كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

مُبْهَمٌ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْ امْرَأَةٍ قَالَ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْأَطْفَالِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ فَإِنَّ جَمِيعَنَا لَا يُخْرِجُ طِفْلًا وَاحِدًا بَلْ أَطْفَالًا إلَى قَوْلِهِ فَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ ) قُلْت لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْعُمُومَ فَإِنَّ الْعُمُومَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الْآحَادِ الْمُمْكِنَةِ وَلَا يُتَّجَهُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ إذْ لَوْ قَالَ وَنُخْرِجُكُمْ جَمِيعَ الْأَطْفَالِ الْمُمْكِنَةِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا صَحِيحًا وَإِنَّمَا الْعُمُومُ فِي الْآيَةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُتَّصِلِ بِنُخْرِجُ وَهُوَ عُمُومٌ فِي الْمَخْرَجَيْنِ لَا فِي كُلِّ مُمْكِنٍ ثُمَّ جَاءَ لَفْظُ طِفْلٍ مُبَيِّنًا لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ الْإِخْرَاجُ فِيهَا وَهِيَ حَالَةُ الطُّفُولِيَّةِ إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَنُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لِأَنَّ وَنُخْرِجُكُمْ فِي مَعْنَاهُ وَإِمَّا عَلَى أَنَّ طِفْلًا اسْمُ جِنْسٍ فَنَابَ مَنَابَ اسْمِ الْجَمْعِ كَنَاسٍ وَنَفَرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( فَإِذَا أَرَادَ الْحَالِفُ تَعْمِيمَ حُكْمِ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِالْعُمُومِ إلَى آخَرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .

( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأُكْرِمَنَّ أَخًا لَك أَوْ وَاَللَّهِ لَا أُكْرِمَنَّ أَخَاك وَنَوَى بِذَلِكَ جَمِيعَ إخْوَتِك لَمْ يَبَرَّ فِي الْأَوَّلِ إلَّا بِإِكْرَامِ جَمِيعِ إخْوَةِ الْمُخَاطَبِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الثَّانِي إلَّا بِإِكْرَامِ جَمِيعِ إخْوَةِ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ أَخًا فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ صَرَفَتْهُ لِلْعُمُومِ وَأَخَاك فِي الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لِكَوْنِهِ مَعْرِفَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ صَرَفَتْهُ لِلْعُمُومِ .

( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) تَعْيِينُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْفَرْدِ لِلْيَمِينِ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ إلَى عَيْنٍ وَيُرِيدُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَحَدَ مُسَمَّيَاتِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ مَثَلًا دُونَ عَيْنِ الْمَاءِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْبَاصِرَةِ بِسَبَبِ تَعْيِينِهَا بِالنِّيَّةِ فَهَذَا قِسْمٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دُونَ تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَالصَّرْفِ إلَى الْمَجَازَاتِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا عَيَّنَهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَفِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ إلَّا عِبَارَتُهُ بِفَرْدٍ عَنْ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ الْأَوْلَى كَانَ أَنْ يَقُولَ تَعَيُّنُ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْفَرْدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْغَالِبِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ الشَّخْصِيُّ لَا الْوَاحِدُ النَّوْعِيُّ

( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ إلَى عَيْنٍ وَنَوَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَحَدَ مُسَمَّيَاتِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ مَثَلًا دُونَ عَيْنِ الْمَاءِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ فَلَا يَبَرَّ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْبَاصِرَةِ بِسَبَبِ تَأْثِيرِ النِّيَّةِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَهَذَا قِسْمٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دُونَ تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَالصَّرْفِ إلَى الْمَجَازَاتِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصُّوَرِ

( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) تُصْرَفُ النِّيَّةُ بِالصَّرْفِ إلَى الْمَجَازَاتِ وَتَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ بِالْكُلِّيَّةِ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ أَسَدًا وَيُرِيدُ رَجُلًا شُجَاعًا فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِضَرْبِ رَجُلٍ شُجَاعٍ وَلَوْ ضَرَبَ الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ مَا بَرَّ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ وَلَفْظِ الْجُزْءِ فِي الْكُلِّ وَلَفْظِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ وَلَفْظِ الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ وَلَفْظِ الْمَلْزُومِ فِي اللَّازِمِ وَلَفْظِ اللَّازِمِ فِي الْمَلْزُومِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ نَحْوُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ السَّبْعَةُ هِيَ تَفْصِيلُ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ مُسْتَوْعَبَةً بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا مَوْطِنٌ آخَرُ لِلنِّيَّةِ أَلْبَتَّةَ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا .
وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ صَحِيحٌ

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ أَسَدًا وَنَوَى بِهِ رَجُلًا شُجَاعًا لَا الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْحَيَوَانُ الْمُفْتَرِسُ لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِضَرْبِ رَجُلٍ شُجَاعٍ فَلَوْ ضَرَبَ الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ مَا بَرَّ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْعِشْرِينَ مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ وَلَفْظِ الْجُزْءِ فِي الْكُلِّ وَلَفْظِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبِّبِ وَلَفْظِ الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ وَلَفْظِ الْمَلْزُومِ فِي اللَّازِمِ وَلَفْظِ اللَّازِمِ فِي الْمَلْزُومِ إلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْبَيَانِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ السِّتَّةُ هِيَ تَفْصِيلُ مَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي الْأَيْمَانِ أَوْ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا .

( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ } يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ سَبَبٌ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنْ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَقْتَضِي عِلِّيَّةَ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَسَبَبِيَّتَهُ وَهَا هُنَا قَدْ رَتَّبَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ حُكْمَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ عَلَى وَصْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ سَبَبَ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ سَبَبَ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى حُصُولِهَا وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَيْهَا لَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَإِنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا ، وَالْقَصْدُ إلَى السَّرِقَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ السَّرِقَةِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ بَلْ لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ النِّيَّةُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِلِّ الْيَمِينِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ بِهِ عَلَى شُرُوطِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ رَفْعُ الْيَمِينِ فَهَذَا وَجْهُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ .

قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهَا ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَأْثِيرَ لَهُ إلَّا إنْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ رَفْعُ الْيَمِينِ أَوْ حِلُّهَا فَهُوَ أَعْنِي الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ الَّذِي لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ بِذَلِكَ دُونَ الْقَصْدِ فَقَطْ وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ الْآنَ فَلْيُنْظَرْ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا يَنْبَنِي التَّحْقِيقُ فِيهَا إلَّا عَلَى ذَلِكَ وَمَا نَظَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ مَنَابَهَا وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنْ الْأَعْمَالِ إنَّمَا كَانَ فِيهَا ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَنَّ الْمُرَادَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ اسْتِثْنَاءِ الْمَشِيئَةِ لَفْظًا اسْتَوَى الْأَمْرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا حَكَاهُ عَنْ اللَّخْمِيِّ مُتَّجَهٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ غُلَامِي وَنَوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّتُهُ فِي ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ } يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ سَبَبٌ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَقْتَضِي عَلِّيَّةَ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَسَبَبِيَّتَهُ وَهَا هُنَا قَدْ رَتَّبَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ حُكْمَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ عَلَى وَصْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ سَبَبُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ يَتَوَقَّفُ حُصُولِ مُسَبِّبَاتِهَا عَلَى حُصُولِهَا وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَيْهَا لَا يَقُومُ مَقَامَهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى السَّرِقَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ السَّرِقَةِ فَيَجِبَ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ ، بَلْ لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ بِالْفِعْلِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ النِّيَّةُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِلِّ الْيَمِينِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ بِهِ عَلَى شُرُوطِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ رَفْعُ الْيَمِينِ نَعَمْ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ قَالَهُ الْأَصْلُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَأْثِيرَ لَهُ إلَّا إنْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ رَفْعُ الْيَمِينِ أَوْ حِلُّهَا فَهُوَ أَعْنِي الِاسْتِثْنَاءَ

بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ الَّذِي لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ بِذَلِكَ فَقَطْ دُونَ الْقَصْدِ وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ الْآنَ فَلْيُنْظَرْ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا يَنْبَنِي التَّحْقِيقُ فِيهَا إلَّا عَلَى ذَلِكَ وَمَا نَظَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ مَنَابَهَا وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنْ الْأَعْمَالِ إنَّمَا كَانَ فِيهَا ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَنَّ الْمُرَادَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ اسْتِثْنَاءِ الْمَشِيئَةِ لَفْظًا اسْتَوَى الْأَمْرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا حَكَاهُ عَنْ اللَّخْمِيِّ مُتَّجَهٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .

( الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ ) الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النُّصُوصِ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا فَلَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ طَلْقَتَيْنِ وَبِالدَّرَاهِمِ الثَّلَاثِ دِرْهَمَيْنِ فَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَا تَكْفِي هَذِهِ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَفَّتْهُ لَدَخَلَ الْمَجَازُ فِي النُّصُوصِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ فِي الِاثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَجَازُ فِي الظَّوَاهِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ النِّيَّةُ هَا هُنَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ أَلْبَتَّةَ ( الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ ) الَّتِي لَا تَنُوبُ فِيهَا النِّيَّةُ وَلَا تُؤَثِّرُ قَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَقِيت الْقَوْمَ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَّا فُلَانًا لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا وَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّخْصِيصَ وَالْمُحَاشَاةَ نَفَعَهُ لِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْمَجَازُ فِي الظَّاهِرِ تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ وَلَكِنَّهُ قَصَدَ إلَى الْإِخْرَاجِ بِاللَّفْظِ وَلَمْ يَقْصِدْ الْإِخْرَاجَ بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيُضَافُ التَّأْثِيرُ لِذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ الْآخَرِ وَهُوَ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا لِلنِّيَّةِ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فَمِنْ هَا هُنَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا وَلَوْ قَصَدَ الْإِخْرَاجَ بِهَا هِيَ نَفَعَهُ لَكِنْ قَصَدَ بِهَا لَفْظًا مُخْرِجًا لَا الْإِخْرَاجَ قَالَ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ النِّيَّةُ وَتَنُوبُ مَنَابَ الِاسْتِثْنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي النُّصُوصِ نَحْوِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ قَابِلًا لِلْمَجَازِ

أَلْبَتَّةَ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ بِمُفْرَدِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ الظَّوَاهِرِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ فَهَذِهِ عَشْرُ مَسَائِلَ اتَّضَحَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ سَبْعَةٌ مِنْهَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ وَثَلَاثَةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا فَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ تَفْصِيلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْفَرْقِ تَحْرِيرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالتَّحْدِيدِ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعَاشِرَةِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) إذْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا طَلْقَتَانِ فِي الْأَوَّلِ وَيَبَرَّ بِإِعْطَاءِ الْمُخَاطَبِ دِرْهَمَيْنِ فِي الثَّانِي فَلَوْ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ إلَّا وَاحِدَةً فِي الْأَوَّلِ وَإِلَّا دِرْهَمًا فِي الثَّانِي وَاكْتَفَى بِنِيَّةِ ذَلِكَ لَمْ تَكْفِهِ هَذِهِ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَفَّتْهُ لَدَخَلَ الْمَجَازُ فِي النُّصُوصِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ فِي الِاثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَجَازُ فِي الظَّوَاهِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ النِّيَّةُ هَا هُنَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ أَلْبَتَّةَ ( الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ ) إذَا قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ وَحَاشَى زَوْجَتَهُ أَيْ نَوَى إخْرَاجَهَا مِنْ مَفْهُومِ الْحَلَالِ جَرَى فِي ذَلِكَ خِلَافُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ هَلْ يُجْزِئُ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ عَنْ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ مُنْشَأَ هَذَا الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فَيُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ أَوْ النَّظَرُ إلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا نُطْقًا ا هـ .
( الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ ) قَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَقِيت الْقَوْمَ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَّا فُلَانًا لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا وَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّيَّةِ اللَّفْظَ الْمُخْرِجَ أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا فُلَانًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْإِخْرَاجَ وَالنِّيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيُضَافُ التَّأْثِيرُ لِذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ الْآخَرِ وَهُوَ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا لِلنِّيَّةِ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا ، أَمَّا لَوْ قَصَدَ

الْإِخْرَاجَ بِهَا هِيَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ قَصْدُهُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ أَيْ اللَّخْمِيُّ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ النِّيَّةُ وَتَنُوبُ مَنَابَ الِاسْتِثْنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي النُّصُوصِ نَحْوُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ قَابِلًا لِلْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ بِمُفْرَدِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ فَتَأَمَّلْ فَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَعْلَى الرُّتَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحُرْمَةِ يَكْفِي فِيهَا أَيْسَرُ الْأَسْبَابِ ) وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِيَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَحَدُهَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُبَاحٌ فَتَرْتَفِعُ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ بِعَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ وَالْمَبْتُوتَةُ لَا يَذْهَبُ تَحْرِيمُهَا إلَّا بِعَقْدِ الْمُحَلِّلِ وَوَطْئِهِ وَعَقْدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَهَذِهِ رُتْبَةٌ فَوْقَ تِلْكَ الرُّتْبَةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْإِبَاحَةِ بِكَثِيرٍ وَثَانِيهَا الْمُسْلِمُ مُحَرَّمُ الدَّمِ لَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالرِّدَّةِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا عَمْدًا عُدْوَانًا وَهِيَ أَسْبَابٌ عَظِيمَةٌ فَإِذَا أُبِيحَ دَمُهُ بِالرِّدَّةِ حُرِّمَ بِالتَّوْبَةِ وَفِي الْقِصَاصِ بِالْعَفْوِ وَفِي الزِّنَى بِالتَّوْبَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَجْمِهِ وَلَوْ تَابَ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى الْمُحَارِبِ إذَا تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَتَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ وَالتَّوْبَةُ أَيْسَرُ مِنْ الرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ وَأَقَلُّ تَحْتِيمًا عَلَى الْعَبْدِ وَثَالِثُهَا الْأَجْنَبِيَّةُ لَا يَزُولُ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا إلَّا بِالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إذْنِهَا وَوَلِيِّهَا وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ ، وَإِبَاحَتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ يَكْفِي فِيهَا الطَّلَاقُ فَتَرْتَفِعُ تِلْكَ الْإِبَاحَةُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَرَابِعُهَا الْحَرْبِيُّ مُبَاحُ الدَّمِ تَزُولُ إبَاحَتُهُ بِالتَّأْمِينِ وَهُوَ سَبَبٌ لَطِيفٌ وَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِالتَّأْمِينِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ يُزِيلُ تِلْكَ الْإِبَاحَةَ مِنْ خُرُوجٍ عَلَيْنَا أَوْ قَصْدٍ لِقَتْلِنَا حِرَابَةً وَخُرُوجِنَا عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ تَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِعَقْدِ

الْجِزْيَةِ فَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ لَا يُبَاحُ دَمُهُ بِكُلِّ الْمُخَالَفَاتِ لِعَقْدِ الْجِزْيَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةٍ قَوِيَّةٍ كَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْإِمَامِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ مُجَاهَرَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى قُوَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمُنَاقَشَةٍ عَظِيمَةٍ وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ وَهَذَا الْفَرْقُ وَاقِعٌ فِيهَا بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْخُرُوجُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْخُرُوجُ مِنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْإِبَاحَةِ وَقَدْ رَامَ الْأَصْحَابُ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَإِنَّ الْحِنْثَ خُرُوجٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ فَيَكْفِي فِيهِ أَيْسَرُ سَبَبٍ فَيَحْنَثُ بِجُزْءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ مِنْهُ لُبَابَهُ لِأَنَّهُ عَلَى بِرٍّ وَإِبَاحَةٍ حَتَّى يَحْنَثَ وَلَا يَبْرَأُ إذَا كَانَ عَلَى حِنْثٍ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ إذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَبَرَّ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ حُرْمَةٍ إلَى إبَاحَةٍ وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ إنْ ادَّعَوْا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كُلِّيَّةً فِي الشَّرِيعَةِ مَنَعْنَاهَا لِانْدِرَاجِ صُورَةِ النِّزَاعِ فِيهَا فَلِلْخَصْمِ مَنْعُهَا وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ صُورَةٌ قَلِيلَةٌ وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَضَمُّوا إلَيْهَا أَمْثَالَهَا فَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمُثُلِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهَا لَوْ انْتَهَتْ إلَى الْأَلْفِ احْتَمَلَ أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ فَكَمْ مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا : كُلُّ عَدَدٍ زَوْجٌ كُلِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ بَلْ إنَّمَا تَصْدُقُ جُزْئِيَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ وَتِلْكَ الْأَعْدَادُ الَّتِي هِيَ زَوْجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُحْصَى عَدَدُهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْكُلِّيَّةُ كَاذِبَةٌ لَا صَادِقَةٌ .
وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهَا

جُزْئِيَّةٌ فَيَحْتَاجُونَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُوجِبُ كَوْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسَ فَأَيْنَ الْجَامِعُ الْمُنَاسِبُ لِخُصُوصِ الْحُكْمِ السَّالِمِ عَنْ الْفَوَارِقِ أَوْ الدَّلِيلُ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَأَيْنَ هُوَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ ، وَخَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ فَهُوَ كَالْأَمْرِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَهُوَ كَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفُ حَانِثٌ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ حَانِثًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا هَذَا الْمُخَرِّجُ مُنْعَكِسَةٌ بَلْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ كَإِيجَابِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِنَّهُ إيجَابٌ لِكُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ أَجْزَائِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ خَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ الْأَرْبَعِ بَلْ الْأَرْبَعُ وَاجِبَةٌ نَعَمْ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جُزَيْئَاتِهِ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ مَفْهُومِ الْخِنْزِيرِ نَهْيٌ عَنْ كُلِّ خِنْزِيرِ الْخِنْزِيرُ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالسَّمِينُ وَالْهَزِيلُ وَجَمِيعُ جُزَيْئَاتِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لَيْسَ أَمْرًا بِجُزَيْئَاتِهَا فَالْأَمْرُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ لَيْسَ أَمْرًا بِإِعْتَاقِ هَذِهِ الرَّقَبَةِ وَتِلْكَ وَجَمِيعِ الرِّقَابِ بَلْ يَكْفِي فِي حُصُولِ مَاهِيَّةِ الرَّقَبَةِ شَخْصٌ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَجْزَاءِ وَالْجُزَيْئَاتِ الْحُكْمُ مُنْعَكِسٌ بَيْنَهُمَا فَهَذَا التَّخْرِيجُ بَاطِلٌ قَطْعًا فَلَا يُفْتِي بِهِ فَقِيهٌ وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت لِلْأَصْحَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْحَاجِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْمَعْطُوفَاتُ نَحْوُ .
وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا ، وَالْجُمُوعُ وَالتَّثَنِّيَاتُ

نَحْوُ لَا أَكَلْت الْأَرْغِفَةَ أَوْ الرَّغِيفَيْنِ ، وَأَسْمَاءُ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ كَالرَّغِيفِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْخِلَافُ فِيهَا وَاحِدٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجَمِيعِ وَعِنْدَنَا بِالْبَعْضِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ ، فَنَقُولُ أَجْمَعْنَا عَلَى مَا إذَا قَالَ الْحَالِفُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا بِصِيغَةِ لَا النَّافِيَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنْ لَا إذَا أُعِيدَتْ فِي الْعَطْفِ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ نَفْيًا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } فَذِكْرُ لَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مَنْفِيٌّ فَحَيْثُ تُرِكَتْ لَا كَانَ الْمَعْنَى مِثْلَ الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ لَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ التَّحْنِيثُ مَعَ لَا الْمُؤَكِّدَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَهَا التَّحْنِيثُ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ التَّأْكِيدِ .
وَإِذَا اتَّضَحَ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمُدْرَكٍ صَحِيحٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ الْحِنْثَ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ إذْ لَوْ ثَبَتَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ مَالِكٌ وَأَتْبَاعُهُ وَقَائِلٌ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ دُونَ غَيْرِهَا كَانَ قَوْلًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ عِنْدَ الْخِلَافِيَّيْنِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ دُونَ

بَعْضِهَا فَيُفْرَضُ الِاسْتِدْلَال فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا فَسُمِّيَ ذَلِكَ طَرِيقَةَ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُنَاظِرَ قَائِمٌ مَقَامَ إمَامِهِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِنَا لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةَ إنَّمَا جَاءَتْنَا بَعْدَ فُتْيَاهُ هُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَمُدْرَكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى فُتْيَاهُ فِيهَا فَلَمَّا أَفْتَى خَصْمُهُ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ وَبَقِيَ هُوَ لَمْ يُفْتِ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ مَا ظَهَرَ بِالدَّلِيلِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ قَوْلِهِ إجْمَاعٌ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ خَصْمِهِ فَقَطْ فَلَهُ هُوَ إذَا قَالَ خَصْمُهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْجَمِيعِ لَهُ هُوَ أَنْ يَقُولَ يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَالْإِجْمَاعُ يَصُدُّهُ حِينَئِذٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُنَاظِرُ الْآنَ مِنْ قَوْلِهِ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ ذَلِكَ وَمَتَى كَانَ مُدْرَكُ الْمُنَاظِرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْمُجْتَهِدِ لَمْ يَصِحَّ .
نَعَمْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَتِمُّ فِي الْمُنَاظَرَةِ جَدَلًا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمَذَاهِبِ أَمَّا وَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا مُشْكِلَةٌ إشْكَالًا قَوِيًّا فَتَأَمَّلْهُ

قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَعْلَى الرُّتَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحُرْمَةِ يَكْفِي فِيهَا أَيْسَرُ الْأَسْبَابِ إلَى قَوْلِهِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ قَالَ ( وَخَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إلَى قَوْلِهِ بَلْ الْأَرْبَعُ وَاجِبَةٌ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَحْصِيلُهُ إلَّا بِتَحْصِيلِ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَفْوِيتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَفْوِيتُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ أَجْزَائِهِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ أَجْزَاءً لَهُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَقْدِيرِ اجْتِمَاعِهَا وَأَمَّا قَبْلَ اجْتِمَاعِهَا فَلَيْسَتْ بِأَجْزَاءٍ لَهُ حَقِيقَةً بَلْ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لَأَنْ تَكُونَ أَجْزَاءً لَهُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي هَذَا الْوَهْمُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَزَالُ جُزْءًا لَهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ وَفِي حَالِ انْفِصَالِهِ عَنْ الْجُزْءِ الْآخَرِ وَلَا يَشْعُرُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي حَالِ الِاتِّصَالِ بِالْآخِرِ لَيْسَ عَيْنَ الْجُزْءِ فِي حَالِ الِانْفِصَالِ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ الزَّاجُّ وَحْدَهُ مَثَلًا قَالَ هَذَا جُزْءٌ مِنْ الْمِدَادِ وَإِذَا حَضَرَ مَعَ الْعَفْصِ وَقَدْ امْتَزَجَا قَالَ هَذَا الزَّاجُّ الْمُمْتَزِجُ بِالْعَفْصِ جُزْءٌ مِنْ الْمِدَادِ وَيُخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ قَالَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَخَيَّلَ فَإِنَّ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذَا الزَّاجُّ جُزْءٌ مِنْ الْمِدَادِ أَيْ يَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْمِدَادِ إذَا مُزِجَ بِالْعَفْصِ وَمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمِدَادِ فِي الْحَالِ وَكَيْفَ

يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ بِالِانْفِصَالِ عَيْنَ الْمَشْرُوطِ بِالِاتِّصَالِ وَفِي مِثْلِ هَذَا كَانَ بَعْضُ مَنْ لَقَيْنَاهُ يَقُولُ اخْتَلَطَ مَا بِالْقُوَّةِ مَعَ مَا بِالْفِعْلِ وَمَا مَثَّلَ بِهِ شِهَابُ الدَّيْنِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ خَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ الْأَرْبَعِ وَهْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الْأَرْبَعَ الْمُتَّصِلَةَ بِخَامِسَةٍ هِيَ عَيْنُ الْأَرْبَعِ غَيْرِ الْمُتَّصِلَةِ بِخَامِسَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَقَدْ سَبَقَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَسَبَقَ الرَّدُّ عَلَيْهِ .
قَالَ ( نَعَمْ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جُزَيْئَاتِهِ إلَى قَوْلِهِ وَجَمِيعُ جُزْئِيَّاتِ الْخِنْزِيرِ ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ قَالَ ( وَالْأَمْرُ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لَيْسَ أَمْرًا بِجُزْئِيَّاتِهَا ) قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ بِصَحِيحٍ بَلْ الْأَمْرُ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَمْرٌ بِجُزْئِيَّاتِهَا لَكِنَّهُ بِمَا لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ لِتَعَذُّرِهِ فَإِنَّ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ بِمَا هِيَ كُلِّيَّةٌ لَا يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْأَعْيَانِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا وَإِدْخَالُ جَمِيعِ جُزْئِيَّاتهَا الْمُمْكِنَةِ فِي الْوُجُودِ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهَا شَيْءٌ لَا يَصِحُّ أَيْضًا قَالَ ( فَالْأَمْرُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ لَيْسَ أَمْرًا بِإِعْتَاقِ هَذِهِ الرَّقَبَةِ وَتِلْكَ وَجَمِيعِ الرِّقَابِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يُفْتِي بِهِ فَقِيهٌ ) قُلْت الْأَمْرُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ لَيْسَ أَمْرًا بِكُلِّيٍّ بَلْ بِمُطْلَقٍ وَهُوَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ آحَادِ الْكُلِّيِّ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ تَوَهُّمُ أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْكُلِّيُّ يُوقِعُهُ فِي الْخَطَأِ الْفَاحِشِ وَقَدْ تَبَيَّنَ خِلَافُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْكُلِّيِّ لَيْسَ أَمْرًا بِجُزْئِيَّاتِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ وَالْجُزْئِيَّاتِ .
قَالَ ( وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت لِلْأَصْحَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْحَاجِبِ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إلَى

