كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

مِنْ وَجْهٍ وَيَكُونَ الْآخَرُ تَابِعًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ تَابِعَةٌ لِلثَّمَرَةِ وُجُوبًا أَيْ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى تَحْصِيلِ الثَّمَرَةِ مَا زُرِعَتْ الشَّجَرَةُ وَالثَّمَرَةُ تَابِعَةٌ لِلشَّجَرَةِ وُجُودًا أَيْ لَوْلَا زَرْعُ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ فَصَحَّ مَا قَالَهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ تَابِعَةٌ وُجُودَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ تَابِعٌ وُجُوبًا بِالتَّحَيُّلِ الْمَصْلَحَةَ ، وَبَطَلَ مَا ادَّعَاهُ الشِّهَابُ مِنْ الدَّوْرِ الْمُمْتَنِعِ ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِتَوَهُّمِهِ هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ تَغَايُرِ جِهَتَيْ التَّبَعِيَّةِ فَانْزَاحَ الْإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ وَالْأَفْضَالِ قَالَ وَكَلَامُ الشِّهَابِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الْعَشَرَةِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ هُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّنْعَةُ لَكِنَّنَا لَا نَعْلَمُهَا فَإِنْ أَرَادَ أَنَّا لَا نَعْلَمُهَا لَا جُمْلَةً ، وَلَا تَفْصِيلًا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ فَإِنَّ مَسَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِثُبُوتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أُحْصِي إلَخْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا أَسْتَطِيعُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْك لِلْقَوَاطِعِ عَنْ ذَلِكَ بِكَالنَّوْمِ وَشِبْهِهِ قَوْلُ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ إلَخْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اطِّلَاعٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَصَحِيحُ الْإِيقَانِ .
قَالَ : وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا صِفَةَ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي

كَلَامُهُ أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ بِإِزَالَةِ هَذَا الْجَهْلِ ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِبَقَائِهِ كَمَا قَالَ الشِّهَابُ قَالَ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي عَنْ شِفَاءِ عِيَاضٍ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ قَطْعٍ لَا يَكْفِي فِي مِثْلِهِ الظَّوَاهِرُ مَعَ تَعَيُّنِ التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي بِنَفْيِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً قَادِرًا أَوْ تَارَةً غَيْرَ قَادِرٍ وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ نَفْيَ أَنَّهُ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ حَدِيثِ السَّوْدَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ اسْتِقْرَارَ الْأَجْسَامِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ إلَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ هُنَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ ، قَالَ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ صَحِيحٌ وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ لَمْ يُرِدْ مَنْ عَبَّرَ بِهِ ظَاهِرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ صَحِيحٌ وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي السَّادِسِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى لَهُ إبْدَالَ قَوْلِهِ جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ بِقَوْلِهِ جَهْلٌ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ ، وَأَنْ يَحْذِفَ قَوْلَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا فَإِنَّهُ فِي كَلَامِهِ كَالْمُتَنَاقِضِ مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ لَيْسَ مَذْهَبَ الْحَشَوِيَّةِ بَلْ مَذْهَبُهُمْ إثْبَاتُ الْجِسْمِيَّةِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا إلَّا أَنْ يُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بَاطِلٍ أَنَّهُ جَهْلٌ فَذَلِكَ لَهُ

وَجْهٌ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ السَّابِعِ صَحِيحٌ ، وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي الثَّامِنِ .
لَكِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْجَهْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ لَا عَلَى خُصُوصِ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُمْ الْجَزْمُ بِأَنْ لَا بَعْثَةَ لِلْأَجْسَامِ وَالْجَهْلُ فِي التَّاسِعِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَيَوَانًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ ، وَلَا مَعْصِيَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى الْجَهْلِ لِتَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بَلْ بِوُجُودِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَبَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ يُكَلِّفُ الشَّرْعُ بِمَعْرِفَتِهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهَا إنْ أَرَادَ بِهَا مِثْلَ السِّحْرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِهِ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْعَاشِرِ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ ، وَمَا قَالَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَاطِعٍ سَمْعِيٍّ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ ، وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهِ فَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ كُفْرًا وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَوْقِيفٍ وَتَقَدَّمَ مَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ فَلَا تَغْفُلْ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ لِكُلِّ مُمْتَنِعٍ مِنْ السُّجُودِ وَلِكُلِّ حَاسِدٍ وَلِكُلِّ عَاصٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدًا مَا وَامْتِنَاعًا وَعِصْيَانًا مَا دُونَ سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كُفْرًا إذْ كَوْنُ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ ، وَمَا

قَالَهُ فِي مُدْرَك كُفْرِ إبْلِيسَ فِي قَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ هُوَ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ أَوْ لَهُمَا أَوْ مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّجْوِيرِ أَوْ لِلتَّجْوِيرِ خَاصَّةً إذْ لَا مَانِعَ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَقْلًا وَسَمْعًا ، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ صَحِيحًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ا هـ كَلَامُهُ مُلَخَّصًا .
قُلْتُ : وَمُرَادُهُ بِمَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا مَرَّ عَنْهُ أَنَّ هَذَا اللُّزُومَ وَنَحْوَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا جَعْلُ نَوْعٍ مِنْ الرُّقَى سِحْرًا دُونَ مَا عَدَاهُ بَلْ سَيُصَرِّحُ الْأَصْلُ بِالْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِذَلِكَ فَافْهَمْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ) : وَاعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يَلْتَبِسُ بِالْهِيمْيَاءِ وَالسِّيمْيَاءِ وَالطَّلْسَمَاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْخَوَاصِّ الْمَنْسُوبَةِ لِلْحَقَائِقِ وَالْخَوَاصِّ الْمَنْسُوبَةِ لِلنُّفُوسِ وَالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِخْدَامَات فَهَذِهِ عَشْرُ حَقَائِقَ .
( الْحَقِيقَةُ الْأُولَى ) السِّحْرُ وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِذَمِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَفِي السُّنَّةِ أَيْضًا لَمَّا عَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَبَائِرَ قَالَ وَالسِّحْرُ غَيْرَ أَنَّ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي السِّحْرِ وُضِعَ فِيهَا هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ كُفْرٌ وَمُحَرَّمٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ السَّحَرَةُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السِّحْرِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّضِ لِبَيَانِ ذَلِكَ فَنَقُولُ السِّحْرُ اسْمُ جِنْسٍ لِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ .
( النَّوْعُ الْأَوَّلُ ) السِّيمِيَاءُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُرَكَّبُ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ خَاصَّةٍ تُوجِبُ تَخَيُّلَاتٍ خَاصَّةً وَإِدْرَاكَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ أَوْ بَعْضًا لِحَقَائِقَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ يَخْلُقُ اللَّهُ تِلْكَ الْأَعْيَانَ عِنْدَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ وَقَدْ لَا تَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلْ تَخَيُّلُ صَرْفٍ وَقَدْ يَسْتَوْلِي ذَلِكَ عَلَى الْأَوْهَامِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ الْوَهْمُ مُضِيَّ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَتَكَرُّرَ الْفُصُولِ وَتَخَيَّلَ السِّنَّ وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَارِبِ مِنْ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا وَيَسْلُبُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَصِيرُ أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ مَعَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ لَا

يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
( النَّوْعِ الثَّانِي ) الْهِيمْيَاءِ وَامْتِيَازُهَا عَنْ السِّيمِيَاءِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ يُضَافُ لِلْآثَارِ السَّمَاوِيَّةِ مِنْ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَيَحْدُثُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَخَصَّصُوا هَذَا النَّوْعَ لِهَذَا الِاسْمِ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْحَقَائِقِ .
( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) بَعْضُ خَوَاصِّ الْحَقَائِقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا تُؤْخَذُ سَبْعٌ مِنْ الْحِجَارَةِ فَيُرْجَمُ بِهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِلَابِ شَأْنُهُ إذَا رَمَى بِحَجَرٍ عَضَّهُ وَبَعْضُ الْكِلَابِ لَا يَعَضُّهُ فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ إذَا رُمِيَ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْجَارِ فَيَعَضُّهَا كُلَّهَا لُقِطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَطُرِحَتْ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ظَهَرَتْ فِيهِ آثَارٌ عَجِيبَةٌ خَاصَّةٌ نَصَّ عَلَيْهَا السَّحَرَةُ وَنَحْوُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُغَيِّرَةِ لِأَحْوَالِ النُّفُوسِ ، وَأَمَّا خَوَاصُّ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَصَّةِ بِانْفِعَالَاتِ الْأَمْزِجَةِ صِحَّةً أَوْ سَقَمًا نَحْوَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الْمَسْطُورَةِ فِي كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ وَالْعَشَّابِينَ والطبائعيين فَلَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ بَلْ هَذَا مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ لَا مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ وَيَخْتَصُّ بِالسِّحْرِ مَا كَانَ سُلْطَانُهُ عَلَى النُّفُوسِ خَاصَّةً .
قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ : فِي تَعْلِيقِهِ وَقَعَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ أُذُنًا ثُمَّ أَلْصَقَهَا أَوْ أَدْخَلَ السَّكَاكِينَ فِي بَطْنِهِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا سِحْرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ سِحْرًا اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ السِّحْرُ إلَّا رُقًى أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى عَادَتَهُ أَنْ يَخْلُقَ عِنْدَهَا افْتِرَاقَ الْمُتَحَابِّينَ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَقَدْ يَقَعُ بِهِ التَّغْيِيرُ وَالضَّنَى ، وَرُبَّمَا أَتْلَفَ وَأَوْجَبَ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْبَلَهَ وَفِيهِ أَدْوِيَةٌ مِثْلُ الْمَرَائِرِ وَالْأَكْبَادِ وَالْأَدْمِغَةِ فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ عَادَةً .
وَأَمَّا طُلُوعُ الزَّرْعِ فِي الْحَالِ أَوْ نَقْلُ

الْأَمْتِعَةِ وَالْقَتْلُ عَلَى الْفَوْرِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمُ وَنَحْوُهُ وَعِلْمُ الْغَيْبِ فَمُمْتَنِعٌ ، وَإِلَّا لَمْ يَأْمَنْ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَدَاوَةِ وَقَدْ وَقَعَ الْقَتْلُ وَالْعِنَادُ مِنْ السَّحَرَةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهَا أَحَدٌ هَذَا الْمَبْلَغَ ، وَقَدْ وَصَلَ الْقِبْطُ فِيهِ إلَى الْغَايَةِ وَقَطَعَ فِرْعَوْنُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّغَيُّبِ وَالْهُرُوبِ وَحَكَى ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَائِنَا جَوَّزُوا أَنْ يُسْتَدَقَّ جِسْمُ السَّاحِرِ حَتَّى يَلِجَ فِي الْكَوَّةِ وَيَجْرِيَ عَلَى خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ وَيَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ وَيَقْتُلَ غَيْرَهُ ، قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يَقَعُ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْبَشَرِ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ ، وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ قُلْتُ وَوُصُولُهُ إلَى الْقَتْلِ وَتَغْيِيرِ الْخَلْقِ وَنَقْلِ الْإِنْسَانِ إلَى صُورَةِ الْبَهَائِمِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ وَقَدْ كَانَ الْقِبْطُ فِي أَيَّامِ دَلُوكَا مَلِكَةَ مِصْرَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ وَضَعُوا السِّحْرَ فِي الْبَرَابِي وَصَوَّرُوا فِيهِ عَسَاكِرَ الدُّنْيَا فَأَيُّ عَسْكَرٍ قَصَدَهُمْ ، وَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ تَخَيَّلَ ذَلِكَ الْجَيْشَ الْمُصَوَّرَ أَوْ رِجَالَهُ مِنْ قَلْعِ الْأَعْيُنِ أَوْ ضَرْبِ الرِّقَابِ وَقَعَ بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ فِي مَوْضِعِهِ فَتُحَاشِيهِمْ الْعَسَاكِرُ فَأَقَامُوا سِتَّمِائَةِ سَنَةً وَالنِّسَاءُ هُنَّ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ بِمِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَجُيُوشِهِ كَذَلِكَ حَكَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ .
وَأَمَّا سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ فَالْجَوَابُ عَنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ .
( الْأَوَّلِ ) أَنَّهُمْ تَابُوا فَمَنَعَتْهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِسْلَامُ الْعَوْدَةَ إلَى مُعَاوَدَةِ الْكُفْرِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ تِلْكَ الْآثَارُ وَرَغِبُوا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ قَالُوا { لَا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } ( الثَّانِي ) لَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّا وَصَلُوا لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مِنْ السَّحَرَةِ

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِأَجْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
( الثَّالِثِ ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَدْ عَلَّمَهُ بَعْضُ السَّحَرَةِ حُجُبًا وَمَوَانِعَ يُبْطِلُ بِهَا سِحْرَ السَّحَرَةِ اعْتِنَاءً بِهِ وَالْحُجُبُ وَالْمُبْطِلَاتُ فِيهِ مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِهِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ السِّحْرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ قَدْ تَقَعُ بِلَفْظٍ وَهُوَ كُفْرٌ أَوْ اعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ أَوْ فِعْلٍ هُوَ كُفْرٌ فَالْأَوَّلُ كَالسَّبِّ الْمُتَعَلِّقِ بِمَنْ سَبَّهُ كُفْرٌ وَالثَّانِي كَاعْتِقَادِ انْفِرَادِ الْكَوَاكِبِ أَوْ بَعْضِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَالثَّالِثِ كَإِهَانَةِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعْظِيمَهُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَتَى وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي السِّحْرِ فَذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَقَدْ يَقَعُ السِّحْرُ بِشَيْءٍ مُبَاحٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَضْعِ الْأَحْجَارِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهَا مُبَاحَةٌ وَكَذَلِكَ رَأَيْت بَعْضَ السَّحَرَةِ يَسْحَرُ الْحَيَّاتِ الْعِظَامَ فَتُقْبِلُ إلَيْهِ وَتَمُوتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ تُفِيقُ ثُمَّ يُعَاوِدُ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَيَعُودُ حَالُهَا كَذَلِكَ أَبَدًا وَكَانَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ مُوسَى بِعَصَاهُ مُحَمَّدٌ بِفُرْقَانِهِ يَا مُعَلِّمَ الصِّغَارِ عَلِّمْنِي كَيْفَ آخُذُ الْحَيَّةَ وَالْحَوِيَّةَ وَكَانَتْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هَذَا الْأَثَرُ وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مُبَاحَةٌ لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ وَقُوَّةُ نَفْسِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يَكْفُرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْصِي بِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ وَتَأْثِيرِهَا فِي قَتْلِ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بِتَصَدِّيهِ وَاكْتِسَابِهِ لِذَاكَ حَرَّمَ الشَّرْعُ أَذِيَّتَهُ أَوْ قَتْلَهُ أَمَّا لَوْ تَصَدَّى صَاحِبُ الْعَيْنِ لِقَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ السِّبَاعِ الْمُهْلِكَةِ كَانَ طَائِعًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِصَابَتِهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي طُبِعَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ

فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَكَذَلِكَ سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَكَوْرِ طَلْعٍ مِنْ النَّخْلِ وَجُعِلَ الْجَمِيعُ فِي بِئْرٍ فَهَذِهِ الْأُمُورُ فِي جَمْعِهَا وَجَعْلِهَا فِي الْبِئْرِ أَمْرٌ مُبَاحٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا لَوَجَبَ التَّفْصِيلُ فَقَدْ يَكُونُ كُفْرًا وَاجِبًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى اقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وُجُوبَهَا فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْبِئْرِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى أَوْ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ نَظَرَ فِيهِ هَلْ يَقْتَضِي كُفْرًا أَوْ هُوَ مُبَاحٌ مِثْلُهَا وَلِلسَّحَرَةِ فُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِهِمْ يُقْطَعُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَعَاصِيَ ، وَلَا كُفْرًا كَمَا أَنَّ لَهُمْ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا الْإِطْلَاقُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا كُفْرٌ فَصَعْبٌ جِدًّا فَقَدْ تَقَرَّرَ بَيَانُ أَرْبَعَةِ حَقَائِقَ مِنْ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ الْجِنْسُ الْعَامُّ ، وَأَنْوَاعُهُ الثَّلَاثَةُ السِّيمِيَاءُ وَالْهِيمْيَاءُ وَالْخَوَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا .
( الْحَقِيقَةُ الْخَامِسَةُ ) الطَّلْمَسَاتُ وَحَقِيقَتُهَا نَفْسُ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ فِي أَجْسَامٍ مِنْ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا تَحْدُثُ لَهَا آثَارٌ خَاصَّةٌ رُبِطَتْ بِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ فِي الطَّلْسَمِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَتَعَلُّقِهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْفَلَكِ وَجَعْلِهَا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ فَلَيْسَ كُلُّ النُّفُوسِ مَجْبُولَةً عَلَى ذَلِكَ .
( الْحَقِيقَةُ السَّادِسَةُ ) الْأَوْفَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى مُنَاسَبَاتِ الْأَعْدَادِ وَجَعْلِهَا عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ مُرَبَّعٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَبَّعُ مَقْسُومًا بُيُوتًا فَيُوضَعُ فِي كُلِّ بَيْتٍ عَدَدٌ حَتَّى تَكْمُلَ الْبُيُوتُ

فَإِذَا جُمِعَ صَفٌّ كَامِلٌ مِنْ أَضْلَاعِ الْمُرَبَّعِ فَكَانَ مَجْمُوعُهُ عَدَدًا وَلْيَكُنْ عِشْرِينَ مَثَلًا فَلْتَكُنْ الْأَضْلَاعُ الْأَرْبَعَةُ إذَا جُمِعَتْ كَذَلِكَ وَيَكُونُ الْمُرَبَّعُ الَّذِي هُوَ مِنْ الرُّكْنِ إلَى الرُّكْنِ كَذَلِكَ فَهَذَا وَفْقٌ فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مِائَةً وَمِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِائَةٌ فَهَذَا لَهُ آثَارٌ مَخْصُوصَةٌ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْحُرُوبِ وَنُصِرَ مَنْ يَكُونُ فِي لِوَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِتَيْسِيرِ الْعَسِيرِ ، وَإِخْرَاجِ الْمَسْجُونِ ، وَأَيْضًا الْجَنِينِ مِنْ الْحَامِلِ وَتَيْسِيرِ الْوَضْعِ وَكُلِّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَعْتَنِي بِهِ كَثِيرًا حَتَّى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَضَابِطُهُ ( ب ط د ز هـ ج و ا ح ) فَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا لَهُ عَدَدٌ إذَا جُمِعَ عَدَدُ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا كَانَ مِثْلَ عَدَدِ الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ فَالْبَاءُ بِاثْنَيْنِ وَالطَّاءُ بِتِسْعَةٍ وَالدَّالُ بِأَرْبَعَةٍ صَارَ الْجَمِيعُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْبَاءُ بِاثْنَيْنِ وَالزَّايُ بِسَبْعَةٍ وَالْوَاوُ بِسِتَّةٍ صَارَ الْجَمِيعُ مِنْ الضِّلْعِ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ مِنْ الرُّكْنِ إلَى الرُّكْنِ تَقُولُ الْبَاءُ بِاثْنَيْنِ وَالْهَاءُ بِخَمْسَةٍ وَالْحَاءُ بِثَمَانِيَةٍ الْجَمِيعُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ وَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ وَهِيَ الْأَوْفَاقُ وَلَهَا كُتُبٌ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ كَيْفَ تُوضَعُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ مِنْ الِاسْتِوَاءِ ، وَهِيَ كُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَعْسَرَ ، وَالضَّوَابِطُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا حَسَنَةٌ لَا تَنْخَرِمُ إذَا عُرِفَتْ أَعْنِي فِي الصُّورَةِ الْوَضْعَ ، وَأَمَّا مَا نُسِبَ إلَيْهَا مِنْ الْآثَارِ قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ أَوْ عَدِيمَتُهُ .
( الْحَقِيقَةُ السَّابِعَةُ ) الْخَوَاصُّ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْحَقَائِقِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي أَجْزَاءِ هَذَا الْعَالَمِ أَسْرَارًا وَخَوَاصَّ عَظِيمَةً وَكَثِيرَةً حَتَّى لَا يَكَادَ يَعْرَى شَيْءٌ عَنْ خَاصِّيَّةٍ فَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ

كَإِرْوَاءِ الْمَاءِ ، وَإِحْرَاقِ النَّارِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَجْهُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الْأَفْرَادُ مِنْ النَّاسِ كَالْجُحْرِ وَالْمُكَرَّمِ ، وَمَا يُصْنَعُ مِنْهُ الْكِيمْيَاءُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ إنَّ بِالْهِنْدِ شَجَرًا إذَا عُمِلَ مِنْهُ دُهْنٌ وَدَهَنَ بِهِ إنْسَانٌ لَا يَقْطَعُ فِيهِ الْحَدِيدُ ، وَشَجَرًا إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ دُهْنٌ وَشُرِبَ عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ مَذْكُورَةٍ عِنْدَهُمْ فِي الْعَمَلِيَّاتِ اسْتَغْنَى عَنْ الْغِذَاءِ وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ وَاسْتَقَامَ ، وَلَا يَمُوتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَطَالَتْ حَيَاتُهُ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَقْتُلُهُ أَمَّا مَوْتُهُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ فَلَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا شَيْءٌ مُودَعٌ فِي أَجْزَاءِ الْعَالَمِ لَا يَدْخُلُهُ فِعْلُ الْبَشَرِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ كَامِلٌ مُسْتَقِلٌّ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
( الْحَقِيقَةُ الثَّامِنَةُ ) خَوَاصُّ النُّفُوسِ وَهُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُودَعَةِ فِي الْعَالَمِ فَطَبِيعَةُ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَّفِقُ بَلْ نَقْطَعُ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي اثْنَانِ مِنْ الْأَنَاسِيِّ فِي مِزَاجٍ وَاحِدٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا يُشْبِهُ أَحَدًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَلَوْ عَظُمَ الشَّبَهُ لَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ صِفَاتِ الصُّوَرِ فِي الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا تَابِعَةٌ لِلْأَمْزِجَةِ فَلَمَّا حَصَلَ التَّبَايُنُ فِي الصِّفَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَجَبَ التَّبَايُنُ فِي الْأَمْزِجَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَنَفْسٌ طُبِعَتْ عَلَى الشَّجَاعَةِ إلَى الْغَايَةِ وَأُخْرَى عَلَى الْجُبْنِ إلَى الْغَايَةِ وَأُخْرَى عَلَى الشَّرِّ إلَى الْغَايَةِ وَأُخْرَى عَلَى الْخَيْرِ إلَى الْغَايَةِ وَأُخْرَى أَيُّ شَيْءٍ عَظَّمَتْهُ هَلَكَ وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَيْنِ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْذِي بِالْعَيْنِ وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ بِهَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيدُ بِالْعَيْنِ الطَّيْرَ فِي الْهَوَى وَيَقْلَعُ الشَّجَرَ الْعَظِيمَ مِنْ الثَّرَى أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْعُدُولُ

وَغَيْرُهُمْ وَآخَرُ لَا يَصِلُ بِعَيْنِهِ إلَى ذَلِكَ بَلْ التَّمْرِيضُ اللَّطِيفُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ طُبِعَ عَلَى صِحَّةِ الْحَزْرِ فَلَا يُخْطِئُ الْغَيْبَ عِنْدَ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ الرَّمَلِ أَبَدًا وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي أَحْكَامِ النُّجُومِ أَبَدًا وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ الْكَتِفِ أَبَدًا ، وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ السَّيْرِ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ طُبِعَتْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يُطْبَعْ عَلَى غَيْرِهِ فَمَنْ تَوَجَّهَتْ نَفْسُهُ لِطَلَبِ الْغَيْبِ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْخَاصِّ أَدْرَكَتْهُ بِخَاصِّيَّتِهَا لَا ؛ لِأَنَّ النُّجُومَ فِيهَا شَيْءٌ ، وَلَا الْكَتِفَ ، وَلَا الرَّمَلَ ، وَلَا بَقِيَّتَهَا بَلْ هِيَ خَوَاصُّ نُفُوسٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَجِدُ صِحَّةَ أَعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ شَابٌّ فَإِذَا صَارَ كَبِيرًا فَقَدَهَا ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ نَقَصَتْ عَنْ تِلْكَ الْحِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الشُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ ذَهَبَتْ ، وَمِنْ خَوَاصِّ النُّفُوسِ مَا يَقْتُلُ فَفِي الْهِنْدِ جَمَاعَةٌ إذَا وَجَّهُوا أَنْفُسَهُمْ لِقَتْلِ شَخْصٍ مَاتَ وَيُشَقُّ صَدْرُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ قَلْبُهُ بَلْ انْتَزَعُوهُ مِنْ صَدْرِهِ بِالْهِمَّةِ وَالْعَزْمِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَيُجَرِّبُونَ بِالرُّمَّانِ فَيَجْمَعُونَ عَلَيْهِ هِمَمَهُمْ فَلَا تُوجَدُ فِيهِ حَبَّةٌ وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ كَثِيرَةٌ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى ، وَإِلَيْهِ مَعَ غَيْرِهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } الْحَدِيثَ ، إشَارَةً إلَى تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَالْخَلْقِ وَالسَّجَايَا وَالْقُوَى كَمَا أَنَّ الْمَعَادِنَ كَذَلِكَ .
( الْحَقِيقَةُ التَّاسِعَةُ ) الرُّقَى وَهِيَ أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَهَا الشِّفَاءُ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْأَدْوَاءِ وَالْأَسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ ، وَلَا يُقَالُ لَفْظُ الرُّقَى عَلَى مَا يُحْدِثُ ضَرَرًا بَلْ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ السِّحْرُ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ

كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمَا وَرُبَّمَا كَانَ كُفْرًا وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ الرُّقَى بِالْعَجَمِيَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ نَهَى عُلَمَاءُ مِصْرَ عَنْ الرُّقْيَةِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا فِيهَا مِنْ اللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ وَلِأَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْ الْخُطْبَةِ وَيَحْصُلُ بِهَا مَعَ ذَلِكَ مَفَاسِدُ .
( الْحَقِيقَةُ الْعَاشِرَةُ ) الْعَزَائِمُ وَهِيَ كَلِمَاتٌ يَزْعُمُ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُلْكَ وَجَدَ الْجَانَّ يَعْبَثُونَ بِبَنِي آدَمَ وَيَسْخَرُونَ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَخْطَفُونَهُمْ مِنْ الطُّرُقَاتِ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ الْجَانِّ مَلَكًا يَضْبِطُهُمْ عَنْ الْفَسَادِ فَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْجِنِّ فَمَنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَادِ وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ ، وَأَلْزَمَهُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُكْنَى الْقِفَارِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ دُونَ الْعَامِرِ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِمْ فَإِذَا عَثَا بَعْضُهُمْ ، وَأَفْسَدَ ذَكَرَ الْمُعَزِّمُ كَلِمَاتٍ تُعَظِّمُهَا تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَسْمَاءً أُمِرَتْ بِتَعْظِيمِهَا ، وَمَتَى أُقْسِمَ عَلَيْهَا بِهَا أَطَاعَتْ ، وَأَجَابَتْ وَفَعَلَتْ مَا طُلِبَ مِنْهَا فَالْمُعَزِّمُ يُقْسِمُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَلَكِ فَيُحْضِرُ لَهُ الْقَبِيلَ مِنْ الْجَانِّ الَّذِي طَلَبَهُ أَوْ الشَّخْصَ مِنْهُمْ فَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ إنَّمَا دَخَلَهُ الْخَلَلُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ ضَبْطِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ لَا يُدْرَى وَزْنُ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا يُشَكُّ فِيهِ هَلْ هُوَ بِالضَّمِّ أَوْ الْفَتْحِ أَوْ الْكَسْرِ وَرُبَّمَا أَسْقَطَ النُّسَّاخُ بَعْضَ حُرُوفِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَيَخْتَلُّ الْعَمَلُ فَإِنَّ الْمُقِيمَ لَفْظٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُهُ ذَلِكَ الْمَلِكُ فَلَا يُجِيبُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ

