كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي

الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَنْدُوبِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ تَرْكَ الْوَاجِبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَ الْوَاجِبِ فِي حَالٍ شَرْعِيَّةِ الْجَمْعِ فَلَيْسَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا بِوَاجِبٍ فَلَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا بَلْ صَارَتْ الْأَخِيرَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِهَا وَوَقْتِ الْأُولَى وَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ الْمُوَسَّعِ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا أَصْلًا وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِيمَا ارْتَكَبَهُ ذَهَابُ الْوَهْمِ إلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ وَلَيْسَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِمَا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبَ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ الصَّلَاةُ وَالتَّأْخِيرُ وَالتَّقْدِيمُ أَمْرَانِ إضَافِيَّانِ فَمَتَى نُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى التَّأْخِيرِ أَوْ إلَى التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ بِوُجُوبِ التَّأْخِيرِ وُجُوبُ فِعْلِ الصَّلَاةِ مُؤَخَّرَةً وَبِوُجُوبِ التَّقْدِيمِ وُجُوبُ فِعْلِهَا مُقَدَّمَةً وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ فَهِمَ شَيْئًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي حَالِ الْمَطَرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إيقَاعِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُقَدَّمَةً قَبْلَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ إيثَارًا لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَبَيْنَ إيقَاعِهَا فَذًّا فِي وَقْتِهَا الْمَذْكُورِ وَلَا غَرْوَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرٍ رَاجِحٍ وَمَرْجُوحٍ وَفَاضِلٍ وَمَفْضُولٍ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْعِتْقَ أَرْجَحُهَا لِرُجْحَانِ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ عَلَى قِيمَةِ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ بَلْ كَمَا فِي رَقَبَةٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ وَرَقَبَةٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَكَمَا فِي

التَّخْيِيرِ بَيْنَ إطَالَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ وَتَقْصِيرِهِ وَذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً فِي الشَّرِيعَةِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ تُرِكَ فِيهِ وَاجِبَانِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَنَشْرَعُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْمُشْكِلَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَا بَأْسَ بِهِ .
قَالَ ( فَنَقُولُ إنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ وَنَوَاهِيهِ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ إلَى قَوْلِهِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ ) قُلْتُ مَا قَالَ صَحِيحٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْأَوَامِرَ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ وَالنَّوَاهِيَ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَتْبَعُ الْأَوَامِرَ وَالْمَفَاسِدَ تَتْبَعُ النَّوَاهِيَ أَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا خَفَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ هِيَ الْمَنَافِعُ وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْمَفَاسِدُ هِيَ الْمَضَارُّ وَلَا ضَرَرَ أَعْظَمُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ .
وَأَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَعَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ } وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَادُ يَنْحَصِرُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلُّ نَظَرٍ هَذَا إنْ كَانَ يُرِيدُ بِالتَّبَعِيَّةِ حُصُولَ هَذِهِ بَعْدَ حُصُولِ هَذِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَرَدَتْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَصَالِحَ وَأَنَّ النَّوَاهِيَ وَرَدَتْ لِتَرْتَفِعَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَفَاسِدَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( ثُمَّ إنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي

الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبَاتٌ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٍ .
قَالَ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ كَثْرَةُ الْمَصَالِحِ وَقِلَّتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ ثَوَابَ التَّصَدُّقِ بِدِينَارٍ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ التَّصَدُّقِ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً وَسَدَّ خَلَّةِ الْوَلِيِّ الصَّالِحِ أَعْظَمُ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفَاسِقِ الطَّالِحِ إلَى قَوْلِهِ هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي غَالِبِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ثَوَابَ التَّصَدُّقِ بِدِينَارٍ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ التَّصَدُّقِ بِدِرْهَمٍ مُسَلَّمٌ صَحِيحٌ لَكِنْ عَلَى شَرْطِ الِاسْتِوَاءِ فِي حَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمَّا عِنْدَ تَفَاوُتِ حَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ فَلَا لِمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .
قَالَ ( مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ مَوَاضِعُ مُسْتَوِيَةٌ فِي الْمَصَالِحِ وَأَحَدُهَا أَكْثَرُ ثَوْبًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ إلَى قَوْلِهِ إذَا ظَهَرَ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْمَصْلَحَةِ غَالِبًا أَوْ مُطْلَقًا فَاذْكُرْ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي فَضَّلَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ سَبْعَ صُوَرٍ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ اسْتِوَاءِ مَصْلَحَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِرَادَتِهِ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ قَصْدِ الْوُجُوبِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ .
قَالَ ( الصُّورَةُ الْأُولَى إنْظَارُ الْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ

وَاجِبٌ وَإِبْرَاؤُهُ مِنْهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا بِصَحِيحٍ بَلْ الْإِنْظَارُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِبْرَاءِ أَعْظَمُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِنْظَارَ تَأْخِيرُ الطَّلَبِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِطَلَبِ الدَّيْنِ بَعْدُ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ طَلَبِهِ بَعْدُ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الطَّلَبِ مُتَضَمِّنًا لِمَا يَسْتَلْزِمُ الطَّلَبَ .
قَالَ ( الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ لَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ مُتَفَضِّلَةً عَنْ الصَّلَاةِ بَلْ الْجَمَاعَةُ وَصْفٌ لِلصَّلَاةِ فُضِّلَتْ بِهِ عَلَى وَصْفِ الِانْفِرَادِ فَصَلَاةُ الْمُكَلَّفِ إذَا فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَقَعَتْ وَاجِبَةً وَإِذَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ وَقَعَتْ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْآخَرِ وَلَا يُنْكَرُ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ مَثَلًا إذَا أَوْقَعَهَا الْمُكَلَّفُ فِي جَمَاعَةٍ فَكَوْنُهَا صَلَاةَ ظُهْرٍ هُوَ الْوَاجِبُ وَكَوْنُهَا فِي جَمَاعَةٍ هُوَ الْمَنْدُوبُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بِوَجْهٍ لِأَنَّ كَوْنَهَا فِي جَمَاعَةٍ لَيْسَ مُنْفَصِلًا مِنْ كَوْنِهَا ظُهْرًا بَلْ هِيَ ظُهْرٌ وَهِيَ فِي جَمَاعَةٍ .
قَالَ ( الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي تُصَلَّى فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةً فَهِيَ تَفْضُلُ تِلْكَ الصَّلَاةَ

بِنَفْسِهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَهِيَ تَفْضُلُ تِلْكَ الصَّلَاةَ بِنَفْسِهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي غَيْرِهِ .
قَالَ ( الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَالْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
قَالَ ( الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ وَهَذِهِ الْكَلَامُ فِيهَا أَيْضًا كَالْكَلَامِ فِيمَا قَبْلَهَا وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ إيقَاعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَان مَا لَيْسَ غَيْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّ إيقَاعَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَنْدُوبٌ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّ إيقَاعَ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ هُوَ نَفْسُ الصَّلَاةِ وَتَوَهُّمُ الِانْفِصَالِ أَوْجَبَ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ .
قَالَ ( الصُّورَةُ السَّادِسَةُ رُوِيَ أَنَّ { صَلَاةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ } إلَى آخِرِ الصُّورَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ وَصْفَ السِّوَاكِ مَنْدُوبٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ جَعَلَ الشَّارِعُ الصَّلَاةَ مَعَ السِّوَاكِ بِسَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ أَيْ فِيهَا ثَوَابُ سَبْعِينَ صَلَاةً بِدُونِ سِوَاكٍ فَالسِّوَاكُ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا سَبَبٌ فِي تَضْعِيفِ ثَوَابِ الْوَاجِبِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَنْدُوبَ خَيْرٌ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ سَبَبًا فِي تَضْعِيفِ ثَوَابِهَا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ نَصَّ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ ثَوَابٌ لِلسِّوَاكِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّضْعِيفَ ثَوَابٌ لِلصَّلَاةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلسِّوَاكِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ السِّوَاكُ خَيْرٌ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ .
قَالَ ( الصُّورَةُ السَّابِعَةُ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لَا يَأْثَمُ تَارِكُهُ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ

وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } وَرُوِيَ { وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَمَرَ بِعَدَمِ الْإِفْرَاطِ فِي السَّعْيِ لِأَنَّهُ إذَا قَدِمَ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ شِدَّةِ السَّعْيِ يَكُونُ عِنْدَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُشُوعِ اللَّائِقِ بِالصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْخُشُوعِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ { وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ ) قُلْتُ لَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ مِنْ كَوْنِ عَدَمِ السَّكِينَةِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْخُشُوعِ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالسَّكِينَةِ حَتَّى يَلْزَمَ عَنْ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِلْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ الْخُشُوعُ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَمْرَ بِالسَّكِينَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ ضِدَّهَا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الَّذِي هُوَ شِدَّةُ السَّعْيِ شَاغِلٌ لِلْبَالِ مُنَافٍ لِلْحُضُورِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فَإِذَا كَانَتْ شِدَّةُ السَّعْيِ مِنْ كَسْبِهِ فَعَدَمُ الْحُضُورِ الْمُسَبَّبُ عَنْ الشُّغْلِ بِآثَارِ شِدَّةِ السَّعْيِ مِنْ الِانْبِهَارِ وَالْقَلَقِ مِنْ كَسْبِهِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ مَنْدُوبٍ وَلَا تَفْضِيلِهِ عَلَى وَاجِبٍ بَلْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ التَّسَبُّبِ إلَى الْإِخْلَالِ بِشَرْطِ الْوَاجِبِ مَعَ أَنَّ مُنَافَاةَ الْقَلَقِ وَالِانْبِهَارِ لِلْخُشُوعِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ وَإِنْ ثَبَتَتْ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ مُنَافَاةِ الْحُضُورِ إذْ الْحُضُورُ شَرْطٌ فِي الْخُشُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( إذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَظَهَرَ أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ قَدْ تَفْضُلُ الْوَاجِبَاتِ فِي الْمَصْلَحَةِ إلَى قَوْلِهِ طَرَدَ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعُ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ ) قُلْتُ لَمْ يَتَقَرَّرْ مَا قَالَ وَلَا أَقَامَ عَلَيْهِ حُجَّةً وَلَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ

رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي أَمْرٍ مَا أَعْظَمَ مِنْهَا فِي أَمْرٍ آخَرَ وَبَلَغَ إلَى حَدِّ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَاَلَّذِي يُنَاسِبُ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَاجِبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا وَيَكُونَ الْأَدْنَى مَصْلَحَةً وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِوَجْهٍ .
قَالَ ( وَلَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَقَدَّمَ فِيهِ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْوَقْتُ قُلْنَا هَذَا الْمَنْدُوبُ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) قُلْتُ لَمْ يُقَدِّمْ الْمَنْدُوبَ عَلَى الْوَاجِبِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَةِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مَصْلَحَةً مِنْ الْوَاجِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ ) الْمَنْدُوبُ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا لَمْ تَعْرِضْ ضَرُورَةٌ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْوَاجِبُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأَغْلَبِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَتْهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا } الْحَدِيثَ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَنْدُوبُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ الَّتِي لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَاجِبِ إلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ وَكَذَا لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْغَلَبَةَ عَلَى عَقْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِرَفْعِ الضَّرَرِ وَمِنْهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ قُدِّمَ عَلَى وَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ تُرِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِضَرُورَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّقَرُّبِ اللَّائِقِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً بَعْدَ ضَنْكِ الْأَسْفَارِ وَقَطْعِ الْبَرَارِيِ وَالْقِفَارِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَوْطَانِ النَّائِيَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَصْلَحَةِ وَقْتِ الْعَصْرِ لِأَنَّ فَوَاتَ الزَّمَانِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ الزَّمَانِ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ

لِضَرُورَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُوَافِقُونَ عَلَى النُّزُولِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ ضَرَرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِخِلَافِ ضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا .
وَثَانِيهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا جَاءَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ وَوَاجِبَةً قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَامَ حَجِّهِ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ إنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَيْنَ لَك ذَلِكَ وَأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَهُمَا خُطْبَةٌ .
وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ جَهَرَ فِيهِمَا أَوْ أَسَرَّ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ وَظَهَرَتْ الْحُجَّةُ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بِسَبَبِ الْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ جَهْرِيَّةٌ فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَكْعَتَيْنِ سِرًّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَإِنَّ الْخُطْبَةَ لِيَوْمِ عَرَفَةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ السَّفَرُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ الظُّهْرُ دُونَ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ النَّادِرَ وَهُوَ الْمُقِيمُ بِعَرَفَةَ وَمَنْ مَنْزِلَتُهُ قَرِيبٌ مِنْهَا تَبَعًا لِلْغَالِبِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ فَتَرْكُ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ مِنْ مِثْلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلظَّلَامِ وَالْمَطَرِ وَالطِّينِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى

الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ فِيمَا عَدَا الْحَالَ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ أَمَّا فِي الْحَالِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ كَمَا هُنَا فَلَيْسَ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَثَلًا إلَى وَقْتِهَا مِنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا إلَى وَقْتِ الْأُولَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهَا إلَى وَقْتِهَا فَلَمْ يَضِعْ وَاجِبٌ بِالْجَمْعِ وَلَا قُدِّمَ مَنْدُوبٌ عَلَى وَاجِبٍ وَلَا خُولِفَتْ فِي ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ هُنَا أَيْضًا وَأَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ إنَّمَا ضَاعَ بِالْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ لِمَا يَلْحَقُ الْجَمَاعَةَ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ إمَّا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بُيُوتِهِمْ وَعَوْدِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَإِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَيُصَلُّوهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْجَمْعِ لِجَوَازِ دَفْعِهِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَهُوَ تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ يَخْرُجُوا الْآنَ وَيُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ أَفْذَاذًا فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَحَلَّ دَفْعِ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَقْدِيمِ الْمَنْدُوبِ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَعَ هَذَا التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِ تَرْكِ الْوَاجِبِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ .
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ وَنَوَاهِيهِ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ حَتَّى يَكُونَ

أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالنَّدْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَصْلَحَةُ وَالنَّدْبُ وَتَعْظُمُ رُتْبَتُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَنْدُوبَاتِ تَلِيهِ أَدْنَى رُتَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَفَاسِدُ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْعِظَمِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ يَلِيهِ أَدْنَى الْمُحَرَّمَاتِ وَقِسْمٌ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ لَا تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ بَلْ تَارَةً يُسَاوِي الْوَاجِبَ وَتَارَةً يَفْضُلُهُ فِيهَا فَمَا وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهَا مَعَ الْعِشَاءِ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِهَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ سَوَاءٌ أَعْلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَكْثَرُ كَمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَأَنَّ ثَوَابَهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَا كَلَامَ كَمَا إذَا عَلِمْنَا التَّسَاوِي لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِرَادَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ قَصْدِ الْوُجُوبِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ فَلِأَنَّا نَسْتَدِلُّ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَنَقُولُ مَا قَدَّمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الْمَنْدُوبَ عَلَى هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا لِكَوْنِ مَصْلَحَتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا الشَّرِيعَةَ فَوَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ مِنْ اللَّهِ

تَعَالَى .
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا سَمِعْتُمْ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَمِعُوا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِخَيْرٍ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ شَرٍّ هَذَا كَلَامُ الْأَصْلِ مُلَخَّصًا إلَّا أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ وَنَوَاهِيَهُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَتْبَعُ الْأَوَامِرَ وَالْمَفَاسِدَ تَتْبَعُ النَّوَاهِيَ أَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا خَفَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ هِيَ الْمَنَافِعُ وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْمَفَاسِدُ هِيَ الْمَضَارُّ وَلَا ضَرَرَ أَعْظَمُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ .
وَأَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَعَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ } وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ نَعَمْ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَرَدَتْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَصَالِحُ وَإِنَّ النَّوَاهِيَ وَرَدَتْ لِتَرْتَفِعَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَفَاسِدُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ إنَّهُ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبَاتٌ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ .
وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ وَالْمُنَاسِبُ لِلْبِنَاءِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ

الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَى حَدِّ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَاجِبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِوَجْهٍ وَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ الصُّوَرِ السَّبْعِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْدُوبَاتِ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ .
أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْأَعْظَمَ فِيهَا أَجْرًا إنَّمَا هُوَ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ الْأَعْظَمَ أَجْرًا هُوَ إبْرَاؤُهُ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ إذْ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ الَّذِي هُوَ إسْقَاطٌ لِلطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ طَلَبِهِ بَعْدُ مُتَضَمِّنًا لِلْإِنْظَارِ الَّذِي هُوَ تَأْخِيرُ الطَّلَبِ بِالدَّيْنِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِطَلَبِهِ بَعْدُ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمُكَلَّفِ نَحْوَ الظُّهْرِ إذَا فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَقَعَتْ وَاجِبَةً .
وَإِذَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْوَاجِبَيْنِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْآخَرِ وَكَوْنُهَا فِي جَمَاعَةٍ لَيْسَ مُنْفَصِلًا مِنْ كَوْنِهَا ظُهْرًا حَتَّى إنَّهُ هُوَ الْمَنْدُوبُ بَلْ هِيَ ظُهْرٌ وَهِيَ فِي جَمَاعَةٍ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَهِيَ تَفْضُلُ عَلَى نَفْسِهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَهِيَ تَفْضُلُ عَلَى نَفْسِهَا إذَا صُلِّيَتْ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْوَاجِبَيْنِ أَوْ أَحَدَ الْمَنْدُوبَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ .
وَأَمَّا الصُّورَةُ السَّادِسَةُ فَلِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ صَلَاةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ لَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ ثَوَابُ السِّوَاكِ الَّذِي هُوَ مَنْدُوبٌ وَإِنَّمَا

يَقْتَضِي أَنَّ التَّضْعِيفَ ثَوَابُ الصَّلَاةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلسِّوَاكِ فَلَا دَلِيلَ لَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ السِّوَاكُ خَيْرٌ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الصُّورَةُ السَّابِعَةُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } وَرُوِيَ { وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ مَنْدُوبٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى وَاجِبٍ إلَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابَ الْإِفْرَاطِ فِي السَّعْيِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ عَقِيبَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُشُوعِ اللَّائِقِ بِالصَّلَاةِ .
وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّكِينَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ ضِدَّهُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الَّذِي هُوَ شِدَّةُ السَّعْيِ شَاغِلٌ لِلْبَالِ مُنَافٍ لِلْحُضُورِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُضُورِ مِنْ كَسْبِهِ لِكَوْنِهِ مُسَبَّبًا عَمَّا هُوَ مِنْ كَسْبِهِ الَّذِي هُوَ الشُّغْلُ بِآثَارِ شِدَّةِ السَّعْيِ مِنْ الِانْبِهَارِ وَالْقَلِقِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ التَّسَبُّبِ إلَى الْإِخْلَالِ بِشَرْطِ الْوَاجِبِ وَلَا دَلَالَةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ عَلَى أَنَّ مُنَافَاةَ الْقَلِقِ وَالِانْبِهَارِ لِلْخُشُوعِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ إذْ ثُبُوتُهَا بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ عَنْ مُنَافَاةِ الْحُضُورِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الْخُشُوعِ فَافْهَمْ أَفَادَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقِلُّ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ الْعِقَابِ وَقِلَّتِهِ أَنْ يَتْبَعَا كَثْرَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْفِعْلِ وَقِلَّتَهَا كَتَفْضِيلِ التَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالدِّرْهَمِ وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ مِنْ بَنِي آدَمَ مَعَ إنْقَاذِ الْغَرِيقِ مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَإِثْمُ الْأَذِيَّةِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالنُّفُوسِ أَعْظَمُ مِنْ الْأَذِيَّةِ فِي الْأَمْوَالِ وَهَذَا هُوَ غَالِبُ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ يَسْتَوِي الْفِعْلَانِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ التَّكْبِيرَاتِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَعَ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَةِ النَّافِلَةِ مَعَ سَجْدَةِ الْفَرِيضَةِ وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِيهِمَا بَلْ قَدْ تُتْرَكُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَتُعْكَسُ بِأَنْ يَصِيرَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ ثَوَابًا كَتَفْضِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ مَعَ اشْتِمَالِ الْإِتْمَامِ عَلَى مَزِيدِ الْخُشُوعِ وَالْإِجْلَالِ وَأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ وَكَتَفْضِيلِ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَكَتَفْضِيلِ الْعَصْرِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَقْصِيرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظُّهْرِ وَكَتَفْضِيلِ رَكْعَةِ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { مَنْ قَتَلَ الْوَزَغَةَ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى فَلَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الثَّانِيَةِ فَلَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً } فَكُلَّمَا كَثُرَ الْفِعْلُ كَانَ الثَّوَابُ أَقَلَّ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَالضَّرَبَاتِ فِي الْقَتْلِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ اهْتِمَامِ الْفَاعِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذْ لَوْ قَوِيَ عَزْمُهُ وَاشْتَدَّتْ حَمِيَّتُهُ لَقَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى

فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ لَطِيفٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَثْرَةِ مُتُونَةٍ فِي الضَّرْبِ فَحَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهَا فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ عَزْمِهِ فَلِذَلِكَ يَنْقُصُ أَجْرُهُ عَنْ الْمِائَةِ إلَى السَّبْعِينَ وَالْأَصْلُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَاعِدَةَ كَثْرَةِ الثَّوَابِ كَثْرَةُ الْفِعْلِ وَقَاعِدَةَ قِلَّةِ الثَّوَابِ قِلَّةُ الْفِعْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ فِي الْقُرُبَاتِ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْمَصَالِحِ غَالِبًا وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِصُنْعِهِ .

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقِلُّ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ الْعِقَابِ وَقِلَّتِهِ أَنْ يَتَّبِعَا كَثْرَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْفِعْلِ وَقِلَّتِهَا كَتَفْضِيلِ التَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالدِّرْهَمِ إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا هُوَ غَالِبُ الشَّرِيعَةِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَيَلْزَمُ فِيهِ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ تَرَتُّبَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ وُقُوعِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُدْرَكُ شَرْعًا وَيَلْزَمُ فِيهِ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْمُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَقِلَّ التَّفَاوُتُ إلَّا فِي الْمَصْلَحَةِ خَاصَّةً .
قَالَ ( وَقَدْ يَسْتَوِي الْفِعْلَانِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ التَّكْبِيرَاتِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَعَ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَةِ النَّافِلَةِ مَعَ سَجْدَةِ الْفَرِيضَةِ وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِيهِمَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَةِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَأَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ إلَى حَدِّهَا فِي الْكَثِيرَةِ لَزِمَ الْوُجُوبُ وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ فَلَا بُدَّ مِنْ الثَّوَابِ وَعَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُ إذَا تَسَاوَتْ أَنْ يَلْزَمَ الْوُجُوبُ فِي الْمُتَسَاوِيَيْنِ إنْ بَلَغَتْ مَصْلَحَتُهُمَا إلَى رُتْبَةِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ النَّدْبِ فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ إلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ وَمَا أَوْرَدَهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ لَا نُسَلِّمُ فِيهَا الْمُسَاوَاةَ لَمْ يَأْتِ عَلَى دَعْوَةِ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا بِحُجَّةٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ إلَى الْوَهْمِ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْمُسَاوَاةِ فِي الصُّورَةِ وَالْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لَا دَلِيلَ فِيهِ .
قَالَ ( بَلْ قَدْ تُتْرَكُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ

وَتُعْكَسُ بِأَنْ يَصِيرَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ ثَوَابًا كَتَفْضِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ مَعَ اشْتِمَالِ الْإِتْمَامِ عَلَى مَزِيدِ الْخُضُوعِ وَالْإِجْلَالِ وَأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ وَكَتَفْضِيلِ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَكَتَفْضِيلِ الْعَصْرِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَقْصِيرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظُّهْرِ وَكَتَفْضِيلِ رَكْعَةِ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْتُ قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا قَاعِدَةٌ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفَضِّلُ مَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لَا مَا سِوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَقِلُّ الثَّوَابُ فِيهِ وَالْعِقَابُ ) يَكْثُرُ الثَّوَابُ أَوْ الْعِقَابُ غَالِبًا فِي أَحَدِ فِعْلَيْنِ وَقَعَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِيمَا عَدَا الْمَصْلَحَةَ خَاصَّةً أَوْ الْمَفْسَدَةَ خَاصَّةً عَلَى حَسَبِ مَا يُدْرَكُ فِيهِ شَرْعًا مِنْ كَثْرَةِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْمَفْسَدَةِ مَثَلًا ثَوَابُ التَّصَدُّقِ بِدِينَارٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ التَّصَدُّقِ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينَارِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّرْهَمِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمَّا عِنْدَ تَفَاوُتِ حَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ فَلَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ } { وَسَدُّ خَلَّةِ الْوَلِيِّ الصَّالِحِ أَعْظَمُ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفَاسِقِ الطَّالِحِ } لِأَنَّ مَصْلَحَةَ بَقَاءِ الْوَلِيِّ وَالْعَالِمِ فِي الْوُجُودِ لِنَفْسِهِ وَلِلْخَلْقِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْفَاسِقِ وَإِنْقَاذُ الْغَرِيقِ مِنْ بَنِي آدَمَ لِعَظِيمِ مَصْلَحَةِ بَقَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إنْقَاءِ الْغَرِيقِ مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَإِثْمُ الْأَذِيَّةِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالنُّفُوسِ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ الْأَذِيَّةِ فِي الْأَمْوَالِ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ فِي غَالِبِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ يَكْثُرُ الثَّوَابُ أَوْ الْعِقَابُ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَانُونِ بِأَنْ يَصِيرَ الْأَقَلُّ مَفْسَدَةً أَكْثَرَ عِقَابًا وَالْأَقَلُّ مَصْلَحَةً أَكْثَرَ ثَوَابًا كَتَفْصِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ مَعَ اشْتِمَالِ الْإِتْمَامِ عَلَى مَزِيدِ الْخُشُوعِ وَالْإِجْلَالِ وَأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ وَكَتَفْضِيلِ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَكَتَفْضِيلِ الْعَصْرِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى مَعَ تَقْصِيرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظُّهْرِ وَكَتَفْضِيلِ

رَكْعَةِ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { مَنْ قَتَلَ الْوَزَغَةَ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى فَلَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الثَّانِيَةِ فَلَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَ الْفِعْلُ كَانَ الثَّوَابُ أَقَلَّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْتُلْهَا فِي الضَّرْبَةِ وَهِيَ حَيَوَانٌ لَطِيفٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَثْرَةِ مُتُونَةٍ فِي الضَّرْبِ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ عَزْمِهِ وَقِلَّةِ اهْتِمَامِهِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَنَقَصَ أَجْرُهُ عَنْ الْمِائَةِ إلَى السَّبْعِينَ وَإِنْ كَثُرَ فِعْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إذْ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِصُنْعِهِ قُلْتُ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ إذْ لَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ فِي مَكَّةَ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي مَزِيدِ الْمُضَاعَفَةِ فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا الْمُضَاعَفَةُ فَافْهَمْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا حَاصِلُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تَفْضِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْآخَرِ وَقَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَإِنَّهَا إذَا بَلَغَتْ إلَى حَدِّهَا فِي الْكَثْرَةِ لَزِمَ الْوُجُوبُ وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ فَلَا بُدَّ مِنْ الثَّوَابِ وَالنَّدْبِ تَقْتَضِي لُزُومَ الْوُجُوبِ فِي الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَعًا إنْ بَلَغَتْ مَصْلَحَتُهُمَا إلَى رُتْبَةِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ النَّدْبِ فِيهِمَا مَعًا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ مَصْلَحَتُهُمَا إلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَصْلَحَةِ حِينَئِذٍ

عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَتَأَمَّلْ ا هـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُعَيَّنَاتِ الْمُشَخَّصَاتِ فِي الْخَارِجِ الْمَرْئِيَّةَ بِالْحِسِّ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَلِذَلِكَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً مُعَيَّنَةً فَاسْتُحِقَّتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي السَّلَمِ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ فَظَهَرَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا رَجَعَ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ مَاتَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ حَمْلَ هَذَا الْمَتَاعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَهُ إلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَرْكُوبٍ مُعَيَّنٍ فَعَيَّنَ لَهُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ لِرُكُوبِهِ فَعَطِبَتْ أَوْ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ فَطَالَبَهُ بِغَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلْ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ شَاءَ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مَتَى كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الْأَمْثَالِ وَيُعْطِيَ أَيَّ مِثْلٍ شَاءَ وَلَوْ عَقَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَوْ اكْتَالَ رِطْلَ زَيْتٍ مِنْ خَابِيَةٍ وَعَقَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ مِنْ الْخَابِيَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا فَرَّقَ صُبْرَتَهُ صِيعَانًا فَعَقَدَ عَلَى صَاعٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ وَلَوْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ لَكَانَ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِأَيِّ مِثْلٍ شَاءَ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ فَهَذَا أَيْضًا يُوَضِّحُ لَك أَنَّ الْمُعَيَّنَاتِ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَأَنَّ مَا فِي الذِّمَمِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ

وَالْأَجْنَاسِ الْمُشْتَرَكَةِ فَيَقْبَلُ مَا لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهَا الْبَدَلَ وَالْمُعَيَّنُ لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَلَا يَنْتَقِلُ الْأَدَاءُ إلَى الذِّمَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ وَقْتُهُ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ بِوَقْتِهِ وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِانْتِقَالِ إلَى الذِّمَّةِ تَعَذُّرَ الْمُعَيَّنِ كَالزَّكَاةِ مَثَلًا مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَى الذِّمَّةِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إذَا تَعَذَّرَ فِيهَا الْأَدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتَيْهَا لِعُذْرٍ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَضَاءِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْإِيقَاعِ أَوَّلَ الْوَقْتِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الزَّكَاةِ تَأَخُّرُ الْجَائِحَةِ عَنْ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرَةِ بَعْدَ زَمَنِ الْوُجُوبِ وَكَمَا لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ وَتَمَكَّنَ مِنْ كَيْلِهَا ثُمَّ تَلِفَتْ الصُّبْرَةُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالتَّوْفِيَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَلَا يَنْتَقِلُ الصَّاعُ لِلذِّمَّةِ وَلِذَلِكَ أَجْمَعْنَا فِي الْمُسَافِرِ يُقِيمُ وَالْمُقِيمُ يُسَافِرُ عَلَى اعْتِبَارِ آخِرِ الْوَقْتِ وَهَذَا الْفَرْقُ قَدْ خَالَفْنَاهُ أَيُّهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي النَّقْدَيْنِ عِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ بِهِمَا عَلَى الذِّمَمِ .
وَإِنْ عُيِّنَتْ إلَّا أَنْ تُخَصَّ بِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ كَشُبْهَةٍ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ سِكَّةٍ رَائِجَةٍ دُونَ النَّقْدِ الْآخَرِ وَلَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ دِينَارًا مُعَيَّنًا فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ مِثْلَهُ فِي الْمَحَلِّ وَيَمْنَعَ رَبَّهُ مِنْ أَخْذِ ذَلِكَ

الْمُعَيَّنِ الْمَغْصُوبِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ خُصُوصَاتِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَغْرَاضُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إنَّمَا يَعْتَبِرُ مَا فِيهِ نَظَرٌ صَحِيحٌ وَلَزِمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ سُؤَالَانِ : أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ أَنَّ أَعْيَانَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لَا تُمْلَكُ أَيْضًا لِأَجْلِ أَنَّ لِلْغَاصِبِ الْمَنْعَ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي فِي الْعُقُودِ وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُوصَاتُ مَمْلُوكَةً لَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُعَيَّنِ الْمُطَالَبَةُ بِمِلْكِهِ وَأَخْذِهِ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ الْمَمْلُوكُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْجِنْسَ الْكُلِّيَّ دُونَ الشَّخْصِيِّ وَمَتَى شَخَصَ مِنْ الْجِنْسِ شَيْءٌ لَا يَمْلِكُ خُصُوصَهُ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ أَمْرٌ شَنِيعٌ وَثَانِيهِمَا أَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الصِّيعَانَ الْمُسْتَوِيَةَ وَالْأَرْطَالَ الْمُسْتَوِيَةَ مِنْ الزَّيْتِ تُمْلَكُ أَعْيَانُهَا وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ مَعَ أَنَّ الْأَغْرَاضَ مُسْتَوِيَةٌ فِي تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَهِيَ نَقْضٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِالْتِزَامِهِ وَالشَّنَاعَةُ لَا عِبْرَةَ بِهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ .
وَقَدْ تَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَعْتَبِرُ مَا لَا غَرَضَ فِيهِ وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ ، وَعَنْ الثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُمَا وَسَائِلُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ مِنْ السِّلَعِ وَالْمَقَاصِدُ إنَّمَا هِيَ السِّلَعُ وَإِذَا كَانَتْ السِّلَعُ مَقَاصِدَ وَقَعَتْ الْمُشَاحَنَةُ مِنْ تَعْيِينَاتِهَا بِخِلَافِ الْوَسَائِلِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا وَسَائِلُ وَالثَّانِي عَدَمُ تَعَلُّقِ الْأَغْرَاضِ بِخِلَافِ الْمَقَاصِدِ فِيهَا حَيْثِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ النَّقْضُ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةُ الْفَرْقُ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَمَرَةٍ يَتَأَخَّرُ جُذَاذُهَا أَوْ عَبْدٍ

يَسْتَخْدِمُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ مِنْ دَيْنٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمَّا كَانَتْ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا أَشْبَهَتْ الدَّيْنَ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا الْمُطَالَبَةَ وَقَالَ أَشْهَبُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ بَلْ دَيْنٌ مُعَيَّنٌ فِي مُعَيَّنٍ وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَطَّرِدُ الْفَرْقُ إنَّمَا مُخَالَفَتُهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ

قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا إلَى قَوْلِهِ فَيَقْبَلُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا الْبَدَلَ وَالْمُعَيَّنُ لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ مَا عَدَا قَوْلَهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كُلِّيَّةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا .
قَالَ ( وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَلَا يَنْتَقِلُ الْأَدَاءُ إلَى الذِّمَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ وَقْتُهُ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ بِوَقْتِهِ وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْوُقُوعِ وَكُلُّ فِعْلٍ لَمْ يَقَعْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَقَّتَ مُعَيَّنٌ بِوَقْتِهِ لَا يُفِيدُهُ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِوَقْتِهِ أَيْ وَقْتُهُ مُعَيَّنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بِمَكَانِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ .
قَالَ ( وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِانْتِقَالِ إلَى الذِّمَّةِ تَعَذُّرَ الْمُعَيَّنِ كَالزَّكَاةِ مَثَلًا مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَى الذِّمَّةِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إذْ تَعَذَّرَ فِيهَا الْأَدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا لِعُذْرٍ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي

الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ ) قُلْتُ تَسْوِيَتُهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ الْمُعَيَّنِ فَالْحَقُّ مُتَعَيِّنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ جُزْءٌ لِمُعَيَّنٍ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا فِعْلٌ وَالْأَفْعَالُ لَا تَعَيُّنَ لَهَا مَا لَمْ تَقَعْ .
قَالَ ( وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَضَاءِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْإِيقَاعِ أَوَّلُ الْوَقْتِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الزَّكَاةِ تَأَخُّرُ الْجَائِحَةِ عَنْ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرَةِ إلَى قَوْلِهِ وَلِذَلِكَ أَجْمَعْنَا فِي الْمُسَافِرِ يُقِيمُ وَالْمُقِيمُ يُسَافِرُ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْتِ قَالَ وَهَذَا الْفَرْقُ قَدْ خَالَفْنَاهُ أَيُّهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي صُورَتَيْنِ إحْدَاهَا فِي النَّقْدَيْنِ عِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ بِهِمَا عَلَى الذِّمَمِ وَإِنْ عُيِّنَتْ إلَّا أَنْ تَخْتَصَّ بِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ كَشُبْهَةٍ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ سِكَّةٍ رَائِجَةٍ دُونَ النَّقْدِ الْآخَرِ إلَى قَوْلِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ النَّقْضُ ) قُلْتُ السُّؤَالَانِ وَارِدَانِ وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خَفَاءَ بِبُطْلَانِهِ وَكَيْفَ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ الْتِزَامُ مَا لَا يَصِحّ وَلَا يُعْقَلُ وَمَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دِينَارًا مَلَكَ عَيْنَهُ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ الْجِنْسَ الْكُلِّيَّ وَهُوَ ذِهْنِيٌّ عِنْدَ مُثْبِتِيهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ نَافِيهِ يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دِينَارًا لَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ وَلَا جِنْسَهُ لِبُطْلَانِ الْقَوْلِ بِهِ فَيَلْزَمُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النُّقُودِ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَوْ يَقَعُ لِلشَّكِّ فِي أَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْأَجْنَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْمَعْقُولِ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ غَرَضٌ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْغَرَضُ مِنْ

الْأَغْرَاضِ الْمُعْتَادَةِ فَالصَّحِيحُ تَعَيُّنُ النَّقْدَيْنِ بِالتَّعْيِينِ وَلُزُومُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَفُوتَ فَيَلْزَمُ الْبَدَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الصُّورَةُ ( الثَّانِيَةُ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةُ الْفَرْقُ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا تَأَخَّرَ قَبْضُهُ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَمَرَةٍ يَتَأَخَّرُ جِذَاذُهَا أَوْ عَبْدٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمَّا كَانَتْ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا أَشْبَهَتْ الدَّيْنَ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا الْمُطَالَبَةَ وَقَالَ أَشْهَبُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ بَلْ دَيْنٌ مُعَيَّنٌ فِي مُعَيَّنٍ وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَطَّرِدُ الْفَرْقُ إنَّمَا مُخَالَفَتُهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا ) الَّذِي لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ هُوَ الْمُعَيَّنَاتُ الْمُشَخَّصَاتُ فِي الْخَارِجِ الْمَرْئِيَّةُ بِالْحِسِّ وَاَلَّذِي يَثْبُتُ فِيهَا هُوَ مَا عَدَاهَا وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَفِي الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَفِي قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَاعِدَةُ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ الْمَوْتِ لِمَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ يُوجِبُ فِي الْمُعَيَّنِ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَا يُوجِبُهُ فَإِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً مُعَيَّنَةً فَاسْتُحِقَّتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَوْ مَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي السَّلَمِ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ بَلْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِ مَا اُسْتُحِقَّ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ أَوْ غَيْرِهِ كَالرُّكُوبِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ مَاتَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِذَلِكَ فَعَطِبَتْ أَوْ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ بَلْ يُطَالِبُهُ بِغَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بَلْ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ شَاءَ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ قَاعِدَةُ التَّخْيِيرِ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ فَمَتَى كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَانَ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الْأَمْثَالِ وَيُعْطِي أَيَّ مِثْلٍ شَاءَ وَمَتَى كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَوْ اكْتَالَ رِطْلَ زَيْتٍ مِنْ خَابِيَةٍ وَعَقَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ مِنْ الْخَابِيَةِ وَإِذَا فَرَّقَ صُبْرَتَهُ صِيعَانًا فَعَقَدَ عَلَى صَاعٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ .
وَأَمَّا إذَا عَقَدَ عَلَى صَاعٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَوْ عَلَى رِطْلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسِ هَذَا الزَّيْتِ فَإِنَّ

الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَلَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِأَيِّ مِثْلٍ شَاءَ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعَيَّنَاتُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ وَمَا فِي الذِّمَمِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُشْتَرَكَةِ فَيَقْبَلُ مَا لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهَا الْبَدَلَ وَالْمُعَيَّنُ لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ .
وَأَمَّا فِي الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَفِي قَاعِدَةِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِانْتِقَالِ إلَى الذِّمَّةِ تَعَذُّرَ الْمُعَيَّنِ وَالصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا فِعْلٌ لَا تَعَيُّنَ لَهَا مَا لَمْ تَقَعْ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهَا وَقَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ مَعَ خُرُوجِ وَقْتِهَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ إذْ لَا يَصِحُّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ وَإِنْ تَعَيَّنَ بِتَعَيُّنِ وَقْتِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ بِتَعَيُّنِ وَقْتِهِ لَا يَقْتَضِي جَعْلَهُ مُعَيَّنًا بِمَكَانِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ وَالزَّكَاةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ الْمُعَيَّنِ لَا تَكُونُ إلَّا حَقًّا مُعَيَّنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ جُزْءٌ لِمُعَيِّنٍ فَلَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ مَا وُجِدَ نِصَابُهَا فَإِذَا تَلِفَ بِعُذْرٍ لَمْ يَنْتَقِلْ الْحَقُّ الْوَاجِبُ لِتَعَيُّنِهِ إلَى الذِّمَّةِ فَلَا يَضْمَنُ مَالِكُ النِّصَابِ حِينَئِذٍ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَإِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَضْمَنُ مَالِكُ النِّصَابِ حِينَئِذٍ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الضَّمَانِ تَأَخُّرُ الْجَائِحَةِ عَنْ زَمَنِ الْوُجُوبِ فِي الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرَةِ مَثَلًا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) هَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ خَالَفُوهُ فِي صُورَتَيْنِ .
الصُّورَةُ الْأُولَى قَوْلُهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ النَّقْدَانِ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ بِهِمَا عَلَى الذِّمَمِ وَإِنْ عُيِّنَتْ النُّقُودُ إلَّا أَنْ تَخْتَصَّ بِأَمْرٍ

يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ كَشُبْهَةٍ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ سِكَّةٍ رَائِجَةٍ دُونَ النَّقْدِ الْآخَرِ وَأَنَّهُ إذَا غَصَبَ غَاصِبٌ دِينَارًا مُعَيَّنًا فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ مِثْلَهُ فِي الْمَحَلِّ وَيَمْنَعَ رَبَّهُ مِنْ أَخْذِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ الْمَغْصُوبِ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ خُصُوصَاتِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَغْرَاضُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ إذْ لَا يَعْتَبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ إلَّا مَا فِيهِ نَظَرُهُ صَحِيحٌ وَيَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَكُونَ أَعْيَانُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَمْلُوكَةً أَيْضًا إذْ لَوْ كَانَتْ الْخُصُوصَاتُ مَمْلُوكَةً لَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُعَيَّنِ الْمُطَالَبَةُ بِمِلْكِهِ وَأَخْذُهُ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُشْتَرِي وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ لِلْغَاصِبِ الْمَنْعَ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي فِي الْعُقُودِ وَإِذَا لَمْ تُمْلَكْ أَعْيَانُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ الْمَمْلُوكُ إلَّا الْجِنْسَ الْكُلِّيَّ وَالْجِنْسُ الْكُلِّيُّ لَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ أَمَّا عَلَى قَوْلِ نَافِيهِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُثْبِتِهِ فَلِأَنَّهُ ذِهْنِيٌّ صِرْفٌ وَالذِّهْنِيُّ الصِّرْفُ لَا يَتَأَتَّى مِلْكُهُ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النُّقُودِ إمَّا أَنْ نَقْطَعَ بِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا عِنْدَ مَنْ يَنْفِي الْأَجْنَاسَ أَوْ يَقَعُ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْأَجْنَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْمَعْقُولِ وَلَا شَكَّ فِي شَنَاعَتِهِ فَلَا وَجْهَ لِالْتِزَامِهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ لِشَنَاعَتِهِ وَكَيْفَ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ الْتِزَامُ مَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْقَلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
قُلْتُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ الْجِنْسَ قَدْ يُعْتَبَرُ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ مِنْ تَشَخُّصٍ أَوْ كُلِّيَّةٍ فَيَتَحَقَّقُ أَفْرَادُهُ وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا مَرَّ التَّنْبِيهُ

عَلَيْهِ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النُّقُودِ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا أَوْ يَقَعُ الشَّكُّ فِي مِلْكِهِ وَعَدَمِهِ بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَالِكُ الْجِنْسِ الْمُتَحَقِّقِ فِي فَرْدٍ مَا فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ السُّؤَالُ الثَّانِي أَنَّهُمْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الصِّيعَانَ الْمُسْتَوِيَةَ مِنْ الصُّبْرَةِ وَالْأَرْطَالَ الْمُسْتَوِيَةَ مِنْ الزَّيْتِ تُمْلَكُ أَعْيَانُهَا وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ مَعَ أَنَّ الْأَغْرَاضَ مُسْتَوِيَةٌ فِي تِلْكَ الْأَفْرَادِ اسْتِوَاءَهَا فِي أَعْيَانِ النُّقُودِ وَقَوْلُ الْأَصْلِ إنَّ الصِّيعَانَ وَالْأَرْطَالَ الْمُسْتَوِيَةَ وَسَائِلُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ مِنْ السِّلَعِ وَالْمَقَاصِدِ إنَّمَا هِيَ السِّلَعُ فَتَقَعُ الْمُشَاحَنَةُ مِنْ تَعْيِينَاتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَقَاصِدُ وَالسِّلَعُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ الْأَغْرَاضُ بِأَفْرَادِهَا كَأَعْيَانِ النُّقُودِ إلَّا أَنَّ أَعْيَانَ النُّقُودِ تُفَارِقُهَا فِي أَنَّهَا وَسَائِلُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ مِنْ السِّلَعِ فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ كَوْنُهَا وَسَائِلَ وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْأَغْرَاضِ بِخِلَافِ السِّلَعِ فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا الثَّانِي فَقَطْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ فَرْقٌ لَا أَثَرَ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ غَرَضٌ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْغَرَضُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْمُعْتَادَةِ فَالصَّحِيحُ تَعَيُّنُ النَّقْدَيْنِ بِالتَّعَيُّنِ وَلُزُومِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَفُوتَ فَيَلْزَمُ الْبَدَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ فَتَأَمَّلْ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَمَرَةٍ يَتَأَخَّرُ جِذَاذُهَا أَوْ عَبْدٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمَّا كَانَتْ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا أَشْبَهَتْ الدَّيْنَ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا الْمُطَالَبَةَ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ

لِمَا فِي هَذَا الْفَرْقِ مِنْ أَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ دَيْنًا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ بَلْ دَيْنٌ مُعَيَّنٌ فِي مُعَيَّنٍ فَلَا مُخَالَفَةَ فَمِنْ هُنَا جَرَى عَمَلُ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ فَكَانَتْ لَهُ حَانُوتٌ سَاكِنٌ فِيهَا مُجَلِّدُ الْكُتُبِ وَكَانَ إذَا تَرَتَّبَ لَهُ أُجْرَةٌ فِي ذِمَّتِهِ يَسْتَأْجِرُهُ بِهَا عَلَى تَجْلِيدِ كُتُبِهِ وَيَقُولُ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ وَصَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى شَرْحِ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ التَّخْيِيرِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ وَلَمْ يُمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ وَعَدَمِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُودِ وَالسَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ ) وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ فِيهِ صُعُوبَةٌ وَغُمُوضٌ وَيَظْهَرُ لَك الْغُمُوضُ وَالصُّعُوبَةُ بِمَا وَرَدَ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ لَمَّا خَالَفُوا الشَّافِعِيَّةَ فَقَالُوا الْمُعْتَبَرُ مِنْ الْأَوْقَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ أَوَاخِرُهَا دُونَ أَوَائِلِهَا فَإِنْ وُجِدَ الْعُذْرُ الْمُسْقِطُ لِلصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ سَقَطَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فُعِلَتْ قَبْلَ طَرَيَان الْعُذْرِ .
وَلَا عِبْرَةَ بِمَا وُجِدَ مِنْ الْوَقْتِ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ سَالِمًا مِنْ الْعُذْرِ وَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ الْعُذْرُ آخِرَ الْوَقْتِ فَطَهُرَتْ الْحَائِضُ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِ الْعُذْرِ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ وَسَطَهُ وَالشَّافِعِيَّةُ سَلَّمُوا الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي الْأَوَّلِ فَقَالُوا أَجْمَعْتُمْ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الصَّلَاةِ وُجُوبٌ مُوَسَّعٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ وَإِذَا وُجِدَ أَوَّلُ الْوَقْتِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَسَبَبُهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَالْحَيْضِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَإِذَا حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاضَتْ بَعْدَ تَرَتُّبِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا فَتُقْضَى بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَنْتُمْ إذَا قُلْتُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ آخِرُ الْوَقْتِ فِي طَرَيَان الْعُذْرِ وَزَوَالِهِ فَهَذَا

مِنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مَذْهَبُ مَالِكٍ مُشْكِلًا جِدًّا أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَهُوَ الْقِيَاسُ وَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَمَّا مَالِكٌ فَلَا وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ السَّالِمَ عَنْ الْمُعَارِضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْيِيرٌ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
أَمَّا مَعَ التَّخْيِيرِ فَلَا لِسَبَبِ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْفُرُوقِ وَنُوَضِّحُهُ بِذِكْرِ نَظَائِرَ مِنْ الشَّرِيعَةِ : أَحَدُهَا أَنَّهُ إذَا بَاعَ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ فَلَهُ بَيْعُ بَقِيَّةِ الصِّيعَانِ وَبَقِيَّتُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَبَقِيَ صَاعٌ وَتَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَمْ يُنْقَلْ الصَّاعُ لِلذِّمَّةِ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الصُّبْرَةُ كُلُّهَا بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صِيعَانِ الصُّبْرَةِ وَهُوَ مُطْلَقُ الصَّاعِ فَتَصَرَّفَ بِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ فِيمَا عَدَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ وَأَتَتْ الْجَائِحَةُ عَلَى ذَلِكَ الصَّاعِ فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِي غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الْآفَةَ فِيهِ كَالْآفَةِ فِي الْجَمِيعِ كَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْوَقْتِ كَالصِّيعَانِ يَجِبُ مِنْهَا وَاحِدٌ فَقَطْ فَإِذَا تَصَرَّفَتْ الْمَرْأَةُ فِي ضَيَاعِ مَا عَدَا الْآخِرَ مِنْهَا بِالْإِتْلَافِ ثُمَّ طَرَأَ الْعُذْرُ فِي آخِرِهَا قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ وُجُودِ الْعُذْرِ فِي جَمِيعِهَا وَلَوْ وُجِدَ الْعُذْرُ فِي جَمِيعِهَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَرَّ التَّخْيِيرُ مَعَ الْعُذْرِ فِي الْأَخِيرِ وَبِالتَّخْيِيرِ حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ سَبَبِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فَإِذَا وُجِدَ أَوَّلًا سَالِمًا عَنْ

الْمُعَارِضِ فَأَتْلَفَهُ الْمُكَلَّفُ بِالضَّيَاعِ لَا يَضْمَنُ الصَّلَاةَ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ فَإِذَا وُجِدَ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ التَّخْيِيرُ وَعَدَمُهُ وَلَوْلَا التَّخْيِيرُ لَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فِي الصِّيعَانِ أَنْ يَقُولَ الْعَقْدُ اقْتَضَى مُطْلَقَ الصَّاعِ وَقَدْ وُجِدَ فِي صَاعٍ مِنْ الصِّيعَانِ الَّتِي تَعَدَّيْت عَلَيْهَا أَيُّهَا الْبَائِعُ وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْمَبِيعِ ضَمِنَهُ فَيَلْزَمُك أَيُّهَا الْبَائِعُ الضَّمَانُ وَلَمَّا كَانَ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ تُسَلِّطِي بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ صِيعَانِ الصُّبْرَةِ فِي تَوْفِيَتِهِ يَنْفِي عَنِّي الْعُدْوَانَ فِيمَا تَعَدَّيْت فِيهِ فَلَا أَضْمَنُ كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ تَقُولَ إنَّ تَسَلُّطِي عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ يَنْفِي عَنِّي وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنِّي جُعِلَ لِي أَنْ أُؤَخِّرَ وَأُعَيِّنَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ فَلَمَّا عَيَّنْتُهُ تَلِفَ بِالْحَيْضِ كَمَا تَلِفَ الصَّاعُ بِالْآفَةِ وَمَا سِرُّ ذَلِكَ إلَّا التَّخْيِيرُ ، وَثَانِيهَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَهُ رِقَابٌ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا عَدَا الْوَاحِدَ بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا رَقَبَةٌ مَاتَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالْعِتْقِ وَجَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ وَلَا نَقُولُ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ وَثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا بَلْ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالرَّقَبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ مَعَ الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الْأَخِيرِ يَقُومُ مَقَامَ حُصُولِ الْآفَةِ فِي جَمِيعِ الرِّقَابِ ابْتِدَاءً .
وَثَالِثُهَا لَوْ كَانَ لَهُ عِدَّةُ ثِيَابٍ لِلسُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا عَدَا الْوَاحِدَ مِنْهَا فَإِذَا وَهَبَ أَوْ بَاعَ وَخَلَّى وَاحِدًا مِنْهَا فَطَرَأَتْ عَلَيْهِ الْآفَةُ الْمَانِعَةُ لَهُ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَّى عُرْيَانًا مِنْ غَيْرِ إثْمٍ وَيَسْقُطُ

التَّكْلِيفُ بِالْكُلِّيَّةِ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ الْعُذْرِ فِي الْأَخِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْعُذْرِ فِي الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ وَرَابِعُهَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ الْمَاءِ لِطَهَارَتِهِ مِرَارًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَقَادِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالرِّقَابِ فَلَهُ هِبَةُ مَا عَدَا كِفَايَتَهُ فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِالْهِبَةِ بِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ ثُمَّ تَلِفَ الْمَاءُ الْآخَرُ الَّذِي اسْتَبَقَاهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْوُضُوءِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيِّ إثْمٍ وَقَامَ التَّصَرُّفُ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ الْآفَةِ فِي الْأَخِيرِ مَقَامَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي الْجَمِيعِ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ كَذَلِكَ هَا هُنَا يَقُومُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَوْقَاتِ الْأَوَّلِ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي الْأَخِيرِ مَقَامَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي جَمِيعِهَا .
وَخَامِسُهَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ صَاعَانِ مِنْ الطَّعَامِ لِزَكَاةِ الْفِطْرِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُطْلَقُ الصَّاعِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا عَدَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ فَإِذَا بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَتَرَكَ صَاعًا وَاحِدًا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِهِ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِهَا مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَأَشْبَهَ مَنْ جَاءَهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ أَلْبَتَّةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا اسْتَقْرَيْت الشَّرِيعَةَ تَجِدْ فِيهَا صُوَرًا كَثِيرَةً الْخِطَابُ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَيَقُومُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْبَعْضِ بِالْإِتْلَافِ بِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ فِي الْجَمِيعِ مَقَامَ التَّلَفِ فِي الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ صُورَةُ النِّزَاعِ فَعُلِمَ بِهَذِهِ النَّظَائِرِ

أَنَّ الْفَرْقَ فِي الشَّرْعِ وَاقِعٌ بَيْنَ وُجُودِ السَّبَبِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ التَّخْيِيرِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ مَعَ عَدَمِ التَّخْيِيرِ فَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَتَى وُجِدَ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ بَلْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَغَيْرِهِ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قِيَامِ الْمُعَارِضِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ السَّبَبِ وَبَيْنَ قِيَامِهِ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ فَهُوَ دَقِيقٌ وَهُوَ عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ .

( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ التَّخْيِيرِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ وَلَمْ يُمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ وَعَدَمِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُودِ وَالسَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ ) وَذَلِكَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْوَقْتِ كَاَلَّذِي بَيْنَ الزَّوَالِ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ إنَّمَا يَجِبُ مِنْهَا لِأَدَاءِ الظُّهْرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ فَقَطْ فَإِذَا تَصَرَّفَتْ الْمَرْأَةُ فِي ضَيَاعٍ مَا عَدَا الْآخِرَ مِنْهَا بِالْإِتْلَافِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا عُذْرُ الْحَيْضِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الْآخِرِ قَامَ وُجُودُ ذَلِكَ الْعُذْرِ فِيهِ مَقَامَ وُجُودِهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فَكَمَا أَنَّ وُجُودَهُ فِي جَمِيعِهَا يُسْقِطُ الصَّلَاةَ كَذَلِكَ وُجُودُهُ فِي الْجُزْءِ الْآخِرِ يُسْقِطُهَا إذْ مِنْ حُجَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ إنَّ تَسَلُّطِيِّ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ يَنْفِي عَنِّي وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنِّي جُعِلَ لِي أَنْ أُؤَخِّرَ وَأُعَيِّنَ مُطْلَقَ جُزْءٍ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ فَلَمَّا عَيَّنَهُ تَلِفَ بِالْحَيْضِ وَمَا سِرُّ ذَلِكَ إلَّا التَّخْيِيرُ هُنَا بِخِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إذَا وُجِدَ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْوُجُوبُ بِلَا تَخْيِيرٍ فَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةُ مِنْ الْأَوْقَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ أَوَاخِرُهَا دُونَ أَوَائِلِهَا .
فَإِنْ وُجِدَ الْعُذْرُ الْمُسْقِطُ لِلصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ سَقَطَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فُعِلَتْ قَبْلَ طَرَيَان الْعُذْرِ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا وُجِدَ مِنْ الْوَقْتِ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ سَالِمًا مِنْ الْعُذْرِ وَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ الْعُذْرُ آخِرَ الْوَقْتِ فَظَهَرَتْ الْحَائِضُ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَلَا

عِبْرَةَ بِوُجُودِ الْعُذْرِ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ وَسَطَهُ وَيَسْقُطُ مَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ وَافَقُوهُمْ فِي الشِّقِّ الثَّانِي وَخَالَفُوهُمْ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَقَالُوا إنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ أَجْمَعْتُمْ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الصَّلَاةِ وُجُوبٌ مُوَسَّعٌ مُتَعَلِّقٌ بِمُطْلَقٍ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ وَإِذَا وُجِدَ أَوَّلُ الْوَقْتِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَسَبَبُهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَالْحَيْضِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَإِذَا حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاضَتْ بَعْدَ تَرَتُّبِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا فَتُقْضَى بِعُذْرٍ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَنْتُمْ إذَا قُلْتُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ آخِرُ الْوَقْتِ فِي طَرَيَان الْعُذْرِ وَزَوْلِهِ فَهَذَا مِنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مَذْهَبُ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اعْتِبَارِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ مُشْكِلًا جِدًّا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَالْجَرْيُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ سَالِمًا عَنْ الْإِشْكَالِ وَبَيَانُ سُقُوطِهِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْتَبِرْ السَّبَبَ الْمُوجِبَ السَّالِمَ مِنْ الْمُعَارِضِ وَخَالَفَ أَصْلَهُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إذْ لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ كَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ بَلْ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ كَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمَّا حَيْثُ كَانَ مَعَ التَّخْيِيرِ كَمَا هُنَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ إلَّا إذَا تَعَيَّنَ

الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ بَيْنِ أَجْزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا بِفَوَاتِ مَا عَدَاهُ .
فَالْفَرْقُ فِي الشَّرْعِ وَاقِعٌ بَيْنَ وُجُودِ السَّبَبِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ عَدَمِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ لِتَحَقُّقِ شَرْطِ التَّرَتُّبِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّخْيِيرِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ مَعَ التَّخْيِيرِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ التَّرَتُّبِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّخْيِيرِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَحَدُهَا إذَا بَاعَ صَاعًا وَاحِدًا مِنْ صُبْرَةٍ فَتَصَرَّفَ بِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ فِيمَا عَدَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ بِبَيْعٍ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِي الصَّاعِ أَوْ نَحْوِهِ وَتَلِفَ الصَّاعُ الْبَاقِي بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَمْ يُنْقَلْ الصَّاعُ لِلذِّمَّةِ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الصُّبْرَةُ كُلُّهَا بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ صَاعٍ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صِيعَانِ الصُّبْرَةِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ مُقْتَضَى التَّخْيِيرِ فِيمَا عَدَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ كَانَتْ الْآفَةُ فِي الصَّاعِ الْوَاحِدِ حِينَئِذٍ كَالْآفَةِ فِي الْجَمِيعِ إذْ مِنْ حُجَّةِ الْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ إنَّ تَسَلُّطِي بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ صِيعَانِ الصُّبْرَةِ فِي تَوْفِيَتِهِ يَنْفِي عَنِّي الْعُدْوَانَ فِيمَا تَعَدَّيْتُ فِيهِ فَلَا أَضْمَنُ .
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ هُوَ التَّخْيِيرُ إذْ لَوْلَا التَّخْيِيرُ لَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْعَقْدُ اقْتَضَى مُطْلَقَ الصَّاعِ وَقَدْ وُجِدَ فِي صَاعٍ مِنْ الصِّيعَانِ الَّتِي تَعَدَّيْتُ عَلَيْهَا أَيُّهَا الْبَائِعُ وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْمَبِيعِ ضَمِنَهُ فَيَلْزَمُك أَيُّهَا الْبَائِعُ الضَّمَانُ وَثَانِيهَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَهُ رِقَابٌ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ فِيمَا عَدَا الْوَاحِدَ فَإِذَا تَصَرَّفَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا رَقَبَةٌ فَمَاتَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ

سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالْعِتْقِ وَجَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ ضَرُورَةَ التَّصَرُّفِ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الْأَخِيرِ يَقُومُ مَقَامَ حُصُولِ الْآفَةِ فِي جَمِيعِ الرِّقَابِ ابْتِدَاءً فَلِذَا لَمْ نَقُلْ تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ وَثَالِثُهَا إذَا كَانَ لَهُ عِدَّةُ ثِيَابٍ لِلسُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فِيمَا عَدَا وَاحِدًا مِنْهَا فَإِذَا تَصَرَّفَ وَأَبْقَى وَاحِدًا فَطَرَأَتْ عَلَيْهِ الْآفَةُ الْمَانِعَةُ لَهُ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَّى عُرْيَانًا غَيْرَ آثِمٍ وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالْكُلِّيَّةِ ضَرُورَةَ أَنَّ التَّصَرُّفَ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ الْعُذْرِ فِي الْأَخِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْعُذْرِ فِي الْجَمِيعِ وَرَابِعُهَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ الْمَاءِ لِطَهَارَتِهِ مِرَارًا فَلَهُ هِبَةُ مَا عَدَا كِفَايَتَهُ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَقَادِيرِ فَإِذَا وَهَبَهُ وَأَبْقَى كِفَايَتَهُ مِنْهُ فَتَلِفَ مَا أَبْقَاهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْوُضُوءِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ وَقَامَ التَّصَرُّفُ بِالتَّخْيِيرِ مَعَ الْآفَةِ فِي الْأَخِيرِ مَقَامَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي الْجَمِيعِ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ وَخَامِسُهَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ صَاعَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ الطَّعَامِ لِزَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَهُ التَّصَرُّفُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فِيمَا عَدَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ فَإِذَا بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَتَرَكَ صَاعًا وَاحِدًا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِهِ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قَبْلِهِ سَقَطَ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إذَا قُلْنَا إنَّ وُجُوبَهَا مُوَسَّعٌ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِهَا مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَاءَ وَقْتُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ أَلْبَتَّةَ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّصَرُّفُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ مَعَ الْآفَةِ فِي الْأَخِيرِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي الْجَمِيعِ فِي هَذِهِ النَّظَائِرِ وَنَحْوِهَا مِنْ الصُّوَرِ

الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَجِدُهَا فِي الشَّرِيعَةِ إذَا اسْتَقْرَيْتهَا كَذَلِكَ يَقُومُ تَفْوِيتُ غَيْرِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مَثَلًا بِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ مَعَ حُصُولِ الْعُذْرِ كَالْحَيْضِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مَقَامَ حُصُولِ الْعُذْرِ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ إذْ كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قِيَامِ الْمُعَارِضِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ السَّبَبِ وَبَيْنَ قِيَامِهِ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ هَذِهِ النَّظَائِرُ وَنَحْوُهَا مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ فَهُوَ دَقِيقٌ وَهُوَ عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي الْقَضَاءِ جُزْءَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَالْجُزْءُ الْآخَرُ خُصُوصُ الْوَقْتِ ) هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ مُلْتَبِسَتَانِ جِدًّا بِسَبَبِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ ، وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ الْفِعْلِ وَتَخْصِيصِهِ بِالزَّمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ ، وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى الْفِعْلُ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ إيجَابَ الْمُرَكَّبِ يَقْتَضِي إيجَابَ مُفْرَدَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدِ وَقَاعِدَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ فِيهِمَا أَنَّ تَخْصِيصَ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِأَفْعَالٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَصْلَحَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْفِعْلُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا بُدَّ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ مَعْنًى لَاحَظَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الزَّوَالِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ ، وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِيهِ مَعْنًى لَمْ نَعْلَمْهُ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَوْقَاتُ الْمُعَيَّنَةُ إنَّمَا خُصِّصَتْ بِالْعِبَادَةِ لِأَجْلِ مَصَالِحَ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ لَا يُشْرَعَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ دَلَّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ بِدَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ

أَمْرٌ دَالٌّ عَلَى الْقَضَاءِ .
قُلْنَا : الْأَصْلُ عَدَمُ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ وَمَعَ الْأَصْلِ لَفْظُ التَّخْصِيصِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَلَا تُفْعَلُ تِلْكَ الْعِبَادَةُ أَلْبَتَّةَ فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ دَلَّ الْأَمْرُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِمَّا يُقَارِبُ الْوَقْتَ الْأَوَّلَ فِي مَصْلَحَةِ الْوُجُوبِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِثْلِ مَصْلَحَتِهِ ، إذْ لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا لَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَحَيْثُ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فَمَنْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ قَالَ الْقَضَاءِ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ، وَمَنْ لَاحَظَ التَّسْوِيَةَ وَالْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا قَالَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .

قَالَ : ( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَا يُوجَبُ الْقَضَاءَ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي الْقَضَاءِ جُزْءَ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ ، وَالْجُزْءُ الْآخَرُ خُصُوصُ الْوَقْتِ .
هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ مُلْتَبِسَتَانِ جِدًّا بِسَبَبِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ ، وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ الْفِعْلِ وَتَخْصِيصِهِ بِالزَّمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى الْفِعْلُ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ إيجَابَ الْمُرَكَّبِ يَقْتَضِي إيجَابَ مُفْرَدَاتِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ مِنْهَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ وَغَيْرَ مَجْمُوعٍ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَغَيْرُ صَحِيحٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَبْقَى الْفِعْلُ وَاجِبًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ زَمَانُهُ لَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ، وَمَتَى قُدِّرَ انْفِكَاكُهُ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ ، وَلَيْسَ الزَّمَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ الْمُوقَعِ فِيهِ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ الثَّانِيَةِ فِي تَصَوُّرِ انْفِكَاكِ إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا مَعَ أَنَّهُ إذَا فُعِلَتْ رَكْعَةٌ مُنْفَرِدَةٌ لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْهَا إذَا فُعِلَتْ مَعَ أُخْرَى بِشَرْطِ

اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ نِيَّةٍ وَغَيْرِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فِي كَلَامِهِ هَذَا فِي هَذَا الْفَرْقِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَسَادِ لَا يَفُوهُ بِمِثْلِهَا مُحَصِّلٌ قَالَ : ( فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَقَاعِدَةِ إنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ ) .
قُلْت لَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى مُحَصِّلٍ ، وَيَحِقُّ إنْ كَانَ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ قَالَ ( وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ فِيهِمَا أَنَّ تَخْصِيصَ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِأَفْعَالٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَصْلَحَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْفِعْلُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَلَا بُدَّ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ مَعْنًى لَاحَظَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الزَّوَالِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ ، وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِيهِ مَعْنًى لَمْ نَعْلَمْهُ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى ) .
قُلْت : رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَقْلًا فَيَجُوزُ عَقْلًا شَرْعُ أَمْرٍ مَا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فِيهِ إلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوَابِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْمَصَالِحِ الْمَنَافِعَ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُنْيَوِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْمَنَافِعَ الدُّنْيَوِيَّةَ خَاصَّةً فَذَلِكَ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْعَقْلِ لَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ ، وَقَدْ دَلَّتْ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فَأَمَّا رِعَايَتُهَا فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فَلَا أَعْلَمُ قَاطِعًا فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَتْ رِعَايَةُ الشَّارِعِ الْمَصَالِحَ بِحُكْمٍ مِنْهُ شَرْعِيٍّ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ

لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ الْأَوْقَاتُ الْمُعَيَّنَةُ إنَّمَا خُصِّصَتْ بِالْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ مَصَالِحَ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ لَا يُشْرَعَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ دَالٌّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ بِدَلِيلِ التَّخْصِيصِ ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لِعَدَمِ الْقَاطِعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي كُلِّ تَعَبُّدِيٍّ قَالَ ( فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَمْرٌ دَالٌّ عَلَى الْقَضَاءِ ، قُلْنَا الْأَصْلُ عَدَمُ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ ، وَمَعَ الْأَصْلِ لَفْظُ التَّخْصِيصِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَلَا تُفْعَلُ تِلْكَ الْعِبَادَةُ أَلْبَتَّةَ ) قُلْت : مَا قَالَهُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَاهُ عُمُومَ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِقَاطِعٍ فَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ ( فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ دَلَّ الْأَمْرُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِمَّا يُقَارِبُ الْوَقْتَ الْأَوَّلَ فِي مَصْلَحَةِ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِثْلِ مَصْلَحَتِهِ إذْ لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا لَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَحَيْثُ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ) .
قُلْت مَا قَالَهُ مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَى قَالَ ( فَمَنْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ قَالَ الْقَضَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ، وَمَنْ لَاحَظَ التَّسْوِيَةَ وَالْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا قَالَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ) .
قُلْت : مَا أَرَى مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لَاحَظَ ذَلِكَ الْفَرْقَ بَلْ لَاحَظَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ فَلَا بُدَّ فِي شَرْعِ الْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَا أَرَاهُ أَيْضًا يَقُولُ إنَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ لَفْظًا بَلْ قِيَاسًا عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي الذِّمَمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي الْقَضَاءِ جُزْءَ الْأَوَّلِ ، وَالْجُزْءُ الْآخَرُ خُصُوصُ الْوَقْتِ ) قَالَ : الْأَصْلُ أَنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ فِيهِمَا بِسَبَبِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ الْفِعْلِ وَتَخْصِيصِهِ بِالزَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِأَفْعَالٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ لَمَّا كَانَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَصْلَحَةٍ ، وَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ كَانَ لَفْظُ تَخْصِيصِهِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي غَيْرِهِ فَلَا تُفْعَلُ تِلْكَ الْعِبَادَةُ أَلْبَتَّةَ فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ دَلَّ الْأَمْرُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِمَّا يُقَارِبُ الْوَقْتَ الْأَوَّلَ فِي مَصْلَحَةِ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِثْلِ مَصْلَحَتِهِ إذْ لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا لَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَحَيْثُ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ، وَبُنِيَ هَذَا الْفَرْقُ عَلَى أَمْرَيْنِ : الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَاعِدَةِ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ هُوَ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا كَانَ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ أَمْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرًا بِالْعِبَادَةِ وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ ، وَذَهَبَ الْجُزْءُ الثَّانِي وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَبْقَى الْفِعْلُ وَاجِبًا .
الْأَمْرُ الثَّانِي اطِّرَادُ قَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ لِوُجُوبِ

رِعَايَتِهَا عَقْلًا فِي كُلِّ فِعْلٍ وَلَوْ تَعَبُّدِيًّا ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا أَنَّ فِيهِ مَعْنًى لَمْ نَعْلَمْهُ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى .
وَقَالَ وَقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ بَلْ الْقَضَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الْمُلَاحِظِينَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ قَوْلُ مَنْ لَاحَظَ التَّسْوِيَةَ وَالْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : وَفِي كَلَامِهِ هَذَا فِي هَذَا الْفَرْقِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَسَادِ لَا يَفُوهُ بِمِثْلِهَا مُحَصِّلٌ : الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْقَاعِدَةِ الْأُولَى أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا ، بَلْ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ مِنْهَا .
الضَّرْبُ الثَّانِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ زَمَانُهُ لَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَتَى قُدِّرَ انْفِكَاكُهُ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الزَّمَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ الْمُوقَعِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فُعِلَتْ رَكْعَةٌ مُفْرَدَةٌ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْهَا إذَا فُعِلَتْ مَعَ أُخْرَى بِشَرْطِ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ نِيَّةٍ وَغَيْرِهَا .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اطِّرَادُ قَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِمَعْنَى الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ رِعَايَتَهَا بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْعَقْلِ لَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ ، وَالدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى رِعَايَتِهَا فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ

وَالْمَنْهِيَّاتِ إذْ لَا نَعْلَمُ قَاطِعًا فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَتْ رِعَايَةُ الشَّارِعِ الْمَصَالِحَ بِحُكْمٍ مِنْهُ شَرْعِيٍّ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَجُوزُ عَقْلًا شَرْعُ أَمْرٍ مَا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فِيهِ إلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوَابِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَةُ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ مُطَّرِدَةً إلَّا إذَا أُرِيدَ بِالْمَصَالِحِ الْمَنَافِعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَافْهَمْ .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِأَفْعَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَصْلَحَةٍ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ يَدُلُّ لَفْظُ تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى عَدَمِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي غَيْرِهِ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ دَلَّ الْأَمْرُ الثَّانِي إلَخْ لَيْسَ بِصَحِيحَيْنِ إلَّا عَلَى تَسْلِيمِ دَعْوَى عُمُومِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِقَاطِعٍ .
الضَّرْبُ الْخَامِسُ أَنَّ مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ الْفَرْقَ بَلْ لَاحَظَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ فَلَا بُدَّ فِي شَرْعِ الْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَا يَقُولُ إنَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ لَفْظًا بَلْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي الذِّمَمِ ا هـ .
كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ شَرْحِ الْمَحَلِّيِّ مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مُؤَقَّتٍ يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ لَهُ إذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي وَقْتِهِ لِإِشْعَارِ الْأَمْرِ بِطَلَبِ اسْتِدْرَاكِهِ أَيْ الْفِعْلِ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْفِعْلُ أَيْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ .
وَقَالَ الْأَكْثَرُ

الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ كَالْأَمْرِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ { إذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } ، وَالْقَصْدُ مِنْ الْأَمْرِ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ لَا مُطْلَقًا ا هـ .
وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّا إذَا تَعَقَّلْنَا صَوْمًا مَخْصُوصًا وَقُلْنَا : صُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَقَدْ تَعَقَّلْنَا أَمْرَيْنِ وَتَلَفَّظْنَا بِلَفْظَيْنِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقَانِ عَلَيْهِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا مِثْلِ صَوْمِ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ جَعَلَ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْئَانِ فَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي جَعَلَ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا انْتَفَى سَقَطَ الْمَأْمُورُ بِهِ ثُمَّ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَيْئَانِ أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمَعْنَيَانِ نَاظِرِينَ إلَى اخْتِلَافٍ فِي أَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ تَرَكُّبَ الْمَاهِيَّةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَتَمَايُزَهُمَا هَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْخَارِجِ أَوْ مُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ كَانَ الْمُطْلَقُ وَالْقَيْدُ شَيْئَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ، وَهُوَ الْحَقُّ كَانَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَيْئًا وَاحِدًا كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْعَضُدِ ، وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمَحَلِّيُّ بِقَوْلِهِ وَالْقَصْدُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إلَخْ مِنْ رَدِّ قَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْفِعْلُ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْكَوْنَ فِي الْوَقْتِ بِهِ كَمَالُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ بَقَاءَ الْوُجُوبِ مَعَ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى

إذَا انْفَرَدَ بِهِ الطَّلَبُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَطْلُوبُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ انْتَفَى بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ أَفَادَهُ الشِّرْبِينِيُّ قَالَ الْعَطَّارُ : وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَحَلِّيُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قَصْدًا بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالتَّتِمَّةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْقَضَاءِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ا هـ .
قُلْت وَمِنْهُ يُعْلَمُ أُمُورٌ : الْأَمْرُ الْأَوَّلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ جَمِيعَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ ضُرُوبِ الْفَسَادِ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى مِنْ اسْتِلْزَامِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مَبْنِيَّةٌ كَقَوْلِ الرَّازِيّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ شَيْئَانِ مُتَمَايَزَانِ تَمَايُزَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ بِحَسَبِ الْخَارِجِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ .
وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمَعْنَيَانِ ، وَيَتَمَيَّزَانِ فِيهِ تَمَيُّزَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ بِهِ وَيَكُونُ سِرُّ هَذَا الْفَرْقِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ .
الْأَمْرُ الثَّانِي انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ عَنْ كَلَامِ الْأَصْلِ إذْ لَا يَتَّجِهُ عَدَمُ صِحَّةِ قَاعِدَةِ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا إلَّا إذَا قُلْنَا بِبِنَائِهَا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، أَمَّا إذَا بَنَيْنَاهَا عَلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ فَلَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الثَّانِي أَيْضًا حَيْثُ بُنِينَا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْئَانِ لَا شَيْءٌ وَاحِدٌ إذْ لَا يَتِمُّ قِيَاسُ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى كَوْنِهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ

هِيَ نَفْسُ الصُّبْحِ إلَّا إذَا بُنِيَتْ تِلْكَ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَافْهَمْ .
الْأَمْرُ الرَّابِعُ انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ إذْ لَا يَتَوَجَّهَانِ إلَّا إذَا أُرِيدَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ غَيْرُ الْكَوْنِ فِي الْوَقْتِ أَمَّا إذَا أُرِيدَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ هِيَ الْكَوْنُ فِي الْوَقْتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلْكَوْنِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا فَلَا يَتَوَجَّهَانِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى اطِّرَادِ قَاعِدَةِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِمَعْنَى الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ خَاصَّةً حِينَئِذٍ هُوَ أَنَّا نَعْتَبِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ جَمِيعِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ بِوَقْتٍ وَنَحْوِهِ هُوَ مَصْلَحَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَا أَنَّ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَصْلَحَةً لَمْ نَعْلَمْهَا حَتَّى يُقَالَ لَمْ يَرِدْ بِعُمُومِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ قَاطِعٌ نَعَمْ لَا يُسَاعِدُ هَذَا الدَّفْعَ كَلَامُ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مَصْلَحَةٌ لَمْ نَعْلَمْهَا فَافْهَمْ .
الْأَمْرُ الْخَامِسُ انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الْخَامِسِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ بِأَنْصَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ التِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ الصَّلَوَاتِ وَشُرُوطِهَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا وَتَفَقُّدُهَا وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا ) اعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّكْلِيفِ وَشُرُوطَهُ وَانْتِفَاءَ مَوَانِعِهِ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إجْمَاعًا إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ فَتَجِبُ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا تَجِبُ أَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ تَحْصِيلِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُحَصِّلَ نِصَابًا حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهَا وَلَا يُوفِيَ الدَّيْنَ لِغَرَضِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْهَا ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ هَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَتَقْتَضِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْنَا الْفَحْصُ عَنْ أَسْبَابِ الصَّلَوَاتِ وَلَا أَسْبَابِ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ انْقَسَمَتْ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْفَحْصُ ، وَقِسْمٌ لَا يَجِبُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاعِدَةٌ تَخُصُّهُ .
وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَالضَّابِطُ لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ تَارَةً يَقْتَضِي الْحَالُ فِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَرَيَان سَبَبِهِ وَتَرَتُّبِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِ جَزْمًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ .
وَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْفِعْلِ قَطْعًا فَهَذَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ كَانَ شَرْطًا أَوْ سَبَبًا بِسَبَبِ أَنَّهُ لَوْ أُهْمِلَ لَوَقَعَ التَّكْلِيفُ .
وَالْمُكَلَّفُ غَافِلٌ عَنْهُ فَيَعْصِي بِتَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ ، وَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَا عُذْرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ مَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ كَانَ

شَرْطًا أَوْ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ ، وَمِنْهُ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَهِلَالُ رَمَضَانَ وَهِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَهِلَالُ شَوَّالٍ لِوُجُوبِ الْفِطْرِ وَإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ وَأَيَّامُ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا أَوْ شَهْرًا مُعَيَّنًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ هِلَالِ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَتَحَرِّي ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يُوقِعَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ وَلَا يَتَعَدَّاهُ فَيَعْصِيَ بِالْإِهْمَالِ مَعَ إمْكَانِ الضَّبْطِ لَهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَضَاءُ رَمَضَانَ يَسُدُّ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ إلَى شَعْبَانَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أَخَّرَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْأَهِلَّةَ لِئَلَّا يَدْخُلَ شَعْبَانُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى ضَيَاعِ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ .
أَمَّا مَا لَا يَتَعَيَّنُ وُقُوعُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالظُّرُوفِ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ الْأَصْلُ عَدَمُ طَرَيَانِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً لِلْمُكَلَّفِ وَعُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ فَقِيرًا وَلَهُ أَقَارِبُ أَغْنِيَاءُ وَهُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمْ فَيَرِثَهُ فَيَنْتَقِلَ الْمَالُ إلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِإِغْفَالِ ذَلِكَ وَتَرْكِ السُّؤَالِ عَنْهُ إذَا كَانُوا فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَنْهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، وَلَوْ فَحَصَ لَحَازَ الْمَالَ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ هَذَا ، فَقَدْ يَقَعُ ، وَقَدْ لَا يَقَعُ وَمِنْ ذَلِكَ تَجْوِيزُهُ لَأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَائِعٌ يَجِبُ سَدُّ خَلَّتِهِ وَعُرْيَانُ يَجِبُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَغَرِيقٌ يَجِبُ رَفْعُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَوَقَّعَاتِ .
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ دَالَّةٌ عَلَى وُقُوعِهِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ،

وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَهَذَا هُوَ ضَابِطُ مَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَضَابِطُ مَا لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَاعْلَمْ ذَلِكَ وَاعْتَمِدْ عَلَيْهِ .
.
قَالَ ( الْفَرْقُ التِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ الصَّلَوَاتِ وَشُرُوطِهَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَشْيَاءَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ لَا تَخُصُّ كُلَّ مُكَلَّفٍ وَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ .

.
الْفَرْقُ التِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ الصَّلَوَاتِ وَشُرُوطِهَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا وَتَفَقُّدُهَا وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا ) فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ أَسْبَابِ التَّكْلِيفِ بِهَا وَشُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُحَصِّلَ نِصَابًا حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهَا ، وَلَا أَنْ يُوفِيَ الدَّيْنَ لِغَرَضِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْهَا ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ تَحْصِيلِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ .
ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ فَتَجِبُ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا تَجِبُ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ بِاعْتِبَارِ تَعْيِينِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا أَوْ شُرُوطِهَا وَعَدَمِ تَعْيِينِ وُقُوعِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ طَرَيَان مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهَا جَزْمًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ كَالزَّوَالِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِرَمَضَانَ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ وَلِشَوَّالٍ لِوُجُوبِ فِطْرِهِ وَإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ وَلِذِي الْحِجَّةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَكَأَيَّامِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِمَا فَهَذَا الْقِسْمُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ تَحْصِيلُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ كَانَ شَرْطًا أَوْ سَبَبًا بِسَبَبِ أَنَّهُ لَوْ أُهْمِلَ لَوَقَعَ التَّكْلِيفُ ، وَالْمُكَلَّفُ غَافِلٌ عَنْهُ فَيَعْصِي بِتَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ ، وَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ قَضَاءُ رَمَضَانَ يَسُدُّ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ إلَى شَعْبَانَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أَخَّرَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْأَهِلَّةَ لِئَلَّا يَدْخُلَ شَعْبَانُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَيُؤَدِّي

ذَلِكَ إلَى ضَيَاعِ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا أَوْ شَهْرًا مُعَيَّنًا أَنْ يَفْحَصَ عَنْ هِلَالِ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَيَتَحَرَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يُوقِعَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ وَلَا يَتَعَدَّاهُ فَيَعْصِي بِالْإِهْمَالِ مَعَ إمْكَانِ الضَّبْطِ لَهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَتَعَيَّنُ وُقُوعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهَا مِنْ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا فَقَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُ وُقُوعِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ فَقِيرًا ، وَلَهُ أَقَارِبُ أَغْنِيَاءُ فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَنْهُ ، وَهُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمْ فَيَرِثَهُ فَيَنْتَقِلَ الْمَالُ إلَيْهِ فَيَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَهَذَا الْقِسْمُ كَمَا لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهِ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ إغْفَالُ ذَلِكَ وَتَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ فَحَصَ لَحَازَ الْمَالَ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ وَكَوْنَ الْأَصْلِ عَدَمُ وُقُوعِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلْمُكَلَّفِ وَعُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا هُوَ ضَابِطُ مَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ ، وَضَابِطُ مَا لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ وَاعْتَمِدْ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَزِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَادَةِ لَهَا مَزِيَّةٌ تَخْتَصُّ بِهَا أَنْ تَكُونَ أَرْجَحَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّةُ ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَلَّى الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ أَقْبَلَ فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالصَّلَاةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ لَهُ اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى } فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَهَابُهَا وَيَهَابُهُمَا فَيَكُونَانِ أَفْضَلَ مِنْهَا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا وَسِيلَتَانِ إلَيْهَا ، وَالْوَسَائِلُ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْمَقَاصِدِ وَأَيْنَ الصَّلَاةُ مِنْ الْإِقَامَةِ وَالْأَذَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عُمَّالِهِ أَنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ ، وَلَنَا هَاهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْمَزِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَفْضُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ لِلْفَاضِلِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَفْضُولِ ، إمَّا أَنَّهُ حَصَلَ لِلْمَفْضُولِ فِي الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لَهُ خَصْلَةٌ لَيْسَتْ فِي مَجْمُوعِ الْفَاضِلِ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ فَقِيرٌ عِنْدَهُ ابْنَةٌ حَسْنَاءُ أَوْ تُحْفَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَ مَلِكِهَا .
وَمَجْمُوعُ مَا حَصَلَ لِلْمَلِكِ قَدْرُ مَا حَصَلَ لِذَلِكَ الْفَقِيرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ

مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْ أُبَيٍّ وَزَيْدٍ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَضَلَاهُ فِي الْفَرَائِضِ وَالْقِرَاءَةِ ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَفْضُولِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْفَاضِلِ ، وَمِنْ ذَلِكَ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ مَا سَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا وَلَا فَجًّا إلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ } فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ عُمَرَ وَلَا يُلَابِسُهُ ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ { عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَدْ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانُ الْبَارِحَةَ لِيُفْسِدَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَلَوْلَا أَنِّي تَذَكَّرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ لَرَبَطْته بِسَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَلْعَبَ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ } فَلَمْ يَنْفِرْ الشَّيْطَانُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا نَفَرَ مِنْ عُمَرَ وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ { أَنَّ شَيْطَانًا قَصَدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ } وَأَيْنَ عُمَرُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَفْضُولِ مَا لَا يَحْصُلُ لِلْفَاضِلِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَدْ حَصَلَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْفَاسِ يُلْهَمُ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ أَحَدُنَا النَّفَسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا الَّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِلْبَشَرِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْحَاصِلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْمَزَايَا وَالْمَحَاسِنِ أَعْظَمُ مِنْ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِلْمَلَائِكَةِ فَمَنْ اسْتَقْرَى هَذَا وَجَدَهُ كَثِيرًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَيَجِدُ فِي الشَّعِيرِ مِنْ الْخَوَاصِّ الطَّيِّبَةِ مَا لَيْسَ فِي الْبُرِّ وَفِي

النُّحَاسِ مَا لَيْسَ فِي الذَّهَبِ مِنْ الْخَوَاصِّ النَّافِعَةِ بِالْإِكْحَالِ وَغَيْرِهَا فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَخَرَّجَتْ الْإِقَامَةُ وَالْأَذَانُ ، وَأَنَّ مِنْ خَوَاصِّهِمَا الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْهُمَا دُونَ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَفْضُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ فَظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَزِيَّةِ
قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَزِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَبَيْن قَاعِدَةِ الْمَزِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمَفْضُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِخَصْلَةٍ لَيْسَتْ فِي الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِلْفَاضِلِ مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَحِينَئِذٍ فَقَاعِدَةُ الْأَفْضَلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ لِلْفَاضِلِ مِنْ الْفَضَائِلِ دُونَ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِلْمَفْضُولِ ، وَقَاعِدَةُ الْمَزِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِخَصْلَةٍ لَمْ تَحْصُلْ فِي مَجْمُوعِ الْفَاضِلِ ، وَمَنْ اسْتَقْرَى ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَجَدَ لَهُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً مِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَلَّى الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ أَقْبَلَ فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالصَّلَاةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ لَهُ اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى } ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَهَابُهَا وَيَهَابُهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا وَسِيلَتَانِ إلَيْهَا ، وَالْوَسَائِلُ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْمَقَاصِدِ ، وَأَيْضًا أَيْنَ هِيَ مِنْهُمَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عُمَّالِهِ أَنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْ أُبَيٍّ وَزَيْدٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَضَلَاهُ

فِي الْفَرَائِضِ وَالْقِرَاءَةِ ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَفْضُولِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْفَاضِلِ وَمِنْهَا { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ مَا سَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا وَلَا فَجًّا إلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ } فَأَخْبَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ عُمَرَ وَلَا يُلَابِسُهُ ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ { عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَدْ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانُ الْبَارِحَةَ لِيُفْسِدَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَلَوْلَا أَنِّي تَذَكَّرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ لَرَبَطْته بِسَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَلْعَبَ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ } ، وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ { أَنَّ شَيْطَانًا قَصَدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ فَلَمْ يَنْفِرْ الشَّيْطَانُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا نَفَرَ مِنْ عُمَرَ وَأَيْنَ عُمَرُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ } غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَفْضُولِ مَا لَا يَحْصُلُ لِلْفَاضِلِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَقَدْ حَصَلَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْفَاسِ يُلْهَمُ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ أَحَدُنَا النَّفَسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا الَّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِلْبَشَرِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْحَاصِلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْمَزَايَا وَالْمَحَاسِنِ أَعْظَمُ مِنْ الْمَجْمُوعِ الْحَاصِلِ لِلْمَلَائِكَةِ وَمِنْهَا مَا مَرَّ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِي مَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ الْعَمَلِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي مَزِيدِ الْمُضَاعَفَةِ فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا الْمُضَاعَفَةُ ، وَمِنْهَا أَنَّ فِي الشَّعِيرِ مِنْ الْخَوَاصِّ الطَّيِّبَةِ مَا لَيْسَ

فِي الْبُرِّ وَفِي الْخَوَاصِّ النَّافِعَةِ بِالْحَالِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي الذَّهَبِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ فَقِيرٌ عِنْدَهُ ابْنَةٌ حَسْنَاءُ أَوْ تُحْفَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَ مَلِكِهَا ، وَمَجْمُوعُ مَا حَصَلَ لِلْمَلِكِ قَدْرُ مَا حَصَلَ لِذَلِكَ الْفَقِيرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَبِالْجُمْلَةِ فَبِسَبَبِ قَاعِدَةِ أَنَّ الْمَفْضُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَانْدَفَعَ التَّنَاقُصُ فِي مِثْلِ كَوْنِ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْهُمَا دُونَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَائِدَةٌ ) ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ بَابَا التنبكتي فِي نَيْلِ الِابْتِهَاجِ آخِرَ تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدُوسِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّصَّاعِ أَنَّ صَاحِبَ التَّرْجَمَةِ كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ مِنْ تُونُسَ مِمَّا جُرِّبَ لِتَسْهِيلِ الرِّزْقِ وَالْأَمَانِ وَالتَّحَصُّنِ مِنْ آفَاتِ الزَّمَانِ أَنْ تَكْتُبَ فِي وَرَقَةٍ ، وَيُجْعَلَ عَلَى الرَّأْسِ مَنَاقِبَ السَّادَاتِ الْكِرَامِ مِنْ الصَّحَابَةِ جَمَعَهُمْ مِنْ كُتُبٍ عَدِيدَةٍ أَثْنَى عَلَيْهِمْ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرَّصَّاعُ : وَقَدْ قَيَّدْتهَا قَدِيمًا وَوَجَدْت لَهَا بَرَكَاتٍ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهِيَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَدْ اسْتَضَاءَ بِنُورِ اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أَلَا وَإِنَّ أَرْأَفَ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّ أَقْوَاهُمْ صَلَابَةً فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِنَّ أَشَدَّهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَإِنَّ أَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي

الزُّبَيْرُ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَحْبَابِ الرَّحْمَنِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَدُورُ مَعَ الْحَقِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تَاجِرُ اللَّهِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَمِينُ اللَّهِ وَمَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ وَلَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى زُهْدِ عِيسَى فَلْيَنْظُرْ إلَى زُهْدِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى لِرِضَا سَلْمَانَ وَيَسْخَطُ لِسُخْطِ سَلْمَانَ وَإِنَّ الْجَنَّةَ لَتَشْتَاقُ إلَى سَلْمَانَ أَشَدَّ مِنْ اشْتِيَاقِ سَلْمَانَ إلَى الْجَنَّةِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ حَلِيمٌ وَحَلِيمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنْ أَصْفِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَإِنَّ أَقْرَأَ أُمَّتِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَحَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ .
وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفُ اللَّهِ وَسَيْفُ رَسُولِهِ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ يَطِيرُ بِهِمَا فِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا وَالْعَبَّاسُ عَمِّي وَصِنْوُ أَبِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةٍ أَوْ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ وَلِكُلِّ نَبِيٍّ خَادِمٌ وَخَادِمِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَلِكُلِّ نَبِيٍّ خَلِيلٌ وَخَلِيلِي سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ فَارِسٌ وَفَارِسُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بِلَالٌ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا أَبُو الدَّحْدَاحِ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ تُصَافِحُهُ الْمَلَائِكَةُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَرِدُ حَوْضِي صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ

الصِّدِّيقِينَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ وُفُودِ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ آسِيَةُ وَمَرْيَمُ وَخَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ وَنِسَائِي خَيْرُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَحَبُّهُنَّ إلَيَّ عَائِشَةُ وَأَصْحَابِي كُلُّهُمْ كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَمَنْ أَحَبَّ أَصْحَابِي فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَ أَصْحَابِي فَقَدْ أَبْغَضَنِي أَلَا وَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } .
هَذِهِ وَصِيَّةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَادَاتِنَا نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ وَنَرْغَبُ مِنْ حَامِلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ نُسَخًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّلَامُ مِنْ كَاتِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ الرَّصَّاعِ ا هـ .
نَقَلْته مِنْ خَطِّ وَالِدِي قَائِلًا نَقَلْته مِنْ خَطِّ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ قَالَ نَقَلْته مِنْ خَطِّ الرَّصَّاعِ وَقَدْ رَأَيْت لِعَمِّي نَزِيلِ الْمَدِينَةِ الْحَاجِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ شَرْحًا عَلَى هَذِهِ الْمَنَاقِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ ا هـ بِلَفْظِهِ

.
( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ ) اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ .
وَهَذَا إنَّمَا يَحْسُنُ مِنْ أَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فِيهَا الْعُقُوبَاتُ ، أَمَّا الْمَكْرُوهَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِغْفَارُ فِيهَا لِعَدَمِ الْعُقُوبَاتِ فِي فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا ، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَوَقَعَ لَهُ أَيْضًا ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْإِقَامَةِ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَلَّابُ وَالتَّهْذِيبُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاقِبُ عَلَى الذَّنْبِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا الْمُؤْلِمَاتُ كَالنَّارِ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْغَالِبُ فِي ذَلِكَ .
وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْعَاصِي عُقُوبَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } فَجَعَلَ الْعُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } الْآيَةَ فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الرِّدَّةَ مُسَبَّبَةً عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الرِّدَّةِ ، وَقَوْلُهُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ الرَّجُلَ لَيُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِ } .
وَثَالِثُهَا تَفْوِيتُ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

وقَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } { إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى سَلْبِ الْفَلَاحِ وَالْخَيْرِ بِسَبَبِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ ، وَكَمَا يُعَاقِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ يُثِيبُ أَيْضًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا الْأُمُورُ الْمُسْتَلَذَّةُ كَمَا فِي الْجَنَّاتِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا .
وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الطَّاعَاتِ فَيَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ مَثُوبَتَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } فَجَعَلَ الْيُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْإِعْطَاءِ وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ .
وَثَالِثُهَا تَعْسِيرُ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ وَصَرْفُهَا عَنْهُ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ دَلَّ هَذَا الْحِرْمَانُ عَلَى أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَعَاصٍ سَابِقَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَفَوَاتُ الطَّاعَةِ مُصِيبَتُهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ فَإِنَّ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ طَيِّبَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُوجِبُ لِقَائِلِهَا ثَوَابًا سَرْمَدِيًّا خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ إصَابَةِ شَوْكَةٍ أَوْ غَمٍّ يَغُمُّهُ فِي فَلَسٍ يَذْهَبُ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الطَّاعَاتِ مُسَبَّبًا عَنْ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ فَحِينَئِذٍ إذَا رَأَى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ ، فَالِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ تَرْكِ الْإِقَامَةِ لِأَجْلِ غَيْرِهَا لَا أَنَّهُ لَهَا ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَنْدُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّرْكُ

مِنْ ذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِأَجْلِ هَذِهِ التُّرُوكِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ أَمْرِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَأَنَّهَا فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِهَا مُطَابِقَةٌ وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَجْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا أَنَّهُ لَهَا مُطَابَقَةٌ .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تُحَلُّ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ مِمَّا وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَيُشْكِلُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ، وَلَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ وَالْبَيَانِ .
.
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ ) قُلْت : وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ .

( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَا يَحْسُنُ فِيمَا لَيْسَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ الْعُقُوبَاتُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِيمَا فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ الْعُقُوبَاتُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُعَاقِبُ عَلَى الذَّنْبِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَيُثِيبُ عَلَى الطَّاعَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا أَمَّا ثَلَاثَةُ الْعِقَابِ فَأَحَدُهَا الْمُؤْلِمَاتُ كَالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي ذَلِكَ وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْعَاصِي عُقُوبَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الْعُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الرِّدَّةَ مُسَبَّبَةً عَنْ الْمَعْصِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } الْآيَةَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ إشَارَةً إلَى الرِّدَّةِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ الرَّجُلَ لَيُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِ } وَثَالِثُهَا تَفْوِيتُ الطَّاعَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى سَلْبِ الْفَلَاحِ وَالْخَيْرِ بِسَبَبِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } { إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَأَمَّا ثَلَاثَةُ

الثَّوَابِ فَأَحَدُهَا الْأُمُورُ الْمُسْتَلَذَّاتُ كَمَا فِي الْجَنَّاتِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الطَّاعَاتِ فَيَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ مَثُوبَتَانِ فَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الْيُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْإِعْطَاءِ وَمَا مَعَهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَثَالِثُهَا تَعْسِيرُ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ وَصَرْفُهَا عَنْهُ وَكَانَ نِسْيَانُ الْإِنْسَانِ الْأَذَانَ أَوْ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ فَيُحْرَمُ ثَوَابَهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ سِيَّمَا وَكَلِمَاتُ الْأَذَانِ طَيِّبَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُوجِبُ لِقَائِلِهَا ثَوَابًا سَرْمَدِيًّا خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَمُصِيبَةُ فَوَاتِ ثَوَابِهَا مُسَبَّبَةٌ عَنْ مَعَاصٍ سَابِقَةٍ وَقَعَتْ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا وَقَعَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَلَّابُ وَالتَّهْذِيبُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ هُوَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَرْكُهَا مِنْ ذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُشْرَعُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ وَظَهَرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ هُوَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِهَا مُطَابَقَةٌ وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَجْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا أَنَّهُ لَهَا مُطَابَقَةٌ وَبِهِ يَنْحَلُّ كُلُّ إشْكَالٍ يَرِدُ عَلَى مَا وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيَّ فِي رِسَالَتِهِ حَكَاهُ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ فِي الْبَيْعِ ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ وَمَنْ قَارَضَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِرَاضِ ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ ، وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَةً وَعَصَاهُ مَعْصِيَةً .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَمَعْنَاهُ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَذَلِكَ سَبَبُ كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عُوتِبَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِابْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِكَوْنِهِ سَأَلَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْوَلَدِ ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُهُ أَمْ لَا فَالْعَتْبُ وَالْجَوَابُ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِلْمِ بِمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ

أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ فَلَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُعْلَمَ فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالَةٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ طَلَبُ الْعِلْمِ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فَفَرْضُ الْعَيْنِ عِلْمُك بِحَالَتِك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا .
وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِمَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ الْجَاهِلُ فِي الصَّلَاةِ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْعِلْمِ فَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ ، وَالْجَاهِلُ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي .
وَأَمَّا النَّاسِي فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَذَا فَرْقٌ ، وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ وَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ ) قُلْت : وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْهُ صَحِيحٌ ، وَوَقَعَ فِيهِ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا مِنْهُ نَقْصٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فَلِذَلِكَ قُلْت مَا وَقَفْت عَلَيْهِ .

الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ ) الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ الْجِهَةُ الْأُولَى أَنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْجَهْلِ فَإِنَّ لَهُ حِيلَةً فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْجَهْلُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَكَى الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } إذْ مَعْنَاهُ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عُوتِبَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِابْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِكَوْنِهِ سَأَلَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْوَلَدِ ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُهُ أَمْ لَا .
وَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ كَانَ كِلَا الْعَتْبِ وَالْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِلْمِ بِمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ ، وَكَذَا

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَيْنًا فِي كُلِّ حَالَةٍ يُقْدِمُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ فَمَنْ بَاعَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ فِي الْبَيْعِ ، وَمَنْ آجَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ ، وَمَنْ قَارَضَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِرَاضِ وَمَنْ صَلَّى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ ، وَهَكَذَا الطَّهَارَةُ وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ ، وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَةً وَعَصَاهُ مَعْصِيَةً فَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَلَبُ الْعِلْمِ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَفَرْضُ الْعَيْنِ عِلْمُك بِحَالَتِك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ ، وَالْجَاهِلُ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِهِ عَلَى نَظْمِ بَهْرَامَ فِيمَا لَا يُعْذَرُ فِيهَا بِالْجَهْلِ لِلْقَاعِدَةِ أَنَّ الْجَاهِلَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْعَامِدِ ا هـ وَذَلِكَ أَنَّهُ بِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ كَانَ عَاصِيًا كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

.
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالَاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا ، وَأَخَذَ بِجَهَالَاتٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا وَضَابِطُ مَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ الْجَهَالَاتِ الْجَهْلُ الَّذِي يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً ، وَمَا لَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَلَا يَشُقُّ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ أَحَدُهَا مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِاللَّيْلِ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْفَحْصَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ وَثَانِيهَا مَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا يَظُنُّهُ طَاهِرًا فَهَذَا جَهْلٌ يُعْفَى عَنْهُ لِمَا فِي تَكَرُّرِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ وَالْأَشْرِبَةُ النَّجِسَةُ لَا إثْمَ عَلَى الْجَاهِلِ بِهَا ، وَثَالِثُهَا مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلَّابًا فَإِنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِذَلِكَ وَرَابِعُهَا مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي صَفِّ الْكُفَّارِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِهِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ فِي حَالَةِ السَّعَةِ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ عَنْ ذَلِكَ أَثِمَ .
وَخَامِسُهَا الْحَاكِمُ يَقْضِي بِشُهُودِ الزُّورِ مَعَ جَهْلِهِ بِحَالِهِمْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَمَا عَدَاهُ فَمُكَلَّفٌ بِهِ وَمَنْ أَقْدَمَ مَعَ الْجَهْلِ فَقَدْ أَثِمَ خُصُوصًا فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ شَدَّدَ فِي عَقَائِدِ أُصُولِ الدِّينِ تَشْدِيدًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ الْجَهْلُ فَإِنَّهُ

آثِمٌ كَافِرٌ بِتَرْكِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَيَخْلُدُ فِي النِّيرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَلَ الِاجْتِهَادَ حَدَّهُ .
وَصَارَ الْجَهْلُ لَهُ ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْذَرْ بِهِ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِيمَا يُعْتَقَدُ أَنَّهَا مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجِ النَّاشِئَةِ فِي الْأَقَالِيمِ الْمُنْحَرِفَةِ عَمَّا يُوجِبُ اسْتِقَامَةَ الْعَقْلِ كَأَقَاصِي بِلَادِ السُّودَانِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَالِيمَ لَا يَكُونُ لِلْعَقْلِ فِيهَا كَبِيرُ رَوْنَقٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ عِنْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } وَمَنْ لَا يَفْهَمُ الْقَوْلَ وَبَعُدَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِهَذِهِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِأَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَدَقَائِقِ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ، فَتَكْلِيفُ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَأْسِ بِسَبَبِ الْكُفْرَانِ وَقَعُوا لِلْجَهْلِ .
وَأَمَّا الْفُرُوعُ دُونَ الْأُصُولِ فَقَدْ عَفَا صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي الْفُرُوعِ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَمَنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيَلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ أُصُولُ الْفِقْهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ اخْتَصَّ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ فِيهِ آثِمٌ ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي حَكَاهَا هِيَ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِعَيْنِهَا فَظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ فِيهِ عُذْرًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ فِيهِ عُذْرًا .

.
قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ غَيْرَ إطْلَاقِهِ لَفْظَ الظَّنِّ فِي وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الظَّنِّ الَّذِي يَخْطِرُ لِصَاحِبِهِ احْتِمَالُ نَقِيضِهِ فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمِيَّ الَّذِي لَا يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ فَذَلِكَ صَوَابٌ وَغَيْرَ قَوْلِهِ تَكْلِيفُ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجِ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ الْفَاسِدَةَ الْمِزَاجُ بِحَيْثُ لَا تَفْقَهُ شَيْئًا فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَفْقَهُ وَلَكِنْ بَعْدَ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ فَذَلِكَ صَوَابٌ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجُ فَاسِدٌ ، وَصَوَابُهُ الْفَاسِدَةُ الْمِزَاجِ وَغَيْرَ مَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مُلْحَقَةٌ بِأُصُولِ الدِّينِ فِي أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ آثِمٌ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى التَّخْطِئَةِ وَالتَّأْثِيمِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .

الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ ) .
اعْلَمْ أَنَّ الْجَهْلَ نَوْعَانِ : النَّوْعُ الْأَوَّلُ جَهْلٌ تَسَامَحَ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهِ ، وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَلَهُ صُوَرٌ إحْدَاهَا مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِاللَّيْلِ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْفَحْصَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْجَهْلُ بِنَجَاسَةِ الْأَطْعِمَةِ وَالْمِيَاهِ وَالْأَشْرِبَةِ يُعْفَى عَنْهُ لِمَا فِي تَكَرُّرِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ فَالْجَاهِلُ الْمُسْتَعْمِلُ لِشَيْءٍ مِنْهَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلَّابًا فِي جَهْلِهِ بِهِ لِمَشَقَّةِ فَحْصِهِ عَنْهُ .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي صَفِّ الْكُفَّارِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فِي جَهْلِهِ بِهِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ لَا إثْمَ عَلَى الْحَاكِمِ يَقْضِي بِشُهُودِ الزُّورِ جَاهِلًا بِحَالِهِمْ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ قَالَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ أَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ جَهَلَةِ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ يَتَسَامَحُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي عِنْدِي أَنْ يُعْذَرُوا بِهِ ا هـ .
النَّوْعُ الثَّانِي جَهْلٌ لَمْ يَتَسَامَحْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهِ ، وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَلَا يَشُقُّ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَهَذَا النَّوْعُ يَطَّرِدُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْفُرُوعِ ، أَمَّا أُصُولُ الدِّينِ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمَّا

شَدَّدَ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ تَشْدِيدًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ بَذَلَ جَهْدَهُ ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَوْ فِي شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ الْجَهْلُ لَكَانَ بِتَرْكِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ آثِمًا كَافِرًا يَخْلُدُ فِي النِّيرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَلَ الِاجْتِهَادَ حَدَّهُ ، وَصَارَ الْجَهْلُ لَهُ ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِيمَا يُعْتَقَدُ أَنَّهَا مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ، وَبِحَيْثُ إنَّهُ يُكَلَّفُ بِأَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَدَقَائِقِ أُصُولِ الدِّينِ نَحْوِ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجُ النَّاشِئَةِ فِي الْأَقَالِيمِ الْمُنْحَرِفَةِ عَمَّا يُوجِبُ اسْتِقَامَةَ الْعَقْلِ كَأَقَاصِي بِلَادِ السُّودَانِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَالِيمَ لَا يَكُونُ لِلْعَقْلِ فِيهَا كَبِيرُ رَوْنَقٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ عِنْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } حَتَّى صَارَ تَكْلِيفُ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْقَوْلَ ، وَبَعُدَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِهَذِهِ الْغَايَةِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَمَّا اخْتَصَّهُ الشَّرْعُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَنْ الْفِقْهِ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ ، وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهِ آثِمٌ ، وَثَالِثُهَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ .
وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ اُخْتُصَّ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ فِيهِ آثِمٌ ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ ، وَأَمَّا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْفُرُوعِ فَأَحَدُهَا نَوْعُ الْعِبَادَاتِ لِمَا مَرَّ عَنْ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ مِنْ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْجَاهِلَ فِيهَا كَالْعَامِدِ ، وَذَلِكَ

أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِ بَهْرَامَ وَذَاكَ كَثِيرٌ فِي الْوُضُوءِ وَمِثْلُهُ بِفَرْضِ صَلَاةٍ ثُمَّ حَجٍّ تَحَصَّلَا مَا نَصُّهُ أَطْلَقَ فِي التَّوْضِيحِ الثَّلَاثَ فَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْفَرْضِ ، وَالْمَشْهُورُ إطْلَاقُ الْعِبَادَةِ فَتَشْمَلُ الصَّوْمَ وَالْعُمْرَةَ .
وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَوَاطِئُ : رَهِينُ اعْتِكَافٍ بِالشَّرِيعَةِ جَاهِلَا مَنْ وَطِئَ فِي اعْتِكَافِهِ جَهْلًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ، وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ جَهِلَ الْحُرْمَةَ أَوْ جَهِلَ أَنَّهُ مُفْسِدٌ ، ثُمَّ قَالَ إنَّ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْجَاهِلَ فِيهَا كَالْعَامِدِ ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْوَطْءِ بَلْ كُلُّ مَا يَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ كَذَلِكَ كَالْخُرُوجِ جَهْلًا وَالْفِطْرِ جَهْلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَكُلُّ زَكَاةٍ مِنْ دَفْعِهَا لِكَافِرٍ وَغَيْرِ فَقِيرٍ ضَامِنٍ تِلْكَ مُسْجَلَا .
مَنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ جَهْلًا لَمْ يُعْذَرْ وَلَا مَفْهُومَ لِلْكَافِرِ وَغَيْرِ الْفَقِيرِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَشُرُوحِهِ وَهَذَا فِي اجْتِهَادٍ بِهَا أَمَّا بِدَفْعِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فَتُجْزِئُ ، وَيَأْتِي هُنَا مَا سَبَقَ فِي الِاعْتِكَافِ ، وَهَذَا أَسْهَلُ لِشَائِبَةِ الْمُعَامَلَةِ ا هـ .
وَثَانِيهَا نَوْعُ الْعُقُودِ قَالَ الْأَمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَيُفْسَخُ بَيْعٌ فَاسِدٌ مُطْلَقًا وَلَا يُسَامَحُ فِيهِ مَنْ عَنْ الْحَقِّ عَوَّلَا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفْسَخُ ، وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ وَلَا خُصُوصِيَّةَ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَظْهَرُ ، بَلْ كَذَلِكَ غَيْرُهُ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ لَا فِي ظَنِّ الْعَاقِدِ فَقَطْ كَمَا يُفِيدُهُ الْعَلَّامَةُ الْقَاسِمِيُّ عَلِيٌّ الْمَحَلِّيُّ وَغَيْرُهُ .
ا هـ .
ثَالِثُهَا نَوْعٌ مُسْقِطٌ لِلشُّفْعَةِ قَالَ الْأَمِيرُ : عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بَعْدَ الْعَامِ يَشْفَعُ حَاضِرًا مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُبْتَاعِ وَالْبَيْعِ أَوَّلَا .
مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِشَرِيكٍ عَلِمَ الْبَيْعَ وَسَكَتَ سَنَةً