قَوْلِهِ بِصِيغَةِ لَا النَّافِيَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا ) قُلْت مَا حَكَاهُ لَا كَلَامَ فِيهِ .
قَالَ ( وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنْ لَا إذَا أُعِيدَتْ فِي الْعَطْفِ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ نَفْيًا إلَى قَوْلِهِ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا ) قُلْت لَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَتَسْلِيمُ كَوْنِ إجْمَاعِ النُّحَاةِ حُجَّةً لَا يَلْزَمُ عَنْ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةً لَهُ أَنْ لَا يُفِيدَ تَكْرَارُهَا فَائِدَةً غَيْرَ النَّفْيِ بَلْ يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمَالٍ ثَابِتٍ عِنْدَ عَدَمِ تَكْرَارِهَا وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا لَا مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدَهُمَا وَثَانِيهِمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا فَإِذَا تَكَرَّرَتْ لَا يَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَلَا يَتَنَاوَلُ إجْمَاعُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ لَهُ الْمَنْعَ مِنْ إفَادَتِهَا رَفْعَ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَقَوْلُهُ وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنْ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ لَا إذَا تَكَرَّرَتْ فِي الْعَطْفِ لَا تُفِيدُ فَائِدَةً غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بَلْ قَالُوا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهَا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ أَنْ لَا تُفِيدَ شَيْئًا غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْي مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ إجْمَاعِهِمْ وَكَوْنِهِ حُجَّةً وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ قَالَ ( وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ التَّحْنِيثُ مَعَ لَا الْمُؤَكِّدَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَهَا التَّحْنِيثَ إلَى قَوْلِهِ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ

ذَلِكَ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ اسْتِضْعَافِ طَرِيقَةِ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَقَرَّرَهُ مِنْ تَبَيُّنِ وَجْهِ ضَعْفِهَا صَحِيحٌ كَمَا قَالَ وَبَيَّنَ .
قَالَ ( وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ إشْكَالًا قَوِيًّا فَتَأَمَّلْهُ ) قُلْت الْإِشْكَالُ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ مُدْرَكِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاحْتِيَاطُ لِلْإِيمَانِ فَأَخَذَ بِالْأَشَدِّ وَمُدْرَكُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَمْلُهَا عَلَى مُقْتَضَاهَا الْمُتَيَقِّنِ فَأَخَذَ بِالْأَخَفِّ فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَعْلَى الرُّتَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحُرْمَةِ يَكْفِي فِيهَا أَيْسَرُ الْأَسْبَابِ ) يَقْتَضِي الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ صُوَرًا كَثِيرَةً وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهَا أَنَّ عَقْدَك عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُبَاحٌ تَرْتَفِعُ إبَاحَتُهُ لَك بِمُجَرَّدِ عَقْدِ أَبِيهَا نِكَاحَهَا لِغَيْرِك وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَسْبَابِ وَالْمَبْتُوتَةُ لَا يَذْهَبُ تَحْرِيمُهَا إلَّا بِعَقْدِ الْمُحَلِّلِ وَوَطْئِهِ ثُمَّ عَقْدُ الْبَاتِّ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَهَذِهِ رُتْبَةٌ فَوْقَ تِلْكَ الرُّتْبَةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْإِبَاحَةِ بِكَثِيرٍ ( وَمِنْهَا ) الْمُسْلِمُ مُحَرَّمُ الدَّمِ وَلَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالرِّدَّةِ أَوْ زِنَى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ عَمْدًا عُدْوَانًا أَوْ حِرَابَةٍ وَهِيَ أَسْبَابٌ عَظِيمَةٌ فَإِذَا أُبِيحَ دَمُهُ بِالرِّدَّةِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ أَوْ أُبِيحَ بِقَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ حَرُمَ بِالْعَفْوِ أَوْ أُبِيحَ بِزِنًى بَعْدَ الْإِحْصَانِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَجْمِهِ وَلَوْ تَابَ أَوْ أُبِيحَ بِالْحِرَابَةِ حَرُمَ بِتَوْبَتِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ الْأَصْلِ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ الْحَدُّ وَتَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ أَيْسَرُ مِنْ الْقَتْلِ ( وَمِنْهَا ) الْأَجْنَبِيَّةُ لَا يَزُولُ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا إلَّا بِالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إذْنِهَا وَوَلِيِّهَا وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ وَيَكْفِي فِي إبَاحَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الطَّلَاقُ فَتَرْتَفِعُ تِلْكَ الْإِبَاحَةُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ( وَمِنْهَا ) الْحَرْبِيُّ مُبَاحُ الدَّمِ وَتَزُولُ إبَاحَتُهُ بِالتَّأْمِينِ وَهُوَ سَبَبٌ لَطِيفٌ وَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِالتَّأْمِينِ لَا

يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ يُزِيلُ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ مِنْ خُرُوجٍ عَلَيْنَا أَوْ قَصْدٍ لِقَتْلِنَا حِرَابَةً وَخُرُوجًا عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ تَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ فَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ لَا يُبَاحُ دَمُهُ بِكُلِّ الْمُخَالَفَاتِ لِعَقْدِ الْجِزْيَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةٍ قَوِيَّةٍ كَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْإِمَامِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ مُجَاهَرَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى قُوَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمُنَاقَشَةٍ عَظِيمَةٍ وَنَظَائِرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَعْنِي الْخُرُوجَ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْخُرُوجَ مِنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنْ عَدَّ الْأَصْحَابُ مِنْهَا الْحِنْثَ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ وَتَخْرِيجِهِ عَلَى قَاعِدَتَيْهَا بِجَعْلِ الْحِنْثِ خُرُوجًا مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ فَيَكْفِي فِيهِ أَيْسَرُ سَبَبٍ فَيَحْنَثُ بِجُزْءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ مِنْهُ لُبَابَهُ لِأَنَّهُ عَلَى بِرٍّ وَإِبَاحَةٍ حَتَّى يَحْنَثَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ إبَاحَةٍ إلَى حُرْمَةٍ وَلَا يَبَرَّ إذَا كَانَ عَلَى حِنْثٍ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيع فَإِذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَبَرَّ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ حُرْمَةٍ إلَى إبَاحَةٍ .
قَالَ الْأَصْلُ هَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ إنْ ادَّعَوْا لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمَا كُلِّيَّتَانِ فِي الشَّرِيعَةِ مَنَعْنَا تِلْكَ الدَّعْوَى لِانْدِرَاجِ صُورَةِ النِّزَاعِ فِيهَا فَلِلْخَصْمِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَائِلُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ تِلْكَ الدَّعْوَى لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَلِيلَةٌ وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَضَمُّوا إلَيْهَا أَمْثَالَهَا فَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمُثُلِ

الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهَا وَلَوْ انْتَهَتْ إلَى الْأَلْفِ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ فَكَمْ مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ زَوْجٌ : كُلِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ بَلْ إنَّمَا تَصْدُقُ جُزْئِيَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ وَتِلْكَ الْأَعْدَادُ الَّتِي هِيَ زَوْجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُحْصَى عَدَدُهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْكُلِّيَّةُ كَاذِبَةٌ لَا صَادِقَةٌ ، وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ احْتَاجُوا فِي تَخْرِيجِ صُوَرِ النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَنَّهُمَا جُزْئِيَّتَانِ يُوجِبُ كَوْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْقِيَاسَ فَأَيْنَ الْجَامِعُ الْمُنَاسِبُ لِخُصُوصِ الْحُكْمِ السَّالِمِ عَنْ الْفَوَارِقِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَأَيْنَ هُوَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَيْثُ قَالَ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ فَهُوَ كَالْأَمْرِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَهُوَ كَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفُ حَانِثٌ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ حَانِثًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ تَخْرِيجٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَحْصِيلُهُ إلَّا بِتَحْصِيلِ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَفْوِيتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَفْوِيتُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ أَجْزَائِهِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ أَجْزَاءً لَهُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَقْدِيرِ اجْتِمَاعِهَا وَأَمَّا قَبْلَ اجْتِمَاعِهَا فَلَيْسَتْ بِأَجْزَاءٍ لَهُ حَقِيقَةً بَلْ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لَأَنْ تَكُونَ أَجْزَاءً لَهُ إذَا اجْتَمَعَتْ ا هـ .
فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت لِلْأَصْحَابِ فِي مَسْأَلَةِ

الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ دُونَ بَعْضِهَا فَيَفْرِضُ الِاسْتِدْلَالَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا .
فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْحَاجِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ الْمَعْطُوفَاتُ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا ، وَالْجُمُوعُ وَالْمُثَنَّيَاتُ نَحْوُ لَا أَكَلْت الْأَرْغِفَةَ أَوْ الرَّغِيفَيْنِ ، وَأَسْمَاءُ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ كَالرَّغِيفِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْخِلَافُ فِيهَا وَاحِدٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجَمِيعِ وَعِنْدَنَا بِالْبَعْضِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ فَنَقُولُ أَجْمَعنَا عَلَى مَا إذَا قَالَ الْحَالِفُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا بِصِيغَةِ لَا النَّافِيَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنْ لَا إذَا أُعِيدَتْ فِي الْعَطْفِ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ نَفْيًا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } فَذَكَرَ لَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مَنْفِيٌّ فَحَيْثُ تُرِكَتْ لَا كَانَ مَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُرِكَتْ فِيهِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ التَّحْنِيثُ مَعَ لَا الْمُؤَكِّدَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَ التَّحْنِيثِ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ التَّأْكِيدِ .
وَإِذَا اتَّضَحَ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمُدْرَكٍ صَحِيحٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي الصُّورَتَيْنِ

الْأَخِيرَتَيْنِ الْحِنْثُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ إذْ لَوْ ثَبَتَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَتْبَاعُهُ وَقَائِلٌ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ دُونَ غَيْرِهَا كَانَ قَوْلًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ قَالَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّ طَرِيقَةَ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ ضَعِيفَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا فِي الْمُنَاظَرَةِ جَدَلًا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمَذَاهِبِ أَمَّا وَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا انْبَنَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنْ قَوْلِ الْمَنَاظِرِ الْآنَ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إنَّمَا جَاءَتْنَا بَعْدَ فُتْيَاهُ هُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَمُدْرَكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى فُتْيَاهُ فِيهَا وَبَعْدَ إفْتَاءِ خَصْمِهِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ فِيهَا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ مَا ظَهَرَ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ قَوْلِهِ إجْمَاعٌ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ خَصْمِهِ فَقَطْ فَإِذَا قَالَ خَصْمُهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْجَمِيعِ فَلَهُ هُوَ أَنْ يَقُولَ يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَلَا إجْمَاعَ يَصُدُّهُ حِينَئِذٍ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ اعْتَمَدَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ ذَلِكَ وَمَتَى كَانَ الْمُنَاظِرُ الْآنَ قَائِمًا مَقَامَ إمَامِهِ وَمُدْرَكُ الْمُنَاظَرِ الْآنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُدْرَكُ الْمُجْتَهِدِ لَمْ يَحُزْ لِلْمُنَاظِرِ الْآنَ الِاعْتِمَادُ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي انْبَنَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الطَّرِيقَةُ أَيْضًا فَافْهَمْ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَرَّرَهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ ضَعْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ وَبَيَّنَ عَلِيٌّ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ ضَعْفِهَا وَفَرَضْنَا صِحَّةَ إجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى مَا ذُكِرَ وَكَوْنَ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً وَقُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِ .

وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا لَا يَلْزَمُ عَنْ قَوْلِنَا بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ مَقْصُودُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنْ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ لَا إذَا تَكَرَّرَتْ فِي الْعَطْفِ لَا تُفِيدُ فَائِدَةً غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بَلْ قَالُوا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهَا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ أَنْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ وَهُوَ رَفْعُ احْتِمَالٍ ثَابِتٍ عِنْدَ عَدَمِ تَكْرَارِهَا فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا بِلَا تَكْرَارِ لَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا مَعًا لَا مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدَهُمَا وَثَانِيهِمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا مَعًا فَإِذَا تَكَرَّرَتْ أَفَادَتْ مَعَ التَّأْكِيدِ تَبَيُّنَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَرَفْعَ احْتِمَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ إجْمَاعَ النُّحَاةِ وَلَا كَوْنَهُ حُجَّةً نَعَمْ مَسْأَلَةُ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنْ ضَعُفَ فِيهَا التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا التَّخْرِيجُ الثَّانِي وَلَا الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إشْكَالٌ قَوِيٌّ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَنَّ مُدْرَكَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الِاحْتِيَاطُ لِلْإِيمَانِ فَأَخَذَ بِالْأَشَدِّ وَمُدْرَكَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَعْلُهَا عَلَى مُقْتَضَاهَا الْمُتَيَقَّنِ فَأَخَذَ بِالْأَخَفِّ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ إذَا تَكَرَّرَتْ يَتَكَرَّرُ التَّأْثِيمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ الْيَمِينِ إذَا تَكَرَّرَتْ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا الْكَفَّارَةُ وَالْجَمِيعُ مُخَالَفَةٌ ) بَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِالْمُخَالَفَةِ الْأُولَى وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْيَمِينِ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا وَإِنْ خُولِفَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَيَتَكَرَّرُ الْإِثْمُ بِتَكَرُّرِهِ وَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ الْمَوَاضِعِ الصَّعْبَةِ الْمُشْكِلَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت نَفْيٌ لِلْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَإِنَّ لَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مَعَ لَنْ وَقَالَ " لَنْ " أَشَدُّ عُمُومًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ إذَا قِيلَ لِلْمُكَلَّفِ لَا تَكْذِبْ أَوْ لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَإِذَا خَالَفَ مَرَّةً وَفَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَصَلَ لَهُ الْإِثْمُ فَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ تَكَرَّرَ الْإِثْمُ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ إذَا تَكَرَّرَتْ مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ يَنْبَغِي أَنْ تُكَرَّرَ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ عِنْدَهَا أَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخَالِفْ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ وَإِذَا تَكَرَّرَتْ الْمُخَالَفَةُ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ ذَلِكَ كَتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَةِ فِي النَّهْيِ وَالْجَامِعُ الْمُخَالَفَةُ وَعُمُومُ الصِّيغَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصِيغَةِ " لَا " فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا يَلْزَمُ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرْطِ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَخَالَفَ وَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ عَبْدٌ وَاحِدٌ وَطَلُقَتْ امْرَأَتُهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَ وَخَالَفَ مُقْتَضَى التَّعْلِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُ عَبْدٍ آخَرَ وَلَا

طَلْقَةٌ أُخْرَى بِسَبَبِ أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ لَيْسَتْ عَامَّةً فَلَا تُوجِبُ التَّكَرُّرَ بَلْ الشَّرْطُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ إنَّمَا يَقْتَضِي مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ لَزِمَ مُوجَبُهَا بِخِلَافِ الْحَلِفِ فَإِنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ فَبِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ تَحْصُلُ الْمُخَالَفَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بَعْدَمَا حَصَلَتْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَانِيًا عَلَى الْيَمِينِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يُقْدِمُ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا أَنَّهُ جَانٍ عَلَى النَّهْيِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يُقْدِمُ عَلَى الْفِعْلِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَالَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقِ مِنْ وُجُوهٍ .
( أَحَدُهَا ) أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ فِي نَفْيِ الْفِعْلِ وَلَكِنَّ الْكَفَّارَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِمُخَالَفَةِ هَذِهِ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَنَقِيضُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ وَهَذِهِ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ هِيَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ أَوْ شَرْطُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحِنْثِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ سَبَبُهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ إنَّمَا هُوَ نَقِيضُ ذَلِكَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ أَنَّ الشَّارِعَ قَالَ { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ لَا لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَهَا هُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ السَّلْبُ الْعَامُّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ الْمُؤَكِّدَةُ لَهُ وَمُخَالَفَةُ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ .
وَالْكَفَّارَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَصَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُطْلَقَ الْمُلَابَسَةِ لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَةِ وَمُلَابَسَةِ الْفَعْلِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَعَلَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ مُخَالَفَةَ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ لَا هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ وَمُخَالَفَةُ

هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ فَمُطْلَقُ الثُّبُوتِ هُوَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ فَيَصِيرُ مَعْنَى وَضْعِ الشَّرْعِ الْكَفَّارَةَ أَنَّهُ قَالَ جَعَلْت نَقِيضَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ أَتَى بِنَقِيضِ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ فِي يَمِينِهِ وَحَنِثَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عُمُومٌ يُفْهَمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَإِذَا دَخَلَ الدَّارَ رَجُلٌ مَرَّةَ وَاحِدَةً وَأَخَذَ دِرْهَمًا ثُمَّ دَخَلَ ثَانِيًا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُعَلِّقَ عَلَّقَ عَلَى مُطْلَقِ الدُّخُولِ لَا عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً طَلُقَتْ طَلْقَةً ثُمَّ دَخَلَتْ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ مُطْلَقَ الطَّلَاقِ إشَارَةً إلَى تَقْرِيرِ عَدَمِ لُزُومِ تَكَرُّرِ الطَّلَاقِ بِتَكَرُّرِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بِمُطْلَقِ الدُّخُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِعُمُومٍ يَقْتَضِي التَّكَرُّرَ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ مُطْلَقٍ عَلَى مُطْلَقٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ التَّعَالِيقِ أَوَّلَ الْكِتَابِ كَذَلِكَ صَاحِبُ الشَّرْعِ جَعَلَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ مُطْلَقَ الثُّبُوتِ الْمُنَاقِضِ لِمُوجَبِ يَمِينِهِ مِنْ السَّلْبِ الْعَامِّ لَا كُلَّ ثُبُوتٍ وَلَا ثُبُوتَيْنِ بَلْ فَرْدًا وَاحِدًا فَقَطْ وَغَيْرُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلدَّارِ مِنْ الْمُطَلَّقَةِ .
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَفَّارَةُ الْمُفْسِدِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنْ عَادَ فَأَكَلَ أَوْ جَامَعَ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي مَعْنَى السَّلْبِ الْعَامِّ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى نَقِيضِ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ فَإِذَا حَصَلَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَإِذَا عَادَ فَتَكَرَّرَ لَمْ يَكُنْ

مُوجِبًا كَدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَجْعَلْ الثُّبُوتَ بِوَصْفِ الْعُمُومِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ بَلْ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْمُطْلَقُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِصُورَةِ إجْمَاعًا كَإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَإِخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَنَظِيرُهُ أَيْضًا الْمُظَاهِرُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمُقْتَضَى هَذَا التَّشْبِيهِ التَّحْرِيمُ الدَّائِمُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ تَحْرِيمِ الْأُمِّ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً دَائِمًا تَحْقِيقًا لِلتَّشْبِيهِ فَإِنْ عَادَ وَعَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا أَوْ عَلَى وَطْئِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَوْدِ مَا هُوَ فَقَدْ أَتَى بِنَقِيضِ ذَلِكَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ الْمُنَاقِضِ لَهُ فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ تَجِبُ عِنْدَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ فَإِذَا كَفَّرَ ثُمَّ عَادَ فَعَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا أَوْ وَطْئِهَا مَرَّةً أُخْرَى لَا تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الْعَوْدِ إجْمَاعًا فِيمَا عَلِمْت لِأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الثُّبُوتِ بِوَصْفِ الطَّلَاقِ لَا بِوَصْفِ الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الثُّبُوتِ الْمُنَاقِضِ لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ لَا عَلَى مُطْلَقِ الثُّبُوتِ بِوَصْفِ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ النَّهْي فَتَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْإِثْمِ وَالتَّعْزِيرِ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِثْمَ رَتَّبَهُ الشَّرْعُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ فَكُلُّ فَرْدٍ يَتَكَرَّرُ تَتَكَرَّرُ الْمَفْسَدَةُ مَعَهُ فَيَتَكَرَّرُ الْإِثْمُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمُطْلَقِ الْمَفْسَدَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا بِوَصْفِ الْعُمُومِ فَعَمَّ الْإِثْمُ أَيْضًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِحَسْمِ مَادَّةِ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَوْ أَثَّمْنَاهُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَبَحْنَا لَهُ مَا بَعْدَهَا أَدَّى ذَلِكَ لِوُقُوعِ مَفَاسِدَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْإِثْمِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ

الْمَفَاسِدِ وَثَانِيهَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَاتِ لِلْيَمِينِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ لِلْمُخَالَفَةِ فِيهَا وَتَكَرُّرِهَا فَتَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهَا إلَّا بِفِعْلِهَا وَذَلِكَ حَرَجٌ عَظِيمٌ تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ وَأَمَّا الْآثَامُ إذَا اجْتَمَعَتْ فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّ الْيَمِينَ مُبَاحَةٌ لِأَنَّهَا تَعْظِيمٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ وَالْحِنْثُ أَيْضًا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْتُ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ وَالْحِنْثُ مُبَاحَيْنِ نَاسَبَ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فِي إلْزَامِ الْكَفَّارَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْمُقْدِمُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ عَاصٍ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ بِتَكَرُّرِ الْآثَامِ وَتَظَافُرِ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ وَالتَّعَازِيرِ عَلَيْهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْمَعْصِيَةِ ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّ الْقَسَمَ وَقَعَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ فَإِنَّ لَا أَفْعَلُ خَبَرٌ عَنْ عَدَمِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا كَانَ خَبَرًا فَإِنْ صَدَقَ فِيهِ وَحَقَّقَ السَّلْبَ الْعَامَّ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ تَكْذِيبًا لِذَلِكَ الْخَبَرِ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ نَقِيضَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَرْبَابُ الْعُقُولِ إنَّ نَقِيضَ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ وَبِهِمَا يَقَعُ التَّكَاذِيبُ لِمَنْ يَقْصِدُ تَكْذِيبَ مَنْ ادَّعَى الْأُخْرَى كَمَا إنَّ نَقِيضَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةُ

الْجُزْئِيَّةُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ عِنْدَنَا نَقِيضَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْخَبَرَ إنْ طَابَقَ فَصِدْقٌ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقُ فَكَذِبٌ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فَالْكَذِبُ حِينَئِذٍ نَقِيضُ الصِّدْقِ فَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ لِمُخَالَفَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ الْكَذِبُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الْمُنَاقِضِ لِلصِّدْقِ الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِهِ وَمَتَى ارْتَفَعَ الصِّدْقُ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتَحَالَ ثُبُوتُهُ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ مَفْسَدَةُ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَكَرَّرُ وَهُوَ تَعَذُّرُ الصِّدْقِ فَلَمْ تَتَكَرَّرْ الْكَفَّارَةُ وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْحَالِفَ لَوْ جَعَلَ يَمِينَهُ خَبَرًا عَنْ مُوجَبَةٍ كُلِّيَّةٍ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَبَ خَبَرُهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْطَارِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ صَوْمُ بَقِيَّةِ الدَّهْرِ وَتَضِيعُ بَقِيَّةِ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ الثُّبُوتُ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى فِطْرِ يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي جِهَةِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ خَبَرٌ عَنْ النَّفْيِ فَيَتَحَقَّقُ الْكَذِبُ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ الثُّبُوتِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَنْفَعُهُ بَقِيَّةُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتٍ وَاحِدٍ تَقَعُ بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَبَيْنَ ثُبُوتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ فِي الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ بَيْنَ سَلْبَيْنِ فَأَكْثَرَ تَسْوِيَةً بَيْنَ طَرَفَيْ الثُّبُوتِ وَالسَّلْبِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُمَا وَإِثْبَاتِ نَقِيضِهِمَا .
وَالِاكْتِفَاءُ بِفَرْدٍ فِي الْمُنَاقَضَةِ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى ثَانٍ وَيَكُونُ الثَّانِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ تَسْوِيَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ

إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ النَّقِيضِ الْمُكَذِّبِ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ بِفَرْدٍ زَادَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا كَانَ الْكَلَامُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَالنَّهْيُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ اجْتَنَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أُثِيبَ عَلَى الْمِائَةِ ثُمَّ إنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِعَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا بِالْفِعْلِ وَالثُّبُوتِ وَتَتَكَرَّرُ الْمَثُوبَاتُ بِتَكَرُّرِ الِاجْتِنَابِ وَالْعُقُوبَاتُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ اجْتِنَابُ مَفْسَدَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ فِي التَّرْكِ لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ وَيُؤَكِّدُهُ الْأَمْرُ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْرَارِ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مِائَةَ مَرَّةٍ أُثِيبَ مِائَةَ مَثُوبَةٍ وَإِنْ تَرَكَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ اسْتَحَقَّ مِائَةَ عُقُوبَةٍ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ حُصُولُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَكُلُّ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ حَقَّقَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ اسْتَحَقَّ الْمَثُوبَةَ وَكُلُّ زَمَانٍ ضَيَّعَ فِيهِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ .
وَتُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ فِي ذَلِكَ وَالْكَثْرَةُ فَقَدْ صَارَتْ قَاعِدَةُ الْأَمْرِ تَشْهَدُ لِقَاعِدَةِ النَّهْيِ كَمَا شَهِدَتْ قَاعِدَةُ خَبَرِ الثُّبُوتِ فِي الْيَمِينِ لِقَاعِدَةِ خَبَرِ النَّفْيِ فَأَوْضَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأُخْرَى وَاتَّضَحَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ مُخَالَفَةِ قَاعِدَةِ النَّهْي وَبَيْنَ مُخَالَفَةِ قَاعِدَةِ الْيَمِينِ وَنَشَأَ سِرُّ الْفَرْقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَتَحْقِيقِ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَنَّ النَّقِيضَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ أَفْرَادِ الْفِعْلِ وَأَفْرَادُ التَّرْكِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ لِلْإِيجَابِ وَالْإِيجَابِ لِلنَّفْيِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ لِلْآخَرِ وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا إفْرَادُ الْأَفْعَال وَالتُّرُوكِ دُونَ النَّقِيضِ فَإِنْ قُلْت مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْخَبَرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا

يُقَوِّي مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْحِنْثَ مُحَرَّمٌ وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ سَاتِرَةً لِذَنْبِ تَحْرِيمِ الْمُخَالَفَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَذِبَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَنْتَ قَدْ حَقَّقَتْهُ فِي الْيَمِينِ فَيَتَّجِهُ مَا قَالُوهُ قُلْت لَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِي هَذَا بِسَبَبِ أَنَّ الْكَذِبَ الْوَاقِعَ فِي الْيَمِينِ هُوَ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ مُسَمَّى الْكَذِبِ لُغَةً لَا مِنْ جِهَةِ الْإِثْمِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ خَبَرَ الْوَعْدِ خَبَرٌ وَلَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ : غَدًا أُعْطِيك دِرْهَمًا وَلَمْ يُعْطِهِ غَدًا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَوْ كَانَ آثِمًا لَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِكُلِّ وَعْدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عِدَةُ الْمُؤْمِنِ دَيْنٌ } أَيْ مِثْلُ الدَّيْنِ وَلِذَلِكَ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ الْحَاثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَوْ كَانَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا وَاجِبًا لَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَعْدُ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ فِي الْوَعْدِ وَالْحَلِفِ لَيْسَ بِكَذِبٍ مُحَرَّمٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ } .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَيْرُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ لِمُجَرَّدِ الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي يَكْفِي فِيهَا مُطْلَقُ الْمَصْلَحَةِ بَلْ إنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَظِيمَةٍ تُسَاوِي مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ وَاجِبٍ عَظِيمٍ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يُعَارَضُ إلَّا بِالْوَاجِبِ وَلَا يُعَارَضُ بِمُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَصْدُقُ بِأَدْنَى مَرَاتِبَ النَّدْبِ فَلَيْسَ الْحِنْثُ حِينَئِذٍ بِمُحَرَّمٍ وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَلَفَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ لَا يَحْمِلُهُمْ ثُمَّ حَمَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك حَلَفَتْ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ

خَيْرٌ فَلَوْ كَانَ هَذَا كَذِبًا مُحَرَّمًا لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْصِبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْبَى ذَلِكَ إبَاءً شَدِيدًا فَيَقْطَعُ الْفَقِيهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَيْسَتْ كَذِبًا مُحَرَّمًا بَلْ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْكَذِبِ وَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ الَّذِي يَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَنْ أَخْبَرَ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا مَا أَخْبَرَ بِهِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَذِبٌ لُغَةً خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي اشْتِرَاطِهِمْ الْقَصْدَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السَّنَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا إنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } فَجَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذِبًا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ صِدْقَ مَا سَمِعَهُ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَمْدِ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ لَا مَعَ الْإِثْمِ وَمُخَالَفَةُ الْأَيْمَانِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ النَّوَاهِي وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ الْأَيْمَانِ إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْإِيمَان عَدَمُ التَّكْرَارِ فَقَدْ وَقَعَتْ صُوَرٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِهَا أَوْ فِي كُلِّهَا وَهِيَ إذَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْيَمِينِ حَالَةَ النِّسْيَانِ أَوْ حَالَةَ الْجَهْلِ أَوْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ اعْتِبَارُ الْحِنْثِ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِنْثِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الْيَمِينِ وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ وَوَافَقَنَا فِي النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ ، وَتَلْخِيصُ مُدْرَكِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ أَنَّ مُقْتَضَى

اللُّغَةِ حُصُولُ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِحُصُولِ مُسَمَّى الْمُخَالَفَةِ بِمُقْتَضَى مَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْيَمِينُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَا النَّاسُ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ أَوْ الْإِحْجَامِ ، وَالْحَثُّ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ اخْتِيَارِهِ وَصُنْعِهِ وَأَمَّا الْمَعْجُوزُ عَنْهُ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ حَثُّ نَفْسِهِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى الصُّعُودِ إلَى السَّمَاءِ وَلَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ يَدًا زَائِدَةً أَوْ عَيْنًا زَائِدَةً وَلَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا أَوْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَيَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لِأَنَّهُمَا مِنْ صُنْعِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَثَّ إنَّمَا يَقَعُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ اتَّضَحَ بِذَلِكَ خُرُوجُ حَالَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحَثِّ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ لَيْسَتْ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ نَشَأَتْ عَنْ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فَهِيَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فِي الْمَعْنَى .
فَلَا جَرَمَ لَمْ تَنْدَرِجْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي الْيَمِينِ وَأَمَّا الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ فَالْإِنْسَانُ فِي الْجَهْلِ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ كَمَنْ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا فَيَلْتَبِسُ ذَلِكَ الثَّوْبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ فَيَلْبَسُهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْيَمِينِ جَاهِلٌ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَمَّا فِي النِّسْيَانِ فَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ الْجَهْلِ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِيقَتِهِ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ وَفِي الْإِكْرَاهِ قَدْ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُمَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ إنَّ الْحَثَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ ذِكْرِ الْيَمِينِ وَالْمَعْرِفَةَ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ

بِأَنْ يَقْصِدَ التَّرْكَ بِالْيَمِينِ لِأَجْلِ الْيَمِينِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِمَا وَالْمَعْرِفَةِ بِهِمَا أَعْنِي الْيَمِينَ وَالْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ .
فَإِذَا جُهِلَ الْيَمِينُ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ أَوْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ فَلَمْ يُوجَدَا فِي نَفْسِهِ مَعًا فَمَا وُجِدَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ التَّرْكُ لِأَجْلِ الْيَمِينِ فَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ لَا يَقْصِدُهُمَا النَّاسُ بِالْأَيْمَانِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَخَرَجَا عَنْ الْيَمِينِ وَالْخَارِجُ عَنْ الْيَمِينِ لَا يَقَعُ فِيهِ حِنْثٌ فَخَرَجَتْ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ فَإِذَا خَالَفَ الْيَمِينَ فِي حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ لَا يَلْزَمُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ الْمُخَالَفَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَاسْتِحْضَارِ الْيَمِينِ وَالْعِلْمِ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَاشْتَرَطَ التَّكَرُّرَ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ الْحَلِفُ وَقَعَ عَلَى الْفِعْل الْمُخْتَارِ الْمُكْتَسِبِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِكْرَاهُ وَحْدَهُ وَيَبْقَى النِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ لِأَنَّ النَّاسِيَ لِلْيَمِينِ مُخْتَارٌ لِلْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْيَمِينَ وَالْجَاهِلُ مُخْتَارٌ لِلْفِعْلِ غَيْرُ أَنَّهُ جَهِلَ أَنَّ هَذَا عَيْنُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَإِذَا وُجِدَ الِاخْتِيَارُ وَالْفِعْلُ الْمُكْتَسَبَ فَقَدْ وُجِدَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَوُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْمُخَالَفَةِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَزِمَتْ الْكَفَّارَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكَرُّرُ مَرَّةً أُخْرَى وَالظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا بِسَبَبِ أَنَّ الْبَاعِثَ لِلْحَالِفِ عَلَى الْحَلِفِ إنَّمَا هُوَ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ حَاثَّةً لَهُ عَلَى التَّرْكِ وَإِلَّا كَانَ يَكْفِيهِ الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَكَانَ يَسْتَرِيحُ مِنْ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى

الْيَمِينِ لِيَكُونَ اسْتِحْضَارُهَا فِي نَفْسِهِ مَانِعًا لَهُ مِنْ الْإِقْدَامِ أَوْ الْإِحْجَامِ فَإِذَا نَسِيَهَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ حَالَةَ الْحَلِفِ بَلْ مَقْصُودُهُ مَحْصُورٌ فِي حَالَةِ حُضُورِهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى تَمْنَعَهُ .
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ شَرْطٌ فِي الْحِنْثِ بِهِ فَإِذَا جَهِلَهُ اسْتَحَالَ مَعَ الْجَهْلِ الْحَثُّ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَهَذِهِ الْحَالَةُ يُعْلَمُ خُرُوجُهَا عَنْ الْيَمِينِ بِقَصْدِ الْحَالِفِينَ فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا حِنْثٌ وَيُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْيَمِينِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } أَيْ فِي إكْرَاهٍ فَيُقَاسُ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُ وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْحِنْثِ لَا يُؤَثِّرُ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْحِنْثِ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَقَاصِدِ النَّاسِ فِي أَيْمَانِهِمْ ، تَنْبِيهٌ إذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ مُوجَبِ الْيَمِينِ فَأُكْرِهَ عَلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ مِنْ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَهُ مُخْتَارًا حَنِثَ قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِقْهِ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي الْيَمِينِ فَالْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاخْتِيَارِ هُوَ أَوَّلُ مَرَّةٍ صَدَرَتْ مُخَالِفَةً لِلْيَمِينِ وَالْأُولَى لَا عِبْرَةَ بِهَا وَتَقَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفَتَاوَى كَثِيرًا وَيَقَعُ الْغَلَطُ فِيهَا لِلْمُفْتِيَيْنِ فَيَقُولُ السَّائِلُ حَلَفْت بِالطَّلَاقِ لَا أَخْدُمَ الْأَمِيرَ الْفُلَانِيَّ فِي إقْطَاعِهِ وَقَدْ أُكْرِهَتْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ عَلَى خِدْمَتِهِ فَيَقُولُ لَهُ الْمُفْتِي لَا حِنْثَ عَلَيْك مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَالِفَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْخِدْمَةِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِ الْإِكْرَاهِ وَإِمْكَانِ الْهُرُوبِ مِنْهُ وَالتَّغَيُّبِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَهَذَا يَحْنَثُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إذَا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُهُ التَّغَيُّبُ عَنْ خِدْمَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَلَمْ يَتَغَيَّبْ فَقَدْ خَدَمَهُ مُخْتَارًا فَيَحْنَثُ وَلَا يُقَالُ

إنَّ الْخِدْمَةَ السَّابِقَةَ حَصَلَ بِهَا مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ وَالْمُخَالَفَةُ لَا تَتَكَرَّرُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَالَةُ السَّابِقَةُ لَمْ تَنْدَرِجْ فِي الْيَمِينِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ وَالْمَرَّةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ هِيَ أَوَّلُ مُخَالَفَاتِ الْيَمِينِ فَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ مَا قَبْلَهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَخَالَعَ امْرَأَتَهُ وَكَلَّمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْكَلَامِ طَلَاقٌ فَلَوْ رَدَّ امْرَأَتَهُ وَكَلَّمَهُ حَنِثَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَحُثَّهُ الطَّلَاقُ عَلَى عَدَمِ كَلَامِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ فَمَا حَلَفَ إلَّا عَلَى نَفْيِ كَلَامٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْكَلَامُ حَالَةُ الْخُلْعِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ طَلَاقٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَوَّلُ كَلَامٍ يَقَعُ بَعْدَ رَدِّ امْرَأَتِهِ هُوَ أَوَّلُ مُخَالَفَةِ الْيَمِينِ فِيهِ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ لِمَا قُلْنَاهُ فِي الْإِكْرَاهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الصُّوَرُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ يَحْصُلُ فِيهَا التَّكَرُّرُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ لَا فِي الْمُخَالَفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ

( قَالَ الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ إذَا تَكَرَّرَتْ يَتَكَرَّرُ التَّأْثِيمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ الْيَمِينِ إذَا تَكَرَّرَتْ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا الْكَفَّارَةُ وَالْجَمِيعُ مُخَالَفَةٌ ) قُلْت مَا قَالَهُ إلَى آخَرِ الْفَرْقِ صَحِيحٌ غَيْرُ قَوْلِهِ بَلْ الشَّرْطُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ إنَّمَا يَقْتَضِي مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَضَى الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَمَا كَانَ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا بِاقْتِضَاءِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِضَرُورَةِ لُزُومِ تَحْصِيلِ مُقْتَضَى التَّعْلِيقِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي التَّحْصِيلِ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ إذَا تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ التَّأْثِيمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مُخَالَفَةِ الْيَمِينِ إذَا تَكَرَّرَتْ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا الْكَفَّارَةُ بَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِالْمُخَالَفَةِ الْأُولَى وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِيمَا عَدَاهَا وَالْجَمِيعُ مُخَالَفَةٌ ) مَعَ عُمُومِ الصِّيغَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي الْيَمِينِ وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت نَفْيٌ لِلْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَإِنَّ لَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مَعَ لَنْ وَقَالَ لَنْ أَشَدُّ عُمُومًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ إذَا قِيلَ لِلْمُكَلَّفِ لَا تَكْذِبْ أَوْ لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَحَيْثُ كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمُخَالَفَةَ وَعُمُومَ صِيغَةِ لَا فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ كَانَ يَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنْ يَلْزَمَ بِتَكَرُّرِ الْكَفَّارَةِ إذَا تَكَرَّرَتْ مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ كَمَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْإِثْمُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَةِ فِي النَّهْيِ لَكِنَّ الْأَصْلَ .
قَالَ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَلْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ إذَا خَالَفَ مَرَّةً وَفَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَصَلَ لَهُ الْإِثْمُ فَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ تَكَرَّرَ الْإِثْمُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لَحْمًا فَخَالَفَ يَمِينَهُ وَأَكَلَ اللَّحْمَ مُتَكَرِّرًا فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَلَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ أَكْلِ اللَّحْمِ وَمُخَالَفَةُ يَمِينِهِ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ سِرِّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيَانُ سِرِّهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ صِيغَةَ الْيَمِينِ وَإِنْ سَلَّمْنَا

أَنَّهَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ السَّالِبَةَ الْكُلِّيَّةَ هِيَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ أَوْ شَرْطُ وُجُوبِهَا بَلْ الْكَفَّارَةُ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِمُخَالَفَةِ هَذِهِ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ .
وَمُخَالَفَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ نَقِيضِهَا وَنَقِيضُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ هِيَ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ فَهَذِهِ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ هِيَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ أَوْ شَرْطُ وُجُوبُهَا عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحِنْثِ هَلْ هُوَ شَرْطُ الْكَفَّارَةِ أَوْ سَبَبُهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ إنَّمَا هُوَ نَقِيضُ ذَلِكَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ لَا ذَلِكَ السَّلْبُ الْكُلِّيُّ إنَّ الشَّارِعَ قَالَ { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ لَا لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لَحْمًا مَثَلًا أُمُورًا ثَلَاثَةً السَّلْبُ الْعَامُّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ الْمُؤَكِّدَةُ لَهُ وَمُخَالَفَةُ هَذَا السَّلْبُ الْعَامُّ .
وَالْكَفَّارَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَصَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُطْلَقَ الْمُلَابَسَةِ لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ وَحِينَئِذٍ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَةِ وَمُلَابَسَةِ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَعَلَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ مُخَالَفَةَ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ لَا هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ وَمُخَالَفَةُ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ فَيَصِيرُ مَعْنَى وَضْعِ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْكَفَّارَةَ أَنَّهُ قَالَ جَعَلْت نَقِيضَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَنْ أَتَى بِنَقِيضِ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ فِي يَمِينِهِ وَحَنِثَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عُمُومٌ يُفْهَمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَلَاقٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَابِ

تَعْلِيقِ مُطْلَقٍ عَلَى مُطْلَقٍ فَيَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِضَرُورَةِ لُزُومِ تَحْصِيلِ مُقْتَضَى التَّعْلِيقِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي التَّحْصِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ التَّعَالِيقِ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَفَّارَةُ الْمُفْسِدِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ إنْ عَادَ فَأَكَلَ أَوْ جَامَعَ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي مَعْنَى السَّلْبِ الْعَامِّ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى نَقِيضِ هَذَا السَّلْبِ الْعَامِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ فَإِذَا حَصَلَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَإِذَا عَادَ فَتَكَرَّرَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا كَدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إنَّمَا جَعَلَ الثُّبُوتَ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ لَا بِوَصْفِ الْعُمُومِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَالْمُطْلَقُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِصُورَةِ إجْمَاعًا كَإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَإِخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَيْضًا كَفَّارَةُ الْمُظَاهِرِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُقْتَضَى هَذَا التَّشْبِيهِ التَّحْرِيمُ الدَّائِمُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ تَحْرِيمِ الْأُمِّ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً دَائِمًا تَحْقِيقًا لِلتَّشْبِيهِ فَإِنْ عَادَ وَعَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا أَوْ عَلَى وَطْئِهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَوْدِ مَا هُوَ فَقَدْ أَتَى بِنَقِيضِ ذَلِكَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ وَهُوَ مُطْلَقُ الثُّبُوتِ الْمُنَاقِضِ لَهُ فَصَاحِبُ الشَّرْعِ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عِنْدَهُ كَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ فَإِذَا كَفَرَ ثُمَّ عَادَ فَعَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا أَوْ وَطْئِهَا مَرَّةً أُخْرَى لَا تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الْعَوْدِ إجْمَاعًا فِيمَا عَلِمْت لِأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الثُّبُوتِ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ لَا بِوَصْفِ الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الثُّبُوتِ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ الْمُنَاقِضِ لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ لَا عَلَى الثُّبُوتِ

بِوَصْفِ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ النَّهْيِ فَتَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْإِثْمِ وَالتَّعْزِيرِ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِثْمَ رَتَّبَهُ الشَّرْعُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ فَكُلُّ فَرْدٍ يُكَرَّرُ تُكَرَّرُ الْمَفْسَدَةُ مَعَهُ فَيَتَكَرَّرُ الْإِثْمُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمُطْلَقِ الْمَفْسَدَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا بِوَصْفِ الْعُمُومِ فَعَمَّ الْإِثْمَ أَيْضًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِحَسْمِ مَادَّةِ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَوْ أَثَّمْنَاهُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَبَحْنَا لَهُ مَا بَعْدَهَا أَدَّى ذَلِكَ لِوُقُوعِ مَفَاسِدَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْإِثْمِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْمَفَاسِدِ ( وَثَانِيهَا ) أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَاتِ لِلْيَمِينِ لَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ لِلْمُخَالَفَاتِ فِيهَا وَتَكَرُّرِهَا فَتَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهَا إلَّا بِفِعْلِهَا وَذَلِكَ حَرَجٌ عَظِيمٌ تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْحَنَفِيَّةُ السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ وَأَمَّا الْأَثَامُ إذَا اجْتَمَعَتْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّ الْيَمِينَ مُبَاحَةٌ لِأَنَّهَا تَعْظِيمٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ وَالْحِنْثُ أَيْضًا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت وَفَعَلْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ وَالْحِنْثُ مُبَاحَيْنِ نَاسَبَ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فِي إلْزَامِ الْكَفَّارَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْمُقْدِمُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَيْ النَّهْيِ عَاصٍ بَعِيدٌ مِنْ

اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ بِتَكَرُّرِ الْآثَامِ وَتَظَافُرِ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ وَالتَّعَاذِيرِ عَلَيْهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْمَعْصِيَةِ ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّ الْقَسَمَ وَقَعَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ فَإِنَّ لَا أَفْعَلُ خَبَرٌ عَنْ عَدَمِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ صَدَقَ فِيهِ وَحَقَّقَ السَّلْبَ الْعَامَّ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَلَا كَفَّارَةَ .
وَإِنْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ تَكْذِيبًا لِذَلِكَ الْخَبَرِ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ نَقِيضَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَرْبَابُ الْمَعْقُولِ إنَّ نَقِيضَ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ هِيَ الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ وَبِهِمَا يَقَعُ التَّكَاذُبُ لِمَنْ يَقْصِدُ تَكْذِيبَ مَنْ ادَّعَى الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ نَقِيضَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةُ الْجُزْئِيَّةَ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ عِنْدَنَا نَقِيضَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْخَبَرَ إنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ فَصِدْقٌ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ الْوَاقِعَ فَكَذِبٌ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ لِمُخَالَفَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ الْكَذِبُ أَيْ الْخَبَرُ الْمُنَاقِضُ لِلصِّدْقِ الْمَانِعِ مَعَ تَحَقُّقِهِ وَمَتَى ارْتَفَعَ الصِّدْقُ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتَحَالَ ثُبُوتُهُ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ مَفْسَدَةُ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ تَعَذُّرُ الصِّدْقِ لَا يَتَكَرَّرُ فَلَمْ تَتَكَرَّرْ الْكَفَّارَةُ وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْحَالِفَ لَوْ جَعَلَ يَمِينَهُ خَبَرًا عَنْ مُوجَبَةٍ كُلِّيَّةٍ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَبَ خَبَرُهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْطَارِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ صَوْمُ بَقِيَّةِ الدَّهْرِ وَتَضِيعُ بَقِيَّةِ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِطْرُ فِي يَوْمَيْنِ مَثَلًا أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَى فِطْرِ يَوْمٍ وَاحِدِ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي جِهَةِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْمُوجَبَةُ

الْكُلِّيَّةُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ خَبَرٌ عَنْ النَّفْيِ فَيَتَحَقَّقُ الْكَذِبُ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ الثُّبُوتِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَنْفَعُهُ بَقِيَّةُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتٍ وَاحِدٍ تَقَعُ بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَبَيْنَ ثُبُوتَيْنِ أَوْ أَكْثَرُ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ فِي الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ بَيْنَ سَلْبَيْنِ فَأَكْثَرَ تَسْوِيَةً بَيْنَ طَرَفَيْ الثُّبُوتِ وَالسَّلْبِ فِي الْخَبَرِ عَنْهَا وَإِثْبَاتِ نَقِيضِهَا ، وَالِاكْتِفَاءُ بِفَرْدٍ فِي الْمُنَاقَضَةِ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى ثَانٍ وَيَكُونُ الثَّانِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَأَمَّا النَّهْي فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ اجْتَنَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أُثِيبَ عَلَى الْمِائَةِ .
ثُمَّ إنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِعَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا بِالْفِعْلِ وَالثُّبُوتِ وَتَتَكَرَّرُ الْمَثُوبَاتُ بِتَكَرُّرِ الِاجْتِنَابِ أَوْ الْعُقُوبَاتِ بِتَكَرُّرِ الْمُخَالَفَاتِ فَدَلَّ ذَاكَ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ اجْتِنَابُ مَفْسَدَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ فِي التَّرْكِ لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ وَيُؤَكِّدُ الْأَمْرَ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّكْرَارِ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مِائَةَ مَرَّةٍ أُثِيبَ مِائَةَ مَثُوبَةٍ وَإِنْ تَرَكَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ اسْتَحَقَّ مِائَةَ عُقُوبَةٍ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ حُصُولُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَكُلُّ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ حَقَّقَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ اسْتَحَقَّ الْمَثُوبَةَ وَكُلُّ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ ضَيَّعَ فِيهِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَتُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ فِي ذَلِكَ وَالْكَثْرَةُ فَقَدْ شَهِدَتْ قَاعِدَةُ الْأَمْرِ لِقَاعِدَةِ النَّهْيِ كَمَا شَهِدَتْ قَاعِدَةُ خَبَرِ الثُّبُوتِ فِي الْيَمِينِ لِقَاعِدَةِ خَبَرِ النَّفْيِ فِيهِ فَأَوْضَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأُخْرَى وَاتَّضَحَ لَك أَنَّ سِرَّ الْفَرْقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْخَبَرِ الصَّادِقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ هُوَ

نَقِيضُهُ الْكَاذِبُ دُونَ أَفْرَادِ الْفِعْلِ وَأَفْرَادِ التَّرْكِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ لِلْإِيجَابِ وَالْإِيجَابِ لِلنَّفْيِ وَالْمُعْتَبَرُ لِلنَّهْيِ وَالْأَمْرِ أَفْرَادُ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ دُونَ النَّقِيضِ بِشَهَادَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْآخَرِ ( تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ) كَوْنُ الْحِنْثِ كَذِبًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ لَيْسَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْحِنْثَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ سَاتِرَةً لِذَنْبِ تَحْرِيمِ الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحِنْثَ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ شَرْعِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْإِثْمِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيُتَّجَهُ بِهِ مَذْهَبُهُمْ بَلْ إنَّمَا هُوَ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ مُسَمَّى الْكَذِبِ لُغَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ خَبَرُ وَعْدٍ وَخَبَرُ الْوَعْدِ لَا يَأْثَمَ حَالِفُهُ وَإِلَّا لَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِكُلِّ وَعْدٍ وَلَيْسَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عِدَّةُ الْمُؤْمِنِ دَيْنٌ } يُرِيدُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَلِذَلِكَ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ الْحَاثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَافِ وَلَوْ كَانَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا وَاجِبًا لَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَعْدُ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ فِي الْوَعْدِ وَالْحَلِفِ لَيْسَتْ بِكَذِبٍ مُحَرَّمٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ } فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ لِمُجَرَّدِ الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي يَكْفِي فِيهَا مُطْلَقُ الْمَصْلَحَةِ بَلْ كَانَتْ مُخَالَفَةً تَتَوَقَّفُ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَظِيمَةٍ تُسَاوِي مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ وَاجِبٍ عَظِيمٍ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يُعَارَضُ إلَّا بِالْوَاجِبِ وَلَا يُعَارَضُ بِمُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَصْدُقُ بِأَدْنَى مَرَاتِبِ

النَّدْبِ فَلَيْسَ الْحِنْثُ حِينَئِذٍ بِمُحَرَّمٍ وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَلَفَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ لَا يَحْمِلُهُمْ ثُمَّ حَمَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك حَلَفْت فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } فَلَوْ كَانَ هَذَا كَذِبًا مُحَرَّمًا لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْصِبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْبَى ذَلِكَ إبَاءً شَدِيدًا فَيَقْطَعُ الْفَقِيهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَيْسَتْ كَذِبًا مُحَرَّمًا بَلَّ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْكَذِبِ وَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ الَّذِي يَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَنْ أَخْبَرَ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا مَا أَخْبَرَ بِهِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَذِبٌ لُغَةً خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي اشْتِرَاطِهِمْ الْقَصْدَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السَّنَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَجَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذِبًا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ صِدْقَ مَا سَمِعَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَمْدِ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَذِبَ يَكُونُ لَا مَعَ الْإِثْمِ وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَيْمَانِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْيَمِينِ حَالَةَ النِّسْيَانِ أَوْ حَالَةَ الْجَهْلِ أَوْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ اعْتِبَارُ الْحِنْثِ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِنْثِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارُ الْحِنْثِ فِي الْأَحْوَالِ

الثَّلَاثَةِ فَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى الْإِكْرَاهِ وَخَالَفَانَا فِي النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِعَكْسِ ذَلِكَ ، وَتَلْخِيصُ مُدْرَكِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ أَنَّ مُقْتَضَى اللُّغَةِ حُصُولُ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِحُصُولِ مُسَمَّى الْمُخَالَفَةِ بِمُقْتَضَى مَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْيَمِينُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَا النَّاسُ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ أَوْ الْإِحْجَامِ وَالْحَثُّ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ اخْتِيَارِهِ وَصُنْعِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْجُوزُ عَنْهُ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ حَثُّ نَفْسِهِ عَلَى الصُّعُودِ إلَى السَّمَاءِ وَلَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ يَدًا زَائِدَةً أَوْ عَيْنًا زَائِدَةً وَلَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا أَوْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَإِنَّمَا يَحُثُّ نَفْسَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ صُنْعِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حِينَئِذٍ فَتَخْرُجُ حَالَةُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ لَيْسَتْ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ نَشَأَتْ عَنْ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فَهِيَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ فِي الْمَعْنَى فَلَا جَرَمَ لَمْ تَنْدَرِجْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي الْيَمِينِ وَأَمَّا الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ فَالْإِنْسَانُ فِي الْجَهْلِ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ كَمَنْ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا فَيَلْتَبِسُ ذَلِكَ الثَّوْبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ فَيَلْبَسُهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْيَمِينِ جَاهِلٌ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَفِي النِّسْيَانِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ الْجَهْلِ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِيقَتِهِ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ وَفِي الْإِكْرَاهِ قَدْ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُمَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ إنَّ الْحِنْثَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ ذِكْرِ