الْمُعَزِّمِ ، هَذِهِ حَقِيقَةُ الْعَزَائِمِ .
( الْحَقِيقَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) الِاسْتِخْدَامَاتُ وَهِيَ قِسْمَانِ الْكَوَاكِبُ وَالْجَانُّ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ إدْرَاكَاتٍ رُوحَانِيَّةٍ فَإِذَا قُوبِلَتْ الْكَوَاكِبُ بِبَخُورٍ خَاصٍّ وَلِبَاسٍ خَاصٍّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ خَاصَّةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ كَاللِّوَاطِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا الْكَوَاكِبَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَيُنَادِيهِ بِلَفْظِ الْإِلَهِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَى قَدْرِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ فِي كُتُبِهِمْ فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ مَعَ الْبَخُورِ مَعَ الْهَيْئَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ كَانَتْ رُوحَانِيَّةُ ذَلِكَ الْكَوَاكِبِ مُطِيعَةً لَهُ مَتَى أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَتْهُ لَهُ عَلَى زَعْمِهِمْ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مُلُوكِ الْجَانِّ عَلَى زَعْمِهِمْ إذَا عَمِلُوا لَهُمْ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْخَاصَّةَ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزْعُمُونَ بِالِاسْتِخْدَامِ وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِرُوحَانِيَّاتِ الْكَوَاكِبِ ، وَمُلُوكِ الْجَانِّ وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ فَلَا جَرَمَ لَا يَشْتَغِلُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ مُفْلِحٌ ، وَهَاهُنَا قَدْ انْتَهَى الْعَدَدُ إلَى أَحَدَ عَشَرَ وَكَانَ أَصْلُهُ عَشَرَ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَ بَعْضِ الْخَوَاصِّ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ فَاخْتَلَفَ الْعَدَدُ لِذَلِكَ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ السَّحَرِ الثَّلَاثَةِ ) : قُلْتُ ذَلِكَ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ إلَّا أَنَّ السِّحْرَ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْهُ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَوَائِدِ ، وَمِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَجَمِيعُهُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَائِزَةِ عَقْلًا فَلَا غَرْوَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَانِعٌ سَمْعِيٌّ مِنْ وُقُوعِ بَعْضِ تِلْكَ الْجَائِزَاتِ وَقَدْ سَبَقَتْ لَهُ حِكَايَةُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ ، وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ إلَّا التَّوْقِيفَ ، وَلَا أَعْرِفُ الْآنَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ ، وَلَا التَّوْقِيفَ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ قَالَ : ( ثُمَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ قَدْ تَقَعُ بِلَفْظٍ هُوَ كُفْرٌ أَوْ اعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ أَوْ فِعْلٍ هُوَ كُفْرٌ إلَى آخِرِهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ : ( الْحَقِيقَةُ الْخَامِسَةُ الطَّلْمَسَاتُ وَحَقِيقَتُهَا نَقْشُ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ فِي أَجْسَامٍ مِنْ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا تَحْدُثُ لَهَا آثَارٌ خَاصَّةٌ رُبِطَتْ بِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ فِي الطَّلْسَمِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَتَعَلُّقِهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْفَلَكِ وَجَعْلِهَا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ فَلَيْسَ كُلُّ النُّفُوسِ مَجْبُولَةً عَلَى ذَلِكَ ) .
قُلْتُ ذَكَرَ أَوْصَافَ الطَّلْسَمَاتِ وَرَسْمَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا ثُمَّ مَنْ اعْتَقَدَ لَهَا فِعْلًا وَتَأْثِيرًا فَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَعِلْمُهَا مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ

إمَّا مُطْلَقًا ، وَإِمَّا مَا يُؤَدِّي مِنْهَا إلَى مَضَرَّةٍ دُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَنْفَعَةٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ : ( الْحَقِيقَةُ السَّادِسَةُ الْأَوْفَاقُ وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى مُنَاسَبَاتِ الْأَعْدَادِ وَجَعْلِهَا عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ ) إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهَا قُلْتُ مَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ تَسَامَحَ فِي قَوْلِهِ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى مُنَاسَبَاتِ الْأَعْدَادِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمُسَاوَاةِ بِحَسَبِ جَمْعِ مَا فِي كُلِّ سَطْرٍ مِنْ بُيُوتِ مُرَبَّعَاتِهَا وَجَمِيعِ مَا فِي الْبُيُوتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْقُطْرِ قَالَ : ( الْحَقِيقَةُ السَّابِعَةُ الْخَوَاصُّ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْحَقَائِقِ ) إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قُلْتُ مَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ إلَّا مَا قَالَهُ مِنْ تَعْيِينِ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَنَسْبِهِ إلَى بَعْضِ الْأَحْجَارِ فَذَلِكَ شَيْءٌ سَمِعْنَاهُ ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ مِنْ سَقَمِهِ قَالَ : ( الْحَقِيقَةُ الثَّامِنَةُ خَوَاصُّ النُّفُوسِ وَهُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُودَعَةِ فِي الْعَالَمِ فَطَبِيعَةُ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَّفِقُ ) إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قُلْتُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ تَسَامُحٌ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَوَاصِّ ، وَهُوَ يُرِيدُ مُقْتَضَى الْأَمْزِجَةِ وَالطَّبَائِعِ ، وَلَفْظُ الْخَوَاصِّ لَا يُطْلِقُهُ أَهْلُ عِلْمِ الْخَوَاصِّ ، وَهُمْ الطَّبِيعِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ عَلَى أَمْرٍ لَا يَنْسُبُونَهُ إلَى الْأَمْزِجَةِ وَالطَّبَائِعِ ، وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْهِنْدِ لَا أَدْرِي صِحَّتَهُ مِنْ سَقَمِهِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ إشَارَةً إلَى تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَالْخَلْقِ وَالسَّجَايَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْحَقِيقَةِ التَّاسِعَةِ صَحِيحٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْعَاشِرَةِ مُمْكِنٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْعَزَائِمِ فِي الشَّرْعِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ

الرُّقِيِّ إذَا تَحَقَّقَتْ وَتَحَقَّقَ أَنْ لَا مَحْذُورَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ قَالَ قَالَ : ( الْحَقِيقَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الِاسْتِخْدَامَاتُ ) إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قُلْتُ لَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ حِكَايَةٌ وَقَدْ ذَكَرَ حُكْمَهَا قَالَ : ( وَهَاهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إلَى آخِرِ مَا حَكَاهُ عَنْ الْفَخْرِ ) قُلْتُ : لَا كَلَامَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ ، وَمَا قَالَهُ الْفَخْرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِبَارِ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ سَقَمِهِ ، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ ، وَبَيْنَ مَا هُوَ قَاعِدَةُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ) : وَهُوَ أَنَّ أَنْوَاعَ السِّحْرِ أَرْبَعَةٌ : ( الْأَوَّلُ ) السِّيمْيَاءُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُرَكَّبُ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ خَاصَّةٍ تُوجِبُ تَخَيُّلَاتٍ خَاصَّةً ، وَإِدْرَاكَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ أَوْ بَعْضِهَا لِحَقَائِقَ خَاصَّةٍ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ الْأَعْيَانِ عِنْدَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ وَقَدْ لَا تَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلْ تَخَيُّلٌ صِرْفٍ ، وَقَدْ يَسْتَوْلِي ذَلِكَ عَلَى الْأَوْهَامِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ الْوَهْمُ مُضِيَّ السِّنِينَ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَتَكَرُّرَ الْفُصُولِ وَتَخَيُّلَ السِّنِّ وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَارِبِ مِنْ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا وَيَسْلُبُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ مَعَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ فِي شَرْحِ رُشْدِ الْغَافِلِ : وَهَذَا تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِخِلَافِ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً خَرْقًا لِلْعَادَةِ فَقَدْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَارْتَفَعَ لِأَرْضٍ أُخْرَى سَكَنَ بِهَا وَتَزَوَّجَ وَحَصَلَتْ لَهُ عِدَّةُ أَوْلَادٍ فِي عِدَّةِ بُطُونٍ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ قُدِّرَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَوَجَدَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ فِي تِلْكَ الْجُمُعَةِ بِعَيْنِهَا ، وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ عَشْرَ خِتْمَاتٍ فِي شَوْطٍ وَاحِدٍ مِنْ الطَّوَافِ قِرَاءَةً مُرَتَّلَةً ، وَالطَّائِفُ يَسْمَعُ ذَلِكَ ، وَالشَّوْطُ الْوَاحِدُ قَدْرُ مَا يُقْرَأُ فِيهِ ثُمُنُ حِزْبٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ

كَثِيرٌ جِدًّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطَوِّلُ الزَّمَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ا هـ بِلَفْظِهِ .
( النَّوْعُ الثَّانِي ) الْهِيمْيَاءُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَ مُضَافًا لِلْآثَارِ السَّمَاوِيَّةِ مِنْ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَيَحْدُثُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَخَصَّصُوا هَذَا النَّوْعَ بِهَذَا الِاسْمِ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْحَقَائِقِ .
( النَّوْعُ الثَّالِثُ ) بَعْضُ خَوَاصِّ الْحَقَائِقِ أَيْ الذَّوَاتِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَغَيْرِهِمَا الْمُغَيِّرَةِ لِأَحْوَالِ النُّفُوسِ كَأَخْذِ سَبْعَةِ أَحْجَارٍ فَيُرْجَمُ بِهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِلَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعَضَّ مَا يُرْمَى بِهِ مِنْ الْأَحْجَارِ فَإِذَا عَضَّهَا كُلَّهَا لُقِطَتْ وَطُرِحَتْ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ظَهَرَتْ فِيهِ آثَارٌ عَجِيبَةٌ خَاصَّةٌ نَصَّ عَلَيْهَا السَّحَرَةُ وَكَجَمْعِ مُشْطِ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ ، وَمُشَاطَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ أَيْ مَا سَقَطَ مِنْ الشَّعْرِ أَوْ الْكَتَّانِ عِنْدَ الْمَشْطِ وَوِعَاءِ طَلْعِ الذَّكَرِ مِنْ النَّخْلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَاقِيرِ وَجَعْلِهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ أَوْ زِيرِ الْمَاءِ أَوْ فِي قُبُورِ الْمَوْتَى أَوْ فِي بَابٍ يُفْتَحُ إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْآثَارَ تَحْدُثُ عِنْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي طَبَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْآثَارِ عِنْدَ صِدْقِ الْعَزْمِ .
( النَّوْعُ الرَّابِعُ ) مَا يُحْدِثُ ضَرَرًا مِمَّا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ مِنْ نَحْوِ رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ رُبَّمَا كَانَ كُفْرًا فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الرُّقَى يُقَالُ لَهُ السِّحْرُ ، وَلَا يُقَالُ عَلَيْهِ لَفْظُ الرُّقَى فَمَتَى وَقَعَتْ أَنْوَاعُ السِّحْرِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ .
( الْأَوَّلُ ) اعْتِقَادٌ كَاعْتِقَادِ انْفِرَادِ الْكَوَاكِبِ أَوْ بَعْضِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُومُ السَّاحِرُ إذَا أَرَادَ سِحْرَ سُلْطَانٍ لِبُرْجِ الْأَسَدِ قَائِلًا

خَاضِعًا مُتَقَرِّبًا لَهُ وَيُنَادِيهِ يَا سَيِّدَاهُ يَا عَظِيمَاهُ أَنْتَ الَّذِي إلَيْك تَدِينُ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ وَالْأُسُودُ أَسْأَلُك أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانٍ الْجَبَّارِ .
( وَالثَّانِي ) لَفْظٌ كَالسَّبِّ الْمُتَعَلِّقِ بِمَنْ سَبُّهُ كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ .
( وَالثَّالِثُ ) فِعْلٌ كَإِهَانَةِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعْظِيمَهُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرًا لَا مِرْيَةَ فِيهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِاعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ أَوْ بِلَفْظٍ هُوَ كُفْرٌ أَوْ بِمَا هُوَ كُفْرٌ بِالْفِعْلِ كَإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَلَوْ حَرْفًا بِقَدَرٍ ، قَالَهُ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ فِي شَرْحِ رُشْدِ الْغَافِلِ ، وَمَتَى وَقَعَتْ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ بِشَيْءٍ مُبَاحٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرًا بَلْ إمَّا مُحَرَّمٌ إنْ كَانَ لَا يَرُوجُ ذَلِكَ الْمُبَاحُ إلَّا بِنَحْوِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ .
وَإِمَّا مُبَاحٌ إنْ رَاجَ بِدُونِ ذَلِكَ نَعَمْ ، وَيَكُونُ كُفْرًا مِنْ جِهَةٍ خَارِجَةٍ كَقَصْدِ إضْرَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي شَرْحِ سَيِّدِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى رُشْدِ الْغَافِلِ نَقْلًا عَنْ ابْن زِكْرِيٍّ فِي شَرْحِ النَّصِيحَةِ وَالْمُبَاحُ إمَّا فِعْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَضْعِ الْأَحْجَارِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهَا مُبَاحَةٌ ، وَإِمَّا قَوْلٌ مَعَ قُوَّةِ نَفْسٍ كَقَوْلِ مَنْ يَسْحَرُ الْحَيَّاتِ الْعِظَامَ مِنْ السَّحَرَةِ : مُوسَى بِعَصَاهُ مُحَمَّدٌ بِفُرْقَانِهِ يَا مُعَلِّمَ الصِّغَارِ عَلِّمْنِي كَيْفَ آخُذُ الْحَيَّةَ وَالْحَوِيَّةَ ، وَكَانَتْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إقْبَالُ الْحَيَّاتِ إلَيْهِ وَتَمُوتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ تُفِيقُ ثُمَّ يُعَاوِدُ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَيَعُودُ حَالُهَا كَذَلِكَ أَبَدًا فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُبَاحَةٌ لَيْسَ فِيهَا كُفْرُ وَقُوَّةُ نَفْسِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يَكْفُرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْصِي بِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ وَتَأْثِيرِهَا فِي قَتْلِ

الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بِتَصَدِّيهِ وَاكْتِسَابِهِ لِذَلِكَ بِمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ أَذِيَّتَهُ أَوْ قَتْلَهُ أَمَّا لَوْ تَصَدَّى صَاحِبُ الْعَيْنِ لِقَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ السِّبَاعِ الْمُهْلِكَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَائِعًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِصَابَتِهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي طُبِعَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، قَالَ الْأَصْلُ : وَأَمَّا جَمْعُ مُشْطٍ ، وَمُشَاقٍ وَكُوَرِ طَلْعٍ مِنْ النَّخْلِ وَجَعْلُ الْجَمِيعِ فِي بِئْرٍ لِسِحْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْبِئْرِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى أَوْ شَيْءٌ آخَرُ فَهِيَ أَمْرٌ مُبَاحٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فِي صُورَةٍ كَمَا فِي قَصْدِ إضْرَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
وَقَدْ تَقْتَضِي الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ وُجُوبَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى أَوْ إنْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْبِئْرِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى أَوْ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ نَظَرَ فِيهِ هَلْ يَقْتَضِي كُفْرًا أَوْ هُوَ مُبَاحٌ مِثْلُهَا وَلِلسَّحَرَةِ فُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِهِمْ يُقْطَعُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَعَاصِيَ ، وَلَا كُفْرًا كَمَا أَنَّ لَهُمْ مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ بِمَا حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُهُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَكُونُ سِحْرًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُفْرٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا الْإِطْلَاقُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا كُفْرٌ فَصَعْبٌ جِدًّا ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ

وَهَاهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيبِ فِي كِتَابِهِ الْمُلَخَّصِ : السِّحْرُ وَالْعَيْنُ لَا يَكُونَانِ مِنْ فَاضِلٍ ، وَلَا يَقَعَانِ وَلَا يَصِحَّانِ مِنْهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السِّحْرِ الْجَزْمَ بِصُدُورِ الْأَثَرِ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرْطِهَا الْجَزْمُ وَالْفَاضِلُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الْعُلُومِ يَرَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُوجَدَ وَأَنْ لَا تُوجَدَ فَلَا يَصِحُّ لَهُ عَمَلٌ أَصْلًا ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فَرْطِ التَّعْظِيمِ لِلْمَرْئِيِّ وَالنُّفُوسُ الْفَاضِلَةُ لَا تَصِلُ فِي تَعْظِيمِ مَا تَرَاهُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ السِّحْرُ إلَّا مِنْ الْعَجَائِزِ وَالتُّرْكُمَانِ أَوْ السُّودَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) السِّحْرُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَقَدْ يَمُوتُ الْمَسْحُورُ أَوْ يَتَغَيَّرُ طَبْعُهُ وَعَادَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ وَصَلَ إلَى بَدَنِهِ كَالدُّخَانِ وَنَحْوِهِ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ ، لَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ، وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ لَا يُعَلَّمُ ، وَلَا يَلْزَمُ صُدُورُ الْكُفْرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ قُرِءَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ أَوْ هُمَا مَلِكَانِ وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ السِّحْرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ صَعِدَا إلَى السَّمَاءِ وَقَوْلُهُمَا فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَسْتَعْمِلُهُ عَلَى وَجْهِ الْكُفْرِ كَمَا يُقَالُ خُذْ الْمَالَ ، وَلَا تَفْسُقْ بِهِ أَوْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } أَيْ مَا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ فَكَانَ

يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ } الْحَدِيثَ وَقَدْ سَحَرَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَارِيَةٌ اشْتَرَتْهَا وَكَانَ السِّحْرُ وَخَبَرُهُ مَعْلُومًا لِلصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَكَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْقَدَرِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ مَا يَشَاءُ عَقِيبَ كَلَامٍ مَخْصُوصٍ أَوْ أَدْوِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } فَهُوَ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَأَمْكَنَ السَّاحِرَ أَنْ يَدَّعِيَ بِهِ النُّبُوَّةَ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْخَوَارِقِ عَلَى اخْتِلَافِهَا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ السِّحْرَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْهَضْ بِالْخَيَالِ إلَى السَّعْيِ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ سِحْرٍ يَنْهَضُ إلَى كُلِّ الْمَقَاصِدِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ إضْلَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ مُمْكِنٌ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِضَبْطِ مَصَالِحِهِمْ فَمَا يَسَّرَ ذَلِكَ عَلَى السَّاحِرِ وَكَمْ مِنْ مُمْكِنٍ يَمْنَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْعِلْمِ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِكَمِ مَعَ أَنَّا سَنُبَيِّنُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَاتِ مِنْ وُجُوهٍ فَلَا يَحْصُلُ اللَّبْسُ وَالضَّلَالُ .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ سَحَرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَالزِّنْدِيقِ قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ أَظْهَرَهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ قَالَ أَصْبَغُ إنْ أَظْهَرَهُ ، وَلَمْ يَتُبْ فَقُتِلَ فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ اسْتَتَرَ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا آمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا فَهُمْ أَعْلَمُ .
قَالَ : وَمِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا الْقُدَمَاءِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ أَصْبَغُ يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ، وَلَا يَلِي قَتْلَهُ إلَّا السُّلْطَانُ فَإِنْ سَحَرَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ لَمْ يَلِ سَيِّدُهُ قَتْلَهُ بَلْ الْإِمَامُ ، وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ إلَّا أَنْ يَضُرَّ الْمُسْلِمَ بِسِحْرِهِ فَيَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ فَيُقْتَلُ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَإِنْ سَحَرَ أَهْلَ مِلَّتِهِ فَيُؤَدَّبُ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا فَيُقْتَلُ بِهِ وَقَالَ سَحْنُونٌ يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ كَالسَّابِّ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنْ ذَهَبَ لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ سِحْرًا ، وَلَمْ يُبَاشِرْ أُدِّبَ أَدَبًا شَدِيدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ ، وَإِنَّمَا رَكَنَ لِلْكَفَرَةِ .
قَالَ وَتَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ عِنْدَ مَالِكٍ كُفْرٌ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ لَمْ يَكْفُرْ وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ يَصِفُهُ فَإِنْ وَجَدْنَا فِيهِ مَا هُوَ كُفْرٌ كَالتَّقَرُّبِ لِلْكَوَاكِبِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُ مِنْهَا فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ لَمْ نَجِدْ فِيهِ كُفْرًا فَإِنْ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ فَهُوَ كُفْرٌ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِتَحْرِيمِهِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ إنْ قَالَ سِحْرِي يَقْتُلُ غَالِبًا وَقَتَلْتُ بِهِ قُتِلَ ، وَإِنْ قَالَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ

مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْإِقْرَارَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ قَالَ قَتَلْتُ بِسِحْرِي لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِمُثْقَلٍ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ قُتِلَ ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَدَلِيلُ الْمَالِكِيَّةِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ بِتَعَلُّمِهِ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْسَامِ وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ أَوْ نَقُولُ هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِإِخْبَارِ الشَّرْعِ فَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ مَنْ دَخَلَ مَوْضِعَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدْنَا كُفْرَ الدَّاخِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدُّخُولُ كُفْرًا ، وَإِنْ أَخْبَرَنَا هُوَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ نُصَدِّقْهُ قَالَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ أَيْ دَلِيلُ الْكُفْرِ لَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ كَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى فَنَحْكُمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُفْرًا لَا سِيَّمَا وَتَعَلُّمُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّمْرَ أَوْ ضَرْبَ الْعُودِ ، وَالسِّحْرُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْكُفْرِ كَقِيَامِهِ إذَا أَرَادَ سِحْرَ سُلْطَانٍ لِبُرْجِ الْأَسَدِ قَائِلًا خَاضِعًا مُتَقَرِّبًا لَهُ وَيُنَادِيهِ يَا سَيِّدَاهُ يَا عَظِيمَاهُ أَنْتَ الَّذِي إلَيْك تَدِينُ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ وَالْأُسُودُ أَسْأَلُك أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانٍ الْجَبَّارِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ تَعَلُّمَ صَرِيحِ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَإِنَّ الْأُصُولِيَّ يَتَعَلَّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِيَحْذَرَ مِنْهُ ، وَلَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ وَمَأْخَذِهِ ، فَالسِّحْرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ كُفْرًا ، وَلَوْ قَالَ إنْسَانٌ إنَّمَا تَعَلَّمْت كَيْفَ يُكْفَرُ بِاَللَّهِ لِأَجْتَنِبَهُ

أَوْ كَيْفَ الزِّنَا ، وَأَنْوَاعِ الْفَوَاحِشِ لِأَجْتَنِبَهَا لَمْ يَأْثَمْ قُلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَعْتَمِدُونَ أَشْيَاءَ تَأْبَى قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ تَكْفِيرَهُمْ بِهَا كَفِعْلِ الْحِجَارَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ عَقَاقِيرَ وَيَجْعَلُونَهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ أَوْ زِيرِ الْمَاءِ أَوْ فِي قُبُورِ الْمَوْتَى أَوْ فِي بَابٍ يُفْتَحُ إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْآثَارَ تَحْدُثُ عِنْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي طَبَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ صِدْقِ الْعَزْمِ فَلَا يُمْكِنُنَا تَكْفِيرُهُمْ بِجَمْعِ الْعَقَاقِيرِ ، وَلَا بِوَضْعِهَا فِي الْآبَارِ ، وَلَا بِاعْتِقَادِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوهُ لَا يَنْخَرِمُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ كَاعْتِقَادِ الْأَطِبَّاءِ حُصُولَ الْآثَارِ عِنْدَ شُرْبِ الْعَقَاقِيرِ لِخَوَاصِّ طَبَائِعَ تِلْكَ الْعَقَاقِيرِ وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ ، وَلَا كُفْرَ بِغَيْرِ مُكْتَسِبٍ ، وَأَمَّا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَلَا رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَا .
وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تِلْكَ الْآثَارَ عِنْدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْكَوَاكِبِ خَطَأً كَمَا إذَا اعْتَقَدَ طَبِيبٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الصَّبْرِ وَالسَّقَمُونْيَا عَقْلَ الْبَطْنِ وَقَطْعَ الْإِسْهَالِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ .
وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِذَلِكَ فَلَا ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالشَّيَاطِينَ بِقُدْرَتِهَا لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا هُوَ

مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِقْلَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِقُدْرَتِهَا دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا لَا نُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ بِذَلِكَ لَا نُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرِ كَانَ كُفْرًا ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَيَوَانِ فِي الْقَتْلِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْعِ فِي الْعَادَةِ مُشَاهَدٌ مِنْ السِّبَاعِ وَالْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُشْتَرَى أَوْ زُحَلَ يُوجِبُ شَقَاوَةً أَوْ سَعَادَةً فَإِنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ لَا صِحَّةَ لَهُ وَقَدْ عُبِدَتْ الْبَقَرُ وَالشَّجَرُ وَالْحِجَارَةُ وَالثَّعَابِينُ فَصَارَتْ هِيَ الشَّائِبَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَاَلَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا مَذْهَبُ الصَّائِبَةِ وَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا سِيَّمَا إنْ صَرَّحَ بِنَفْيِ مَا عَدَاهَا وَبِهَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ كُفْرٌ بَلْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُفَصِّلُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اعْتَقَدَ السَّاحِرُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَخَّرَ لَهُ بِسَبَبِ عَقَاقِيرِهِ مَعَ خَوَاصِّ نَفْسِهِ الشَّيَاطِينَ صَعُبَ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَمُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْفُتْيَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ بَعْدَ عَمَلِ هَذِهِ الْعَقَاقِيرِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَالشَّرْعُ لَا يُخْبِرُ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ فَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ فِي الْحَالِ بِكُفْرٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ كَمَا أَنَّا لَا

نَجْعَلُهُ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ بِإِيمَانٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ وَهُوَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الْآنَ بَلْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَتْبَعَ أَسْبَابَهَا وَتَحَقُّقَهَا لَا تَوَقُّعَهَا وَإِنْ قَطَعْنَا بِوُقُوعِهَا كَمَا أَنَّا نَقْطَعُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا نُرَتِّبُ مُسَبَّبَاتِهَا قَبْلَهَا ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا .
فَاَلَّذِي يَسْتَقِيمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُهُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَكُونُ سِحْرًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُفْرٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا نَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَالصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنْ عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ

بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَيْشِ الْكُفْرِ فَيَقْتُلُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ هَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ أَوْ يَصْنَعُهُ مَحَبَّةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا .
وَقَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ كَافِرٌ قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ ، وَلَا يُخْبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ إنْسَانٍ بِالْكُفْرِ إلَّا إذَا كَفَرَ وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قُلْنَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ السِّحْرِ لَا مُحَالٌ فِيهِ غَايَتُهُ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ بِالْقَوَاعِدِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُنَا فِي الْعُمُومَاتِ .
وَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ ، وَأَيُّ دَلِيلٍ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ أَوْ تَعْلِيمَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكُفْرِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } نَمْنَعُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ { كَفَرُوا } بَلْ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةً لِلْأُولَى سَلَّمْنَا أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لَهَا لَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَعْتَقِدُ مُوجِبَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا عَلَّمَ الْمُسْلِمَ دِينَهُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مُوجِبَهُ ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ إذَا عَلَّمَ تِلْمِيذَهُ الْمُسْلِمَ دِينَ النَّصْرَانِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ وَيَتَأَمَّلَ فَسَادَ قَوَاعِدِهِ فَلَا يَكْفُرُ الْمُعَلِّمُ ، وَلَا الْمُتَعَلِّمُ ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ ، وَأَمَّا جَعْلُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مُطْلَقًا كُفْرًا

فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلِنَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى غَوْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : السَّاحِرُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ ، وَلَا يُسْتَتَابُ سَحَرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَالزِّنْدِيقِ قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ أَظْهَرَهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ قَالَ أَصْبَغُ إنْ أَظْهَرَهُ ، وَلَمْ يَتُبْ فَقُتِلَ فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ اسْتَتَرَ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا آمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا فَهُمْ أَعْلَمُ .
قَالَ : وَمِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الْقُدَمَاءِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السَّحَرِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ أَصْبَغُ يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ، وَلَا يَلِي قَتْلَهُ إلَّا السُّلْطَانُ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَعْيٌ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ) قُلْتُ : ذَلِكَ كُلُّهُ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ : الطُّرْطُوشِيُّ وَدَلِيلُ الْمَالِكِيَّةِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ بِتَعْلِيمِهِ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْسَامِ وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ أَوْ نَقُولُ هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِإِخْبَارِ الشَّرْعِ فَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ مَنْ دَخَلَ مَوْضِعَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدْنَا كُفْرَ الدَّاخِلِ ، وَأَنَّ الدُّخُولَ كُفْرٌ ، وَإِنْ أَخْبَرَنَا هُوَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ نُصَدِّقْهُ قَالَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ أَيْ دَلِيلُ الْكُفْرِ لَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ كَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّرَدُّدِ لِلْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى فَنَحْكُمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُفْرًا لَا سِيَّمَا وَتَعَلُّمُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّمْرَ أَوْ ضَرْبَ الْعُودِ وَالسِّحْرَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْكُفْرِ كَقِيَامِهِ إذَا أَرَادَ سِحْرَ سُلْطَانٍ لِبُرْجِ

الْأَسَدِ قَائِلًا خَاضِعًا مُتَقَرِّبًا لَهُ وَيُنَادِيهِ يَا سَيِّدَاهُ يَا عَظِيمَاهُ أَنْتَ الَّذِي إلَيْك تَدِينُ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ وَالْأُسُودُ أَسْأَلُك أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانِ الْجَبَّارِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ تَعَلُّمَ صَرِيحِ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَإِنَّ الْأُصُولِيَّ يَتَعَلَّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِيَتَحَذَّرَ مِنْهُ ، وَلَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ وَمَأْخَذِهِ فَالسِّحْرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ كُفْرًا ، وَلَوْ قَالَ إنْسَانٌ إنَّمَا تَعَلَّمْتُ كَيْفَ يُكْفَرُ بِاَللَّهِ لِأَجْتَنِبَهُ أَوْ كَيْفَ الزِّنَا وَأَنْوَاعَ الْفَوَاحِشِ لِأَجْتَنِبَهَا لَمْ يَأْثَمْ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَعْتَمِدُونَ أَشْيَاءَ تَأْبَى قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَكْفِيرَهُمْ بِهَا كَفِعْلِ الْحِجَارَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ عَقَاقِيرَ وَيَجْعَلُونَهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ أَوْ زِيرِ الْمَاءِ أَوْ قُبُورِ الْمَوْتَى أَوْ فِي بَابٍ يَفْتَحُ إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْآثَارَ تَحْدُثُ عِنْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي طَبَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ صِدْقِ الْعَزْمِ فَلَا يُمْكِنُنَا تَكْفِيرُهُمْ بِجَمْعِ الْعَقَاقِيرِ ، وَلَا بِوَضْعِهَا فِي الْآبَارِ ، وَلَا بِاعْتِقَادِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوهُ لَا يَنْخَرِمُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ كَاعْتِقَادِ الْأَطِبَّاءِ حُصُولَ الْآثَارِ عِنْدَ شُرْبِ الْعَقَاقِيرِ لِخَوَاصِّ طَبَائِعِ تِلْكَ الْعَقَاقِيرِ وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ ، وَلَا كُفْرَ بِغَيْرِ مُكْتَسِبٍ .
وَأَمَّا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْعَلُ ، وَلَا رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنَّمَا

جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْكَوَاكِبِ خَطَأً كَمَا إذَا اعْتَقَدَ طَبِيبٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الصَّبْرِ وَالسَّقَمُونْيَا عَقْلَ الْبَطْنِ وَقَطْعَ الْإِسْهَالِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ، وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِذَلِكَ فَلَا .
وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالشَّيَاطِينَ بِقُدْرَتِهَا لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِقْلَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِقُدْرَتِهَا دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا لَا نُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ بِذَلِكَ لَا نُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرِ كَانَ كُفْرًا وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْقَتْلِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْعِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ مُشَاهَدٌ مِنْ السِّبَاعِ وَالْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُشْتَرَى أَوْ زُحَلَ يُوجِبُ شَقَاوَةً أَوْ سَعَادَةً فَإِنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ لَا صِحَّةَ لَهُ وَقَدْ عُبِدَتْ الْبَقَرُ وَالشَّجَرُ وَالْحِجَارَةُ وَالثَّعَابِينُ فَصَارَتْ هَذِهِ الشَّائِبَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَاَلَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا نَحْتَاجُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا مَذْهَبُ الصَّائِبَةِ وَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا سِيَّمَا إنْ صَرَّحَ بِنَفْيِ مَا عَدَاهَا وَبِهَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ كُفْرٌ بَلْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُفَصِّلُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اعْتَقَدَ السَّاحِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُ بِسَبَبِ عَقَاقِيرِهِ

مَعَ خَوَاصِّ نَفْسِهِ الشَّيَاطِينَ صَعُبَ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَمُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْفُتْيَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ بَعْدَ عَمَلِ هَذِهِ الْعَقَاقِيرِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالشَّرْعُ لَا يُخْبِرُ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ فَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ فِي الْحَالِ بِكُفْرٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ كَمَا أَنَّا لَا نَجْعَلُهُ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ بِإِيمَانٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ وَهُوَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الْآنَ بَلْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا وَتُحَقِّقُهَا لَا تُوقِعُهَا .
وَإِنْ قَطَعْنَا بِوُقُوعِهَا كَمَا أَنَّا نَقْطَعُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا نُرَتِّبُ مُسَبَّبَاتِهَا قَبْلَهَا ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا فَاَلَّذِي يَسْتَقِيمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُهُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ يَكُونُ سِحْرًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُفْرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ

الْإِنْسَانُ كَمَا نَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَالصَّابِئَةُ يَعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنْ عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجَيْشِ الْكُفْرِ فَيَقْتُلُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ .
فَهَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ أَوْ يَصْنَعُهُ مَحَبَّةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ الْمَلِكِ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا .
قَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ كَافِرٌ قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ ، وَلَا يُخْبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ إنْسَانٍ بِالْكُفْرِ إلَّا إذَا كَفَرَ ، وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ ، وَقَوْلُهُمْ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قُلْنَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ السِّحْرِ لَا مُحَالٌ فِيهِ غَايَتُهُ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ بِالْقَوَاعِدِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُنَا فِي الْعُمُومَاتِ .
وَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ ، وَأَيُّ دَلِيلٍ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ أَوْ تَعْلِيمَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكُفْرِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } فَالْجَوَابُ عَنْهُ قَوْلُهُ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } نَمْنَعُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ { كَفَرُوا } بَلْ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةً لِلْأُولَى سَلَّمْنَا أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ

لَهَا لَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ ، وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَعْتَقِدُ مُوجِبَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا عَلَّمَ الْمُسْلِمَ دِينَهُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مُوجِبَهُ .
وَأَمَّا عِلْمُ الْمُسْلِمِ دِينَ النَّصْرَانِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ وَيَتَأَمَّلَ فَسَادَ قَوَاعِدِهِ فَلَا يَكْفُرُ الْمُعَلِّمُ وَلَا الْمُتَعَلِّمُ وَهَذَا التَّقْيِيدُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ .
وَأَمَّا جَعْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ مُطْلَقًا كُفْرًا فَخِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى غَوْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قُلْتُ نَقَلْتُ هَذَا الْفَصْلَ بِجُمْلَتِهِ لِافْتِقَارِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إلَى مُقَدِّمَةٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ تَمْهِيدُهَا وَهِيَ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرٌ أَيَّ أَمْرٍ كَانَ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ مَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءً أَمْ إخْبَارًا فَإِذَا تَمَهَّدْت الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ مِنْ أَنَّ دَلِيلَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْله تَعَالَى { ، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ بِتَعَلُّمِهِ قَوْلٌ صَحِيحٌ وَاسْتِدْلَالُ الْمَالِكِيَّةِ بِذَلِكَ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ قَوْلِهِ { فَلَا تَكْفُرْ } عَلَى الْكُفْرِ بِغَيْرِ التَّعْلِيمِ لِعَدَمِ الْتِئَامِ قَوْلِهِ { فَلَا تَكْفُرْ } عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْكُفْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ التَّعَلُّمِ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ نَصٌّ فِي أَنَّ التَّعَلُّمَ هُوَ الْكُفْرُ وَلَكِنْ يَبْقَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ قَبْلَنَا ، وَخِطَابٌ عَنْ غَيْرِنَا فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي الْمَذْهَبِ .
وَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا مِنْ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى

تَغْيِيرِ الْأَجْسَامِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ إلَّا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَاهُ الشِّهَابُ عَنْ الْفَخْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَا أَدْرِي صِحَّةَ ذَلِكَ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْجَزْمَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ كُفْرٌ قَوْلٌ صَحِيحٌ لِنِسْبَةِ التَّأْثِيرِ لِغَيْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا قَالَهُ مِنْ تَسْوِيغِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ الدَّاخِلِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ مَنْ دَخَلَ مَوْضِعَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدْنَا كُفْرَ الدَّاخِلِ ، وَأَنَّ الدُّخُولَ كُفْرٌ ، صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ مَا إنَّهُ كُفْرٌ مُخْبِرًا أَوْ مُنْشِئًا فَذَلِكَ الْأَمْرِ كُفْرٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ أَيْ دَلِيلُ الْكُفْرِ إلَى قَوْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُفْرًا ، قَوْلٌ صَحِيحٌ أَيْضًا كَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَى الْكَنَائِسِ ، وَقَوْلُهُ ، وَلَا سِيَّمَا وَتَعَلُّمُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ إلَى قَوْلِهِ أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانٍ الْجَبَّارِ يَعْنِي أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِتَحْصِيلِ ثَمَرَتِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِ أَهْلِ السِّحْرِ ذَلِكَ بَلْ الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْأَثَرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ وَقَوْلُهُ وَاحْتَجُّوا إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَأْثَمْ قُلْتُ : تَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ مَقْصُودُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ تَعَلُّمُ الْكُفْرِ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِتَصْحِيحٍ يَقْتَضِيهِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا إلَى قَوْلِهِ طَبَائِعُ تِلْكَ الْعَقَاقِيرِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِجَمْعِ الْعَقَاقِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْجَمْعُ وَسَائِرُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ اجْتِلَابُ الْآثَارِ الْمَطْلُوبَةِ

مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَقْصُودًا بِهَا ذَلِكَ فَهُوَ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ دَلِيلِ الْكُفْرِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ ، وَلَا كُفْرَ بِغَيْرِ مُكْتَسِبٍ .
وَأَمَّا اعْتِقَادُهُمْ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي رَبَطَ اللَّهُ بِهَا تِلْكَ الْآثَارَ عِنْدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ ) قُلْتُ لَا أَعْرِفُ صِحَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ رَبْطِ تِلْكَ الْآثَارِ بِخَوَاصِّ النُّفُوسِ .
قَالَ : ( فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ خَطَأً كَمَا إذَا اعْتَقَدَ طَبِيبٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الصَّبْرِ السَّقَمُونْيَا عَقْلَ الْبَطْنِ وَقَطْعَ الْإِسْهَالِ ، وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِذَلِكَ فَلَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالشَّيَاطِينَ بِقُدْرَتِهَا لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِقْلَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِقُدْرَتِهَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا لَا نُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ بِذَلِكَ لَا نُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ ) قُلْتُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَفْعَلُ بِقُدْرَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَتِهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَفْعَلُ بِقُدْرَتِهَا مُبَاشَرَةً مَعَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَتِهَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ .
قَالَ : ( وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرِ كَانَ كُفْرًا ) قُلْتُ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ مُسْتَغْنِيَةٌ بِقُدْرَتِهَا عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ .
قَالَ : ( وَأُجِيبُ عَنْ

هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْقَتْلِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْعِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ مُشَاهَدَةٌ مِنْ السِّبَاعِ وَالْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ ) قُلْتُ لَيْسَ تَأْثِيرُ الْحَيَوَانِ بِمُشَاهَدٍ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لَا غَيْرُ .
قَالَ ( وَأَمَّا كَوْنُ الْمُشْتَرَى أَوْ زُحَلَ يُوجِبُ شَقَاوَةً أَوْ سَعَادَةً فَإِنَّمَا ذَلِكَ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ لَا صِحَّةَ لَهُ ) قُلْتُ ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَقَدْ عُبِدَتْ الْبَقَرُ وَالشَّجَرُ وَالْحِجَارَةُ وَالثَّعَابِينَ فَصَارَتْ هَذِهِ الشَّائِبَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ ) قُلْتُ هُوَ كَمَا قَالَ مَوْضِعُ نَظَرٍ .
قَالَ : ( وَاَلَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا مَذْهَبُ الصَّابِئَةِ وَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا سِيَّمَا إنْ صَرَّحَ بِنَفْيِ مَا عَدَاهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ : ( وَبِهَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ كُفْرٌ بَلْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُفَصِّلُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُ بِسَبَبِ عَقَاقِيرِهِ مَعَ خَوَاصِّ نَفْسِهِ الشَّيَاطِينَ صَعُبَ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ ) قُلْتُ الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ التَّفْصِيلِ ، وَأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا كُفْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ السِّحْرِ كُفْرًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَذَلِكَ كُفْرٌ بِالْوَضْعِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ : ( وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَمُشْكِلٌ إلَى قَوْلِهِ خِلَافُ الْوَاقِعِ ) قُلْتُ إذَا ثَبَتَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ ، وَأَنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَلَا إشْكَالَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ شَرْطِ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَعْمَلَ سِحْرًا

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِحُّ إيمَانُهُ إمَّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إنْ كَانَ السِّحْرُ بِنَفْسِهِ كُفْرًا ، وَإِمَّا ظَاهِرًا ، إنْ كَانَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ .
قَالَ : ( فَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا إلَى وَقَوْلِهِ ، وَلَا نُرَتِّبُ مُسَبَّبَاتِهَا قَبْلَهَا ) قُلْتُ إنْ أَرَادُوا ذَلِكَ فَمُشْكِلٌ كَمَا قَالَهُ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ ) قُلْتُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ ) قُلْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَنِدٌ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَمَا قَالَهُ عَنْ الطُّرْطُوشِيِّ وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ هُوَ تَعَلُّمُهُ لَا يُرِيدُ أَنْ لَا تَعَلُّمَ لَهُ سِوَاهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ تَعَلُّمُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ خَاصَّةً إمَّا لِتَجَنُّبٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَالْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَعَلَّمَهُ قَاصِدًا بِتَعَلُّمِهِ تَحْصِيلَ أَثَرِهِ مَتَى احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّهُ كُفْرٌ .
قَالَ : ( وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ ) قُلْتُ مُرَادُ الطُّرْطُوشِيِّ تَعَلَّمُهُ لِتَجْرِبَةِ حُصُولِ أَثَرِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ فَنَقُولُ إذَا عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ فِيهِ نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ عَمَلَ السِّحْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ تَحْصِيلُ أَثَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ كُفْرًا أَوْ دَلِيلُ الْكُفْرِ بِوَضْعِ الشَّارِعِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا سَبَقَ وَتَوَهَّمَ كَوْنَهُ إذَا كَانَ أَثَرُهُ أَمْرًا مُبَاحًا الْتِبَاسُهُ فِي الشَّرْعِ كَانَ عِلْمُهُ مُبَاحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قَالَ : ( فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا ) قُلْتُ إذَا صَحَّ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَمْرٌ

وَضْعِيٌّ شَرْعِيٌّ وَثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا إشْكَالَ .
قَالَ : ( وَقَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْع مَنْ دَخَلَ الدَّارَ إلَخْ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ صَحِيحٌ ، وَلَيْسَ فَرْضُ مُحَالٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءَ شَرْعٍ لَا إخْبَارًا عَنْ كُفْرِ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ فَذَلِكَ هُوَ الْمُحَالُ .
قَالَ : ( وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ ) قُلْتُ : مَنْعُهُ مَمْنُوعٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ شُبْهَةِ التَّخْصِيصِ هُوَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ لَيْسَ بِتَفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى كَفَرُوا مَمْنُوعٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ غَيْرُ لَائِقٍ بِفَصَاحَةِ الشَّارِعِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ السِّحْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ كُفْرًا وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ أَنَّ مُعَلِّمَ الْكُفْرِ وَمُتَعَلِّمَهُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ صَحِيحٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ مُطْلَقًا كُفْرٌ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ، صَحِيحٌ أَيْضًا .

وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ : السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ ، وَلَا يُسْتَتَابُ سَحَرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَالزِّنْدِيقِ قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَظْهَرَهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ قَالَ أَصْبَغُ إنْ أَظْهَرَهُ ، وَلَمْ يَتُبْ فَقُتِلَ فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ اسْتَتَرَ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا آمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا فَهُمْ أَعْلَمُ قَالَ وَتَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ عِنْدَ مَالِكٍ كُفْرٌ قَالَ وَدَلِيلُ الْمَالِكِيَّةِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ بِتَعَلُّمِهِ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْسَامِ .
وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ أَوْ نَقُولُ هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِإِخْبَارِ الشَّرْعِ فَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ مَنْ دَخَلَ مَوْضِعَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدْنَا كُفْرَ الدَّاخِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدُّخُولُ كُفْرًا وَإِنْ أَخْبَرَنَا هُوَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ نُصَدِّقْهُ قَالَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ أَيْ دَلِيلُ الْكُفْرِ لَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ كَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى فَنَحْكُمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُفْرًا لَا سِيَّمَا وَتَعَلُّمُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّمْرَ أَوْ ضَرْبَ الْعُودِ ، وَالسِّحْرُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْكُفْرِ كَقِيَامِهِ إذَا أَرَادَ سِحْرَ سُلْطَانٍ لِبُرْجِ الْأَسَدِ قَائِلًا خَاضِعًا مُتَقَرِّبًا لَهُ وَيُنَادِيهِ يَا سَيِّدَاهُ يَا عَظِيمَاهُ أَنْتَ الَّذِي إلَيْك تَدِينُ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ وَالْأُسُودُ أَسْأَلُك أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانٍ الْجَبَّارِ ا هـ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلِينَ أَنَّ مِنْ

أَقْسَامِ السِّحْرِ فِعْلَ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمِنْهُ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَيُسَمَّى التُّوَلَةَ ، وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ وَالْكُلُّ حَرَامٌ كُفْرٌ قَالَهُ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السِّحْرُ مَعْصِيَةٌ إنْ قَتَلَ بِهِ السَّاحِرُ قُتِلَ ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ .
( أَحَدِهِمَا ) أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ السِّحْرَ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتُنْسَبُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أَيْ مِنْ السِّحْرِ { ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أَيْ بِقَوْلِ السِّحْرِ { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ وَهَارُوتُ وَمَارُوتَ يَقُولَانِ { إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ ا هـ .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ إطْلَاقِ أَنَّ كُلَّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا كُفْرٌ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَعْتَمِدُونَ أَشْيَاءَ تَأْبَى قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ تَكْفِيرَهُمْ بِهَا كَفِعْلِ الْحِجَارَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ عَقَاقِيرَ وَيَجْعَلُونَهَا فِي الْأَنْهَارِ أَوْ الْآبَارِ أَوْ زِيرِ الْمَاءِ أَوْ قُبُورِ الْمَوْتَى أَوْ فِي بَابٍ يُفْتَحُ إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْآثَارَ تَحْدُثُ عِنْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي طَبَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ صِدْقِ الْعَزْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُمْكِنُنَا تَكْفِيرُهُمْ بِجَمْعِ الْعَقَاقِيرِ ، وَلَا بِوَضْعِهَا فِي الْآبَارِ ، وَلَا بِاعْتِقَادِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ الْآثَارِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوهُ لَا يَنْخَرِمُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ

الِاعْتِقَادُ كَاعْتِقَادِ الْأَطِبَّاءِ حُصُولَ الْآثَارِ عِنْدَ شُرْبِ الْعَقَاقِيرِ لِخَوَاصِّ طَبَائِعَ تِلْكَ الْعَقَاقِيرِ ، وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ ، وَلَا كُفْرَ بِغَيْرِ مُكْتَسِبٍ ، وَأَمَّا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَلَا رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ خَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ الَّتِي رَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْكَوَاكِبِ خَطَأً كَمَا إذَا اعْتَقَدَ طَبِيبٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الصَّبْرِ وَالسَّقَمُونْيَا عَقْلَ الْبَطْنِ وَقَطْعَ الْإِسْهَالِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ، وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِذَلِكَ فَلَا .
وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهَا لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِقْلَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِقُدْرَتِهَا دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا لَا تُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ بِذَلِكَ لَا نُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ وَتَفْرِيقُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرِ كَانَ كُفْرًا مَدْفُوعٌ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَيَوَانِ فِي الْقَتْلِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْعِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ مُشَاهَدٌ مِنْ السِّبَاعِ وَالْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِ هَذَا .
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُشْتَرَى أَوْ زُحَلَ يُوجِبُ شَقَاوَةً أَوْ سَعَادَةً فَإِنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ لَا صِحَّةَ لَهُ وَقَدْ عُبِدَتْ الْبَقَرُ وَالشَّجَرُ وَالْحِجَارَةُ وَالثَّعَابِينُ فَصَارَتْ هَذَا الشَّائِبَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَاَلَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الصَّابِئَةِ وَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا سِيَّمَا

إنْ صَرَّحَ بِنَفْيِ مَا عَدَاهَا .
وَبِهَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ ضَعْفُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخَيُّلٌ وَتَمْوِيهٌ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُفَصِّلُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اعْتَقَدَ السَّاحِرُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ بِسَبَبِ عَقَاقِيرِهِ مَعَ خَوَاصِّ نَفْسِهِ ضَعُفَ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَمُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْفُتْيَا ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ بَعْدَ عَمَلِ هَذِهِ الْعَقَاقِيرِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالشَّرْعُ لَا يُخْبِرُ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ ، وَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ فِي الْحَالِ بِكُفْرٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ كَمَا أَنَّا لَا نَجْعَلُ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الْآنَ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ بِإِيمَانٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ بَلْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا وَتَحَقُّقَهَا لَا تَوَقُّعَهَا وَإِنْ قَطَعْنَا بِوُقُوعِهَا كَمَا أَنَّا نَقْطَعُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَلَا تَتَرَتَّبُ مُسَبَّبَاتُهَا قَبْلَهَا ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا ، وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ ، وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا

لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا تَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَالصَّابِئَةَ مُعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا عَمِلَ السَّحَرُ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ لِيَقْتُلَ جَيْشُ الْكُفْرِ مَلِكَهُمْ بِهِ أَوْ لِيُوقِعَ بِهِ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ ، وَمَلِكِهِمْ فَهَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا .
وَأَمَّا قَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ كَافِرٌ قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ إذْ لَا يُخْبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ إنْسَانٍ بِالْكُفْرِ إلَّا إذَا كَفَرَ وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُمْ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُسَلَّمٌ إذْ لَا مُحَالَ فِي حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ إنَّمَا الْمُحَالُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ التَّخْصِيصُ فِي عُمُومِهَا بِالْقَوَاعِدِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْعُمُومَاتِ ، وَهُوَ مَا نَقُولُ أَوْ لَا يَدْخُلُ كَمَا يَقُولُونَ فَيَلْزَمُ التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ أَوْ تَعَلُّمَهُ لَا يَكُونُ بِالْكُفْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ

النَّاسَ السِّحْرَ } خَبَرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ { كَفَرُوا } وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ ، وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَعْتَقِدُ مُوجِبَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا عَلَّمَ الْمُسْلِمَ دِينَهُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مُوجِبَهُ ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ إذَا عَلَّمَ تِلْمِيذَهُ الْمُسْلِمَ دِينَ النَّصْرَانِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ وَيَتَأَمَّلَ فَسَادَ قَوَاعِدِهِ فَلَا يَكْفُرُ الْمُعَلِّمُ ، وَلَا الْمُتَعَلِّمُ ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ ، وَأَمَّا جَعْلُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مُطْلَقًا كُفْرًا فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى غَوْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْأَصْلِ .
وَفِي التَّبْصِرَةِ قَالَ ابْنُ الْغَرْسِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْمَرْأَةِ تُقِرُّ أَنَّهَا عَقَدَتْ زَوْجَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهَا تُقْتَلُ ، وَلَا تُنَكَّلُ قَالَ ، وَلَوْ سَحَرَ نَفْسَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ فِيمَنْ يَعْقِدُ الرِّجَالَ عَنْ النِّسَاءِ يُعَاقَبُ ، وَلَا يُقْتَلُ ا هـ أَنْ لَيْسَ كُلُّ سِحْرٍ كُفْرًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَأَيَّدَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ إبْقَاءَ وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } عَلَى عُمُومِهَا ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ { كَفَرُوا } وَتَسْوِيغُ الطُّرْطُوشِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ بِوُجُوهٍ .
( الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) أَنَّ قَاعِدَةَ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَيْ أَمْرٍ كَانَ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ

الْعَلِيَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ مَا هُوَ كُفْرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءً أَمْ إخْبَارًا يَقْتَضِي صِحَّةَ قَوْلِ الطُّرْطُوشِيِّ إنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ مَوْضِعَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدْنَا كُفْرَ الدَّاخِلِ ، وَأَنَّ الدُّخُولَ كُفْرٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءَ شَرِيعَةٍ أَوْ إخْبَارًا عَنْ إنْشَاءِ شَرْعٍ لَا إخْبَارًا عَنْ كُفْرِ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ حَتَّى يَكُونَ مُحَالٌ ، وَصِحَّةُ قَوْلِهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ أَيْ دَلِيلُ الْكُفْرِ إلَى قَوْلِهِ ، وَإِنْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُفْرًا فَهِيَ كَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَالتَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ .
( الْوَجْهِ الثَّانِي ) أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ بِتَعْلِيمِهِ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ قَوْلِهِ { فَلَا تَكْفُرْ } عَلَى الْكُفْرِ بِغَيْرِ التَّعْلِيمِ لِعَدَمِ الْتِئَامٍ .
قَوْلِهِ { فَلَا تَكْفُرْ } مَعَ مَا قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْكُفْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ التَّعَلُّمِ فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ نَصٌّ فِي أَنَّ التَّعَلُّمَ هُوَ الْكُفْرُ ، وَلَكِنْ يَبْقَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ قَبْلَنَا وَخِطَابٌ عَنْ غَيْرِنَا فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ فِي الْمَذْهَبِ .
( الْوَجْهِ الثَّالِثِ ) أَنْ قَوْله تَعَالَى { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } لَا يَلِيقُ بِفَصَاحَةِ الشَّارِعِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ بَلْ اللَّائِقُ بِهَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ كُفْرًا ، وَلَا نُسَلِّمُ بِغَيْرِ حَمْلِهِ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ السِّحْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ كُفْرًا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ .
( الْوَجْهِ

الرَّابِعِ ) أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ خَاصَّةً إمَّا لِتَجَنُّبٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتَعَلَّمَهُ قَاصِدًا بِتَعَلُّمِهِ تَحْصِيلَ أَثَرِهِ مَتَى احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الشِّهَابِ لَا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ بِجَمْعِ الْعَقَاقِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْجَمْعُ وَسَائِرُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهَا اجْتِلَابُ الْآثَارِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَقْصُودًا بِهَا ذَلِكَ فَهُوَ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ دَلِيلَ الْكُفْرِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ لَا سِيَّمَا وَتَعَلُّمُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ إلَى قَوْلِهِ أَنْ تُذَلِّلَ لِي قَلْبَ فُلَانٍ الْجَبَّارِ ، يَعْنِي أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِتَحْصِيلِ ثَمَرَتِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِ أَهْلِ السِّحْرِ ذَلِكَ بَلْ الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْأَثَرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ وَقَوْلُهُ وَاحْتَجُّوا إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَأْثَمْ الْمَالِكِيَّةُ تَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَقْصُودُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ تَعَلُّمُ الْكُفْرِ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِتَصْحِيحٍ يَقْتَضِيهِ وَقَوْلُ الشِّهَابِ إنَّ مَنْ قَالَ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ مُطْلَقًا كُفْرٌ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ صَحِيحٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ إنَّ مُعَلِّمَ الْكُفْرِ ، وَمُتَعَلِّمَهُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَمْرٌ وَضْعِيٌّ شَرْعِيٌّ وَثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ ، وَأَنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَلَا إشْكَالَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ شَرْطِ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَعْمَلَ سِحْرًا وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِحُّ إيمَانُهُ إمَّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إنْ كَانَ السِّحْرُ بِنَفْسِهِ كُفْرًا ، وَإِمَّا ظَاهِرًا فَقَطْ

إنْ كَانَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَسَقَطَ قَوْلُ الشِّهَابِ فِي تَوْجِيهِ الْإِشْكَالِ : لِأَنَّا نَعْلَمُ إلَى قَوْلِهِ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ .
قَالَ : وَلَا أَعْرِفُ مَا قَالُوهُ مِنْ رَبْطِ اللَّهِ تِلْكَ الْآثَارِ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَقَوْلُ الشِّهَابِ ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهَا لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ فَكَمَا لَا نُكَفِّرُ الْمُعْتَزِلَةَ بِذَلِكَ لَا نُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَفْعَلُ بِقُدْرَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَتِهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَفْعَلُ بِقُدْرَتِهَا مُبَاشَرَةً مَعَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقُدْرَتِهَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ : وَقَوْلُهُ وَتَفْرِيقُ بَعْضِهِمْ إلَى قَوْلِهِ كَانَ كُفْرًا إنْ كَانَ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ مُسْتَغْنِيَةٌ بِقُدْرَتِهَا عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ الْحَيَوَانِ بِمُشَاهَدٍ ، وَإِنَّمَا الْمُشَاهَدُ التَّأَثُّرُ لَا غَيْرُ قَالَ : وَفِي قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ ، نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ عَمَلَ السِّحْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ تَحْصِيلُ أَثَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ كُفْرًا أَوْ دَلِيلُ الْكُفْرِ بِوَضْعِ الشَّارِعِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا سَبَقَ وَتَوَهُّمُ كَوْنِهِ إذَا كَانَ أَثَرُهُ أَمْرًا مُبَاحًا التَّلَبُّسَ بِهِ فِي الشَّرْعِ كَانَ عَمَلُهُ مُبَاحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ هَذَا مَا رَدَّهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ كَلَامِ الْأَصْلِ ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَصَحَّحَهُ قُلْتُ فَتَحَصَّلَ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِنَا فِي السِّحْرِ ثَلَاثَةٌ .
( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ كُفْرٌ مُطْلَقًا ، وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَعَلَيْهِمَا فَيُقْتَلُ إذَا عَمِلَ

ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ عَمَلَهُ وَلَكِنْ ذَهَبَ إلَى مَنْ يَعْمَلُهُ لَهُ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ يُؤَدَّبُ أَدَبًا شَدِيدًا كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ كَانَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ وَغَيْرُ كُفْرٍ إنْ كَانَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ الْأَصْلُ ، وَفِي تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُمَا كُفْرٌ إنْ كَانَا بِقَصْدِ تَحْصِيلِ أَثَرِهِ مَتَى احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ مَا أَيَّدَهُ ابْنُ الشَّاطِّ الثَّانِي أَنَّهُمَا كُفْرٌ إنْ كَانَا بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونَانِ قُرْبَةً وَهُوَ مَا أَيَّدَهُ الْأَصْلُ ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ مُطْلَقًا كُفْرٌ فَقَدْ عَلِمْتَ اتِّفَاقَ الْأَصْلِ وَابْنِ الشَّاطِّ عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَيَنْبَنِي الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي السِّحْرِ عَلَى مَا حَكَاهُ فِي التَّبْصِرَةِ عَنْ ابْنِ الْغَرْسِ مِنْ قَوْلِهِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ السَّاحِرُ حَلَّ السِّحْرِ عَنْ الْمَسْحُورِ أَمْ لَا فَكَرِهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ سِحْرٍ وَقَالَ لَا يَعْمَلُ ذَلِكَ إلَّا سَاحِرٌ ، وَلَا يَجُوزُ إتْيَانُ السَّاحِرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ أَتَى إلَى كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ نَوْعًا مِنْ الْعِلَاجِ فَيُخَصِّصُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَمَّا مَا حَكَاهُ فِيهَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْغَرْسِ وَانْظُرْ هَلْ يَجُوزُ السِّحْرُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ نَفْسَيْنِ كَالْمَرْأَةِ تَبْغِي إصْلَاحَ زَوْجِهَا وَاسْتِئْلَافَهُ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ فَإِنَّمَا يُرَادُ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ لَهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ ا هـ .
فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَيَّدَهُ الْأَصْلُ فَافْهَمْ .

( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ قَالَ لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ عَلَى حَلِّ الْمَرْبُوطِ وَالْمَسْحُورِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ عَلَى إخْرَاجِ الْجَانِّ مِنْ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْوَرَعِ الدُّخُولُ فِيهِ وَنُسِبَ نَقْلُ ذَلِكَ إلَى الِاسْتِغْنَاءِ لِابْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ .
ا هـ بِلَفْظِهِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ، وَأَنَّهُ يَلْتَبِسُ بِالْمُعْجِزَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَأَنَّهُ يَلْتَبِسُ بِتِسْعِ حَقَائِقَ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ الَّتِي جَمَعَهَا سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ فِي نَظْمِهِ رُشْدِ الْغَافِلِ وَشَرْحِهَا وَهِيَ أَنْوَاعُهُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالْخَوَاصُّ الْمَنْسُوبَةُ لِلنُّفُوسِ وَالطَّلْسَمَاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِخْدَامَات يَفْتَقِرُ إلَى تَوْضِيحِ جِهَاتِهِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي ثَلَاثِ مَقَاصِدَ .
( الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ ) الْقَدَرِيَّةُ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ .
( الْجِهَةِ الْأُولَى ) قَالَ الْأَصْلُ : اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي السِّحْرِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ إلَّا رُقًى أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى عَادَتَهُ أَنْ يَخْلُقَ عِنْدَهَا افْتِرَاقَ الْمُتَحَابِّينَ ا هـ .
يُرِيدُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْآخَرُ إنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِالرُّقَى الْمَذْكُورَةِ كَذَلِكَ يَكُونُ بِغَيْرِهَا وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَا حَكَاهُ عَنْ الطُّرْطُوشِيِّ فِي تَعْلِيقِهِ مِنْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إنْ قَطَعَ أُذُنًا ثُمَّ أَلْصَقَهَا أَوْ أَدْخَلَ السَّكَاكِينَ فِي بَطْنِهِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا سِحْرًا ، وَقَدْ لَا يَكُونُ سِحْرًا ا هـ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَلَامُ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ كَلَامٌ إلَخْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالرُّقَى الْمُكَفِّرَةِ فَافْهَمْ .
( الْجِهَةِ

الثَّانِيَةِ ) هَلْ يُؤَثِّرُ فِي الْمَسْحُورِ فَيَمُوتُ أَوْ يَتَغَيَّرُ طَبْعُهُ وَعَادَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ وَهُوَ مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ إنْ وَصَلَ إلَى بَدَنِهِ كَالدُّخَانِ وَنَحْوِهِ ، وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَانِ .
( الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ ) هَلْ يَقَعُ فِيهِ مَا لَيْسَ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ كَأَنْ يَصِلَ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ ، وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ وَقَلْبِ الْجَمَادِ حَيَوَانًا وَعَكْسِهِ كَمَا يَقَعُ فِيهِ مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْبَشَرِ أَوْ لَا يَقَعُ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْبَشَرِ قَوْلَانِ الثَّانِي لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي قَالَ : وَلَا يَقَعُ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْبَشَرِ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ ، وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ ، وَمِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : قَالَ وَقَدْ يَقَعُ التَّغْيِيرُ بِهِ وَالضَّنِي ، وَرُبَّمَا أَتْلَفَ ، وَأَوْجَبَ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْبَلَهَ وَفِيهِ أَدْوِيَةٌ مِثْلُ الْمَرَائِرِ وَالْأَكْبَادِ وَالْأَدْمِغَةِ فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ عَادَةً ، وَأَمَّا طُلُوعُ الزَّرْعِ فِي الْحَالِ أَوْ نَقْلُ الْأَمْتِعَةِ وَالْقَتْلُ عَلَى الْفَوْرِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمُ وَنَحْوُهُ وَعِلْمَ الْغَيْبِ فَمُمْتَنِعٌ ، وَإِلَّا لَمْ يَأْمَنْ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَدَاوَةِ وَقَدْ وَقَعَ الْقَتْلُ وَالْعِنَادُ مِنْ السَّحَرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهَا أَحَدٌ هَذَا الْمَبْلَغَ ، وَقَدْ وَصَلَ الْقِبْطُ فِيهِ إلَى الْغَايَةِ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ مِنْ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّغَيُّبِ وَالْهُرُوبِ عِنْدَ قَطْعِ فِرْعَوْنَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ .
وَمِنْهُمْ الْعَلْقَمِيُّ قَالَ كَمَا فِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْحَقُّ أَنَّ لِبَعْضِ أَسْبَابِ السِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَفِي الْبَدَنِ بِالْأَلَمِ وَالسَّقَمِ ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ أَنَّ الْجَمَادَ يَنْقَلِبُ

حَيَوَانًا وَعَكْسَهُ بِسِحْرِ السَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ا هـ .
وَحَكَى ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَائِنَا جَوَّزُوا أَنْ يَسْتَدِقَّ جِسْمُ السَّاحِرِ حَتَّى يَلِجَ فِي الْكَوَّةِ وَيَجْرِيَ عَلَى خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ وَيَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ وَيَقْتُلَ غَيْرَهُ .
( وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ) أَيَّدَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْبَشَرِ ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَائِزَةِ عَقْلًا فَلَا غَرْوَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَانِعٌ سَمْعِيٌّ مِنْ وُقُوعِ بَعْضِ تِلْكَ الْجَائِزَاتِ .
قَالَ : وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ الَّذِي حَكَاهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ إلَّا التَّوْقِيفُ ، وَلَا أَعْرِفُ الْآنَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ ، وَلَا التَّوْقِيفَ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ : وَوُصُولُهُ إلَى الْقَتْلِ وَتَغْيِيرِ الْخَلْقِ وَنَقْلِ الْإِنْسَانِ إلَى صُورَةِ الْبَهَائِمِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ كَانَ الْقِبْطُ فِي أَيَّامِ مَلِكَةِ مِصْرَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ الْمُسَمَّاةِ بِدَلُوكَا وَضَعُوا السِّحْرَ فِي الْبَرَايَا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ عَسَاكِرَ الدُّنْيَا فَأَيُّ عَسْكَرٍ قَصَدَهُمْ ، وَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مِنْ قَلْعِ الْأَعْيُنِ أَوْ ضَرْبِ الرِّقَابِ تَخَيَّلَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَوْ رِجَالُهُ أَنَّهُ وَقَعَ بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ فِي مَوْضِعِهِ فَتُحَاشِيهِمْ الْعَسَاكِرُ فَأَقَامُوا سِتَّمِائَةِ سَنَةً ، وَالنِّسَاءُ هُنَّ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ بِمِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَجُيُوشِهِ كَمَا حَكَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ فَمِنْ وُجُوهٍ .
( الْأَوَّلِ ) أَنَّهُمْ تَابُوا فَمَنَعَتْهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِسْلَامُ الْعَوْدَةَ إلَى مُعَاوَدَةِ الْكُفْرِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ تِلْكَ الْآثَارُ وَرَغِبُوا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى

وَلِذَلِكَ قَالُوا { لَا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَصَلُوا لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ السَّحَرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِأَجْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
( الثَّالِثِ ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَدْ عَلَّمَهُ بَعْضُ السَّحَرَةِ حُجُبًا وَمَوَانِعَ يُبْطِلُ بِهَا سِحْرَ السَّحَرَةِ اعْتِنَاءً بِهِ وَالْحُجُبُ وَالْمُبْطِلَاتُ فِيهِ مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِهِ قَالَ وَدَلِيلُ أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْإِجْمَاعُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ، وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ لَا يُعَلَّمُ ، وَلَا يَلْزَمُ صُدُورُ الْكُفْرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ قُرِئَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ أَوْ هُمَا مَلَكَانِ ، وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ السِّحْرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ صَعِدَا إلَى السَّمَاءِ ، وَقَوْلُهُمَا { فَلَا تَكْفُرْ } أَيْ لَا تَسْتَعْمِلْهُ عَلَى وَجْهِ الْكُفْرِ كَمَا يُقَالُ خُذْ الْمَالَ ، وَلَا تَفْسُقْ بِهِ أَوْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } أَيْ مَا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ فَكَانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ } الْحَدِيثَ وَقَدْ سَحَرَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَارِيَةٌ اشْتَرَتْهَا وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَتْهَا وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ كَانَ السِّحْرُ وَخَبَرُهُ مَعْلُومًا لِلصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَكَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْقَدَرِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ مَا يَشَاءُ عَقِبَ كَلَامٍ

مَخْصُوصٍ أَوْ أَدْوِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ .
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ احْتَجُّوا بِهِمَا .
( فَالْأَوَّلُ ) قَوْله تَعَالَى يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَهُوَ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ السِّحْرَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْهَضْ بِالْخَيَالِ إلَى السَّعْيِ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ سِحْرٍ يَنْهَضُ إلَى كُلِّ الْمَقَاصِدِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَأَمْكَنَ السَّاحِرُ أَنْ يَدَّعِيَ بِهِ النُّبُوَّةَ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْخَوَارِقِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ إضْلَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ مُمْكِنٌ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِضَبْطِ مَصَالِحِهِمْ فَمَا يَسَّرَ ذَلِكَ عَلَى السَّاحِرِ وَكَمْ مِنْ مُمْكِنٍ يَمْنَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْعَالَمِ ؛ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِكَمِ مَعَ أَنَّنَا سَنُبَيِّنُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَاتِ مِنْ وُجُوهٍ فَلَا يَحْصُلُ اللَّبْسُ وَالضَّلَالُ .
ا هـ بِزِيَادَةٍ مَا .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ فِي الدِّينِ ، وَأَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْتَبَسَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْمُحَصِّلِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ وَفَرْقَانِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَمَّا الْفَرْقُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ أَنَّ السِّحْرَ وَالطَّلْمَسَاتِ وَالسِّيمِيَاءَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بَلْ هِيَ عَادَةٌ جَرَتْ مِنْ اللَّهِ بِتَرْتِيبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لَمْ تَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ لِلْقَلِيلِ مِنْهُمْ كَالْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْهَا الْكِيمْيَاءُ وَالْحَشَائِشِ الَّتِي يُعْمَلُ مِنْهَا النَّفْطُ الَّذِي يُحْرِقُ الْحُصُونَ وَالصُّخُورَ ، وَالدُّهْنُ الَّذِي مَنْ ادَّهَنَ بِهِ لَمْ يَقْطَعْ فِيهِ حَدِيدٌ وَالسَّمَنْدَلُ وَالْحَيَوَانُ الَّذِي لَا تَعْدُو عَلَيْهِ النَّارُ ، وَلَا يَأْوِي إلَّا فِيهَا هَذِهِ كُلُّهَا وَنَحْوُهَا فِي الْعَالَمِ أُمُورٌ غَرِيبَةٌ قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ وَإِذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وُجِدَتْ عَلَى الْعَادَةِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُ السِّحْرِ الَّذِي أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ حَصَلَ وَكَذَلِكَ السِّيمِيَاءُ وَغَيْرُهَا كُلُّهَا جَارِيَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ أَمَّا الْمُعْجِزَاتُ فَلَيْسَ لَهَا سَبَبٌ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا فَلَا يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ عَقَارًا يَفْلِقُ الْبَحْرَ أَوْ يُسَيِّرُ الْجِبَالَ فِي الْهَوَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نُرِيدُ بِالْمُعْجِزَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُنَا فَرْقٌ عَظِيمٌ .
غَيْرَ أَنَّ الْجَاهِلَ بِالْأَمْرَيْنِ يَقُولُ ، وَمَا يُدْرِينِي أَنَّ هَذَا لَا سَبَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ

فَيُقَالُ لَهُ الْفَرْقَانِ الْأَخِيرَانِ يُذْهِبَانِ عَنْك هَذَا اللَّبْسَ : الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا : أَنَّ السِّحْرَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ حَتَّى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْحِرَفِ إذَا اسْتَدْعَاهُمْ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَرُّجِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاءُ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ فَيَصْنَعُونَ صُنْعَهُمْ لِمَنْ يُسَمَّى لَهُمْ فَإِنْ حَضَرَ غَيْرُهُمْ لَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا رَآهُ الَّذِينَ سُمُّوا أَوَّلًا ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } يَنْظُر إلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَفَارَقَتْ بِذَلِكَ السِّحْرَ وَالسِّيمِيَاءَ ، وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ يَظْهَرُ لِلْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ .
الْفَرْقُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقَيْنِ : الظَّاهِرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الضَّرُورِيِّ الْمُحْتَفَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ الْمَفْقُودَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَنَجِدُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلَ النَّاسِ نَشْأَةً وَمَوْلِدًا ، وَمَزِيَّةً وَخَلْقًا وَخُلُقًا وَصِدْقًا وَأَدَبًا ، وَأَمَانَةً وَزَهَادَةً ، وَإِشْفَاقًا وَرِفْقًا وَبُعْدًا عَنْ الدَّنَاءَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّمْوِيهِ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ثُمَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا بِحَارًا فِي الْعُلُومِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعُلُومِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَسَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَكَلَّمُ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ مِنْ الْعِشَاءِ إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْرُسُوا وَرَقَةً ، وَلَا قَرَءُوا كِتَابًا ، وَلَا تَفَرَّغُوا مِنْ الْجِهَادِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةٌ إلَّا أَصْحَابُهُ لَكَفَوْهُ فِي إثْبَات نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ فَرْطِ صِدْقِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ ، وَأَعْدَاؤُهُ ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي صِغَرِهِ الْأَمِينُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَعَرَفَهَا مِنْ صَاحِبِهَا جَزَمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ جَزْمًا قَاطِعًا وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى حَقٌّ وَلِذَلِكَ { لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِنُبُوَّتِهِ قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ صَدَقْتَ } مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أَيْ مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالصِّدْقِ ، وَأَبُو بَكْرٍ صَدَّقَ بِهِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ .
وَأَمَّا السَّاحِرُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ إلَّا مَمْقُوتًا حَقِيرًا بَيْنَ النَّاسِ ، وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ وَأَتْبَاعَ كُلِّ مُبْطِلٍ عَدِيمِينَ لِلطَّلَاوَةِ لَا بَهْجَةَ عَلَيْهِمْ وَالنُّفُوسُ تَنْفِرُ مِنْهُمْ ، وَلَا فِيهِمْ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ أَثَرٌ فَهَذِهِ فُرُوقٌ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَهِيَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لَا يَبْقَى مَعَهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَبْسٌ وَلَا شَكٌّ لِجَاهِلٍ ، وَلَا عَالِمٍ .

.
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ إلَخْ ) : قُلْتُ : إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْدُثُ عَنْ السِّحْرِ فَهُوَ مُعْتَادٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ خَارِقٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ ، وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ جَمِيعُهُمْ يُجَوِّزُونَ خَرْقَ الْعَوَائِدِ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ إلَّا أَنْ يَقُولَ بِالْجَوَازِ وَعَدَمِ الْوُقُوعِ فَلَا أَدْرِي مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ قَالَ ( الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَنَّ السِّحْرَ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ إلَخْ ) قُلْتُ : إنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ جَرَّبَهُ وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ التَّجْرِبَةُ وَقَلَّ مَنْ يُجَرِّبُهُ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ إلَخْ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ وَكَمَا هُوَ أَعْنِي الِاتِّصَافَ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ دُونَ الْمَذْمُومَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ فَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَبَيْنَهُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ بِالتَّحَدِّي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ تَحَدِّي الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ وَالتَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَحَدِّيَ الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَانِ صَحِيحٌ .

