعَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ أَوْ احْتَمَلَ الْجُرْأَةَ فَمَنْ دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِهِ عَلَى الْجُرْأَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْمَعْلُومِ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ أَوْ الْمُصِرُّ عَلَى الصَّغِيرَةِ إصْرَارًا يُؤْذِنُ بِالْجُرْأَةِ وَمَنْ احْتَمَلَ حَالُهُ إنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جُرْأَةً أَوْ فَلْتَةً تَوَقَّفَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَإِنْ دَلَّتْ دَلَائِلُ حَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ ، أَعْنِي مَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ الْكَبِيرُ مِنْ الشَّرْعِ فَلْتَةٌ غَيْرُ مُتَّصِفٍ بِالْجُرْأَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَ إلَّا التُّهْمَةَ بِالِاجْتِرَاءِ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَإِذَا عَرِيَ مِنْ الِاتِّصَافِ بِالْجُرْأَةِ وَاحْتِمَالِ الِاتِّصَافِ بِهَا بِظَاهِرِ حَالِهِ سَقَطَتْ التُّهْمَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْفَرْقُ الثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي هِيَ كَبِيرَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَقَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ مَانِعَةً مِنْ الشَّهَادَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ الْمُخِلِّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِقَبُولِهَا ) : اعْلَمْ أَنَّ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ رُكْنَيْنِ : ( الرُّكْنُ الْأَوَّلُ ) الْعَدَالَةُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي بِدَايَتِهِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِدُونِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } الْآيَةَ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْفَاسِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا عُرِفَتْ تَوْبَتُهُ إلَّا مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ قَبْلِ الْقَذْفِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ تَابَ ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ تُقْبِلُ إذَا تَابَ ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إلَيْهِ أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ إلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَسْقُطُ عِنْدَ الْحَدِّ ا هـ .
قَالَ الْبَاجِيَّ قَالَ مَالِكٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ وَلَا قَبُولِ شَهَادَتِهِ تَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ بَلْ صَلَاحُ حَالِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ لَا بُدَّ فِي تَوْبَةِ الْقَاذِفِ مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّا قَضَيْنَا بِكَذِبِهِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِلَّا لَمَا فَسَّقْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ لَكَانَ مُصِرًّا عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي فَسَّقْنَاهُ لِأَجْلِهِ فِي الظَّاهِرِ ، وَعَلَيْهِ إشْكَالَانِ : (

أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَتَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ كَذِبٌ فَكَيْفَ تُشْتَرَطُ الْمَعْصِيَةُ فِي التَّوْبَةِ ، وَهِيَ ضِدُّهَا ، وَكَيْفَ نَجْعَلُ الْمَعَاصِيَ سَبَبَ صَلَاحِ الْعَبْدِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِفْعَتِهِ ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ صَادِقًا فَهُوَ عَاصٍ لِأَنَّ تَعْبِيرَ الزَّانِي بِزِنَاهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَاصِيًا بِكُلِّ حَالٍ .
( وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ ) أَنَّ الْكَذِبَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ كَالرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ ، وَلِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهَذَا التَّكْذِيبُ فِيهِ مَصْلَحَةُ السَّتْرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَتَقْلِيلُ الْأَذِيَّةِ وَالْفَضِيحَةِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَوْدُهُ إلَى الْوِلَايَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ ، وَتَصَرُّفُهُ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِ ، وَتَزْوِيجُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ ، وَتَعَرُّضُهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ( وَعَنْ الثَّانِي ) تَعْيِيرُ الزَّانِي بِزِنَاهُ صَغِيرَةٌ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ ا هـ ، وَقَالَ فِي الْبِدَايَةِ قَبْلَ مَا ذُكِرَ ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْعَدَالَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْفِسْقِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ مُجْتَنِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ لَا تُعْلَمُ مِنْهُ جُرْحَةٌ ا هـ وَقَالَ الْأَصْلُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقَدْحِ فِي الْعَدَالَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ يَسْقُطُ بِهَا الْعَدْلُ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَدَالَةِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ فَقَطْ فَمَنَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الصَّغِيرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالُوا لَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ صَغِيرَةً بَلْ

جَمِيعُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ جَمِيعُ مَعَاصِيهِ كَبَائِرَ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْفَرْقِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فَجَعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ رُتَبًا ثَلَاثًا كُفْرًا وَفُسُوقًا وَهُوَ الْكَبِيرَةُ ، وَعِصْيَانًا وَهِيَ الصَّغِيرَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ مُتَكَرِّرًا لَا بِمَعْنًى مُسْتَأْنَفٍ ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ ا هـ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالضَّابِطُ لِمَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّذِي بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ الشَّارِعَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ أَوْ احْتَمَلَ الْجُرْأَةَ كَمَا اخْتَارَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ قَالَ فَمَنْ دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِهِ عَلَى الْجُرْأَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْمَعْلُومِ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ أَوْ الْمُصِرُّ عَلَى الصَّغِيرَةِ إصْرَارًا يُؤْذِنُ بِالْجُرْأَةِ ، وَمَنْ احْتَمَلَ حَالُهُ إنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جُرْأَةً أَوْ فَلْتَةً تُوَقِّفَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَمَنْ دَلَّتْ دَلَائِلُ حَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي مَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مَعْلُومَةِ الْكِبَرِ مِنْ الشَّرْعِ فَلْتَةً غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالْجُرْأَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ رَدُّ الشَّهَادَةِ لَيْسَ إلَّا التُّهْمَةَ بِالِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ كَالِاجْتِرَاءِ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ الِاتِّصَافِ بِالْجُرْأَةِ وَاحْتِمَالِ الِاتِّصَافِ بِهَا بِظَاهِرِ حَالِهِ سَقَطَتْ التُّهْمَةُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ وَصُورَةِ الْفَاعِلِ وَهَيْئَةِ الْفِعْلِ ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ

السَّلِيمِ عَنْ الْأَهْوَاءِ الْمُعْتَدِلِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ الْعَارِفِ بِالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِوَزْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّسَاهُلُ فِي طَبْعِهِ لَا يَعُدُّ الْكَبِيرَةَ شَيْئًا ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّشْدِيدُ فِي طَبْعِهِ يَجْعَلُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْلِ الْوَازِنِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْإِصْرَارُ الْمُصَيِّرُ لِلصَّغِيرَةِ كَبِيرَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الْمُعَاوَدَةُ لَهَا مُعَاوَدَةً تُشْعِرُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لَا الْمُعَاوَدَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَزْمِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْجُرْأَةِ نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْإِشْعَارِ بِهَا الَّذِي اشْتَرَطْته فَإِنَّهُ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْمَوَاقِعِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ مُلَابَسَةِ أَدْنَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ بِمُلَابَسَتِهَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يُنْظَرُ لِذَلِكَ التَّكَرُّرِ فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنْ حَصَلَ فِي النَّفْسِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ مَا حَصَلَ مِنْ أَدْنَى الْكَبَائِرِ كَانَ هَذَا الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَخْ ا هـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَمَتَى تَخَلَّلَتْ التَّوْبَةُ الصَّغَائِرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إذَا كَانَتْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّبَهُ وَاللُّبْسُ إذَا تَكَرَّرَتْ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ النَّظَرِ ا هـ ( الرُّكْنُ الثَّانِي ) الْوُثُوقُ بِالضَّبْطِ فَلِذَا اشْتَرَطُوا الْبُلُوغَ فِيهَا وَالْحُرِّيَّةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ أَمَّا الْبُلُوغُ فَقَالَ فِي الْبِدَايَةِ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيهَا حَيْثُ تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي

الْجِرَاحِ ، وَفِي الْقَتْلِ فَرَدَّهَا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ الْبُلُوغُ ، وَلَك لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ قَرِينَةُ حَالٍ ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهَا أَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا لِئَلَّا يُجَنَّبُوا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَجُوزُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ أَمْ لَا ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِدَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الذُّكُورَةُ أَمْ لَا ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَجُوزُ فِي الْقَتْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ ، وَلَا عُمْدَةَ لِمَالِكٍ فِي هَذَا إلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ إجَازَتِهِ قِيَاسَ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِمَّا أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّهَا ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا نَعَمْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَقَوْمٌ مِنْ التَّابِعِينَ ا هـ .
بِتَصَرُّفٍ ، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَفِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا هُوَ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ ، وَالْعُبُودِيَّةُ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الرَّدِّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ ، وَكَأَنَّ الْجُمْهُورَ رَأَوْا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَثَرٌ مِنْ أَثَرِ الْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ا هـ .
وَأَمَّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَأَمَّا التُّهَمُ بِالِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا ارْتِكَابُ بَعْضِ الْمَعَاصِي فَقَدْ تَضَمَّنَهَا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ كَمَا عَرَفَتْ ، وَأَمَّا التُّهْمَةُ الَّتِي سَبَبُهَا الْمَحَبَّةُ وَالْقَرَابَةُ أَوْ الْبِغْضَةُ لِلْعَدَاوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَفِي الْبِدَايَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي إسْقَاطِ الشَّهَادَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْعَدْلِ بِالتُّهْمَةِ

