كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

أَوْ خَوْفِ الْجَوَارِحِ الْكَوَاسِرِ ، وَإِنَّمَا طَارَ خَوْفًا مِنْ الْفَاتِحِ ، وَإِذَا احْتَمَلَ - وَاحْتَمَلَ ، وَالسَّبَبُ مَعْلُومٌ - فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا حَيَوَانٌ مَعَ إمْكَانِ اخْتِيَارِهِ لِنُزُولِهَا لِفَزَعٍ خَلْفَهُ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْجَارِحُ ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ الطَّائِرُ لِمَقْصِدِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى طَائِرِ غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ الْبَازِي بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ الْمُرْسِلَ يَضْمَنُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْحَيَوَانِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ لِمَا فِي طَبْعِ الطَّائِرِ مِنْ النُّفُورِ مِنْ الْآدَمِيِّ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ حَافِرِ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَنْ أَرْدَى إنْسَانًا فِيهَا دُونَهُ وَبَيْنَ فَاتِحِ الْقَفَصِ فَيَطِيرُ الطَّائِرُ مِنْهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَصْدُ الطَّائِرِ بِأَنَّ قَصْدَ الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ ، وَالْآدَمِيُّ يَضْمَنُ قَصَدَ ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ } فَافْهَمْ وَمِنْهَا مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ فَهَلَكَ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ إنْ حَفَرَهُ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ حَفَرَهُ تَعَدِّيًا ضَمِنَ مَا تَلِفَ فِيهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا وَقِيدُ النَّارِ قَرِيبًا مِنْ الزَّرْعِ ، أَوْ الْأَنْدَرِ فَتَعْدُو فَتُحْرِقُ مَا جَاوَرَهَا وَمِنْهَا رَمْيُ مَا يُزْلِقُ النَّاسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَعْطَبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَيَوَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ ظَالِمٍ إغْرَاءً عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَيَأْخُذُهُ الظَّالِمُ فَإِنَّ الْمُتَسَبِّبَ فِي جَمِيعِهَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا مَنْ قَطَعَ الْوَثِيقَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِهِ يَضْمَنُ عِنْدَ مَالِكٍ ذَلِكَ الْحَقَّ لِتَسَبُّبٍ فِيهِ كَثَمَنِ الْوَثِيقَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ ثَمَنَ الْوَثِيقَةِ خَاصَّةً فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِتْلَافَ دُونَ السَّبَبِ وَمَالِكٌ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا وَرَأَى أَنَّهُ أَتْلَفَ الْوَرَقَةَ بِالْمُبَاشَرَةِ بِالْإِتْلَافِ وَأَتْلَفَ الْحَقَّ بِالتَّسَبُّبِ فَرَتَّبَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ عَلَى حِبَالَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا صَيْدًا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ وَحَوْزُهُ لِصَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ يَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ لِأَنَّ صَوْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّوْنِ ضَمِنَ وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ بِلُقَطَةٍ وَعَلِمَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهَا أَخَذَهَا مَنْ يَجْحَدُهَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ مَالِكٍ إذَا تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا ا هـ .
كَلَامُ الْبِدَايَةِ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ مِمَّا يَأْتِي لِلْأَصْلِ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ وَمِنْ غَيْرِهِ .
وَثَالِثُهَا وَضْعُ الْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَادِيَةً كَيَدِ السُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ لَيْسَتْ بِعَادِيَةٍ كَمَا فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا صَحِيحًا يَبْقَى بِيَدِ الْبَائِعِ فَيَضْمَنُهُ ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ عِنْدَنَا فَقَطْ إذَا تَغَيَّرَ سُوقُهُ ، أَوْ فِي ذَاتِهِ ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ، أَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي ، وَكَمَا فِي قَبْضِ الْعَوَارِيِّ وَالرُّهُونِ الَّتِي يُغَابُ عَلَيْهَا كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَكَمَا فِي قَبْضِ الْمُقْتَرِضِ الْأَعْيَانَ الَّتِي يَقْتَرِضُهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا اتِّفَاقًا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَخَرَجَ بِقَيْدِ الَّتِي لَيْسَتْ

بِمُؤْتَمَنَةٍ الْيَدُ الْمُؤْتَمَنَةُ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ ، وَكَأَيْدِي الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ وَكَذَا أَيْدِي الْأُجَرَاءِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ صَانِعًا يُؤَثِّرُ بِصَنْعَتِهِ فِي الْأَعْيَانِ ، أَوْ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ كَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَطْبُوخَةِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْأَمَانَةُ فِي الْإِجَارَةِ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ صُورَتَيْنِ : الْأُولَى الْأَجِيرُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ اسْتَحْسَنَ فِيهَا أَنَّ الْأَصْلَحَ لِلنَّاسِ تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ لِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِالصَّنْعَةِ لَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا وَجَدَهَا قَدْ بِيعَتْ فِي الْأَسْوَاقِ .
وَالثَّانِيَةُ الْأَجِيرُ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَضْمَنُ الْأَجِيرُ فِيهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ، إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ مُؤْتَمَنَةٌ مِنْ النَّظَائِرِ لَا ضَمَانَ فِيهِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا لَا يُضْمَنُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ غَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ مِنْ النَّظَائِرِ فِيهِ الضَّمَانُ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ وَالتَّسَبُّبِ لِلْإِتْلَافِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَسْبَابُ الضَّمَانِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا يُضْمَنُ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ .
وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الضَّمَانِ فَهُوَ إمَّا رَدُّ الْمَالِ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَدْخُلْهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ ، وَإِمَّا رَدُّ مِثْلِهِ إنْ اُسْتُهْلِكَ وَكَانَ مِثْلِيًّا ، أَمَّا إنْ كَانَ عُرُوضًا مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقْضَى فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ اُسْتُهْلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو

حَنِيفَةَ وَدَاوُد : الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الْمِثْلُ وَلَا تَلْزَمُ الْقِيمَةُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ وَعُمْدَةُ مَالِكٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي قِيمَةَ الْعَدْلِ } الْحَدِيثَ .
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ الْمِثْلَ وَأَلْزَمَهُ الْقِيمَةَ وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ عِنْدَ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ وَمَنْ الْحُجَّةِ لَهُمْ مَا خَرَّجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةً بِقَصْعَةٍ لَهَا فِيهَا طَعَامٌ قَالَ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَجَعَلَ فِيهَا جَمِيعَ الطَّعَامِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ كُلُوا كُلُوا حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتُهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا وَحَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الصَّفْحَةَ الصَّحِيحَةَ إلَى الرَّسُولِ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَارَتْ وَكَسَرَتْ الْإِنَاءَ وَأَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ قَالَ : إنَاءٌ مِثْلُ إنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ } كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَابِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الزَّوَاجِرِ وَالْجَوَابِرِ .
( وَصْلٌ ) إذَا اجْتَمَعَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ الثَّلَاثَةِ سَبَبَانِ كَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ مِنْ جِهَتَيْنِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِإِنْسَانٍ لِيَقَعَ فِيهِ فَجَاءَهُ آخَرُ فَأَلْقَاهُ فِيهِ فَهَذَا مُبَاشِرٌ وَالْأَوَّلُ مُتَسَبِّبٌ فَالْغَالِبُ

تَقْدِيمُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسَبُّبِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُقَدَّمُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ الْمُلْقِي فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ وَقَدْ لَا تُقَدَّمُ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ لِضَعْفِهَا عَنْهُ بَلْ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَالْمُتَسَبِّبِ مَعًا إذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ مَغْمُورَةً كَقَتْلِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهَا وَلَا تُغَلَّبُ الْمُبَاشَرَةُ لِقُوَّةِ التَّسَبُّبِ ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ إذَا وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ جَهْلًا كَتَقْدِيمِ السُّمِّ لِإِنْسَانٍ فِي طَعَامِهِ فَيَأْكُلُهُ جَاهِلًا بِهِ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِقَتْلِ نَفْسِهِ ، وَوَاضِعُ السُّمِّ مُتَسَبِّبٌ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ مِنْ الْحُكَّامِ كَمَا إذَا شَهِدَ شُهُودُ الزُّورِ ، أَوْ الْجَهَلَةُ بِمَا يُوجِبُ ضَيَاعَ الْمَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ ، ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِالْكَذِبِ ، أَوْ الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَسَبِّبُونَ كَالْمُكْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِجَامِعِ مُطْلَقِ التَّسَبُّبِ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَلَا يَضْمَنُ الْحَاكِمُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ الْمُبَاشِرُ ، وَالشَّاهِدَ مُتَسَبِّبٌ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ قَدْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَضْمِينِ الْحُكَّامِ مَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الْحُكُومَاتِ وَتَرَدُّدِ الْخُصُومَاتِ لَزَهِدَ الْأَخْيَارُ فِي الْوِلَايَاتِ وَاشْتَدَّ امْتِنَاعُهُمْ فَيَفْسُدُ حَالُ النَّاسِ بِعَدَمِ الْحُكَّامِ فَكَانَ الشَّاهِدُ بِالضَّمَانِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ لِلْحَاكِمِ فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّنْفِيذِ وَكَمَا قِيلَ الْحَاكِمُ أَسِيرُ الشَّاهِدِ وَيَقَعُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْجَوَابِرِ فِي الْحَجِّ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتَدَاخَلُ الْجَوَابِرُ فِيهِ فِي الْحَجِّ ) تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَالْمَقْصُودُ هَهُنَا بَيَانُ قَاعِدَةِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً ، أَمَّا الصَّيْدُ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْإِثْمِ بَلْ يُضْمَنُ الصَّيْدُ عَمْدًا وَخَطَأً فَأَشْبَهَ إتْلَافَ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَعَدُّدِ الضَّمَانِ فِيمَا يَتَعَدَّدُ الْإِتْلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ هَهُنَا وَيَتَّحِدُ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْوِيلِ وَعَذَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالتَّأْوِيلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا كَالْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا ، وَأَلْحَقَ الْجَاهِلَ بِالنَّاسِي .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عُذْرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَهْلِ الَّذِي لَيْسَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَنْ يَضْمَنَ الْجَاهِلُ هَهُنَا فَإِنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ ، وَأَنَّ تَارِكَ التَّعَلُّمِ عَاصٍ إلَّا مَا يَشُقُّ مِنْ ذَلِكَ فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا لَا يَعْلَمُ ، أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ ، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلَّابًا وَنَحْوَهُ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْجَهْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ ، فَعَذَرَهُ الشَّرْعُ بِهَذَا الْجَهْلِ دُونَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْجَاهِلِ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ أَجْرَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَاهِلَ فِي الصَّلَاةِ مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا

بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَأَصَابَ صَيْدًا ، أَوْ حَلَقَ ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إنْ أَصَابَهُ وَاتَّحَدَ هَذَا الْوَطْءُ لِأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ ، وَإِفْسَادُ الْفَاسِدِ مُحَالٌ فَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا بِسُقُوطِ إجْزَائِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِمُوجَبِ إتْمَامِهِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجُرْأَةُ عَلَى مُحَرَّمٍ فَعُذْرُهُ بِالْجَهْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ عُذْرِهِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَاحَظَ هَهُنَا مَعْنًى مَفْقُودًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثْرَةُ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفُ ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ الْفِدْيَةَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ إجْمَاعًا وَأَسْقَطَ مَالِكٌ بِالْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَثْبُتُ الْإِثْمُ مَعَهُمَا ، وَالْإِثْمُ أَنْسَبُ لِلُّزُومِ الْجَابِرِ مِنْ عَدَمِ الْإِثْمِ .
وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ ، أَوْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَمَتَى وَقَعَ التَّعَدُّدُ فِي النِّيَّةِ ، أَوْ السَّبَبِ ، أَوْ الزَّمَانِ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْفُرُوعِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا لَبِسَ قَلَنْسُوَةً لِوَجَعٍ ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَعَادَ إلَيْهِ الْوَجَعُ فَلَبِسَهَا إنْ نَزَعَهَا مُعْرِضًا عَنْهَا فَعَلَيْهِ فِي اللُّبْسِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ فِدْيَتَانِ ، وَإِنْ كَانَ نَزَعَهَا نَاوِيًا رَدَّهَا عِنْدَ مُرَاجَعَةِ الْمَرَضِ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَجْلِ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ ، وَلَوْ لَبِسَ الثِّيَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ نَاوِيًا لُبْسَهَا إلَى بُرْئِهِ مِنْ مَرَضِهِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَهُوَ يَنْوِي لُبْسَهَا مَرَّةً جَهْلًا ، أَوْ نِسْيَانًا ، أَوْ جُرْأَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ النِّيَّةِ

وَكَذَلِكَ الطِّيبُ مَعَ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدِهَا فَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَفِدْيَتَانِ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ وَالنِّيَّةِ ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لِأَصْنَافٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَبِسَ خُفَّيْنِ وَقَمِيصًا وَقَلَنْسُوَةً وَسَرَاوِيلَ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى خُفَّيْنِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ ، وَإِنْ قَلَّمَ الْيَوْمَ ظُفُرَ يَدِهِ وَفِي غَدٍ ظُفُرَ يَدِهِ الْأُخْرَى فَفِدْيَتَانِ لِتَعَدُّدِ الزَّمَانِ ، وَإِنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ وَقَلَّمَ ظُفُرَهُ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْمَحَالُّ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ أَجْنَاسٌ لَا تَتَدَاخَلُ كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّرَفُّهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَالْمُوجِبُ وَاحِدٌ .
وَمُوجَبُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفِدْيَةُ فَتَتَدَاخَلُ كَحُدُودِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ وَفِي الْجَلَّابِ إنْ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِحُصُولِ السَّتْرِ مِنْ الْقَمِيصِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ ، ثُمَّ إلَى قَمِيصٍ فَفِدْيَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْقَمِيصِ مِنْ السَّتْرِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ السَّرَاوِيلِ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَتَدَاخَلُ فِي الْحَجِّ وَمَا لَا يَتَدَاخَلُ

( الْفَرْقُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْجَوَابِرِ فِي الْحَجِّ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتَدَاخَلُ الْجَوَابِرُ فِيهِ فِي الْحَجِّ ) تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا ، أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ لَا تَصِحُّ إلَّا بِنِيَّاتٍ وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى زَاجِرًا بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُنْلَا عَلِيٌّ قَارِي فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ فِي كَفَّارَاتِ الْحَجِّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا كَالْحُدُودِ زَوَاجِرُ لَا جَوَابِرُ قَالَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَمَاعَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ عَامِدًا يَأْثَمُ وَلَا يُخْرِجُهُ الْفِدْيَةُ وَالْعَزْمُ عَلَيْهَا عَنْ كَوْنِهِ عَاصِيًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَرُبَّمَا ارْتَكَبَ بَعْضُ الْعَامَّةِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَالَ أَنَا أَفْتَدِي مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ بِالْتِزَامِ الْفِدْيَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ وَبَالِ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فَإِذَا خَالَفَ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَيْسَتْ الْفِدْيَةُ مُبِيحَةً لِلْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ ، وَجَهَالَةُ هَذَا الْفِعْلِ كَجَهَالَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ وَأَزْنِي وَالْحَدُّ يُطَهِّرُنِي وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ حَجَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَبْرُورًا ا هـ .
الثَّانِي وَالثَّالِثُ لِأَصْحَابِهِ الْأَحْنَافِ أَنَّهَا وَسَائِرَ الْكَفَّارَاتِ لَيْسَتْ كَالْحُدُودِ فِي كَوْنِهَا زَوَاجِرَ بَلْ هِيَ جَوَابِرُ إمَّا مُطْلَقًا ، أَوْ لِغَيْرِ الْمُصِرِّ قَالَ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَكُونُ طُهْرَةً مِنْ الذَّنْبِ وَلَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ

التَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ كَانَ الْحَدُّ طُهْرَةً لَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ الْمُلْتَقَطِ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ : إنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّوْبَةُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ ا هـ .
وَالثَّانِي لِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ التَّيْسِيرِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَيْ اصْطَادَ بَعْدَ هَذَا الِابْتِدَاءِ قِيلَ هُوَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهَا لَا تَرْفَعُ الذَّنْبَ عَنْ الْمُصِرِّ ا هـ ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَتَقْيِيدٌ مُسْتَحْسَنٌ يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالرِّوَايَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْحَالَاتِ ا هـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ .
وَكَفَّارَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ : ( الْكَفَّارَةُ الْأُولَى ) جَزَاءُ الصَّيْدِ وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ بَيْنَ مَا يَعْدِلُهُ الْحُكْمَانِ يَجِبُ لِقَتْلِ صَيْدٍ بَرِّيٍّ فِي الْإِحْرَامِ ، أَوْ الْحَرَمِ مَأْكُولًا ، أَوْ غَيْرَهُ وَحْشِيًّا ، أَوْ مُتَأَنِّسًا مَمْلُوكًا ، أَوْ مُبَاحًا فَيُحَكِّمُ قَاتِلُهُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ عَدَالَةَ شَهَادَةٍ فَقِيهَيْنِ بِأَحْكَامِ الصَّيْدِ وَلَمَّا أَشْبَهَ جَزَاءُ الصَّيْدِ إتْلَافَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى تَعَدُّدِ الضَّمَانِ فِيمَا يَتَعَدَّدُ الْإِتْلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الصَّيْدِ وَلَوْ خَطَأً عَلَى قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بَلْ الْجَاهِلُ هَهُنَا كَالْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ وَبِهَذَا أَيْضًا قَالَ الْحَنَابِلَةُ فَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ وَتَتَعَدَّدُ كَفَّارَةُ الصَّيْدِ أَيْ جَزَاؤُهُ بِتَعَدُّدِهِ أَيْ الصَّيْدِ وَلَوْ قُتِلَتْ

الصَّيُودُ مَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } قَالَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ قَالَ وَيُلْحَقُ بِالْحَلْقِ التَّقْلِيمُ بِجَامِعِ الْإِتْلَافِ ا هـ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَّحِدُ الْجَزَاءُ بِالتَّأْوِيلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْذَرُ بِالتَّأْوِيلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَأُلْحِقَ الْجَاهِلُ بِالنَّاسِي لَا بِالْعَامِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عُذْرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَهْلِ الَّذِي لَيْسَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَنْ يَضْمَنَ الْجَاهِلُ هَهُنَا فَإِنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ ، وَأَنَّ تَارِكَ التَّعَلُّمِ عَاصٍ وَلَيْسَ الْجَهْلُ هَهُنَا مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَعْذُرَهُ الشَّرْعُ بِهِ كَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا لَا يَعْلَمُ أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهَا جُلَّابًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ أَجْرَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَاهِلَ فِي الصَّلَاةِ مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ .
( الْكَفَّارَةُ الثَّانِيَةُ ) الْفِدْيَةُ وَهِيَ دَمُ تَخْيِيرٍ بَيْنَ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } يَجِبُ بِفِعْلِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْإِحْرَامِ مَا فِيهِ تَرَفُّهٌ ، أَوْ إزَالَةُ أَذًى مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ كَأَنْ يَلْبَسَ مَخِيطًا مَعْمُولًا عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ ، أَوْ بَعْضِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ طِيبًا مُؤَنَّثًا ، أَوْ يَدْهُنَ شَعْرَ رَأْسِهِ ، أَوْ لِحْيَتَهُ

، أَوْ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّهْنِ طِيبٌ مَا لَمْ يَدْهُنْ بَاطِنَ كَفِّهِ وَقَدَمَيْهِ لِشُقُوقٍ وَنَحْوِهَا بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ ، وَإِلَّا فَلَا فِدْيَةَ ، أَوْ يُزِيلَ وَسَخًا عَنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ ، أَوْ يُزِيلَ ظُفُرًا وَاحِدًا لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ ، أَوْ ظُفُرَيْنِ فَأَكْثَرَ لِلتَّرَفُّهِ لَا ظُفُرًا وَاحِدًا لِكَسْرٍ بِقَدْرِهِ ، أَوْ يُزِيلَ شَعْرًا كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مُطْلَقًا أَوْ شَعْرَةً وَاحِدَةً لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ أَوْ يَقْتُلَ قَمْلًا كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يُوجِبُهَا اللُّبْسُ إلَّا إذَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ حَرٍّ ، أَوْ بَرْدٍ ، أَوْ دَامَ عَلَيْهِ كَالْيَوْمِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ فَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ كَالْيَوْمِ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ حَرٍّ ، أَوْ بَرْدٍ فِي الْجُمْلَةِ وَيُوجِبُهَا مَا عَدَا اللُّبْسَ بِلَا تَفْصِيلٍ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا فِي عبق وَقَاعِدَةُ الْفِدْيَةِ أَنَّ النِّسْيَانَ وَالْعُذْرَ فِي ارْتِكَابِ مُوجِبِهَا لَا يُسْقِطُهَا ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْإِثْمَ كَمَا فِي الْأَصْلِ وَالْمُخْتَصَرِ وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى اُرْتُكِبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِمُسْتَنَدٍ مُحَقَّقٍ أَوْ اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ ، أَوْ السَّبَبُ بِأَنْ يُقَدِّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ عِنْدَنَا ، أَوْ يَتَّحِدَ الْمَرَضُ ، أَوْ غَيْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَيُزَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ قَالَ فِي الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ الْمُسَمَّى بِلُبَابِ الْمَنَاسِكِ .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ اتِّحَادِ الْجَزَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الْجِنَايَةِ فَاللُّبْسُ جِنْسٌ وَالطِّيبُ جِنْسٌ وَالْحَلْقُ جِنْسٌ وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ جِنْسٌ ا هـ أَيْ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ وَمَتَى اُرْتُكِبَتْ مُوجِبَاتُهَا جَهْلًا مَحْضًا ، أَوْ تَعَدَّدَتْ النِّيَّةُ أَوْ الزَّمَانُ ، أَوْ السَّبَبُ بِأَنْ يُقَدِّمَ

مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ يَلْبَسَ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِعُذْرٍ وَالْآخَرُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَوْ لِعُذْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ أَوْ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُمَا بِالْخُلْعِ وَالِاسْتِرْجَاعِ كَمَا فِي شَرْحِ الْقَارِيّ عَلَى الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ ، أَوْ كَفَّرَ لِلْمُوجِبِ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي كَأَنْ لَبِسَ ، ثُمَّ كَفَّرَ وَدَامَ عَلَى لُبْسِهِ ، أَوْ نَزَعَ ، ثُمَّ كَفَّرَ ، ثُمَّ لَبِسَ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَيُزَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَالَ فِي الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَّحِدْ الْجَزَاءُ بَلْ يَتَعَدَّدُ لِكُلِّ جِنْسٍ مُوجَبُهُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ - بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مُوجِبِهِ فَمَوَاضِعُ اتِّحَادِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَرْبَعَةٌ وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةٌ : الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ ظَنُّ إبَاحَةِ أَسْبَابِهَا لِمُسْتَنَدٍ وَصُورَةٍ عِنْدَنَا قَالَ الْحَطَّابُ : ثَلَاثَةٌ ؛ الْأُولَى قَالَ سَنَدٌ مَنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فِي عُمْرَتِهِ ، ثُمَّ يَسْعَى وَيُحِلُّ أَيْ فَيَنْعَقِدُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَفْعَلُ سَائِرَ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ الثَّانِيَةُ مَنْ يَرْفُضُ إحْرَامَهُ فَيَعْتَقِدُ اسْتِبَاحَةَ مَوَانِعِهِ .
الثَّالِثَةُ مَنْ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْوَطْءِ ، ثُمَّ فَعَلَ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْفَسَادِ ، أَوْ جَاهِلًا بِوُجُوبِ إتْمَامِهِ ا هـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ .
وَفِي الْأَصْلِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَأَصَابَ صَيْدًا ، أَوْ حَلَقَ ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إنْ أَصَابَهُ وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ وَلَوْ تَعَدَّدَ الْوَطْءُ لِأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ ، وَإِفْسَادُ الْفَاسِدِ مُحَالٌ فَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا بِسُقُوطِ جَزَائِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِمُوجِبِ

إتْمَامِهِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجُرْأَةُ عَلَى مُحَرَّمٍ فَعُذْرُهُ بِالْجَهْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ عُذْرِهِ بِهِ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَاحَظَ هَهُنَا مَعْنًى مَفْقُودًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثْرَةُ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفُ ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ الْفِدْيَةَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ إجْمَاعًا وَأَسْقَطَ مَالِكٌ - أَيْ الْجَابِرَ - بِالْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَثْبُتُ الْإِثْمُ مَعَهُمَا وَالْإِثْمُ أَنْسَبُ لِلُزُومِ الْجَابِرِ مِنْ عَدَمِ الْإِثْمِ قَالَهُ الْأَصْلُ وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِمَا الْجَابِرُ رَأْسًا بَلْ إنَّمَا أُسْقِطَ تَعَدُّدُهُ بِتَعَدُّدِ مُوجِبِهِ نَظَرًا لِكَثْرَةِ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ قَالَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ نَقْلًا عَنْ اللُّبَابِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا نَوَى رَفْضَ الْإِحْرَامِ فَجَعَلَ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُهُ الْحَلَالُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ وَالْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ الْإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ مُحْرِمًا وَيَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبَ وَلَوْ كُلَّ الْمَحْظُورَاتِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَاتِ إذَا لَمْ يَنْوِ الرَّفْضَ ثُمَّ نِيَّةُ الرَّفْضِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ بِهَذَا الْقَصْدِ لِجَهْلِهِ مَسْأَلَةَ عَدَمِ الْخُرُوجِ ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِهَذَا الْقَصْدِ فَإِنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ مِنْهُ ا هـ .
قُلْت : وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا تَدَاخُلٌ لِجَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ لَا لِخُصُوصِ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ وَهُوَ فُسْحَةٌ فِي الدِّينِ فَاحْفَظْهُ .

( الْمَوْضِعُ الثَّانِي ) عِنْدَنَا أَنْ يَتَعَدَّدَ مُوجَبُهَا بِفَوْرٍ وَاحِدٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَحْلِقَ وَيُقَلِّمَ ، سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ يَلْبَسَ لِعُذْرٍ وَيَفْعَلَ الْبَاقِيَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا بَعْدَهُ ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ ، وَفِي كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْفَوْرِ حَقِيقَتَهُ - أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ - ، أَوْ مَجَازَهُ ، وَأَنَّ الْيَوْمَ فَوْرٌ وَالتَّرَاخِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لَا أَقَلُّ - وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ التَّتَّائِيُّ - خِلَافٌ اعْتَمَدَ عبق الْأَوَّلَ وَسَلَّمَ الْبُنَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ أَنْ يَتَعَدَّدَ مُوجَبُهَا بِفَوْرٍ وَاحِدٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ أَجْنَاسٍ ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ كَمَا عَلِمْت ، الثَّانِي : أَنْ لَا يُكَفِّرَ لِلْأَوَّلِ ، وَإِلَّا فَكَفَّارَتَانِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ ، الثَّالِثُ أَنْ يَتَّحِدَ السَّبَبُ فِي تَعَدُّدِ ذَلِكَ الْمُوجَبِ قَالَ فِي لُبَابِ الْمَنَاسِكِ مَعَ بَعْضٍ مِنْ شَرْحِ الْقَارِيّ وَهَذَا إذَا اتَّحَدَ سَبَبُ اللُّبْسِ فَإِنْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ ، نَحْوُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ ، أَوْ قَمِيصًا وَجَبَتْ ، أَوْ يَحْتَاجَ إلَى قَلَنْسُوَةٍ فَلَبِسَهَا مَعَ الْعِمَامَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ مُتَّحِدٌ فَلَا نَظَرَ إلَى الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّدِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا لِوُقُوعِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ لِضَرُورَةِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحِيطِ ، وَكَذَا إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ لِضَرُورَةٍ بِهِمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ لَبِسَ عِمَامَةً وَخُفًّا بِعُذْرٍ فِيهِمَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا لِأَنَّ

اللُّبْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ الضَّرُورَةِ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ فَلَبِسَهَا مَعَ الْقَمِيصِ مَثَلًا ، أَوْ لَبِسَ قَمِيصًا لِلضَّرُورَةِ وَخُفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا أَيْ بَلْ يَتَحَتَّمُ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَلْقِ بِأَنْ حَلَقَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ لِعُذْرٍ وَبَعْضَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَوْ فِي مَجْلِسٍ يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَهَذَا فِي الطِّيبِ ا هـ .
وَاعْتَمَدُوا أَنَّ الْيَوْمَ - أَيْ مِقْدَارَهُ - فِي اللِّبَاسِ كَالْمَجْلِسِ فِي غَيْرِهِ قَالَ الْقَارِيّ عَلَى اللُّبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى مَا يَتَّحِدُ فِيهِ الْجَزَاءُ مَعَ تَعَدُّدِ اللُّبْسِ وَجَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسٍ ، أَوْ يَوْمٍ مَا نَصُّهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْيَوْمَ فِي اتِّحَادِ الْجَزَاءِ فِي حُكْمِ اللُّبْسِ كَالْمَجْلِسِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ وَالْحَلْقِ وَالْقَصِّ وَالْجِمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْفَارِسِيُّ وَالطَّرَابُلُسِيُّ أَنَّهُ إنْ لَبِسَ الثِّيَابَ كُلَّهَا مَعًا وَلَبِسَ خُفَّيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا بَعْضَ يَوْمِهِ ، ثُمَّ لَبِسَ فِي يَوْمِهِ سَرَاوِيلَ ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْنِ وَقَلَنْسُوَةً فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَيَّدَ بِالْيَوْمِ لَا بِالْمَجْلِسِ ، وَفِي الْكَرْمَانِيِّ وَلَوْ جَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَبَبٍ وَاحِدٍ فَصَارَ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ إذَا حَلَقَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ دِمَاءٍ وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمَنَاسِكِ بِتَعَدُّدِ الْجَزَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْأَيَّامِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ لَبِسَ الْعِمَامَةَ يَوْمًا ، ثُمَّ لَبِسَ الْقَمِيصَ يَوْمًا آخَرَ ثُمَّ الْخُفَّيْنِ يَوْمًا آخَرَ ، ثُمَّ السَّرَاوِيلَ

يَوْمًا آخَرَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسٍ دَمٌ ، ثُمَّ قَالَ وَالْمُعْتَبَرُ مِقْدَارُ الْيَوْمِ لَا عَيْنُهُ وَبِهَذَا صَحَّ قَوْلُهُ وَحُكْمُ اللَّيْلِ كَالْيَوْمِ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ ا هـ .
( الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ ) عِنْدَنَا أَنْ يَنْوِيَ التَّكْرَارَ ، وَلَوْ بَعُدَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْأَوَّلِ قَالَ عبق وَصُوَرُ نِيَّةِ التَّكْرَارِ ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ .
الثَّانِيَةُ أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ مُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ مُتَعَدِّدًا مِنْهُ قَالَ الْحَطَّابُ بِأَنْ يَلْبَسَ لِعُذْرٍ وَيَنْوِيَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْعُذْرُ تَجَرَّدَ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ الْعُذْرُ عَادَ إلَى اللُّبْسِ ، أَوْ يَتَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ وَيَنْوِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى الدَّوَاءِ فَعَلَ ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِهِ الْأَوَّلِ قَالَهُ سَنَدٌ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ ، وَأَمَّا مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا ، ثُمَّ نَزَعَهُ لِيَلْبَسَ غَيْرَهُ ، أَوْ نَزَعَهُ عِنْدَ النَّوْمِ لِيَلْبَسَهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَقَالَ هَذَا فِعْلٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ فِي الْعُرْفِ وَلَا يَضُرُّ تَفْرِقَتُهُ فِي الْحِسِّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً ا هـ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَنْوِيَ مُتَعَدِّدًا مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ مُعَيَّنًا فَلَا تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بِفِعْلِ مَا نَوَاهُ ، أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عِنْدَ فِعْلِ مُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ أَوْ عِنْدَ إرَادَةِ فِعْلِهِ ، أَوْ قَبْلَهُمَا وَقَوْلُ تت عَقِبَ قَوْلِ خَلِيلٍ التَّكْرَارُ عِنْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ا هـ مِثْلُهُ نِيَّةُ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّمَا احْتَرَزَا بِهِ عَنْ نِيَّةِ التَّكْرَارِ بَعْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ا هـ كَلَامُ عبق بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ .
وَمُرَادُهُ قَوْلُ

الْحَطَّابِ فَرْعٌ مِمَّا تَتَّحِدُ فِيهِ الْفِدْيَةُ : إذَا كَانَتْ نِيَّةُ فِعْلِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَنَقَلَهُ خَلِيلٌ فِي الْمَنَاسِكِ ا هـ ، وَفِي الْمَوَّاقِ وَاللَّخْمِيِّ إنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ وَقَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ بِنِيَّةِ فِعْلِ جَمِيعِهَا فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَحَدَهَا ، ثُمَّ حَدَثَتْ نِيَّةٌ فَفَعَلَ أَيْضًا كَانَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ إلَّا إنْ فَعَلَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ ا هـ نَعَمْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْحَطَّابِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِهِ الْأَوَّلِ قَالَهُ سَنَدٌ وَهُوَ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ ا هـ وَسَيَأْتِي لَفْظُ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا احْتَرَزَ بِهِ عَنْ نِيَّةِ التَّكْرَارِ بَعْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَعُلِمَ مَا فِي تَنْظِيرِ الْبُنَانِيِّ عَلَى قَوْلِهِ مِثْلُهُ نِيَّةُ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ نِيَّةُ التَّكْرَارِ لِلْمُوجِبِ الْوَاحِدِ ، أَوْ الْمُتَعَدِّدِ لِعُذْرٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مُتَعَدِّدٍ ، أَوْ جَهْلًا ، أَوْ نِسْيَانًا ، أَوْ جُرْأَةً فَفِي عبق أَنَّ قَوْلَ تت أَمَّا لَوْ تَدَاوَى لِقُرْحَةٍ أُخْرَى لَتَعَدَّدَتْ ا هـ .
يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَنْوِ مُدَاوَاةَ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْأُولَى ا هـ وَسَلَّمَهُ الْبُنَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا لَبِسَ قَلَنْسُوَةً لِوَجَعٍ ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَعَادَ إلَيْهِ الْوَجَعُ فَلَبِسَهَا إنْ نَزَعَهَا مُعْرِضًا عَنْهَا فَعَلَيْهِ فِي اللُّبْسِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ فِدْيَتَانِ ، وَإِنْ كَانَ نَزَعَهَا نَاوِيًا رَدَّهَا عِنْدَ مُرَاجَعَةِ الْمَرَضِ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَجْلِ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَوْ لَبِسَ الثِّيَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ نَاوِيًا لُبْسَهَا إلَى بُرْئِهِ مِنْ مَرَضِهِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَهُوَ يَنْوِي لُبْسَهَا مَرَّةً جَهْلًا ، أَوْ

نِسْيَانًا ، أَوْ جُرْأَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ النِّيَّةِ ا هـ نَقَلَهُ الْأَصْلُ وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ عَدَمُ الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ عِنْدَ النَّزْعِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ تُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ : أَحَدُهَا أَنْ لَا يُكَفِّرَ عَنْ الْأَوَّلِ .
الثَّانِي اتِّحَادُ جِنْسِ الْمُوجِبِ .
الثَّالِثُ اتِّحَادُ السَّبَبِ قَالَ الْقَارِيّ عَلَى اللُّبَابِ مَعَ الْمَتْنِ وَلَوْ كَانَ بِهِ حُمَّى غِبٍّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَوْ بِأَنْ تَأْتِيَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَلْبَسُ الْمَخِيطَ يَوْمًا أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَنْزِعُهُ يَوْمًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَمَا دَامَتْ الْحُمَّى تَأْخُذُهُ فَاللُّبْسُ مُتَّحِدٌ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ وَحَدَثَتْ أُخْرَى اخْتَلَفَ حُكْمُ اللِّبَاسِ فَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ ، أَوْ لَا وَعِنْدَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يُكَفِّرْ ، وَإِنْ كَفَّرَ فَكَفَّارَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ ، أَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ أَيْ فِي حِصْنٍ وَنَحْوِهِ فَاحْتَاجَ إلَى اللُّبْسِ لِلْقِتَالِ أَيَّامًا أَيْ مَثَلًا يَلْبَسُهَا إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْعَدُوِّ ، أَوْ بِعَكْسِهِ وَيَنْزِعُهَا إذَا رَجَعَ أَيْ هُوَ أَوْ عَدُوُّهُ ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ أَصْلًا أَيْ وَلَوْ رَجَعَ الْعَدُوُّ ، أَوْ لَمْ يَرْجِعْ أَيْ لِلْعَدُوِّ وَلَكِنْ يَلْبَسُ فِي وَقْتٍ وَيَنْزِعُ فِي وَقْتٍ أَيْ وَالْعِلَّةُ قَائِمَةٌ بِأَنْ لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ فَإِنْ ذَهَبَ وَجَاءَ عَدُوٌّ غَيْرُهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ، أَوْ كَانَ بِهِ أَيْ وَقَعَ بِالْمُحْرِمِ ضَرُورَةٌ أُخْرَى أَيْ غَيْرُ ضَرُورَةِ الْإِحْصَارِ لِأَجْلِهَا يَلْبَسُ فِي النَّهَارِ أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَنْزِعُ فِي اللَّيْلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ، أَوْ فَعَلَ بِالْعَكْسِ أَيْ بِأَنْ لَبِسَ فِي اللَّيْلِ وَنَزَعَ فِي النَّهَارِ لِبَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الضَّرُورَاتِ ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالْعِلَّةُ لَازِمَةٌ لِأَنَّ لُزُومَهَا يَقُومُ مَقَامَ دَوَامِهَا فَمَا دَامَ الْعُذْرُ أَيْ

مَوْجُودًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَاللُّبْسُ مُتَّحِدٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الصُّوَرِ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْ لِلتَّدَاخُلِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا أَيْ لِارْتِكَابِهِ مَعْذُورًا فَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَبِسَ أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ بِيَقِينٍ فَنَزَعَ ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَحَدَثَ عُذْرٌ آخَرُ أَيْ فَلَبِسَ ، أَوْ لَمْ يَحْدُثْ عُذْرٌ وَلَكِنْ دَامَ عَلَى اللُّبْسِ أَيْ بِلَا عُذْرٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَإِذَا كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الْعُذْرِ فَاسْتَمَرَّ أَيْ عَلَى لُبْسِهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهُ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ ، لَكِنْ هُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَقَاءُ الْعُذْرِ حُكْمِيًّا ، أَوْ زَوَالُهُ حَقِيقِيًّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُهُ لِئَلَّا يَكُونَ عَاصِيًا ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلِبَقَاءِ الْعِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ا هـ بِتَغَيُّرٍ مَا .
( الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ ) أَنْ يَتَّحِدَ السَّبَبُ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ صُورَتَهُ عِنْدَ الْأَحْنَافِ أَنْ يَلْبَسَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْجَسَدِ كِلَيْهِمَا بِعُذْرٍ ، أَوْ كِلَيْهِمَا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنْ يُقَدِّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ كَأَنْ يَلْبَسَ أَوَّلًا الثَّوْبَ ثُمَّ السَّرَاوِيلَ ، أَوْ يُقَدِّمَ الْقَلَنْسُوَةَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، أَوْ الْقَمِيصَ عَلَى الْجُبَّةِ إذَا كَانَ الْقَمِيصُ أَطْوَلَ مِنْ الْجُبَّةِ وَالسَّرَاوِيلِ أَمَّا إذَا طَالَتْ السَّرَاوِيلُ ، أَوْ الْجُبَّةُ طُولًا لَهُ بَالٌ يَحْصُلُ بِهِ انْتِفَاعٌ ، أَوْ دَفْعُ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيَتَعَدَّدُ كَمَا إذَا عَكَسَ فَقَدَّمَ السَّرَاوِيلَ عَلَى الْقَمِيصِ فَفِي الْجَلَّابِ إنْ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهَا فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِحُصُولِ السَّتْرِ مِنْ الْقَمِيصِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ ، ثُمَّ إلَى قَمِيصٍ فَفِدْيَتَانِ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْقَمِيصِ مِنْ

السَّتْرِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ السَّرَاوِيلِ نَقَلَهُ الْأَصْلُ .
( فَرْعٌ ) إذَا تَعَدَّدَ مُوجِبُ الْحَفْنَةِ بِأَنْ قَتَلَ قَمْلًا قَلِيلًا وَأَزَالَ شَعْرًا قَلِيلًا لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى وَقَلَّمَ ظُفُرًا وَاحِدًا لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى أَيْضًا وَأَلْقَى قُرَادًا كَثِيرًا ، أَوْ قَلِيلًا عَنْ بَعِيرِهِ جَرَى فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا فَتَتَّحِدُ إنْ ظَنَّ الْإِبَاحَةَ لِمُسْتَنَدٍ ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ إذَا لَمْ يَخْرُجُ لِلْأَوَّلِ قَتْلُ الثَّانِي ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ الْجَفْنَةُ كَمَا إذَا تَرَاخَى مَا بَيْنَهُمَا كَذَا فِي عبق وَحَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ .
( الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ ) عِنْدَ الْأَحْنَافِ خَاصَّةً أَنْ يَتَّحِدَ الْجِنْسُ كَمَا مَرَّ تَوْضِيحُهُ عَنْ اللُّبَابِ هَذَا وَقَوْلُ الْأَصْلِ وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ أَوْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَمَتَى وَقَعَ التَّعَدُّدُ فِي النِّيَّةِ ، أَوْ السَّبَبِ أَوْ الزَّمَانِ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ ا هـ فِيهِ نَظَرٌ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ قُصُورًا لَا يَخْفَى مِنْ الضَّابِطِ الْمَارِّ .
ثَانِيهِمَا أَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَرَضِ لَا عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مُطْلَقُ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ لِغَيْرِ مَرَضٍ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ - كَمَا عَلِمْت - الْمَرَضُ ، أَوْ غَيْرُهُ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ : وَأَمَّا ضَابِطُ التَّدَاخُلِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَ السَّبَبُ ، أَوْ الْجِنْسُ وَلَوْ تَعَدَّدَ الزَّمَانُ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَقِيلَ : إنَّهُ مَتَى اتَّحَدَ السَّبَبُ فَقَطْ اتَّحَدَتْ وَمَتَى تَعَدَّدَ السَّبَبُ أَوْ الْجِنْسُ ، أَوْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ فَقَطْ تَعَدَّدَتْ قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ ( وَإِنْ كَرَّرَ مَحْظُورًا مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ ) قَتْلِ (