الْمَقْصِدُ الثَّانِي ) السِّحْرُ عَلَى الْجُمْلَةِ نَوْعَانِ الْأَوَّلُ مَا هُوَ غَيْرُ خَارِقٍ لِلْعَوَائِدِ وَالثَّانِي مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَوَائِدِ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَالنَّوْعُ الثَّانِي هُوَ مَا عَرَّفَهُ الْمُنَاوِيُّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ هُوَ مُزَاوَلَةُ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ لِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ ا هـ .
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مُزَاوَلَةُ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيبِ فِي كِتَابِهِ الْمُلَخَّصِ السِّحْر وَالْعَيْنِ لَا يَكُونَانِ مِنْ فَاضِلٍ ، وَلَا يَقَعَانِ وَلَا يَصِحَّانِ مِنْهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السِّحْرِ الْجَزْمَ بِصُدُورِ الْأَثَرِ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرْطِهَا الْجَزْمُ وَالْفَاضِلُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الْعُلُومِ يَرَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُوجَدَ ، وَأَنْ لَا تُوجَدَ فَلَا يَصِحُّ لِفَاضِلٍ أَصْلًا وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فَرْطِ التَّعْظِيمِ لِلْمَرْئِيِّ ، وَالنَّفْسُ الْفَاضِلَةُ لَا تَصِلُ فِي تَعْظِيمِ مَا تَرَاهُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ السِّحْرُ إلَّا مِنْ الْعَجَائِزِ وَالتُّرْكُمَانِ أَوْ السُّودَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ .
ا هـ .
لَكِنْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ الْفَخْرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِبَارِ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ سَقَمِهِ ، قَالَ وَقَوْلُ الشِّهَابِ فِي الْفَرْقِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ وَالطَّلْسَمَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحَقَائِقِ وَنَحْوِهَا أَنَّ الْمُعْجِزَةَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْعَالَمِ عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ بِلَا سَبَبٍ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا كَفَلْقِ الْبَحْرِ وَسَيْرِ الْجِبَالِ فِي الْهَوَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي الْعَالَمِ عَقَارًا يَفْلِقُ الْبَحْرَ أَوْ يُسَيِّرُ الْجِبَالَ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا السِّحْرُ ، وَأَنْوَاعُهُ وَالطَّلْسَمَاتُ وَنَحْوُهَا فَهِيَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْعَالَمِ

بِأَسْبَابٍ فِي الْعَادَةِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لَمْ تَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ لِقَلِيلٍ مِنْهُمْ فَهِيَ كَالْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْهَا الْكِيمْيَاءُ أَيْ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ أَعْلَى مِنْهَا كَتَصْيِيرِ النُّحَاسِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً إلَّا أَنَّهُمَا دُونَ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَعَمْ مَا كَانَ فِيهِ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ يَكُونُ ذَهَبُهُ وَفِضَّتُهُ جَيِّدًا كَالْخِلْقَةِ ، وَقَدْ رُئِيَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ فِي تَرِكَةِ أَيْرَمَ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ وَتَرِكَةِ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْكِيمْيَاءِ إذَا كَانَ الْمَعْمُولُ بِهَا لَا يَتَبَدَّلُ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَا فِي شَرْحِ رُشْدِ الْغَافِلِ لِلْعَلَوِيِّ ، وَالْحَشَائِشُ الَّتِي يُعْمَلُ مِنْهَا النِّفْطُ الَّذِي يَحْرِقُ الْحُصُونَ وَالصُّخُورَ ، وَالدُّهْنُ الَّذِي مَنْ ادَّهَنَ بِهِ لَمْ يَقْطَعْ فِيهِ حَدِيدٌ وَكَالسَّمَنْدَلِ الْحَيَوَانُ الَّذِي لَا تَعْدُو عَلَيْهِ النَّارُ ، وَلَا يَأْوِي إلَّا فِيهَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ فِي الْعَالَمِ ، وَإِذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وُجِدَتْ عَلَى الْعَادَةِ فِيهَا فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بَلْ هِيَ عَادَةٌ جَرَتْ مِنْ اللَّهِ بِتَرْتِيبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا .
ا هـ .
مَعَ زِيَادَةٍ إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْدُثُ عَنْ السِّحْرِ فَهُوَ مُعْتَادٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ خَارِقٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ جَمِيعَهُمْ يُجَوِّزُونَ خَرْقَ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ إلَّا أَنْ يَقُولَ بِالْجَوَازِ وَعَدَمِ الْوُقُوعِ فَلَا أَدْرِي مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ ا هـ .
قُلْتُ : وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَابْنِ الشَّاطِّ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ خَارِقٌ أَوْ لَا بَلْ جَمِيعُ مَا يَحْدُثُ عَنْهُ مُعْتَادٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَارِّ فِي أَنَّهُ هَلْ يَقَعُ فِيهِ مَا لَيْسَ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ كَالْمَقْدُورِ لَهُمْ أَوْ لَا يَقَعُ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ

مَقْدُورٌ لَهُمْ وَعَلَى مَا لِابْنِ الشَّاطِّ فَلَا يَصْلُحُ فَارِقًا مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْقٌ وَاقِعٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْفَرْقَانِ الْبَاقِيَانِ فِي كَلَامِهِ اللَّذَانِ قَالَ أَنَّهُمَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لَكِنْ لَا كَمَا قَالَ بَلْ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْأَمْرِ .
( الْفَرْقُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ السِّحْرَ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ حَتَّى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْحِرَفِ إذَا اسْتَدْعَاهُمْ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَرُّجِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاءُ كُلِّ مَنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ فَيَصْنَعُونَ صُنْعَهُمْ لِمَنْ يُسَمَّى لَهُمْ فَإِنْ حَضَرَ غَيْرُهُمْ لَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا رَآهُ الَّذِينَ سُمُّوا أَوَّلًا بِخِلَافِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهَا تَظْهَرُ لِمَنْ عُمِلَتْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } أَيْ كُلِّ نَاظِرٍ يَنْظُرُ إلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ جَرَّبَهُ وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ التَّجْرِبَةُ وَقَلَّ مَنْ يُجَرِّبُهُ ا هـ .
( وَالْفَرْقُ الثَّانِي ) أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الضَّرُورِيِّ الْمُحْتَفَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَتَجِدُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلَ النَّاسِ نَشْأَةً ، وَمَوْلِدًا ، وَمَزِيَّةً وَخَلْقًا وَخُلُقًا وَصِدْقًا وَأَدَبًا ، وَأَمَانَةً وَزَهَادَةً وَإِشْفَاقًا وَرِفْقًا وَبُعْدًا عَنْ الدَّنَاءَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّمْوِيهِ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتِهِ } ثُمَّ أَصْحَابُهُ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالنُّورِ وَالْبَرَكَةِ وَالتَّقْوَى وَالدِّيَانَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ كَانُوا بِحَارًا فِي الْعُلُومِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ وَالسِّيَاسِيَّاتِ وَالْعُلُومِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ

حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَسَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَكَلَّمُ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ مِنْ الْعِشَاءِ إلَى أَنَّ طَلَعَ الْفَجْرُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْرُسُوا وَرَقَةً ، وَلَا قَرَءُوا كِتَابًا ، وَلَا تَفَرَّغُوا مِنْ الْجِهَادِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ ، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةٌ إلَّا أَصْحَابُهُ لَكَفَوْهُ فِي إثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ فَرْطِ صِدْقِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَكَانَ يُسَمَّى فِي صِغَرِهِ الْأَمِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ بِحَيْثُ إنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا وَعَرَفَهَا مِنْ صَاحِبِهَا جَزَمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ جَزْمًا قَاطِعًا وَجَزَمَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى حَقٌّ وَلِذَلِكَ { لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِنُبُوَّتِهِ قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ صَدَقْتَ } مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أَيْ مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالصِّدْقِ ، وَأَبُو بَكْرٍ صَدَّقَ بِهِ .
وَأَمَّا السَّاحِرُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ إلَّا مَمْقُوتًا حَقِيرًا بَيْنَ النَّاسِ ، وَلَا نَجِدُ أَصْحَابَهُ ، وَأَتْبَاعَهُ ، وَأَتْبَاعَ كُلِّ مُبْطِلٍ إلَّا عَدِيمِينَ الطَّلَاوَةِ لَا بَهْجَةَ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَنْفِرُ النُّفُوسُ مِنْهُمْ ، وَلَا فِيهِمْ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ أَثَرٌ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ فَكَمَا أَنَّ الِاتِّصَافَ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ دُونَ الْمَذْمُومَةِ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ كَذَلِكَ هُوَ الْفَرْقُ

بَيْنَ الْوَلِيِّ وَبَيْنَهُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ بِالتَّحَدِّي مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ تَحَدِّيَ الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَحَدِّيَ الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ فَيُفَرَّقُ النَّبِيُّ مِنْ الْوَلِيِّ بِالتَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ ا هـ .
وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ كَمَا فِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْفَرْقُ أَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ بِمُعَانَاةِ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لِلسَّاحِرِ مَا يُرِيدُ ، وَالْكَرَامَةُ لَا تَحْتَاجُ لِذَلِكَ بَلْ إنَّمَا تَقَعُ غَالِبًا اتِّفَاقًا ، وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَتَمْتَازُ عَنْ الْكَرَامَةِ بِالتَّحَدِّي أَيْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ ) السِّحْرُ لَمَّا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادٍ وَلَا يَكُونُ إلَّا كُفْرًا ، أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَيَكُونَانِ تَارَةً كُفْرًا وَتَارَةً غَيْرَ كُفْرٍ وَعَمَّا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَوَائِدِ وَغَيْرُ خَارِقٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَصْلِ وَابْنِ الشَّاطِّ وَكَانَتْ أَنْوَاعُهُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْحَقَائِقُ الْخَمْسَةُ الْأُخَرُ الَّتِي هِيَ مِنْ عُلُومِ الشَّرِّ وَهِيَ الْخَوَاصُّ الْمَنْسُوبَةُ لِلنُّفُوسِ وَالْأَوْفَاقُ وَالطَّلْسَمَاتُ وَالْعَزَائِمُ وَالِاسْتِخْدَامَات كُلُّهَا تَجْرِي مَجْرَاهُ فِيمَا ذُكِرَ تَحَقَّقَ الْتِبَاسُهُ بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ التِّسْعِ وَافْتَقَرَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ إلَى أَنْ تُمَيَّزَ عَنْهُ إمَّا بِبَيَانِ الْخُصُوصِ مُطْلَقًا وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي السِّيمِيَاءِ ، وَالْهِيمْيَاءِ مِنْ أَنْوَاعِهِ الْأَرْبَعَةِ ، وَإِمَّا بِبَيَانِ الْخُصُوصِ مِنْ جِهَةٍ كَمَا فِي النَّوْعَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَالْحَقَائِقِ الْخَمْسَةِ الْأُخَرِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهُوَ يَفْتَقِرُ إلَى سَبْعَةِ وُصُولٍ لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ .
( الْوَصْلُ الْأَوَّلُ ) الْخَوَاصُّ الْمَنْسُوبَةُ لِلْحَقَائِقِ أَيْ الذَّوَاتِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ وَكَثِيرَةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَجْزَاءِ الْعَالَمِ حَتَّى لَا يَكَادَ يُعَرَّى شَيْءٌ عَنْ خَاصِّيَّتِهِ فَلَا يَدْخُلُهَا فِعْلُ الْبَشَرِ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ كَامِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَإِرْوَاءِ الْمَاءِ وَإِحْرَاقِ النَّارِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَجْهُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْهَا مَا يَعْلَمُهُ الْأَفْرَادُ مِنْ النَّاسِ وَهَذِهِ إمَّا مُغَيِّرَةٌ لِأَحْوَالِ النُّفُوسِ وَهِيَ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ ، وَإِمَّا مُخْتَصَّةٌ بِانْفِعَالَاتِ الْأَمْزِجَةِ صِحَّةً أَوْ سَقَمًا كَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الْمَسْطُورَةِ فِي كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ وَالْعَشَّابِينَ والطبائعيين وَهَذِهِ مِنْ عِلْمِ

الطِّبِّ لَا مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ قَالَهُ الْأَصْلُ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
( الْوَصْلُ الثَّانِي ) الرُّقَى أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَهَا الشِّفَاءُ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْأَدْوَاءِ وَالْأَسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } تُقْرَأُ سَبْعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ دُخُولِ مَحَلٍّ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } إلَى { يَرْهَبُونَ } سَبْعَ مَرَّاتٍ لِتَعْطِيفِ الْقُلُوبِ وَتَسْكِينِ غَضَبِ الْمُلُوكِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ كُفْرًا أَوْ مُحَرَّمًا وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ الرُّقَى بِالْعَجَمِيَّةِ وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ قَدْ يُحْدِثُ ضَرَرًا فَيُقَالُ لَهُ السِّحْرُ ، وَلَا يُقَالُ لَفْظُ الرُّقَى عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الْأَصْلُ : وَقَدْ نَهَى عُلَمَاءُ الْعَصْرِ عَنْ الرُّقْيَةِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا فِيهَا مِنْ اللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْ الْخُطْبَةِ وَيَحْصُلُ بِهَا مَعَ ذَلِكَ مَفَاسِدُ ا هـ .
وَفِي الِاعْتِصَامِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَالَّتِي يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَهُ أَوْ قَارَبَهُ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلْطَفُ مِنْ فَلْسَفَةِ مُعَلِّمِهِمْ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَرِسْطُو طَالِيسَ فَرَدُّوهَا إلَى أَوْضَاعِ الْحُرُوفِ وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ وَرُبَّمَا أَشَارُوا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَذْكَارِ .
وَمَا قُصِدَ بِهَا إلَى تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ

الْكَوَاكِبِ لِيَحْصُلَ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ وَحْيًا فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ وَالطَّبَائِعَ كَمَا تَرَى وَتَوَجَّهُوا شَطْرَهَا ، وَأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَهُ فَإِذَا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْفَرْضِ الْمَطْلُوبِ حَصَلَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنَفْعًا كَانَ أَمْ ضَرًّا وَخَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ أَوْ حُصُولِ نَوْعٍ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ، كَلًّا لَيْسَ طَرِيقُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ مِنْ مُرَادِهِمْ ، وَلَا كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَوْرَادِهِمْ فَلَا تَلَاقِيَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ وَالْمَاءِ وَحُصُولُ التَّأْثِيرِ حَسْبَمَا قَصَدُوا هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فَالنَّظَرُ إلَى وَضْعِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ أَحْكَامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ التَّأْثِيرَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْمَعْيُونِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشْبَهُ لِاسْتِمْدَادِهَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَشَاهِدُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَانِي } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ } وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ ا هـ .
( الْوَصْلُ الثَّالِثُ ) خَوَاصُّ النُّفُوسِ بِمَعْنَى مُقْتَضَى الْأَمْزِجَةِ وَالطَّبَائِعِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُودَعَةِ فِي الْعَالَمِ فَالْحَيَوَانَاتُ لَا تَكَادُ تَتَّفِقُ

طَبَائِعُهَا بَلْ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ ، وَلَوْ عَظُمَ شَبَهُ فَرْدٍ مِنْهَا بِفَرْدٍ آخَرَ لَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّبَايُنَ لَمَّا حَصَلَ فِي الصِّفَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَجَبَ حُصُولُهُ فِي الْأَمْزِجَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْسًا مِنْ الْأَنَاسِيِّ طُبِعَتْ عَلَى الشَّجَاعَةِ إلَى الْغَايَةِ وَنَفْسًا عَلَى الْجُبْنِ إلَى الْغَايَةِ وَنَفْسًا عَلَى الشَّرِّ إلَى الْغَايَةِ وَنَفْسًا عَلَى الْخَيْرِ إلَى الْغَايَةِ وَنَفْسًا يَهْلَكُ مَا عَظَّمَتْهُ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَيْنِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْذِي بِالْعَيْنِ ، وَأَحْوَالُ مَنْ يُؤْذِي بِهَا مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيدُ الطَّيْرَ فِي الْهَوَى وَيَقْلَعُ الشَّجَرَ الْعَظِيمَ مِنْ الْقُرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصِلُ بِهَا إلَّا إلَى التَّمْرِيضِ اللَّطِيفِ وَنَحْوِهِ وَنَفْسًا عَلَى صِحَّةِ الْحَزْرِ بِحَيْثُ لَا يُخْطِئُ الْغَيْبَ عِنْدَ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ الرَّمَلِ أَبَدًا وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي أَحْكَامِ النُّجُومِ أَبَدًا وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ الْكَفِّ أَبَدًا وَآخَرُ لَا يُخْطِئُ فِي عِلْمِ السَّيْرِ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ طُبِعَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تُطْبَعْ عَلَى غَيْرِهِ فَمَنْ تَوَجَّهَتْ نَفْسُهُ لِطَلَبِ الْغَيْبِ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْخَاصِّ أَدْرَكَتْهُ بِخَاصِّيَّتِهَا فَقَطْ ، لَا لِأَنَّ النُّجُومَ فِيهَا شَيْءٌ ، وَلَا الْكَتِفَ ، وَلَا الرَّمَلَ ، وَلَا بَقِيَّتَهَا بَلْ هِيَ خَوَاصُّ نُفُوسٍ فَقَطْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَجِدُ صِحَّةَ أَعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ شَابٌّ فَإِذَا صَارَ كَبِيرًا فَقَدَهَا ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ نَقَصَتْ عَنْ تِلْكَ الْحِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الشُّبُوبِيَّةِ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ .
قُلْتُ : ثُمَّ إنَّ خَوَاصَّ النُّفُوسِ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ فِي خَوَاصِّ الْحَقَائِقِ مِنْهَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَخَوَاصِّ النُّفُوسِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَجْهُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْهَا مَا يَعْلَمُهُ مِنْ النَّاسِ الْأَفْرَادُ قَالَ

الْأَصْلُ كَجَمَاعَةٍ فِي الْهِنْدِ إذَا وَجَّهُوا أَنْفُسَهُمْ لِقَتْلِ شَخْصٍ انْتَزَعُوا قَلْبَهُ مِنْ صَدْرِهِ بِالْهِمَّةِ وَالْعَزْمِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ فَإِذَا مَاتَ وَشُقَّ صَدْرُهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ قَلْبُهُ وَيُجَرِّبُونَ بِالرُّمَّانِ فَيَجْمَعُونَ عَلَيْهِ هِمَمَهُمْ فَلَا تُوجَدُ فِيهِ حَبَّةٌ .
ا هـ .
وَمِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَفْرَادُ مِنْ النَّاسِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْهِنْدِ لَا أَدْرِي صِحَّتَهُ مِنْ سَقَمِهِ ا هـ .
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى نَظْمِهِ رُشْدَ الْغَافِلِ : إنَّ مَصَّ دِمَاءِ الْقَلْبِ أَوْ نَزْعَ الْقَلْبِ نَفْسَهُ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَنْ طَبْعٍ كَمَا هُوَ مِنْ جَمَاعَةٍ فِي الْهِنْدِ إذَا وَجَّهَ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ لِقَتْلِ شَخْصٍ انْتَزَعَ قَلْبَهُ مِنْ صَدْرِهِ بِالْهِمَّةِ وَالْعَزْمِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ زِكْرِيٍّ فِي شَرْحِ النَّصِيحَةِ قَالَ : وَالْغَالِبُ حُصُولُ الْمَصِّ الْمَذْكُورِ وَالنَّزْعِ عَنْ كَسْبٍ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي السُّودَانِ سَوَاءٌ وُلِدَ فِي أَرْضِهِمْ أَوْ فِي أَرْضِنَا ، وَقَالَ قَبْلُ : وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْمَصَّ الْمَذْكُورَ وَالنَّزْعَ بِسُغُنْيَا بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ ، وَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ بِالسَّلَّالَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى فَأَلْفٌ فَلَامٌ مُخَفَّفَةٌ فَهَاءُ تَأْنِيثٍ ا هـ وَسَيَأْتِي فِي وَصْلِ الْأَوْفَاقِ مَا قَالَهُ فِي شِفَاءِ مَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ .
قُلْتُ : وَهَذَا النَّوْعُ وَنَحْوُهُ مِنْ خَوَاصِّ النُّفُوسِ هُوَ الَّذِي يَلْتَبِسُ بِهِ السِّحْرُ كَمَا لَا يَخْفَى قَالَ الْأَصْلُ وَتَبِعَهُ ابْنُ زِكْرِيٍّ فِي شَرْحِ النَّصِيحَةِ : وَخَوَاصُّ النُّفُوسِ كَثِيرَةٌ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى ، وَإِلَى تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَالْخَلْقِ وَالسَّجَايَا وَالْقُوَى كَمَا أَنَّ الْمَعَادِنَ كَذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } ا هـ

قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
( الْوَصْلُ الرَّابِعُ ) الْأَوْفَاقُ وَتُسَمَّى عِلْمَ الْأَشْكَالِ وَعِلْمَ الْجَدَاوِلِ وَتُسَمَّى الْأَشْكَالَ وَالْجَدَاوِلَ بِالْمُثَلَّثِ وَالْمُرَبَّعِ وَالْمُخَمَّسِ وَنَحْوِهَا أَيْ كَمُسَبَّعِ السَّلَّالَةِ الْآتِي وَهِيَ مِنْ الْبَاطِلِ إذَا قَصَدَ بِهَا إضْرَارَ أَوْ نَفْعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ شَرْعًا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا لِأَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ بِابْنِ الْبَوْنِيِّ ، وَأَشْكَالِهِ أَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهَا غَرَضٌ لَا اعْتِرَاضَ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمُثَلَّثِ الْغَزَالِيِّ أَيْ مَمْلُوءُ الْوَسَطِ لِتَيْسِيرِ الْعَسِيرِ ، وَإِخْرَاجِ الْمَسْجُونِ ، وَإِيضَاعِ الْجَنِينِ مِنْ الْحَامِلِ وَتَيْسِيرِ الْوَضْعِ ، وَكُلِّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَنُسِبَ لِلْغَزَالِيِّ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَنِي بِهِ كَثِيرًا ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ هَذَا الْمُثَلَّثَ بِصُورَتِهِ الْآتِيَةِ يُسَمَّى بِخَاتَمِ أَبِي سَعِيدٍ ا هـ .
وَكَمُسَبَّعِ السُّلَالَةِ الْآتِي لَكِنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا فِي شَرْحِ سَيِّدِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ عَلَى نَظْمِهِ رُشْدَ الْغَافِلِ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ ، قَالَ الْأَصْلُ : وَالْأَوْفَاقُ تَرْجِعُ إلَى مُنَاسَبَاتِ الْأَعْدَادِ وَجَعْلِهَا عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ .
ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ تَسَامَحَ فِي قَوْلِهِ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَخْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمُسَاوَاةِ بِحَسَبِ جَمْعِ مَا فِي كُلِّ سَطْرٍ مِنْ بُيُوتِ مُرَبَّعَاتِهَا وَجَمِيعِ مَا فِي الْبُيُوتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْقُطْرِ .
ا هـ .
وَالشَّكْلُ الْمَخْصُوصُ إمَّا مُثَلَّثٌ كَمُثَلَّثِ بُدُوحٍ يُكْتَبُ إذَا أُرِيدَ جَلْبُ خَيْرٍ فِي كَاغِدٍ أَوْ رَقِّ غَزَالٍ هَكَذَا ، وَمُثَلَّثُ أَجْهَزَ يُكْتَبُ إذَا أُرِيدَ دَفْعُ شَرٍّ فِي كَاغِدٍ أَوْ رَقِّ غَزَالٍ

هَكَذَا ثُمَّ يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ وَكَمُثَلَّثِ الْكَلِمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ يُكْتَبُ إذَا أُرِيدَ كُلٌّ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ وَيُرَقَّمُ فِي خَانَاتِهِ إمَّا حُرُوفُ الْكَلِمَتَيْنِ هَكَذَا ، وَإِمَّا أَعْدَادُ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِ الْجُمَلِ الْكَبِيرِ هَكَذَا .
وَضَابِطُهُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ أَنَّك لَوْ جَمَعْتَ الْحُرُوفَ الْمُفْرَدَةَ فِي كُلِّ خَانَةٍ مِنْ الْخَانَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ أُفُقِيَّةٍ أَوْ عَمُودِيَّةٍ أَوْ مُسْتَطِيلَةٍ يَكُونُ مَجْمُوعُهَا وَاحِدًا وَهُوَ عَدَدُ ( 15 ) ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَرْقَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْخَاتَمِ زَوْجِيَّةً وَتُسَمَّى مُزْدَوَجَاتُ الْمُثَلَّثِ وَالْأَرْقَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْخَانَاتِ الْأُخْرَى فَرْدِيَّةً وَتُسَمَّى مُفْرَدَاتُ الْمُثَلَّثِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَالْخَاتَمُ الْمَرْقُومُ فِي خَانَاتِهِ كُلٌّ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ أَوْ أَعْدَادِهَا هُوَ خَاتَمُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ مَمْلُوءُ الْوَسَطِ .
قُلْت : وَذَكَرَ لِي بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ لِلْغَزَالِيِّ مُثَلَّثًا أَيْضًا خَالِيَ الْوَسَطِ وَبَيَّنَ لِي كَيْفِيَّةَ وَضْعِهِ ، وَمَا يُبْدَأُ بِهِ مِنْ خَانَاتِهِ ، وَمَا يَلِيهِ ، وَمَا يَخْتِمُ بِهِ بِرَقْمٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا يَبْدَأُ بِهِ وَاثْنَيْنِ عَلَى مَا يَلِيهِ وَهَكَذَا إلَى ثَمَانِيَةٍ ، وَأَنَّ صُورَتَهُ هَكَذَا وَضَابِطُهُ أَنَّك لَوْ جَمَعْت أَعْدَادَ الْخَانَاتِ الْعَمُودِيَّةِ أَوْ الْمُسْتَطِيلَةِ أَوْ الْخَانَتَيْنِ الْأُفُقِيَّةِ لَكَانَ مَجْمُوعُ كُلٍّ مِنْ الْخَانَاتِ وَالْخَانَتَيْنِ الْأُفُقِيَّةِ وَاحِدًا وَهُوَ عَدَدُ ( 66 ) وَإِنَّك تَكْتُبُ فِي وَسَطِهِ الْخَالِي حَاجَتَك الَّتِي تُرِيدُ قَضَاءَهَا وَتَبْتَدِئُ بِعَدَدِ ( 31 ) وَتَخْتِمُ بِعَدَدِ ( 35 ) فَافْهَمْ .
وَإِمَّا مُرَبَّعٌ كَمُرَبِّعِ بُدُوحٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَوْنِيُّ فِي شَمْسِ الْمَعَارِفِ الْكُبْرَى ، وَأَنَّهُ يَكْتُبُ فِي رَقٍّ طَاهِرٍ وَيُعَلَّقُ عَلَى الشَّخْصِ لِتَيْسِيرِ الْفَهْمِ وَالْحِفْظِ وَالْحِكْمَةِ وَلِتَعْظِيمِ الْقَدْرِ عِنْدَ النَّاسِ وَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَعَلَى

الْمَسْجُونِ لِإِطْلَاقِهِ مِنْ السِّجْنِ سَرِيعًا وَعَلَى الرَّايَةِ لِهَزْمِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ وَالْبَاغِينَ ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَقِّمَ بِالْأَعْدَادِ هَكَذَا ، وَإِمَّا أَنْ يُوضَعَ مَحَلُّ الْأَعْدَادِ حُرُوفٌ هَكَذَا وَذَكَرَ لِكِتَابَتِهِ شُرُوطًا ، وَإِمَّا مُخَمَّسٌ ، وَإِمَّا مُسَدَّسٌ ، وَإِمَّا مُسَبَّعٌ كَمُسَبَّعِ السَّلَّالَةِ الَّذِي ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى نَظْمِهِ رُشْدَ الْغَافِلِ أَنَّهُ يَكْتُبُ لِشِفَاءِ مَنْ فُعِلَ بِهِ مَصُّ الدَّمِ أَوْ نَزْعُ الْقَلْبِ الْمُسَمَّى بِالسُّلَالَةِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَالْجَدْوَلُ الْمُسَبَّعُ بَعْدَهَا فِي وَرَقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا تُجْعَلُ عَلَى النَّارِ وَتُبَخَّرُ لَهُ وَالْأُخْرَى تُعَلَّقُ عَلَيْهِ وَصُورَةُ كِتَابَةِ الْآيَاتِ وَالْجَدْوَلِ هَكَذَا { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَك وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّك فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } ، { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } ، { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ ضَبْطَهُ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ تُرِدْ لِجَدْوَلِ السَّلَّالَةِ فَخُذْهُ بِالنَّظْمِ وَعِ الْمَقَالَةِ مُجَدْوَلٌ مُسَبَّعٌ بَعْدَ الْآيَاتِ مُعَمَّرٌ بِذِي الْحُرُوفِ بِالثَّبَاتِ فَجّ شث ظخز بِصَدْرِ أَوَّلٍ وَابْدَأْ بِثَانِيهَا وَاخْتِمْ بِأَوَّلِ وَانْحَ لِذَاكَ النَّحْوِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بُيُوتُهُ فَخُذْ لِذَا النَّظْمِ الشَّهِيِّ .
قَالَ الْأَصْلُ وَلِلْأَوْفَاقِ كُتُبٌ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ كَيْفَ تُوضَعُ حَتَّى تَصْبِرَ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ مِنْ الِاسْتِوَاءِ ، وَهِيَ كُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ وَضْعُهَا أَعْسَرَ ، وَالضَّوَابِطُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا حَسَنَةٌ نَفِيسَةٌ لَا تَتَخَرَّمُ إذَا عُرِفَتْ أَعْنِي فِي صُورَةِ الْوَضْعِ ، وَأَمَّا مَا يُنْسَبُ