لِمَوْضِعِ الْمَحَبَّةِ أَوْ الْبِغْضَةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَالَ بِرَدِّهَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا فِي مَوَاضِعَ عَلَى أَعْمَالِ التُّهْمَةِ ، وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى إسْقَاطِهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ فَأَعْمَلَهَا بَعْضُهُمْ ، وَأَسْقَطَهَا بَعْضُهُمْ ا هـ .
الْمُرَادُ فَانْظُرْهَا ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ بَعْدَ تَوْضِيحِ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ ، وَأَمَّا التُّهْمَةُ الْمُشْعِرَةُ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَبِفِعْلِ بَعْضِ الْمُبَاحِ الْمُخِلِّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ ، وَالضَّابِطُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الشَّاهِدِ فِي أُمُورِهِ الْمُبَاحَةِ رُبَّمَا أَشْعَرَتْ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى ضَبْطِهِ ، وَرُبَّمَا لَمْ تُشْعِرْ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ أَوْ احْتَمَلَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَوْ تُوُقِّفَ فِي قَبُولِهَا ، وَإِلَّا فَلَا ا هـ بِلَفْظِهِ .
( تَنْبِيهٌ ) قَالَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَبْلَ جَلْدِهِ بِدُونِ تَوْبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً اتِّفَاقًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَدَّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَمُطَرِّفٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَنَا أَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ غَيْرُ فَاسِقٍ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ جَلْدِهِ يَجُوزُ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ إلَّا بَعْدَ الْجَلْدِ ، وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَالَةِ وَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ ، وَاحْتَجُّوا بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ تَرْتِيبَ الْفِسْقِ عَلَى الْقَذْفِ .
وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَذْفُ فَيَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ سَوَاءٌ جُلِدَ أَمْ لَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَبُطْلَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَرَتَّبَ

رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقَ عَلَى الْجَلْدِ ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عَلِيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْجَلْدُ هُوَ السَّبَبُ الْمُفَسِّقُ فَحَيْثُ لَا جَلْدَ لَا فُسُوقَ ، وَهُوَ مَطْلُوبُنَا ، وَعَكْسُ مَطْلُوبِكُمْ ، وَالْوَجْهُ ( الثَّانِي ) أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ فَلَوْ تَوَقَّفَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ لَزِمَ الدَّوْرُ ، وَالْوَجْهُ ( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَى حَيْثُ تَيَقُّنِ الْعَدَالَةَ ، وَلَمْ تُتَيَقَّنْ هُنَا فَتُرَدُّ ، وَجَوَابُهُمْ أَنَّ كَوْنَ الْجَلْدِ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ ظَاهِرٌ ظُهُورًا ضَعِيفًا لِجَوَازِ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا أُقِيمَ الْجَلْدُ قَوِيَ الظُّهُورُ بِإِقْدَامِ الْبَيِّنَةِ وَتَصْمِيمِهَا عَلَى أَذِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَقْذُوفُ ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ أَنَّ مُدْرَكَ رَدِّ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الظُّهُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعَدَالَةِ السَّابِقَةِ ا هـ بِإِصْلَاحٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) مَا حَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ الَّذِي يُصَيِّرُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً وَقَعَ الْبَحْثُ فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ يَعْزِمُ عَلَى الْعَوْدِ أَمْ لَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ تَكَرَّرَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ لَمْ يَكُنْ إصْرَارًا بِأَنْ يَفْعَلَ الذَّنْبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ لَا يَخْطُرُ لَهُ مُعَاوَدَتُهُ لِدَاعِيَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ فَيَفْعَلُهُ كَذَلِكَ مِرَارًا فَهَذَا لَيْسَ إصْرَارًا ، وَتَارَةً يَفْعَلُ الذَّنْبَ ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ فَيُعَاوِدُهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ السَّابِقِ فَهَذَا هُوَ الْإِصْرَارُ النَّاقِلُ لِلصَّغِيرَةِ لِدَرَجَةِ الْكَبِيرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } وَيُقَالُ فُلَانٌ مُصِرٌّ عَلَى الْعَدَاوَةِ أَيْ مُصَمِّمٌ بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا ، وَعَلَى مُصَاحَبَتِهَا ، وَمُدَاوَمَتِهَا ، وَلَا يُفْهَمُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الْإِصْرَارِ إلَّا الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَى الشَّيْءِ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا هَذَا هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) مَا ضَابِطُ التَّكَرُّرِ فِي الْإِصْرَارِ الَّذِي يُصَيِّرُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ مُلَابَسَةِ أَدْنَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ بِمُلَابَسَتِهَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يُنْظَرُ لِذَلِكَ التَّكَرُّرِ فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنْ حَصَلَ فِي النَّفْسِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ مَا حَصَلَ مِنْ أَدْنَى الْكَبَائِرِ كَانَ هَذَا الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَزْمِ فَإِنَّ الْفَلَتَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَمِرَّ لَا تَكَادُ تُخِلُّ بِالْوُثُوقِ نَعَمْ قَدْ تَدُلُّ كَثْرَةُ التَّكْرَارِ عَلَى فِرَارِ الْعَزْمِ فِي النَّفْسِ ، وَبِهَذَا الضَّابِطُ أَيْضًا

يُعْلَمُ الْمُبَاحُ الْمُخِلُّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ يَصْدُرُ مِنْهُ صُدُورًا يُوجِبُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُخِلًّا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ وَصُورَةِ الْفَاعِلِ وَهَيْئَةِ الْفِعْلِ ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ السَّلِيمِ عَنْ الْهَوَاءِ الْمُعْتَدِلِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ الْعَارِفِ بِالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِوَزْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّسَاهُلُ فِي طَبْعِهِ لَا يَعُدُّ الْكَبِيرَةَ شَيْئًا ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّشْدِيدُ فِي طَبْعِهِ يَجْعَلُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْلِ الْوَازِنِ لِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ ، وَمَتَى تَخَلَّلَتْ التَّوْبَةُ الصَّغَائِرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إذَا كَانَتْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّبَهُ وَاللَّبْسُ إذَا تَقَرَّرَتْ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مَوْضُوعُ النَّظَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ

قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَا حَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت الْإِصْرَارُ لُغَةً الْمُقَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُعَاوَدَةُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا أَوْ غَيْرَهُ ، لَا مَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ ، مِنْ أَنَّهُ الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَى الشَّيْءِ ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِصْرَارُ الْمُصَيِّرُ لِلصَّغِيرَةِ كَبِيرَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الْمُعَاوَدَةُ لَهَا مُعَاوَدَةً تُشْعِرُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لَا الْمُعَاوَدَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَزْمِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ .
فَإِنْ قِيلَ الْجُرْأَةُ أَمْرٌ بَاطِنٌ قُلْت لِمَ اشْتَرَطَ الْجُرْأَةَ بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا اشْتَرَطَتْ الْإِشْعَارَ بِهَا وَهُوَ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْمَوَاقِعِ لِلْمُخَالَفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إلَى قَوْلِهِ كَانَ هَذَا الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالْجُرْأَةِ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ ( وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَزْمِ فَإِنَّ الْفَلَتَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَمِرَّ لَا تَكَادُ تُخِلُّ بِالْوُثُوقِ ) قُلْت إنْ أَرَادَ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِعَزْمِهِ فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُشْعِرَةَ بِالْجُرْأَةِ لَا تَخْلُو عَنْ الْإِشْعَارِ بِالْعَزْمِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَاوَدَ الْمُخَالَفَةَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ تَكُونُ حَالُهُ هَذِهِ مُشْعِرَةً بِجُرْأَتِهِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْعَزْمُ لَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ بِوَجْهٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( وَبِهَذَا الضَّبْطِ أَيْضًا يُعْلَمُ الْمُبَاحُ الْمُخِلُّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنْ يَصْدُرُ مِنْهُ صُدُورًا يُوجِبُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ بُخْلًا ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَنَّ الْمُبَاحَ الْمُخِلَّ بِقَبُولِ