الْيَمِينِ وَالْمَعْرِفَةِ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقْصِدَ الْحَالِفُ بِالْيَمِينِ تَرْكَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْيَمِينِ وَهَذَا لَا يَتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ إلَى الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِمَا فَلَمَّا جَهِلَ الْيَمِينَ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ وَالْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ خَرَجَ هَاتَانِ الْحَالَتَانِ عَمَّا يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ التَّرْكُ لِأَجْلِ الْيَمِينِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَإِذَا خَرَجَا عَنْ ذَلِكَ خَرَجَا عَنْ الْيَمِينِ وَالْخَارِجُ عَنْ الْيَمِينِ لَا يَقَعُ فِيهِ حِنْثٌ وَحَالَةُ الْإِكْرَاهِ قَدْ خَرَجَتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } أَيْ فِي إكْرَاهٍ فَيُقَاسُ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُ فَخَرَجَتْ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَة : الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَإِذَا خَالَفَ الْحَالِفُ الْيَمِينَ فِي حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ بَلْ لَا بُدَّ فِي لُزُومِهَا مِنْ الْمُخَالَفَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَاسْتِحْضَارِ الْيَمِينِ وَالْعِلْمِ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ .
فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ التَّكَرُّرَ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَمَالِكٌ يَقُولُ الْحَلِفُ وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ الْمُكْتَسَبِ وَمُقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِكْرَاهُ وَحْدَهُ .
وَيَبْقَى النِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ لِأَنَّ النَّاسِيَ لِلْيَمِينِ مُخْتَارٌ لِلْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْيَمِينَ وَالْجَاهِلُ مُخْتَارٌ لِلْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ جَهِلَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَإِذَا وُجِدَ الِاخْتِيَارُ وَالْفِعْلُ الْمُكْتَسِبُ فَقَدْ وُجِدَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَوُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْمُخَالَفَةِ فَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ أَوْ حَالَةِ الْجَهْلِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَزِمَتْ الْكَفَّارَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكَرُّرُ مَرَّةً أُخْرَى وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْحِنْثِ لَا يُؤَثِّرَ فَيَحْنَثُ الْمُكْرَهُ كَمَا يَحْنَثُ النَّاسِي

وَالْجَاهِلُ قَالَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا بِسَبَبِ أَنَّ الْبَاعِثَ لِلْحَالِفِ عَلَى الْحَلِفِ إنَّمَا هُوَ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ حَاثَّةً لَهُ عَلَى التَّرْكِ وَإِلَّا كَانَ يَكْفِيهِ الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَكَانَ يَسْتَرِيحُ مِنْ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ لِيَكُونَ اسْتِحْضَارُهَا فِي نَفْسِهِ مَانِعًا مِنْ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فَإِذَا نَسِيَهَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ حَالَةَ الْحَلِفِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ حُضُورِهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى تَمْنَعَهُ مِنْ الْإِقْدَامِ أَوْ الْإِحْجَامِ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ شَرْطٌ فِي الْحِنْثِ بِهِ فَإِذَا جَهِلَهُ اسْتَحَالَ مَعَ الْجَهْلِ الْحِنْثُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُعْلَمُ خُرُوجُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ بِقَصْدِ الْحَالِفِينَ فَلَا يُلْتَزَمُ فِيهِمَا حِنْثٌ وَيُشْتَرَطُ التَّكَرُّرُ .
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْيَمِينِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } أَيْ فِي إكْرَاهٍ فَيُقَاسُ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُ أ هـ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ( التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ) إذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَأُكْرِهَ عَلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ مِنْ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَهُ مُخْتَارًا حَنِثَ .
قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِقْهِ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي الْيَمِينِ فَالْمَرَّةُ الْأُولَى مِنْ الْفِعْلِ لِكَوْنِهَا حَصَلَتْ بِالْإِكْرَاهِ لَا عِبْرَةَ بِهَا فَلَا تَحْصُلُ بِهَا مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ وَمَا وَقَعَ بَعْدَهَا مِنْ الْفِعْلِ بِالِاخْتِيَارِ هُوَ أَوَّلُ مَرَّةٍ صَدَرَتْ مُخَالَفَةً لِلْيَمِينِ فَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ مَا قَبْلَهَا فَلَمْ تَتَكَرَّرْ الْمُخَالَفَةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَتَقَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفَتَاوَى كَثِيرًا وَيَقَعُ الْغَلَطُ فِيهَا لِلْمُفْتِينَ يَقُولُ السَّائِلُ حَلَفْتُ بِالطَّلَاقِ لَا أَخْدُمَ الْأَمِيرَ الْفُلَانِيَّ فِي

إقْطَاعِهِ وَقَدْ أُكْرِهَتْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ عَلَى خِدْمَتِهِ فَيَقُولُ لَهُ الْمُفْتِي لَا حِنْثَ عَلَيْك مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَالِفَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْخِدْمَةِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِ الْإِكْرَاهِ وَإِمْكَانِ الْهُرُوبِ مِنْهُ وَالتَّغَيُّبِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ مَعَ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ زَمَنٌ يُمْكِنُهُ التَّغَيُّبُ عَنْ خِدْمَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَلَمْ يَتَغَيَّبْ فَقَدْ خَدَمَهُ مُخْتَارًا فَيَحْنَثُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَخَالَعَ امْرَأَتَهُ وَكَلَّمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَلَوْ رَدَّ امْرَأَتَهُ وَكَلَّمَهُ حَنِثَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يُحِثَّهُ الطَّلَاقُ عَلَى عَدَمِ كَلَامِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ فَمَا حَلَفَ إلَّا عَلَى نَفْيِ كَلَامٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْكَلَامُ حَالَةَ الْخُلْعِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالطَّلَاقِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَوَّلُ كَلَامٍ يَقَعُ بَعْدَ رَدِّ امْرَأَتِهِ هُوَ أَوَّلُ مُخَالَفَةِ الْيَمِينِ فِيهِ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ لِمَا قُلْنَاهُ فِي الْإِكْرَاهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ الْمُتَقَدِّمَةُ يَحْصُلُ فِيهَا التَّكَرُّرُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ مُطْلَقًا لَا فِي الْمُخَالَفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْعُرْفِ ) اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ قَدْ يَتَكَرَّرُ فِي الْعُرْفِ وَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مَنْقُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ قَدْ تَكَرَّرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَلَمْ يَصِرْ مَنْقُولًا وَنَعْنِي بِالْمَنْقُولِ هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ لَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَلَفْظُ الْأَسَدِ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ إلَّا بِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ تَكَرُّرُ لَفْظِ الْغَزَالِ فِي الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ وَلَفْظِ الشَّمْسِ وَالْبَدْرِ وَكَذَلِكَ تَكَرُّرِ لَفْظِ الْغَيْثِ وَالْبَحْرِ وَالْغَمَامِ فِي الرَّجُلِ السَّخِيِّ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ مَنْقُولًا فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنْ التَّكَرُّرِ وَأَنَّ التَّكَرُّرَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْلُ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ مَنْقُولًا بِمُجَرَّدِ التَّكَرُّرِ لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى شَيْءٍ تَكَرَّرَ اللَّفْظُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى مُطْلَقِ التَّكَرُّرِ وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ مَا وَقَعَ فِي مَذْهَبِنَا فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا حِينًا أَوْ زَمَنًا أَوْ دَهْرًا فَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } أَيْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَاهُ بَلْ النَّخْلَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ حَمْلِهَا إلَى نِهَايَتِهِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَحِينَئِذٍ تُعْطِي ثَمَرَهَا وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ فِيهَا بَيْنَ النَّخْلَةِ وَبَيْنَ بَنَاتِ آدَمَ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {

أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ قَالُوا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ فَهِيَ عَمَّةٌ } بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ حَصَلَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وَجْهًا أَحَدُهَا هَذَا الْوَجْهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ تَرَدُّدًا فِي الدَّهْرِ هَلْ هُوَ سَنَةٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } إشَارَةً إلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ إذَا حَمَلَتْ فِي وَقْتٍ لَا تَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذِهِ الْإِشَارَاتُ كُلُّهَا إلَى أَصْلِ وُجُودِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّاتٍ أَنْ يُقَالَ لَهُ شَرْعِيٌّ وَلَا عُرْفِيٌّ بَلْ ذَلِكَ شَأْنُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ يَنْتَقِلُ فِي أَفْرَادِهِ وَالْمَنْقُولُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَا مِنْ الزَّمَانِ وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَالْمُتَّجَهُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَقَاعِدَةِ النَّقْلِ وَظَهَرَ بِظُهُورِهِ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ .

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْعُرْفِ ) النِّسْبَةُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ الْعُرْفِيِّ وَالْمُتَكَرِّرِ الْعُرْفِيِّ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ الْعُرْفِيَّ هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ لَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمُتَكَرِّرُ الْعُرْفِيُّ هُوَ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ وَفِي غَيْرِ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ أَوْ كَانَ بِدُونِهَا فَكُلُّ مَنْقُولٍ مُتَكَرِّرٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُتَكَرِّرٍ مَنْقُولًا لِصِدْقِ الْمُتَكَرِّرِ بِدُونِ الْمَنْقُولِ عَلَى الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَعَلَى لَفْظِ الْغَزَالِ وَالشَّمْسِ وَالْبَدْرِ فِي الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ وَلَفْظِ الْغَيْثِ وَالْبَحْرِ وَالْغَمَامِ فِي الرَّجُلِ السَّخِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْصَرِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ إلَيْهِ فَالنَّقْلُ أَخَصُّ مِنْ التَّكَرُّرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّكَرُّرِ النَّقْلُ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ مَنْقُولًا بِمُجَرَّدِ التَّكَرُّرِ لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى شَيْءٍ تَكَرَّرَ اللَّفْظُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى مُطْلَقِ التَّكَرُّرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ مَا وَقَعَ فِي مَذْهَبِنَا فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا أَفْعَلُ شَيْئًا حِينًا أَوْ زَمَنًا أَوْ دَهْرًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } أَيْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَاهُ بَلْ النَّخْلَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ حَمْلِهَا إلَى نِهَايَتِهِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ تُعْطِي ثَمَرَهَا حِينَئِذٍ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ

الَّتِي وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ فِيهَا بَيْنَ النَّخْلَةِ وَبَيْنَ بَنَاتِ آدَمَ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ } قَالُوا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ فَهِيَ عَمَّةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ تَرَدُّدًا فِي الدَّهْرِ هَلْ هُوَ سَنَةٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } إشَارَةً إلَى أَنَّ النَّخْلَةَ إذَا حَمَلَتْ بِالثَّمَرَةِ فِي وَقْتِ لَا تَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذِهِ الْإِشَارَاتُ كُلُّهَا إلَى أَصْلِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَالْمَنْقُولُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَا مِنْ الزَّمَانِ وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ قَبِيلِ صِدْقِ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى أَفْرَادِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّاتٍ أَنْ يُقَالَ لَهُ شَرْعِيٌّ وَلَا عُرْفِيٌّ بَلْ ذَلِكَ شَأْنُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ يَنْتَقِلُ فِي أَفْرَادِهِ فَالْمُتَّجَهُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَقَاعِدَةِ النَّقْلِ وَظَهَرَ بِظُهُورِهِ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَقْلًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِهِ عَادَةً أَوْ شَرْعًا ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَتَعَذَّرَ الْفِعْلُ عَقْلًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْفِعْلُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَهُ ثُمَّ تَعَذَّرَ حَنِثَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعَذُّرِ الْعَقْلِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ الْحِنْثَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ لَهُمْ أَمَّا الْمُتَعَذِّرُ عَقْلًا فَلَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ فِي الْقِسْمِ حَاثًّا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ الْمُتَعَذِّرُ عَقْلًا لَا يُوجِبُ حِنْثًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِهِ وَفَوَاتُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمَشْرُوطِ فَلَا يَبْقَى الْفِعْلُ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ فِعْلِهِ أَمَّا التَّعَذُّرُ الْعَادِيُّ أَوْ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ مُمْكِنًا عَادَةً فَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِي الْيَمِينِ عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْحَلِفَ اقْتَضَى الْفِعْلَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إخْرَاجِهِ وَقِيلَ الْمُتَعَذِّرَاتُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَفِي الْفَرْقِ عِدَّةُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ الْحَمَامَةَ فَقَامَ مَكَانَهُ فَوَجَدَهَا مَيِّتَةً قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالشَّافِعِيُّ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَوْ حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ أَمَتَهُ فَيَجِدُهَا حَامِلًا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَانِعَ شَرْعِيٌّ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا سَحْنُونٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ قَالَ مَالِكٌ الْحَالِفُ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ إلَى سَنَةٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ السَّنَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِمَوْتِهَا وَهُوَ عَلَى بِرٍّ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ إنْ حَلَفَ لَيَرْكَبَنَّ الدَّابَّةَ فَتُسْرَقُ يَحْنَثُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُمْكِنٌ عَادَةً وَإِنَّمَا مَنَعَهُ السَّارِقُ بِخِلَافِ مَوْتِ الْحَمَامِ وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ بَرَّ لِتَعَذُّرِ

الْفِعْلِ عَقْلًا وَمَنْعُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحِقِّ كَالسَّارِقِ وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فَكَاتَبَهُ أَوْ لَيَبِيعَنَّ أَمَتَهُ فَوَجَدَهَا حَامِلًا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَانِعَ شَرْعِيٌّ وَالْفِعْلُ مُمْكِنٌ وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ وَإِنْ حَلَفَ لَيَطَأَهَا فَوَجَدَهَا حَائِضًا يُخَرَّجُ الْحِنْثُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا إنْ صَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ ( تَنْبِيهٌ ) وَمَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ الْفِعْلُ مُتَعَذِّرٌ عَقْلًا يُرِيدُونَ أَنَّ فِعْلَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ عَقْلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحَمَامَ وَالْحَيَوَانَ حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهِ أَفْعَالُ الْأَحْيَاءِ لَكِنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِخِلَافِ السَّارِقِ وَنَحْوِهِ لَا يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَإِنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ عَادَةً الْقُدْرَةُ عَلَى السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ وَيَفْعَلُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَهَذَا تَحْرِيرُ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .

( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَقْلًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِهِ عَادَةً أَوْ شَرْعًا ) وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ لَهُمْ فَالْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِهِ وَالْمُتَعَذِّرُ عَقْلًا لَيْسَ بِمُمْكِنٍ فَلَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ فِي الْقِسْمِ حَاثًّا عَلَيْهِ فَلَا يُوجِبُ حِنْثًا لِأَنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ يُوجِبُ عَدَمَ الْمَشْرُوطِ فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَتَعَذَّرَ الْفِعْلُ عَقْلًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا أَمْكَنَهُ الْفِعْلُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَعَذَّرَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَالْمُرَادُ بِالْمُتَعَذِّرِ عَقْلًا مَا كَانَ فِعْلُهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَلِذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالشَّافِعِيُّ إذَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ الْحَمَامَةَ فَقَامَ مَكَانَهُ فَوَجَدَهَا مَيِّتَةً لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ الْحَالِفُ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ إلَى سَنَةٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ السَّنَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِمَوْتِهَا وَهُوَ عَلَى بِرٍّ فَجَعَلُوا مَوْتَ الْحَمَامِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ الْمُتَعَذِّرِ عَقْلًا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ عَقْلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِ الْحَمَامَ وَالْحَيَوَانَ حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهِ أَفْعَالُ الْأَحْيَاءِ لَكِنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ أَمَّا الْمُتَعَذِّرُ عَادَةً وَهُوَ مَا يَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ مُمْكِنًا شَرْعًا وَعَقْلًا أَوْ الْمُتَعَذِّرُ شَرْعًا وَهُوَ مَا يَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ مُمْكِنًا عَادَةً وَعَقْلًا فَهُمَا مُنْدَرِجَانِ فِي الْيَمِينِ عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْحَلِفَ اقْتَضَى الْفِعْلَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إخْرَاجِهِ وَقِيلَ الْمُتَعَذِّرَاتُ كُلُّهَا سَوَاءٌ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ إنْ حَلَفَ لَيَرْكَبَنَّ الدَّابَّةَ فَتُسْرَقُ يَحْنَثُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَيْ فِي ذَاتِهِ مُمْكِنٌ عَادَةً وَإِنَّمَا مَنَعَهُ السَّارِقُ بِخِلَافِ مَوْتِ الْحَمَامِ وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ أَيْ عَادَةً بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فَإِنْ

مَاتَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ بَرَّ لِتَعَذُّرِ الْفِعْلِ عَقْلًا وَمَنْعُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحِقِّ كَالسَّارِقِ وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فَكَاتَبَهُ أَوْ لَيَبِيعَنَّ أَمَتَهُ فَوَجَدَهَا حَامِلًا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَانِعَ شَرْعِيٌّ وَالْفِعْلُ أَيْ فِي ذَاتِهِ مُمْكِنٌ أَيْ عَادَةً وَعَقْلًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ أَيْ شَرْعًا وَإِنْ حَلَفَ لِيَطَأهَا فَوَجَدَهَا حَائِضًا يُخَرَّجُ الْحِنْثُ عَلَى الْخِلَافِ وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا إنْ صَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ وَلَيْسَ الْفِعْلُ مَعَ السَّارِقِ وَنَحْوِهِ بِمُسْتَحِيلٍ عَادَةً لِأَنَّ مِنْ الْمُمَكَّنِ عَادَةً الْقُدْرَةَ عَلَى السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ وَيَفْعَلُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْأَصْلِ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِي الْمَجْمُوعِ وَشَرْحِهِ وَحَاشِيَتَيْهِ مَا حَاصِلُهُ وَحَنِثَ بِفَوْتِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا نِيَّةَ لَهُ إنْ قَدَرَ مَثَلًا وَلَا بِسَاطَ بِذَلِكَ وَلَوْ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مُطْلَقًا أَيْ تَأَخَّرَ أَمْ لَا فَرَّطَ أَمْ لَا أَقَتَّ أَمْ لَا وَمِنْ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ أَنْ يَحْلِفَ لَيَصُومَنَّ غَدًا فَمَرِضَ فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ الْعَادِي حَيْثُ لَمْ يُطْلِقْهُ وَالشَّرْعِيُّ لِحُرْمَةِ ضَرَرِ نَفْسِهِ وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عِيدٌ فَنَقَلَ السَّيِّدُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَنْ يُكْرَهَ عَنْ عج عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ عَدَمُ الْحِنْثِ لِأَنَّ بِسَاطَ يَمِينِهِ إنْ كَانَ يُصَامُ وَمِنْ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ أَيْضًا حَلِفُهُ لَيَبِيعَنَّ الْأَمَةَ فَوَجَدَهَا حَمَلَتْ مِنْهُ أَوْ لَيَطَأَنَّهَا اللَّيْلَةَ فَحَاضَتْ فِيهَا فَيَحْنَثُ فِيهِمَا وَأَمَّا لَيَطَأَنَّهَا وَأَطْلَقَ فَيَنْتَظِرُ طُهْرَهَا وَانْظُرْ لِمَ لَا يَجْعَلُونَهُمَا كَمَسْأَلَةِ يَوْمِ الْعِيدِ السَّابِقَةِ .
وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَطْرَأُ أَرْجَعُوهُمَا لِلْمَوَانِعِ وَأَمَّا الْعِيدِيَّةُ فَذَاتِيَّةُ يَوْمِ الْعِيدِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ عَلَى أَنَّ مَسَائِلَ الْأَيْمَانِ خِلَافِيَّةٌ جِدًّا فَرُبَّمَا وَقَعَ فِيهَا تَلْفِيقٌ مِنْ قَوْلَيْنِ

فَلَمْ تَجْرِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ كَعَادِيٍّ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الْيَمِينِ فَرَّطَ أَمْ لَا أَقَتَّ أَمْ لَا كَسَرِقَةِ الْحَمَامِ فِي لَيَذْبَحَنَّهُ كَعَقْلِيٍّ تَشْبِيهٌ بِالْعَادِي فِي الْحِنْثِ مَعَ التَّأَخُّرِ وَقَوْلُهُ إنْ فَرَّطَ وَلَمْ يُؤَقِّتْ قَيْدٌ فِي الْمُشَبَّهِ فَإِنْ بَادَرَ وَأَقَّتَ وَلَمْ يُبَادِرْ فَلَا حِنْثَ قَالَ الْبَلِيدِي وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا إذَا حَلَفَ ضَيْفٌ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لَا يَذْبَحُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ أَوْ لَيَفْتَضِنَّ زَوْجَتَهُ فَوَجَدَ عُذْرَتَهَا سَقَطَتْ فَلَا حِنْثَ أَيْ لِأَنَّ رَفْعَ الْوَاقِعِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ عَقْلًا فَهُوَ مَانِعٌ مُتَقَدِّمٌ وَمِنْ حُسْنِ نَظْمِ عَجَّ : إذَا فَاتَ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ لِمَانِعٍ إذَا كَانَ شَرْعِيًّا فَحِنْثُهُ مُطْلَقَا كَعَقْلِيٍّ أَوْ عَادٍ إنْ يَتَأَخَّرَ وَفَرَّطَ حَتَّى فَاتَ دَامَ لَك الْبَقَا وَإِنْ وَقَّتَ أَوْ قَدْ كَانَ مِنْهُ تَبَادُرٌ فَحِنْثُهُ بِالْعَادِي لَا غَيْرُ حُقِّقَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُمَا فَلَا حِنْثَ فِي حَالٍ فَخُذْهُ مُحَقَّقَا ا هـ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا إذَا نَذَرَهَا وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا ) قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ عَلَيَّ أَنْ آتِيَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ الْمَشْيُ إلَيْهَا فَلَا يَأْتِي إلَيْهِمَا حَتَّى يَنْوِيَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدَيْهِمَا أَوْ مَا يُلَازِمُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ صَلَّى بِمَوْضِعِهِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ نَاذِرُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إذَا نَذَرَهُ قَالَ وَالْمَشْيُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الْقُرَبِ أَفْضَلُ وَهُوَ قُرْبَةٌ قَالَ وَمُقْتَضَى أَصْلِ مَالِكٍ أَنْ يَأْتِيَ الْمَكِّيُّ الْمَدِينَةَ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ فَإِتْيَانُهَا مِنْ مَكَّةَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الْإِتْيَانِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ يُونُسَ يَمْشِي إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إنْ كَانَ قَرِيبًا كَالْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ مَاشِيًا وَيُصَلِّي فِيهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إذَا كَانَ بِمَوْضِعِهِ مَسْجِدُ جُمُعَةٍ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ بِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَهُوَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَفِي الْجَوَاهِرِ النَّاذِرُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ بِالْأَقْصَى مَضَى إلَيْهِمَا وَيَمْشِي الْمَكِّيُّ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْمَدَنِيُّ إلَى مَكَّةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَأَصْلُ الْبَابِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ إيلِيَاءَ

وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ لُزُومِ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِهَا فَإِنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ الْمَشْيُ إلَيْهِ وَجَبَ إعْمَالُ الرِّكَابِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ فَمَا لَا رُجْحَانَ فِي فِعْلِهِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّذْرُ وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ مُسْتَوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بُيُوتُ الْقُرَبِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ فِيهَا فَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الرُّجْحَانِ فَإِنْ قُلْت إنَّ الْمَسَاجِدَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إجْمَاعًا .
وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ إمَّا لِكَثْرَةِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَإِمَّا لَقِدَمِ هِجْرَتِهِ أَوْ لِكَثْرَةِ جَمَاعَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فِيهَا إذَا نُذِرَتْ لِأَجْلِ الرُّجْحَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ قُلْت سُؤَالٌ جَلِيلٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ رَاجِحًا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ ضَمُّهُ لِرَاجِحٍ آخَرَ فِي نَفْسِهِ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَقَدْ يَكُونُ ضَمُّهُ رَاجِحًا فَمِنْ الْأَوَّلِ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ رَاجِحَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ ضَمُّهُمَا رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ رَاجِحَانِ مُنْفَرِدَيْنِ وَلَيْسَ ضَمُّهُمَا رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلَانِ رَاجِحَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَضَمُّهُمَا مَرْجُوحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ كَالصَّوْمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالتَّنَفُّلُ فِي الْمُصَلَّى مَعَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالرُّكُوعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا } وَالدُّعَاءُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا قَبْلَ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِ وَمِمَّا رُجِّحَ مُنْفَرِدًا وَمُجْتَمِعًا الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ وَالتَّسْبِيحُ وَالرُّكُوعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَاعْتِقَادُ رُجْحَانِ الْمَسَاجِدِ عَلَى غَيْرِهِمَا

أَوْ رُجْحَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ ضَمِّ الصَّلَاةِ إلَيْهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ الرُّجْحَانِ الشَّرْعِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَرِدْ بَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ رُجْحَانَهَا إنَّمَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ فِيهَا فَإِنِّي أَمْنَعُ ذَلِكَ بَلْ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى رُجْحَانِهَا بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ مِنْ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَيْرُ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ } مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَسَاجِدُ مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَكْتُوبَةِ أَيْضًا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ فَإِنَّ الرُّجْحَانَ الشَّرْعِيَّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ اقْتَضَى عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ نَذَرَهُ .
وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي إلَى الْقَرِيبِ فَمُرَاعَاةً لِضَرُورَةِ النَّذْرِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ دُونَ الْإِلْزَامِ وَقَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ يَمْشِي إلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ مُشْكِلٌ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَاعِدَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يَمْشِي إلَى الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ ظَاهِرٍ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ فَإِنْ قُلْت الْقَاعِدَةُ فِي النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إذَا نَذَرَهُ فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرَغِيفٍ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَقْعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا لَمْ يُجِزْهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يُجِزْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِآلَافٍ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَلَا أَنْ