إلَيْهَا مِنْ الْآثَارِ فَقَلِيلَةُ الْوُقُوعِ أَوْ عَدِيمَتُهُ ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَتَبِعَهُ ابْنُ زِكْرِيٍّ فِي شَرْحِ النَّصِيحَةِ وَكَذَا الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى نَظْمِهِ رُشْدِ الْغَافِلِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدُ وَلِشِفَاءِ مَنْ فُعِلَ بِهِ الْمَصُّ لِلدَّمِ وَالنَّزْعُ لِلْقَلْبِ الْمُسَمَّى بِالسَّلَّالَةِ تُكْتَبُ هَذِهِ الْآيَاتُ وَالْجَدْوَلُ بَعْدَهَا إلَخْ وَلِلْمُعَاصِرِ الْفَاضِلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللَّهِ مِنْ أَبْيَاتٍ نَظَمَهَا فِي مُسَبَّعِ السَّلَّالَةِ قَوْلُهُ : هَذَا سَبْعٌ لِسِحْرٍ دَافِعٍ ، وَأَنَّهُ فِي بَابِهِ لِنَافِعٍ يُعْرَفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ السِّرِّ مُسَبَّعُ السَّلِّ مُفِيدُ الضُّرِّ وَهُوَ مُجَرَّبٌ فَقَدْ جَرَّبْتُهُ وَنَفْعُهُ إذْ ذَاكَ قَدْ وَجَدْته وَكَيْفَ لَا وَهُوَ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَالْعُلَمَا فِي أَخْذِهِ قَدْ رَغِبُوا وَفِيهِ أَسْمَاءٌ لِمَوْلَانَا عَلَا يَحْصُلُ نَفْعُهَا لِمَنْ ذَا اسْتَعْمَلَا وَنَفْعُهُ اشْتَهَرَ فِي بِلَادِي وَطَنِنَا مِنْ حَاضِرٍ وَبَادِي وَهُوَ مُضَافٌ لِكَلَامِ اللَّهِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ عَلَى تَنَاهِي تُنَاسِبُ الدَّفْعَ لِكُلِّ شَرٍّ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ شَرَّ السِّحْرِ .
وَأَفَادَنِي أَنَّ شَيْخَ أَشْيَاخِهِ سَيِّدِي مُحَمَّدَ الْخَلِيفَةَ ابْنَ الشَّيْخِ سَيِّدِي الْمُخْتَارِ الْكَنَّتَيْ فِي كِتَابِهِ الطَّرَائِفِ اعْتَرَضَ قَوْلَ الْأَصْلِ أَوْ عَدِيمَتَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِالتَّجْرِبَةِ .
قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُ فَقَلِيلَةُ الْوُقُوعِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ لِفَقْدِ شَرْطِهَا فِي النَّاسِ وَهُوَ التَّقْوَى أَمَّا إذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ فَتَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ ضَرُورِيٌّ ا هـ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْوَصْلُ الْخَامِسُ ) الطَّلْسَمَاتُ حَقِيقَتُهَا نَقْشُ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ الطَّلَاسِمِ فِي جِسْمٍ مِنْ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا تَحْدُثُ بِهَا آثَارٌ خَاصَّةٌ رُبِطَتْ بِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ فَلَيْسَ كُلُّ النُّفُوسِ مَجْبُولَةً عَلَى ذَلِكَ بَلْ

بَعْضُ النَّاسِ لَا تَجْرِي الْخَاصِّيَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى يَدِهِ فَلَا بُدَّ فِي الطَّلْسَمِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَوَّلُ : الْأَسْمَاءُ الْمَخْصُوصَةُ وَالثَّانِي تَعَلُّقُهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْفَلَكِ .
وَالثَّالِثُ جَعْلُهَا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ .
وَالرَّابِعُ قُوَّةُ النَّفْسِ الصَّالِحَةِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ ، قَالَهُ الْأَصْلُ .
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا ثُمَّ مَنْ اعْتَقَدَ لَهَا فِعْلًا وَتَأْثِيرًا فَذَلِكَ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَعِلْمُهَا مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ إمَّا مُطْلَقًا ، وَإِمَّا مَا يُؤَدِّي مِنْهَا إلَى مَضَرَّةٍ دُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَنْفَعَةٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ بِلَفْظِهِ .
( الْوَصْلُ السَّادِسُ ) الْعَزَائِمُ قَالَ الْأَصْلُ : حَقِيقَتُهَا كَلِمَاتٌ ، وَأَسْمَاءٌ يَزْعُمُ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّهَا تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَمَتَى أَقْسَمَ عَلَيْهَا بِهَا أَطَاعَتْ ، وَأَجَابَتْ وَفَعَلَتْ مَا طَلَبَ مِنْهَا فَالْمُعَزِّمُ يُقْسِمُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَلَكِ فَيُحْضِرُ الْقَبِيلَ مِنْ الْجَانِّ الَّذِي طَلَبَهُ أَوْ الشَّخْصَ مِنْهُمْ فَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَجَدَ الْجَانَّ يَعْبَثُونَ بِبَنِي آدَمَ وَيَسْخَرُونَ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَخْطَفُونَهُمْ مِنْ الطُّرُقَاتِ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ الْجَانِّ مَلِكًا يَضْبِطُهُمْ عَنْ الْفَسَادِ فَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْجِنِّ فَمَنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَادِ وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ ، وَأَلْزَمَهُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُكْنَى الْقِفَارِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ دُونَ الْعَامِرِ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَيْضًا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَسْمَاءً أُمِرَتْ بِتَعْظِيمِهَا فَإِذَا عَنَى الْقَبِيلُ مِنْ الْجَانِّ أَوْ الشَّخْصُ مِنْهُمْ ذَكَرَ الْمُعَزِّمُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تُعَظِّمُهَا تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ لِيُحْضِرُوا لَهُ مَنْ عَنَى وَأَفْسَدَ مِنْ الْجَانِّ

لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَيَزْعُمُونَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْبَابَ إنَّمَا دَخَلَهُ الْخَلَلُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ ضَبْطِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ لَا يُدْرَى وَزْنُ صِيَغِهَا ، وَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يَشُكُّ فِيهِ هَلْ هُوَ بِالضَّمِّ أَوْ الْفَتْحِ أَوْ الْكَسْرِ وَرُبَّمَا أَسْقَطَ النُّسَّاخُ بَعْضَ حُرُوفِ الِاسْمِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَيَخْتَلُّ الْعَمَلُ فَإِنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ لَفْظٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُهُ ذَلِكَ الْمَلَكُ فَلَا يُجِيبُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمُعَزِّمِ قَالَهُ الْأَصْلُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْعَزَائِمِ فِي الشَّرْعِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرُّقَى إذَا تَحَقَّقَتْ وَتَحَقَّقَ أَنْ لَا مَحْذُورَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ا هـ فَافْهَمْ .
( الْوَصْلُ السَّابِعُ ) الِاسْتِخْدَامَاتُ لِرُوحَانِيَّاتِ الْكَوَاكِبِ وَلِمُلُوكِ الْجَانِّ حَقِيقَتُهَا كَلِمَاتٌ خَاصَّةٌ مَوْضُوعَةٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا إذَا حَصَلَتْ مَعَ الْبَخُورِ الْخَاصِّ وَاللِّبَاسِ الْخَاصِّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ ، وَمَعَ الْأَفْعَالِ الْخَاصَّةِ الَّتِي اسْتَوْعَبُوا فِي كُتُبِهِمْ اشْتِرَاطَهَا كَانَتْ رُوحَانِيَّةُ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ مُطِيعَةً لَهُ وَكَذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْجَانِّ مُطِيعًا لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ إدْرَاكَاتٍ رُوحَانِيَّةً فَإِذَا قُوبِلَتْ الْكَوَاكِبُ أَوْ مُلُوكُ الْجَانِّ بِبَخُورٍ خَاصٍّ وَلِبَاسٍ خَاصٍّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ خَاصَّةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ كَاللِّوَاطِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَالسُّجُودِ لِلْكَوَاكِبِ أَوْ مَلِكِ الْجِنِّ وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا الْكَوَاكِبَ أَوْ مَلِكَ الْجِنِّ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَنِدَائِهِ بِلَفْظِ الْآلِهِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَى قَدْرِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ فِي كُتُبِهِمْ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ فَلَا جَرَمَ لَا يَشْتَغِلُ

بِهَذِهِ الْأُمُورِ مُفْلِحٌ قَالَهُ الْأَصْلُ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( خَاتِمَةٌ ) أَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَهَا فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ الْبَاجِيَّ قَدْ ذَكَرَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الْعَيْنِ وُجُوهًا أَصَحُّهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ عِنْدَ تَعَجُّبِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرٍ وَنُطْقِهِ دُونَ أَنْ يُبَرِّكَ أَنْ يَمْرَضَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَوْ يَتْلَفَ أَوْ يَتَغَيَّرَ ؛ لِأَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ بَطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخَافُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فَإِنْ لَمْ يُبَرِّكَ أَوْقَعَ اللَّهُ مَا أَجْرَى بِهِ الْعَادَةَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَدْ يَتَلَافَى ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَيْسَ فِيهَا حَرَكَةٌ ، وَلَا سَكْنَةٌ ، وَلَا كَلِمَةٌ ، وَلَا لَفْظَةٌ إلَّا سُبْحَانَهُ خَالِقُهَا فِي الْعَبْدِ وَهُوَ مُقَدِّرُهَا لَهُ هُوَ تَعَالَى رَتَّبَ أَفْعَالَهُ وَرَتَّبَ أَسْبَابَهَا وَرَتَّبَ الْعَوَائِدَ عَلَى أَسْبَابٍ .
مِثَالُ ذَلِكَ : الْعَيْنُ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا رَأَتْ صُورَةً تَسْتَحْسِنُهَا فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَاسْتَوْلَى ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا ، وَإِنْ نَطَقَتْ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ الْجَمَالِ فَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهُ إذَا خَلَقَ النُّطْقَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالتَّعَجُّبِ مَثَلًا مِنْ الْعَائِنِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَدَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَرَضَ وَالْهَلَكَةَ عَلَى قَدْرِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ نَهَى الْعَائِنَ عَنْ الْقَوْلِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي حُكْمِهِ الْوُجُودُ بِذَلِكَ فَقَدْ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ سَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ يَرُدُّ قَضَاءَهُ بِقَضَائِهِ ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ وُضُوءَ الْعَائِنِ يُسْقِطُ أَثَرَ عَيْنِهِ وَذَلِكَ بِخَاصَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا خَالِقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ

وَكَذَلِكَ مَا يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِ السَّاحِرِ وَفِعْلِهِ فِي جِسْمِ الْمَسْحُورِ أَوْ مَالِهِ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ .
وَمِنْ فُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفَضْلِهَا وَحِكْمَتِهَا الْبَالِغَةِ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرُّقَى مِنْ إذْهَابِ الْأَمْرَاضِ مِنْ الْأَبْدَانِ بِهَا وَإِبْطَالِ سِحْرِ السَّاحِرِ وَرَدِّ عَيْنِ الْعَائِنِ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ بِهَا وَدَفْعِ كُلِّ ضَرَرٍ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالْبَارِئُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الشِّفَاءَ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ كَمَا خَلَقَ الشِّفَاءَ مِنْ الدَّاءِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ ، وَلَا حَظَّ لِلدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ جَمَادٌ فَاعِلًا وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَصْرِفُ الْأَعْمَالَ الْغَرِيبَةَ دَاخِلَ الْبَدَنِ بِالْأَدْوِيَةِ كَذَلِكَ يَصْرِفُهَا خَارِجَ الْبَدَنِ بِالرُّقَى وَالتَّعْوِيذِ وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ ، وَالشَّاهِدُ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ النَّظَرِيِّ .
ا هـ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقَاعِدَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ) .
قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ : الْبُغَاةُ هُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ يَبْغُونَ خَلْعَهُ أَوْ مَنْعَ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ أَوْ تَبْغِي مَنْعَ حَقٍّ وَاجِبٍ بِتَأْوِيلٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَبِهِ يَمْتَازُونَ عَنْ الْمُحَارِبِينَ وَيَفْتَرِقُ قِتَالُهُمْ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا أَنْ يَقْصِدُوا بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ لَا قَتْلَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ وَلَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَلَا يَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ ، وَلَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ ، وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ ، وَلَا نُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ وَلَا تُنْصَبُ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ ، وَلَا تُحْرَقُ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِينُ وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ وَيَمْتَازُ قِتَالُهُمْ عَنْ قِتَالِ الْمُحَارِبِينَ بِخَمْسَةٍ يُقَاتَلُونَ مُدْبِرِينَ وَيَجُوزُ تَعَمُّدُ قَتْلِهِمْ وَيُطَالَبُونَ بِمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا ، وَيَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ أَحْوَالِهِمْ ، وَمَا أَخَذُوهُ مِنْ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي هَذَا الْفَرْعِ قَالَ إنْ وَلَّى الْبُغَاةُ قَاضِيًا أَوْ أَخَذُوا الزَّكَاةَ أَوْ أَقَامُوا حَدًّا نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ وَرَدَّهُ ابْنُ الْقَاسِمِ كُلَّهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَبِقَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقَاعِدَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَا بَيْنَهُمْ وَقِتَالِهِمْ وَبَيْنَ الْمُحَارِبِينَ وَقِتَالِهِمْ ) فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُحَارِبِينَ بِوَجْهَيْنِ .
( الْأَوَّلِ ) الْبُغَاةِ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ هُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ يَبْغُونَ خَلْعَهُ أَوْ مَنْعَ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ وَمَنْعَ حَقٍّ وَاجِبٍ بِتَأْوِيلٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ الْأَصْلُ ، وَمَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ خِلَافًا .
ا هـ .
وَالْمُحَارِبُونَ جَمْعُ مُحَارِبٍ وَهُوَ كَمَا فِي خَلِيلٍ ، وَأَقْرَبِ الْمَسَالِكِ قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ سُلُوكٍ أَوْ آخِذُ مَالٍ مُحْتَرَمٍ ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا ، وَالْبُضْعُ أَحْرَى عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ أَوْ مَذْهَبُ عَقْلٍ ، وَلَوْ انْفَرَدَ ، وَلَوْ بِبَلَدٍ كَمَسْقِيٍّ نَحْوِ سَيْكَرَانَ لِذَلِكَ ، وَمُخَادِعُ مُمَيِّزٍ لِأَخْذِ مَا مَعَهُ بِتَعَذُّرِ غَوْثٍ ، وَدَاخِلُ زُقَاقٍ أَوْ دَارٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لِأَخْذِ مَالٍ بِقِتَالٍ .
( الْوَجْهِ الثَّانِي ) نَقَلَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْبُغَاةَ وَلَّوْا قَاضِيًا أَوْ أَخَذُوا الزَّكَاةَ ، وَأَقَامُوا حَدًّا نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلضَّرُورَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ ، وَبِهِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَرَدَّهُ ابْنُ الْقَاسِمِ كُلَّهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُحَارِبُونَ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ قِتَالِهِمْ وَقِتَالِ الْمُحَارِبِينَ بِخَمْسَةِ وُجُوهٍ .
( الْأَوَّلِ ) أَنَّ الْمُحَارِبِينَ يُقَاتَلُونَ مُدْبِرِينَ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَمُّدُ قَتْلِهِمْ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ .
( الثَّالِثِ ) أَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْبُغَاةِ .
( الرَّابِعِ ) أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ أَحْوَالِهِمْ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ .
( الْخَامِسِ ) أَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ

عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ بِخِلَافِ الْبُغَاةِ .
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ قِتَالِهِمْ وَقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا : الْأَوَّلِ أَنْ يَقْصِدَ بِقِتَالِهِمْ رَدْعَهُمْ لَا قَتْلَهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الثَّانِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الثَّالِثِ أَنْ لَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الرَّابِعِ أَنْ لَا يَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الْخَامِسِ أَنْ لَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
السَّادِسِ أَنْ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
السَّابِعِ أَنْ لَا يُسْتَعَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الثَّامِنِ أَنْ لَا نَدَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
التَّاسِعِ أَنْ لَا تُنْصَبَ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الْعَاشِرِ أَنْ لَا تُحَرَّقَ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنُ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
الْحَادِي عَشَرَ أَنْ لَا يُقْطَعَ شَجَرُهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ ، قَالَهُ الْأَصْلُ ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ) .
قَاعِدَةٌ يَقَعُ بِهَا الْفَرْقُ وَهِيَ أَنَّ الشُّبُهَاتِ ثَلَاثَةٌ : شُبْهَةٌ فِي الْوَطْءِ وَشُبْهَةٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ وَشُبْهَةٌ فِي الطَّرِيقِ فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى تَعُمُّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ وَمِثَالُهَا اعْتِقَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكَتُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَمِثَالُ شُبْهَةِ الْمَوْطُوءَةِ الْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ فَيَحْصُلُ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ كَمَا أَنَّ اعْتِقَادَ الْأُولَى الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ فَحَصَلَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ الشَّبَهَيْنِ ، وَمِثَالُ الثَّالِثَةِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي إبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ فَحَصَلَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ الشُّبْهَتَيْنِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ مُقَارَنَةِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ .
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابُ الصِّيَامِ إذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ صَوْمَهُ فَتَعَمَّدَ الْفِطْرَ ثَانِيَةً أَوْ امْرَأَةٌ رَأَتْ الطُّهْرَ فِي رَمَضَانَ لَيْلًا فَلَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَا صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَكَلَتْ أَوْ مُسَافِرٌ قَدِمَ إلَى أَهْلِهِ لَيْلًا فَظَنَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ نَهَارًا قَبْلَ أَنْ يُمْسِي أَنَّ صَوْمَهُ لَا يُجْزِئُهُ ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَأَفْطَرَ أَوْ عَبْدٌ بَعَثَهُ

سَيِّدُهُ فِي رَمَضَانَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَلَى مَسِيرَةِ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ فَأَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ إلَّا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَمَا رَأَيْت مَالِكًا يَجْعَلُ الْكَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى التَّأْوِيلِ إلَّا امْرَأَةٌ قَالَتْ الْيَوْمَ أَحِيضُ وَكَانَ يَوْمَ حَيْضِهَا ذَلِكَ فَأَفْطَرَتْ أَوَّلَ نَهَارِهَا وَحَاضَتْ فِي آخِرِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْيَوْمُ يَوْمُ جُمَادَى فَيَأْكُلُ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ يَمْرَضُ فِي آخِرِهِ مَرَضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ مَعَهُ فَقَالَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ تِلْكَ اعْتَقَدَ فِيهَا الْمُقَدَّمُ عَلَيْهَا اقْتِرَانَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ وَفِي هَاتَيْنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ سَيَقَعُ فَأَوْقَعَا الْإِبَاحَةَ قَبْلَ سَبَبِهَا فَهُمَا مُصِيبَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ مُبِيحَانِ مُخْطِئَانِ فِي التَّقْدِيمِ لِلْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ ، وَالْأُوَلُ مُخْطِئُونَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ مُصِيبُونَ فِي اعْتِقَادِ الْمُقَارَنَةِ ، وَلَمْ يَقْصِدُوا تَقْدِيمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ فَعُذِرُوا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ ، وَلَمْ يُعْذَرْ الْآخَرَانِ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ ، وَسِرُّ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ بُطْلَانُهُ مَشْهُورٌ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا صَلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَا صَوْمَ قَبْلَ الْهِلَالِ ، وَلَا عُقُوبَةَ قَبْلَ الْجِنَايَاتِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يُعَدُّ ، وَلَا يُحْصَى حَتَّى لَا يَكَادَ يُوجَدُ خِلَافُهُ أَلْبَتَّةَ .
وَأَمَّا اشْتِبَاهُ صُورَةِ الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ وَتَحْقِيقُ شُرُوطِهَا وَمَقَادِيرِهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْفُقَهَاءُ الْفُحُولُ وَتَحْقِيقُهُ عَسِيرٌ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ فَكَانَ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا ، وَمَا هُوَ مَشْهُورٌ لَا يَكُونُ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا وَنَظِيرُ الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي الْحُدُودِ أَنْ يَشْرَبَ خَمْرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ

سَيَصِيرُ خَلًّا أَوْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ بِخِلَافِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ حِلٌّ أَوْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ فَهَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَيَتَحَصَّلُ لَك مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسَائِلِ مَالِكٍ الَّتِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا وَيَتَحَصَّلُ أَيْضًا قَيْدٌ آخَرُ يَنْعَطِفُ عَلَى الشُّبْهَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا فِيهَا وَهُوَ أَنَّا نَشْتَرِطُ اعْتِقَادَ الْمُقَارَنَةِ فِي دَرْءِ الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ رَمَضَانَ بِالْفِطْرِ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَفِيهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ .
( سُؤَالٌ ) قُلْتُ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ : الْحَدِيثُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ مَا يُرْوَى { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } لَمْ يَصِحَّ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا مَا يَكُونُ مُعْتَمَدُنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ؟ .
( جَوَابُهُ ) قَالَ لِي يَكْفِينَا أَنْ نَقُولَ حَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ كَانَ سَالِمًا عَنْ الشُّبْهَةِ وَمَا قَصُرَ عَنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ لَا يَلْحَقُ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ فِي صُوَرِ الشُّبُهَاتِ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ) .
وَهُوَ أَنَّ ضَابِطَ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَمْرَانِ .
( الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ) أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ شُبُهَاتٍ ثَلَاثٍ .
( الْأُولَى ) الشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ أَوْ مَمْلُوكَتُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ .
( الثَّانِيَةِ ) الشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ .
( الثَّالِثَةِ ) الشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحْرِمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) تَحَقَّقَ شَرْطُهَا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ ، وَإِلَى أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ صَوْمَهُ فَتَعَمَّدَ الْفِطْرَ ثَانِيَةً أَوْ امْرَأَةٌ رَأَتْ الطُّهْرَ فِي رَمَضَانَ لَيْلًا فَلَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَتْ فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَا صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَكَلَتْ أَوْ مُسَافِرٌ قَدِمَ إلَى أَهْلِهِ لَيْلًا فَظَنَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ نَهَارًا قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ أَنَّ صَوْمَهُ لَا يُجْزِئُهُ ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَأَفْطَرَ أَوْ عَبْدٌ

بَعَثَهُ سَيِّدُهُ فِي رَمَضَانَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَلَى مَسِيرَةِ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ فَأَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ إلَّا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ : وَنَظِيرُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي الْحُدُودِ أَنْ يَشْرَبَ خَمْرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ خَلٌّ أَوْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ ، وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي فَسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَيْضًا أَمْرَانِ : ( الْأَمْرُ الْأَوَّلُ ) الْخُرُوجُ عَنْ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ رَمَضَانَ بِالْفِطْرِ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ، وَإِلَى أَمْثِلَتِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَمَا رَأَيْت مَالِكًا يَجْعَلُ الْكَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى التَّأْوِيلِ إلَّا امْرَأَةً قَالَتْ الْيَوْمَ أَحِيضُ وَكَانَ يَوْمُ حَيْضِهَا ذَلِكَ فَأَفْطَرَتْ أَوَّلَ نَهَارِهَا وَحَاضَتْ فِي آخِرِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْيَوْمَ يَوْمُ جُمَادَى فَيَأْكُلُ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي آخِرِهِ مَرَضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ مَعَهُ فَقَالَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ : وَنَظِيرُ الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي الْحُدُودِ أَنْ يَشْرَبَ خَمْرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَصِيرُ خَلًّا أَوْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ .
قَالَ : وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ تِلْكَ اعْتَقَدَ فِيهَا الْمُقْدِمُ عَلَيْهَا

اقْتِرَانَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ فَأَوْقَعَتْ الْإِبَاحَةَ فِيهَا قَبْلَ سَبَبِهَا فَالْمُقْدِمُ فِي هَاتِهِ مُصِيبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ وَصَيْرُورَةِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالْعَقْدِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُبِيحٌ ، وَمُخْطِئٌ فِي التَّقَدُّمِ لِلْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ ، وَالْمُقْدِمُ فِي تِلْكَ مُخْطِئٌ فِي حُصُولِ السَّبَبِ مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ الْمُقَارَنَةَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَقْدِيمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ فَعُذِرَ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ فِي تِلْكَ ، وَلَمْ يُعْذَرْ فِي هَاتِهِ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ بُطْلَانُهُ مَشْهُورٌ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا صَلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَا صَوْمَ قَبْلَ الْهِلَالِ ، وَلَا عُقُوبَةَ قَبْلَ الْجِنَايَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يُعَدُّ ، وَلَا يُحْصَى حَتَّى لَا يَكَادُ يُوجَدُ خِلَافُهُ أَلْبَتَّةَ ، وَمَا هُوَ مَشْهُورٌ لَا يَكُونُ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا ، وَأَمَّا اشْتِبَاهُ صُورَةِ الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ وَتَحْقِيقُ شُرُوطِهَا ، وَمَقَادِيرِهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا فُحُولُ الْفُقَهَاءِ وَتَحْقِيقُهُ عَسِيرٌ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ فَكَانَ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا .
قَالَ وَحَدِيثُ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ مُعْتَمَدَنَا فِيهَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ كَانَ سَالِمًا عَنْ الشُّبْهَةِ ، وَمَا قَصُرَ عَنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ لَا يَلْحَقُ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ حَتَّى يَدُلَّ بِدَلِيلِ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ فِي صُوَرِ الشُّبُهَاتِ .
ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْقَذْفِ إذَا وَقَعَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لِلزَّوْجَاتِ فَإِنَّ اللِّعَانَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِنَّ إذَا قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَاتِهِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَمَاعَةِ يَقْذِفُهُمْ الْوَاحِدُ فَإِنَّ الْحَدَّ يَتَّحِدُ عِنْدَنَا ) فَإِنْ قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ كُلُّ قَذْفٍ قَبْلَهُ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَدٌّ وَقَالَهُ ابْنُ حَنْبَلٍ أَوْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَوْلَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَبَنَاهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ فَصَحَّ التَّدَاخُلُ فِيهِ وَبَنَاهُ الْآخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَتَعَدَّدُ وَيَلْزَمُنَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْعَبْدِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَنَا أَنَّ { هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْعَجْلَانِيَّ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ فِي ظَهْرِك أَوْ تَلْتَعِنُ } ، وَلَمْ يَقُلْ حَدَّانِ وَجَلَدَ عُمَرُ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ حَدًّا وَاحِدًا مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذَفَ الْمُغِيرَةَ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا وَقَدْ { حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَذَفَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَعَ أَنَّهُمْ قَذَفُوا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطِّلِ وَقِيَاسًا عَلَى حَدِّ الزِّنَا احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : أَحَدِهَا الْقِيَاسُ عَلَى الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْعَانَاتِ أَرْبَعٍ .
وَثَانِيهَا أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّدَاخُلُ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّالِثِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ فَلَا يَتَدَاخَلُ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّهُ أَيْمَانٌ

وَالْأَيْمَانُ لَا تَتَدَاخَلُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَلَوْ وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ أَيْمَانٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَلَوْ غَلَبَ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَمَا لَمْ يَتَدَاخَلْ الْإِتْلَافُ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ .
( تَنْبِيهٌ ) تَخَيَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أَنَّ مُقَابَلَةَ جَمْعِ الْمُحْصَنَاتِ بِجِلْدِ ثَمَانِينَ يَقْتَضِي لُغَةً أَنَّ حَدَّ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا وَيَحْصُلُ التَّدَاخُلُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِسَبَبِ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ تَارَةً تُوَزِّعُ الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَلَا يَصِحُّ إلَّا التَّوْزِيعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رَهْنٌ يُؤْمَرُ بِهِ وَكَقَوْلِنَا الدَّنَانِيرُ لِلْوَرَثَةِ وَتَارَةً لَا يُوَزِّعُ الْجَمْعَ بَلْ يُثْبِتُ أَحَدَ الْجَمْعَيْنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْجَمْعِ الْآخَرِ نَحْوَ الثَّمَانِينَ جَلْدُ الْقَذْفِ أَوْ جَلْدُ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ وَتَارَةً يُثْبِتُ الْجَمْعَ لِلْجَمْعِ ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَى الْأَفْرَادِ نَحْوَ الْحُدُودِ لِلْجِنَايَاتِ إذَا قَصَدَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لِلْمَجْمُوعِ وَتَارَةً يَرِدُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلتَّوْزِيعِ وَعَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَدَدُ جَنَّاتٍ بِمَعْنَى بَسَاتِينَ دَاخِلَ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُوَزَّعَ فَيَكُونُ لِبَعْضِهِمْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَلِبَعْضِهِمْ جَنَّةُ الْمَأْوَى وَلِبَعْضِهِمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ أَحْوَالُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ أَوْ