صَيْدٍ ، مِثْلُ أَنْ حَلَقَ ) ثُمَّ أَعَادَ ( أَوْ قَلَّمَ ) ثُمَّ أَعَادَ ( أَوْ لَبِسَ ) مَخِيطًا ، ثُمَّ أَعَادَ ( أَوْ تَطَيَّبَ ) ثُمَّ أَعَادَ ( أَوْ وَطِئَ ) ثُمَّ أَعَادَ ( أَوْ فَعَلَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ) كَأَنْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ ( ثُمَّ أَعَادَ ) ذَلِكَ ( ثَانِيًا وَلَوْ غَيْرَ الْمَوْطُوءِ ) أَوَّلًا ( أَوْ ) كَانَ تَكْرِيرُهُ لِلْمَحْظُورِ ( يَلْبَسُ مَخِيطًا فِي رَأْسِهِ ) فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ فِي الشَّرْحِ بِأَنْ لَبِسَ قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ وَعِمَامَةً وَخُفَّيْنِ كَفَاهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُلْبَسُ فَأَشْبَهَ الطِّيبَ فِي رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ ( أَوْ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ ) ذَكَرَهُ فِي الْإِنْصَافِ الْمَذْهَبُ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابَ وَبَنَاهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ لَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْنَاسِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إذْ الطِّيبُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ جِنْسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى تَكْرَارِ الطِّيبِ فَقَطْ بِأَنْ تَطَيَّبَ أَوَّلًا ، ثُمَّ أَعَادَهُ بِدَوَاءٍ مُطَيَّبٍ فَهَذَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا لُبْسَ مَعَهُ وَلَا تَغْطِيَةَ رَأْسٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ بِدَوَاءٍ مُطَيَّبٍ فَإِنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ فِدْيَةٌ وَلِلطِّيبِ فِدْيَةٌ وَقَوْلُهُ ( قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعَادَ ( فَ ) عَلَيْهِ ( كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَابَعَ الْفِعْلَ ، أَوْ فَرَّقَهُ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِدْيَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي دَفْعَةٍ ، أَوْ دَفْعَتَانِ ( فَلَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ ، أَوْ قَطَعَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي أَوْقَاتٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَزِمَهُ دَمٌ ) أَوْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَلَمْ تَلْزَمْهُ ثَانِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ( وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ ) الْفِعْلِ ( الْأَوَّلِ لَزِمَهُ عَنْ الثَّانِي كَفَّارَةٌ ) ثَانِيَةٌ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ عَيْنِ

السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ الْأُولَى أَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ ، ثُمَّ حَنِثَ وَكَفَّرَ ، ثُمَّ حَلَفَ وَحَنِثَ ا هـ بِحُرُوفِهِ .
قَالَ الْأَصْلُ : وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ أَجْنَاسٌ لَا تَتَدَاخَلُ كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ وَحُجَّةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّرَفُّهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَالْمُوجِبُ بِالْكَسْرِ وَاحِدٌ وَمُوجَبُ الْجَمِيعِ بِالْفَتْحِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفِدْيَةُ فَتَتَدَاخَلُ كَحُدُودِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ .
( الْكَفَّارَةُ الثَّالِثَةُ الْهَدْيُ ) وَهُوَ دَمٌ مُرَتَّبٌ بَيْنَ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يَجِبُ لِفَسَادِ إحْرَامٍ أَوْ تَمَتُّعٍ ، أَوْ قِرَانٍ ، أَوْ نَقْصٍ فِي إحْرَامٍ كَتَرْكِ نَحْوِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَوْ فَوَاتِ حَجٍّ وَكَمَذْيٍ ، أَوْ مُقَدِّمَاتِ جِمَاعٍ بِلَا إنْزَالٍ ، أَوْ إنْزَالٍ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ ، أَوْ لِنَذْرِ عَيْنٍ لِلْمَسَاكِينِ ، أَوْ أَطْلَقَ ، أَوْ يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا يَتَّحِدُ الْهَدْيُ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِ إلَّا فِي خَمْسِ مَسَائِلَ تَصَيَّدْتهَا مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا الْآنَ { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : تَكَرُّرُ الْوَطْءِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَرْكُ النُّزُولِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَمَبِيتِ لَيَالِي مِنًى وَرَمْيُ جَمِيعِ الْجَمَرَاتِ وَلَوْ عَمْدًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَيَدْخُلُ بِالْأَوْلَى تَرْكُ مَبِيتِ لَيَالِي مِنًى فَقَطْ وَتَرْكُ رَمْيِ جَمِيعِ الْجَمَرَاتِ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَرْكُ ذِي النَّفْسِ طَوَافَ الْقُدُومِ مَعَ تَأْخِيرِ السَّعْيِ لِلْإِفَاضَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَرْكُ الْإِتْيَانِ بِالتَّلْبِيَةِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ وَعَقِبَ السَّعْيِ مَعًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : تَرْكُ الْقَادِرِ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مَعًا وَبِالْجُمْلَةِ فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَنَا

ثَلَاثَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْلِي : ثَلَاثَةٌ دِمَاءُ حَجٍّ حُصِرُوا أَحَدُهَا الْمُرَتَّبُ الْمُقَدَّرُ وَذَا هُوَ الْهَدْيُ لِنَقْصٍ أَوْ فَسَادْ فَوَاتِ حَجٍّ أَوْ تَمَتُّعٍ يُرَادْ قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ لِمِسْكِينٍ بَدَا أَوْ مُطْلَقًا أَوْ ذَا تَطَوُّعٍ غَدَا وَالثَّانِ جَا مُخَيَّرًا مُقَدَّرَا وَذَا هُوَ الْفِدْيَةُ حَيْثُمَا تَرَى وَالثَّالِثُ الْمُخَيَّرُ الْمُعَدَّلُ وَذَا جَزَاءُ الصَّيْدِ حَيْثُ يَحْصُلُ وَجَعَلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ وَالْحَصْرِ عَنْ إتْمَامِ الشَّكِّ دَمًا مُرَتَّبًا مُعَدَّلًا لَا مُقَدَّرًا فَأَوْجَبُوا ذَبْحَ الشَّاةِ عَلَى الْقَادِرِ الْمَحْصُورِ لِلتَّحَلُّلِ وَعَلَى الْعَاجِزِ الْعُدُولُ إلَى الْإِطْعَامِ فِي مَحَلِّ الْإِحْصَارِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الشَّاةِ بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ أَيْضًا الْعُدُولُ إلَى الصَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا حَيْثُ شَاءَ وَأَوْجَبُوا فِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ ذَبْحَ بَدَنَةٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَسَبْعُ شِيَاهٍ مِنْ الْغَنَمِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا قَوَّمَ الْبَدَنَةَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَإِنْ عَجَزَ صَامَ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْمُرَتَّبُ إمَّا مُقَدَّرٌ ، أَوْ مُعَدَّلٌ ، وَالْمُخَيَّرُ إمَّا مُقَدَّرٌ ، أَوْ مُعَدَّلٌ وَاَلَّذِي يَتَدَاخَلُ مِنْهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْفِدْيَةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَالْهَدْيُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي قَوْلِي : تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ مَعَ تَعَدُّدٍ لِسَبَبٍ بِأَرْبَعٍ لَمْ تَزِدْ أَحَدُهَا أَنْ تَفْعَلَ الْأَسْبَابَ فِي وَقْتٍ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهَا قِفِي نِيَّةَ تَكْرَارٍ لِفِعْلٍ مَا إلَيْهِ أَدَّاهُ عُذْرُهُ الَّذِي يَطْرَا عَلَيْهِ ثَالِثُهَا تَقْدِيمُ مَا نَفْعًا أَعَمَّ عَلَى أَخَصَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَعَمِّ رَابِعُهَا ظَنُّ إبَاحَةِ السَّبَبْ لِمُقْتَضٍ مِنْ نَحْوِ رَفْضِ مَا ارْتَكَبْ وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ كَذَا بِخَمْسَةٍ فَأَوَّلٌ تَكْرَارُ وَطْءٍ فَاثْبِتْ وَالثَّانِ تَرْكٌ لِنُزُولِ جَمْعِ وَالرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ رَأْسًا فَاوْعِ

وَثَالِثٌ تَأْخِيرُهُ لِلسَّعْيِ مَعَ تَرْكِ قُدُومٍ لَا لِعُذْرٍ قَدْ وَقَعْ وَرَابِعٌ يَا صَاحِ تَرْكُ التَّلْبِيَهْ مِنْ بَعْدِ إحْرَامٍ وَسَعْيٍ فَادْرِيَهْ وَالْخَامِسُ الرُّكُوبُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيُ لَا لِحَاجَةٍ تُوَافِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ ) وَهِيَ عِشْرُونَ قَاعِدَةً ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ دُونَ سَبَبٍ يَعْرِضُ لَهُ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْمُسْتَغْنِي فِي وُجُودِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ .
وَثَانِيهِمَا الْعِلْمُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ وَذَلِكَ لِذَاتِ الْعِلْمِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ نَقِيصَةٌ لِذَاتِهِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ نَقْصَهُ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ ، نَقْصُ الْجَاهِلِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ وَفَضْلُ الْعَالِمِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ .
وَثَالِثُهَا الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَوْتِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ وَسَبَبُ تَفْضِيلِهَا كَوْنُهَا يَتَأَتَّى مَعَهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ كَالنُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَتَعَذَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ الْمَوْتِ .
وَتِلْكَ الْحَيَاةُ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ .

قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَهِيَ عِشْرُونَ قَاعِدَةً ) .
قُلْت : الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ ، وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَقْلِيٍّ وَوَضْعِيٍّ ، وَمَعْنَى الْعَقْلِيِّ أَنَّ فَضْلَ الْمُتَّصِفِ بِالْفَضْلِ لِمَعْقُولِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمَعْنَى الْوَضْعِيِّ أَنَّ فَضْلَ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَيْسَ لِمَعْقُولِهِ بَلْ لِمُوجِبٍ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ دُونَ سَبَبٍ يَعْرِضُ لَهُ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَهُ مُثُلٌ ؛ أَحَدُهَا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْمُسْتَغْنِي فِي وُجُودِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالذَّاتِ لَهُ مُثُلٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَا مِثَالَ لَهُ إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا مُثُلٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا غَيْرُهُ .
قَالَ : ( وَثَانِيهَا الْعِلْمُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَيْسَا بِذَاتِيَّيْنِ ، وَإِنَّمَا يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَوْلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، قَالَ : ( وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا كَلَامٌ سَاقِطٌ عَدِيمُ التَّحْصِيلِ ، كَيْفَ يَكُونُ الْعِلْمُ أَفْضَلَ مِنْ الظَّنِّ بِسَبَبِ الْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ ؟ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَالذَّاتِيُّ لَا يُعَلَّلُ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ الْجَهْلُ مَعَ الظَّنِّ ، وَالْجَهْلُ وَالظَّنُّ ضِدَّانِ

فَكَيْفَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ ( وَذَلِكَ لِذَاتِ الْعِلْمِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ نَقِيصَةٌ لِذَاتِهِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ نَقْصَهُ ) .
قُلْت : قَوْلُهُ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ يُشْعِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ قِيَامُ الصِّفَةِ بِالصِّفَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ .
قَالَ ( بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ ؛ نَقْصُ الْجَاهِلُ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَثَالِثُهَا الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَوْتِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ دَعْوَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ .
قَالَ ( وَسَبَبُ تَفْضِيلِهَا كَوْنُهَا يَتَأَتَّى مَعَهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَصِفَاتُ الْكَمَالِ كَالنُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِمَا وَتَعَذَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ الْمَوْتِ وَتِلْكَ لِلْحَيَاةِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ ) .
قُلْت : عَادَ إلَى تَعْلِيلِ الذَّاتِيِّ ثُمَّ كَرَّ إلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ ) الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لَا لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ بَلْ لِمُوجِبِ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ إنْ كَانَ بِحَسَبِ الذَّاتِ ، أَوْ بِحَسَبِ الصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ عَقْلِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ بِالطَّاعَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ ، أَوْ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ ، أَوْ الصُّدُورِ ، أَوْ لِمَدْلُولٍ أَوْ الدَّلَالَةِ ، أَوْ التَّعَلُّقِ أَوْ الْمُتَعَلَّقِ ، أَوْ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ أَوْ بِالْمُجَاوَرَةِ ، أَوْ بِالْحُلُولِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ ، أَوْ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى أَوْ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ ، أَوْ بِالتَّأْثِيرِ ، أَوْ بِجُودَةِ النِّيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَهُوَ وَضْعِيٌّ فَقَاعِدَةُ التَّفْضِيلِ تَرْجِعُ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ حَصْرِ وُجُوهِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً ا هـ .
أَيْ بَلْ إنَّهَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ الْأَصْلُ وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ الثَّوَابِ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَمَا بَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ : أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت بِبَيَانِ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَالْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَيَاهُ مِنْ الْحَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَسْبَابَهُ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ بَلْ وَمِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي زَعَمَ الْمَأْمُونُ الْحَصْرَ فِيهَا ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ .
( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ ، إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي : إنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا عَيْنُ الذَّاتِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا هِيَ هُوَ لَأَدَّى إلَى اتِّحَادِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَلَوْ قُلْنَا : غَيْرُهُ لَكَانَتْ إمَّا مُحْدَثَةً فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِمَّا قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ هُنَا مَا قَابَلَ الْعَيْنَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنْفَكُّ فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً وَلَا عَيْنًا بَلْ شَيْءٌ مُلَازِمٌ بِخِلَافِ الْوُجُودِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَيْنُ الذَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَجْهٌ وَاعْتِبَارٌ ، وَإِنَّهُ غَيْرُهَا

بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ وَهُوَ مَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ .
وَفِي مَحَلِّهِ نَعَمْ قَالَ السُّكْتَانِيُّ قَوْلُنَا : اللَّهُ مَوْجُودٌ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ لَا مُجَرَّدُ إخْبَارٍ لَفْظِيٍّ فَالْحَقُّ أَنَّ الصِّفَةَ يَكْفِي فِيهَا مُغَايَرَةُ الْمَفْهُومِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ كَيْفَ وَقَدْ عَدُّوا السُّلُوبَ يَعْنِي الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ وَمُخَالَفَتَهُ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامَهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ وَالْوَحْدَانِيَّةَ صِفَاتٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْبَارِي الَّتِي عَدَّهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَأَوْجَبُوا مَعْرِفَتَهَا تَفْصِيلًا إمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهَذِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً عَنْهَا بَلْ مُلَازِمَةً لَهَا .
وَإِمَّا أَنْ لَا تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَدَمِيَّةً عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهَا نَقْصًا عَنْ الذَّاتِ وَهِيَ صِفَاتُ السُّلُوبِ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَجْهًا وَاعْتِبَارًا لَا حَالًّا لِأَنَّ الْحَقَّ نَفْيُهُ وَهِيَ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ أَعْنِي الْوُجُودَ وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ وَهِيَ الْكَوْنُ عَالِمًا وَمُرِيدًا وَقَادِرًا وَمُتَكَلِّمًا وَحَيًّا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَالِاعْتِبَارُ قَدْ اخْتَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ لَهُ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبًا فَلَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي ذِهْنِ الْمُعْتَبِرِ وَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ فَقَطْ إنْ اُنْتُزِعَ مِنْ خَارِجٍ مَوْجُودٍ مُشَاهَدٍ كَالْكَوْنُ أَبْيَضُ كَانَ صَادِقًا لِتَأْيِيدِ الْخَارِجِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ اعْتِبَارٍ كَاعْتِبَارِ الْكَرِيمِ بَخِيلًا كَانَ كَاذِبًا لِمُعَارَضَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لَهُ لَا أَمْرَانِ بَحْتٌ لَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَمَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْحَالِّ وَبَيْنَ وَجْهِهِ فَانْظُرْهُ فَالْوُجُودُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ عَلَى الذَّاتِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ لِأَنَّهَا

مِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَاتٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الذَّاتِ حُكْمًا مَعْنَوِيًّا يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا غَيْرَ الذَّاتِ مُغَايَرَةُ مَفْهُومِهَا لِمَفْهُومِ الذَّاتِ بِالْأَوْلَى مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ فَافْهَمْ .

( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ بِالْعِلْمِ .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى الْمُوجَبِ بِالذَّاتِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ .
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ لَا لِذَاتِهِ وَبِهِ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ بِالْعِلْمِ ) .
قُلْت : أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي التَّفْضِيلِ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْجَهْلُ بِبَعْضِ الْعُلُومِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَقَدْ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ .
قَالَ : ( وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْحِيحِ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ .
قَالَ : ( وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ لَا لِذَاتِهِ وَبِهِ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى ) .
قُلْت : أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الْقُدْرَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُفَصِّلَ الْقُدْرَةَ الْقَدِيمَةَ مِنْ الْحَادِثَةِ .

( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ بِعِلْمٍ نَافِعٍ عَلَى الْجَاهِلِ بِهِ أَمَّا الَّذِي لَا يَنْفَعُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَيَكُونُ الْجَاهِلُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَالِمِ بِهِ .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ تَعَالَى عَلَى الْعَاجِزِ الَّذِي قُدْرَتُهُ حَادِثَةٌ .
وَثَالِثُهَا قِيلَ تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ عَلَى الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ لَكِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ا هـ .
وَفِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ قَادِرٌ ، ثُمَّ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَاتِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ .
وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِصِفَاتٍ وُجُودِيَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٍ بِهَا يَصِحُّ أَنْ تُرَى وَفَسَّقُوا مَنْ نَفَاهَا قَالُوا وَلُزُومُ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَتْ مُنْفَكَّةً وَأَلْزَمُوا أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ لِأَنَّهَا الصِّفَاتُ وَأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ إلَخْ لِأَنَّ الْكُلَّ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ وَحَيْثُ جَازَ عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ لَزِمَ عِلْمٌ بِلَا عَالِمٍ إذْ لَا فَرْقَ فِي التَّلَازُمِ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ " أَسْوَدُ بِلَا سَوَادٍ " وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْفَسَادِ وَكُلُّهَا تَقْبَلُ الدَّفْعَ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِتَغَايُرِ الْمَفَاهِيمِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَإِنْ قَالَ أليوسي إذَا أَرَادُوهَا لِلِاعْتِبَارَاتِ لَزِمَ نَفْيُهَا إذْ لَا ثُبُوتَ لِلِاعْتِبَارِ إلَّا فِي الذِّهْنِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ هَلْ وُجُوبُهَا وَقِدَمُهَا ذَاتِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِالصِّفَاتِ أَوْ مُمْكِنَةٌ فِي ذَاتِهَا - عَلَى مَا لِلْفَخْرِ وَمَنْ

تَبِعَهُ - وَاجِبَةٌ لِمَا لَيْسَ عَيْنَهَا وَلَا غَيْرَهَا ، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ لَهُ الْآنَ مَحْصُولًا فَإِنَّ الصِّفَةَ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْمَوْصُوفِ مُسْتَحِيلَةٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا الْمَوْصُوفِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُنَافِي مَوْصُوفًا مَا لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ وَمِمَّا رُدَّ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَثَلًا مُمْكِنًا لَكَانَ الْجَهْلُ مُمْكِنًا لِأَنَّهُ مُقَابِلُهُ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ لَا يَضُرُّهُ إنَّمَا يَضُرُّهُ لَوْ كَانَ إمْكَانُهُ لِلَّهِ وَهُوَ يَقُولُ بِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعِلْمِ لَهُ فَتَدَبَّرْ وَقَالَ قَبْلُ وَعَلَى كَلَامِ غَيْرِ الْفَخْرِ لَا نُثْبِتُ إلَّا الْقِدَمَ الذَّاتِيَّ لِلْوَاجِبِ وَحْدَهُ أَيْ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَلَامِ الْفَخْرِ نُثْبِتُ الْقِدَمَ الْعَرَضِيَّ أَيْضًا لِلْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ وَلَا يَكُونُ الْإِمْكَانُ إلَّا ذَاتِيًّا نَعَمْ يَجُوزُ الْبَقَاءُ فِي الْمُمْكِنَاتِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ لِعَدَمِ وُقُوفِ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ حَدٍّ بِخِلَافِ الْقِدَمِ لِلْمُمْكِنَاتِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ أَزَلًا وَهُوَ مُحَالٌ بِالطَّبْعِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ وَاَلَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عَرَبِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الصِّفَاتِ عَيْنٌ لَا غَيْرُ كَشْفًا وَيَقِينًا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ا هـ وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : اعْتِصَامُ الْوَرَى بِمَغْفِرَتِكْ عَجَزَ الْوَاصِفُونَ عَنْ صِفَتِكْ تُبْ عَلَيْنَا فَإِنَّنَا بَشَرٌ مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكْ ا هـ كَلَامُ الْأَمِيرِ بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ .

( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ ؛ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ .
( وَثَانِيهَا ) تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ ، وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ ، كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمْ الرَّسَائِلَ وَالرُّسُلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَظَّمُوا الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ فَحَصَلَ لَهُمْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْيِيزِ بِحِلِّ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ لِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا تَخْفِيفَ الْعَذَابِ أَمَّا فِي تَرْكِ الْخُلُودِ فَلَا .
( وَثَالِثُهَا ) تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَقِيلَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ ( وَرَابِعُهَا ) تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ

دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ .
( وَخَامِسُهَا ) تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ } وَفِي حَدِيثٍ { لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى } بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ : اللَّهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ .
( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ : ( أَحَدُهَا ) الْإِيمَانُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصُ مِنْ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ .
( وَثَانِيهَا ) صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً .
( وَثَالِثُهَا ) الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ .
( وَرَابِعُهَا ) صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهَا ، وَفِي الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْقَصْرِ فَإِنَّ فَضِيلَتَهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَذْهَبِ .

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ بِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَدَمَ الْخُلُودِ ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ ، وَجَحْدِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الرَّسَائِلَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ وَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ تَعْظِيمًا وَتَمْيِيزًا بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ اهْتِضَامًا لَهُمْ .
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ فَعِبَادَتُهُ تَجْرِي عَلَى التَّوَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ فَسُمِّيَ وَلِيًّا وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ فَلَمْ يَكِلْهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ لَحْظَةً عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصَرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ .
وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي

نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ .
وَخَامِسُهَا تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ } .
( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا الْإِيمَانُ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ مِنْ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصِ مِنْ النِّيرَانِ وَمِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ .
وَثَانِيهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً .
وَثَالِثُهَا الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ قَالَ الْبَاجِيَّ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْمَسْجِدَيْنِ مُخَالَفَةُ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَتْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ ا هـ .
نَقَلَهُ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ لَكِنْ فِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَاسْتُدِلَّ أَيْ لِتَفْضِيلِ مَسْجِدِ مَكَّةَ بِحَدِيثِ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ

مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَهُوَ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ صَرِيحٌ بِدَفْعِ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدُونِ أَلْفٍ ، أَوْ بِتَسَاوِيهِمَا وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ .
وَرَابِعُهَا صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِنَا خَاصَّةً مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا .

( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ : ( الْأَوَّلُ ) الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ مَوْصُوفِهِ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ .
( وَثَانِيهَا ) إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ وَجَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ مِنْهُ شَرَفُ الْمَوْصُوفِ .
( وَثَالِثُهَا ) صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِنَا مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ : الْأَوَّلُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ شَرَفِ الصِّفَةِ بِشَرَفِ مَوْصُوفِهَا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ شَرَفَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ إلَّا شَرَفَ الْمَوْصُوفِ ، وَمِنْهَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قِدَمُهَا وَبَقَاؤُهَا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا صِفَاتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِمُصَاحَبَتِهَا النُّبُوَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ مَوْصُوفِهِ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ وَمِنْهَا قِدَمُهُ وَبَقَاؤُهُ .
وَثَانِيهَا إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ وَمِنْهَا قِدَمُهَا وَبَقَاؤُهَا وَثَالِثُهَا صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِنَا لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ وَمِنْهَا مُصَاحَبَتُهَا النُّبُوَّةَ .

( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْخَلَائِقِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ وَصْفِهَا ، فَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الدَّارِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَصْوَاتِهِ هَذِهِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ ، وَتَقْدِيمِ " قَائِمٌ " عَلَى الْمَجْرُورِ وَكَوْنِ الْمَجْرُورِ بِفِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِرَادَتِهِ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَلْفَاظُ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُ أَلْفَاظِ الْخَالِقِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ لِلْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ ، وَمَا الْمَزِيَّةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ .
؟ ، فَنَقُولُ : اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى وَفْقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ وَالْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ كَلَامِ الْخَلَائِقِ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إرَادَتِهِمْ تَبَعًا لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَتَفَرُّدُهُ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِالْإِرَادَةِ هُوَ الْفَرْقُ وَامْتَازَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ الْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَيُقَالُ إنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا صُحُفًا وَكُتُبًا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ .
( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى

وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا .
وَثَالِثُهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ ، وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْجَبَ شَرَفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ لِهَذِهِ الدَّلَالَةِ .
وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهَا فَلَا تُمْسَكُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَيُكَفَّرُ مَنْ أَصَابَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَلَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ ( الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ وَالْعِلْمُ لَهُ مَوْصُوفٌ وَمُتَعَلَّقٌ فَلَهُ مَزِيَّةُ شَرَفٍ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُمْكِنَاتِ ، وَالْقُدْرَةُ بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ ، وَالسَّمْعُ بِالْأَصْوَاتِ ، وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْبَصَرُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى السَّبْعَةِ صِفَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ إلَّا الْحَيَاةَ

قَالَ ( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَزِيَّةَ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ انْفِرَادُ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَضْعِهِ دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ دَعْوَى لَا أَرَاهَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَلَعَلَّ جِبْرِيلَ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ الْمَزِيَّةُ الَّتِي امْتَازَ بِهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ دَالًّا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَارَةً عَنْهُ ، وَامْتِيَازُهُ عَنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ بِالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ كُلُّهُ صَحِيحٌ .

( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ قِيلَ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِوَصْفِ جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الدَّارِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَصْوَاتِهِ هَذِهِ وَالْمُرِيدُ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَتَقْدِيمِ " قَائِمٌ " عَلَى الْمَجْرُورِ وَكَوْنِ الْمَجْرُورِ بِفِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَمَا أَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِرَادَتِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَلْفَاظِ النَّاسِ وَأَلْفَاظِ الْخَالِقِ فِي كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً إلَّا أَنَّ الْمَزِيَّةَ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَنَّنَا نَقُولُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى وَفْقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ - وَالْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ كَلَامِ الْخَلَائِقِ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إرَادَتِهِمْ تَبَعًا لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَتَفَرُّدُهُ فِي رَصْفِ الْقُرْآنِ بِالْإِرَادَةِ هُوَ الْفَرْقُ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَدَعْوَى انْفِرَادِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَضْعِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ لَا أَرَاهَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَلَعَلَّ جِبْرِيلَ أَرَادَ ذَلِكَ بَلْ الْمَزِيَّةُ الَّتِي امْتَازَ بِهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ دَالًّا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَارَةً عَنْهُ وَامْتِيَازُهُ عَنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَيُقَالُ إنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا صُحُفًا وَكُتُبًا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كَمَا قَالَ الشِّهَابُ .
ا هـ .

قُلْت وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ لِلتَّفْضِيلِ بِشَرَفِ الصُّدُورِ بَلْ مِثَالُهُ بِشَرَفِ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ فَافْهَمْ .
( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ وَلَهُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا .
وَثَالِثُهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ عَلَى غَيْرِهِ فَلِذَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ فَلَا تُمْسَكُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَيُكَفَّرُ مَنْ أَصَابَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَصَارَ لَهَا وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ .
( الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالْعِلْمِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ ، وَالْإِرَادَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ وَالْقُدْرَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ ، وَالسَّمْعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ وَالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ، وَالْبَصَرِ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ

بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ فَإِنَّ لَهُ مَوْصُوفًا وَمُتَعَلَّقًا كَمَا عَلِمْت .

( الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِرَسَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ فَكُلُّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُتَعَلِّقٍ مَدْلُولًا ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْمَدْلُولَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ وَالْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ كَالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْعِلْمُ وَنَحْوُهُ فَلَا يُقَالُ لَهُ دَالٌّ بَلْ هُوَ مَدْلُولٌ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ لَهُ مُتَعَلَّقٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَعْلُومُهُ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخُيُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ .
وَالنِّيَّةُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقَاصِدِ ، وَالثَّانِيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَسَائِلِ ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ .
( الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى قُدْرَتِهِ ، وَإِرَادَتِهِ ، وَسَمْعِهِ ، وَبَصَرِهِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ ، وَاخْتِصَاصِ الْإِرَادَةِ بِالْمُمْكِنَاتِ وُجُودِهَا أَوْ عَدَمِهَا ، وَاخْتِصَاصِ الْقُدْرَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ خَاصَّةً ، وَاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ - وَهِيَ الْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ - ، وَاخْتِصَاصِ الْبَصَرِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَالْخَبَرُ فِيهِ مَسْبُوقٌ لِلْعِلْمِ فِي التَّعَلُّقِ وَكُلُّ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُخْبَرٌ عَنْهُ وَيَخْتَصُّ الْكَلَامُ بِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ تَعَلُّقًا مِنْ الْعِلْمِ فَيَكُونُ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى

الْعِلْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَتَفْضِيلِ الْبَصَرِ عَلَى السَّمْعِ لِاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِالْكَلَامِ ، وَالْبَصَرُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ كَانَتْ كَلَامًا ، أَوْ غَيْرَهُ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ فَلَا يَمَسُّهُ مُحْدِثٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَابَسَ بِقَاذُورَةٍ وَلَا بِمَا يُوجِبُ الْإِهَانَةَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ بَلْ لِمُجَاوَرَتِهِ الْوَرَقَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِالْحُلُولِ كَتَفْضِيلِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ التَّفْضِيلُ إنَّمَا هُوَ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَالْعَمَلُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الثَّوَابُ هُنَالِكَ عَلَى عَمَلِ الْعَامِلِ مَعَ أَنَّ التَّفْضِيلَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ كَيْفَ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ أَوَمَا عَلِمَ أَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ وَأَنَّهَا مُنْتَهِيَةٌ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً أَنَا ذَاكِرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّفْضِيلِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بَلْ هَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَأَمَّلْهُ

قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - مِنْ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَدْلُولَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَعْهُودِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاصْطِلَاحِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْخُيُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ إرَادَتَنَا فَصَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ تَنَوُّعُهَا إلَى نَوْعَيْنِ لِاتِّحَادِهَا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِيهِ وَمَا قَالَهُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَمَا بَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَقَاصِدَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ إنْ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ زِيَادَةً فِي الْأُجُورِ فَذَلِكَ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ كَوْنَ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلَةً بِكَوْنِهَا مَقَاصِدَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ وَالثَّانِيَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الثَّالِثَةَ عَشَرَ إلَّا حَصْرَهُ لِوُجُودِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ ذَلِكَ الْحَصْرِ

( الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِرَسَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَكَتَفْضِيلِ إرَادَتِنَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخُيُورِ عَلَى إرَادَتِنَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِاتِّحَادِهَا لَا يَصِحُّ تَنَوُّعُهَا وَلَا أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِيهِ ، وَكَتَفْضِيلِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَةَ وَسِيلَةٌ ، وَالْمَقَاصِدُ بِكَوْنِهَا مَقَاصِدَ لَا بِزِيَادَةٍ فِي الْأُجُورِ إذْ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ ، وَبِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَالْمَدْلُولُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَعْهُودِ ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقًا بِوَجْهٍ مَا ا هـ فَافْهَمْ .
( الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لِلْعِلْمِ فِي التَّعَلُّقِ وَكُلُّ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُخْبَرٌ عَنْهُ إلَّا أَنَّ لِلْكَلَامِ اخْتِصَاصًا بِتَعَلُّقِ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ أَكْثَرُ تَعَلُّقًا مِنْ الْعِلْمِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ ، وَإِرَادَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ ، وَاخْتِصَاصِ الْإِرَادَةِ بِالْمُمْكِنَاتِ وُجُودِهَا أَوْ عَدَمِهَا ، وَاخْتِصَاصِ الْقُدْرَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ خَاصَّةً ، وَاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ - وَهِيَ الْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ - ، وَاخْتِصَاصِ الْبَصَرِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ

وَكَتَفْضِيلِ الْبَصَرِ عَلَى السَّمْعِ لِاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِالْكَلَامِ ، وَالْبَصَرُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ كَانَتْ كَلَامًا ، أَوْ غَيْرَهُ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ فَلَا يَمَسُّهُ مُحْدِثٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَابَسَ بِقَاذُورَةٍ وَلَا بِمَا يُوجِبُ الْإِهَانَةَ لِمُجَاوَرَتِهِ الْوَرَقَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ الْقُرْآنُ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالْحُلُولِ كَتَفْضِيلِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءِ .
وَقَالَ الْبَكْرِيُّ : جَزَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأَرْضِ مَا قَدْ حَاطَ ذَاتَ الْمُصْطَفَى وَحَوَاهَا نَعَمْ لَقَدْ صَدَقُوا بِسَاكِنِهَا عَلَتْ كَالنَّفْسِ حِينَ زَكَتْ زَكَى مَأْوَاهَا وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إنْكَارُ بَعْضِ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى انْحِصَارِ التَّفْضِيلِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ ، وَالْعَمَلُ مُتَعَذَّرٌ هُنَا .

( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ } أَضَافَهُمْ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ كَمَا أَضَافَ الْعُصَاةَ إلَى الشَّيْطَانِ لِيُهِينَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَيُحَقِّرَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } الْآيَةَ أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } شَرَّفَ الصَّوْمَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّشْرِيفِ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَنَقْلُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ .
( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَتَفْضِيلِ ذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جَمِيعِ الذَّرَارِيِّ بِسَبَبِ نَسَبِهِمْ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَفْضِيلِ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ } وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ ، وَإِنْ كُنَّ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ مُتَفَاوِتَاتٍ .
( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَهِدَايَتَهُمْ إلَى الْحَقِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ ، وَالْعِبَادَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا وَاجْتَمَعَ يَوْمًا عَالِمَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْآخَرُ عَالِمٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي : الْهَنْدَسَةُ

أَفْضَلُ مِنْ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ ، وَالْفِقْهُ مَظْنُونٌ وَالْقَطْعُ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : صَدَقْتَ ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هِيَ أَفْضَلُ ، غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يُثْمِرُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ .
وَنَعِيمَ الْجِنَانِ ، وَرِضْوَانَ الرَّحْمَنِ ، وَالْهَنْدَسَةُ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ فَوَافَقَهُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَا مُتَنَاصِفَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ مَوْضُوعَاتُهُ أَيْ تَآلِيفُهُ فَيَنْتَفِعُ الْأَبْنَاءُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ بَعْدَ الْأَسْلَافِ وَالْعِبَادَةُ تَنْقَطِعُ مِنْ حِينِهَا وَثَمَرَةُ الْعِلْمِ وَهِدَايَتُهُ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَجَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الرِّسَالَةُ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ مُثْمِرَةٌ الْهِدَايَةَ لِلْأُمَّةِ الْمُرْسَلِ إلَيْهَا وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَنِسْبَتُهَا إلَى النُّبُوَّةِ كَنِسْبَةِ الْعَالِمِ لِلْعَابِدِ وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُلَاحِظُ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى يُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى الرِّسَالَةِ فَكَانَ يَقُولُ : النُّبُوَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فَهَذَا وُجُوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّسَالَةُ خِطَابٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الْأُمَّةِ ، وَالْخِطَابُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةِ شَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ هُوَ مُتَعَلَّقُهَا وَالرِّسَالَةُ مُتَعَلَّقُهَا الْأُمَّةُ ، وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْهَا التَّبْلِيغُ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مُتَعَارِضَانِ كَمَا يُقَالُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى : إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَيَاةِ لِأَجْلِ التَّعَلُّقِ الَّذِي لَهُ وَالْحَيَاةُ لَا مُتَعَلَّقَ لَهَا وَيُلَاحَظُ فِي الْحَيَاةِ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ بِهَا أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لِلْعِلْمِ ،

وَالْعِلْمُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى الْعِلْمِ فِي ذَاتِهَا ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَهَا ثَمَرَةٌ وَهِيَ مُثْمِرَةٌ ، غَيْرَ أَنَّ إحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ ثَمَرَتُهَا أَعْظَمُ وَجَدْوَاهَا أَكْثَرُ فَتَكُونُ أَفْضَلَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا الْفِقْهُ وَالْهَنْدَسَةُ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْهَنْدَسَةَ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَاتِ وَالْحِسَابُ يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا ، وَالْمِسَاحَاتُ تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَاتِ وَنَحْوِهَا وَمِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْحِسَابُ الْمَسْأَلَةُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَمَعَ الْآخَرِ ثَلَاثَةٌ فَجَلَسَا يَأْكُلَانِ فَجَلَسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ يَأْكُلُ مَعَهُمَا .
ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ دَفَعَ لَهُمَا الَّذِي أَكَلَ مَعَهُمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ : اقْسِمَا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى قَدْرِ مَا أَكَلْته لَكُمَا فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ : إنَّهُ أَكَلَ نِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِي وَنِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِك فَأَعْطِنِي النِّصْفَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا أُعْطِيك إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ لِي خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ فَآخُذُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَك ثَلَاثَةُ أَرْغِفَةٍ تَأْخُذُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَكَمَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ فَشَكَا مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَرْغِفَةُ ثَمَانِيَةٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ

أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ إلَّا ثُلُثًا بَقِيَ لَك ثُلُثٌ مِنْ أَرْغِفَتِك أَكَلَهُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَأَكَلَ صَاحِبُك مِنْ أَرْغِفَتِهِ ثَلَاثَةً إلَّا ثُلُثًا وَهِيَ خَمْسَةٌ يَبْقَى لَهُ رَغِيفَانِ وَثُلُثٌ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْلَاثٍ أَكَلَهَا صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ فَأَكَلَ لَك ثُلُثًا وَلَهُ سَبْعَةَ أَثْلَاثٍ فَيَكُونُ لَك دِرْهَمٌ وَلَهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِدَقِيقِ الْحِسَابِ كَمَا تَرَى وَمِنْ مَسَائِلِ الْمِسَاحَةِ الْغَرِيبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِقْهِ رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةً فِي عَشَرَةٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا ، جَمِيعُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فَاخْتُلِفَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأُجْرَةِ فَقَالَ ضُعَفَاءُ الْفُقَهَاءِ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ النِّصْفَ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ يَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ لِأَنَّهُ عَمِلَ الثُّمُنَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ وَذَلِكَ أَلْفُ ذِرَاعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَوْ عُمِلَ وَبُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمُسِحَ كَانَ حَصِيرًا طُولُهُ عَشَرَةٌ وَعَرْضُهُ عَشَرَةٌ وَمَسَّاحَتُهُ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِمِائَةٍ ، فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ تَحْصُلُ مِسَاحَتُهُ مِائَةٌ وَهِيَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ وَمِائَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِأَلْفٍ وَعَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ لَوْ بُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ تُرَابًا عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ ، وَخَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَالذِّرَاعُ مِسَاحَتُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فِي خَمْسَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَنِسْبَةُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى الْأَلْفِ نِسْبَةُ الثُّمُنِ فَيَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ مِنْ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ ثُمُنَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الدَّقَائِقُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تَحْصُلُ

مِنْ الْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ يَشْمَلُ الْحِسَابَ وَالْمِسَاحَةَ وَغَيْرَهُمَا وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ .
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ، غَيْرَ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَلِيلَةٌ فَثَمَرَةُ الْفِقْهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَمَرَةِ الْهَنْدَسَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا .
وَثَانِيهَا عِلْمُ النَّحْوِ وَعِلْمُ الْمَنْطِقِ كِلَاهُمَا لَهُ ثَمَرَةٌ جَلِيلَةٌ ، غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّحْوِ أَعْظَمُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي نُطْقِ اللِّسَانِ وَكِتَابَةِ الْيَدِ فَإِنَّ اللَّحْنَ يَقَعُ فِي الْكِتَابَةِ وَفِي اللَّفْظِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْفِقْهِ وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ .
وَأَمَّا الْمَنْطِقُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ضَبْطِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ خَاصَّةً وَقَدْ يَكْفِي فِيهَا الطَّبْعُ السَّلِيمُ وَالْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِهِ لِتَقْوِيمِ اللِّسَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ اللَّحْنِ فَإِنَّهَا أُمُورٌ سَمْعِيَّةٌ وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّحْوِ بِالضَّرُورَةِ فِيهَا ، وَالْمَنْطِقُ يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِصَفَاءِ الْعَقْلِ فَصَارَتْ الْحَاجَةُ لِلنَّحْوِ أَعْظَمَ ، وَثَمَرَتُهُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ .
وَثَالِثُهَا عِلْمُ النَّحْوِ مَعَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ غَيْرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ يُثْمِرُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّهَا مِنْهُ تُؤْخَذُ فَالشَّرِيعَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالنَّحْوُ إنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَصْحِيحِ الْأَلْفَاظِ وَبَعْضِ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظُ إنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَقَاصِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ

قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ } إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ ) .
قُلْت : قَوْلُهُ " فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ " إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ تَشْرِيفُ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، أَوْ إهَانَتُهُ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَمْ يُضِفْ حِزْبَهُ تَعَالَى إلَيْهِ إلَّا لِطَاعَتِهِمْ وَلَمْ يُضِفْ حِزْبَ الشَّيْطَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَعْصِيَتِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَطَهِّرْ بَيْتِي } لَيْسَتْ إضَافَةُ الْبَيْتِ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } لَيْسَتْ إضَافَةُ الْعَبْدِ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهُ صَفْوَةَ رُسُلِهِ وَخَاتَمَهُمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الصَّوْمِ لَيْسَتْ الْإِضَافَةُ إلَّا لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِجَزَاءٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى قَدْرِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْإِضَافَةَ نَفْسَهَا هِيَ التَّشْرِيفُ ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ أَسْبَابًا لَهَا فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْخَامِسَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي السَّادِسَةَ عَشَرَ إلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ عِزِّ الدِّينِ مِنْ مُلَاحَظَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى نُفَضِّلُهَا بِهِ عَلَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ مَا قَالَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ نَبِيًّا وَأَمَّا وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لِلنَّبِيِّ عَلَى الرَّسُولِ بِمَزِيَّةٍ يَقَعُ بِهَا التَّفْضِيلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ السَّابِعَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ اللَّفْظِيُّ بِسَبَبٍ فِي الْإِضَافَةِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ } أَضَافَهُمْ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُمْ بِهَا كَمَا أَضَافَ الْعُصَاةَ إلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } لِيُهِينَهُمْ بِهَا وَيُحَقِّرَهُمْ وقَوْله تَعَالَى { وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } الْآيَةَ أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُ بِهَا وقَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } شَرَّفَ الصَّوْمَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ نَعَمْ لَا بُدَّ لِلتَّشْرِيفِ ، أَوْ التَّحْقِيرِ بِالْإِضَافَةِ مِنْ أَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُضِفْ حِزْبَهُ تَعَالَى إلَيْهِ إلَّا لِطَاعَتِهِمْ وَلَا حِزْبَ الشَّيْطَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَعْصِيَتِهِمْ وَلَا الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَلَا الْعَبْدَ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ صَفْوَةَ رُسُلِهِ وَخَاتَمَهُمْ وَلَا الصَّوْمَ لَهُ تَعَالَى إلَّا لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِجَزَاءٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى قَدْرِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ بَسْطُ الْخِلَافِ فِيهِ فَلَا تَغْفُلْ .
( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَتَفْضِيلِ ذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جَمِيعِ الذَّرَارِيِّ بِسَبَبِ نَسَبِهِمْ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَفْضِيلِ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ } وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ .
وَإِنْ كُنَّ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ مُتَفَاوِتَاتٍ وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ بِهِنَّ أَقْوَى مِنْ نِسْبَةِ مَنْ عَقَدَ وَلَمْ