الشَّهَادَةِ رُبَّمَا لَا يُخِلُّ بِهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي تُخِلُّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَإِنَّ إخْلَالَ الْمُخَالَفَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ رُكْنَيْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِخْلَالِ الْمُبَاحِ إنَّمَا هُوَ بِالْوُثُوقِ بِالضَّبْطِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ ضَابِطُ الْأَمْرَيْنِ ضَابِطًا وَاحِدًا هَذَا لَا يَصِحُّ بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الشَّاهِدِ فِي أُمُورِهِ الْمُبَاحَةِ رُبَّمَا أَشْعَرَتْ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى ضَبْطِهِ وَرُبَّمَا لَمْ تُشْعِرْ وَذَلِكَ بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ أَوْ احْتَمَلَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي قَبُولِهَا أَوْ تَوَقَّفَ وَإِلَّا فَلَا قَالَ ( وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْدَهَا نَقْلٌ وَتَوْجِيهٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفُرُوقِ السِّتَّةِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَبْلَ جَلْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً اتِّفَاقًا ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَدَّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَمُطَرِّفٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَنَا أَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ غَيْرُ فَاسِقٍ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ جَلْدِهِ يَجُوزُ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ إلَّا بَعْدَ الْجَلْدِ ، وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَالَةِ وَالْحَالَةِ السَّابِقَةِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ تَرْتِيبَ الْفِسْقِ عَلَى الْقَذْفِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَذْفُ فَيَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ سَوَاءٌ جُلِدَ أَمْ لَا .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ فَلَوْ تَوَقَّفَ الْفِسْقُ عَلَى الْجَلْدِ لَزِمَ الدَّوْرُ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَّا حَيْثُ تَيَقُّنِ الْعَدَالَةِ ، وَلَمْ تُتَيَقَّنْ هُنَا فَتُرَدُّ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَبُطْلَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَرَتَّبَ رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقِ عَلَى الْجَلْدِ وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْجَلْدُ هُوَ السَّبَبَ الْمُفَسِّقَ فَحَيْثُ لَا جَلْدَ لَا فُسُوقَ .
وَهُوَ مَطْلُوبُنَا أَوْ عَكْسُ مَطْلُوبِكُمْ ، وَعَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ ظَاهِرًا ظُهُورًا ضَعِيفًا لِجَوَازِ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا أُقِيمَ الْجَلْدُ قَوِيَ الظُّهُورُ بِإِقْدَامِ الْبَيِّنَةِ وَتَصْمِيمِهَا عَلَى أَذِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَقْذُوفُ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ إنَّ مُدْرَكَ رَدِّ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الظُّهُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعَدَالَةِ السَّابِقَةِ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْبَاجِيَّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ لَا بُدَّ فِي تَوْبَةِ الْقَاذِفِ مِنْ تَكْذِيبِهِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّا قَضَيْنَا بِكَذِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَمَّا فَسَّقْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ لَكَانَ مُصِرًّا عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي فَسَّقْنَاهُ لِأَجْلِهِ فِي الظَّاهِرِ ، وَعَلَيْهِ إشْكَالَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَتَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ كَذِبٌ فَكَيْفَ تُشْتَرَطُ الْمَعْصِيَةُ فِي التَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا ، وَنَجْعَلُ الْمَعَاصِيَ سَبَبَ صَلَاحِ الْعَبْدِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِفْعَتِهِ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ صَادِقًا فَهُوَ عَاصٍ لِأَنَّ تَعْيِيرَ الزَّانِي بِزِنَاهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَاصِيًا بِكُلِّ حَالٍ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَذِبَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ كَالرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ ، وَلِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهَذَا التَّكْذِيبُ فِيهِ مَصْلَحَةُ السَّتْرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَتَقْلِيلُ الْأَذِيَّةِ وَالْفَضِيحَةِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَعَوْدُهُ إلَى الْوِلَايَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ ، وَتَصَرُّفُهُ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِ وَتَزْوِيجُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ ، وَتَعَرُّضُهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ( وَعَنْ الثَّانِي ) أَنَّ تَعْيِيرَ الزَّانِي بِزِنَاهُ صَغِيرَةٌ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَلَا قَبُولِ شَهَادَتِهِ تَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ بَلْ صَلَاحُ حَالِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ .

( الْفَرْقُ الثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التُّهْمَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تُرَدُّ بِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَكِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ الرُّتَبِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِقُوَّتِهَا ، وَمُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهَا لِخِفَّتِهَا ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ تَلْحَقُ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا فَتَمْنَعُ أَوْ بِالرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَلَا تَمْنَعُ فَأَعْلَاهَا شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُجْمَعٌ عَلَى رَدِّهَا ، وَأَدْنَاهَا شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِرَجُلٍ مِنْ قَبِيلَتِهِ أُجْمِعَ عَلَى اعْتِبَارِهَا ، وَبُطْلَانِ هَذِهِ التُّهْمَةِ ، وَمِثَالُ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ شَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ أَوْ لِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي عَمُودَيْ النَّسَبِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لَا يَشْهَدُ لَهُمْ ، وَخَالَفُونَا فِي الْأَخِ وَالصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ ، وَوَافَقَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ فِي الزَّوْجَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُمَا ، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فَقَبِلَ ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَاوَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الدِّينِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْعَدَاوَةُ مُطْلَقًا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَسِّطَاتِ لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَبِقَوْلِهِ { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْفِقْهِ مَعَ مَنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ وَالنُّصُوصُ مَعَهُ أَظْهَرُ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ رَقِّهِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي تَنْفِيذِ مَا رُدَّ فِيهِ مَنَعْنَاهَا نَحْنُ وَابْنُ حَنْبَلٍ .
وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقْبَلُ الْكُلَّ إلَّا الْفَاسِقَ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَاسِقَ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَدَالَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الْفِسْقِ ، وَأُولَئِكَ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ الْبَاعِثُ عَلَى التُّهْمَةِ ، وَلَنَا شَهَادَةُ الْعَوَائِدِ ، وَلِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِفَاتِهِمْ لَوْ وَقَعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمَا وَقَعَ الْأَدَاءُ ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا حَيْثُ وَقَعَ الْأَدَاءُ فَصِفَاتُهُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُ مَجْهُولَةً فَسَقَطَ الْفَرْقُ ، وَعَكْسُهُ لَوْ حَصَلَ الْبَحْثُ عَنْ الْفِسْقِ قَبْلَ الْأَدَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ تُرَدَّ ، وَصَلَحَتْ حَالُهُ ، وَمَنَعْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إذَا قُصِدُوا فِي التَّحَمُّلِ دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَيْهِمْ مَعَ إمْكَانِ غَيْرِهِمْ تُهْمَةٌ فِي إبْطَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ لَا يُقْبَلُ بَدْوِيٌّ مُطْلَقًا عَلَى قَرَوِيٍّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ مُطْلَقًا ، لَنَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَفِي أَبِي دَاوُد { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدْوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ } ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَوْضِعِ التُّهْمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَحَمَّلُوهُمْ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالُوا وَهُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ عَلَى النَّاسِ } ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ قُبِلَتْ فِي غَيْرِهَا كَالْحَضَرِيِّ ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ آكَدُ مِنْ الْمَالِ فَفِي الْمَالِ أَوْلَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَمْعَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ

لِأَجْلِ عَدَمِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِصَاحِبِ الْقَرْيَةِ فَائِدَةٌ بَلْ لِلتُّهْمَةِ ، وَعَنْ الثَّانِي نَحْنُ نَقْبَلُهُ فِي الْهِلَالِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْجِرَاحَ يُقْصَدُ الْخِلْوَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَوْجُودَةً دُونَ الْجِرَاحِ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التُّهْمَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُرَدُّ بِهِ ) قَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) تُهْمَةُ الِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا ارْتِكَابُ بَعْضِ الْمَعَاصِي ، وَقَدْ تَضَمَّنَهَا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ رُكْنَيْ الشَّهَادَةِ ، وَالثَّانِي تُهْمَةُ خَلَلِ الْعَقْلِ الَّتِي سَبَبُهَا فِعْلُ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ ، وَالثَّالِثُ تُهْمَةُ الِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا الْمَحَبَّةُ بِنَحْوِ الْقَرَابَةِ أَوْ الْبِغْضَةِ بِالْعَدَاوَةِ ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْهُمَا ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةٍ سَبَبُهَا مَا ذُكِرَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِفَوْتِهَا كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، وَكَشَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ ، وَالْأُمِّ لِابْنِهَا ، وَبِالْعَكْسِ فَقَدْ ذَهَبَ شُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد إلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ تُقْبَلُ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ إذَا كَانَ الْأَبُ عَدْلًا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي إجْرَاءَ الْمَأْمُورِ إلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ الثَّانِي إنْ رَدَّ الشَّهَادَةَ بِالْجُمْلَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَوْضِعِ اتِّهَامِ الْكَذِبِ ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا اعْتَمَلَهَا الشَّرْعُ فِي الْفَاسِقِ ، وَمَنَعَ إعْمَالَهَا فِي الْعَادِلِ فَلَا تَجْتَمِعُ الْعَدَالَةُ مَعَ التُّهْمَةِ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) مُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهَا لِخِفَّتِهَا كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِرَجُلٍ مِنْ قَبِيلَتِهِ قَالَ فِي الْبِدَايَةِ ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الْأَخِ

لِأَخِيهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ عَارًا عَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا إلَى أَخِيهِ يَنَالُهُ بِرُّهُ ، وَصِلَتُهُ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى إسْقَاطِ التُّهْمَةِ فِيهَا مَا عَدَا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ ، وَمُفَادُ كَلَامِ الْأَصْلِ أَنَّ التُّهْمَةَ فِيهَا تُلْغَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ ، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَنَا مُطْلَقًا ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَانْظُرْ ذَلِكَ ( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ تَلْحَقُ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا فَتُمْنَعُ أَوْ بِالرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَلَا تُمْنَعُ ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ حَنْبَلٍ رَدُّوهَا ، وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنُ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتَيْهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لَهُ ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ لِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ فَتُرَدُّ عِنْدَنَا ، وَتُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقْبَلُ مُطْلَقًا ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الدَّيْنِ .
لَنَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } الثَّانِي مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ } لِقِلَّةِ شُهُودِ الْبَدَوِيِّ مَا يَقَعُ فِي الْمِصْرِ الثَّالِثِ الْقِيَاسُ عَلَى مَا أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَدَاوَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ الْمَقْتُولَ ، وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ ، وَاحْتَجُّوا بِظَوَاهِرَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْفِقْهُ

مَعَ مَنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ وَالنُّصُوصُ مَعَهُ أَظْهَرُ ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ رِقِّهِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يَتَّهِمُ فِي تَنْفِيذِ مَا رُدَّ فِيهِ فَنَحْنُ وَابْنُ حَنْبَلٍ مَنَعْنَاهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقْبَلُ الْكُلُّ إلَّا الْفَاسِقَ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَاسِقَ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَدَالَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الْفِسْقِ ، وَأُولَئِكَ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ الْبَاعِثُ عَلَى التُّهْمَةِ ، وَلَنَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ شَهَادَةُ الْعَوَائِدِ الثَّانِي أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْعِلْمَ بِفِسْقِهِمْ لَوْ وَقَعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمَا وَقَعَ الْأَدَاءُ ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا حَيْثُ وَقَعَ الْأَدَاءُ فَصِفَاتُهُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُ مَجْهُولَةً فَسَقَطَ الْفَرْقُ ، وَعَكْسُهُ لَوْ حَصَلَ الْبَحْثُ عَنْ الْفِسْقِ قَبْلَ الْأَدَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ تُرَدَّ ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إذَا قَصَدُوا فِي التَّحَمُّلِ دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فَنَحْنُ مَنَعْنَاهَا فِي الْبِيَاعَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَيْهِمْ مَعَ إمْكَانِ غَيْرِهِمْ تُهْمَةٌ فِي إبْطَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى قَرَوِيٍّ مُطْلَقًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ مُطْلَقًا لَنَا ، وَجْهَانِ الْأَوَّلُ حَدِيثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ إلَخْ ، وَالثَّانِي حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى مَوْضِعِ التُّهْمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَحُجَّتُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى مَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالُوا : وَهُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ ، وَجَوَابُهُ

أَنَّ جَمْعَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِصَاحِبِ الْقَرْيَةِ بَلْ لِلتُّهْمَةِ ، وَالثَّانِي مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ عَلَى النَّاسِ } ، وَجَوَابُهُ أَنَّا نَقْبَلُهُ فِي الْهِلَالِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَالثَّالِثُ أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ قُبِلَتْ فِي غَيْرِهَا كَالْحَضَرِيِّ ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ آكَدُ مِنْ الْمَالِ فَفِي الْمَالِ أَوْلَى ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْجِرَاحَ يَقْصِدُ لَهَا الْخِلْوَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَوْجُودَةً دُونَ الْجِرَاحِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ بِدَايَةِ الْحَفِيدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَقَاعِدَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ ) فَضَابِطُ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا طَلَبٌ مُعَيَّنٌ أَوْ مَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ فَالْأَوَّلُ كَدَعْوَى أَنَّ السِّلْعَةَ الْمُعَيَّنَةَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ أَوْ غُصِبَتْ مِنْهُ ، وَالثَّانِي كَالدُّيُونِ وَالسَّلَمِ ثُمَّ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يَدَّعِي فِي ذِمَّتِهِ قَدْ يَكُونُ مُعَيَّنًا بِالشَّخْصِ كَزَيْدٍ أَوْ بِالصِّفَةِ كَدَعْوَى الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْقَتْلِ عَلَى جَمَاعَةٍ أَوْ أَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مُتَمَوِّلًا ، وَالثَّالِثُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ عَلَى زَوْجِهَا فَيَتَرَتَّبُ لَهَا حَوْزُ نَفْسِهَا ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَيَتَرَتَّبُ لَهُ الْمِيرَاثُ الْمُعَيَّنُ فَهِيَ مَقَاصِدُ صَحِيحَةٌ ، وَقَوْلُنَا مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا احْتِرَازٌ مِنْ دَعْوَى عُشْرِ سِمْسِمَةٍ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ شَرْعِيٌّ ، وَلِهَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُحَقَّقَةً لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ قَالَ : لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَكَذَلِكَ : أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ : لَك عَلَيَّ أَلْفٌ ، وَأَظُنُّ أَنِّي قَضَيْتهَا لَمْ تُسْمَعْ لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمَجْهُولِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَطَرِ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ مِنْ الْمُدَّعِي ، وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ لَا يَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إلَّا فِي الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ كَثُلُثِ الْمَالِ ، وَالْمَالُ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَصِحَّةُ الْمِلْكِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ ، وَيَلْزَمُهُ الْحَاكِمُ بِالتَّعْيِينِ ، وَقَالَهُ

أَصْحَابُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إنْ ادَّعَى بِدَيْنٍ مِنْ الْأَثْمَانِ ذَكَرَ الْجِنْسَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ ، وَالنَّوْعَ مِصْرِيَّةً أَوْ مَغْرِبِيَّةً ، وَالصِّفَةَ صِحَاحًا أَوْ مُكَسَّرَةً وَالْمِقْدَارَ وَالسِّكَّةَ ، وَيَذْكُرُ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي السَّلَمِ ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مَعَ الصِّفَاتِ أَحْوَطُ ، وَمَا لَا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ كَالْجَوَاهِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَيَذْكُرُ فِي الْأَرْضِ وَالدَّارِ اسْمَ الصُّقْعِ وَالْبَلَدِ ، وَفِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ قِيمَتَهُ فِضَّةً ، وَبِالْفِضَّةِ قِيمَتَهُ ذَهَبًا أَوْ بِهِمَا قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ، وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ سَبَبِ مِلْكِ الْمَالِ بِخِلَافِ سَبَبِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَاهُنَا دُونَ الْمَالِ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَهَلْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ إتْلَافَهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِخِلَافِ الْمَالِ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا ، وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ أَصْحَابِنَا إنَّ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ لَهُ فَالْمَنْقُولُ جَوَازُ الدَّعْوَى بِمِثْلِ هَذَا ، وَالْحَلِفُ بِمُجَرَّدِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْعِلْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ الطَّالِبِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالظَّنِّ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَا يَقْدَحُ فَهَذَا مَانِعٌ لِأَنَّ عَدَمَهُ شَرْطٌ ، وَأَيْضًا فَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ مَعَهُ لَا يَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهِ مَانِعًا كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالِاسْتِفَاضَةِ وَبِالسَّمَاعِ وَبِالظَّنِّ فِي الْفَلَسِ وَحَصْرِ الْوَرَثَةِ ، وَصَرَّحَ بِمُسْتَنَدِهِ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا عَلَى الصَّحِيحِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَقْدَحُ تَصْرِيحُ

الشَّاهِدِ بِمُسْتَنَدِهِ فِي ذَلِكَ .
وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ فَإِنَّ مَا جَوَّزَهُ الشَّرْعُ لَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مُنْكَرًا ، وَهَذَا مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ ، وَقَوْلِي لَا تُكَذِّبُهُمَا الْعَادَةُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَرْقِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُسْمَعُ ، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُسْمَعُ مِنْ الدَّعَاوَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَيَكْمُلُ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ ، وَالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ ) وَهُوَ أَنَّ الْبَاطِلَةَ مَا كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا بِأَنْ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا ، وَالصَّحِيحَةُ مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا بِأَنْ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا وَشُرُوطُهَا خَمْسَةٌ : ( الشَّرْطُ الْأَوَّلُ ) بَيَانُ الْمُدَّعِي فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْقَاضِي بِأَحَدِ نَوْعَيْنِ : ( النَّوْعُ الْأَوَّلُ ) بِبَيَانِ عَيْنِهِ كَدَعْوَى أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ الْفَرَسَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ غُصِبَتْ مِنْهُ أَوْ بَيَانُ صِفَتِهِ كَلِيِّ فِي ذِمَّتِهِ ثَوْبٌ أَوْ فَرَسٌ صِفَتُهُمَا كَذَا أَوْ دَرَاهِمُ يَزِيدِيَّةٌ أَوْ مُحَمَّدِيَّةٌ أَوْ سَبَّنِي أَوْ شَتَمَنِي أَوْ قَذَفَنِي بِلَفْظِ كَذَا إذْ لَيْسَ كُلُّ سَبٍّ وَشَتْمٍ يُوجِبُ الْحَدَّ ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) بَيَانُ سَبَبِ الْمُدَّعِي فِيهِ الْمُعَيَّنُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ لِتَحَرُّرِ نَفْسِهَا ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ بَيَانُ سَبَبِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ أَوْ الْقَتْلَ خَطَأً لِيَتَرَتَّبَ الصَّدَاقُ أَوْ الدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَوْ الْعَاقِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّوْعِ قَالَ تَسْتَوِي الْعَاصِمِيَّةُ ، وَهَذَا النَّوْعُ بِمِثَالَيْهِ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ فِيهِمَا أَحْرَزْت نَفْسِي لِأَنَّك طَلَّقْتنِي ، وَلِي عَلَيْك صَدَاقٌ أَوْ دِيَةٌ لِأَنَّك مَسِسْتنِي أَوْ قَتَلَتْ وَلِيِّي ، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْت لَك دَارِي أَوْ أَجَرْتهَا مِنْك فَادْفَعْ لِي ثَمَنَهَا أَوْ أُجْرَتَهَا ، وَلِذِكْرِ السَّبَبِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي فِيهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ فِي كَوْنِ بَيَانِ السَّبَبِ فِيهِ كَانَ يَقُولُ مَنْ تَعَدٍّ أَوْ بِيعَ قَالَ خَلِيلٌ وَكَفَى بِعْت وَتَزَوَّجْت ، وَحَمَلَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَإِلَّا فَلْيَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ قَالَ وَلِلْمُدَّعَى

عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ السَّبَبِ ا هـ .
لَيْسَ مِنْ تَمَامِ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَوْ مِنْ تَمَامِ صِحَّتِهَا خِلَافَانِ الْأَوَّلُ لِلْحَطَّابِ قَالَ بِدَلِيلِ قَوْلِ خَلِيلٍ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَخْ ، وَالثَّانِي الرَّمَّاحِيُّ مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَجْمُوعَةِ وَابْنِ عَرَفَةَ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ ، وَاعْتِرَاضُ بَنَّانِيٍّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَبَطَلَتْ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ ادِّعَاءِ النِّسْيَانِ سَاقِطٌ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ إذَا لَمْ يَدَّعِ النِّسْيَانَ كَمَا أَنَّ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ سَاقِطَةٌ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْمَازِرِيِّ ، وَغَيْرِهِ كَمَا يَأْتِي ثُمَّ قَالَ وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ بَيَانَ السَّبَبِ مِنْ تَمَامِ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مَا يَدَّعِيهِ فَاسِدًا كَوْنُهُ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ رِبًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَارِثٍ إذَا لَمْ يَسْأَلْهُ الْقَاضِي عَنْهُ أَيْ السَّبَبِ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ قَالَ فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهُ ، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ لَمْ يُكَلَّفْ الْمَطْلُوبُ بِالْجَوَابِ فَإِنْ ادَّعَى نِسْيَانَهُ قُبِلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ا هـ .
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَيَنْبَنِي عَلَى بَيَانِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا قَالَ فِي جَوَابِهِ لَا حَقَّ لَك عَلَيَّ لَا يُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ بَلْ حَتَّى يَنْفِيَ السَّبَبَ الَّذِي بَيَّنَهُ الْمُدَّعِي ا هـ .
وَفِي الْأَصْلِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ ، وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ سَبَبِ مِلْكِ الْمَالِ بِخِلَافِ سَبَبِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَاهُنَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَهَلْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ إتْلَافَهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِخِلَافِ الْمَالِ ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تُسْمَعُ الدَّعَاوَى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَقُولَ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَرِضَاهَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ

مُحْتَجِّينَ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ النِّكَاحَ خَطَرٌ كَالْقَتْلِ إذْ الْوَطْءُ لَا يُسْتَدْرَكُ .
الثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا اخْتَصَّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَغَيْرِهِ خَالَفْت دَعْوَاهُ الدَّعَاوَى قِيَاسًا لِلدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُقُودِ يَدْخُلُهُ الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ خَطَرًا فَيُحْتَاطُ فِيهِ فَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ الدَّعْوَى فِي النِّكَاحِ تُسْمَعُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتُهَا بِوَلِيٍّ ، وَبِرِضَاهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ هِيَ زَوْجَتِي .
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ وَالرِّدَّةُ وَالْعِدَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُمَا فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ غَالِبَ دَعْوَى الْمُسْلِمِ الصِّحَّةُ كَمَا عَلِمْت فَالِاسْتِدْرَاكُ حِينَئِذٍ نَادِرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَالْقَتْلُ خَطَرُهُ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ النِّكَاحِ وَالنَّذْرِ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ الْقِيَاسِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ دَعْوَى الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ شُرُوطَهُ بِدَلِيلِ الْبَيْعِ فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ الْبَيْعُ فِي دَعْوَاهُ إلَى الشُّرُوطِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ لَا يَحْتَاجُ فِي دَعْوَاهُ إلَيْهَا وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الرِّدَّةَ وَالْعُدَّةَ لَا يَدْخُلُهُمَا الْبَدْلَ وَيَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِمَا ا هـ .
قَالَ تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ وَخَرَجَ بِهَذَا الشَّرْطِ الدَّعْوَى بِمَجْهُولِ الْعَيْنِ أَوْ الصِّفَةِ كَلِيِّ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ أَوْ أَرْضٌ لَا يَدْرِي حُدُودَهَا أَوْ ثَوْبٌ لَا يَدْرِي صِفَتَهُ أَوْ دَرَاهِمُ لَا يَدْرِي صِفَتَهَا وَلَا قَدْرَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا نَسْمَعُ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَوْ أَقَرَّ وَقَالَ نَعَمْ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَوْ أَنْكَرَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَلَا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ إذْ الْكُلُّ مَجْهُولٌ وَالْحُكْمُ

بِهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَيْسَ الْحُكْمُ بِالْهَرَوِيِّ بِأَوْلَى مِنْ الْمَرْوِيِّ مَثَلًا وَلَا بِالْيَزِيدِيَّةِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحُكْمِ تَعْيِينُ الْمَحْكُومِ بِهِ وَلَا تَعْيِينَ هَاهُنَا وَهَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَاصِمٍ : وَمَنْ لِطَالِبٍ بِحَقٍّ شَهِدَا وَلَمْ يُحَقَّقْ عِنْدَ ذَاكَ الْعَدَدُ إلَخْ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ الْبِسَاطِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِهِمْ يَلْزَمُ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ وَيُؤْمَرُ بِتَفْسِيرِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا يُؤْمَرُ بِالْجَوَابِ لَعَلَّهُ يُقِرُّ فَيُؤْمَرُ بِالتَّفْسِيرِ وَيُسْجَنُ لَهُ .
فَإِنْ ادَّعَى الْمُقِرُّ الْجَهْلَ أَيْضًا فَانْظُرْ مَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ لِطَالِبٍ بِحَقٍّ شَهِدَا إلَخْ وَانْظُرْ شَرْحَنَا لِلشَّامِلِ أَوَّلَ بَابِ الصُّلْحِ قَالَ الْحَطَّابُ مَسَائِلُ الْمُدَوَّنَةِ مُرِيحَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ الْمَازِرِيِّ وَلَيْسَ مِنْهُ الدَّعْوَى عَلَى سِمْسَارٍ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ بِدِينَارَيْنِ وَقِيمَتُهُ دِينَارٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَا تَعَلَّقَتْ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ لَا يَدْرِي مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى السِّمْسَارِ هَلْ الثَّمَنُ الَّذِي سَمَّاهُ إنْ بَاعَ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ غَيَّبَهُ إنْ لَمْ يَبِعْ ا هـ إلَخْ .
قُلْتُ الدَّعْوَى هُنَا إنَّمَا هِيَ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ مُعَيَّنٌ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِرَدِّهِ لَكِنْ إنْ اسْتَهْلَكَ أَوْ بَاعَ فَيُرَدُّ الثَّمَنُ أَوْ الْقِيمَةُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ تَأَمَّلْ .
ا هـ .
كَلَامُ التَّسَوُّلِيِّ وَفِي الْأَصْلِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ لَا يَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إلَّا فِي الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ كَثُلُثِ الْمَالِ وَالْمَالُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَصِحَّةُ الْمِلْكِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَيُلْزِمُهُ الْحَاكِمُ بِالتَّعْيِينِ وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ إنْ ادَّعَى بِدَيْنٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ

ذَكَرَ الْجِنْسَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالنَّوْعَ مِصْرِيَّةً أَوْ مَغْرِبِيَّةً وَالصِّفَةَ صِحَاحًا أَوْ مُكَسَّرَةً وَالْمِقْدَارَ وَالسِّكَّةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ ذَكَرَ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي السَّلَمِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهَا الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ كَالْجَوَاهِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَيَذْكُرُ فِي الْأَرْضِ وَالدَّارَ اسْمَ الصُّقْعِ وَالْبَلَدِ وَفِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ قِيمَتَهُ فِضَّةً وَبِالْفِضَّةِ قِيمَتَهُ ذَهَبًا أَوْ بِهِمَا قَوَّمَهُ بِمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَهَذَا لَا يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ ا هـ .
( الشَّرْطُ الثَّانِي ) تَحَقُّقُ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى فِيهِ أَيْ جَزْمُهَا وَقَطْعُهَا بِأَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ كَذَا احْتِرَازًا مِنْ نَحْوِ أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي كَذَا فَإِنَّهَا لَا تَسْمَعُ قَالَ الْأَصِيلُ وَفِي اشْتِرَاطِ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ مَنْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مَوْرُوثِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ لَهُ فَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا الظَّنَّ وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الدَّعْوَى بِهِ وَإِنْ شَهِدَ بِالظَّنِّ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالسَّمَاعِ وَالْفَلَسِ وَحَصَرَ الْوَرَثَةَ وَصَرَّحَ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُهُ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ قَادِحًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ مَا جَازَ الْإِقْدَامُ مَعَهُ لَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ قَادِحًا قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الظَّنَّ هَاهُنَا لِقُوَّتِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْقَطْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ جَازَ لَهُ الْحَلِفُ مَعَهُ .
قَالَ خَلِيلٌ وَاعْتَمَدَ الْبَابَ عَلَى ظَنٍّ قَوِيٍّ كَخَطِّهِ أَوْ خَطِّ أَبِيهِ إلَخْ ثُمَّ عَدَمُ سَمَاعِهَا فِي الظَّنِّ الَّذِي لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ يَمِينَ التُّهْمَةِ لَا تَتَوَجَّهُ أَبُو الْحَسَنِ وَالْمَشْهُورُ تَوَجُّهُهَا ابْنُ فَرْحُونٍ يُرِيدُ بَعْدَ إثْبَاتِ كَوْنِ