الْمَجَازُ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى مُقَابَلَةِ الْجَمَاعَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا تَخَيَّلَهُ الطُّرْطُوشِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ الْمَقْذُوفَةِ وَالزَّوْجَاتِ بِأَنَّهُ أَيْمَانٌ ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ تُعَدُّ فِي تَوَجُّهِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَانْتِفَاءِ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ وَتَأَبُّدِ التَّحْرِيمِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَمَقْصُودٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّشَفِّي وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَلْدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ أَمْكَنَ ثُبُوتُ بَرَاءَةِ هَذِهِ دُونَ هَذِهِ أَوْ بِحَدٍّ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَاسَبَ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ بِلِعَانٍ لِتَوَقُّعِ ثُبُوتِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضٍ دُونَ الْبَاقِي .
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ لِلْبَقَاءِ فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ بِالتَّعَدُّدِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْقَذْفِ إذَا وَقَعَ مِنْ الزَّوْجِ الْوَاحِدِ لِزَوْجَاتِهِ الْمُتَعَدِّدَاتِ يَتَعَدَّدُ اللِّعَانُ بِتَعَدُّدِهِنَّ قَذَفَهُنَّ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَمَاعَةِ يَقْذِفُهُمْ الْوَاحِدَ يَتَّحِدُ الْحَدُّ فِيهِ عِنْدَنَا ) .
فَإِنْ قَامَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ سَقَطَ كُلُّ قَذْفٍ قَبْلَهُ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ فَصَحَّ التَّدَاخُلُ فِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ أَوْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَوْلَانِ عِنْدَهُمَا وَبَنَيَا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَتَعَدَّدُ وَعِنْدَنَا فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْعَبْدِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَكَانَ يَلْزَمُنَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا قَوْلَانِ بِالتَّعَدُّدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَبِالِاتِّحَادِ كَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ حُجَّتَنَا عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاتِّحَادِ وُجُوهٌ .
( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ { هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْعَجْلَانِيَّ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاء فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ فِي ظَهْرِك أَوْ تَلْتَعِنُ } ، وَلَمْ يَقُلْ حَدَّانِ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ حَدًّا وَاحِدًا مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذَفَ الْمُغِيرَةَ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَدّ قَذَفَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَعَ أَنَّهُمْ قَذَفُوا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطِّلِ .
( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) الْقِيَاسُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا .
(

الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَذْفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَاتِهِ الْأَرْبَعِ يَحْتَاجُ لِلْعَانَاتِ أَرْبَعٍ مَدْفُوعٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ .
( الْأَوَّلِ ) أَنَّ اللِّعَانَ أَيْمَانٌ وَالْأَيْمَانُ لَا تَتَدَاخَلُ فَلَوْ وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ أَيْمَانٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ بِخِلَافِ الْحُدُودِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ لَمَّا تَعَدَّدَتْ وَاخْتَلَفَتْ وَهِيَ تَوَجُّهُ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَانْتِفَاءُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ وَتَأَبُّدُ التَّحْرِيمِ وَوُقُوعُ الْفُرْقَةِ أَمْكَنَ ثُبُوتُ بَرَاءَةِ هَذِهِ دُونَ هَذِهِ بِحَدٍّ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَاسَبَ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِلِعَانٍ لِتَوَقُّعِ ثُبُوتِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضٍ دُونَ الْبَاقِي وَالْمَقْصُودُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ التَّشَفِّي وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَلْدٍ وَاحِدٍ .
( وَالثَّالِثِ ) أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ لِلْبَقَاءِ فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ بِالتَّعَدُّدِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ .
( الْوَجْهِ السَّادِسِ ) أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّدَاخُلُ كَالْغَصْبِ أَوْ غَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ فَلَا يَتَدَاخَلُ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مَدْفُوعَانِ بِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَلَوْ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَمَا لَمْ يَتَدَاخَلْ الْإِتْلَافُ .
( الْوَجْهِ السَّابِعِ ) أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } لَا يَقْتَضِي لُغَةً مِنْ جِهَةِ مُقَابَلَةِ جَمْعِ الْمُحْصَنَاتِ بِجَلْدِ ثَمَانِينَ أَنَّ حَدَّ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا وَيَحْصُلُ التَّدَاخُلُ ، وَإِنْ تَخَيَّلَهُ الطُّرْطُوشِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ تَارَةً تُوَزِّعُ الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ { وَلَمْ

تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَلَا يَصِحُّ إلَّا التَّوْزِيعُ ، وَأَنَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رَهْنًا يُؤْمَرُ بِهِ ، وَكَقَوْلِنَا الدَّنَانِيرُ لِلْوَرَثَةِ ، وَتَارَةً لَا يُوَزَّعُ الْجَمْعُ عَلَى الْجَمْعِ بَلْ يَثْبُتُ أَحَدُ الْجَمْعَيْنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْجَمْعِ الْآخَرِ نَحْوُ : الثَّمَانُونَ جَلْدُ الْقَذْفِ أَوْ جَلْدُ الْقَذْفَةِ ثَمَانُونَ ، وَتَارَةً يَثْبُتُ الْجَمْعُ لِلْجَمْعِ ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَى الْأَفْرَادِ نَحْوُ : الْحُدُودُ لِلْجِنَايَاتِ إذَا قَصَدَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لِلْمَجْمُوعِ وَتَارَةً يَرِدُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلتَّوْزِيعِ وَعَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ } فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَدَدُ جَنَّاتٍ بِمَعْنَى بَسَاتِينَ دَاخِلَ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُوَزَّعَ فَيَكُونُ لِبَعْضِهِمْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَلِبَعْضٍ جَنَّةُ الْمَأْوَى وَلِبَعْضِهِمْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ فَيَبْطُلُ اسْتِدْلَالُ الطُّرْطُوشِيِّ وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ بِهِ عَلَى مُقَابَلَةِ الْجَمَاعَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ ، هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
قُلْتُ وَفِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِ الْأَصْلِ : وَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ إلَخْ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ بِلَا تَعْيِينٍ لِذَلِكَ الْأَحَدِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَرِينَةِ كَانَ هَذَا عَيْنَ الِاشْتِرَاكِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهَا مَعَ التَّعْيِينِ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَوْ الْمَجَازِ نَعَمْ قَدْ يُقَالُ أَرَادَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ الصَّادِقَةَ عَلَى الْأَفْرَادِ الثَّلَاثَةِ كَالْإِنْسَانِ عَلَى أَفْرَادِهِ فَيَصِحُّ قَوْلُهُ لِئَلَّا

يَلْزَمَ إلَخْ بِشِقَّيْهِ وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ فَرْدًا ، وَمَجَازًا إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ خُصُوصُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحُدُودِ وَقَاعِدَةِ التَّعَازِيرِ مِنْ وُجُوهٍ عَشَرَةٍ ) .
( أَحَدِهَا ) أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ أَكْثَرِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ فَعِنْدَنَا هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بَلْ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجَاوِزُ بِهِ أَقَلَّ الْحُدُودِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ حَدُّ الْعَبْدِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ سَوْطٌ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَقَشَ خَاتَمًا مِثْلَ خَاتَمِهِ فَجُلِدَ مِائَةً فَشَفَعَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ أَذْكَرُونِي الطَّعْنَ وَكُنْت نَاسِيًا فَجَلَدَهُ مِائَةً أُخْرَى ثُمَّ جَلَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةً أُخْرَى وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مُسَاوَاةُ الْعُقُوبَاتِ لِلْجِنَايَاتِ احْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرٍ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى } وَالْجَوَابُ أَنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرٍ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى طِبَاعِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ أُمُورًا هِيَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ إنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا مِنْ الْمُوبِقَاتِ فَكَانَ يَكْفِيهِمْ قَلِيلُ التَّعْزِيرِ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى زَوَّرُوا خَاتَمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ ، وَلَمْ يَرِدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَسْخَ حُكْمٍ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ يَنْتَقِلُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ .
( وَثَانِيهَا ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ النُّفُوذِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْزِيرِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ لِحَقِّ

اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ كَالْمَحْدُودِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مَصْلَحَةٌ مِنْ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَزِّرْ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي حَقِّ الزُّبَيْرِ فِي أَمْرِ السَّقْيِ : أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك } يَعْنِي فَسَامَحْتَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَجِبُ كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حَقٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } فَإِذَا قَسَطَ فَتَجِبُ إقَامَتُهُ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ غَيْرَ الْمُقَدَّرِ قَدْ يَجِبُ كَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ ، وَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ وَاجِبٌ ؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ كَانَتْ تَصْدُرُ لِجَفَاءِ الْأَعْرَابِ لَا لِقَصْدِ السَّبِّ .
( وَثَالِثِ الْفُرُوقِ ) أَنَّ التَّعْزِيرَ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ الزِّنَا مِائَةٌ وَحَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ وَالسَّرِقَةُ الْقَطْعُ وَالْحِرَابَةُ الْقَتْلُ وَقَدْ خُولِفَتْ الْقَاعِدَةُ فِي الْحُدُودِ دُونَ التَّعَازِيرِ فَسَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَ سَرِقَةِ دِينَارٍ وَسَرِقَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَشَارِبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ وَشَارِبِ جَرَّةٍ فِي الْحَدِّ مَعَ اخْتِلَافِ مَفَاسِدِهَا حَدًّا ، وَعُقُوبَةُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحُرِّ أَعْظَمُ لِجَلَالَةِ مِقْدَارِهِ بِدَلِيلِ رَجْمِ الْمُحْصَنِ دُونَ الْبِكْرِ لِعِظَمِ مِقْدَارِهِ مَعَ أَنَّ الْعَبِيدَ إنَّمَا سَاوَتْ الْأَحْرَارَ فِي السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ لِتَعَذُّرِ التَّجْزِئَةِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ وَاسْتَوَى الْجُرْحُ اللَّطِيفُ السَّارِي لِلنَّفْسِ وَالْعَظِيمُ فِي

الْقِصَاصِ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا ، وَقَتْلُ الرَّجُلِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ التَّقِيِّ الشُّجَاعِ الْبَطَلِ مَعَ الْوَضِيعِ .
( الرَّابِعِ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ يَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ ، وَقَدْ لَا يَصْحَبُهَا الْعِصْيَانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ كَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ وَجَاءَ فِي هَذَا الْفَرْقِ فَرْعٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ ، وَلَمْ يَسْكَرْ قَالَ مَالِكٌ أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِمُنَافَاتِهَا لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الْخَمْرِ وَمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحُدُّهُ ، وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا حَدُّهُ فَلِلْمَفْسَدَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ التَّوَسُّلِ لِإِفْسَادِ الْعَقْلِ ، وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّقْلِيدِ عِنْدَهُ ، قَالَ : وَالْعُقُوبَاتُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ لَا الْمَعَاصِيَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ عُقُوبَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَيَبْطُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي التَّعَازِيرِ أَمَّا الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَةُ فَلَمْ تُوجَدْ فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ ، فَالْحَقُّ مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( الْخَامِسِ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَسْقُطُ ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا كَانَ الْجَانِي مِنْ الصِّبْيَانِ أَوْ الْمُكَلَّفِينَ قَدْ جَنَى جِنَايَةً حَقِيرَةً وَالْعُقُوبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ رَدْعًا ، وَالْعَظِيمَةُ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِيهِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا أَمَّا الْعَظِيمَةُ فَلِعَدَمِ مُوجِبِهَا ، وَأَمَّا الْحَقِيرَةُ فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا ، وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ فِيهِ .
( السَّادِسِ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ

خِلَافًا ، وَالْحُدُودَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا الْحِرَابَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
( سُؤَالٌ ) مَفْسَدَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَالْحِرَابَةُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الزِّنَا وَهَاتَانِ الْمَفْسَدَتَانِ الْعَظِيمَتَانِ تَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْأَعْلَى أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ الْأَدْنَى ، وَهُوَ سُؤَالٌ قَوِيٌّ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْحُدُودِ بِالتَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدِهَا ) أَنَّ سُقُوطَ الْقَتْلِ فِي الْكُفْرِ يُرَغِّبُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ قُلْتُ : إنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى الرِّدَّةِ قُلْتُ الرِّدَّةُ قَلِيلَةٌ فَاعْتُبِرَ جِنْسُ الْكُفْرِ وَغَالِبُهُ .
( وَثَانِيهَا ) أَنَّ الْكُفْرَ يَقَعُ لِلشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَلَا يُؤْثِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكْفُرَ لِهَوَاهُ قُلْنَا ، وَلَا يَزْنِي أَحَدٌ إلَّا لِهَوَاهُ فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ .
( وَثَالِثِهَا ) أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَتَكَرَّرُ غَالِبًا وَجِنَايَاتُ الْحُدُودِ تُكَرَّرُ غَالِبًا فَلَوْ أَسْقَطْنَاهَا بِالتَّوْبَةِ ذَهَبَتْ مَعَ تَكَرُّرِهَا مَجَّانًا وَتَجَرَّأَ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ أَهْوِيَتِهِمْ أَكْثَرَ ، وَأَمَّا الْحِرَابَةُ فَلِأَنَّا لَا نُسْقِطُهَا إلَّا إذَا لَمْ نَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةَ بِالْقَتْلِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَمَّا مَتَى قَتَلَ قُتِلَ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ الدَّمِ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَجَبَ الْغُرْمُ وَسَقَطَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فِيهِ تَخْيِيرٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَتَّمٌ وَالْمُحَتَّمُ آكَدُ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ .
( السَّابِعِ ) أَنَّ التَّخْيِيرَ يَدْخُلُ فِي التَّعَازِيرِ مُطْلَقًا وَلَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي الْحِرَابَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ فَقَطْ .
( تَنْبِيهٌ ) التَّخْيِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ أَحَدِهَا : الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِهَا .
وَثَانِيهَا :

الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ كَتَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ فَمَتَى قُلْنَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَرْفِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ فِي أُسَارَى الْعَدُوِّ أَوْ الْمُحَارِبِينَ أَوْ التَّعْزِيرِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ وَمَصْلَحَتُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَهُوَ أَبَدًا يَنْتَقِلُ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ كَمَا يَنْتَقِلُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ غَيْرَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ يَهْوَاهُ فِي التَّكْفِيرِ ، وَالْإِمَامُ يَتَحَتَّمُ فِي حَقِّهِ مَا أَدَّتْ الْمَصْلَحَةُ إلَيْهِ لَا أَنَّ هَاهُنَا إبَاحَةٌ أَلْبَتَّةَ ، وَلَا أَنَّهُ يَحْكُمُ فِي التَّعَازِيرِ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ هَذَا فُسُوقٌ وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ بَلْ الصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَثَالِثِهَا تَخْيِيرُ السَّاعِي بَيْنَ أَخْذِ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا يَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ أَدَّتْ إلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَفِي الْحِنْثِ تَخْيِيرٌ مُتَأَصِّلٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّخْيِيرَاتِ .
( الثَّامِنِ ) أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ ، وَالْجِنَايَةُ وَالْحُدُودُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فَاعِلِهَا فَلَا بُدَّ فِي التَّعْزِيرِ مِنْ اعْتِبَارِ مِقْدَارِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ .
( التَّاسِعِ ) أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بِلَادٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ كَقَلْعِ الطَّيْلَسَانِ بِمِصْرَ تَعْزِيرٌ وَفِي الشَّامِ إكْرَامٌ وَكَشْفُ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِالْعِرَاقِ ، وَمِصْرَ هَوَانٌ .
( الْعَاشِرِ ) أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَوْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى حَقِّ الْعَبْدِ الصِّرْفِ كَشَتْمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ ، وَالْحُدُودُ لَا يَتَنَوَّعُ

مِنْهَا حَدٌّ بَلْ الْكُلُّ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا الْقَذْفَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ إمَّا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حَدًّا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ فَلَا يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحُدُودِ وَقَاعِدَةِ التَّعَازِيرِ مِنْ وُجُوهٍ ) قُلْتُ جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ أَغْفَلَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } أَصَحَّهَا ، وَأَقْوَاهَا وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْحُدُودِ فِي لَفْظِ الشَّرْعِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الزِّنَا وَشَبَهِهِ بَلْ لَفْظُ الْحُدُودِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَالتَّعْلِيقُ عَلَى هَذَا مِنْ جُمْلَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يُجْلَدُ عَشْرَ جَلَدَاتٍ فَمَا دُونَهَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَلْدُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَغْفَلَ أَيْضًا التَّنْبِيهَ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْحَقِيرَةَ تَسْقُطُ عُقُوبَتُهَا وَبَيَانُ ضَعْفِ ذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ بُطْلَانِهِ أَنَّ قَوْلَهُ الْعُقُوبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا رَدْعًا ، قَوْلٌ مُتَنَافٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْعُقُوبَةِ صَالِحَةً لِلْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ رَدْعًا فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُؤَثِّرُ رَدْعًا فَلَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لَهَا هَذَا أَمْرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَلَا إشْكَالَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفُرُوقِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ ) .
وَهُوَ مِنْ عَشَرَةِ وُجُوهٍ .
( الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) أَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَالتَّعْزِيرَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ أَكْثَرِهِ فَعِنْدَنَا هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بَلْ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى ، وَأَمَّا تَحْدِيدُ الْعُقُوبَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَقَالَ فِي الْمُعَلِّمِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا ، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى الْحُدُودِ وَقَدْ أَمَرَ مَالِكٌ بِضَرْبِ رَجُلٍ وُجِدَ مَعَ صَبِيٍّ قَدْ جَرَّدَهُ وَضَمَّهُ إلَى صَدْرِهِ فَضَرَبَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ فَانْتَفَخَ ، وَمَاتَ ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ مَالِكٌ ذَلِكَ .
ا هـ الْمُرَادُ ، قَالَ الْأَصْلُ لَنَا وَجْهَانِ .
( الْأَوَّلُ ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَقَشَ خَاتَمًا مِثْلَ نَقْشِ خَاتَمِهِ فَجَلَدَهُ مِائَةً فَشَفَعَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ أَذْكَرْتُمُونِي الطَّعْنَ وَكُنْت نَاسِيًا فَجَلَدَهُ مِائَةً أُخْرَى ثُمَّ جَلَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةً أُخْرَى ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا وَفِي التَّبْصِرَةِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ أَيْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَإِلَّا لَوَرَدَ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْأَصْلَ مُسَاوَاةُ الْعُقُوبَاتِ لِلْجِنَايَاتِ ، قَالَ الْأَصْلُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ أَيْ بِالتَّعْزِيرِ أَقَلَّ الْحُدُودِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ حَدُّ الْعَبْدِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ سَوْطٌ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَفِي التَّبْصِرَةِ وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَبْلُغُ عِشْرِينَ وَفِيهَا أَيْضًا ،

وَلَمْ يَزِدْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَ الْأَصْلُ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } .
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ ، وَأَغْفَلَهُ الشِّهَابُ وَهُوَ أَصَحُّهَا ، وَأَقْوَاهَا : إنَّ لَفْظَ الْحُدُودِ فِي لَفْظِ الشَّرْعِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الزِّنَا وَشِبْهِهِ بَلْ لَفْظُ الْحُدُودِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ ، وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَالتَّعْلِيقُ عَلَى هَذَا مِنْ جُمْلَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ جَلْدُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ فَافْهَمْ .
ا هـ .
وَعِبَارَةُ الْمُعَلِّمِ كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدٍّ إلَخْ أَيْ فِي غَيْرِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ كَمَا فِي الْمُعَلِّمِ قَالَ الْأَصْلُ أَيْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى طِبَاعِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ أُمُورًا هِيَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ ، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا مِنْ الْمُوبِقَاتِ فَكَانَ يَكْفِيهِمْ قَلِيلُ التَّعْزِيرِ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى زَوَّرُوا خَاتَمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ ، وَلَمْ يُرِدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَسْخَ حُكْمٍ بَلْ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ يَنْتَقِلُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إلَّا مَذْهَبُ

أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمَّا الْأَحْنَافُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْعَشْرِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ النُّفُوذِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْزِيرِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ كَالْحُدُودِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنْ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ مَصْلَحَةٌ أَيْ وَإِنْ كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ لَمْ يَجِبْ وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ فَإِنْ تَجَرَّدَ التَّعْزِيرُ عَنْ حَقِّ آدَمِيٍّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الْأَصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ وَلَهُ التَّشْفِيعُ فِيهِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { اشْفَعُوا إلَيَّ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ } قَالَ فَلَوْ تَعَافَى الْخَصْمَانِ عَنْ الذَّنْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ سَقَطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَفِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْأَدَبِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ فَلَهُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ .
وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ ضِمْنًا كَمَا إذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْحَدِّ عَنْ الْحَدِّ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ إذْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ التَّعْزِيرُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي الْحَدِّ السَّاقِطِ وَقِيلَ لَا يَسْقُطُ إذْ وُجُوبُ التَّعْزِيرِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَدِّ لِمُجَرَّدِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ فَلَا يَنْبَغِي سُقُوطُهُ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ قَالَ فَلَوْ كَانَ الْخَصْمَانِ الْمُتَرَافِعَانِ وَالِدًا وَوَلَدًا فَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي تَعْزِيرِ وَالِدِهِ نَعَمْ يَخْتَصُّ تَعْزِيرُهُ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِعْلُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَتَعْزِيرُ الْوَلَدِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَّيْ

الْوَالِدِ وَالسَّلْطَنَةِ .
ا هـ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ أَيْ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِوَجْهَيْنِ .
( الْأَوَّلِ ) مَا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَزِّرْ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَهُ فِي حَقِّ الزُّبَيْرِ فِي أَمْرِ السَّقْيِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك } يَعْنِي فَسَامَحْتَهُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } فَإِذَا قَسَطَ فَتَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ كَانَتْ تَصْدُرُ لِجَفَاءِ الْأَعْرَابِ لَا لِقَصْدِ السَّبِّ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَجِبُ كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ وَجَوَابُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُقَدَّرِ قَدْ يَجِبُ كَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ وَاجِبٌ .
( الْوَجْهِ الثَّالِثِ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ ، وَإِنْ جَرَتْ عَلَى الْأَصْلِ وَالْقَاعِدَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُقُوبَاتِ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ حَدَّ الزِّنَا مِائَةً وَحَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ وَحَدَّ السَّرِقَةِ الْقَطْعَ وَحَدَّ الْحِرَابَةِ الْقَتْلَ إلَّا أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي مَسَائِلَ .
( مِنْهَا ) أَنَّ الشَّرْعَ سَوَّى فِي الْحَدِّ بَيْنَ سَرِقَةِ دِينَارٍ وَسَرِقَةِ أَلْفِ دِينَارٍ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ سَوَّى فِي الْحَدِّ بَيْنَ شَارِبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ وَشَارِبِ جَرَّةٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَفَاسِدِهَا حَدًّا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ جَعَلَ عُقُوبَةَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءً مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحُرِّ أَعْظَمُ لِجَلَالَةِ مِقْدَارِهِ بِدَلِيلِ رَجْمِ الْمُحْصَنِ دُونَ الْبِكْرِ لِعِظَمِ مِقْدَارِهِ مَعَ أَنَّ الْعَبِيدَ إنَّمَا سَاوَتْ الْأَحْرَارَ فِي السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ لِتَعَذُّرِ التَّجْزِئَةِ بِخِلَافِ

الْجَلْدِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْجُرْحِ اللَّطِيفِ السَّارِي لِلنَّفْسِ وَالْعَظِيمِ فِي الْقِصَاصِ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ قَتْلِ الرَّجُلِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ التَّقِيِّ الشُّجَاعِ الْبَطَلِ مَعَ الْوَضِيعِ .
وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ أَبَدًا فَيَخْتَلِفُ دَائِمًا بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَمَا قَالَ بِبَعْضِهِ أَصْحَابُنَا وَبَعْضُهُ خَارِجُ الْمَذْهَبِ .
( فَمِنْهَا ) { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّرَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْهَجْرِ فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ } وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الصِّحَاحِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ صَبِيغًا الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَغَيْرِهَا وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالتَّفَقُّهِ فِي الْمُشْكِلَاتِ مِنْ الْقُرْآنِ ضَرْبًا وَجِيعًا وَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ أَوْ الْكُوفَةِ ، وَأَمَرَ بِهَجْرِهِ فَكَانَ لَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَابَ وَكَتَبَ عَامِلُ الْبَلَدِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ فَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي كَلَامِهِ .
( وَمِنْهَا ) { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّرَ بِالنَّفْيِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ } وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلَقَ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمَّا تَشَبَّبَ النِّسَاءُ بِهِ فِي الْأَشْعَارِ وَخَشَى الْفِتْنَةَ بِهَا .
( وَمِنْهَا ) مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَتَهَا أَنْ تُخَلِّيَ

سَبِيلَهَا } .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي رَجُلٍ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَأَشَارُوا بِحَرْقِهِ فِي النَّارِ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ حَرَقَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ ثُمَّ حَرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَقَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ .
( وَمِنْهَا ) { إبَاحَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ } .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْر وَشَقِّ ظُرُوفِهَا } .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ } .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ اسْتَأْذَنُوهُ فِي غَسْلِهَا فَأَذِنَ لَهُمْ } فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْكَسْرِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً .
( وَمِنْهَا ) { هَدْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ } .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ } .
( وَمِنْهَا ) إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ مِنْ التَّمْرِ وَالْكَسْرِ .
( وَمِنْهَا ) إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ .
( وَمِنْهَا ) أَخْذُهُ شَطْرَ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ غَرْمَةً مِنْ غَرَامَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
( وَمِنْهَا ) أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابِسَ خَاتَمِ الذَّهَبِ بِطَرْحِهِ فَطَرَحَهُ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ .
( وَمِنْهَا ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ نَخِيلِ الْيَهُودِ إغَاظَةً لَهُمْ } .
(