يَدْخُلْ بِهِنَّ ، وَنِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ أَقْوَى مِمَّنْ دَخَلَ وَطَلَّقَهُنَّ وَنِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ وَطَلَّقَهُنَّ أَقْوَى مِمَّنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنِسْبَةَ مَنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَهُ ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ أَقْوَى مِمَّنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَهُ بِاتِّفَاقٍ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَفِي الْجَمَلِ عَنْ الْمَوَاهِبِ جُمْلَةُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً مَاتَ عَنْ عَشْرٍ ، وَاحِدَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَهِيَ قَتِيلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَتِسْعٍ دَخَلَ بِهِنَّ ، جَمَعَهُنَّ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ إلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ فَعَائِشَةٌ مَيْمُونَةُ وَصَفِيَّةُ وَحَفْصَةُ تَتْلُوهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ جُوَيْرِيَةٌ مَعَ رَمْلَةٍ .
ثُمَّ سَوْدَةٌ ثَلَاثٌ وَسِتٌّ نَظَمَهُنَّ مُهَذَّبُ وَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ بِاتِّفَاقٍ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُمَا خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَثِنْتَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُمَا شُرَافُ بِنْتُ خَلِيفَةَ أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَخَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ وَفَارَقَ عَلَى خُلْفٍ فِي كَوْنِهِ بِطَلَاقٍ ، أَوْ مَوْتٍ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ ثِنْتَيْنِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ كَعْبٍ وَسَبَا بِنْتَ أَسْمَاءَ وَطَلَّقَ سَبْعًا بِاتِّفَاقٍ : بَعْدَ الدُّخُولِ بِاتِّفَاقٍ ثِنْتَيْنِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ وَعَالِيَةَ بِنْتَ ظَبْيَانَ ، وَقَبْلَهُ بِاتِّفَاقٍ ثَلَاثًا وَهُنَّ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَاَلَّتِي مِنْ غِفَارٍ ، وَعَلَى خُلْفٍ فِي كَوْنِهِ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ ثِنْتَيْنِ وَهُمَا أُمُّ شَرِيكٍ الْقُرَشِيَّةُ وَالْمُسْتَقِيلَةُ الَّتِي جُهِلَ حَالُهَا وَهِيَ لَيْلَى بِنْتُ الْخَطِيمِ فَجُمْلَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَى دُخُولِهِ بِهِنَّ وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً سِتٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زِمْعَةَ وَأَرْبَعُ عَرَبِيَّاتٍ زَيْنَبُ

بِنْتُ جَحْشٍ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ الْمُصْطَلِقِيَّةُ وَوَاحِدَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ وَهِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ مَاتَ فِي حَيَاتِهِ مِنْهُنَّ ثِنْتَانِ خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَاقِي وَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَنْ دَخَلَ وَطَلَّقَ بَعْدَهُ ثِنْتَانِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الضِّحَاكِ وَعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ .
وَأَمَّا تَفْضِيلُ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ عَلَى بَاقِيهِنَّ وَالْخِلَافُ فِي أَفْضَلِهِمَا فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَلْ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَحْوَالِ وَكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْجَمِيلَةِ فَيُسْتَحْسَنُ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي أَخْتَارُهُ الْآنَ أَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ فَعَائِشَةُ أَفْضَلُهُنَّ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ وَخَدِيجَةُ مِنْ حَيْثُ تَقَدُّمُهَا ، وَإِعَانَتُهَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ فَيَكُونُ الْأَقْرَبُ الْوَقْفَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا فِي عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ قَالَ : وَفِي كَلَامِ الْبُرْهَانِ الْحَلَبِيِّ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ تَلِي عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَقِفْ أُسْتَاذُنَا عَلَى نَصٍّ فِي بَاقِيهِنَّ وَلَا فِي مُفَاضَلَةِ بَعْضِ أَبْنَائِهِ الذُّكُورِ عَلَى بَعْضٍ وَلَا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَنَاتِ الشَّرِيفَاتِ سِوَى مَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا وَلَا بَيْنَهُنَّ سِوَى فَاطِمَةَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ بَنَاتِهِ الْكَرِيمَاتِ وَلَا بَيْنَ بَاقِي الْبَنَاتِ سِوَى فَاطِمَةَ مَعَ الزَّوْجَاتِ الطَّاهِرَاتِ ، وَإِنْ جَرَتْ عِلَّةُ فَاطِمَةَ بِالْبِضْعِيَّةِ فِي الْجَمِيعِ فَالْوَقْفُ أَسْلَمُ ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْمَلَوِيُّ أَوْلَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّكُورُ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ اللَّهِ

وَيُلَقَّبُ بِالطَّيِّبِ وَبِالطَّاهِرِ فَلَهُ لَقَبَانِ زِيَادَةً عَلَى الِاسْمِ وَالْقَاسِمُ ، وَإِبْرَاهِيمُ وَالْإِنَاثُ أَرْبَعَةٌ زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ وَيَنْبَغِي حِفْظُهُمْ وَمَعْرِفَتُهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُنَا وَيَقْبُحُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَ أَوْلَادَ سَيِّدِهِ ا هـ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ إلَّا إبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ مِنْ مِصْرَ ا هـ .
وَقَدْ جَمَعْتُ أَوْلَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِي لِيَسْهُلَ حِفْظُهُمْ : أَوْلَادُ طَه سَبْعَةٌ أَطْهَارٌ ذُكُورُهُمْ ثَلَاثَةٌ أَبْرَارُ الْقَاسِمُ إبْرَاهِيمُ عَبْدُ اللَّهِ ذَا بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرِ تَلْقِيبًا خُذَا وَأَرْبَعٌ إنَاثُهُمْ فَاطِمَةُ فَأُمُّ كُلْثُومٍ كَذَا رُقَيَّةُ فَزَيْنَبٌ وَأُمُّهُمْ خَدِيجَةُ لَكِنْ لِإِبْرَاهِيمَ مَارِيَةُ ، وَفِي الْجُمَلِ عَنْ الْمَوَاهِبِ وَخَطَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ نِسْوَةٍ وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِنَّ بِاتِّفَاقٍ ، وَسَرَارِيُّهُ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهِنَّ بِالْمِلْكِ أَرْبَعٌ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ وَرَيْحَانَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقِيلَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَالثَّالِثَةُ وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَاسْمُهَا نَفِيسَةُ وَالرَّابِعَةُ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ السَّبْيِ وَلَمْ يُعْرَفْ اسْمُهَا ا هـ .
( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَهِدَايَتَهُمْ إلَى الْحَقِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ وَالْعِبَادَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا وَلِأَنَّ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ مِنْ مَوْضُوعَاتِهِ أَيْ تَآلِيفِهِ ، وَهِدَايَتُهُ مُتَعَلِّمِيهِ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الدِّينِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْأَبْنَاءُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ بَعْدَ الْأَسْلَافِ وَالْعِبَادَةُ تَنْقَطِعُ مِنْ حِينِهَا وَكَتَفْضِيلِ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تُثْمِرُ الْهِدَايَةَ لِلْأُمَّةِ الْمُرْسَلِ إلَيْهَا ، وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ

عَلَى النَّبِيِّ فَنِسْبَتُهَا إلَى النُّبُوَّةِ كَنِسْبَةِ الْعَالِمِ لِلْعَابِدِ وَلَيْسَ لِلنُّبُوَّةِ جِهَةٌ أُخْرَى نُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى الرِّسَالَةِ وَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِجِهَةِ تَفْضِيلِ الرِّسَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى يُحْتَاجَ أَنْ يُقَالَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَأَمَّا مُلَاحَظَةُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فَهَذَا وُجُوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّسَالَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا حَظُّ الرَّسُولِ مِنْهَا التَّبْلِيغُ فَتَكُونُ أَفْضَلَ بِجِهَةِ شَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ مِنْ الرِّسَالَةِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ نَبِيًّا ، وَأَمَّا وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ فَلَا يَصِحُّ مُلَاحَظَةُ ذَلِكَ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لِلنَّبِيِّ عَلَى الرَّسُولِ بِمَزِيَّةٍ يَقَعُ بِهَا التَّفْضِيلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ نَعَمْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَاتِ التَّفْضِيلِ فِي صِفَتَيْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحَيَاتِهِ وَفِي عِلْمَيْ الْفِقْهِ وَالْهَنْدَسَةِ أَمَّا فِي الْعِلْمَيْنِ فَقَدْ حَكَى الْأَصْلُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْمًا عَالِمَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْآخَرُ عَالِمٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي : الْهَنْدَسَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْفِقْهِ لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ وَالْفِقْهُ مَظْنُونٌ وَالْقَطْعُ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ صَدَقْت مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هِيَ أَفْضَلُ ، غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ يُثْمِرُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَ الْجِنَانِ وَرِضْوَانَ الرَّحْمَنِ ، وَالْهَنْدَسَةُ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ فَوَافَقَهُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَا مُتَنَاصِفَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِي

الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ الْأَصْلُ : عِلْمُهُ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الْحَيَاةِ مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ الَّذِي لَهُ وَالْحَيَاةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا وَحَيَاتُهُ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي ذَاتِهَا لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَقِيقَتَيْنِ ثَمَرَةٌ إلَّا أَنَّ ثَمَرَةَ إحْدَاهُمَا أَعْظَمُ وَجَدْوَاهَا أَكْثَرُ فَتَكُونُ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا الْفِقْهُ وَالْهَنْدَسَةُ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً أَمَّا الْفِقْهُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْهَنْدَسَةُ فَلِأَنَّهَا يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَاتِ .
وَالْحِسَابُ يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا ، وَالْمِسَاحَاتُ تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَاتِ وَنَحْوِهَا وَمِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِدَقِيقِ الْحِسَابِ الْمَسْأَلَةُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَهِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَمَعَ الْآخَرِ ثَلَاثَةٌ فَجَلَسَا يَأْكُلَانِ فَجَلَسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ يَأْكُلُ مَعَهُمَا ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ دَفَعَ الثَّالِثُ لَهُمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اقْسِمَا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى قَدْرِ مَا أَكَلْته لَكُمَا فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ إنَّهُ أَكَلَ نِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِي وَنِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِك فَأَعْطِنِي النِّصْفَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا أُعْطِيك إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لِي خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ فَآخُذُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَك ثَلَاثَةُ أَرْغِفَةٍ تَأْخُذُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ

تَعَالَى عَنْهُ فَحَكَمَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ فَشَكَا مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَرْغِفَةُ ثَمَانِيَةٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَلَاثَةً إلَّا ثُلُثًا فَبَقِيَ مِنْ أَرْغِفَتِك بَعْدَ أَكْلِك ثُلُثُ رَغِيفٍ أَكَلَهُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَبَقِيَ بَعْدَ أَكْلِ صَاحِبِ الْخَمْسَةِ رَغِيفَانِ وَثُلُثٌ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْلَاثٍ أَكَلَهَا صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ لَك دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ الثُّلُثِ الَّذِي أَكَلَهُ لَك وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ فِي مُقَابَلَةِ سَبْعَةٍ إلَّا ثَلَاثٍ الَّتِي أَكَلَهَا لَهُ وَمِنْ غَرَائِبِ الْمَسَائِلِ الْمِسَاحِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِقْهِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ مَسْأَلَةُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَشَرَةٍ عَرْضًا فِي عَشَرَةٍ عُمْقًا بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ فَاخْتُلِفَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأُجْرَةِ فَقَالَ ضُعَفَاءُ الْفُقَهَاءِ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ لِأَنَّهُ عَمِلَ النِّصْفَ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ يَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ لِأَنَّهُ عَمِلَ الثُّمُنَ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَوْ عُمِلَ وَبُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمُسِحَ كَانَ حَصِيرًا طُولُهُ عَشَرَةٌ وَعَرْضُهُ عَشَرَةٌ وَمِسَاحَتُهُ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِمِائَةٍ فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ تَحَصُّلُ مِسَاحَتِهِ مِائَةٌ وَهِيَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ ، وَمِائَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَعْمَلْ إلَّا مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْخَمْسَةِ مِسَاحَتُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فِي خَمْسَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَنِسْبَةُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى الْأَلْفِ نِسْبَةُ الثُّمُنِ فَيَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ

ثُمُنَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ يَشْمَلُ الْحِسَابَ وَالْمِسَاحَةَ وَغَيْرَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ، غَيْرَ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَلِيلَةٌ فَثَمَرَةُ الْفِقْهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَمَرَةِ الْهَنْدَسَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا .
وَثَانِيهَا عِلْمُ النَّحْوِ وَعِلْمُ الْمَنْطِقِ كِلَاهُمَا لَهُ ثَمَرَةٌ جَلِيلَةٌ غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّحْوِ أَعْظَمُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي نُطْقِ اللِّسَانِ وَكِتَابَةِ الْيَدِ فَإِنَّ اللَّحْنَ كَمَا يَقَعُ فِي اللَّفْظِ يَقَعُ فِي الْكِتَابَةِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَنْطِقِ إلَّا فِي ضَبْطِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ خَاصَّةً وَأَيْضًا الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَهْتَدِي لِتَقْوِيمِ اللِّسَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ اللَّحْنِ لِأَنَّهَا أُمُورٌ سَمْعِيَّةٌ وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّحْوِ بِالضَّرُورَةِ فِيهَا وَالْمَنْطِقُ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِهِ الطَّبْعُ السَّلِيمُ وَالْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِصَفَاءِ الْعَقْلِ فَصَارَتْ الْحَاجَةُ لِلنَّحْوِ أَعْظَمَ وَثَمَرَتُهُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ وَثَالِثُهَا عِلْمُ النَّحْوِ مَعَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ غَيْرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا تُؤْخَذُ أَحْكَامُهَا إلَّا مِنْهُ فَهِيَ ثَمَرَتُهُ وَالنَّحْوُ إنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَصْحِيحِ الْأَلْفَاظِ ، وَبَعْضُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَقَاصِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ

( الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْعِلْمُ وَالْخَبَرُ تَابِعَانِ لَيْسَا بِمُؤَثِّرَيْنِ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ وَمَا لَهُ التَّأْثِيرُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا ، وَالْحَيَاةُ لَا تُؤَثِّرُ إيجَادًا وَلَا تَخْصِيصًا وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ السَّبْعَةِ مُؤَثِّرٌ إلَّا الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ فَقَطْ .
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْحَيَاءَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْقِحَةُ فَقَالَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَيَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَثَّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ ، وَالِقْحَةَ لَا يَنْزَجِرُ صَاحِبُهَا عَنْ مَكْرُوهٍ وَلَا تَحُثُّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ وَلِذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْجُبْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تَحُثُّ عَلَى دَرْءِ الْأَعْدَاءِ وَنَصْرِ الْجَارِ وَدَفْعِ الْعَارِ ، وَالْجُبْنَ لَا يَأْتِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ السَّخَاءَ عَلَى الْبُخْلِ لِكَوْنِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَلْبِ الْقُلُوبِ كَمَا وَرَدَ الْكَرِيمُ حَبِيبُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ السَّخَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَنَانَةَ ، وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْبُخْلُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طِبَاعِ اللِّئَامِ
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ ) .
قُلْت : فِيمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظَرٌ .

( الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ ، وَإِرَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ إذْ لَا تَأْثِيرَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْهَا .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْحَيَاءَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْقِحَةُ فَقَالَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَيَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَثَّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ ، وَالِقْحَةَ لَا يَنْزَجِرُ صَاحِبُهَا عَنْ مَكْرُوهٍ وَلَا تَحُثُّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ .
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْجُبْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تَحُثُّ عَلَى رَدْءِ الْأَعْدَاءِ وَنُصْرَةِ الْجَارِ وَدَفْعِ الْعَارِ ، وَالْجُبْنَ لَا يَأْتِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ السَّخَاءَ عَلَى الْبُخْلِ كَمَا وَرَدَ { الْكَرِيمُ حَبِيبُ اللَّهِ } لِأَنَّ السَّخَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَنَانَةَ ، وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَلْبِ الْقُلُوبِ بِخِلَافِ الْبُخْلِ فَإِنَّهُ مِنْ طِبَاعِ اللِّئَامِ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِيمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظَرٌ ا هـ .
قُلْت : وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ نَسَبَ التَّأْثِيرَ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ لَا يُنْسَبُ حَقِيقَةً إلَّا لِلذَّاتِ وَقَوْلُهُمْ الْقُدْرَةُ فَعَّالَةٌ مَجَازٌ لَا كُفْرٌ مَا لَمْ يُرِدْ الِانْفِكَاكَ وَالِاسْتِقْلَالَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ قَالَ وَقَدْ أَشَارَ الشَّارِحُ لِذَلِكَ كَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ بِهَا فِي تَعْرِيفِ الْقُدْرَةِ عُرْفًا بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ يَتَأَتَّى بِهَا إيجَادُ كُلِّ مُمْكِنٍ ، وَإِعْدَامُهُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ ا هـ .
لَكِنْ لَا يَجُوزُ

أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ وَاسِطَةٍ ، أَوْ يُمَثِّلَ بِالْآلَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَيُقْتَصَرُ لِلْقَاصِرِينَ عَلَى قَوْلِنَا اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، وَإِلَّا جَاءَ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَكَانَ مُضِلِّي مَنْ هُدِيتُ بِرُشْدِهِ قَالَ وَفِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي شَرْحِ تَرْجُمَانِ الْأَشْوَاقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ ، وَسِرُّ الْقَدَرِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا أَفْرَادٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ طَوَى عِلْمَهُ عَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَا عَدَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ وَرِثَهُ فِيهِ { كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ يَوْمًا أَتَدْرِي يَوْمَ لَا يَوْمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَعَمْ ذَلِكَ يَوْمُ الْمَقَادِيرِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَقَدْ أَطْلَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِرَاثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَكِنْ لَا يَسَعُنَا الْإِفْصَاحُ عَنْهُ لِغَلَبَةِ مُنَازَعَةِ الْمَحْجُوبِينَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
وَفِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ نُسِبُ التَّأْثِيرُ لِلْأَسْبَابِ وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْمَذْهَبُ الْحَقُّ أَنْ لَا تَأْثِيرَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ السَّبَبِ كَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَمُسَبَّبِهِ كَالنَّتِيجَةِ إمَّا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ كَالتَّلَازُمِ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ فَوُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِيٌّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ بَلْ أَنْ يُوجَدَا مَعًا ، أَوْ يُعْدَمَا مَعًا وَقِيلَ : عَادِيٌّ يَقْبَلُ التَّخَلُّفَ كَالْإِحْرَاقِ عِنْدَ مَسِّ النَّارِ فَقَدْ تَخَلَّفَ فِي نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ

بِالتَّوَلُّدِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الضَّرْبِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْقَطْعُ ، وَالتَّوَلُّدُ أَنْ يُوجِبَ الْفِعْلُ لِفَاعِلِهِ شَيْئًا آخَرَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَيَسِيرُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْتَلِعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَهَذَا عَظِيمٌ .
وَالْمَلَكُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ الْمُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ وَمَا سَبَبُ اقْتِدَارِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْجَانِّ إلَّا فَضْلُ أَبْنِيَتِهِمْ وَوُفُورُ قُوَّتِهِمْ فَهُمْ مُفَضَّلُونَ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُضَافًا لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي

مَوْضِعِهِ فَإِذَا قُصِدَ الْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ حُمِلَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ إذَا كَانَ النَّصُّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ وَالنُّقُوضِ عَنْ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ فِي أَبْنِيَتِهِمْ وَأَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَتُحْمَلُ آيَةُ التَّفْضِيلِ عَلَى ذَلِكَ .
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْعَفَنُ وَلَا آفَاتُ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ ، وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ : أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرُهُ : إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ أُمَّتَكَ لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا } مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ

عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِيِّ كَالْأَعْرَابِ ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَتَرْكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ .
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزَّةٌ مُتَدَاخِلَةٌ ، وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَحَدِّثُونَ عَنْ الْمَعَادِنِ أَنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ ، وَالْفِضَّةُ

لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ .
( الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ ) التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَيُفَضِّلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حَجِّ الْفَرْضِ عَلَى تَطَوُّعِهِ وَالْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ فِي أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ .
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَجْمُوعَاتِ وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَكَاخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَمِيعِ فَلَوْلَا هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَهِيَ تَجْوِيزُ اخْتِصَاصِ الْمَفْضُولِ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا هُوَ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّاتِ وَشَرَفِ الرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ فَمَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ وَكَذَلِكَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا

هُوَ بِمَجْمُوعِ مَا فِيهَا فَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ كَاخْتِصَاصِ الْجِهَادِ بِثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَالْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ } وَالصَّلَاةُ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْضِيلُهُ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَفْضُولَاتِ مِنْهَا مَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ وَمِنْهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ وَمِنْ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالنُّصُوصِ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْفِقْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هَهُنَا تَحْرِيرُ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهَا أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ فَفِي مَوَاضِعِهَا تَنْبِيهٌ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى تَفْضِيلِ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَنَقُولُ تَقَرَّرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعِبَادِ عَلَى أَرْبَعَةِ

أَقْسَامٍ أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْمَعَارِفِ وَكَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَثَانِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إسْقَاطِهِ ، وَإِلَّا فَكُلُّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ .
وَثَالِثُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْعِبَادِ وَالْغَالِبُ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ كَالزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَالْأَمْوَالِ الْمَنْذُورَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ .
وَرَابِعُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعِبَادِ كَالْأَذَانِ فَحَقُّهُ تَعَالَى التَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَحَقُّ رَسُولِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَحَقُّ الْعِبَادِ الْإِرْشَادُ لِلْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ وَالدُّعَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ وَالصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالتُّرُوكِ وَالْكَفِّ عَنْ الْكَلَامِ وَكَثِيرِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَعَلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا ، وَالْقُنُوتُ وَدُعَاؤُهُ فِي السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسْلِيمُ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } فَهِيَ مِنْ

الْمُفَضَّلَاتِ الَّتِي عُلِمَ سَبَبُ تَفْضِيلِهَا
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى جَمِيعَ قَوْلِهِ فِيهَا عَلَى نِسْبَةِ تِلْكَ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا إلَى تَأْثِيرِ غَيْرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ مَسَاقِ كَلَامِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَاعِدَةِ الْعِشْرِينَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَهِيَ مِنْ الْمُفَضَّلَاتِ الَّتِي عُلِمَ تَفْضِيلُهَا صَحِيحٌ كُلُّهُ .

( الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ .
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُرْعَةَ السَّيْرِ وَوُفُورَ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسِيرُ مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْلَعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ ، ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَبِحَيْثُ إنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الْإِقْسَامِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ ، وَتَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُضَافُ لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ مِنْ التَّفْضِيلِ تُحْمَلُ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ إذَا احْتَمَلَ النَّصُّ ذَلِكَ ؛ إذْ لَا نِزَاعَ فِي

أَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَلَا تُعَارِضُ مَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ لِأُمُورٍ .
أَحَدُهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَقْلٌ مَحْضٌ وَالْبَهَائِمَ شَهْوَةٌ مَحْضَةٌ وَالْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا فَكَمَا أَنَّ غَلَبَةَ الشَّهْوَةِ تُنَزِّلُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهَائِمِ بِعُذْرِهَا بِالْعَدَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } كَذَلِكَ غَلَبَةُ الْعَقْلِ تَرْفَعُهُ عَنْ الْمَلَائِكَةِ ؛ إذْ وُجُودُ الشَّهَوَاتِ مَعَ قَمْعِهَا أَتَمُّ مِنْ بَابِ " أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحْمَزُهَا بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٍ أَيْ أَشَقُّهَا " .
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلَطَافَةِ أَجْسَامِهِمْ النُّورَانِيَّةِ لَا يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَتَشَكَّلُ جِبْرِيلُ بِصُورَةِ مِيكَائِيلَ وَلَا الْعَكْسُ بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ أَنَّ مَقَامَ { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ } الْحَدِيثَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَشَرِ ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَكُلُّ طَاعَاتِهِمْ مُحَتَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْرُغُونَ مِنْ تَوْظِيفٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ التَّطَوُّعُ نَعَمْ قَالَ السَّعْدُ لَا قَاطِعَ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ كَذَا يُؤْخَذُ مِنْ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَمْ يَجْعَلْهَا تَعَالَى مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ كَمَا جَعَلَ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهَا

الْعَفَنُ وَآفَاتُ الرُّطُوبَاتِ دُونَ أَجْسَادِ الْجَانِّ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ عَلَى حَسَبِ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَمِمَّا وَرَدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ : أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ أُمَّتَك لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا } مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ .
قَالَ الْأَصْلُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِي كَالْأَعْرَابِ ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } وَلَهُمْ

قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَرَكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمْ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ ا هـ .
وَفِي كِتَابِ مُسَامَرَةِ الْأَخْيَارِ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - خَبَرُ الْحَيَّةِ الطَّائِفَةِ بِالْبَيْتِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْجِنِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْكُنُ ذَا طُوًى وَكَانَ لَهَا ابْنٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فَتَزَوَّجَ وَأَتَى زَوْجَتَهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ سَابِعِهِ قَالَ لِأُمِّهِ يَا أُمَّهْ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ سَبْعًا نَهَارًا قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : أَيْ بُنَيَّ إنِّي أَخَافُ عَلَيْك سُفَهَاءَ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَرْجُو السَّلَامَةَ فَأَذِنَتْ لَهُ فَوَلَّى فِي صُورَةِ جَانٍّ فَلَمَّا أَدْبَرَ جَعَلَتْ تُعَوِّذُهُ وَتَقُولُ أُعِيذُهُ بِالْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ وَدَعَوَاتِ ابْنِ أَبِي مَحْذُورَهْ وَمَا تَلَا مُحَمَّدٌ مِنْ سُورَهْ إنِّي إلَى حَيَاتِهِ فَقِيرَهْ ، وَإِنَّنِي بِعَيْشِهِ مَسْرُورَهْ فَمَضَى الْجَانُّ أَيْ وَهُوَ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ نَحْوَ الطَّوَافِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُنْقَلِبًا حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ دُورِ بَنِي سَهْمٍ عَرَضَ لَهُ شَابٌّ مِنْ بَنِي سَهْمٍ أَحْمَرُ أَكْثَفُ أَزْرَقُ أَحُولُ أَعْسَرُ فَقَتَلَهُ فَثَارَتْ بِمَكَّةَ غَبَرَةٌ

حَتَّى لَمْ تُبْصَرْ لَهَا الْجِبَالُ قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ إنَّمَا تَثُورُ تِلْكَ الْغَبَرَةُ عِنْدَ مَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ الْجِنِّ قَالَ فَأَصْبَحَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ عَلَى فِرَاشِهِمْ مَوْتَى كَثِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْجِنِّ فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ شَيْخًا أَصْلَعَ سِوَى الشَّبَابِ قَالَ فَنَهَضَتْ بَنُو سَهْمٍ وَحُلَفَاؤُهَا وَمَوَالِيهَا وَعَبِيدُهَا فَرَكِبُوا الْجِبَالَ وَالشِّعَابَ بِالثَّنِيَّةِ فَمَا تَرَكُوا حَيَّةً وَلَا عَقْرَبًا وَخُنْفُسَاءَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا قَتَلُوهُ فَأَقَامُوا بِذَلِكَ ثَلَاثًا فَسَمِعُوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ يُسْمَعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّهَ اللَّهَ فَإِنَّ لَكُمْ أَحْلَامًا وَعُقُولًا أَعْذِرُونَا أَعْذِرُونَا مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَقَدْ قَتَلُوا مِنَّا أَضْعَافَ مَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ اُدْخُلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِصُلْحٍ نُعْطِهِمْ وَيُعْطُونَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَعُودَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِسُوءٍ أَبَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ وَاسْتَوْثَقُوا لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَسُمِّيَتْ بَنُو سَهْمٍ الْعَيَاطِلَةَ قَتَلَةَ الْجِنِّ ا هـ .
الْمُرَادُ مِنْهُ فَانْظُرْهُ .
وَثَالِثُهَا : تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزِزَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ إنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَتْ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ .
الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ : التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مِنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ ؛ بِأَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ، وَحَجِّ الْفَرْضِ

عَلَى تَطَوُّعِهِ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَكَتَفْضِيلِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ ( خَاتِمَةٌ ) نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَهَا .
فِي مُهِمَّاتٍ : ( الْمُهِمُّ الْأَوَّلُ ) أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ قِسْمَانِ : الْأَوَّلُ : دُنْيَوِيٌّ ، كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ .
وَالثَّانِي : دِينِيٌّ ، كَتَفْضِيلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمِنَةِ بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَمَغْفِرَةِ الزَّلَّاتِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْآمَالِ ، وَرَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ ، وَعَاشُورَاءَ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَأَيَّامِ الْبِيضِ وَالْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ وَكَتَفْضِيلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَرَفَةَ وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْمُفَضَّلَةِ شَرْعًا الْيَمَنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ } وَالْمَغْرِبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ } .
( الْمُهِمُّ الثَّانِي ) الْمُفَضَّلَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ مَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ كَتَفْضِيلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ أَقْسَامَ تَصَرُّفِ الْعِبَادَةِ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَثَانِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إسْقَاطِهِ ، وَإِلَّا

فَكُلُّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ .
وَثَالِثُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْعِبَادِ وَالْغَالِبُ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ كَالزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْمَنْذُورَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ .
وَرَابِعُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعِبَادِ كَالْأَذَانِ فَحَقُّهُ تَعَالَى التَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَحَقُّ رَسُولِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ ، وَحَقُّ الْعِبَادِ الْإِرْشَادُ لِلْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ ، وَالدُّعَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ ، وَالصَّلَاةُ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالتُّرُوكِ وَالْكَفِّ عَنْ الْكَلَامِ وَكَثِيرِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَعَلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْقِيَامِ بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا ، وَالْقُنُوتُ ، وَفِي السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسْلِيمُ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } .
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يُعْلَمُ تَفْضِيلُهُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ

فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ .

وَأَمَّا تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، أَوْ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فَبِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ كَوْنُ الْمَدِينَةِ مُهَاجَرَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدَّيْنُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ مِنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ ؛ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ .
أَحَدُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ } وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي التَّفْضِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلَّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ فَمَا تَعَيَّنَ مَحَلُّ النِّزَاعِ .
وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ الصَّاعُ وَالْمُدُّ .
وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك } وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ السِّيَاقَ لَا يَأْبَى دُخُولَ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ مَكَّةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ

أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَسْقُطُ الْحُجَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا ، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَكَذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ وَصْفُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبُقْعَةَ بِالْمَحَبَّةِ وَهُوَ وَصْفٌ لَهَا بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَهِيَ إقَامَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ، وَإِرْشَادُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّبْلِيغَ وَتِلْكَ الْقُرُبَاتِ فَبَطَلَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَيَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَوْنِ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } أَيْ تَأْوِي وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إتْيَانِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا بِسَبَبِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَالَ حَيَاتِهِ فَلَا عُمُومَ لَهُ فِي الْأَزْمَانِ وَلَا بَقَاءَ لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْدَهُ لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ

الْإِيمَانِ وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ الْوَاقِعُ فِيهِ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا خَبَثًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ وَأَمَّا مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَفُضِّلَتْ بِوُجُوهٍ .
أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْمَدِينَةُ يُنْدَبُ لِإِتْيَانِهَا وَلَا يَجِبُ .
وَثَانِيهَا أَنَّ إقَامَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ( ثَلَاثَ عَشْرَةَ ) سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا غَيْرَ أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ بِمَكَّةَ ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا وَثَالِثُهَا فُضِّلَتْ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِئِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَفَضَلَتْ مَكَّةُ بِالطَّائِفِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم فَمَنْ سِوَاهُ وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَاهُمَا وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَغْفِرَةِ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ دُونَ الْأُخْرَى لَعُلِمَ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ .
وَرَابِعُهَا أَنَّ التَّعْظِيمَ وَالِاسْتِلَامَ نَوْعٌ مِنْ الِاحْتِرَامِ وَهُمَا خَاصَّانِ بِالْكَعْبَةِ وَخَامِسُهَا وُجُوبُ

اسْتِقْبَالِهَا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا وَسَادِسُهَا تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا وَسَابِعُهَا تَحْرِيمُهَا يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ تُحَرَّمْ الْمَدِينَةُ إلَّا فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ دَلِيلُ فَضْلِهَا وَثَامِنُهَا كَوْنُهَا مَثْوَى إبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَاسِعُهَا كَوْنُهَا مَوْلِدَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاشِرُهَا كَوْنُهَا لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِحْرَامٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا وَحَادِيَ عَشَرَهَا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَثَانِيَ عَشَرَهَا الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِهَا دُونَ الْمَدِينَةِ وَثَالِثَ عَشَرَهَا ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ قِسْمَانِ : تَفْضِيلٌ دُنْيَوِيٌّ كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ ، وَدِينِيٌّ كَتَفْضِيلِ رَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ وَعَاشُورَاءَ عَلَى الْأَيَّامِ وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ الْبِيضِ وَعَشْرُ الْمُحَرَّمِ وَالْخَمِيسُ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ الْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ نَحْوِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَرَفَةَ وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَرْمَى الْجِمَارِ ، وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْيَمَنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ } وَالْمَغْرِبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ

} وَمِنْ الْأَزْمِنَةِ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَمَغْفِرَةِ الزَّلَّاتِ ، وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْآمَالِ ، وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ فَلَا ثَوَابَ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا فَأَرَدْت أَنْ أُبَيِّنَ تَعَدُّدَ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ فَبَطَلَ مَا قَالَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْقَاضِي وَبَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت أَيْضًا أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْحَصْرِ ، وَمَسَائِلُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَهِيَ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَهَذَا الْكِتَابُ إنَّمَا قَصَدْت فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ خَاصَّةً فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْت عَلَى تَفْضِيلِ الصَّلَاةِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَأَحَلْتُ مَا عَدَاهَا عَلَى مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

قَالَ ( وَأَمَّا تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، أَوْ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فَبِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا وَذَكَرَ أُمُورًا مِمَّا تُفَضَّلُ بِهَا الْمَدِينَةُ ) قُلْت : لَمْ يَزِدْ عَلَى حِكَايَةِ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَإِيرَادِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ الرَّاجِحَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ هُوَ كَمَا قَالَ ، وَقَوْلُ مَنْ ادَّعَى حَصْرَ التَّفْضِيلِ فِي الثَّوَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا ذُكِرَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمَا قَالَهُ مِنْ قَصْدِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا تَفْضِيلُهُ بِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ كَكَوْنِهَا مُهَاجَرَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدِّينُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ عَنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ .
أَحَدُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ .
وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك } وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } أَيْ تَأْوِي .
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } .
وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } وَكَتَفْضِيلِ

مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُقَابِلِ مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، وَالْإِتْيَانُ لِلْمَدِينَةِ لَا يَجِبُ وَثَانِيهَا إقَامَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا وَثَالِثُهَا مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَإِنَّمَا كَثْرَةُ الطَّارِئِينَ لِلْمَدِينَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .
وَرَابِعُهَا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِهَا وَخَامِسُهَا تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَسَادِسُهَا تَحْرِيمُهَا يَوْمَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ تُحَرَّمْ الْمَدِينَةُ إلَّا فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَابِعُهَا كَوْنُهَا مَثْوَى إبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .
وَثَامِنُهَا كَوْنُهَا مَوْلِدَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَاسِعُهَا كَوْنُهَا لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِحْرَامٍ وَعَاشِرُهَا الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِهَا دُونَ الْمَدِينَةِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ .
أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَثَانِيهَا ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } وَثَالِثُهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ وَبَكَى طَوِيلًا ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ ، ثُمَّ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ } وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ لَهُ إنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ يَشْهَدُ لِمَنْ قَبَّلَهُ وَاسْتَلَمَهُ وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ وَقِيلَ إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ قَالَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ كَتَبَ كِتَابًا وَأَلْقَمَهُ هَذَا الْحَجَرَ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ وَعَلَى الْكَافِرِينَ بِالْجُحُودِ قَالَ الْأَمِيرُ فِي مَنَاسِكِهِ ، وَإِنَّمَا طُلِبَ التَّكْبِيرُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَقْبِيلَهُ إنَّمَا هُوَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَمَا يَصْنَعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَصْنَامِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ مَسَّهُ فَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَبَّلَهُ وَعَلَى التَّبَرُّكِ بِذَلِكَ تُبْذَلُ النُّفُوسُ وَأَيْضًا وَرَدَ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ وَالنَّاسُ تَتَعَبَّدُ بِتَقْبِيلِهِ كَمَا تُقَبَّلُ أَيْدِي الْمُلُوكِ ا هـ .
وَرَابِعُهَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ } وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَاهُمَا وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَغْفِرَةَ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعَ دَرَجَاتِهِمْ دُونَ الْأُخْرَى لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْضَلُ .
وَخَامِسُهَا قَدْ مَرَّ عَنْ الْبَاجِيَّ أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَ صَرِيحًا فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ ،

وَفِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَقَدْ كَثُرَ الِاحْتِجَاجُ فِي كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَكْثَرُهُ خَصَائِصُ وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَخْتَصُّ بِشَيْءٍ عَنْ الْفَاضِلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُهُ بِهِ فَالْأَذَانُ يَفِرُّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ دُونَ الصَّلَاةِ تَأَمَّلْ نَعَمْ حَدِيثُ الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ نَصٌّ فِي تَفْضِيلِهَا إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
( الْمُهِمُّ الثَّالِثُ ) أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَجْمُوعَاتِ وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَكَاخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَمِيعِ وَكَاخْتِصَاصِ الْجِهَادِ بِثَوَابِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِمَا ذَلِكَ وَكَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا بَلْ وَالتَّبِعَاتِ كَمَا عَلِمْت مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَاخْتِصَاصِ مَكَّةَ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ الْمَدِينَةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَفْضَلُ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ

اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي } فَيُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } عَلَى ظَاهِرِهِ لِلزِّيَادَةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَنْطُوقٌ وَقَعَ صَرِيحًا فَلَا يُعَارِضُهُ مَفْهُومُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَأَشْهَبُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدُونِ الْأَلْفِ أَيْ بِتِسْعِ مِائَةٍ وَعَلَى غَيْرِهِ بِأَلْفٍ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْتِثْنَاءٍ فِي مَبْنَاهُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْأَصْلُ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بَلْ قَدْ مَرَّ عَنْ الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا أَنَّ حَدِيثَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ

فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ صَرِيحٌ أَيْ فِي : تَفْضِيلُ مَسْجِدِ مَكَّةَ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدُونِ أَلْفٍ ، أَوْ بِتَأَوُّلِهِمَا فَلِذَا قَالَ مَالِكٌ إنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي مَزِيدِ الْمُضَاعَفَةِ فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ ، وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا الْمُضَاعَفَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ عَلَى أَنَّ فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ عَلَى عبق عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا أَنَّ هَذَا تَضْعِيفُ نَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَ مَا بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ } قَالَ : وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي مَكَّةَ قِبْلَةَ وَكَعْبَةَ الْحَجِّ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهَا مَزِيَّةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، وَإِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِهَا وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ وَبِأَنَّ جَمَاعَةً رَأَوْا أَنْ تُغَلَّظَ الْحُدُودُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ لِحُرْمَتِهِ وَلَا تُقَامَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ مَوْطِنُ إقَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُهَاجَرِهِ وَمَوْطِنُ وَمُهَاجَرُ أَصْحَابِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى أَنَّهُمْ

أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَمَدْفِنُ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ .
وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الرَّوْضَةَ الْمُشَرَّفَةَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ فَيَكُونُ مَا قَارَبَهَا وَجَاوَرَهَا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ : بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ فَتَأَمَّلْهُ بِإِنْصَافٍ ا هـ .
قُلْت : وَفِي الْحَطَّابِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عَنْ الشَّيْخِ السَّمْهُودِيِّ فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ نَقَلَ عِيَاضٌ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ بَلْ نَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَرْشِ وَصَرَّحَ التَّاجُ الْفَاكِهِيُّ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّمَوَاتِ قَالَ بَلْ الظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ جَمِيعُ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَوَاتِ لِحُلُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْأَكْثَرِ بِخَلْقِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا وَدَفْنِهِمْ فِيهَا لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ مَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ ا هـ .
فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْأَصْلِ إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ ا هـ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ مَكَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءِ صَيْدِهَا وَرُؤْيَةِ تَغَلُّظِ الْحُدُودِ فِي حَرَمِهَا وَأَنَّهَا لَا تُقَامُ فِيهِ مَزَايَا تَقْتَضِي الْفَضِيلَةَ لَا الْأَفْضَلِيَّةَ ، .
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ

بِمَكَّةَ ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا قَالَ الرَّهُونِيُّ .
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا { وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ } فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ إمَّا إنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ ، أَوْ خَيْرِهَا مَا عَدَاهَا ا هـ .
قُلْت : عَلَى أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي وُجُوهِ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ } وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَإِنْ قَالَ : الْأَصْلُ إنَّ الثَّانِيَ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلِّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ وَأَنَّ سِيَاقَ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ وَالْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك بِمَا جَعَلْته فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ إقَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ، وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا ، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ ا هـ .
إذْ يَكْفِي كَوْنُهُمَا ظَاهِرَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمَجْمُوعِ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ لَا

بِهِمَا فَقَطْ حَتَّى يَسْقُطَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ فَافْهَمْ ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ وَلَا حُجَّةَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُرَغِّبَةِ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ عَلَى تَفْضِيلِهَا أَمَّا دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ فَلِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا خُرِّجَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يُبَارَكَ لَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ أَنْ تَكُونَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى } فَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى قَرْيَةٍ تُفْتَحُ مِنْهَا الْبِلَادُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَلِحَمْلِهَا عَلَى زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَوْنُ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ قَالَ الْأَصْلُ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصْبِرُ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ ا هـ فَلَا يَتِمُّ فِي جَمِيعِهَا كَمَا .
قَالَ الرَّهُونِيُّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ خَاصٌّ بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهَا خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ

مَعْنَى حَدِيثِ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ } أَنَّ النَّاسَ يَنْتَابُونَ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ وَلَا ظَاهِرًا مِنْهُ وَقَدْ فُهِمَ غَيْرُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ مِنْ شُيُوخِنَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ وَزَادَ فِي ابْنِ سِرَاجٍ يَأْرُزُ بِالضَّمِّ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ كِتَابِ الْقَابِسِيِّ يَأْرُزُ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهُ مِنْ الْمَرْوَزِيِّ وَمَعْنَاهُ يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ وَقِيلَ يَرْجِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { لَيَعُودَنَّ كُلُّ إيمَانٍ إلَى الْمَدِينَةِ } ا هـ مِنْهَا بِلَفْظِهَا ، وَفِي الصِّحَاحِ مَا نَصُّهُ وَأَرَزَ فُلَانٌ يَأْرِزُ أَرْزًا وَأُرُوزًا إذَا تَضَامَّ وَتَقَبَّضَ مِنْ بُخْلِهِ فَهُوَ أَرُوزٌ .
ثُمَّ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } أَيْ يَنْضَمُّ إلَيْهَا فَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِيهَا ا هـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ا هـ .
قُلْت : وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ مِنْ التَّعْضِيدِ مَدْفُوعٌ بِمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَتَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُفْتَحُ الشَّامُ إلَخْ وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ إلَخْ } قَالَ الْبَاجِيَّ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ إلَخْ لَهُمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَنَالُونَهُ مِنْ الْخِصْبِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ حَيْثُ يَنْتَقِلُونَ إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ ا هـ .
وَمَا

فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا .
وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إلَيْهَا فَبَكَى ، ثُمَّ قَالَ يَا مُزَاحِمُ نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّا نَفَتْ الْمَدِينَةُ قَالَ الْبَاجِيَّ يُرِيدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَنْفِي خَبَثَهَا فَخَافَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ نَفَتْهُ الْمَدِينَةُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَبَثِ لِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ ، أَوْ ضَلَالٍ عَنْ هُدًى وَمِثْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ ا هـ فَافْهَمْ .
( الْمُهِمُّ الرَّابِعُ ) مَسَائِلُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى التَّفْضِيلِ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّاتِ وَشَرَفِ الرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ فَمَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ : وَتَلْخِيصُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّاظِمُ أَوَّلًا وَآخِرًا أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْعُمُومِ وَيَلِيهِ إبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ مُوسَى ، ثُمَّ عِيسَى ، ثُمَّ نُوحٌ ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الرُّسُلِ ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ ، ثُمَّ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا عِنْدَ اللَّهِ ، ثُمَّ أَرْأَسُ رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ مِنْهُمْ ثُمَّ بَقِيَّةُ رُسُلِهِمْ ، ثُمَّ بَقِيَّتُهُمْ غَيْرُ الرُّسُلِ ، ثُمَّ هُمْ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ النَّظْمِ أَنَّ التَّفْضِيلَ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ فَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الْأَفْضَلُ ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ، ثُمَّ عَلِيٌّ ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْأَصْنَافِ فَأَفْضَلُهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ الْعَشَرَةِ ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْبَدْرِيِّينَ ، ثُمَّ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ أُحُدٍ ، ثُمَّ بَقِيَّةُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ

بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الشَّمْسِ الْبِرْمَاوِيِّ ا هـ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَشْبَهَ بِأُصُولِ الدِّينِ إلَّا أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْفِقْهِ بِوَجْهٍ مَا ، سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مَا أُخِذَ مِنْ الْكِتَابِ ، أَوْ السُّنَّةِ ، أَوْ الْإِجْمَاعِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِدَادِ لَا الِاسْتِقْلَالِ كَأَغْلَبِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا الْعَقْلُ وَهَذَا الْكِتَابُ الْمَقْصُودُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ خَاصَّةً وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ) اعْلَمْ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْأَكْثَرِيَّةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ بِالسَّبَبِ الْحَقِّ إذَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ مَا أَخَذَ الْعِوَضَ بِإِزَائِهِ فَيَرْتَفِعُ الْغَبْنُ وَالضَّرَرُ عَلَى الْمُتَعَاوَضَيْنِ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ الثَّمَرُ وَالسِّلْعَةُ مَعًا وَلَا لِلْمُؤَجِّرِ الْأُجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الصُّوَرِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ اُسْتُثْنِيَتْ مَسَائِلُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِلضَّرُورَةِ وَأَنْوَاعٌ مِنْ الْمَصَالِحِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ وَالثَّالِثُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهَا الْأَذَانُ فَتَصِحَّ أَوْ لَا يُضَمَّ إلَيْهَا فَلَا تَصِحَّ وَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ ثَوَابَ صَلَاتِهِ لَهُ فَلَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْأُجْرَةُ أَيْضًا لَحَصَلَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَحُجَّةُ الْجَوَازِ أَنَّ الْأُجْرَةَ بِإِزَاءِ الْمُلَازَمَةِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ أَنَّ الْأَذَانَ لَا يَلْزَمُهُ فَيَصِحُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَإِذَا ضُمَّ إلَى الصَّلَاةِ قَرُبَ الْعَقْدُ مِنْ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَخْذُ الْخَارِجِ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْقَاعِدِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجْعَلُ لِغَيْرِ مَنْ فِي دِيوَانِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ لِذَلِكَ وَثَوَابُ الْجِهَادِ حَاصِلٌ لِلْخَارِجِ فَلَا يَجْتَمِعُ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْمُعَاوَضَةِ انْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَا بُذِلَ لَهُ حُجَّةُ مَالِكٍ

عَمَلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ بَابُ ضَرُورَةٍ أَنْ يَنُوبَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ إذَا كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَعَدَّدَتْ الدَّوَاوِينُ فَلَا ضَرُورَةَ تُخَالَفُ لِأَجْلِهَا الْقَاعِدَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَسْأَلَةُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ فَقُلْنَا السَّابِقُ لَا يَأْخُذُ مَا جُعِلَ لِلسَّابِقِ لِأَنَّ السَّابِقَ لَهُ أَجْرُ التَّسَبُّبِ لِلْجِهَادِ فَلَا يَأْخُذُ الَّذِي جُعِلَ فِي الْمُسَابَقَةِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ اشْتَرَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الثَّالِثَ الْمُحَلِّلَ لَأَخْذِ الْعِوَضِ
قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ) قُلْت فِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرٌ يَفْتَقِرُ إلَى بَسْطٍ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَبْذُولُ فِيهَا عِوَضًا عَنْ الثَّوَابِ بَلْ هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَلِلْقَائِمِ بِهَا ثَوَابُهُ وَلِمَنْ تَوَلَّى الْمَعُونَةَ ثَوَابُهُ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِوَجْهٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفُرُوقِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بَعْدَهُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ مَا عَدَا قَوْلِهِ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ لَيْسَ هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا وَلَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ كَمَا سَلَفَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَبِهِ نَسْتَعِينُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُلْهِمِ لِلصَّوَابِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَالْأَصْحَابِ ( الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ) إنَّمَا يَتِمُّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ مِنْ أَنَّ قَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ بِالسَّبَبِ الْحَقِّ إذَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ مَا أَخَذَ الْعِوَضَ بِإِزَائِهِ فَيَرْتَفِعُ الْغَبْنُ وَالضَّرَرُ عَلَى الْمُتَعَاوِضَيْنِ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنُ وَالسِّلْعَةُ مَعًا وَلَا لِلْمُؤَجِّرِ الْأُجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا أَكْثَرِيَّةً لَا كُلِّيَّةً فَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَسَائِلُ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ الْجَوَازُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِإِزَاءِ الْمُلَازَمَةِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ ثَوَابَ صَلَاتِهِ لَهُ فَلَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْأُجْرَةُ أَيْضًا لَحَصَلَ لَهُ اجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّالِثُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهَا الْأَذَانُ فَتَصِحَّ أَوْ لَا يُضَمَّ إلَيْهَا فَلَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْأَذَانَ لَا يَلْزَمُهُ فَيَصِحُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَإِذَا ضُمَّ إلَى الصَّلَاةِ قَرُبَ الْعَقْدُ مِنْ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِابْنِ رُشْدٍ وَأَمَّا إجَارَةُ الْمُؤَذِّنِ فَإِنْ قَوْمًا لَمْ يَرَوْا فِي ذَلِكَ بَأْسًا قِيَاسًا عَلَى الْأَفْعَالِ غَيْرِ الْوَاجِبَةِ وَقَوْمًا كَرِهُوا ذَلِكَ وَحَرَّمُوهُ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ قَالَ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أُجْرَةً

} وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
ا هـ بِتَصَرُّفِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَخَذَ الْخَارِجُ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْقَاعِدِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ أَجَازَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَمَلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ بَابُ ضَرُورَةٍ أَنْ يَنُوبَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ إذَا كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ وَاحِدٍ وَإِلَّا فَلَا ضَرُورَةَ تُخَالَفُ لِأَجْلِهَا الْقَاعِدَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فَيُقَالُ بِالْجَوَازِ مَعَ اجْتِمَاعِ ثَوَابِ الْجِهَادِ وَالْجُعْلُ لِلْخَارِجِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِ لَا مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ آخَرَ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمُسَابَقَةُ بِجَعْلِ أَيِّ مَالٍ يُجْعَلُ بَيْنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ أَوْ مَنْ حَضَرَ فِي الْخَيْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْإِبِلُ كَذَلِكَ وَالْخَيْلُ مِنْ جَانِبٍ وَالْإِبِلُ مِنْ جَانِبٍ جَائِزَةٌ بِمَعْنَى الْإِذْنِ الصَّادِقِ بِالْوُجُوبِ إنْ تَوَقَّفَ أَصْلُ الْجِهَادِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْوَسَائِلَ تُعْطَى حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَلِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَبِالنَّدْبِ إنْ تَوَقَّفَتْ الْبَرَاعَةُ فِيهِ عَلَيْهَا وَبِالْإِبَاحَةِ إنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَنْ يَصِحَّ تَبَعُ الْجُعْلِ وَإِخْرَاجُهُ غَيْرَ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا أَوْ أَخْرَجَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ أَخَذَهُ السَّابِقُ وَإِنْ سَبَقَ هُوَ فَلِمَنْ حَضَرَ كَمَا فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَشُرَّاحِهِ فَاشْتَرَطُوا الثَّالِثَ الْمُحَلِّلَ لِأَخْذِ الْعِوَضِ وَفِي الْمِنَحِ عَنْ الْأَصْلِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ثَلَاثِ قَوَاعِدَ لِلْمَنْعِ الْقِمَارُ وَتَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ أَكْلِهِ وَحُصُولِ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهِيَ مَا إذَا أَخْرَجَ الْجُعْلَ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ مَعَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ التَّسَبُّبِ لِلْجِهَادِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ لَا يُسَلَّمُ

أَنَّ الْمَبْذُولَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عِوَضٌ عَنْ الثَّوَابِ بَلْ هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَلِلْقَائِمِ بِهَا ثَوَابٌ وَلِمَنْ يُؤْتِي الْمَعُونَةَ ثَوَابٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِوَجْهٍ عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرًا يَفْتَقِرُ إلَى بَسْطٍ .
ا هـ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ النَّظَرِ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْزَاقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِجَارَاتِ ) كِلَاهُمَا بَذْلُ مَالٍ بِإِزَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْ الْغَيْرِ غَيْرَ أَنَّ بَابَ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ وَيَظْهَرُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ بِسِتِّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْقُضَاةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقَضَاءِ إجْمَاعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرُوا عَلَى الْقَضَاءِ إجْمَاعًا بِسَبَبِ أَنَّ الْأَرْزَاقَ إعَانَةٌ مِنْ الْإِمَامِ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ لَا أَنَّهُ عِوَضٌ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحِجَاجِ وَنُهُوضِهَا وَلَوْ اُسْتُؤْجِرُوا عَلَى ذَلِكَ لَدَخَلَتْ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ وَلِذَلِكَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِعِوَضٍ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ عَاضِدًا وَنَاصِرًا لِمَنْ بَذَلَ لَهُ الْعِوَضَ وَيَجُوزُ فِي الْأَرْزَاقِ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقَاضِي الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيلُ وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ وَلَوْ كَانَ إجَارَةً لَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ وَالْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَاجِبٌ وَالْأَرْزَاقُ مَعْرُوفٌ وَصَرَفَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَقَدْ تَعْرِضُ مَصْلَحَةٌ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْقَضَاءِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ الصَّرْفُ فِيهَا وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ تُورَثُ وَيَسْتَحِقُّهَا الْوَارِثُ وَيُطَالِبُ بِهَا وَالْأَرْزَاقُ لَا يَسْتَحِقُّهَا الْوَارِثُ وَلَا يُطَالِبُ بِهَا لِأَنَّهَا مَعْرُوفٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ

( الْفَرْقُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْزَاقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِجَارَاتِ ) الْأَرْزَاقُ وَالْإِجَارَاتُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا بَذْلُ مَالٍ بِإِزَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَابَ الْأَرْزَاقِ دَخَلَ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُكَايَسَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ وَالْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ وَاجِبٌ وَالْأَرْزَاقُ مَعْرُوفٌ وَصَرْفٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِذَا عَرَضَتْ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ تَعَيَّنَ عَلَى الْإِمَامِ الصَّرْفُ فِيهَا وَتَرْكُ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَحْكَامٍ لَا تَثْبُتُ لِلْآخَرِ يَظْهَرُ لَك تَحْقِيقُهَا بِسِتِّ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الْقِيَامُ بِالْقَضَاءِ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحِجَاجِ وَنُهُوضِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إجْمَاعًا إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْرُوفٌ لَا مُعَاوَضَةَ كَمَا عَلِمْت بِجَوَازِ دَفْعِهَا وَقَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا وَتَكْثِيرِهَا وَتَغْيِيرِهَا بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ إذَا عَرَضَتْ مَصْلَحَةٌ أَعْظَمُ أَنْ يَصْرِفَ الْأَرْزَاقَ فِيهَا وَيُقَدِّمَهَا عَلَى مَصْلَحَةِ الْقَضَاءِ وَوَرَثَتُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا وَلَا يُطَالِبُونَ بِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مِقْدَارٌ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إلَيْهِ وَالْإِجَارَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا مَعْرُوفٌ كَمَا عَلِمْت تُخَالِفُ ذَلِكَ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَجَلُ وَمِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَنَوْعُهَا وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِيهَا الْوَارِثُ وَيَتَعَيَّنُ نَفْعُهَا لِلْأَخْذِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا تَجُوزُ فِي الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ إجْمَاعًا بَلْ وَلَا فِي كُلِّ مَا

يَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ الْقِيَامُ بِهِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ لِلْأَجِيرِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ وَلِئَلَّا تَدْخُلَ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ فَيَكُونَ الْقَاضِي كَالْوَكِيلِ يَأْخُذُ عَلَى الْوَكَالَةِ عِوَضًا لِيَكُونَ عَاضِدًا وَنَاصِرًا لِمَنْ بَذَلَ لَهُ الْعِوَضَ .

: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَرْزَاقُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ عَنْ جِهَاتِهَا إذَا تَعَطَّلَتْ أَوْ وُجِدَتْ جِهَةٌ هِيَ أَوْلَى بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَوْ كَانَتْ وَقْفًا أَوْ إجَارَةً لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهَا لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَالْوَفَاءَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ عَقْدٌ لَازِمٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ لِمُتَوَلِّي الْمَسْجِدِ أَنْ يَسْتَنِيبَ دَائِمًا وَيَكُونَ لَهُ تِلْكَ الْأَرْزَاقِ وَتِلْكَ الرَّزْقَةُ مِنْ الْخَرَاجِ وَالطِّينِ عَلَى النَّظَرِ لَا عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَظِيفَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَظِيفَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَرْزَاقَ مَعْرُوفٌ يَتْبَعُ الْمَصَالِحَ فَكَيْفَمَا دَارَتْ دَارَ مَعَهَا وَيَتَعَذَّرُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَوْقَافِ مِنْ الْحَوَانِيتِ وَالدُّورِ وَغَيْرِهَا بِسَبَبِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَغْيِيرُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ فَإِذَا وَقَفَ الْوَاقِفُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الْإِمَامَةِ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ الْخَطَابَةِ أَوْ التَّدْرِيسِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ رِيعِ ذَلِكَ الْوَقْفِ شَيْئًا إلَّا إذَا قَامَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِنْ اسْتَنَابَ عَنْهُ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَائِمًا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْأَعْذَارِ لَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ رِيعِ ذَلِكَ الْوَقْفِ أَمَّا النَّائِبُ فَلِأَنَّهُ مِنْ شَرْطِ اسْتِحْقَاقِهِ صِحَّةُ وِلَايَتِهِ وَصِحَّةُ وِلَايَتِهِ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ وَهَذَا الْمُسْتَنِيبُ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ إنَّمَا هُوَ إمَامٌ أَوْ مُؤَذِّنٌ أَوْ مُؤَذِّنٌ أَوْ مُدَرِّسٌ فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُسْتَنِيبُ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَيْضًا بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِنْ اسْتَنَابَ فِي أَيَّامِ الْأَعْذَارِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ رِيعَ الْوَقْفِ وَأَنْ يُطْلِقَ لِنَائِبِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ الرِّيعِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُطْلَقُ لَهُ أَرْزَاقًا عَلَى وَظِيفَةٍ

مِنْ تَدْرِيسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْإِمَامَةِ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَقُمْ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا أَطْلَقَهُ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَظِيفَةٍ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا وَاسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ وَأَخْذُ هَذَا الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْإِمَامُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُطْلِقَهُ لَهُ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى عَدَمِ قِيَامِهِ بِالْوَظِيفَةِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تِلْكَ الْوَظِيفَةِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي لَا بِالتَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ وَقْفًا وَلَمْ يَقُمْ بِشَرْطِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ إطْلَاقُهُ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَهَذَا أَيْضًا يُمَيِّزُ لَك الْأَرْزَاقَ مِنْ بَابِ الْأَوْقَافِ وَالْإِجَارَاتِ وَيَجُوزُ فِي الْمَدَارِسِ الْأَرْزَاقُ وَالْوَقْفُ وَالْإِجَارَةُ وَلَا يَجُوزُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ الْأَرْزَاقُ وَالْوَقْفُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُغَلِّظُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَقُولُ إنَّمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ الرِّزْقِ عَلَى الْإِمَامَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ وَيَتَوَرَّعُ عَنْ تَنَاوُلِ الرِّزْقِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ الْأَرْزَاقُ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا لِأَنَّهَا إحْسَانٌ وَمَعْرُوفٌ وَإِعَانَةٌ لَا إجَارَةٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُكَايَسَةٍ وَمُغَابَنَةٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِوَضَانِ فِيهَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْمُعَاوَضَةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِيَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَا بُذِلَ لَهُ وَأَجْرَا الصَّلَاةِ لَهُ فَلَوْ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهَا لَاجْتَمَعَ لَهُ الْعِوَضَانِ وَالْأَرْزَاقُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ

أَلْبَتَّةَ لِجَوَازِهِ فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا وَرَعَ حِينَئِذٍ فِي تَنَاوُلِ الرِّزْقِ وَالْأَرْزَاقِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْوَرَعُ مِنْ جِهَةِ قِيَامِهِ بِالْوَظِيفَةِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْأَرْزَاقَ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا إلَّا لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ فِي إطْلَاقِهِ لِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) مَا يَدْفَعُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَالطِّينِ لِمَنْ يَتَوَلَّى الْمَسَاجِدَ وَالْجَوَامِعَ بِالْقِيَامِ فِيهَا بِوَظِيفَةِ إمَامَةٍ أَوْ أَذَانٍ أَوْ خَطَابَةٍ أَوْ تَدْرِيسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ شَارَكَ مَا يُدْفَعُ لَهُمْ أُجْرَةٌ أَوْ وَقْفًا لِلْقِيَامِ بِتِلْكَ الْوَظَائِفِ فِي حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا عَدَمُ جَوَازِ التَّنَاوُلِ إذَا لَمْ يَقُومُوا بِتِلْكَ الْوَظَائِفِ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِ الْإِمَامِ وَالْوَاقِفِ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِ الْوَاقِفِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِدُونِ أَذَانِ الْإِمَامِ فَافْهَمْ ، ثَامِنُهُمَا جَوَازُ كُلٍّ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْوَقْفِ فِي الْمَدَارِسِ إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُمَا فِي أَحْكَامٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْقُلَ مَا يَدْفَعُهُ لَهُمْ إذَا تَعَطَّلَتْ الْمَسَاجِدُ أَوْ وُجِدَتْ جِهَةٌ هِيَ أَوْلَى بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِهَتِهَا بِخِلَافِ الْمَجْعُولِ لَهُمْ أُجْرَةً أَوْ وَقْفًا فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ جِهَةِ الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ جِهَتِهَا لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِذَا وَقَفَ الْوَاقِفُ حَوَانِيتَ أَوْ دُورًا أَوْ غَيْرَهَا عَلَى مَنْ يَقُومُ بِوَظِيفَةٍ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ وَلَا غَيْرِهِ إطْلَاقُهُ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ رِيعِ ذَلِكَ الْوَقْفِ شَيْئًا إلَّا إذَا قَامَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ عَلَى مُقْتَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ اسْتَنَابَ عَنْهُ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِلَا عُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ بِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ هُوَ وَلَا نَائِبُهُ شَيْئًا مِنْ رِيعِ ذَلِكَ الْوَقْفِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ أَمَّا النَّائِبُ فَلِأَنَّ صِحَّةَ وِلَايَتِهِ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَهُ

النَّظَرُ وَهَذَا الْمُسْتَنِيبُ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ إنَّمَا هُوَ إمَامٌ أَوْ مُؤَذِّنٌ أَوْ مُدَرِّسٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنٍ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَأَمَّا الْمُسْتَنِيبُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَإِنْ اسْتَنَابَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِعُذْرِ أَيَّامِهِ فَقَطْ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ رِيعَ الْوَقْفِ وَأَنْ يُطْلِقَ لِنَائِبِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ الرِّيعِ نَعَمْ فِي شَرْحِ الشَّيْخِ مَنْصُورِ بْنِ إدْرِيسَ الْحَنْبَلِيِّ كَشَّافَ الْقِنَاعِ عَلَى مَتْنِ الْإِقَنَاعِ فِي مَذْهَبِ ابْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا نَصُّهُ مَعَ الْمَتْنِ قَالَ الشَّيْخُ وَالنِّيَابَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ مِنْ تَدْرِيسٍ وَإِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَأَذَانٍ وَغَلْقِ بَابٍ وَنَحْوِهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ وَفِي عِبَارَةٍ أُخْرَى لَهُ وَلَوْ نَهَى الْوَاقِفُ عَنْهُ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلُ مُسْتَنِيبِهِ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمَنْ اُسْتُنِيبَ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ هَكَذَا فِي الْفُرُوعِ وَالِاخْتِيَارَاتِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ صَوَابُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ هَكَذَا هُوَ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ ا هـ وَكَذَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ وَجَوَازُ النِّيَابَةِ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَبِنَاءِ الْحَائِطِ .
ا هـ بِلَفْظِهِ وَهُوَ فُسْحَةٌ فِي الدِّينِ وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَتَيْنِ بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِنَا فَتَرَقَّبْ وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِيمَا يَدْفَعُهُ لِمُتَوَلِّيهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالطِّينِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ دَائِمًا وَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى النَّظَرِ لَا عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَظِيفَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَظِيفَةِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى رَآهَا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ تَنَاوُلَ الْأُجْرَةِ عَلَى إمَامَةِ الصَّلَاةِ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي

جَوَازِهِ وَمَنْعِهِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُكَايَسَةٍ وَمُغَابَنَةٍ وَمِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِوَضَانِ فِيهَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِيَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَا بُذِلَ لَهُ وَأَجْرُ الصَّلَاةِ لِلْإِمَامِ فَلَوْ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهَا لَاجْتَمَعَ لَهُ الْعِوَضَانِ وَتَنَاوُلُ الْأَرْزَاقِ عَلَى الْإِمَامَةِ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ كَمَا مَرَّ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ كَمَا ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ إنَّمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ الرِّزْقِ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَتَوَرَّعَ عَنْ تَنَاوُلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَلَمْ يَفْهَمْ أَنَّ جَوَازَ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهَا كَجَوَازِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا بِدُونِ أَدْنَى خِلَافٍ إذْ الرِّزْقُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ أَلْبَتَّةَ وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ أَجَازُوا تَنَاوُلَهُ فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ الَّذِي تَمْتَنِعُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ قَطْعًا وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فَحِينَئِذٍ لَا وَرَعَ فِي تَنَاوُلِ الْأَرْزَاقِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّمَا الْوَرَعُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّزْقَ أَوْ الْوَقْفَ إلَّا إذَا قَامَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ فِي إطْلَاقِهِ لِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ أَوْ الْوَاقِفُ فِي شَرْطِهِ قُلْت وَمِنْهَا إلَى آخِرِ مَا مَرَّ فِي الْأَرْزَاقِ عَلَى الْقَضَاءِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَانْظُرْ ذَلِكَ وَحَرِّرْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْإِقْطَاعَاتُ الَّتِي تُجْعَلُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ مِنْ الْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارِ وَهِيَ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَتْ إجَارَةً لَهُمْ وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مِقْدَارٌ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إلَيْهِ الْإِجَارَةُ وَلَيْسَ الْإِقْطَاعُ مُقَدَّرًا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَكُلَّ سَنَةٍ بِكَذَا حَتَّى تَكُونَ إجَارَةً بَلْ هُوَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَعَمْ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ إلَّا بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ الشَّرْطِ مِنْ التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَلَى الدِّينِ وَنُصْرَةِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِعْدَادِ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَعْوَانِ عَلَى ذَلِكَ .
وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّنَاوُلُ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِإِطْلَاقِ الْإِمَامِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي أَطْلَقَهُ وَهُوَ لَوْ أَطْلَقَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى تِلْكَ الْوَظِيفَةِ إمَّا غَلَطًا مِنْ الْإِمَامِ وَإِمَّا جَوْرًا مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّائِدَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُطْلَقُ لَهُ بَلْ يَبْقَى فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً يَجِبُ رَدُّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ وَلِمَنْ ظَفَرَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إنْ كَانَ جَائِرًا وَلَوْ كَانَ إجَارَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهَا وَإِذَا عُقِدَتْ بِأَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَحَقَّهَا الْمَعْقُودُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ انْتِزَاعُ الزَّائِدِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ إذَا كَانَ الْحَالُ وَالِاجْتِهَادُ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ الزَّائِدَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمَنْ عُقِدَ لَهُ وَكَأَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا

الْأَجَلُ وَمِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَنَوْعُهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا أَيْضًا يُوَضِّحُ لَك الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَرْزَاقِ وَالْإِجَارَاتِ .
وَإِذَا قَطَعَ الْأَمِيرُ أَوْ الْجُنْدِيُّ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً أَوْ غَيْرَ خَرَاجِيَّةٍ فَآجَرَهَا ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرّ وَرَثَتَهُ عَلَى تِلْكَ الْأُجْرَةِ وَيُمْضِيَ لَهُمْ تِلْكَ الْإِجَارَةَ إلَى حَلِّ أَجَلِهَا وَلَهُ دَفْعُ جَمِيعِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ لِلْمُقْطِعِ الثَّانِي إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَسْتَقِرُّ الْأُجْرَةُ الْأُولَى لِلْأَوَّلِ إلَّا بِمُضِيِّ الْعَقْدِ وَانْقِضَاءِ أَجَلِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ وَلَوْ كَانَتْ إجَارَةً مِنْ الْإِمَامِ لَهُ بِذَلِكَ الْإِقْطَاعِ لَاسْتَحَقَّهَا وَرَثَتُهُ وَلَتَعَذَّرَ عَلَى الْإِمَامِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُمْ فِي مُدَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْمُقْطَعِ عَلَى قَاعِدَةِ الْوَقْفِ إذَا آجَرَ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ زَمَانَ اسْتِحْقَاقِهِ وَغَيْرَ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنَّهُ هَلْ يَبْطُلُ فِي غَيْرِ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهِ أَمْ لَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا الْمُقْطِعُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الزَّمَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُقْطِعٌ لِتِلْكَ الْأَرْضِ فَإِذَا مَاتَ أَوْ حُوِّلَ عَنْهَا لِغَيْرِهَا فَقَدْ آلَ الِاسْتِحْقَاقُ لِغَيْرِهِ كَالْبَطْنِ الثَّانِي إذَا طَرَأَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَهَذَا أَيْضًا يُوَضِّحُ لَك الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْإِقْطَاعِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَك الْفَرْقَ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَطَعَ أَمِيرًا أَوْ جُنْدِيًّا إقْطَاعًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ وَلَوْ كَانَ عَقْدَ إجَارَةٍ لَامْتَنَعَ نَقْلُهُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْإِقْطَاعَاتُ الَّتِي يَجْعَلُهَا الْإِمَامُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ مِنْ الْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارِ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِعَانَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ وَإِنْ شَارَكَتْ الْإِجَارَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَلَى الدِّينِ وَنُصْرَةِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِعْدَادِ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَعْوَانِ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّنَاوُلُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ الْأُجْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ إذْ كَمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْوَفَاءِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لِوُجُوبِهِ ، كَذَلِكَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْوَفَاءِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ فِي إطْلَاقِهِ لِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ إلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُ الْإِجَارَةَ فِي أَحْكَامٍ .
( أَحَدُهَا ) أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُقْتَطَعُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْوَظِيفَةِ غَلَطًا أَوْ جَوْرًا مِنْ الْإِمَامِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقْتَطَعُ لَهُ ذَلِكَ الزَّائِدَ بَلْ يَبْقَى فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً يَجِبُ رَدُّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ وَلِمَنْ ظَفَرَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إنْ كَانَ جَائِرًا وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهَا وَيَسْتَحِقُّ الْمَعْقُودُ لَهُ الزَّائِدَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْحَالُ وَالِاجْتِهَادُ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ الزَّائِدَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمَنْ عَقَدَ لَهُ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْإِقْطَاعَاتِ مِقْدَارٌ

مِنْ الْعَمَلِ وَلَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إلَيْهِ وَقَوَاعِدُ الْإِجَارَةِ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ وَمِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَنَوْعِهَا ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ هَذِهِ الْإِقْطَاعَاتِ عَمَّنْ اقْتَطَعَهَا لَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ وَلَوْ كَانَتْ عَقْدَ إجَارَةٍ لَامْتَنَعَ نَقْلُهَا مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّ الْأَمِيرَ أَوْ الْجُنْدِيَّ إذَا آجَرَ مَا جَعَلَهُ الْإِمَامُ لَهُ مِنْ الْإِقْطَاعَاتِ ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ وَرَثَتَهُ عَلَى تِلْكَ الْأُجْرَةِ وَيُمْضِيَ لَهُمْ تِلْكَ الْإِجَارَةِ إلَى حُلُولِ أَجَلِهَا وَلَهُ دَفْعُ جَمِيعِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَسْتَقِرُّ الْأُجْرَةُ الْأُولَى لِلْأَوَّلِ إلَّا بِمُضِيِّ الْعَقْدِ وَانْقِضَاءِ أَجَلِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْمُقْطَعِ لَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْوَقْفِ إذَا آجَرَهُ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ زَمَانَ اسْتِحْقَاقِهِ وَغَيْرَ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهِ فَفِي بُطْلَانِهِ فِي غَيْرِ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهِ وَعَدَمِ بُطْلَانِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمُقْطَعَ لَهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الزَّمَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُقْطِعٌ لِتِلْكَ الْأَرْضِ فَإِذَا مَاتَ أَوْ حُوِّلَ عَنْهَا لِغَيْرِهَا فَقَدْ آلَ الِاسْتِحْقَاقُ لِغَيْرِهِ كَالْبَطْنِ الثَّانِي إذَا طَرَأَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لَهُ مِنْ الْإِمَامِ بِذَلِكَ الْإِقْطَاعِ لَاسْتَحَقَّهَا وَرَثَتُهُ وَلَتَعَذَّرَ عَلَى الْإِمَامِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُمْ فِي مُدَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوقِفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ أَوْقَافَهُمْ أَعْنِي الْمُلُوكَ وَالْخُلَفَاءَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا تَنْفُذُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا إذَا قَامَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ الْوَقْفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ الْوَقْفِ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الشَّرْطُ لَازِمًا لِلنَّاسِ وَلِلْإِمَامِ كَسَائِرِ الْأَوْقَافِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَحْوِيلُهُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِطْلَاقُهُ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ فَإِنْ وَقَفُوا عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ جِهَاتِ أَقَارِبِهِمْ لِهَوَاهُمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى حَوْزِ الدُّنْيَا لَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاتِّبَاعًا لِغَيْرِ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَنْفُذْ هَذَا الْوَقْفُ وَحَرُمَ عَلَى مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ بِهَذَا الْوَقْفِ وَلِلْإِمَامِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ وَصَرْفُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا بِهَذَا الْوَقْفِ كَانَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ وَلَهُ وَقْفُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ صَحَّ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ لِمُصَادَفَتِهِ لِلْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ تَحْوِيلُهُ .
فَإِنْ قُلْت فَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدٍ ، بِنَصٍّ أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَاهُمْ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ وَاشْتَرَى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ مَمْلَكَتِهِ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَقْفُ أَمْ لَا قُلْت الْمُلُوكُ فُقَرَاءُ مَدِينُونَ بِسَبَبِ مَا جَنَوْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِالْهَوَاءِ فِي أَبْنِيَةِ الدُّورِ

الْعَالِيَةِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْمَرَاكِبِ النَّفِيسَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَإِعْطَاءِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْمُزَاحِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَمْوَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا فَهَذِهِ كُلُّهَا دُيُونٌ عَلَيْهِمْ فَتَكْثُرُ مِنْ تَطَاوُلِ الْأَيَّامِ فَيَتَعَذَّرُ بِسَبَبِهَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الْأَوْقَافُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْبُيُوعَاتُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ فَإِنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَدْيُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تَقَرُّرِ الدَّيْنِ بَاطِلَةٌ فَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَثَانِيهمَا الْإِرْثُ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ مَعَ الدَّيْنِ إجْمَاعًا فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ شَيْءٌ وَمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَمَالِيكِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْوَارِثِ فِيهِمْ بَلْ هُمْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحَقُّونَ بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِمْ إلَّا عِتْقُ مُتَوَلِّي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَإِعْتَاقُهُمْ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ وَقَفُوا وَقْفًا عَلَى جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَنَسَبُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي بَيْتِ الْمَالِ لَهُمْ كَمَا يَعْتَقِدُهُ جَهَلَةُ الْمُلُوكِ بَطَلَ الْوَقْفُ بَلْ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُوقِفُوا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفُ لِلْمُسْلِمِينَ أَمَّا إنَّ الْمَالَ لَهُمْ وَالْوَقْفَ لَهُمْ فَلَا كَمَنْ وَقَفَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوقِفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلُ ذَلِكَ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَأَنْ يَقِفُوا وَقْفًا عَلَى جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفَ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهَا تَنْفُذُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا إذَا قَامَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ الْوَقْفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ وَإِذَا لَمْ تَقَعْ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَأَنْ وَقَفُوا عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ جِهَاتِ أَقَارِبِهِمْ لِهَوَاهُمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى حَوْزِ الدُّنْيَا لَهُمْ وَلِذَرَارِيِّهِمْ وَاتِّبَاعًا لِغَيْرِ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ وَقَفُوا عَلَى جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الْمَالَ لَهُمْ وَأَنَّ الْوَقْفَ لَهُمْ بِنَاءً عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ جَهَلَةُ الْمُلُوكِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي بَيْتِ الْمَالِ لَهُمْ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَنْ وَقَفَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ هَذَا الْوَقْفُ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا بِهَذَا الْوَقْفِ فَإِذَا تَنَاوَلَهُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ وَصَرْفُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْإِمَامِ وَقْفُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَوْا بَعْضَ أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَاهُمْ مِنْ مَالِهِمْ الَّذِي يَكْتَسِبُونَهُ فِي زَمَنِ مَمْلَكَتِهِمْ وَوَقَفُوا ذَلِكَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِمْ فَإِنَّهُ

يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ تَبَرُّعَاتِ الْمَدْيُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تَقَرُّرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلُوكَ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِ ذِمَمِهِمْ بِالدُّيُونِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا يَجْنُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِالْهَوَى فِي أَبْنِيَةِ الدُّورِ الْعَالِيَةِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْمَرَاكِبِ النَّفِيسَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَإِعْطَاءِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْمُزَاحِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَمْوَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا فَتَكُونُ دُيُونًا عَلَيْهِمْ وَتَكْثُرُ بِتَطَاوُلِ الْأَيَّامِ يَتَعَذَّرُ فِي حَقِّهِمْ أَمْرَانِ ( أَحَدُهُمَا ) الْأَوْقَافُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْبُيُوعَاتُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ وَافَقَهُ فَإِنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَدْيُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تَقَرُّرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ ( وَثَانِيهِمَا ) الْإِرْثُ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ مَعَ الدَّيْنِ إجْمَاعًا فَلَا يُورَثُ عَنْهُ شَيْءٌ وَمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَمَالِيكِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْوَارِثِ فِيهِمْ بَلْ هُمْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحَقُّونَ بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِمْ إلَّا عِتْقُ مُتَوَلِّي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ا هـ بِتَصَرُّفٍ لِلْإِصْلَاحِ .
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عَابِدِينَ الْحَنَفِيِّ عَلَى الدُّرِّ أَنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ إنْ عُلِمَ مِلْكُهُمْ لَهَا بِالشِّرَاءِ صَحَّ وَقْفُهُمْ لَهَا وَرُوعِيَ فِيهِ شَرْطُ الْوَقْفِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ شِرَاؤُهُمْ لَهَا وَلَا عَدَمُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ وَقْفِهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَقْفِهِمْ لَهَا مِلْكُهُمْ لَهَا بَلْ يَحْكُمُ بِأَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانَ الَّذِي وَقَفَهَا أَخْرَجَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَيَّنَهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ وَنَحْوِهِمْ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى

وُصُولِهِمْ إلَى بَعْضِ حَقِّهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ إرْصَادٌ لَا وَقْفٌ حَقِيقَةً فَلِهَذَا أَفْتَى عَلَّامَةُ الْوُجُودِ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ مُفْتِي السَّلْطَنَةِ السُّلَيْمَانِيَّةِ بِأَنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ لَا يُرَاعَى شَرْطُهَا لِأَنَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ إذَا كَانَ الْمُقَرَّرُ فِي الْوَظِيفَةِ أَوْ الْمُرَتَّبِ مِنْ مَصَارِيفِ بَيْتِ الْمَالِ .
ا هـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْلَى أَبَا السُّعُودِ أَدْرَى بِحَالِ أَوْقَافِ الْمُلُوكِ وَمِثْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ السُّلْطَانُ نِظَامُ الْمَمْلَكَةِ بُرْقُوقٌ فِي عَامِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ أَنْ يَنْقُضَ هَذِهِ الْأَوْقَافَ لِكَوْنِهَا أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَافِلًا حَضَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ وَالْبُرْهَانُ بْنُ جَمَاعَةَ وَشَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ شَارِحُ الْهِدَايَةِ فَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ مَا وُقِفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا وُقِفَ عَلَى فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ يُنْقَضُ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ فِي النَّقْلِ الْمَسْتُورِ فِي جَوَازِ قَبْضِ مَعْلُومِ الْوَظَائِفِ بِلَا حُضُورٍ وَرَأَيْت نَحْوَهُ فِي شَرْحِ الْمُلْتَقَى فَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ أَوْقَافَ السَّلَاطِينِ مِنْ بَيْتِ الْمَال إرْصَادَاتٌ لَا أَوْقَافٌ حَقِيقَةً وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُنْقَضُ بِخِلَافِ مَا وَقَفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عُتَقَائِهِ مَثَلًا وَأَنَّهُ حَيْثُ كَانَتْ إرْصَادًا لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِهَا لِعَدَمِ كَوْنِهَا وَقْفًا صَحِيحًا فَإِنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ وَالسُّلْطَانُ بِدُونِ الشِّرَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ وَمَا فِي التُّحْفَةِ الْمَرْضِيَّةِ عَنْ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ مِنْ أَنَّ وَقْفَ السُّلْطَانِ لِأَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ صَحِيحٌ لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ

لَازِمٌ لَا يُغَيَّرُ إذَا كَانَ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَمَا نَقَلَ الطَّرَسُوسِيُّ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّ السُّلْطَانَ لَوْ وَقَفَ أَرْضًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ لِأَنَّهُ إذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ مَنَعَ مَنْ يَصْرِفُهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ .
ا هـ فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ تَأْبِيدُ صَرْفِهِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا السُّلْطَانُ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ وَهُوَ مَعْنَى الْإِرْصَادِ السَّابِقِ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ا هـ بِتَصَرُّفٍ قُلْت وَهُوَ يُخَالِفُ مَا لِلْأَصْلِ مِنْ جِهَتَيْنِ جِهَةٌ أَنَّ كَلَامَ الْأَصْلِ يُفِيدُ أَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ رُشْدٍ وَمَا لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ جَوَازِ وَقْفٍ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ صِحَّةُ وَقْفِهِ وَمُرَاعَاةُ شَرْطِهِ وَكَلَامُ ابْنِ عَابِدِينَ يُفِيدُ أَنَّ صَرِيحَ مَا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ عَدَمُ صِحَّةِ الْوَقْفِ وَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى شَرْطُهُ وَكَلَامُ الْأَصْلِ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا مَا وَقَفَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إلَّا أَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَوَكِيلِ الْوَاقِفِ يَصِحُّ وَقْفُهُ كَمَا فِي الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق فَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمِسْنَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَوْلِ الْكَاشِفِ وَحَاصِلُ مَا لِأَئِمَّتِنَا فِي أَوْقَافِ مُسْتَغْرِقِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَرَافِيِّ فِي الْفُرُوقِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَلَى بَعْضِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْمَسَاكِينِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفَ لَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ أَيْدِي نِيَابَةٍ فَقَطْ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَتُعْتَبَرُ شُرُوطُهُمْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ ضَيَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَوْقَافِ

غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مَنْ قَامَ بِشَرْطِ الْوَقْفِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إنْ كَانَ هُوَ الْوَاقِفُ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ الْوَقْفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَا أَنْ يُحَوِّلَهُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لِلُزُومِ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَسَائِرِ الْأَوْقَافِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا فِي سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْمَذْكُورِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَسَلَّمَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ يَصِحُّ الْحُبْسُ مِنْ الْإِمَامِ لِسَمَاعِ ابْنِ خَالِدٍ مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ صِحَّةَ تَحْبِيسِهِ الْخَيْلَ فِي الْجِهَادِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ بِبَلَدِنَا حِينَ إشْهَادِ إمَامِهَا بِتَحْبِيسِ بَعْضِ رِبَاعِهَا عَلَى بِنَاءِ سُوَرِهَا فَأَوْقَفْته عَلَى السَّمَاعِ أَيْ سَمَاعِ ابْنِ خَالِدٍ مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمَذْكُورِ فَشَهِدَ فِيهِ مَعَنَا .
ا هـ أَيْ فَشَهِدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي إشْهَادِ ذَلِكَ وَالْإِمَامُ بِالتَّحْبِيسِ لِلرُّبَاعِ الْمَذْكُورَةِ مَعَنَا قَالَ كنون وَانْظُرْ كِتَابَ الْحَبْسِ مِنْ تَكْمِيلِ غ وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ أَيْ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي كَوْنَ أَوْقَافِهِمْ عَلَى مَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِهِمْ الْخَاصَّةِ أَوْ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا لَهُمْ وَأَنَّ الْوَقْفَ لَهُمْ أَوْ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الْمَالَ وَالْوَقْفَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُمْ بَلْ أَيْدِيهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْدِي نِيَابَةٍ فَقَطْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَفُوهُ مُشْتَرًى مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ مَالِهِمْ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ فِي زَمَنِ الْإِمَارَةِ إذْ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ حُكْمًا لِعِمَارَةِ ذِمَّتِهِمْ بِمَا جَنَوْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَيَسْتَغْرِقُ مَا بِأَيْدِهِمْ مِمَّا اكْتَسَبُوهُ بَعْدَ الْوِلَايَةِ بَلْ وَقَبْلَهَا فَيَبْطُلُ وَقْفُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31