يُصَلِّيَ السِّنِينَ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَيْفَ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ إذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا وَلَا يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَفْضُولَ لِفِعْلِ الْفَاضِلِ وَالْقَاعِدَةُ مَنْعُ ذَلِكَ فَكَيْفَ سَاغَ ذَلِكَ هُنَا قُلْت ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالْحَرَمَيْنِ إذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا حَالَةَ النَّذْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَذَرَ الْخُرُوجَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ فِي الْحَرَمَيْنِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ نَذَرَ الْمَرْجُوحَ وَالنَّذْرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَرْجُوحِ بَلْ فِي الْمَنْدُوبِ الرَّاجِحِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا وَنَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يُقَالَ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْعُدُولُ فِيهَا عَنْ الصِّفَةِ الدُّنْيَا إلَى الصِّفَةِ الْعُلْيَا لَا يَقْدَحُ فِي مُوجَبِ النَّذْرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ خَلَقٍ أَوْ غَلِيظٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً بَلْ هِيَ مَرْجُوحَةٌ فِي الثِّيَابِ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الْجَيِّدَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ فَإِنَّ النَّذْرَ لَمَّا وَرَدَ عَلَى الثَّوْبِ الْخَلَقِ وَرَدَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ الثَّوْبِ وَالْآخَرُ صِفَتُهُ فَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِأَصْلِ الثَّوْبِ فَقُرْبَةٌ فَتَجِبُ .
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِوَصْفِ الْخَلَقِ فَلَيْسَ فِيهِ نَدْبٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّذْرُ فَيُجْزِئُ ضِدُّهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَمَّا نَذَرَ الصَّلَاةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ نَذَرَ الصَّلَاةَ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { الصَّلَاةَ فِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ هِيَ

بِعَيْنِهَا فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخَرَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } فَكُلُّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا وَلَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ وَتَرْكُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا نَذْرٌ وَيَكُونُ وِزَانُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ وِزَانُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَصَلَّى لِأَنَّ خُصُوصَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ مَطْلُوبٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْصُلُ هَذَا الْخُصُوصُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا حَصَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ أَلْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ إجْزَاءِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ الرَّاجِحِ عَنْ الْمَرْجُوحِ فِي الْعِبَادَاتِ وَقَاعِدَةِ إجْزَاءِ الصَّلَاةِ بِالْحَرَمَيْنِ عَنْ الصَّلَاةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ مِنْ مَسَاجِدِ الْأَقْطَارِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ( تَنْبِيهٌ ) مُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ فِي النَّذْرِ لُزُومُ ثَلَاثَةِ إشْكَالَاتٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ ( الْإِشْكَالُ الْأَوَّلِ ) عَلَى مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ إنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ قَبْلَ النَّذْرِ وَلَا فِي مُبَاحٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا بِفِعْلِ الْمُبَاحِ نَذَرَهُ أَمْ لَا وَالْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِذَا كَانَتْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي رَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الشَّعِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ قَمْحًا مَعَ أَنَّ هَذَا الشَّعِيرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ

أَحَدُهُمَا الْمَالِيَّةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَمْحِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا رَاجِحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَالثَّانِي كَوْنُهُ شَعِيرًا وَكَوْنُهُ شَعِيرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِخُصُوصِهِ فِي الصَّدَقَةِ وَلَا هُوَ رَاجِحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ خُصُوصُ الشَّعِيرِ وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الثَّوْبِ فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَا يُجْزِئُهُ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ لَا تَجَزُّئِهِ الصَّلَاةُ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ فِي خُصُوصِ الصَّوْمِ وَجْهٌ يَتَرَجَّحُ بِهِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهِ النَّذْرُ وَيُمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ تَتَعَيَّنُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ يَلْزَمُ خُصُوصُهَا بِالنَّذْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْخُصُوصُ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بَلْ الْقُرْبَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَدْ أَثَّرَ النَّذْرُ فِيمَا لَيْسَ بِرَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ ( الْإِشْكَالُ الثَّانِي ) عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَصْدِ بِخُصُوصِيَّاتِهِمْ ا شَرْعًا وَعَادَةً فَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيُخْرِجُ غَيْرَهُ أَوْ بِهَذَا الدِّينَارِ أَنْ يَتْرُكُهُ وَيُخْرِجُ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْخُصُوصَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَصْدٌ شَرْعِيٌّ وَعَادِيٍّ وَهُوَ خِلَافُ قَاعِدَتِهِمْ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ وَيَلْزَمُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يُعَيِّنَهَا أَنْ يُخْرِجَ عِوَضَهَا دَنَانِيرَ لِأَنَّ التَّقَرُّبُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا فِي كَوْنِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَنْفَعَ لِلْفَقِيرِ وَهُوَ مَا لَمْ يُنْذَرْ لِرَاحَتِهِ مِنْ الصَّرْفِ فِي دَفْعِ الدَّرَاهِمِ عَنْ الدَّنَانِيرِ الْمَنْذُورَةِ ( الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ ) مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِ مَعَ تَحْصِيلِ أَصْلِ التَّقَرُّبِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسُ الْمَنْذُورَاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ يُقَدَّمُ فَاضِلُهَا عَلَى مَفْضُولِهَا وَيُخْرَجُ الْقَمْحُ بَدَلَ الشَّعِيرِ فَيُطْلَبُ الْفَرْقُ .

قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا إذَا نَذَرَهَا وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهَا ) قُلْت مَا حَكَاهُ لَا كَلَامَ فِيهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي عَدَمَ لُزُومِ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِهَا لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ إعْمَالِ الْمُطِيِّ إلَى غَيْرِهَا .
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ مَشَقَّةَ السَّفَرِ الَّذِي يُحْوِجُ إلَى إعْمَالِ الْمَطِيِّ إلَّا لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَيَبْقَى السَّفَرُ الَّذِي لَا يُحْوِجُ إلَى إعْمَالِ الْمَطِيِّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِسَفَرٍ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ الْمَشْيُ إلَيْهِ وَجَبَ إعْمَالُ الرِّكَابِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا دَعْوَى لَا حُجَّةَ فِيمَا ذَكَرَ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الرُّجْحَانِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ اسْتِوَاءِ الْمَسَاجِدِ وَعَدَمِ الرُّجْحَانِ فِيهَا دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت إنَّ الْمَسَاجِدَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إجْمَاعًا وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ إلَى قَوْلِهِ بَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بِعَدَمِ ذَلِكَ ) قُلْت مَا قَرَّرَهُ مِنْ الْقَاعِدَةِ صَحِيحٌ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يَلْزَمُ عَنْهُ مَقْصُودُهُ وَمَا قَالَهُ مِنْ اعْتِقَادِ رُجْحَانِ الْمَسَاجِدِ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ رُجْحَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ ضَمِّ الصَّلَاةِ إلَيْهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا مَعْنَى لِفَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا أَوْ فَضْلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا لَا بِاعْتِبَارِهَا فِي أَنْفُسِهَا وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الرُّجْحَانَ الشَّرْعِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٌ وَالْمُدْرَكُ الشَّرْعِيُّ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ مِنْ

الدَّيْنِ ضَرُورَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ بَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بِعَدَمِ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ وَرَدَ بِعَدَمِ إعْمَالِ الْمَطِيِّ لَا بِعَدَمِ الْمَشْيِ جُمْلَةً فَإِنَّ إعْمَالَ الْمَطِيِّ أَخَصُّ مِنْ الْمَشْيِ مُطْلَقًا وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ رُجْحَانَهَا إنَّمَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَجِبُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ نَذَرَهُ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَكْتُوبَةِ مَعَ تَسْلِيمِهِ قَبْلَ هَذَا أَنَّ بَعْضَهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَعْنَاهُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْأَعْمَالُ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلَ مِنْ الْأَعْمَالِ فِي غَيْرِهِ فَمَا الْمُرَادُ بِفَضْلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَالَ ( وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي إلَى الْقَرِيبِ فَمُرَاعَاةٌ لِضَرُورَةِ النَّذْرِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ دُونَ الْإِلْزَامِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا قَالَ ( وَقَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ يَمْشِي إلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ مُشْكِلٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ الْقَاعِدَةِ ) قُلْت إنْ ثَبَتَ لَهُ دَلِيلٌ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا أُشْكِلَ قَالَ ( وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يَمْشِي إلَى الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ ) قُلْت كَلَامُهُ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ اسْتِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ وَهَلْ الِاسْتِحْسَانُ إلَّا مُدْرَكٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت الْقَاعِدَةُ فِي النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إلَى قَوْلِهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ) قُلْت

إنَّمَا لَمْ يُجِزْهُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى أَعْظَمَ قَدْرًا لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْأَدْنَى الْمَنْذُورِ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ وَإِذَا خُولِفَ الْمَنْذُورُ حَصَلَ ارْتِكَابُ الْمَمْنُوعِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا الْتَزَمَ لِوَجْهِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَيْفَ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ إلَى قَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ ) قُلْت نَقُول إذَا كَانَ النَّاذِرُ مُقِيمًا بِالْحَرَمَيْنِ كَانَ فِي ضِمْنِ نَذْرِهِ الصَّلَاةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ تَرْكُ الرَّاجِحِ وَهُوَ الصَّلَاةُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِالظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ التَّنَفُّلَ بِالْمَسْجِدَيْنِ جَائِزًا أَمَّا وَتَرْكُ التَّنَفُّلِ بِهِمَا جَائِزٌ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ وُرُودُ السُّؤَالِ قَالَ ( أَوْ يُقَالُ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَيُجْزِئُ ضِدُّهُ ) قُلْت كَأَنَّهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ رَامَ الْفَرْقَ فِيمَا بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ فَفِي الْجِنْسَيْنِ لَا يَنُوبُ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الصِّفَتَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ تَنُوبُ الصِّفَةُ الْعُلْيَا عَنْ الدُّنْيَا وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصِّفَةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ رَاجِحَةً فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ قَالَ ( فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَمَّا نَذَرَ الصَّلَاةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ نَذَرَ أَصْلَ الصَّلَاةِ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ) قُلْت لَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ هَذَا مِنْ الْمُسَامَحَةِ فِي قَوْلِهِ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةٍ صَلَاةٍ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ

لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَنْذُورِ حَقِيقَةً كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْخَلَقِ بَلْ هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَنْذُورِ إضَافَةً بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ وَتَنْظِيرُ الْوَصْفِ الْإِضَافِيِّ بِالْحَقِيقِيِّ فِيهِ مَا فِيهِ .
قَالَ ( وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } ) قُلْت لَيْسَ وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ هِيَ بِعَيْنِهَا الَّتِي فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ كَيْفَ وَالْأَفْعَالُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ كُلِّ فِعْلَيْنِ دَاخِلَيْنِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ لَيْسَتْ أَفْعَالًا وَاقِعَةً مِنْ الْمُكَلَّفِ بَلْ هِيَ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَكُلُّ كَلَامِهِ هَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ وَلَا مُحَصِّلَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْمُجْزَى عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُجْزَى عَلَيْهِ بِأَلْفٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ فَلِذَلِكَ وَجْهٌ إلَّا أَنَّ عِبَارَتَهُ بَعِيدَةٌ عَنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ جِدًّا .
قَالَ ( فَكُلُّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا وَلَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ أَجْرَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْهُوبٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ قَدْرُ مَا يَفْضُلُ بِهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ الْمَقْدِسِ مِثْلُ قَدْرِ مَا يَفْضُلُ بِهِ الْمَسْجِدُ

الْحَرَامُ عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ( وَتَرْكُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا نَذْرٌ ) قُلْت تِلْكَ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمُكَلَّفِ أَصْلًا فَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ إلَيْهَا وَلَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّدْبِ أَصْلًا وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَالَ ( وَيَكُونُ وِزَانُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبَيْنِ ) قُلْت لَيْسَ وِزَانُهُ مَا ذَكَرَ وَكَيْفَ يُنَظَّرُ بَيْنَ جَزَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِ فِعْلِهِ هَذَا خَلَلٌ وَاضِحٌ .
قَالَ ( فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إجْمَاعًا ) قُلْت لَا يَخْلُوَا نَاذِرُ التَّصَدُّقِ بِثَوْبٍ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِثَوْبَيْنِ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ بِأَحَدِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَعًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ يُجْزِئْهُ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ قَصَدَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ بِهِمَا مَعًا فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَمَا أَرَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ تَصِحُّ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا يَكُونُ وِزَانُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَصَلَّى ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ وِزَانُهُ مَا ذَكَرَ قَبْلُ وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا وِزَانَهُ فَظَاهِرٌ قَالَ ( لِأَنَّ خُصُوصَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ مَطْلُوبٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْخُصُوصُ فِي الصَّلَاةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( كَمَا حَصَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ ) قُلْت لَوْ كَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ وَالْأَلْفُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لَمَا صَحَّ حُصُولُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ فَإِنَّ الْخَمْسَمِائَةِ مُقَيَّدَةٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا وَالْأَلْفُ مُقَيَّدَةٌ بِتَمَامِهَا وَالْقَيْدَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ ( مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ أَلْبَتَّةَ ) قُلْت وَأَيُّ خَلَلٍ أَعْظَمُ مِنْ خَلَلٍ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ قَالَ ( فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) قُلْت لَيْتَهُ لَمْ يُفَسِّرْ هَذَا السِّرَّ فَإِنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَجِبُ كَتْمُهُ .
قَالَ (

تَنْبِيهٌ مُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ فِي النَّذْرِ لُزُومُ ثَلَاثَةِ إشْكَالَاتٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ أَثَّرَ فِيمَا لَيْسَ بِرَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ أَثَّرَ فِي رَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ رَاجِحٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَنُبْ الْقَمْحُ عَنْ الشَّعِيرِ وَالصَّلَاةُ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْذُرْ الْقَمْحَ وَلَا الصَّلَاةَ فَلَوْ فَعَلَ التَّصَدُّقَ بِالْقَمْحِ بَدَلَ الشَّعِيرِ أَوْ فَعَلَ الصَّلَاةَ بَدَلَ الصَّوْمِ لَكَانَ قَدْ خَالَفَ مَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلنَّدَبِ أَثَرٌ إلَّا فِي تَصْيِيرِ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ وَاجِبًا خَاصَّةً وَامْتَنَعَتْ نِيَابَةُ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهَا وَكَذَلِكَ نِيَابَةُ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهُ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّذْر وَجَازَتْ نِيَابَةُ الصِّفَةِ الْعُلْيَا مِنْ صِفَاتِ مُتَعَلِّقِ الْعِبَادَةِ عَنْ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلنَّذْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْجِنْسَ أَعْنِي جِنْسَ الْعِبَادَةِ أَوْ مُتَعَلَّقَهَا مِمَّا هُوَ جِنْسٌ مَقْصُودٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ وَصِفَةُ مُتَعَلَّقِهَا إنَّمَا هِيَ صِفَةٌ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لَهُ وَعَلَى الصِّفَةِ تَتَخَرَّجُ مَسْأَلَةُ نَاذِرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ( الْإِشْكَالُ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِيهِ ) قُلْت مَا قَالَهُ وَأَلْزَمَهُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّقْدَيْنِ لَا يَتَعَيَّنَانِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ الْحَرَامِ عَلَى الْأَقْصَى لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِ مَعَ تَحْصِيلِ أَصْلِ التَّقَرُّبِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسُ

الْمَنْذُورَاتِ كُلُّهَا كَذَلِكَ يُقَدَّمُ فَاضَلَهَا عَلَى مَفْضُولِهَا وَيَخْرُجُ الْقَمْحُ بَدَلَ الشَّعِيرِ فَيَطْلُبُ الْفَرْقَ ) قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْحَرَامِ وَالْأَقْصَى لَيْسَتْ مِنْ نِيَابَةِ الْجِنْسِ عَنْ الْجِنْسِ بَلْ مِنْ نِيَابَةِ الصِّفَةِ الْعُلْيَا عَنْ الصِّفَةِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قُلْت وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي الْمَنْذُورَاتِ عِنْدِي أَنَّ النَّاذِرَ إذَا نَذَرَ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الثَّوْبِ أَوْ لَا يَكُونُ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ النَّذْرِ إلَّا ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَلَا يَخْلُو مَعَ كَوْنِهِ مُعَيَّنَ النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ذَلِكَ النَّوْعُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُجْزِئُهُ بِأَدْنَى مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَيُجْزِئُهُ بِأَعْلَى مِنْهَا وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ الْأَقْصَى وَالْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ عَمِلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا إذَا نَذَرَهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهَا ) مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلُ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إذَا نَذَرَهُ فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرَغِيفٍ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَقْعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَهُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِآلَافٍ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ السِّتِّينَ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِعْلُ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى أَعْظَمَ قَدْرًا لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْأَدْنَى الْمَنْذُورِ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ وَإِذَا خُولِفَ الْمَنْذُورُ حَصَلَ ارْتِكَابُ الْمَمْنُوعِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا الْتَزَمَ لِوَجْهِهِ فَمَا وَجْهُ مُخَالَفَةِ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَفِيمَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ حَيْثُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ عَلَى أَنْ آتِيَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ الْمَشْيَ إلَيْهِمَا فَلَا يَأْتِي إلَيْهِمَا حَتَّى يَنْوِيَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدَيْهِمَا أَوْ مَا يُلَازِمُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَسَاجِدِ صَلَّى بِمَوْضِعِهِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ نَاذِرُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إذَا نَذَرَهُ قَالَ وَالْمَشْيُ فِي

ذَلِكَ كُلِّهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الْقُرَبِ أَفْضَلُ وَهُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ مُقْتَضَى أَصْلِ مَالِكٍ أَنْ يَأْتِيَ الْمَكِّيُّ الْمَدِينَةَ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ فَإِتْيَانُهَا مِنْ مَكَّةَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الْإِتْيَانِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ يُونُسَ يَمْشِي إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إنْ كَانَ قَرِيبًا كَالْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ مَاشِيًا وَيُصَلِّي فِيهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إذَا كَانَ بِمَوْضِعِهِ مَسْجِدُ جُمُعَةٍ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ بِمَسْجِدٍ قُبَاءَ وَهُوَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَفِي الْجَوَاهِرِ النَّاذِرُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ بِالْأَقْصَى مَضَى إلَيْهِمَا وَيَمْشِي الْمَكِّيُّ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْمَدَنِيُّ إلَى مَكَّةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ .
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ إيلِيَاءَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إنَّمَا وَرَدَ بِعَدَمِ إعْمَالِ الْمَطِيّ لَا بِعَدَمِ الْمَشْيِ جُمْلَةً وَإِعْمَالُ الْمَطِيِّ أَخَصُّ مِنْ الْمَشْيِ مُطْلَقًا وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ مَشَقَّةَ السَّفَرِ الَّذِي يُحْوِجُ إلَى إعْمَالِ الْمَطِيِّ إلَّا لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَيَتَبَقَّى السَّفَرُ الَّذِي لَا يُحْوِجُ إلَى إعْمَالِ الْمَطِيِّ .
وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ سَفَرًا مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ قُلْت لَمْ يُخَالِفْ الْفُقَهَاءُ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي مَسْأَلَةِ نَاذِرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ إنَّمَا اقْتَضَتْ مَنْعَ نِيَابَةِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهَا وَكَذَلِكَ

نِيَابَةِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ مُتَعَلَّقِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ فَلَمْ يَنُبْ الْقَمْحُ عَنْ الشَّعِيرِ وَلَا الصَّلَاةُ عَنْ الصَّوْمِ مَثَلًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْذُرْ الْقَمْحَ وَلَا الصَّلَاةَ فَلَوْ فَعَلَ التَّصَدُّقَ بِالْقَمْحِ بَدَلَ الشَّعِيرِ أَوْ فَعَلَ الصَّلَاةَ بَدَلَ الصَّوْمِ لَكَانَ قَدْ خَالَفَ مَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلنَّذْرِ أَثَرٌ إلَّا فِي تَصْيِيرِ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ خَاصَّةً وَاجِبًا وَأَمَّا نِيَابَةُ الصِّفَةِ الْعُلْيَا مِنْ صِفَاتِ مُتَعَلَّقِ الْعِبَادَةِ عَنْ الدُّنْيَا فَلَا تَقْتَضِي الْقَاعِدَةُ مَنْعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلنَّذْرِ فَيَجُوزُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَةِ أَوْ جِنْسَ مُتَعَلَّقِهَا هُوَ جِنْسٌ مَقْصُودٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ وَأَمَّا صِفَةُ مُتَعَلِّقِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لَيْسَتْ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ وَعَلَى الصِّفَةِ تَتَخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَا إشْكَالَ أَصْلًا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
قَالَ وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي الْمَنْذُورَاتِ عِنْدِي أَنَّ النَّاذِرَ عَمَلًا إذَا نَذَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الثَّوْبِ أَوْ لَا يَكُونَ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَإِنْ كَانَ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ النَّذْرِ إلَّا ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَلَا يَخْلُو مَعَ كَوْنِهِ مُعَيَّنَ النَّوْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ أَوْ

لَا تَكُونَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ذَلِكَ النَّوْعُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالصِّفَةُ مُتَعَلِّقُ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُجْزِئُهُ بِأَدْنَى مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَيُجْزِئُهُ بِأَعْلَى مِنْهَا وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَتَخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ عَمِلَهُ ا هـ وَمِنْهُ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْمَشْيِ عَلَى مَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ بِغَيْرِهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْمَشْيِ عَلَى مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ لِمَسْجِدٍ مِنْ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
وَهُوَ فِي أَحَدِهَا لِأَنَّ الْقَاعِدَتَيْنِ مِنْ قِسْمِ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ النَّوْعُ الْمَنْذُورُ وَصِفَتُهُ الَّتِي هِيَ زِيَادَةُ مُضَاعَفَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُضَاعَفَتِهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ مَعَ كَوْنِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ وَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَمَا عَلِمْت أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِأَدْنَى مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَيُجْزِئُ بِأَعْلَى مِنْهَا فَوَجَبَ الْمَشْيُ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى لِكَوْنِ النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ الْمَنْذُورِ فِيهَا أَعْلَى مُضَاعَفَةً فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مُضَاعَفَتِهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَيُجْزِئُ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ شَأْنَ النَّذْرِ تَصْيِيرُ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ وَاجِبًا وَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ فَلِذَا وَجَبَ الْمَشْيُ هُنَا وَلَمْ يَجِبْ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ لِكَوْنِ النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ الْمَنْذُورِ فِيهَا أَدْنَى مُضَاعَفَةً فِي مَسْجِدٍ مِنْ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مُضَاعَفَتِهِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا يُجْزِئُ إلَّا

فِعْلُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ فِيهِ أَعْلَى مُضَاعَفَةً فَلِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَشْيُ هُنَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( تَنْبِيهٌ ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَنْصُورُ بْنُ إدْرِيسَ الْحَنْبَلِيُّ فِي شَرْحِهِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى مَتْنِ الْإِقْنَاعِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ اُسْتُحِبَّ لَهُ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا نَصُّهُ لِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ سَعِيدٌ قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ لَازِمُ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتِحْبَابُ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا لِأَنَّ زِيَارَةَ الْحَاجِّ بَعْدَ حَجِّهِ لَا تُمْكِنُ بِدُونِ شَدِّ الرَّحْلِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرَّحْلِ لِزِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ا هـ قُلْت وَلَعَلَّ إمَامَنَا مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُشِيرُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِبَارَةِ الْمُدَوَّنَةِ فَلَا يَأْتِي إلَيْهِمَا حَتَّى يَنْوِيَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدَيْهِمَا أَوْ مَا يُلَازِمُ ذَلِكَ ا هـ وَإِنَّ مِمَّا يُلَازِمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ زِيَارَةَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ إذَا قَالَ عَلَيَّ أَنْ آتِيَ إلَى الْمَدِينَةِ وَنَوَى زِيَارَةَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ إلَيْهَا لِذَلِكَ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْمُسْتَحَبُّ يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَاحْفَظْ ذَلِكَ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْذُورَاتِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَوَامِرَ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ كَمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصْلَحَةُ إنْ كَانَتْ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا النَّدْبَ .
وَإِنْ كَانَتْ فِي أَعْلَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ ثُمَّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَتَرَقَّى وَيَرْتَقِي النَّدْبُ بِارْتِقَائِهَا حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ النَّدْبِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَفْسَدَةِ التَّقْسِيمُ بِجُمْلَتِهِ وَتَرْتَقِي الْكَرَاهَةُ بِارْتِقَاءِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمَكْرُوهِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّحْرِيمِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي تَصْلُحُ لِلنَّدَبِ لَا تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّدْبُ فِي الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا مِنْ الْمَصَالِحِ بِالْوُجُوبِ وَحَثَّ عَلَيْهَا بِالزَّوَاجِرِ صَوْنًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا خَصَّصَ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا وُجُوبًا عَقْلِيًّا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ ، هَذَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبُ الشَّرْعِ شَيْئًا سَبَبَ وُجُوبِ فِعْلٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ إلَّا وَذَلِكَ السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ فَإِنْ قَصُرَتْ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهَا سَبَبَ النَّدْبِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ فَبَذْلُ الرَّغِيفِ لِلْجَوْعَانِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ وَاجِبٌ .
وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الضَّرُورَةُ وَهَذَا السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِهِ وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ وَبَذْلُ الرَّغِيفِ

لِمَنْ يَتَوَسَّعُ بِهِ عَلَى عَائِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَسَبَبُ هَذَا النَّدْبِ التَّوْسِعَةُ دُونَ دَفْعِ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَقْتَضِ التَّوْسِعَةُ الْوُجُوبَ لِقُصُورِ مَصْلَحَتِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَفِي بَابِ النَّوَاهِي ، إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيرَةِ الْخَلْقِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَ وُجُوبَهُ إلَى خِيَرَةِ الْخَلْقِ فَإِنْ شَاءُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْشَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَكَمَا جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ جَعَلَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَمَالِكِ النِّصَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَهُ لِلْعِبَادِ فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهُ سَبَبًا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَجْعَلُوهُ سَبَبًا وَهُوَ شَرْطُ النُّذُورِ وَالطَّلَاق وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ فِيهَا فَإِنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ وَلَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ كَمَا حَصَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْذُورَاتِ فَلَا يُؤَثِّرُ النَّذْرَ إلَّا فِي نَقْلِ مَنْدُوبٍ لِوَاجِبٍ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّذْرُ بَلْ عَمَّمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُمَكَّنَاتِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ الْمُكْتَسَبَاتِ كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا اكْتِسَابٌ اخْتِيَارِيٌّ فَأَيُّ ذَلِكَ شَاءَ الْمُكَلَّفُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَنْذُورٍ عَلَيْهِ أَوْ لُزُومِ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ وَالْوَاجِبِ الْمُتَأَصِّلِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ

وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قُصُورُ مَصْلَحَتِهِ عَنْ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَصْلَحَةُ النَّدْبِ وَالِالْتِزَامُ لَا يُغَيِّرُ الْمَصَالِحَ ثَانِيهِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَالْأَسْبَابِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَوْنُ الْمَنْذُورَاتِ مُسْتَثْنَيَاتٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ أَشَدُّ بُعْدًا عَنْ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ انْتَقَلَتْ فِيهَا الْمَنْدُوبَاتُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتُ فِيهَا أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا فِي الْأَسْبَابِ فَقَدْ يَحْصُلُ مَا هُوَ قَدْ عَرِيَ عَنْ الْمَصْلَحَةِ أَلْبَتَّةَ كَطَيَرَانِ الْغُرَابِ وَصَرِيرِ الْبَابِ وَعُبُورِ النَّامُوسِ فَلَوْ قَالَ إنْ طَارَ الْغُرَابُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ ذَلِكَ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا عَلَّقَهُ إذَا وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ أَبْعَدَ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَعَ بُعْدِ الْأَحْكَامِ فِي أَنْفُسِهَا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اعْتِبَارَ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ وَإِقَامَةَ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ لِلْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشَّرَائِعِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَتْبَعَ الْمَصَالِحَ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا قُلْت الْأَسْبَابُ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَكَمَا أَنَّ عِظَمَ الْمَصْلَحَةِ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي عَادَةِ الشَّارِعِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا سَبَبٌ آخَرُ إذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ مَصْلَحَةُ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَنَّهُ إذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُفُهُ إيَّاهُ لَا سِيَّمَا إذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ بِالْقَبُولِ خُلُقٌ كَرِيمٌ هُوَ سَبَبُ خُلْفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ مَعَ خَالِقِهِ وَمَعْبُودِهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ

أَعْظَمُ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى قَالَ رُوَيْمٌ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا .
أَيْ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى تَكُونَ نِسْبَتُهُ فِي الْكَثْرَةِ نِسْبَةَ الدَّقِيقِ إلَى الْمِلْحِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدَبِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُوا مَعَ أَمَاثِلِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُمْكِنُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلَمَّا كَانَ الْأَدَبُ مَعَ الْمُلُوكِ أَعْظَمَ نَفْعًا لِفَاعِلِهِ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرِ الْخِدْمَةِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ كَانَ الْوَاقِعُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ صِدْقُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْمُلُوكِ وَلَمَّا عَظُمَ هَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ هُوَ سَبَبَ الْوُجُودِ بَدَلًا مِنْ الْمَصَالِحِ فِي نَفْسِ الْأَفْعَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ النُّذُورَ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ زَيْنِك الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ رَجَعَتْ إلَى الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَتْ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَا عَرَى الْوُجُوبُ عَنْ مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَيْضًا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْذُورَاتِ وَالشُّرُوطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَدَارِكَهَا غَيْرُ مَدَارِكِ الْأَسْبَابِ وَالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مَصَالِحُ غَيْرُ مَصَالِحِ أَنْفُسِ الْأَفْعَالِ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ وَهُوَ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلُهُ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُوا مَعَ أَمَاثِلِهِمْ فَإِنَّهُ تَشْبِيهٌ لَا أَرْتَضِيه وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ كُلُّهُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْذُورَاتِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي الشَّرِيعَةِ ) وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) قُصُورُ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ الْمُتَأَصِّلِ فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَصْلَحَةُ الْمَنْدُوبِ وَالِالْتِزَامُ لَا يُغَيِّرُ الْمَصَالِحَ ( وَثَانِيهِمَا ) إنَّ سَبَبَ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ لَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ لِكَوْنِهِ قَدْ يَعْرَى عَنْ الْمَصَالِحِ رَأْسًا كَطَيَرَانِ الْغُرَابِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ إنْ طَارَ الْغُرَابُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ دِرْهَمٌ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ يَتَّضِحُ لَك هَذَا الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ قَوَاعِدَ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) إنَّ الْأَوَامِرَ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ وَالنَّوَاهِي تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ وَكُلُّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ إنْ كَانَ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ النَّدْبَ وَعَلَى الْمَفْسَدَةِ الْكَرَاهَةَ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَعْلَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْوُجُوبَ وَعَلَى الْمَفْسَدَةِ التَّحْرِيمَ ثُمَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ وَمَفْسَدَةِ الْكَرَاهَةِ تَتَرَقَّى فَيَرْتَقِي النَّدْبُ بِارْتِقَاءِ مَصْلَحَتِهِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ النَّدْبِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الْوُجُوبِ وَيَرْتَقِي الْمَكْرُوهُ بِارْتِقَاءِ مَفْسَدَتِهِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُكَرَّرَةِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّحْرِيمِ فَالْمَصْلَحَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلنَّدَبِ لَا تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّدْبُ فِي الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا مِنْ الْمَصَالِحِ بِالْوُجُوبِ وَحَثَّ عَلَيْهَا بِالزَّوَاجِرِ صَوْنًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْمَكْرُوهِ لَا تَصْلُحُ لِلتَّحْرِيمِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَكْرُوهُ فِي الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ بِالزَّجْرِ

وَالْوَعِيدِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا وُجُوبًا عَقْلِيًّا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا سَبَبَ وُجُوبِ فِعْلٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ إلَّا وَذَلِكَ السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ فَإِنْ قَصُرَتْ مَصْلَحَتُهُ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ سَبَبَ النَّدْبِ كَمَا أَنَّهُ لَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا سَبَبَ تَحْرِيمِ فِعْلٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ إلَّا وَذَلِكَ السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَإِنْ قَصُرَتْ مَفْسَدَتُهُ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ مَثَلًا بَذْلُ الرَّغِيفِ لِلْجَوْعَانِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ وَاجِبٌ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِهِ وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ وَبَذْلُ الرَّغِيفِ لِمَنْ يَتَوَسَّعُ بِهِ عَلَى عَائِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَسَبَبُ هَذَا النَّدْبِ التَّوْسِعَةُ فَقَطْ لَا مَعَ دَفْعِ ضَرُورَةٍ حَتَّى تَقْتَضِيَ الْوُجُوبَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَابَيْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ كَمَا جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيَرَةِ خَلْقِهِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقِسْمٌ وَكَلَ وُجُوبَهُ إلَى خِيَرَةِ خَلْقِهِ فَإِنْ شَاءُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْشَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ الْأَسْبَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَمِلْكِ النِّصَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقِسْمٌ وَكَلَهُ لِلْعِبَادِ فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهُ سَبَبًا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَجْعَلُوهُ سَبَبًا وَهُوَ شَرْطُ النُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا

أَسْبَابٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ السَّبَبِ ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ حَصَرَ مَا وَكَلَ وُجُوبَهُ إلَى خِيَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ قِسْمَيْ الْأَحْكَامِ وَهُوَ النَّذْرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ فَلَا يُؤَثِّرُ النَّذْرُ الْوُجُوبَ إلَّا فِي نَقْلِ مَنْدُوبٍ وَلَمْ يَحْصُرْ مَا وَكَلَ جَعَلَهُ سَبَبًا إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ مِنْ قِسْمَيْ الْأَسْبَابِ فِي شَيْءٍ بَلْ عَمَّمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُمَكَّنَاتِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ الْمُكْتَسَبَاتِ كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا اكْتِسَابٌ اخْتِيَارِيٌّ فَأَيُّ ذَلِكَ شَاءَ الْمُكَلَّفُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَنْذُورِ عَلَيْهِ أَوْ لَزِمَ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ لَهُ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْمَوْكُولُ جَعْلُهَا سَبَبًا إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ أَشَدُّ بُعْدًا عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَوْكُولِ وُجُوبُهَا لِخِيَرَةِ الْخَلْقِ وَهُوَ النَّذْرُ مَعَ بُعْدِ الْأَحْكَامِ فِي أَنْفُسِهَا عَنْ الْقَوَاعِدِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ وَإِنْ انْتَقَلَتْ فِيهَا الْمَنْدُوبَاتُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتُ فِيهَا أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ إلَّا أَنَّهَا بَعُدَتْ أَيْضًا بِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ لِلْوُجُوبِ عَنْ قَاعِدَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا كَمَا هُوَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشَّرَائِعِ وَأَمَّا الْأَسْبَابُ فَقَدْ يَجْعَلُ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ عَرِيٌّ عَنْ الْمَصْلَحَةِ أَلْبَتَّةَ كَطَيَرَانِ الْغُرَابِ وَصَرِيرِ الْبَابِ سَبَبًا لِنَذْرِهِ مَثَلًا عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مَصْلَحَةِ مُسَبَّبَاتِهَا كَأَنْ يَقُولُ إنْ طَارَ الْغُرَابُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ دِرْهَمٌ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا عَلَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ إذَا وَجَدَ وَمَا اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اعْتِبَارَ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ مِنْ

الْأَسْبَابِ وَإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ لِلْوُجُوبِ فِي النَّذْرِ وَخُرُوجِ مَسْأَلَةِ النُّذُورِ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ إلَّا لِأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَى الْقَوَاعِدِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْأَسْبَابَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَعِظَمُ الْمَصْلَحَةِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي عَادَةِ الشَّارِعِ وَإِنْ فُقِدَ هَاهُنَا مَعَ فَقْدِ الْمَصْلَحَةِ فِي سَبَبِهِ رَأْسًا إلَّا أَنَّهُ خَلَفَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ مَعْنًى عَظِيمٌ مُتَحَقِّقٌ بِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مَصْلَحَةَ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ فِيمَا وَعَدَ رَبَّهُ بِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ إذْ لَا مَصْلَحَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى قَالَ رُوَيْمٌ : لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا أَيْ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى تَكُونَ نِسْبَتُهُ فِي الْكَثْرَةِ نِسْبَةَ الدَّقِيقِ إلَى الْمِلْحِ فَإِنَّ كَثِيرَ الْأَدَبِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ كَانَ الْمُمْكِنُ فِي عِبَادَتِهِ تَعَالَى هُوَ الْأَدَبُ ( وَثَانِيهِمَا ) إنَّ صِدْقَ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءَ بِالِالْتِزَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْمُلُوكِ فَلِعَظَمِ الْمَعْنَى فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ صَحَّ جَعْلُهُمَا سَبَبَ الْوُجُوبِ بَدَلًا مِنْ الْمَصَالِحِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَعْرَ الْوُجُوبُ هَاهُنَا عَنْ مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُهُ فَكَانَ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْذُورَاتِ وَالشُّرُوطِ كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَدَارِكَهَا غَيْرُ مَدَارِك الْأَسْبَابِ وَالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مَصَالِحُ غَيْرِ مَصَالِحِ نَفْسِ الْأَفْعَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُتَنَاوَلَاتِ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَيَحْرُمُ أَوْ الْكَرَاهَةَ فَيُكْرَهُ فَالْأَوَّلُ كَالسُّمُومِ تَحْرُمُ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَالثَّانِي سِبَاعُ الطَّيْرِ أَوْ الضَّبُعِ مِنْ الْوَحْشِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقِسْمٌ يُبَاحُ لِصِفَتِهِ إمَّا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَالْبُرِّ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَإِمَّا لِعَدَمِ مَفْسَدَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْعَالَمِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ وَيُمْكِنُ تَنْظِيرُهُ بِأَكْلِ شَعْرَةٍ مِنْ قُطْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ وَإِذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إمَّا حَرَامٌ لِصِفَتِهِ أَوْ مُبَاحٌ لِصِفَتِهِ انْبَنَى عَلَى هَذَا قَاعِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ لِصِفَتِهِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَمَا يُبَاحُ لِصِفَتِهِ لَا يَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهِ ( فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) كَالْمَيْتَةِ حُرِّمَتْ لِصِفَتِهَا وَهِيَ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الِاضْطِرَارُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ حَرُمَ لِصِفَتِهِ وَهُوَ الْإِسْكَارِ فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْغُصَّةُ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) كَالْبُرِّ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ أُبِيحَتْ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا تَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ وَنَحْوُهَا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ ) وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ لِصِفَتِهِ كَالْمَيْتَةِ حَرُمَتْ لِصِفَتِهَا وَهِيَ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَالْخَمْرِ حَرُمَ لِصِفَتِهِ وَهُوَ الْإِسْكَارُ فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ كَالْإِضْرَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ إلَّا بِهَا وَكَالْغُصَّةِ الَّتِي لَا يُبَاحُ الْخَمْرُ إلَّا بِهَا ، وَمَا يُبَاحُ لِصِفَتِهِ كَالْبُرِّ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ أُبِيحَتْ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ الْمُبَاحَةِ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مُتَنَاوَلَاتِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَيَحْرُمُ كَالسَّمُومِ تَحْرُمُ لِعَظْمِ مَفْسَدَتِهَا وَالْكَرَاهَةَ فَيُكْرَهُ كَسِبَاعِ الطَّيْرِ أَوْ الضَّبُعِ مِنْ الْوَحْشِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقِسْمٌ يُبَاحُ لِصِفَتِهِ إمَّا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَالْبُرِّ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَإِمَّا لِعَدَمِ مَفْسَدَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْعَالَمِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ نَعَمْ يُمْكِنُ تَنْظِيرُهُ بِأَكْلِ شَعْرَةٍ مِنْ قُطْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرَ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ فَالْمَوْجُودَاتُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إمَّا حَرَامٌ لِصِفَتِهِ أَوْ مُبَاحٌ لِصِفَتِهِ وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَرْقِ انْبَنَتْ عَلَى هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ ) اعْلَمْ أَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا لِمَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ أَنَّ الْأَغْذِيَةَ تَنْقُلُ الْأَخْلَاقَ لِخُلُقِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَكَلَتْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ حَصَلَ عِنْدَهَا فَرْطُ الْإِيثَارِ بِأَقْوَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْإِبِلِ فَيَجُوعُ الْجَمْعُ مِنْ الْإِبِلِ الْأَيَّامَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهَا مَا تَأْكُلُهُ مُجْتَمِعَةً فَيَضَعُ كُلٌّ مِنْهَا فَمَهُ فَيَتَنَاوَلُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَبِّ وَلَا يَطْرُدُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ وَلَا تَزَالُ الْإِبِلُ تَأْكُلُ عَلَفَهَا كَذَلِكَ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَفْنَى جَمِيعُهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا بَلْ مُعْرِضَةً عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا أَكَلَهُ غَيْرُهَا مِمَّا يُجَاوِرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ تُقَاتِلُ عِنْدَ الِاغْتِذَاءِ عَلَى حَوْزِ الْغِذَاءِ وَتَمْنَعُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهَا أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالْأَغْنَامِ وَغَيْرِهَا فَانْتَقَلَ ذَلِكَ لِخُلُقِ الْأَعْرَابِ فَحَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيثَارِ لِلضَّيْفِ مَا لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُمْ الْحِقْدُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَمَلَ يَأْخُذُ ثَأْرَهُ مِمَّنْ آذَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ عَنْ خَاطِرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَرْبَعًا أَكَلَتْ أَرْبَعًا فَأَفَادَتْهَا أَرْبَعًا أَكَلَتْ الْعَرَبُ لُحُومَ الْإِبِلِ فَأَفَادَتْهَا الْحِقْدَ وَأَكَلَتْ السُّودَانُ الْقُرُودَ فَأَفَادَتْهَا الرَّقْصَ وَأَكَلَتْ الْفِرِنْجُ الْخَنَازِيرَ فَأَفَادَتْهَا عَدَمَ الْغَيْرَةِ وَأَكَلَتْ التُّرْكُ الْخَيْلَ فَأَفَادَتْهَا الْقَسَاوَةَ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذِهِ السِّبَاعُ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ تَأْكُلُ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ

بِهَلَاكِ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَلَا فَسَادِ أَبْنِيَتِهَا وَلَا مَا تَجِدُهُ مِنْ الْأَلَمِ فِي تَمْزِيقِ أَعْضَائِهَا وَتَثِبُ عَلَى ذَلِكَ وَثَوْبًا شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ لِفَرْطِ ظُلْمِهَا وَقِلَّةِ رَحْمَتِهَا وَذَلِكَ مُتَوَفِّرٌ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَأَيْنَ الْأَسَدُ مِنْ الْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَأَيْنَ النَّمِرُ وَالْفَهْدُ مِنْ الضَّبُعِ وَالنِّسْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِدَآتِ وَالْغِرْبَانِ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالظُّلْمُ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ حُرِّمَتْ لِئَلَّا يَتَنَاوَلَهَا بَنُو آدَمَ فَتَصِيرُ أَخْلَاقُهُمْ كَذَلِكَ وَلَمَّا قَصُرَتْ مَفْسَدَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ عَنْ ذَلِكَ فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ نَهَضَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ سُوءِ الْأَخْلَاقِ وَإِنْ قَلَّتْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ لِخِفَّةِ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفُقَهَاءَ جَزَمُوا جَمِيعًا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَتَرَدَّدُوا فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ وَسِرُّ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ فَرْطَ الظُّلْمِ وَقِلَّةَ الرَّحْمَةِ مُتَوَفِّرٌ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ إذْ هُوَ فِي الْأَسَدِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَفِي النَّمِرِ وَالْفَهْدِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الضَّبُعِ وَالنَّسْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِدَآتِ وَالْغِرْبَانِ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالظُّلْمُ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ بِحَيْثُ إنَّهَا تَثِبُ عَلَى الْحَيَوَانَاتِ وَثْبًا شَدِيدًا فَتَأْكُلُهَا وَتُهْلِكُهَا وَتُفْسِدُ أَبْنِيَتَهَا بِتَمْزِيقِ أَعْضَائِهَا وَلَا تَكْتَرِثُ بِهَلَاكِهَا وَلَا فَسَادِ أَبْنِيَتِهَا وَلَا مَا تَجِدُهُ مِنْ الْأَلَمِ فِي تَمْزِيقِ أَعْضَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ عَلَى الْحَاجَةِ بَلْ شَأْنُهَا ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتْهُ أَنَّ الْأَغْذِيَةَ تَنْقُلُ خُلُقَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ لِخُلُقِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَرْبَعًا أَكَلَتْ أَرْبَعًا فَأَفَادَتْهَا أَرْبَعًا أَكَلَتْ السُّودَانُ الْقُرُودَ فَأَفَادَتْهَا الرَّقْصَ وَأَكَلَتْ الْفِرِنْجُ الْخَنَازِيرَ فَأَفَادَتْهَا عَدَمَ الْغَيْرَةِ وَأَكَلَتْ التُّرْكُ الْخَيْلَ فَأَفَادَتْهَا الْقَسَاوَةَ وَأَكَلَتْ الْعَرَبُ لُحُومَ الْإِبِلِ فَأَفَادَتْهَا الْحِقْدَ أَيْ وَالْإِيثَارَ لِلضَّيْفِ مَا لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ إذْ كَمَا أَنَّ شَأْنَ الْجَمَلِ الْحِقْدُ بِحَيْثُ يَأْخُذُ ثَأْرَهُ مِمَّنْ آذَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَذَلِكَ شَأْنُ الْإِبِلِ الْإِيثَارُ بِأَقْوَاتِهَا بِحَيْثُ يَجُوعُ الْجَمْعُ مِنْهَا الْأَيَّامَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهَا مَا تَأْكُلُهُ مُجْتَمَعَةً فَيَضَعُ كُلٌّ مِنْهَا فَمَهُ فَيَتَنَاوَلُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ

مُدَافَعَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا بَلْ مُعْرِضَةً عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا أَكَلَهُ غَيْرُهَا مِمَّا يُجَاوِرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنَّهَا تُقَاتِلُ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَوْزِ الْغِذَاءِ وَتَمْنَعُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهَا أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالْأَغْنَامِ وَغَيْرِهَا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا لِمَفْسَدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْضِيحُ ذَلِكَ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ جَزَمَ الْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيمِ سِبَاعِ الْوَحْشِ لِئَلَّا يَتَنَاوَلَهَا بَنُو آدَمَ فَتَصِيرَ أَخْلَاقُهُمْ مِثْلَ أَخْلَاقِهِمْ فَتَعْظُمَ الْمَفْسَدَةُ وَلَمَّا قَصُرَتْ مَفْسَدَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ عَنْ ذَلِكَ تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيمِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ نَهَضَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ سُوءِ الْأَخْلَاقِ وَإِنْ قَلَّتْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ لِخِفَّةِ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَكَاةِ الْحَيَّاتِ وَقَاعِدَةِ ذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا جَازَ أَكْلُهَا لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَشَارَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ أَنَّهَا تُذَكَّى كَمَا يُذَكَّى الصَّيْدُ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ إنَّهَا لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْهَا إذَا جُرِحَتْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِ مُتَنَاوِلِهَا وَلَمْ يُطْلِقْ مَالِكٌ هَذَا الْإِطْلَاقَ بَلْ قَالَ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا وَلَمْ يَقُلْ إذَا ذُكِّيَتْ مِثْلَ الصَّيْدِ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَكَاةَ الْحَيَّاتِ لَا يَحْكُمُهَا إلَّا طَبِيبٌ مَاهِرٌ وَصِفَةُ ذَكَاتِهَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي التِّرْيَاقِ الْفَارُوقِ أَوْ لِمُدَاوَاةِ الْجُذَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْسَكَ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا غَيْظٌ فَيَدُورَ السُّمُّ فِي جَسَدِهَا فَإِذَا أُخِذَتْ .
كَذَلِكَ ثُنِّيَتْ عَلَى مِسْمَارٍ مَضْرُوبٍ فِي لَوْحٍ ثُمَّ تُضْرَبُ بِآلَةٍ حَادَّةٍ كَالْقُدُومِ الْحَادِّ مِثْلَ الْمُوسَى وَنَحْوِهَا مِنْ الْآلَاتِ الْحَادَّةِ الرَّزِينَةِ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ عَلَى تِلْكَ الْخَشَبَةِ وَيَقْصِدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ آخَرَ الرَّقَبَةِ مِنْ جِهَةِ رَقَبَتِهَا وَذَنَبِهَا فَإِنَّ بَيْنَ رَأْسِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ وَبَيْنَ ذَنَبِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ فَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الرَّقِيقَ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَيُوصَلُ الْمِقْدَارُ الْغَلِيظُ الَّذِي فِي وَسَطِهَا فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ وَيُحَازُ الرَّقِيقَانِ إلَى جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ وَيَقْطَعُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَجِيزَةٍ فَمَتَى بَقِيَتْ جِلْدَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُقْطَعْ مَعَ الْجُمْلَةِ قَتَلَتْ آكِلَهَا لِأَنَّ السُّمَّ حِينَئِذٍ يَجْرِي مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ فِي تِلْكَ

الْجِلْدَةِ الْيَسِيرَةِ إلَى بَقِيَّةِ جَسَدِهَا الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْغَلِيظُ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ لَهَا مِنْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمٍ الْحَدِيدِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَوْضِعُ ذَكَاتِهَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَكَاتِهَا وَذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَهَذَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ صِفَةِ الذَّكَاةِ وَفِيهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ فِيهَا لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ سُمِّهَا وَلَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهَا دَمٌ عِنْدَ ذَكَاتِهَا أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ السَّلَامَةُ مِنْ سُمِّ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا وَلِذَلِكَ تُذَكَّى مِنْ وَسَطِهَا وَشُرِعَتْ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لِاسْتِخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَجْسَادِهَا بِأَسْهَلَ الطُّرُقِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّا لَوْ وَسَّطْنَا الْحَيَوَانَ أَوْ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ لَكِنَّ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى الْحَيَوَانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا يَخْرُجُ فَاخْتَارَ الشَّرْعُ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ لِتَخْرُجَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَخْلَاطُ كُلُّهَا مِنْ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُهَا خَفِيفٌ عَلَى الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّوَسُّطِ لَوْ ضَرَبَ الْعُنُقَ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ يُوجِبُ قَطْعَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ مَجْرَاهُ فَيَخْتَنِقُ الْحَيَوَانُ فَيُسْرِعُ إلَيْهِ الْمَوْتُ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ قَاعِدَةَ تَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ تَعَيَّنَ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ الذَّكَاةِ فَمَنْ لَاحَظَ عَدَمَ الْفَضَلَاتِ فِي الْجَرَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ الذَّكَاةُ فِيهَا وَجَعَلَ اسْتِخْرَاجَ الْفَضَلَاتِ أَصْلًا وَإِرَاحَةَ الْحَيَوَانِ تَبَعًا وَأَجَازَ مَيْتَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ } وَمَنْ لَاحَظَ سُرْعَةَ زَهُوقِ الرُّوحِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا فِي

نَفْسِهِ لَمْ يُجِزْهَا إلَّا بِذَكَاةٍ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ لَاحَظَ قَاعِدَةً أُخْرَى وَهُوَ إلْحَاقُ النَّادِرِ بِالْغَالِبِ فِي الشَّرِيعَةِ أَسْقَطَ ذَكَاةَ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ وَالتُّرْسِ وَغَيْرِهِمَا نَظَرًا لِغَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ لَاحَظَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى وَجَعَلَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَمْ يُسْقِطْ الذَّكَاةَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَهَذِهِ مَيْتَةٌ أَوْ يُلَاحِظُ قَاعِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبِهِ دُونَ عُمُومِهِ فَيَخْتَصُّ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي وَرَدَتْ الْآيَةُ فِيهَا وَهِيَ الْمَيْتَةُ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَرِيِّ وَيَقُولُونَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهَ فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ وَالْأَسْرَارُ هِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ وَلَمْ يَبْقَى مِنْهَا إلَّا ذَكَاةُ الْجَنِينِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تَجْرِ فِيهِ حَيَاةٌ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ ذَكَاةٌ لَا مِنْ قِبَلِهِ وَلَا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَلَا يُؤْكَلُ وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَمَالُ الْخَلْقِ وَنَبَاتُ الشَّعْرِ فَإِنْ ذُكِّيَتْ الْأُمُّ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْفَوْرِ كَرِهَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَوَقَعَ فِي الْجَلَّابِ تَحْرِيمُهُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ صَارِخًا انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ .
وَإِنْ لَمْ تُذَكَّ الْأُمُّ وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَيًّا حَيَاةً لَا يَعِيشُ مَعَهَا عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ وَإِنْ ذُكِّيَتْ الْأُمُّ فَخَرَجَ مَيِّتًا فَذَكَاتُهَا ذَكَاتُهُ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَكَاةٍ تَخُصُّهُ وَلَا يَكْفِي فِيهِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُسَرِّعُ زَهُوقَ نَفْسِهِ بِسُهُولَةٍ فَإِنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى

ذَكَاةٍ أَوْ يُلَاحَظُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُسْتَقِلُّ الْأَعْضَاءِ وَالْفَضَلَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ تَخُصُّهُ وَمَوْتُهُ بِمَوْتِ أُمِّهِ مَوْتٌ لَهُ بِالْغَمِّ وَالْآفَاتِ الْحَاصِلَةِ لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَالْمَوْتُ بِذَلِكَ لَا يُبِيحُ فِي غَيْرِ صُورَةِ النِّزَاعِ فَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ مِنْ حَيْثُ الْقَوَاعِدُ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد يُرْوَى بِرَفْعِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَنَصْبِهَا فَنَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ نَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ وَوَجْهُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي الْخَبَرِ وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ فَتَنْحَصِرُ فِي زَكَاةِ أُمِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَمَّا انْحَصَرَتْ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ وَالتَّقْدِيرُ لِوَجْهِ الْحُجَّةِ مِنْهَا أَنَّ هَذَا النَّصْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَامِلٍ يَقْتَضِي النَّصْبَ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ مِثْلُ الَّذِي هُوَ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ مُضَافٌ لِذَكَاةِ أُمِّهِ فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ كَإِعْرَابِهِ بِالنَّصْبِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضَافِ أُعْرِبَ كَإِعْرَابِهِ وَحُذِفَ النَّاصِبُ لِهَذَا الْمَصْدَرِ مَعَ الْمَصْدَرِ وَنَعْتِهِ وَبَقِيَ الْكَلَامُ كَمَا تَرَى فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِهِمْ .
وَوَجْهُ الْحُجَّةِ لَهُمْ مِنْ الْحَدِيثِ وَلَنَا عَنْهُ جَوَابٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ مَا يَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ يَصِحُّ النَّصْبُ بِتَقْدِيرٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُنَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ دَاخِلَةٌ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَيَكُونُ ذَكَاةُ أُمِّهِ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى السِّعَةِ أَوْ عَلَى الظَّرْفِ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ وَكَانَ الْأَصْلُ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَانْتَصَبَ الْمَجْرُورُ وَهَذَا التَّقْدِيرُ

أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَحْذُوفَ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَهِيَ قَوْلُنَا دَاخِلَةٌ وَحَرْفُ الْجَرِّ إنْ قُلْنَا بِهِ وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِكُمْ فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ قِلَّةَ الْحَذْفَ أَوْلَى فَيَكُونُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى وَثَانِيهِمَا أَنَّ تَقْدِيرَنَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَعَدَمِ التَّعَارُضِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يُفْضِي إلَى التَّعَارُضِ وَمَا أَفْضَى إلَى عَدَمِ التَّعَارُضِ كَانَ أَوْلَى فَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الدَّابَّةُ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إذَا طَالَ مَرَضُهَا أَوْ تَعِبَتْ مِنْ السَّيْرِ فِي أَرْضٍ لَا عَلَفَ فِيهَا ذَبْحُهَا أَوْلَى مِنْ بَقَائِهَا لِتَحْصُلَ رَاحَتُهَا مِنْ الْعَذَابِ وَقِيلَ تُعْقَرُ لِئَلَّا يُغْرِيَ النَّاسَ ذَبْحُهَا عَلَى أَكْلِهَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ لَا تُذْبَحُ وَلَا تُعْقَرُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةِ ( فَرْعٌ ) مُرَتَّبٌ إذَا تَرَكَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَفَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدَهَا قَالَ مَالِكٌ هُوَ أَحَقُّ بِهَا لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى تَرْكِهَا بِالِاضْطِرَارِ لِذَلِكَ وَيَدْفَعُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَقِيلَ هِيَ لِعَالِفِهَا لِإِعْرَاضِ الْمَالِكِ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ اسْتِيعَابُ هَذَا الْبَابِ بِعِلَلِهِ وَمَقَاصِدِهِ إذَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ أَمَّا غَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّيْدُ فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الْقَصْدَ إلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الْحَرَامِ الْمُسْتَخْبَثِ مِنْ اللَّحْمِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ بِأَسْهَلِ الطُّرُقِ عَلَى تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ فِيهَا مُمْكِنٌ بِآلَةٍ تَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَيَسِّرٌ فِي الْإِنْسِيِّ .
وَقَدْ تَعَذَّرَ فِي الْوَحْشِيِّ اسْتِخْرَاجُ الدَّمِ وَسُهُولَةُ الطَّرِيقِ وَبَقِيَ الْقَصْدُ وَالْآلَةُ وَنَزَلَ السَّهْمُ مَنْزِلَةَ الْمُدْيَةِ لِضَرُورَةِ الْفِرَارِ وَالتَّوَحُّشُ فَهُوَ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيَلِيهِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ

الْجَارِحُ لِأَنَّهُ لَهُ اخْتِيَارٌ يَبْعُدُ بِسَبَبِهِ عَنْ كَوْنِهِ آلَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ عَارَضَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا عَدَمَ الْعَقْلِ فِيهِ فَعَدَمُ عَقْلِهِ مُخِلٌّ بِاخْتِيَارِهِ مُضَافًا إلَى التَّعْلِيمِ الْحَاصِلِ فِيهِ وَالْأَوْهَامُ الَّتِي حَصَّلَهَا فِيهِ الْآدَمِيُّ بِسَبَبِ التَّعْلِيمِ وَالسِّيَاسَةِ الْخَاصَّةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُقَرَّبًا لِكَوْنِهِ آلَةً لَهُ وَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجُوسِيُّ آلَةً لِعَقْلِهِ وَكَمَالِ اخْتِيَارِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَبِيحَتَهُ مَيْتَةً كَافْتِرَاسِ الْوُحُوشِ كَمَا جَعَلَ نِسَائَهُمْ كَالْبَهَائِمِ يَحْرُمُ وَطْؤُهُنَّ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعْظِيمِهِمْ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ وَالرُّسُلَ الرَّبَّانِيَّةَ فَاهْتُضِمُوا إلَى حَيْثُ جُعِلُوا كَالْبَهَائِمِ وَمَيَّزَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ لِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ
وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُمَا وَهُوَ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ مَا عَدَا قَوْلَهُ فِي انْحِصَارِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ وَمَا عَدَا قَوْلَهُ أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ التَّعَارُضُ دُونَ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَكَاةِ الْحَيَّاتِ وَقَاعِدَةِ ذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ) قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ الْحَيَوَانُ فِي اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِي أَكْلِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) حَيَوَانٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةٍ ( وَالْقِسْمُ الثَّانِي ) حَيَوَانٌ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ ذُو الدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلَا مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ وَلَا مَيْئُوسٍ مِنْهُ بِوَقْذٍ أَوْ نَطْحٍ أَوْ تَرَدٍّ أَوْ افْتِرَاسِ سَبْعٍ أَوْ مَرَضٍ وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ ( النَّوْعُ الْأَوَّلُ ) الْحَيَوَانُ الَّذِي لَيْسَ بِذِي دَمٍ مِمَّا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِثْلُ الْجَرَادِ وَغَيْرِهِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ ذَكَاةٌ أَمْ لَا ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) الْحَيَوَانُ ذُو الدَّمِ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً فِي الْبَحْرِ وَتَارَةً فِي الْبِرِّ مِثْلُ السُّلَحْفَاةِ وَغَيْرِهِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ ذَكَاةٌ أَمْ لَا ( وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ ) أَصْنَافُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِيهَا ( وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ ) مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِيهَا أَعْنِي فِي تَحْلِيلِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا وَسَلْبِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا ا هـ بِتَصَرُّفٍ وَقَاعِدَةُ تَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ ذِي الدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ إلَخْ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِقَصْدِ اسْتِخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَجْسَادِهَا الْمُحَلَّلَةِ الْأَكْلِ وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَخْلَاطُ كُلُّهَا بِأَسْهَلِ الطُّرُقِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ فَإِنَّ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ خَفِيفٌ عَلَى الْحَيَوَانِ فِي إخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّوَسُّطِ

أَوْ ضَرْبِ الْعُنُقِ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ يُوجِبُ قَطْعَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ مَجْرَاهُ فَيَخْتَنِقُ الْحَيَوَانُ فَيُسْرِعُ إلَيْهِ الْمَوْتُ وَأَمَّا قَاعِدَةُ تَذْكِيَةِ الْحَيَّاتِ الَّتِي فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ إذَا ذُكِيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا جَازَ أَكْلُهَا لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ ا هـ فَتُفَارِقُ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) فِي صِفَةِ الذَّكَاةِ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا أَنَّ صِفَةَ ذَكَاةِ الْحَيَّاتِ هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي التِّرْيَاقِ الْفَارُوقِ أَوْ لِمُدَاوَاةِ الْجُذَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ تُمْسَكُ الْحَيَّةُ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا غَيْظٌ فَيَدُورَ السُّمُّ فِي جَسَدِهَا فَإِذَا أُخِذَتْ كَذَلِكَ ثُنِّيَتْ عَلَى مِسْمَارٍ مَضْرُوبٍ فِي لَوْحٍ ثُمَّ تُضْرَبُ بِآلَةٍ وَزَبْنَةٍ حَادَّةٍ كَالْقُدُومِ الَّذِي مِثْلُ الْمُوسَى فِي الْحِدَآتِ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ عَلَى تِلْكَ الْخَشَبَةِ وَيَقْصِدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ آخِرَ الرَّقَبَةِ وَالذَّنَبِ مِنْ جِهَةِ رَقَبَتِهَا فَإِنَّ بَيْنَ رَأْسِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارًا رَقِيقًا وَبَيْنَ ذَنَبِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارًا رَقِيقًا فَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الرَّقِيقَ مِنْ الْجِهَتَيْنِ حَتَّى يَصِلَ الْمِقْدَارُ الْغَلِيظُ الَّذِي فِي وَسَطِهَا فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ بَلْ يُحَازَ الرَّقِيقَانِ إلَى جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ وَيَقْطَعُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَجِيزَةٍ لِأَنَّهُ مَتَى بَقِيَتْ جِلْدَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُقْطَعْ مَعَ الْجُمْلَةِ قَتَلَتْ آكِلَهَا لِأَنَّ السُّمَّ حِينَئِذٍ يَجْرِي مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ فِي تِلْكَ الْجِلْدَةِ الْيَسِيرَةِ إلَى بَقِيَّةِ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْغَلِيظُ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ لَهَا مِنْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْحَدِيدِ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) فِي مَعْنَى الذَّكَاةِ فَإِنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْحَيَّاتِ

لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ سُمِّ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا لَا لِإِخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ الْحَيَّاتِ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهَا دَمٌ عِنْدَ ذَكَاتِهَا أَلْبَتَّةَ وَلِذَلِكَ تُذَكَّى مِنْ وَسَطِهَا لَا بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ ( وَصْلٌ ) يَتَعَلَّقُ بِبَابِ الذَّكَاةِ سِتُّ مَسَائِلَ أُصُولٍ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْلِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي الْمَرِيضَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي بَيَانِ هَلْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَمْ لَا الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي بَيَانِ هَلْ لِلْجَرَادِ ذَكَاةٌ أَمْ لَا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي بَيَانِ هَلْ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْوِي فِي الْبَرِّ تَارَةً وَفِي الْبَحْرِ تَارَةً ذَكَاةٌ أَمْ لَا ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ أَمَّا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبْعَ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ عَامِلَةٌ فِيهَا إذَا لَمْ يُصَبْ لَهَا مَقْتَلٌ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا تَعِيشُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أُصِيبَ لَهَا مَقْتَلٌ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ فَقَالَ قَوْمٌ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ قَوْمٌ لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِي الْمَيْئُوسِ مِنْهَا وَبَعْضُهُمْ أَوَّلَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَيْئُوسَ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ مَيْئُوسَةٌ مَشْكُوكٌ فِيهَا وَمَيْئُوسَةٌ مَقْطُوعٌ بِمَوْتِهَا وَهِيَ الْمَنْفُوذَةُ الْمَقَاتِلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي الْمَقَاتِلِ قَالَ فَأَمَّا الْمَيْئُوسَةُ الْمَشْكُوك فِيهَا فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَأَمَّا

الْمَنْفُوذَةُ الْمَقَاتِلِ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَنْقُولِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ يَتَخَرَّجُ فِيهَا الْجَوَازُ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فَيَخْرُجُ مِنْ الْجِنْسِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلهُ اللَّفْظُ وَهُوَ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ لَا تَأْثِيرَ فِي الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُتَّصِلٌ قَالَ الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ مُحْتَجًّا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِي الْمَرْجُوِّ مِنْهَا فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا فَهُوَ مُتَّصِلٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُنْفَصِلٌ .
قَالَ الذَّكَاةُ لَا تَعْمَلُ فِيهَا مُحْتَجًّا بِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ لِأَنَّ لَحْمَ الْحَيَوَانِ مُحَرَّمٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِيهَا وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ } وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَمَعْنَى الْآيَةِ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُ الْمَيْتَةِ الَّتِي تَمُوتُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا فَتُسَمَّى مَيْتَةً فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ بِالْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْمَيْتَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ قَالُوا فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْلِيقُ التَّحْرِيمِ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } اسْتِثْنَاءً مُنْفَصِلًا لَكِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ كَيْفَ مَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ عَلَّقْنَا

التَّحْرِيمَ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ فِي الْآيَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَبَ أَنْ تَدْخُلَ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ فِي التَّذْكِيَةِ حَالَ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً مُسَاوِيَةٌ لِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ دُخُولِهَا حِينَئِذٍ بَيْنَ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا أَوْ مُتَّصِلًا إذْ لَا خَفَاءَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ عُمُومَ التَّحْرِيمِ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ تَنَاوُلُ أَعْيَانِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ كَالْحَالِ فِي الْخِنْزِيرِ الَّذِي لَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا رَفْعًا لِتَحْرِيمِ أَعْيَانِهَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى عَمَلِ الذَّكَاةِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَا اعْتَرَضَ بِهِ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا .
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَنْفُوذَةِ الْمَقَاتِلِ وَالْمَشْكُوكِ فِيهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْفَصِلٌ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَأْثِيرُ الذَّكَاةِ فِي الْمَرْجُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَاسَ الْمَشْكُوكَةَ عَلَى الْمَرْجُوَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَلَكِنَّ اسْتِثْنَاءَ هَذَا الصِّنْفِ أَعْنِي الْمَنْفُوذَةَ الْمَقَاتِلِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَاةَ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ تَعْمَلَ فِي حِينَ يَقْطَعُ أَنَّهَا سَبَبُ الْمَوْتِ فَأَمَّا إذَا شَكَّ هَلْ كَانَ مُوجِبُ الْمَوْتِ الزَّكَاةَ أَوْ الْوَقْذَ أَوْ النَّطْحَ أَوْ سَائِرَهَا فَلَا يَجِبُ أَنْ تَعْمَلَ فِي ذَلِكَ وَهَذِهِ هِيَ حَالَةِ الْمَنْفُوذَةِ الْمَقَاتِلِ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمَنْفُوذَةَ الْمَقَاتِلِ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ وَالذَّكَاةُ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَرْفَعَ الْحَيَاةَ الثَّابِتَةَ لَا الْحَيَاةَ الذَّاهِبَةَ ا هـ بِتَلْخِيصٍ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا وَأَمَّا هَلْ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ حَتَّى تَطْهُرَ بِالذَّكَاةِ جُلُودُهَا فَإِنَّهُمْ

اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا مَا عَدَا الْخِنْزِيرَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي كَوْنِ السِّبَاعِ فِيهِ مُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ فَيَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا مَا عَدَا اللَّحْمَ وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ تَابِعَةٌ لِلَّحْمِ فِي الْحِلِّيَّةَ وَالْحُرْمَةِ أَمْ لَيْسَتْ تَابِعَةً لِلَّحْمِ فَمَنْ قَالَ إنَّهَا تَابِعَةٌ لِلَّحْمِ قَالَ إذَا لَمْ تَعْمَلْ الذَّكَاةُ فِي اللَّحْمِ لَمْ تَعْمَلْ فِيمَا سِوَاهُ وَمَنْ قَالَ إنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ .
قَالَ إنَّهَا تَعْمَلُ فِي سَائِرِ أَجْزَائِهِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي لَحْمِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا تَعْمَلُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالدَّلِيلِ الْمُحَرَّمِ لِلَّحْمِ عَمَلُهَا فِي اللَّحْمِ بَقِيَ عَمَلُهَا فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ فِيهَا أَيْضًا ا هـ ( فَرْعٌ ) قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الدَّابَّةُ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إذَا طَالَ مَرَضُهَا أَوْ تَعِبَتْ مِنْ السَّيْرِ فِي أَرْضٍ لَا عَلَفَ فِيهَا ذَبْحُهَا أَوْلَى مِنْ بَقَائِهَا لِتَحْصُلَ رَاحَتُهَا مِنْ الْعَذَابِ وَقِيلَ تُعْقَرُ لِئَلَّا يُغْرِيَ النَّاسَ ذَبْحُهَا عَلَى أَكْلِهَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ لَا تُذْبَحُ وَلَا تُعْقَرُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ فَإِذَا تَرَكَهَا صَاحِبُهَا لِذَلِكَ فَعَلَفَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدَهَا قَالَ مَالِكٌ هُوَ أَحَقُّ بِهَا لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى تَرْكِهَا بِالِاضْطِرَارِ لِذَلِكَ وَيَدْفَعُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَقِيلَ هِيَ لِعَالِفِهَا لِإِعْرَاضِ الْمَالِكِ عَنْهَا أَفَادَهُ الْأَصْلُ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ وَأَمَّا تَأْثِيرُ الذَّكَاةِ فِي الْبَهِيمَةِ الَّتِي أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى

عَمَلِ الذَّكَاةِ فِي الَّتِي لَمْ تُشْرِفْ عَلَى الْمَوْتِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِيهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ فَأَمَّا الْأَثَرُ فَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ { أَمَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوهَا } وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ الذَّكَاةِ أَنَّهَا إنَّمَا تُفْعَلُ فِي الْحَيِّ وَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَاتَّفَقَ كُلُّ مَنْ أَجَازَ ذَبْحَهَا عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْحَيَاةِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الدَّلِيلُ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ اعْتَبَرَ الْحَرَكَةَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْهَا وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالثَّانِي مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبَعْضُهُمْ اعْتَبَرَ فِيهَا ثَلَاثَ حَرَكَاتٍ : طَرَفُ الْعَيْنِ وَتَحْرِيكُ الذَّنَبِ وَالرَّكْضُ بِالرِّجْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَبَعْضُهُمْ شَرَطَ مَعَ هَذِهِ التَّنَفُّسَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَبِيبٍ ا هـ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ أَيْضًا وَأَمَّا هَلْ تَعْمَلُ ذَكَاةُ الْأُمِّ فِي جَنِينِهَا أَمْ لَا تَعْمَلُ فِيهِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ خَرَجَ حَيًّا ذُبِحَ وَأُكِلَ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَهُوَ مَيْتَةٌ وَبَعْضُ مَنْ قَالَ إنَّ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ تَمَامَ خِلْقَتِهِ وَنَبَاتَ شَعْرِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِحَّةِ الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ

فَقَالَ { سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَقَرَةِ أَوْ النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ يَنْحَرُهَا أَحَدُنَا فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا أَنَأْكُلُهُ أَمْ نُلْقِيهِ فَقَالَ كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ } وَخَرَّجَ مِثْلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأُصُولِ فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّتِهِ فَبَعْضِهِمْ لَمْ يُصَحِّحُهُ وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَهُ وَمِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْأَثَرِ فَهُوَ أَنَّ الْجَنِينَ إذَا كَانَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ بِمَوْتِ أُمِّهِ فَإِنَّمَا يَمُوتُ خَنْقًا فَهُوَ مِنْ الْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهَا وَإِلَى تَحْرِيمِهِ ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَلَمْ يَرْضَ سَنَدَ الْحَدِيثَ وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ نَبَاتِ الشَّعْرِ فِي حَيَّتِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ .
وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ هُنَالِكَ تَفْصِيلٌ وَكَوْنُهُ مَحَلًّا لِلذَّكَاةِ يَقْتَضِي أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ الْحَيَاةَ قِيَاسًا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا التَّذْكِيَةُ وَالْحَيَاةُ لَا تُوجَدُ فِيهِ إلَّا إذَا نَبَتَ شَعْرُهُ وَتَمَّ حَلْقُهُ وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقِيَاسَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ إذَا شَعَرَ الْجَنِينُ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ } إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ عِنْدَهُمْ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ

فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَضْعُفُ أَنْ يُخَصَّصَ الْعُمُومُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تَجْرِ فِي الْجِنْسَيْنِ حَيَاةٌ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ ذَكَاةٌ لَا مِنْ قِبَلِهِ وَلَا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَلَا يُؤْكَلُ وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَمَالُ الْخَلْقِ وَنَبَاتُ الشَّعَرِ فَإِنْ ذُكِّيَتْ الْأُمُّ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْفَوْرِ كَرِهَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَوَقَعَ فِي الْجَلَّابِ تَحْرِيمُهُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ صَارِخًا انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ تُذَكَّ الْأُمُّ وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا حَيَاةً لَا يَعِيشُ مَعَهَا عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُؤْكَلْ .
وَإِنْ ذُكِيَتْ الْأُمُّ فَخَرَجَ مَيِّتًا فَذَكَاتُهَا ذَكَاتُهُ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَكَاةٍ تَخُصُّهُ وَلَا يَكْفِي فِيهِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْقَوَاعِدُ فَلِأَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُسْرِعُ زَهُوقَ نَفْسِهِ بِسُهُولَةٍ فَإِنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ أَوْ يُلَاحَظُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُسْتَقِلُّ الْأَعْضَاءِ وَالْفَضَلَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةِ تَخُصُّهُ وَمَوْتُهُ بِمَوْتِ أُمِّهِ مَوْتٌ لَهُ بِالْغَمِّ وَالْآفَاتِ الْحَاصِلَةِ لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَالْمَوْتُ بِذَلِكَ لَا يُبِيحُ فِي غَيْرِ صُورَةِ النِّزَاعِ فَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَدْ مَرَّ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ أَنَّهُ رُوِيَ بِرَفْعِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِهَا تَمَسَّكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ بِاسْتِغْنَاءِ الْجَنِينِ عَنْ الذَّكَاةِ وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَقْتَضِي حَصْرَ ذَكَاتِهِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُبِيحُهُ فَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الذَّكَاةِ الَّتِي هِيَ فِي

الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّبْحِ الْخَاصِّ فِي حَلْقِهِ فَبَيْنُهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ مُلَابَسَةٌ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ أُمِّهِ هِيَ عَيْنُ ذَكَاتِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ إضَافَةَ الْمَصَادِرِ مُخَالِفَةٌ لِإِسْنَادِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّهُ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَقَوْلِنَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ بِخِلَافِ إسْنَادِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً مُرَاعَاةُ الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ لَا مُطْلَقُ مُلَابِسٍ وَرُوِيَ بِنَصْبِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ بِاحْتِيَاجِ الْجَنِينِ لِلذَّكَاةِ .
وَأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ كَإِعْرَابِهِ عَلَى قَاعِدَةِ حَذْفِ الْمُضَافِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ ذَكَاةُ الْجَنِينِ دَاخِلَةٌ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَخُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَانْتَصَبَ الذَّكَاةُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى حَدِّ دَخَلْت الدَّارَ بَلْ هَذَا التَّقْدِيرُ أَرْجَحُ مِمَّا قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قِلَّةُ الْحَذْفِ وَثَانِيهِمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَدَفْعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَإِصْلَاحٍ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَاسْتِغْنَاءِ الْجَنِينِ عَنْ الذَّكَاةِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ تَرْجِيحِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِقِلَّةِ الْحَذْفِ وَإِنْ سُلِّمَ إلَّا أَنَّهُ يَضْعُفُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَسَاقِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ كَمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ ضَعُفَ بِكَثْرَةِ الْحَذْفِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى مَسَاقِ الْكَلَامِ وَمَا قَالَهُ مِنْ تَرْجِيحِ

التَّقْدِيرِ عَلَى مَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالْجَمْعِ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ عَلَى مَا لِلْحَنَفِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَّجَهٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا وَالشَّأْنُ إنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَبَسْطُهُ يَطُولُ فَتَأَمَّلْ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ أَيْضًا وَأَمَّا هَلْ لِلْجَرَادِ ذَكَاةٌ أَمْ لَا فَقَالَ مَالِكٌ لَا يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَذَكَاتُهُ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ إمَّا بِقَطْعِ رَأْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يَجُوزُ أَكْلُ مَيْتَتِهِ وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَذَكَاةُ مَا لَيْسَ بِذِي دَمٍ عِنْدَ مَالِكٍ كَذَكَاةِ الْجَرَادِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَيْتَةِ الْجَرَادِ هُوَ هَلْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَلِلْخِلَافِ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ هَلْ نَثْرَةُ حُوتٍ أَوْ حَيَوَانٍ بَرِّيٍّ ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ لَمْ يُشْتَرَطْ الذَّكَاةُ فِي الْجَرَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مَنْ لَاحَظَ عَدَمَ الْفَضَلَاتِ فِيهَا بَلْ جَعَلَ اسْتِخْرَاجَ الْفَضَلَاتِ أَصْلًا وَإِرَاحَةَ الْحَيَوَانِ تَبَعًا وَأَجَازَ مَيْتَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ } وَأَمَّا مَنْ لَاحَظَ سُرْعَةَ زَهُوقِ الرُّوحِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْزِهَا إلَّا بِذَكَاةٍ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
ا هـ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ أَيْضًا وَأَمَّا هَلْ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْوِي فِي الْبَرِّ تَارَةً وَفِي الْبَحْرِ تَارَةً ذَكَاةٌ أَمْ لَا فَقَدْ غَلَّبَ قَوْمٌ فِيهِ حُكْمَ الْبَرِّ وَآخَرُونَ حُكْمَ الْبَحْرِ وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ حَيْثُ يَكُونُ عَيْشُهُ وَمُتَصَرِّفُهُ مِنْهُمَا غَالِبًا ا هـ .
وَقَالَ الْأَصْلُ مَنْ لَاحَظَ قَاعِدَةَ إلْحَاقِ النَّادِرِ بِالْغَالِبِ فِي