وَمِنْهَا ) تَحْرِيقُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ .
( وَمِنْهَا ) تَحْرِيقُ عُمَرَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ ( وَمِنْهَا ) مُصَادَرَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمَّالَهُ بِأَخْذِ شَطْرِ أَمْوَالِهِمْ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ الَّذِي زَوَّرَ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ ، وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةً .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا وَجَدَ مَعَ السَّائِلِ مِنْ الطَّعَامِ فَوْقَ كِفَايَتِهِ وَهُوَ يَسْأَلُ أَخْذَ مَا مَعَهُ ، وَأَطْعَمَهُ إبِلَ الصَّدَقَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ ، وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ : وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَائِعَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَبَعْضُهَا شَائِعٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَمَنْ قَالَ إنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا ، وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ دَعْوَاهُ نَسْخَهَا كَيْفَ وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْطِلٌ لِدَعْوَى نَسْخِهَا وَالْمُدَّعُونَ لِلنَّسْخِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ ، وَلَا سُنَّةٌ ، وَلَا إجْمَاعٌ يُصَحِّحُ دَعْوَاهُمْ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ فَمَذْهَبُ أَصْحَابِهِ عِيَارٌ عَلَى الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ا هـ .
قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَالتَّعْزِيرُ بِالْمَالِ قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ ، وَلَهُمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذَكَرْتُ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْحِسْبَةِ طَرَفًا فَمِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ اللَّبَنِ

الْمَغْشُوشِ أَيُهْرَاقُ ؟ .
قَالَ لَا ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ وَقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ الْمَغْشُوشِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَثِيرِ فَقَالَ يُبَاعُ الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ إلَى مَنْ لَا يَغِشُّ بِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلْغَاشِّ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) أَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْأَنْدَلُسِيِّ فِي الْمَلَاحِمِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِأَنْ تُحْرَقَ ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِتَقْطِيعِهَا وَالصَّدَقَةِ بِهَا خِرَقًا .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا اشْتَرَى عَامِلُ الْقِرَاضِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ عَالِمًا بِأَنَّهُ قَرِيبُهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ الْعَبْدُ وَغَرِمَ الْعَامِلُ ثَمَنَهُ وَحِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ يَوْمَ الشِّرَاءِ رِبْحٌ وَوَلَاؤُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ فِيمَا فَعَلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) مَنْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ مِنْ مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُ وَتُبَاعُ عَلَيْهِ ، وَإِخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ كُرْهًا مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) الْفَاسِقُ إذَا آذَى جَارَهُ ، وَلَمْ يَنْتَهِ تُبَاعُ عَلَيْهِ الدَّارُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) مَنْ مَثَّلَ بِأَمَتِهِ عَتَقَتْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ بِالْمَالِ ا هـ .
( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمُقَدَّرَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ يَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ وَقَدْ لَا يَصْحَبُهَا الْعِصْيَانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ كَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ ، قَالَ الْأَصْلُ : وَمِنْ هُنَا يَبْطُلُ عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ فِي الْحَنَفِيِّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ ، وَلَمْ يَسْكَرْ أَحُدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا حَدُّهُ فَلِلْمَفْسَدَةِ

الْحَاصِلَةِ مِنْ التَّوَسُّلِ لِإِفْسَادِ الْعَقْلِ ، وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّقْلِيدِ عِنْدَهُ ، قَالَ : وَالْعُقُوبَاتُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ لَا الْمَعَاصِيَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ عُقُوبَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ .
ا هـ .
لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي التَّعَاذِيرِ لَا فِي الْحُدُودِ وَيَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ قَوْلَ مَالِكٍ أَحُدُّهُ ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِمُنَافَاتِهَا لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الْخَمْرِ وَمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ فَافْهَمْ .
( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : إذَا كَانَ الْجَانِي مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمُكَلَّفِينَ قَدْ جَنَى جِنَايَةً حَقِيرَةً وَالْعُقُوبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ رَدْعًا وَالْعَظِيمَةُ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِيهِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا أَمَّا الْعَظِيمَةُ فَلِعَدَمِ مُوجِبِهَا ، وَأَمَّا الْحَقِيرَةُ فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا .
ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ : وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ فِيهِ .
ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَبَيَانُ ضَعْفِ قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْحَقِيرَةَ تَسْقُطُ عُقُوبَتُهَا ، بَلْ بُطْلَانِهِ أَنَّ قَوْلَهُ الْعُقُوبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ رَدْعًا ، قَوْلٌ مُتَنَافٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْعُقُوبَةِ صَالِحَةً لِلْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ رَدْعًا فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُؤَثِّرُ رَدْعًا فَلَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لَهَا هَذَا أَمْرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَلَا إشْكَالَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا هـ .
( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَالَ الْأَصْلُ : مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ

عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا الْحِرَابَةَ وَالْكُفْرَ فَإِنَّهُمَا يَسْقُطُ حَدُّهُمَا بِالتَّوْبَةِ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا } الْآيَةَ ، لَا يُقَالُ قِيَاسُ نَحْوِ الزِّنَا مِنْ بَاقِي الْمَفَاسِدِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ عَلَى هَذَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ مَفْسَدَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَالْحِرَابَةُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الزِّنَا فَإِذَا أَثَّرَتْ التَّوْبَةُ فِي سُقُوطِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ فِيمَا دُونَهُمَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذْ الْمُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْأَعْلَى أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ الْأَدْنَى يُقَوِّي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْحُدُودِ بِالتَّوْبَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُقَابِلَ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ لَا يَصِحُّ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفْرِ فَمِنْ وُجُوهٍ .
( أَحَدِهَا ) أَنَّ سُقُوطَ الْقِتَالِ فِي الْكُفْرِ يُرَغِّبُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَوْنُهُ يَبْعَثُ عَلَى الرِّدَّةِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الرِّدَّةَ قَلِيلَةٌ فَاعْتُبِرَ جِنْسُ الْكُفْرِ وَغَالِبُهُ .
وَ ( ثَانِيهَا ) أَنَّ الْكُفْرَ يَقَعُ لِلشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ ، وَلَا يُؤْثِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكْفُرَ لِهَوَاهُ بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي أَحَدٌ مَثَلًا إلَّا لِهَوَاهُ فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ .
( وَثَالِثِهَا ) أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَتَكَرَّرُ غَالِبًا وَجِنَايَاتُ الْحُدُودِ تَتَكَرَّرُ غَالِبًا فَلَوْ أَسْقَطْنَاهَا بِالتَّوْبَةِ ذَهَبَتْ مَعَ تَكَرُّرِهَا مَجَّانًا وَتَجَرَّأَ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ أَهْوِيَتِهِمْ أَكْثَرُ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحِرَابَةِ فَلِأَنَّا لَا نُسْقِطُهَا بِالتَّوْبَةِ إلَّا إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ بِالْقَتْلِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَمَّا مَتَى قَتَلَ قُتِلَ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ الدَّمِ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَجَبَ الْغُرْمُ وَسَقَطَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فِيهِ تَخْيِيرٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَتَّمٌ ،

وَالْمُحَتَّمُ آكَدُ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ .
( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَدْخُلُ فِي التَّعَاذِيرِ مُطْلَقًا ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي الْحِرَابَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْهَا فَقَطْ وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ .
( أَحَدُهَا ) مَا فِي قَوْلِ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ إنْ قَتَلَ .
( وَثَانِيهَا ) مَا فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ إنْ طَالَ أَمْرُهُ ، وَأَخَذَ الْمَالَ ، وَلَمْ يُقْتَلْ بِحَدٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ يُقْتَلُ ، وَلَا يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ غَيْرَ الْقَتْلِ .
ا هـ ( وَثَالِثُهَا ) مَا فِي التَّبْصِرَةِ عَنْ الْبَاجِيَّ قَالَ أَشْهَبُ فِي الَّذِي أَخَذَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ هَذَا الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ لَوْ أَخَذَ فِيهِ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُجْلَدَ وَيُنْفَى وَيُحْبَسَ حَيْثُ نُفِيَ إلَيْهِ .
ا هـ بِلَفْظِهِ .
وَالْمُرَادُ بِالتَّخْيِيرِ هَاهُنَا الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى مَا يَتَحَتَّمُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ مِمَّا أَدَّتْ إلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ لَا التَّخْيِيرُ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ إذْ لَا إبَاحَةَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ ، وَلَا التَّخْيِيرُ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ فَإِنَّ هَذَا هَاهُنَا فُسُوقٌ وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
( أَحَدِهِمَا ) الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِهَا .
( وَثَانِيهِمَا ) الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ وَتَحْتَهُ نَوْعَانِ .
( الْأَوَّلُ ) انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ لِيُؤَدِّيَ إلَى مَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ وَأَدَّتْ الْمَصْلَحَةُ إلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ كَتَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ فَمَتَى قُلْنَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي

صَرْفِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ فِي أُسَارَى الْعَدُوِّ أَوْ الْمُحَارِبِينَ أَوْ فِي التَّعْزِيرِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مَا شَاءَ مِنْ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ ، وَهَذَا نَوْعَانِ أَيْضًا .
( الْأَوَّلُ ) تَخَيُّرٌ مُتَأَصِّلٌ بِمَعْنَى انْتِقَالٍ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ أَصَالَةً لَا عُرُوضًا كَمَا فِي تَخْيِيرِ الْمُكَفِّرِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ بَيْنَ أَنْوَاعِهَا الْوَاجِبَةِ بِهَوَاهُ وَالثَّانِي تَخْيِيرٌ جَرَّ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَعْنَى انْتِقَالٍ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ لَا أَصَالَةً بَلْ عُرُوضًا بِحَسَبِ مَا جَرَّ إلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي تَخْيِيرِ السَّاعِي بَيْنَ أَخْذِ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتٍ لَبُونٍ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا يَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ إلَّا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ أَدَّتْ إلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَفِي الْحِنْثِ تَخْيِيرٌ مُتَأَصِّلٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّخْيِيرَاتِ وَاحْتَفِظْ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ .
( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ وَالْجِنَايَةِ فَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ وَبِحَسَبِ الْجَانِي فِي الشَّرِّ وَعَدَمِهِ .
ا هـ .
أَيْ وَبِحَسَبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرَفِ وَعَدَمِهِ وَفِيهَا أَيْضًا بُعْدٌ ، أَنَّ التَّعَاذِيرَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ ، وَمَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِ الْمُعَاقَبِ مِنْ جَلَدِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى يَسِيرِهَا أَوْ ضَعْفِهِ عَنْ ذَلِكَ وَانْزِجَارِهِ إذَا عُوقِبَ بِأَقَلِّهَا .
ا هـ .
وَالْحُدُودُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فَاعِلِهَا .
( الْوَجْهُ التَّاسِعُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ

وَالْأَمْصَارِ فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي عَصْرٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي عَصْرٍ آخَرَ وَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بِلَادٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ كَقَلْعِ الطَّيْلَسَانِ بِمِصْرَ تَعْزِيرٌ وَفِي الشَّامِ إكْرَامٌ وَكَكَشْفِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِالْعِرَاقِ وَمِصْرَ هَوَانٌ .
( الْوَجْهُ الْعَاشِرُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَتَنَوَّعُ إلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَوْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى حَقِّ الْعَبْدِ الصِّرْفِ كَشَتْمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ ، وَالْحُدُودُ لَا يَتَنَوَّعُ مِنْهَا حَدٌّ بَلْ الْكُلُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا الْقَذْفَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَمَّا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ فَلَا يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ ، هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِالصِّيَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِغَيْرِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ الصِّيَالَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ إتْلَافِهِ بِسَبَبِ عِدَاهُ وَعُدْوَانِهِ وَيَقْوَى الضَّمَانُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُتْلِفِهِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ ، وَلَهُ خَصِيصَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ السَّاكِتَ عَنْ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقْتَلَ لَا يُعَدُّ آثِمًا ، وَلَا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ لَوْ مَنَعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْ عَنْهَا الصَّائِلَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَبَسْطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ أَوْ غَيْرَهُ صَالَ فَدَفَعَ عَنْ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ دَفْعًا لَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بَلْ الدَّفْعَ خَاصَّةً ، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُ ابْتِدَاءً لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا إلَى الدَّفْعِ فَمَنْ خَشِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ حَتَّى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَكَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ صَاحِبِهَا فِي دَفْعِهَا وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُتْلِفَ ابْتِدَاءً لَمْ يَنُبْ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْإِتْلَافِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَعْظَمُ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ النَّفْسُ ، وَأَمْرُهُ بِيَدِهِ إنْ شَاءَ أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ فَفِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ الصَّبْرُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لَهَا أَوْ هُوَ يَقْصِدُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ عَضَّ الصَّائِلُ يَدَك فَنَزَعْتَهَا مِنْ فِيهِ فَقَلَعْتَ أَسْنَانَهُ ضَمِنْتَ دِيَةَ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِك وَقِيلَ لَا تَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَك لِذَلِكَ ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى حَرَمٍ مِنْ كَوَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تَقْصِدَ عَيْنَهُ أَوْ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الْمَعْصِيَةُ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَفِيهِ

الْقَوَدُ إنْ فَعَلْت وَيَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِنْذَارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ دَفْعٌ وَمُسْتَنَدُ تَرْكِ الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ } وَلِقِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ { إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقَبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ } ثُمَّ قَالَ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } وَلَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةٌ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ الْقَتْلِ ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَفْسَدَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا تَعَارَضَتَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا فَهَذَا أَقْرَبُ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ دَفْعِ الصَّائِلُ ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ أَنَّ تَرْكَ الْغِذَاءِ هُوَ السَّبَبُ الْعَامُّ فِي الْمَوْتِ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ غَيْرَهُ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُضَافَ فِعْلُ الصَّائِلِ لِلتَّمْكِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَبَيْنَ تَرْكِ الدَّوَاءِ فَلَا يَحْرُمُ أَنَّ الدَّوَاءَ غَيْرُ مُنْضَبِطِ النَّفْعِ فَقَدْ يُفِيدُ وَقَدْ لَا يُفِيدُ وَالْغِذَاءُ ضَرُورِيُّ النَّفْعِ ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْفَحْلَ الصَّائِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُبَاحُ لَهُ الدَّفْعُ وَيَضْمَنُ وَاتَّفَقُوا إذَا كَانَ آدَمِيًّا بَالِغًا عَاقِلًا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ .
لَنَا وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ .
الثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى الْآدَمِيِّ .
الثَّالِثُ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْأَذَى أَنَّهَا تَقْتُلُ ، وَلَا تُضْمَنُ إجْمَاعًا ، وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا غَصَبَهُ فَصَالَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ هُنَالِكَ بِالْغَصْبِ لَا بِالدَّفْعِ ، وَإِلَّا إذَا اُضْطُرَّ لَهُ لِجُوعٍ فَأَكَلَهُ

فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ الْقَاتِلَ فِي نَفْسِ الْجَامِعِ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِلِ وَالْقَتْلُ بِالصِّيَالِ مِنْ جِهَةِ الصَّائِلِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّ مُدْرِكَ عَدَمِ الضَّمَانِ إنَّمَا هُوَ إذْنُ الْمَالِكِ لَا جَوَازُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَكَلَهُ لِمَجَاعَةٍ ضَمِنَهُ .
الثَّانِي أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ وَالْبَهِيمَةُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَطَرَحَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ طَرَحَتْ بَهِيمَةٌ نَفْسَهَا فِيهَا ضُمِنَتْ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَجِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا .
الثَّالِثُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } فَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يَكُنْ جُبَارًا كَالْآدَمِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ أَوْ صَالَ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَقَتَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ فَقَتَلَهُ ابْنُهُ لَا يَضْمَنُونَ لِجَوَازِ الْفِعْلِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا اخْتِيَارٌ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ ، وَالْبَعِيرُ الشَّارِدُ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصَّيْدِ عَلَى أَصْلِهِمْ ، وَإِنْ فَتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَقَعَدَ الطَّائِرُ سَاعَةً ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ طَارَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْآدَمِيِّ لَوْ طَرَحَ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُضْمَنْ بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْهُ ، وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَتَبْطُلُ بِالْعَبْدِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ تَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّابَّةِ فِي الضَّمَانِ ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْهَدَرَ يَقْتَضِي عَدَمَ

الضَّمَانِ مُطْلَقًا .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِالصِّيَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِغَيْرِهِ ) .
مِنْ نَحْوِ تَرْكِ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الضَّمَانِ فِي الصَّائِلِ وَالضَّمَانُ فِي غَيْرِهِ ، وَمِنْ حَيْثُ تَرَتُّبُ الْإِثْمِ عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ وَعَدَمُ تَرَتُّبِ الْإِثْمِ عَلَى تَرْكِ الدَّفْعِ لِلصَّائِلِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ اثْنَانِ بِاعْتِبَارِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَاثْنَانِ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْإِثْمِ وَعَدَمِ تَرَتُّبِهِ .
( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي غَيْرِ الصَّائِلِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ وَعَدَمَ الضَّمَانِ فِي الصَّائِلِ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَوْعٍ مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ إتْلَافِهِ بِسَبَبِ عِدَاهُ وَعِدْوَانِهِ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) مِنْ الْفُرُوقِ وَهُوَ أَقْرَبُهَا أَنَّ الضَّمَانَ فِي غَيْرِ الصَّائِلِ لِعَدَمِ تَعَارُضِ مَفْسَدَتَيْنِ عُلْيَا وَدُنْيَا فِيهِ وَعَدَمَ الضَّمَانِ فِي الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَتْ فِيهِ مَفْسَدَةُ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ الْقَتْلِ ، التَّمْكِينُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَفْسَدَةِ نَفْسِهَا وَالْقَاعِدَةُ سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا إذَا تَعَارَضَتَا .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ تَرْكَ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ سَبَبٌ تَامٌّ فِي الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِ وَتَرْكُ دَفْعِ الصَّائِلِ سَبَبٌ فِي الْمَوْتِ نَاقِصٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِضَافَةِ فِعْلِ الصَّائِلِ إلَيْهِ فَلِذَا تَرَتَّبَ الْإِثْمُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَافْهَمْ .
فَإِنْ قُلْتَ : مَا وَجْهُ حُرْمَةِ تَرْكِ الْغِذَاءِ وَعَدَمِ حُرْمَةِ تَرْكِ الدَّوَاءِ ؟ قُلْتُ الْوَجْهُ أَنَّ الدَّوَاءَ غَيْرُ مُنْضَبِطِ النَّفْعِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ وَقَدْ لَا يُفِيدُ وَنَفْعُ الْغِذَاءِ ضَرُورِيٌّ .
( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ يُعَدُّ

قَاتِلًا لِنَفْسِهِ فَلِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالسَّاكِتُ عَنْ دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُعَدُّ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ فَلِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْإِثْمُ ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الدَّافِعَ لِصَائِلٍ إنْسَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ لَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بَلْ الدَّفْعَ خَاصَّةً ، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُ ابْتِدَاءً لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا إلَى الدَّفْعِ فَمَنْ خَشِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ فَهُوَ هَدَرٌ عِنْدَنَا لَا يَضْمَنُ حَتَّى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَكَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ صَاحِبِهَا فِي دَفْعِهَا ، نَعَمْ لَوْ قَدَرَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ تَعَيَّنَ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الدَّفْعُ بِالْجُرْحِ وَلِذَا لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ بِالْجُرْحِ ابْتِدَاءً لِمَنْ يَخْشَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُبْ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْإِتْلَافِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَهُ الدَّفْعُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَعْظَمُ الْمَدْفُوعِ النَّفْسُ ، وَأَمْرُهُ بِيَدِهِ إنْ شَاءَ أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ فَفِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ الصَّبْرُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لَهَا وَهُوَ يُقْصَدُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ عَضَّ الصَّائِلُ يَدَك فَنَزَعْتَهَا مِنْ فِيهِ فَقَلَعْتَ أَسْنَانَهُ ضَمِنْتَ دِيَةَ الْأَسْنَانِ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِك وَقِيلَ لَا تَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَك لِذَلِكَ ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى حَرَمٍ مِنْ كَوَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تَقْصِدَ عَيْنَهُ أَوْ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الْمَعْصِيَةُ بِالْمَعْصِيَةِ وَفِيهِ الْقَوَدُ إنْ فَعَلْت وَيَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِنْذَارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ دَفْعٌ .
وَمُسْتَنَدُ تَرْكِ الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ وَجْهَانِ : ( الْأَوَّلُ ) مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ } .
( وَالثَّانِي ) قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ { إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقَبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ } ثُمَّ قَالَ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك } وَلَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْفَحْلَ الصَّائِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُبَاحُ لَهُ الدَّفْعُ وَيَضْمَنُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ آدَمِيًّا بَالِغًا عَاقِلًا .
لَنَا وُجُوهٌ ، الْأَوَّلُ : الْأَصْلُ عَدَمُ الضَّمَانِ الثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى الْآدَمِيِّ الثَّالِثُ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْأَذَى أَنَّهَا تَقْتُلُ ، وَلَا تُضْمَنُ إجْمَاعًا وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا غَصَبَهُ فَصَالَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ هُنَالِكَ بِالْغَصْبِ لَا بِالدَّفْعِ ، وَإِلَّا إذَا اُضْطُرَّ لَهُ لِجُوعٍ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ الْقَاتِلَ فِي نَفْسِ الْجَائِعِ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِلِ وَالْقَتْلُ بِالصِّيَالِ مِنْ جِهَةِ الصَّائِلِ ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَحْنَافُ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ .
( فَالْأَوَّلُ ) أَنَّ مُدْرَك عَدَمِ الضَّمَانِ إنَّمَا يَكُونُ هُوَ إذْنُ الْمَالِكِ لَا جَوَازُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَكَلَهُ لِمَجَاعَةٍ ضَمِنَهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا صَالَ عَلَى مُحَرَّمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ أَوْ صَالَ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَقَتَلَهُ الْعَبْدُ وَالْأَبُ عَلَى ابْنِهِ فَقَتَلَهُ ابْنُهُ لَا يَضْمَنُونَ لِجَوَازِ الْفِعْلِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنْ وَالْبَهِيمَةُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَطُرِحَ إنْسَانٌ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ

طَرَحَتْ بَهِيمَةٌ نَفْسَهَا فِيهَا ضُمِنَتْ ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَجِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا اخْتِيَارٌ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ وَالْبَعِيرُ الشَّارِدُ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصَّيْدِ عَلَى أَصْلِهِمْ ، وَإِنْ فَتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَقَعَدَ الطَّائِرُ سَاعَةً ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ طَارَ بِاخْتِيَارِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْآدَمِيِّ لَوْ طَرَحَ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُضْمَنْ بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْهُ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَتَبْطُلُ بِالْعَبْدِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ تَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّابَّةِ فِي الضَّمَانِ .
( وَالثَّالِثُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } فَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يَكُنْ جُبَارًا كَالْآدَمِيِّ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْهَدَرَ يَقْتَضِي عَدَمَ الضَّمَانِ .

( مَسْأَلَةٌ ) إنْ أُرْسِلَتْ الْمَاشِيَةُ بِالنَّهَارِ لِلرَّعْيِ أَوْ انْفَلَتَتْ فَأَتْلَفَتْ فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا فَلَمْ يَمْنَعْهَا ضَمِنَ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ انْفَلَتَتْ بِاللَّيْلِ ، وَأَرْسَلَهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهَا ضَمِنَ ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الزَّرْعِ وَفِي غَيْرِ الزَّرْعِ اخْتِلَافٌ عِنْدَهُمْ وَقَالُوا يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْقِطَطِ الْمُعْتَادَةِ لِلْفَسَادِ لَيْلًا أَفْسَدَتْ أَوْ نَهَارًا ، وَإِنْ خَرَجَ الْكَلْبُ مِنْ دَارِهِ فَجَرَحَ ضَمِنَ أَوْ الدَّاخِلُ بِإِذْنٍ فَوَجْهَانِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ أَرْسَلَ الطَّيْرَ فَالْتَقَطَتْ حَبَّ الْغَيْرِ لَمْ يَضْمَنْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ فِي الزَّرْعِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا .
لَنَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } الْآيَةَ ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ لِأَرْبَابِ الزَّرْعِ قُبَالَةَ زَرْعِهِ وَقَضَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَفْعِهَا لَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَخَرَاجِهَا حَتَّى يَخْلُفَ الزَّرْعُ وَيَنْبُتَ زَرْعُ الْآخَرِ وَالنَّفْشُ رَعْيُ اللَّيْلِ وَالْهَمْلُ رَعْيُ النَّهَارِ بِلَا رَاعٍ .
الثَّانِي أَنَّهُ فَرَّطَ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا .
الثَّالِثِ أَنَّهُ بِالنَّهَارِ يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ دُونَ اللَّيْلِ وَقَدْ اعْتَبَرْتُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِكُمْ إنْ رَمَتْ الدَّابَّةُ حَصَاةً كَبِيرَةً أَصَابَتْ إنْسَانًا ضَمِنَ الرَّاكِبُ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْهَا وَالتَّحَفُّظُ مِنْ الْكَبِيرَةِ بِالتَّنَكُّبِ عَنْهُ وَقُلْتُمْ يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَدُّهَا بِلِجَامِهَا ، وَلَا يَضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا .
احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ : الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ

جُبَارٌ } الثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى النَّهَارِ ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِالْحِرَاسَةِ بِالنَّهَارِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَفِظَ مَالَهُ فَأَتْلَفَهُ إنْسَانٌ أَوْ أَهْمَلَهُ فَأَتْلَفَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
الثَّالِثِ : الْقِيَاسُ عَلَى جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَالِهِ وَجِنَايَةُ مَالِهِ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ وَعَكْسُهُ جِنَايَةُ صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجُرْحَ عِنْدَنَا جُبَارٌ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي غَيْرِ الْجُرْحِ وَاتَّفَقْنَا عَلَى تَضْمِينِ السَّائِقِ وَالرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْفَرْقَ الْمُتَقَدِّمَ ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ بِسَبَبِ الْمَالِكِ هَاهُنَا فَهُوَ كَمَنْ تَرَكَ غُلَامَهُ يَصُولُ فَيَقْتُلُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِاللَّيْلِ مُفَرِّطٌ بِالنَّهَارِ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ ، وَالْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ النُّقُوضِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ التَّضْمِينُ .
( سُؤَالٌ ) قَوْله تَعَالَى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَهُ كَانَ أَقْرَبَ لِلصَّوَابِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ وَقَعَ فِي شَرْعِنَا أَمْضَيْنَاهُ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الزَّرْعِ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهَا غَنَمٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُفْلِسٌ مَثَلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ وَقَعَ فِي شَرْعِنَا مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ مَا أَمْضَيْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لِقِيمَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ صَاحِبَ الْحَرْثِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَمِ الْحُلُولُ إذَا وَجَبَتْ فِي الْإِتْلَافَاتِ ؛ وَلِأَنَّهُ إحَالَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ لَا يَجُوزُ بَيْعًا ، وَمَا لَا يُبَاعُ لَا يُعَارَضُ بِهِ فِي الْقِيَمِ فَيَلْزَمُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُنَا أَتَمَّ فِي الْمَصَالِحِ ، وَأَكْمَلَ الشَّرَائِعِ أَوْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ دُونَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31