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ ا هـ .
وَعَلَيْهِ فَتُسْمَعُ فِيمَنْ ثَبَتَتْ تُهْمَتُهُ ، وَإِلَّا فَلَا خَلِيلٌ ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حَقَّقَ وَيَمِينِ تُهْمَةٍ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ إلَخْ .
وَقَالَ ابْنُ عَاصِمٍ وَتُهْمَةٍ إنْ قَوِيَتْ بِهَا تَجِبْ يَمِينُ مَتْهُومٍ إلَخْ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الدَّعْوَى تُسْمَعُ هَاهُنَا ، وَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَوَجُّهِ عَيْنِ التُّهْمَةِ فَيُؤْمَرُ بِالْجَوَابِ لَعَلَّهُ يُقِرُّ فَتَأَمَّلْهُ فَلَوْ قَالَ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفًا فَقَالَ الْآخَرُ أَظُنُّ أَنِّي قَضَيْته لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ إذْ كُلٌّ مِنْهَا شَاكٌّ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي بِأَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ الْآخَرِ فَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ نَعَمْ كَانَ لَهُ الْأَلْفُ عَلَيَّ ، وَأَظُنُّ أَنِّي قَضَيْته لَزِمَهُ الْأَلْفُ قَطْعًا ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَضَاهُ ثُمَّ قَالَ التَّاوَدِيُّ وَالتُّسُولِيُّ ، وَالتَّحَقُّقُ فِي هَذَا الشَّرْطِ رَاجِعٌ لِلتَّصْدِيقِ ، وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ رَاجِعٌ لِلتَّصَوُّرِ فَلَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ ا هـ .
( الشَّرْطُ الثَّالِثُ ) كَوْنُ الْمُدَّعَى فِيهِ ذَا غَرَضٍ صَحِيحٍ أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ شَرْعِيٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الدَّعْوَى بِقَمْحَةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ أَوْ عُشْرِ سِمْسِمَةٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلِذَا لَا يُمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ قَلْعِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ .
( الشَّرْطُ الرَّابِعُ ) كَوْنُ الْمُدَّعِي فِيهِ مِمَّا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ لَقَضَى عَلَيْهِ بِهِ احْتِرَازًا مِنْ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ قَالَ دَارِي صُدِّقُوا بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْ إلَخْ ، وَمِنْ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينِ ، وَمِمَّا يُؤْمَرُ فِيهِ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَقَوْلِهِ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي ، وَمِنْ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ

بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يَلْزَمُهُ ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الِاسْتِهْلَاكُ أَوْ الْغَصْبُ ، وَنَحْوُهُمَا خَلِيلٌ ، وَضَمِنَ مَا أَفْسَدَ إنْ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ ا هـ .
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمَحْجُورَ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَلَوْ نَصَبَهُ وَلِيُّهُ لِمُعَامَلَاتِ النَّاسِ بِمَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ الدَّيْنُ اللَّاحِقُ لَا يَلْزَمُهُ لَا فِيمَا دُفِعَ إلَيْهِ ، وَلَا فِيمَا بَقِيَ ، وَلَا فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَةِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ خَاصَّةً ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُصَنْ بِهِ مَالُهُ ، وَإِلَّا فَيَضْمَنُ فِي الْمَالِ الْمَصُونِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْوِينِ ، وَانْظُرْ مَا يَأْتِي لَنَا عِنْدَ قَوْلِهِ " وَجَارٍ لِلْوَصِيِّ فِيمَا حَجَرَا إعْطَاءُ بَعْضِ مَالِهِ مُخْتَبَرًا " قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُغْنِي عَنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَلَا يَحْتَرِزُ بِهِ عَنْ دَعْوَى الْهِبَةِ وَالْوَعْدِ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْجَوَابِ فِيهِمَا ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ لُزُومِهِمَا بِالْقَوْلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقِرَّ ، وَلَا يَرْجِعُ عَنْ الْهِبَةِ ، وَلَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ ا هـ كَلَامُ التَّسَوُّلِيِّ قُلْت وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَا يُحْتَرَزُ بِهِ إلَخْ لِدَفْعِ قَوْلِ التَّاوَدِيِّ أَنَّهُ احْتِرَازٌ مِنْ دَعْوَى الْهِبَةِ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ ، وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ ا هـ .
( الشَّرْطُ الْخَامِسُ ) كَوْنُ الْعَادَةِ لَا تُكَذَّبُ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى فِيهِ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَاحْتُرِزَ بِهِ مِنْ الدَّعْوَى بِالْغَصْبِ وَالْفَسَادِ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ خَلِيلٌ وَأَدَبٍ مُمَيَّزٍ كَمُدَّعِيهِ عَلَى صَالِحٍ ا هـ وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ فِيهَا ، وَقِيلَ تُسْمَعُ ، وَيُؤْمَرُ الْمَطْلُوبُ بِجَوَابِهَا لَعَلَّهُ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ قَالَهُ الْحَطَّابُ ، وَهُوَ

الْمُعْتَمَدُ ا هـ .
وَفِي الْأَصْلِ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الدَّعْوَى الَّتِي تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ زَيْدٍ ، وَهُوَ حَاضِرٌ يَرَاهُ يَهْدِمُ وَيَبْنِي وَيُؤَاجِرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ وَازِعٍ يَزَعُهُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ رَهْبَةِ أَوْ رَغْبَةٍ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهَا ، وَالسَّمَاعُ إنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ الصِّدْقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ الْكَذِبُ عَادَةً امْتَنَعَ تَوَقُّعُ الصِّدْقِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي طُولِ الزَّمَانِ الَّذِي تُكَذِّبُ بِهِ الْعَادَةُ دَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَحُدَّهُ مَالِكٌ بِالْعَشِيرَةِ بَلْ قَالَ مَنْ أَقَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ سِنِينَ يَكْرِي وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي فَأَقَمْت بِبَيِّنَةِ أَنَّهَا لَك أَوْ لِأَبِيك أَوْ لِجَدِّك ، وَثَبَتَتْ الْمَوَارِيثُ ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ تَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ لَك فَإِنْ كُنْت غَائِبًا أَفَادَك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَالْعُرُوضِ ، وَالْحَيَوَانُ وَالرَّقِيقُ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا ادَّعَى بِأُجْرَةٍ مِنْ سِنِينَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ حَاضِرًا ، وَلَا مَانِعَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى بِثَمَنِ سِلْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِهِ ، وَعَادَتُهَا تُبَاعُ بِالنَّقْدِ ، وَشَهِدَتْ الْعَادَةُ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ لَا يَتَأَخَّرُ ، وَقَالَ رَبِيعَةُ عَشْرُ سِنِينَ تَقْطَعُ الدَّعْوَى لِلْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ ، وَلَا حِيَازَةَ عَلَى غَائِبٍ ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ } ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } فَكُلُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالْمِلْكِ لِحَائِزِهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْحِيَازَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ إلَى الْعَشَرَةِ ، وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ مَالِكٌ الْحِيَازَةُ الْمُكَذِّبَةُ لِلدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ نَحْوُ الْخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ

الْأَقَارِبَ يَتَسَامَحُونَ لِبِرِّ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجَانِبِ إمَّا لِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الطُّولِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى كَاذِبَةً ، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَسَمِعَ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَهَذَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الدَّعْوَى الثَّلَاثَةِ ، وَيَبْقَى قِسْمَانِ دَاخِلَانِ تَحْتَ قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ : ( الْأَوَّلُ ) مَا تُصَدِّقُهَا الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْقَرِيبِ الْوَدِيعَةَ .
( وَالثَّانِي ) مَا لَمْ تَقْضِ الْعَادَةُ بِصِدْقِهَا ، وَلَا بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْمُعَامَلَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْخُلْطَةُ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ قَاعِدَتَيْ مَنْ يَحْلِفُ وَمَنْ لَا ا هـ كَلَامُ الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
( تَنْبِيهَانِ : الْأَوَّلُ ) قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا مَبْحُوثٌ فِيهَا مَا عَدَا الشَّرْطَ الرَّابِعَ ا هـ فَافْهَمْ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) قَالَ التَّاوَدِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ هَذِهِ شُرُوطُ الدَّعْوَى ، وَأَمَّا الدَّعْوَى نَفْسُهَا فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هِيَ طَلَبٌ مُعَيَّنٌ كَهَذَا الثَّوْبِ ، وَمَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٌ كَالدَّيْنِ وَالسَّلَمِ ، وَادِّعَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ لِتُحَرِّرَ نَفْسَهَا ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٍ كَدَعْوَى الْمَسِيسِ أَوْ الْقَتْلِ لِيَتَرَتَّبَ الصَّدَاقُ وَالدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّوْعِ ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) تُسْمَعُ الدَّعَاوَى عِنْدَنَا فِي النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا بَلْ يَقُولُ هِيَ زَوْجَتِي فَيَكْفِيهِ ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تُسْمَعُ حَتَّى يَقُولَ بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ لَنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ وَالرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُمَا فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ النِّكَاحَ خَطَرٌ ، وَالْوَطْءُ لَا يُسْتَدْرَكُ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ ( الثَّانِي ) أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا اخْتَصَّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ خَالَفَتْ دَعْوَاهُ الدَّعَاوَى قِيَاسًا لِلدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُقُودِ يَدْخُلُهُ الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ خَطَرًا فَيُحْتَاطُ فِيهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ غَالِبَ دَعْوَى الْمُسْلِمِ الصِّحَّةُ فَالِاسْتِدْرَاكُ حِينَئِذٍ نَادِرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ .
وَالْقَتْلُ خَطَرُهُ أَعَدُّ مِنْ حُرْمَةِ النِّكَاحِ ، وَالنَّادِرُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ الْقِيَاسِ .
( وَعَنْ الثَّانِي ) أَنَّ دَعْوَى الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ شُرُوطَهُ بِدَلِيلِ الْبَيْعِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشُّرُوطِ كَالْبَيْعِ لَهُ شُرُوطٌ لَا تُشْتَرَطُ فِي دَعْوَاهُ ( وَعَنْ الثَّالِثِ ) أَنَّ الرِّدَّةَ وَالْعِدَّةَ لَا يَدْخُلُهُمَا الْبَدَلُ ، وَيَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِمَا .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي بَيَانِ قَوْلِي لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ وَالدَّعَاوَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( قِسْمٌ ) تُصَدِّقُهُ الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْقَرِيبِ الْوَدِيعَةَ ( وَقِسْمٌ ) تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ زَيْدٍ ، وَهُوَ حَاضِرٌ يَرَاهُ يَهْدِمُ وَيَبْنِي ، وَيُؤَاجِرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ وَازِعٍ يَزَعُهُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ رَهْبَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهَا ، وَالسَّمَاعُ إنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ الصِّدْقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ الْكَذِبُ عَادَةً امْتَنَعَ تَوَقُّعُ الصِّدْقِ .
( وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا لَمْ تَقْضِ الْعَادَةُ بِصِدْقِهَا ، وَلَا بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْمُعَامَلَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْخُلْطَةُ ، وَبَيَانُ الْخُلْطَةِ يَكُونُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ قَاعِدَةِ مَنْ يَحْلِفُ ، وَمَنْ لَا يَحْلِفُ ، وَأَمَّا مَا تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْأَجَانِبِ سِنِينَ ، وَلَمْ يُحَدُّ بِالْعَشَرَةِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ عَشْرَ سِنِينَ تَقْطَعُ الدَّعْوَى لِلْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ ، وَلَا حِيَازَةَ عَلَى غَائِبٍ ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ } ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } فَكُلُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالْمِلْكِ لِحَائِزِهِ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْحِيَازَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ إلَى الْعَشَرَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ قَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ سِنِينَ يَكْرِي ، وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي فَأَقَمْت بَيِّنَةً أَنَّهَا لَك أَوْ لِأَبِيك أَوْ لِجَدِّك وَثَبَتَتْ الْمَوَارِيثُ ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ تَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ لَك فَإِنْ كُنْت غَائِبًا أَفَادَك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالرَّقِيقِ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا ادَّعَى بِأُجْرَةٍ مِنْ سِنِينَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ

حَاضِرًا ، وَلَا مَانِعَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى بِثَمَنِ سِلْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِهِ ، وَعَادَتُهَا تُبَاعُ بِالنَّقْدِ ، وَشَهِدَتْ الْعَادَةُ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ لَا يَتَأَخَّرُ ، وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ مَالِكٌ الْحِيَازَةِ الْمُكَذِّبَةُ لِلدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ نَحْوُ الْخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْأَقَارِبَ يَتَسَامَحُونَ لِبِرِّ الْقَرَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأَجَانِبِ أَمَّا لِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الطُّولِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى كَاذِبَةً ، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَسَمِعَ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَّعِي وَقَاعِدَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) فَإِنَّهُمَا يَلْتَبِسَانِ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ مُدَّعِيًا ، وَلَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ ، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا الْفَرْقِ بَحْثٌ عَنْ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } مَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَمَنْ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَحْلِفُ فَضَابِطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ عِبَارَتَانِ لِلْأَصْحَابِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَبْعَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَقْرَبُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا ، وَالْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ ، وَهِيَ تُوَضِّحُ الْأُولَى الْمُدَّعِي مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْمِثْلِ أَنَّ الْيَتِيمَ إذَا بَلَغَ ، وَطَلَبَ الْوَصِيَّ بِمَا لَهُ تَحْتَ يَدِهِ فَقَالَ أَوْصَلْتُك فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْوَصِيُّ الْمَطْلُوبُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَوْصِيَاءَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْيَتَامَى إذَا دَفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَلَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِنْفَاقِ خَاصَّةً ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الدَّفْعِ ، وَهُوَ يُعَضِّدُ الْيَتِيمَ ، وَيُخَالِفُ الْوَصِيَّ فَهَذَا طَالِبٌ ، وَالْيَمِينُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْوَصِيُّ مَطْلُوبٌ ، وَهُوَ مُدَّعٍ ، وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا لِلْمُودِعِ عِنْدَ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَمَّا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ مَعَ بَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ لَمَّا قَبَضَ بِبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ .

وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ الدَّفْعِ فَاجْتَمَعَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ ، وَهُمَا يُعَضِّدَانِ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ ، وَيُخَالِفَانِ الْقَابِضَ لَهَا ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ قُبِضَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ وَالْمُودَعِ عِنْدَهُ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ أَمَانَةٍ صِرْفَةً ، وَالْأَمِينُ مُصَدَّقٌ ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ يَكُونُ الطَّالِبُ فِيهَا مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَيَعْتَمِدُ أَبَدًا التَّرْجِيحُ بِالْعَوَائِدِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ وَالْقَرَائِنِ فَيَحْصُلُ لَك مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا تَدَاعَى بَزَّازٌ وَدَبَّاغٌ جِلْدًا كَانَ الدَّبَّاغُ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَوْ قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ رُمْحًا كَانَ الْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الزَّوْجَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا يُشْبِهُ قُمَاشَ الرِّجَالِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يُشْبِهُ قُمَاشَ النِّسَاءِ ، وَإِذَا تَنَازَعَ عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ فِي مِسْكٍ وَصِبْغٍ قُدِّمَ الْعَطَّارُ فِي الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ فِي الصِّبْغِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ خَالَفَنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا ، وَحُجَّتُنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَأَمَّا الْأَصْلُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ ظَاهِرٍ وَلَا عُرْفٍ فَمَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً وَنَحْوَهَا فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُعَضِّدُهُ ، وَيُخَالِفُ الطَّالِبَ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَظَهَرَ لَك بِهَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَضْعَفُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا .
( تَنْبِيهٌ ) مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الظَّوَاهِرِ يَنْتَقِضُ بِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ أَنَّ

الصَّالِحَ التَّقِيَّ الْكَبِيرَ الْعَظِيمَ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ ادَّعَى عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَهُوَ مُدَّعٍ ، وَالْمَطْلُوبُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَكْسُهُ لَوْ ادَّعَى الطَّالِحُ عَلَى الصَّالِحِ لَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْنَا ، وَيُجِيبُ عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ ، وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فَهُوَ نَقْضٌ عَلَى قَوْلِنَا الْمُدَّعِي مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ أَصْلًا أَوْ عُرْفًا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ أَصْلًا أَوْ عُرْفًا فَإِنَّ الْعُرْفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ شَاهِدٌ ، وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ ، وَقَدْ أُلْغِيَا إجْمَاعًا فَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَنَقْصًا عَلَى الْمَذْهَبِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ( تَنْبِيهٌ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا تَعَارَضَا الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْغَالِبِ فِي دَعْوَى الدِّينِ وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَصْلَحَ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْ الْغَالِبِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ إلَّا مَالَهُ فَهَذَا الْغَالِبُ مُلْغًى إجْمَاعًا ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَقْدِيمِ الْغَالِبِ وَإِلْغَاءِ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَأُلْغِيَ الْأَصْلُ هُنَا إجْمَاعًا عَكْسُ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْخِلَافُ عَلَى الْإِطْلَاقِ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) : وَفِيهِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ تَحْقِيقًا لِمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَلِمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي يَحْلِفُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } لِأَنَّ بَيْنَهُمَا الْتِبَاسًا ، وَعِلْمُ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ عَرَفَ وَجْهَ الْقَضَاءِ كَمَا فِي تُسُولِيِّ الْعَاصِمِيَّةِ فَقِيلَ كُلُّ طَالِبٍ فَهُوَ مَدْفُوعٌ ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ مَنْ قَالَ قَدْ كَانَ فَهُوَ مُدَّعٍ ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ا هـ .
وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ عِبَارَتَانِ تُوَضِّحُ ثَانِيَهُمَا الْأُولَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَبْعَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَقْرَبُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ أَيْ مُجَرَّدًا عَنْهُمَا مَعًا فَأَوْ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَبِمَعْنَى الْعُرْفِ الْعَادَةُ ، وَالشَّبَهُ ، وَالْغَالِبُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ الْأَمْثِلَةِ ، وَأَوْ هُنَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَقَطْ فَتَجُوزُ الْجَمْعُ ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْأَصْلَ وَحْدَهُ ، وَخَالَفَهُ الْمُدَّعِي مَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً ، وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ .
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُعَضِّدُهُ ، وَيُخَالِفُ الطَّالِبَ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ مَعَ وَصِيَّةٍ فِي الدَّفْعِ فَإِنَّ الْيَتِيمَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ

الَّذِي هُوَ عَدَمُ الدَّفْعِ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَالْوَصِيُّ مُدَّعٍ ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ فِي الدَّفْعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْعُرْفَ وَحْدَهُ مَنْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوْ الْهِبَةَ مِنْ حَائِزٍ لِلْمُدَّعِي فِيهِ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ فَالْحَائِزُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَوَّى جَانِبُهُ بِالْحِيَازَةِ ، وَالْقَائِمُ مُدَّعٍ ، وَمِنْهَا جَزَّارٌ وَدَبَّاغٌ تَدَاعَيَا جِلْدًا تَحْتَ يَدِهِمَا ، وَلَا يَدَ عَلَيْهِ فَالْجَزَّارُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالدَّبَّاغُ مُدَّعٍ فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْحَائِزُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ تَدَاعَيَا رُمْحًا تَحْتَ يَدِهِمَا أَوْ لَا يَدَ عَلَيْهِ فَالْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَالْقَاضِي مُدَّعٍ ، وَمِنْهَا عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ تَدَاعَيَا مِسْكًا وَصِبْغًا فَالْعَطَّارُ مُدَّعٍ فِي الصِّبْغِ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ بِالْعَكْسِ ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَادُ لِلنِّسَاءِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى نَقْدِ صَدَاقِهَا ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِالْفَقْرِ ، وَمِنْهُ النُّكُولُ ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّدَاقِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَمِنْهَا دَعْوَى الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَوْ الْمُودَعِ عِنْدَهُ الرَّدُّ حَيْثُ قُبِضَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ هُوَ مِنْ تَقْوَى جَانِبُهُ بِسَبَبٍ مِنْ حِيَازَةٍ أَوْ شَبَهٍ أَوْ نُكُولِ صَاحِبِهِ أَوْ أَمَانَةٍ أَوْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ، وَالْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا فِي التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْأَصْلَ وَالْعُرْفَ مَعًا طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا لِلْمُودِعِ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ ائْتَمَنَ الْمُودِعُ عِنْدَهُ لَمَا

أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ بِيَمِينِهِ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا وَالْمُودِعُ عِنْدَهُ مُدَّعٍ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ لَمَّا قَبَضَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ الدَّفْعِ فَالْأَصْلُ ، وَالْغَالِبُ مَعًا يُعَضِّدَانِ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ وَيُخَالِفَانِ الْمُودَعَ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ ، وَإِذَا تَمَسَّكَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْعُرْفِ كَمَا إذَا أَشْبَهَا مَعًا فِيمَا يَرْجِعُ فِيهِ لِلشَّبَهِ كَتَنَازُعِ جَزَّارٍ مَعَ جَزَّارٍ فِي جِلْدٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا حَلَفَا وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا تَمَسَّكَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْأَصْلِ كَدَعْوَى الْمُكْتَرِي لِلرَّحَى أَوْ الدَّارِ أَنَّهُ انْهَدَمَتْ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَقَالَ الْمُكْتَرِي شَهْرَانِ فَقَطْ اخْتَلَفَ فِيمَنْ يَكُونُ مُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَقِيلَ الْمُكْتَرِي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْغَرَامَةِ فَيُسْتَصْحَبُ ذَلِكَ ، وَقِيلَ الْمُكْرِي لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ أَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكْتَرِي ، وَهُوَ يَدَّعِي إسْقَاطَ بَعْضِهِ فَلَا يَصْدُقُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ فَلَمَّا طَلَبَهُ بِهَا الدَّافِعُ زَعَمَ أَنَّهُ قَبَضَهَا مِنْ مِثْلِهَا الْمُرَتَّبِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ كَانَ الدَّافِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا لِابْنِ رُشْدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْقَابِضِ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَيْضًا بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ جَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَافْهَمْ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ صَعُبَ عِلْمُ الْقَضَاءِ قَالَ وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ ، وَالْغَالِبُ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّعَارُضِ .
وَقَدَّمَ الْمَالِكِيَّةَ

الْغَالِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } فَكُلُّ أَصْلٍ كَذَّبَهُ الْعُرْفُ كَمَا إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا ادَّعَى الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ الْفَارُوقُ ابْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَيُقَدَّمُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ .
لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ إلْغَاءَ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ كَمَا أَنَّ إلْغَاءَ الْغَالِبِ فِي مُجَرَّدِ دَعْوَى الدَّيْنِ ، وَنَحْوُهُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَصْلَحَ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَلَيْسَ فِي كَوْنِ الْمُلْغَى الْأَصْلَ أَوْ الْغَالِبَ عِنْدَ تَعَرُّضِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ احْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا فِي تَقْدِيمِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ وَعَدَمَ الْإِنْفَاقِ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا شَهِدَ الْعُرْفُ فِيهِ لِلْمُدَّعِي كَمَا مَرَّ ، وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ زَكَرِيَّا ، وَفِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ تَعَارَضَ الْأَصْلُ ، وَالْغَالِبُ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَلِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ( أَحَدُهَا ) أَنْ لَا تَطَّرِدَ الْعَادَةُ بِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ ، وَإِلَّا قُدِّمَتْ قَطْعًا ، وَلِذَا حَكَمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْهَارِبِ فِي الْحَمَّامِ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِالْبَوْلِ فِيهِ الثَّانِي أَنْ تَكْثُرَ أَسْبَابُ الظَّاهِرِ فَإِنْ نَدَرَتْ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ قَطْعًا ، وَلِذَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ بِالْأَخْذِ بِالْوُضُوءِ فِيمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ، وَغَلَبَ

عَلَى ظَنِّهِ الْحَدَثُ مَعَ إجْزَائِهِمْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَتُهُ هَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ ، وَفَرَّقَ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا النَّجَاسَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَهِيَ فِي الْأَحْدَاثِ قَلِيلَةٌ ، وَلَا أَثَرَ لِلنَّادِرِ ، وَالتَّمَسُّكُ بِاسْتِصْحَابِ الْيَقِينِ أَوْلَى .
( الثَّالِثُ ) أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا يَعْتَضِدُ بِهِ ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ مُتَعَيَّنٌ ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَصْلِ قَطْعًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ سَنَدُهُ ، الْعُرْفُ أَوْ الْقَرَائِنُ أَوْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَهَذِهِ يَتَفَاوَتُ أَمْرُهَا فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَتَارَةً يُخَرَّجُ خِلَافٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالظَّاهِرِ كَالْبَيِّنَةِ الثَّانِي مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَقَدُّمُ الظَّاهِرِ كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهَا الثَّالِثُ مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ مُحْرِمَةٌ بِنِسْوَةِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فَإِنَّ لَهُ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ .
الرَّابِعُ مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْأَصْلِ كَمَا فِي ثِيَابِ مُدْمِنِي النَّجَاسَةِ وَطِينِ الشَّارِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ اخْتِلَاطُهُ بِالنَّجَاسَةِ ، وَالْمَقَابِرِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَبْشُهَا فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِيهَا الطَّهَارَةُ ا هـ الْمُرَادُ بِتَلْخِيصٍ فَافْهَمْ .
هَذَا ، وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ بَيَانِ مَا لِلْأَصْحَابِ مِنْ الْفَرْقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَأَنَّهُمَا مُطَّرِدَانِ ،

وَأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَدِيعَةِ مَعَ الْإِشْهَادِ وَالْيَتِيمِ مَعَ وَصِيَّةٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ ، وَادَّعَى هُوَ عَدَمُهُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ طَالِبٌ مَعَ أَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلِذَا قَالَ الْأَصْلُ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ مُدَّعِيًا ، وَلَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ا هـ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
وَأَمَّا فَرْقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَكَذَلِكَ قِيلَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا ، وَقَالَ هُوَ أَنْفَقْت ، وَبِدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ ، وَادَّعَى عَدَمَهُ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الْأُولَى لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لَهُ ، وَهِيَ مُدَّعِيَةٌ ، وَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْعَكْسِ ، وَفَرْقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي الْأُولَى مُدَّعًى عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَقُولُ لَمْ يَكُنْ ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُدَّعِيَةٌ لِأَنَّهَا تَقُولُ قَدْ كَانَ كَمَا فِي التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ قَالَ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الرَّدَّ الْمَذْكُورَ لِلتَّعْرِيفَيْنِ أَيْ لِلْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَيْ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ .
وَفَرَقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا يَتِمُّ وَلَوْ كَانَ الْقَائِلُ بِهِمَا يُسَلِّمُ أَنَّ الطَّالِبَ ، وَمَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ أَيْ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْضِي بِهَا الرَّادُّ كُلًّا مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَقُولُ إنَّهُ مُدَّعٍ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ عُرْفٍ أَوْ أَصْلٍ ، وَلَا يُحْتَجُّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَذْهَبٍ مِثْلِهِ ، وَاخْتَارَ هَذَا الْجَوَابَ ابْنُ رَحَّالٍ وَالْحَاصِلُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ يَتَمَسَّكَ أَحَدُهُمَا بِالْعُرْفِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ الْقَاضِي وَالْجُنْدِيِّ فِي الرُّمْحِ ، وَالْجَزَّارِ

وَالدَّبَّاغِ فِي الْجِلْدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْأَصْلُ ، وَأَمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ وَفِي قَضَائِهِ ، وَفِي دَعْوَى الْحَائِزِ نَفْسَهُ الْحُرِّيَّةَ ، وَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَالْمُودِعِ عَدَمَ الرَّدِّ مَعَ دَفْعِهِمَا بِإِشْهَادٍ ، وَدَعْوَى الْيَتِيمِ عَدَمَ الْقَبْضِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ أَيْ أَمْثِلَةُ شَهَادَةِ الْعُرْفِ فَقَطْ أَوْ الْأَصْلِ فَقَطْ ، هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِذَلِكَ الْعُرْفِ أَوْ الْأَصْلِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ أَحَدُهُمَا بِالْأَصْلِ ، وَالْآخَرُ بِالْعُرْفِ فَيَأْتِي الْخِلَافُ كَدَعْوَى الزَّوْجِ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ أَنَّهُ غَرَّهُ بِتَزْوِيجِهَا فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْغُرُورِ ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ رِضَا الْحُرِّ بِتَزْوِيجِ الْأَمَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ ، وَكَمَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ شَاهِدٌ عُرْفِيٌّ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَكَمَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَدَعْوَى عَامِلِ الْقِرَاضِ وَالْمُودِعِ عِنْدَهُ الرَّدَّ مَعَ عَدَمِ الْإِشْهَادِ لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُ الْأَمِينِ ، وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ ، وَعَدَمَ الْإِنْفَاقِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْ عُرْفٌ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَارَضَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا ، وَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ .
هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَكِنْ لَمَّا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فِيهَا بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّهُ أَقْوَى صَارَ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ مَا نَصُّهُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ تُجَرَّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31