الشَّرِيعَةِ أَسْقَطَ ذَكَاةَ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ وَالتُّرْسِ وَغَيْرِهِمَا نَظَرًا لِغَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ لَاحَظَ قَاعِدَةَ تَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ وَجَعَلَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَمْ يُسْقِطْ الذَّكَاةَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَهَذِهِ مَيْتَةٌ إلَّا أَنْ يُلَاحِظَ قَاعِدَةَ حَمْلِ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبِهِ دُونَ عُمُومِهِ فَيَخْتَصُّ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي وَرَدَتْ الْآيَةُ فِيهَا وَهِيَ الْمَيْتَةُ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ وَيَقُولُونَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ا هـ ( تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ) مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الذَّكَاةِ الْقَصْدُ إلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الْحَرَامِ الْمُسْتَخْبَثِ مِنْ اللَّحْمِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ بِأَسْهَلِ الطُّرُقِ عَلَى الْحَيَوَانِ إنَّمَا يَتَيَسَّرُ فِي الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ أَمَّا الْوَحْشِيُّ فَقَدْ تَعَذَّرَ فِيهِ اسْتِخْرَاجُ الدَّمِ وَسُهُولَةُ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ وَالْآلَةُ وَنُزِّلَ السَّهْمُ مَنْزِلَةَ الْمُدْيَةِ لِضَرُورَةِ الْفِرَارِ وَالتَّوَحُّشِ فَهُوَ أَيْ السَّهْمُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيَلِيهِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ الْجَارِحُ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا يَبْعُدُ بِسَبَبِهِ عَنْ كَوْنِهِ آلَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ عَارَضَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا عَدَمَ الْعَقْلِ فِيهِ فَعَدَمُ عَقْلِهِ مُخِلٌّ بِاخْتِيَارِهِ مُضَافًا إلَى التَّعْلِيمِ الْحَاصِلِ فِيهِ وَالْأَوْهَامُ الَّتِي حَصَّلَهَا فِيهِ الْآدَمِيُّ بِسَبَبِ التَّعْلِيمِ وَالسِّيَاسَةِ الْخَاصَّةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُقَرَّبًا لِكَوْنِهِ آلَةً لَهُ وَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجُوسِيُّ آلَةً لِعَقْلِهِ وَكَمَالِ اخْتِيَارِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَبِيحَتَهُ مَيْتَةً كَافْتِرَاسِ الْوُحُوشِ كَمَا جَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَالْبَهَائِمِ يَحْرُمُ وَطْؤُهُنَّ بِسَبَبِ

عَدَمِ تَعْظِيمِهِمْ الْكُتُبَ الْآلِهِيَّةَ وَالرُّسُلَ الرَّبَّانِيَّةَ فَاهْتُضِمُوا إلَى حَيْثُ جُعِلُوا كَالْبَهَائِمِ وَمَيَّزَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ لِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ نَحْرٌ وَذَبْحٌ وَأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْغَنَمِ وَالطَّيْرِ الذَّبْحُ وَأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْإِبِلِ النَّحْرُ وَأَنَّ الْبَقَرَ يَجُوزُ فِيهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ النَّحْرُ فِي الْغَنَمِ وَالطَّيْرِ وَالذَّبْحُ فِي الْإِبِلِ فَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّحْرُ فِي الْغَنَمِ وَالطَّيْرِ وَلَا الذَّبْحُ فِي الْإِبِلِ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَقَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ أُكِلَ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَفَرَّقَ ابْنُ بِكِيرٍ بَيْنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَقَالَ يُؤْكَلُ الْبَعِيرُ بِالذَّبْحِ وَلَا تُؤْكَلُ الشَّاةُ بِالنَّحْرِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْفِعْلِ لِلْعُمُومِ فَأَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا } وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَذَبَحَ الْغَنَمَ } وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَبْحِ الْبَقَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } وَعَلَى ذَبْحِ الْغَنَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكَبْشِ { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ا هـ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنْكِحَةِ الصِّبْيَانِ تَنْعَقِدُ إذَا كَانُوا مُطِيقِينَ لِلْوَطْءِ وَلِلْوَلِيِّ الْإِجَازَةُ وَالْفَسْخُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ طَلَاقِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ ) وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِمَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْخِطَابُ بِالْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا وَإِنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْلِيفُ وَلَا الْعِلْمُ وَلِذَلِكَ نُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنُطَلِّقُ بِالْإِعْسَارِ وَإِنْ كَانَ مَعْجُوزًا عَنْهُ وَغَيْرَ مَشْعُورٍ بِهِ وَكَذَلِكَ بِالْإِضْرَارِ وَنُوَرِّثُ بِالْأَنْسَابِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْوَارِثُ وَلَا هُوَ مِنْ مَقْدُورِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَالَ إذَا وَقَعَ هَذَا فِي الْوُجُودِ فَاعْلَمُوا أَنِّي قَدْ حَكَمْت بِهَذَا بِخِلَافِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ وَالْعِلْمُ بِهِ وَالطَّلَاقُ سَبَبٌ لِلْبَيْنُونَةِ وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ الْجَمِيعُ فِي حَقِّهِ كَمَا انْعَقَدَ الْإِتْلَافُ سَبَبَ الضَّمَانِ وَالْبَيْعُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فِي أَنَّ الصِّبْيَانَ تَنْعَقِدُ أَنْكِحَتُهُمْ دُونَ طَلَاقِهِمْ أَنَّ عَقْدَ الْأَنْكِحَةِ سَبَبُ إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْخِطَابِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُمَا تَكْلِيفٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ جِهَةِ لُزُومِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ الْمَحْمُولِ عَنْ الصِّبْيَانِ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَالطَّلَاقُ سَبَبُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بِإِسْقَاطِ الْعِصْمَةِ فِي الزَّوْجَةِ وَهُوَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحْرِيمِ فَلَمْ يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ مَعَ اشْتِرَاكِ السَّبَبَيْنِ فِي أَنَّهُمَا خِطَابُ وَضْعٍ وَانْضَافَ إلَى أَحَدِهِمَا تَكْلِيفٌ فَلَا جَرَمَ

انْتَفَى انْعِقَادُهُ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ قُلْت الْإِتْلَافُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَالْوُجُوبُ تَكْلِيفٌ .
وَقَدْ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِ فَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ الْإِخْرَاجُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْمُتْلِفِ فَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ لِلْبُلُوغِ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ وَخُوطِبَ حِينَئِذٍ فَقَدْ تَأَخَّرَ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْإِتْلَافِ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ فَلِمَ لَا يَنْعَقِدُ الطَّلَاقُ فِي حَقِّهِ وَيَتَأَخَّرُ التَّحْرِيمُ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ عِنْدَ حُصُولِ أَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ كَمَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فِي الْإِتْلَافِ وَكِلَاهُمَا سَبَبٌ وَضْعِيٌّ يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ قُلْت الْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَتَأَخُّرُهَا عَنْهَا خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَالْإِتْلَافُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ تَأْخِيرُ مُسَبَّبِهِ عَنْهُ لِإِمْكَانِ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ الْإِتْلَافِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ أَوْ مِمَّنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ عَنْهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أُخِّرَ مُسَبَّبُهُ عَنْهُ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ التَّحْرِيمِ فِيهِ الْأَمَدَ الطَّوِيلَ وَالسِّنِينَ الْكَثِيرَةَ إلَى حِينِ الْبُلُوغِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا الْفَرْقِ أَيْضًا انْعَقَدَ سَبَبُ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ سَبَبُ إبَاحَةٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ الْإِرْثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ جَمِيعِهَا تَتَرَتَّبُ آثَارُهَا فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ وَالتَّأْخِيرُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إنَّمَا وَقَعَ عَارِضًا بِسَبَبِ الْعِزِّ عَنْ إخْرَاجِهِ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ وَهُوَ الْغَالِبُ فَأُلْحِقَ النَّادِرُ بِالْغَالِبِ وَانْعَقَدَ سَبَبًا مُطْلَقًا

قَالَ ( الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنْكِحَةِ الصِّبْيَانِ تَنْعَقِدُ إذَا كَانُوا مُطِيقِينَ لِلْوَطْءِ وَلِلْوَلِيِّ الْإِجَارَةُ وَالْفَسْخُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ طَلَاقِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) قُلْت فِيمَا فَرَّقَ بِهِ هُنَا نَظَرٌ وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَةِ وَالثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَةِ فَصَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنْكِحَةِ الصِّبْيَانِ تَنْعَقِدُ إذَا كَانُوا مُطِيقِينَ لِلْوَطْءِ وَلِلْوَلِيِّ الْإِجَازَةُ وَالْفَسْخُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ طَلَاقِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ ) مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ سَبَبٌ لِشَيْءٍ فَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ وَالطَّلَاقُ سَبَبٌ لِلْبَيْنُونَةِ فَهُمَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ هُوَ الْخِطَابُ بِالْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَقَدَّمَ بَسْطُهَا وَأَنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْلِيفُ وَلَا الْعِلْمُ وَلِذَلِكَ نُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنُطَلِّقُ بِالْإِعْسَارِ وَإِنْ كَانَ مَعْجُوزًا عَنْهُ وَغَيْرَ مَشْعُورٍ بِهِ وَكَذَلِكَ بِالْإِضْرَارِ بِالْأَنْسَابِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْوَارِثُ وَلَا هُوَ مِنْ مَقْدُورِهِ فَإِنَّ مَعْنَى خِطَابِ الْوَضْعِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَالَ إذَا وَقَعَ هَذَا فِي الْوُجُودِ فَاعْلَمُوا أَنِّي قَدْ حَكَمْت بِهَذَا فَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ طَلَاقُ الصِّبْيَانِ كَمَا انْعَقَدَتْ أَنْكِحَتُهُمْ إذَا كَانُوا مُطِيقِينَ لِلْوَطْءِ وَلِلْوَلِيِّ الْإِجَازَةُ وَالْفَسْخُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ إتْلَافِ الصَّبِيِّ سَبَبًا لِضَمَانِهِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ سَبَبًا لِلُزُومِ الْبَيْعِ وَلَا بَيْنَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْعَلَّامَةَ الْأَمِيرَ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ ذَكَرَ سِرَّ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ إنَّمَا صَحَّ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَتَوَقَّفَ عَلَى النَّظَرِ وَلَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ أَصْلًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ كَمَا قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ مِنْ قَبِيلِ الْحُدُودِ وَلِذَلِكَ تُشْطَرُ عَلَى الْعَبْدِ وَفِي الْقُرْآنِ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } وَلَا حَدَّ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالنِّكَاحُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَنْظُرُ الْوَلِيُّ الْأَصْلَحَ .
ا هـ بِلَفْظِهِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي سِرِّ الْفَرْقِ هُنَا

مِنْ أَنَّ عَقْدَ الْأَنْكِحَةِ سَبَبُ إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَهُوَ أَصْلٌ لِلْخِطَابِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُمَا تَكْلِيفٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ جِهَةِ لُزُومِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ الْمَحْمُولِ عَنْ الصِّبْيَانِ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَالطَّلَاقُ سَبَبُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بِإِسْقَاطِ الْعِصْمَةِ فِي الزَّوْجَةِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحْرِيمِ فَلِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الطَّلَاقُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ فَهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّهُمَا سَبَبَانِ وَخِطَابُ وَضْعٍ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الطَّلَاقُ لَمَّا انْضَافَ إلَيْهِ تَكْلِيفٌ دُونَ الْآخَرِ انْتَفَى عَنْهُ دُونَهُ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ وَالْإِتْلَافُ وَإِنْ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَالْوُجُوبُ تَكْلِيفٌ حَتَّى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ الْإِخْرَاجُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْمُتْلِفِ فَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ الْبُلُوغُ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ وَخُوطِبَ هُوَ حِينَئِذٍ إلَّا أَنَّ تَأْخِيرَ مُسَبَّبِ الْإِتْلَافِ عَنْهُ إلَى بَعْدِ الْبُلُوغِ عِنْدَ حُصُولِ أَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِإِمْكَانِ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ الْإِتْلَافِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ أَوْ مِمَّنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ عَنْهُ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَالْعَجْزُ عَنْ إخْرَاجِ الضَّمَانِ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ نَادِرٌ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ وَانْعَقَدَ الْإِتْلَافُ سَبَبًا مُطْلَقًا وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ التَّحْرِيمِ فِيهِ الْأَمَدَ الطَّوِيلَ وَالسِّنِينَ الْكَثِيرَةَ إلَى حِينِ الْبُلُوغِ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّهِ ا هـ .
لِقَوْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الشَّاطِّ فِيمَا فَرَّقَ بِهِ هُنَا نَظَرٌ .
ا هـ قُلْت وَلَعَلَّ وَجْهَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِعَيْنِهِ مَشَقَّةٌ لِأَنَّهُ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ دَوَاعِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ سُمِّيَ تَكْلِيفًا

وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى الْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ كَمَا فِي الْمُوَافَقَاتِ أَنَّ الشَّرَائِعَ إنَّمَا جِيءَ بِهَا لِمَصَالِح الْعِبَادِ فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّخْيِيرُ جَمِيعًا رَاجِعَةٌ إلَى حَظِّ الْمُكَلَّفِ وَمَصَالِحِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْحُظُوظِ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَعْرَاضِ غَيْرَ أَنَّ الْحَظَّ إنْ أَخَذَهُ الْعَبْدُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ فَقَطْ كَالْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ سَاعِيًا فِي حَظِّهِ وَإِنْ لَمْ يَفُتْهُ حَظُّهُ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ بَاعِثُ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ أَيْضًا كَالْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ فَيَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ فِي التَّجَرُّدِ عَنْ الْحَظِّ وَيُسَمَّى بِاسْمِهِ وَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَ الطَّلَبِ كَالْمُبَاحِ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَنَّ الطَّلَبَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ بِالْفَرْضِ فَلِهَذَا يُقَالُ إنَّ الْمُبَاحَ هُوَ الْعَمَلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدُ الْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ خَاصَّةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ فِيهِ الْحَظُّ الْمَذْكُورُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِوَاسِطَةِ الْحَجْرِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ إلَّا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ لَمْ يَخْلُ عَنْ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا عَنْ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَمَا يُفَسَّرُ بِإِلْزَامِ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ فَلَا يَشْمَلُ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ كَذَلِكَ يُفَسَّرُ بِالطَّلَبِ فَيَشْمَلُهُمَا وَعَلَى الْأَوَّلِ يَظْهَرُ مَا رَجَّحَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ تَعَلُّقِ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ كَأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنْ الشَّارِعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَلَيْسَتْ تَكْلِيفًا عَلَيْهَا وَعَدَّهَا فِي أَحْكَامِهِ إمَّا تَغْلِيبًا وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُكَلَّفِ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ

الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ كَالْبَهَائِمِ مُهْمَلَةٌ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا مُبَاحَةٌ إذْ الْمُبَاحَةُ مَا لَا إثْمَ فِي فِعْلِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَلَا يُنْفَى الشَّيْءُ إلَّا حَيْثُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ .
ا هـ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يَلُونَ عَقْدَ الْأَنْكِحَةِ وَهُمْ أَخُو الْأُمِّ وَعَمُّ الْأُمِّ وَجَدُّ الْأُمِّ وَبَنُو الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُدْلِي بِأُنْثَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَصَبَةِ فَإِنَّهُمْ يَلُونَ الْعَقْدَ فِي النِّكَاحِ وَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْجُدُودُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَةُ الشَّقَائِقُ وَإِخْوَةُ الْأَبِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ الْوَلَاءَ شُرِعَ لِحِفْظِ النَّسَبِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَنْ يَكُونُ لَهُ نَسَبٌ حَتَّى تَحْصُلَ الْحِكْمَةُ لِمُحَافَظَتِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي اجْتِهَادِهِ فِي نَظَرِهِ فِي تَحْصِيلِ الْإِكْفَاءِ وَدَرْءِ الْعَارِ عَنْ النَّسَبِ وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِابْنِ فَقَالَ لَا وِلَايَةَ لَهُ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ ( أَحَدُهَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أُنْكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } وَالِابْنُ لَا يُسَمَّى مَوْلًى ( وَثَانِيهَا ) أَنَّهُ يُدْلِي بِهَا فَلَا يُزَوِّجُهَا كَتَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا فَإِنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَمَّا أَدْلَى بِهَا صَارَ فِي مَعْنَاهَا ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّهُ شَخْصٌ لَا تَصِحُّ مِنْ أَبِيهِ الْوِلَايَةُ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ كَابْنِ الْخَالِ مَعَ الْخَالِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ رُوِيَ { بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا } وَهُوَ وَلِيُّهَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ الْقُرْبِ لِقَوْلِ الْعَرَبِ هَذَا يَلِي هَذَا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ وَابْنُهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَجُزْءُ الشَّيْءِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ هَذَا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى نَقُولُ الْمَوْلَى لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْهَا النَّاصِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ نَاصِرُهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا

مَوْلَى لَهُمْ } أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ وَالِابْنُ نَاصِرُ أُمِّهِ فَيَكُونُ هُوَ مَوْلَاهُ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَعَنْ الثَّانِي الْفَرْقُ بِقُوَّةِ عَقْلِهِ النَّاشِئِ عَنْ الذُّكُورِيَّةِ وَضَعْفِ عَقْلِهَا النَّاشِئِ عَنْ الْأُنُوثَةِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهِ عَارُهَا بِخِلَافِ أَبِيهِ وَابْنِ الْخَالِ فَإِنَّ ابْنَ الْخَالِ بَعِيدٌ عَنْهَا لَا تَنْكِيهِ فَضِيحَتُهَا كَمَا تَنْكِي ابْنَهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَجُزْؤُهَا أَمَسُّ بِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا وَلِذَلِكَ قُدِّمَ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَيْقَظُ وَأَكْثَرُ تَفَطُّنًا لِوُجُوهِ الْحِجَاجِ وَسِيَاسَةِ الْخُصُومِ وَأَضْبَطُ لِلْفِقْهِ وَيُقَدَّمُ فِي الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَايِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُنْدِ وَالْجُيُوشِ .
وَيُقَدَّمُ فِي الْفُتْيَا مَنْ هُوَ أَوْرَعُ وَأَضْبَطُ لِمَنْقُولَاتِ الْفِقْهِ وَفِي أَمَانَةِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَيْتَامِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ وَأَعْرَفُ بِمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ وَالْكُلَفِ وَالْجِدَالِ فِي الْخِصَامِ لِيُنَاضِلَ عَنْ الْأَيْتَامِ وَيُقَدَّمُ فِي سِعَايَةِ الزَّكَاةِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِنُصُبِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَالِافْتِرَاقِ وَأَقْوَى خَرْصًا لِلثِّمَارِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُقَدَّمُ فِي بَابٍ مُؤَخَّرًا فِي بَابٍ آخَرَ كَمَا قُدِّمَ الرِّجَالُ فِي الْحُرُوبِ وَالْإِمَامَةِ وَأُخِّرُوا فِي الْحَضَانَةِ وَقُدِّمَ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَزِيدِ شَفَقَتِهِنَّ وَصَبْرِهِنَّ عَلَى الْأَطْفَالِ فَكُنَّ لِذَلِكَ أَكْمَلَ فِي الْحَضَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ فَإِنَّ مَزِيدَ إنْفَاقِهِمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْأَطْفَالِ فَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قُدِّمَ الِابْنُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ أَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ابْنِ عَمِّهِ لَا سِيَّمَا إذَا

بَعُدَ وَيُقَدَّمُ كُلُّ وَلِيٍّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ إذَا كَانَتْ صِفَتُهُ أَقْرَبَ وَحَالُهُ عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ فَيُقَدَّمُ لِذَلِكَ .

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يَلُونَ عَقْدَ الْأَنْكِحَةِ وَهُمْ أَخُو الْأُمِّ وَعَمُّ الْأُمِّ وَجَدُّ الْأُمِّ وَبَنُو الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُدْلِي بِأُنْثَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَصَبَةِ فَإِنَّهُمْ يَلُونَ الْعَقْدَ فِي النِّكَاحِ وَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْجُدُودُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَةُ الشَّقَائِقُ وَإِخْوَةُ الْأَبِ ) وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ شُرِعَ لِحِفْظِ النَّسَبِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ كَذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَسَبٌ حَتَّى تَحْصُلَ الْحِكْمَةُ لِمُحَافَظَتِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي اجْتِهَادِهِ فِي نَظَرِهِ فِي تَحْصِيلِ الْإِكْفَاءِ وَرَدِّهِ الْعَارَ عَنْ النَّسَبِ وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الِابْنِ فَقَالَ لَا وِلَايَةَ لَهُ مُحْتَجًّا عَلَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ ( أَحَدُهَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } وَالِابْنُ لَا يُسَمَّى مَوْلًى ( وَثَانِيهَا ) أَنَّهُ يُدْلِي بِهَا فَلَا يُزَوِّجُهَا كَتَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا فَإِنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَمَّا أَدْلَى بِهَا صَارَ فِي مَعْنَاهَا ( وَثَالِثُهَا ) أَنَّهُ شَخْصٌ لَا تَصِحُّ مِنْ أَبِيهِ الْوِلَايَةُ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ كَابْنِ الْخَالِ مَعَ الْخَالِ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ الثَّلَاثَةِ الْوُجُوهِ أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِوَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلُ ) أَنَّ الْحَدِيثَ كَمَا رُوِيَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا كَذَلِكَ رُوِيَ { بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا } وَالِابْنُ وَلِيُّ أُمِّهِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ الْقُرْبِ لِقَوْلِ الْعَرَبِ هَذَا يَلِي هَذَا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ابْنَهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَجُزْءُ الشَّيْءِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الْمَوْلَى فِي الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَتِهِ بِغَيْرِ

إذْنِ مَوَالِيهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ السَّيِّدِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَا يُسَمَّى الِابْنُ مَوْلًى بَلْ الْمَوْلَى لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مِنْهَا النَّاصِرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ نَاصِرُهُ وقَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ وَالِابْنُ نَاصِرُ أُمِّهِ فَيَكُونُ هُوَ مَوْلَاهَا بَلْ هَذَا الِاحْتِمَالُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ( وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي ) فَبِالْفَرْقِ بِقُوَّةِ عَقْلِهِ النَّاشِئِ عَنْ الذُّكُورِيَّةِ وَضَعْفِ عَقْلِهَا النَّاشِئِ عَنْ الْأُنُوثَةِ ( وَأَمَّا عَنْ الثَّالِثِ ) فَبِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهِ عَارُهَا بِخِلَافِ أَبِيهِ وَابْنِ الْخَالِ فَإِنَّ ابْنَ الْخَالِ بَعِيدٌ عَنْهَا لَا تَنْكِيهِ فَضِيحَتُهَا كَمَا تَنْكِي ابْنَهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى الْأَبِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَجُزْؤُهَا أَمَسُّ بِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ نَعَمْ فِي شب أَنَّ أَبَ الْمَجْنُونَةِ مُقَدَّمٌ فِي الْجَبْرِ عَلَى ابْنِهَا وَالِابْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْوِلَايَةِ .
ا هـ لَكِنَّهُ غَيْرُ الْمَعْقُولِ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِأَنَّ فِي سَبَبِيَّتِهِ أَيْ مُقَدَّمٌ بِسَبَبِ الْجَبْرِ عَلَى ابْنِ الْمَجْنُونَةِ وَالِابْنِ مَنْ زِنًى مَثَلًا لِأَنَّ الْجَبْرَ وِلَايَةٌ وَزِيَادَةٌ فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الِابْنَ لَهُ جَبْرٌ ، وَالِابْنُ مُقَدَّمٌ فِي الْوِلَايَةِ الَّتِي لَا جَبْرَ فِيهَا وَهِيَ الْآتِيَةُ فِي الْعَصَبَاتِ أَفَادَهُ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وُضُوءِ الشُّمُوعِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا وَلِذَلِكَ قُدِّمَ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَيْقَظُ وَأَكْثَرُ تَفَطُّنًا لِوُجُوهِ الْحِجَاجِ وَسِيَاسَةِ الْخُصُومِ وَأَضْبَطُ لِلْفِقْهِ وَفِي الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَايِدِهَا وَسِيَاسَةِ الْجُنْدِ أَوْ الْجُيُوشِ وَفِي

الْفُتْيَا مَنْ هُوَ أَوْرَعُ وَأَضْبَطُ لِمَنْقُولَاتِ الْفِقْهِ وَفِي أَمَانَةِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَيْتَامِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ وَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ وَالْكُلَفِ وَالْجِدَالِ فِي الْخِصَامِ لِيُنَاضِلَ عَنْ الْأَيْتَامِ وَفِي سِعَايَةِ الزَّكَاةِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِنِصَابِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَالِافْتِرَاقِ وَأَقْوَى خَرْصًا لِلثِّمَارِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُقَدَّمُ فِي بَابٍ مُؤَخَّرًا فِي بَابٍ آخَرَ كَمَا قُدِّمَ الرِّجَالُ فِي الْحُرُوبِ وَالْإِمَامَةِ وَأُخِّرُوا فِي الْحَضَانَةِ فَإِنَّ مَزِيدَ إنْفَاقِهِمْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْأَطْفَالِ وَأُخِّرَ النِّسَاءُ فِي الْحُرُوبِ وَالْإِمَامَةِ وَقُدِّمْنَ فِي الْحَضَانَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُنَّ بِسَبَبِ مَزِيدِ شَفَقَتِهِنَّ وَصَبْرِهِنَّ عَلَى الْأَطْفَالِ أَكْمَلُ فِيهَا مِنْهُمْ فَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُقَدَّمُ كُلُّ وَلِيٍّ تَكُونُ صِفَتُهُ أَقْرَبَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ صِفَةَ أَقْرَبِيَّتِهِ تَكُونُ حَاثَّةً عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ أَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ابْنِ عَمِّهِ لَا سِيَّمَا إذَا بَعُدَ وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا لِحَدِيثِ عُمَرَ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ السُّلْطَانِ } وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مَالِكٌ فِي الِابْنِ لِحَدِيثِ { أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَهَا أَنْ يُنْكِحَهَا إيَّاهُ } وَلِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ عَلَى أَنَّ الِابْنَ يَرِثُ الْوَلَاءَ الْوَاجِبَ لِلْأُمِّ ، وَالْوَلَاءُ لِلْعَصَبَةِ ا هـ .
فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31