لَا أَقَلَّ ، وَلَوْ كَتَبَ شَهَادَتَهُ وَمَا لِابْنِ رُشْدٍ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَةَ تُسْقِطُ الشُّفْعَةَ بِشَهْرَيْنِ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ جَنَحَ لَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ بَلْ فِي الْخَرَشِيِّ وعبق عَنْ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهْرَيْنِ زِيَادَةً عَلَى السَّنَةِ ، وَقَرَّرَهُ شَيْخُنَا وَلَا يُعْذَرُ بِدَعْوَاهُ الْجَهْلَ لَا بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلشُّفْعَةِ وَلَا بِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ وَفِي عبق وَالْخَرَشِيِّ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ وَالْحَطَّابَ عَنْ ابْنِ كَوْثَرٍ وَالتَّتَّائِيِّ عَنْ الذَّخِيرَةِ عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ ذَكَرُوا أَنَّ شِرَاءَ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً بَلْ مُقْتَضَى أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا يُعْذَرُ فِيهَا بِالْجَهْلِ جَرَيَانُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْمُسْقِطَاتِ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ وَالْمُقَاسَمَةِ وَبَيْعِ حِصَّةِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ فَائِدَةُ سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِالشِّرَاءِ يُظْهِرُهَا اخْتِلَافُ الثَّمَنَيْنِ ا هـ .
وَرَابِعُهَا نَوْعُ الْعَيْبِ الْمَانِعِ مِنْ إجْزَاءِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ الْأَمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ يُعْتِقُ الشَّخْصَ الْكَفُورَ لِجَهْلِهِ فَلَا يَجْزِي فِي كَفَّارَةٍ وَتَبَتُّلَا فِي التَّوْضِيحِ قَالَ أَصْبَغُ فِيمَنْ اشْتَرَى نَصْرَانِيَّةً فَأَعْتَقَهَا فِي الْكَفَّارَةِ أَنَّهَا لَا تَجْزِيهِ ، وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ .
ا هـ وَظَاهِرُهُ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوْ أَنَّهَا كَافِرَةٌ ثُمَّ لَا مَفْهُومَ لِلْكُفْرِ بَلْ كَذَلِكَ لِلْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْإِجْزَاءِ وَلَا يُعْذَرُ فِيهَا بِجَهْلٍ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الْخَرَشِيِّ فِي الظِّهَارِ إذَا اطَّلَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى عَيْبٍ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ اسْتَعَانَ بِأَرْشِهِ فِي رَقَبَةٍ أُخْرَى ، وَقَوْلُهُ وَتَبَتُّلَا أَيْ ثُمَّ عَتَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ا هـ .
وَخَامِسُهَا نَوْعُ بَيْعِ الْخِيَارِ قَالَ الْأَمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَبَائِعُ عَبْدٍ بِالْخِيَارِ يَرُومُ أَنْ يَرِدَ وَقَدْ وَلَّى الزَّمَانُ بِهِ وَلَا بَيْعُ الْخِيَارِ يَلْزَمُ وَاضِعَ الْيَدِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَلَا

مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ ، بَلْ كُلُّ بَيْعٍ بِالْخِيَارِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُخْتَصَرُ وَشُرُوحُهُ ا هـ .
وَلَا يَطَّرِدُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهْلِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَ مِنْ الْفُرُوعِ بَلْ هُوَ فِي مَسَائِلَ ذَكَرَهَا الْعُمْدَةُ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ ، وَنَظَمَهَا الشَّيْخُ بَهْرَامُ فِي أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ بَيْتًا ، وَشَرَحَهَا الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ وَنَقَّحَهَا فِي .
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى صَمْتُ الْبِكْرِ وَضَحِكُهَا رِضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِذْنِ فِي الْعَقْدِ وَفِي تَعْيِينِ الصَّدَاقِ وَالزَّوْجِ وَلَا تُعْذَرُ بِدَعْوَاهَا الْجَهْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ رِضًا ، وَلَوْ عُرِفَتْ بِالْبَلَهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِعَبْدِ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ وَجِيهًا ، وَلِذَلِكَ رُوعِيَ حَقُّهَا ابْتِدَاءً بِنَدْبِ إعْلَامِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ رِضًا ، وَيَكْفِي فِي النَّدْبِ مَرَّةٌ وَلِابْنِ شَعْبَانَ ثَلَاثًا وَقَالَ : الْأَقَلُّ تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْلَامِ .
قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَالْبُكَاءُ أَيْضًا رِضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ بَكَتْ عَلَى فَقْدِ أَبِيهَا ، وَتَقُولُ فِي نَفْسِهَا لَوْ كَانَ أَبِي حَيًّا لَمَا احْتَجْت لِذَلِكَ ، وَانْظُرْ أَيْضًا لَوْ جَهِلَتْ حُكْمَ أَنَّ ذَلِكَ رِضًا ا هـ وَأَمَّا الثَّيِّبُ وَكَذَا السَّبْعَةُ الْأَبْكَارُ فَفِي قَوْلِ خَلِيلٍ وَالثَّيِّبُ تُعْرِبُ كَبِكْرٍ رَشَدَتْ أَوْ عَضَلَتْ أَوْ زُوِّجَتْ بِعَرَضٍ أَيْ مِمَّنْ لَا يُزَوَّجُ بِهِ أَوْ بِرِقٍّ أَوْ بِذِي عَيْبٍ أَوْ يَتِيمَةٍ أَوْ أُفْتِيتَ عَلَيْهَا ا هـ .
يَعْنِي أَنَّهُنَّ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجِ وَالصَّدَاقِ لَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهِنَّ ، وَأَمَّا الْإِذْنُ لِلْوَلِيِّ فِي الْعَقْدِ فَهَلْ كَذَلِكَ إذَا غِبْنَ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ يَكْفِي فِيهِ الصَّمْتُ وَلَوْ غِبْنَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْأَمِيرُ حَيْثُ قَالَ الثَّيِّبُ تُسَاوِي الْبِكْرَ فِي أَنَّ الصَّمْتَ رِضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِذْنِ فِي الْعَقْدِ لَا

فِي تَعْيِينِ الصَّدَاقِ وَالزَّوْجِ فَتُعْرِبُ الثَّيِّبُ ، وَانْظُرْ لَوْ جَهِلَتْ حُكْمَ الصَّمْتِ هَلْ يَجْرِي فِيهَا مَا جَرَى فِي الْبِكْرِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ا هـ اُنْظُرْ الْمُخْتَصَرَ وَشُرُوحَهُ .

.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ عُقِدَ لَهَا غَيْرَ مُجْبَرَةٍ بِلَا إذْنِهَا فَلَهَا إمْضَاؤُهُ بِالْقَوْلِ حَيْثُ قَرُبَ وَالْيَوْمُ بَعُدَ ، وَكَانَ بِالْبَلَدِ وَلَمْ تَرَهُ قَبْلُ ، وَلَمْ يُجْبَرْ الْوَلِيُّ بِتَعَدِّيهِ حَالَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَفْتَتْ عَلَى الزَّوْجِ أَيْضًا ، وَلَهَا رَدُّ الْعَقْدِ مَا لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ الْجِمَاعِ ، وَإِلَّا كَانَ رِضًا وَلَا يَنْفَعُهَا دَعْوَى الْجَهْلِ بِكَوْنِ الْجِمَاعِ رِضًا فَقَوْلُهُمْ الْمُفْتَاتُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهَا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ حَصْرٌ إضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِنَحْوِ الصَّمْتِ ، وَأَمَّا التَّمْكِينُ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ بِكْرٍ وَثَيِّبٍ فَافْهَمْ .

.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ أَكَلَ مَالِ يَتِيمٍ جَهْلًا ضَمِنَهُ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ كَذَا فِي التَّوْضِيحِ قَالَ الْأَمِيرُ وَانْظُرْ مَا مَعْنَى تَخْصِيصِ الْيَتِيمِ فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ مَالَ شَخْصٍ مُطْلَقًا جَاهِلًا ضَمِنَهُ ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ وَالْعَمْدُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يُفْرَضَ فِي الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لِذِي الشُّبْهَةِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ غَلَّةُ مَالِ الْيَتِيمِ ، لَكِنَّ الَّذِي رَأَيْنَاهُ اسْتِثْنَاءُ غَلَّةِ الْوَقْفِ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ فَقَطْ فَيُحَرَّرُ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ قَذَفَ حُرًّا جَاهِلًا بِحُرِّيَّتِهِ حُدَّ وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَذْفُ فِي زِنًا أَوْ نَسَبٍ قَالَ الْأَمِيرُ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ فِي التَّوْضِيحِ وَلَمْ يَذْكُرْ جَهْلَهُ بِإِسْلَامِهِ أَوْ بُلُوغِهِ أَوْ عِتْقِهِ أَوْ عَقْلِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا أَطْلَقَ الزَّوْجُ تَمْلِيكَ الزَّوْجَةِ أَوْ تَخْيِيرَهَا وَانْقَضَى مَجْلِسٌ يُتَرَوَّى فِي مِثْلِهِ فَقَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا بِيَدِهَا وَلَا تُعْذَرُ بِجَهْلٍ ، وَقَوْلُهُ الْآخِرُ بِبَقَاءِ مَا بِيَدِهَا مَا لَمْ تُوقِفْ أَوْ تُوطَأْ ، وَذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَجَعَ لِلْأَوَّلِ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَبِهِ الْعَمَلُ فَإِنَّ عَيَّنَ الزَّوْجُ شَيْئًا عُمِلَ بِهِ أَوْ قَالَ مَتَى شِئْت لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَجْلِسِ أَمِيرٌ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الطَّبِيبُ بِحَسَبِ زَعْمِهِ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ لَكِنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ الضَّرَرَ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ قَصَدَ النَّفْعَ فَضَرَّ ضَمِنَ فِي مَالِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا فِي عبق .

.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الْمُفْتِي لَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ فِي فَتْوَاهُ وَيَضْمَنُ مَا أَفْسَدَ بِهَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ مَنْ أَثْبَتَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يَضْرِبُهَا فَتَلَوَّمَ لَهَا الْحَاكِمُ ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ لِيُطَلِّقَ عَلَيْهِ فَادَّعَى أَنَّهُ وَطِئَهَا سَقَطَ حَقُّهَا وَلَوْ ادَّعَتْ الْجَهْلَ أَيْ صَدَّقَتْ عَلَى الْوَطْءِ ، وَجَهِلَتْ أَنَّهُ مُسْقِطٌ

.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ إذَا زَنَى الْعَبْدُ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ قَذَفَ جَاهِلًا بِالْعِتْقِ حُدَّ كَالْحُرِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْفَصْلُ وَقَرِيبُ الْحَوَاشِي جَاهِلًا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ جَهِلَ الْقَرَابَةَ أَوْ الْحُكْمَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إنْ قَالَ لَهُ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ جَاهِلًا بِأَنَّهُ هُوَ حَيْثُ أَطْلَقَ فِي يَمِينِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مَنْ تَوَجَّهَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ دَنِيَّةً حَدٌّ أَوْ يَمِينٌ فَاسْتَوْفَى مَا ذُكِرَ جَاهِلًا بِأَنَّ ذَلِكَ مُفَسِّقٌ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ أَمَّا لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ جَهِلَ الْأُبُوَّةَ فَيُعْذَرُ .

.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي التَّوْضِيحِ مَنْ يَقْطَعُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَوْ كَانَ جَاهِلًا ا هـ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي بَابِ الزَّكَاةِ بِحُرْمَةِ كَسْرِ الْمَسْكُوكِ لِغَيْرِ سَبْكٍ أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْشُوشًا فَيُكْسَرُ .

.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي مَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ أَيْ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَرَفْعِهَا لِلْحَاكِمِ بِالْإِمْكَانِ إنْ اُسْتُدِيمَ تَحْرِيمٌ كَعِتْقٍ وَطَلَاقٍ وَوَقْفٍ وَرَضَاعٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا عُذْرَ بِجَهْلٍ ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسْتَدَامُ تَحْرِيمُهُ تَبْطُلُ بِتَرْكِ رَفْعِهِ إلَى السُّلْطَانِ الْأَعْلَى ظَاهِرُ قَوْلِ أَشْهَبَ ا هـ وَضَابِطُ حَقِّ اللَّهِ كَمَا فِي شُرُوحِ الْمُخْتَصَرِ ، وَقَدْ مَرَّ كُلُّ مَا لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ إسْقَاطُهُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتِمُّ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُبَادَرَةُ تَحْصِيلًا لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنْ أَبَى غَيْرُهُ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ وَفِي التَّوْضِيحِ قَيَّدَ ابْنُ شَاسٍ الْوَقْفَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنِينَ ، أَيْ وَيَأْكُلُهُ غَيْرُ الْوَاقِفِ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِ الْبَاجِيَّ وَابْنُ رُشْدٍ ا هـ .
قَالَ الْبُنَانِيُّ وَعَلَى مَا لِابْنِ شَاسٍ اقْتَصَرَ عبق وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْوَقْتِ لِمُعَيَّنٍ قَائِلًا إنْ كَانَ الْوَاقِفُ بَذَلَهُ أَوَّلًا ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ لِمُعَيَّنٍ فَالْحَقُّ فِي هَذَا حَقُّ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ رَجَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَرَثَتِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ تَبْتِيلٍ لَهُ أَوَّلًا كَأَنْ يَجْعَلَهُ حَبْسًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ حَقٌّ آدَمِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ هُنَا رُدَّ لِمَالِكِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ ا هـ .
قَالَ الْخَطَّابُ وَفِي كَوْنِ الْعِتْقِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدِي نَظَرٌ ا هـ قَالَ عبق أَمَّا عَدَمُ تَمَحُّضِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَهُ حَقٌّ فِي الْعِتْقِ بِتَخْلِيصِ رَقَبَتِهِ مِنْ الرِّقِّ وَالْمَرْأَةَ فِي تَخْلِيصِ عِصْمَتِهَا مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ

فِيهِ تَتَمَحَّضُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ كَرِضَا الْعَبْدِ بِخِدْمَتِهِ كَخِدْمَةِ مَنْ يُعْتِقُ وَالْمَرْأَةِ بِبَقَائِهَا تَحْتَهُ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْوَقْفِ ، أَيْ فَيَحْرُمُ وَيَجِبُ الرَّفْعُ ، وَأَمَّا الرَّضَاعُ فَظَاهِرٌ تَمَحُّضُهُ لِلَّهِ قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ وَفِيهِ رُبْعُ دِينَارٍ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ قَالَ الْأَمِيرُ وَهَذَا فَرْضٌ .
مِثَالٌ : قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَوْ ظَنَّ أَيْ : رُبُعَ الدِّينَارِ أَوْ ثَلَاثَةَ الدَّرَاهِمِ فُلُوسًا أَوْ الثَّوْبَ فَارِغًا ، وَقَيَّدَهُ بِمَا إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُرْفَعُ فِيهِ نِصَابٌ لَا إنْ كَانَ خَلَقًا ، وَلَا إنْ سَرَقَ خَشَبَةً أَوْ حَجَرًا يَظُنُّهُ فَارِغًا فَإِذَا فِيهِ نِصَابٌ فَلَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْعَلُ فِيهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ تِلْكَ الْخَشَبَةِ تُسَاوِي نِصَابًا فَيُقْطَعُ فِي قِيمَتِهَا دُونَ مَا فِيهَا .
قَالَ وَالْعَصَا الْمُفَضَّضَةُ لَا تُسَاوِي ذَاتُهَا نِصَابًا إنْ سُرِقَتْ لَيْلًا أَوْ مِنْ مَحِلٍّ مُظْلِمٍ فَلَا قَطْعَ ا هـ .
.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ إذَا وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْأَمَةَ الْمُرْتَهَنَةَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهَالَةٍ قَالَ الْأَمِيرُ أَيْ ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الِارْتِهَانِ ضَعِيفَةٌ فَلَا تَمْنَعُ الْحَدَّ .
قَالَ عبق أَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فَلَا حَدَّ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حِينَئِذٍ أَمَةً مُحَلَّلَةً وَفِي وَطْئِهَا الْأَدَبُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ أَيْضًا ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْمُرْتَهِنُ يَرُدُّ الرَّهْنَ فَتَبْطُلُ الْحِيَازَةُ وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ أَيْ إذَا رَدَّهُ اخْتِيَارًا ، وَإِلَّا فَلَهُ أَخْذُهُ مَتَى قَدَرَ وَمَعْنَى بُطْلَانِ الْحِيَازَةِ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِمُفَوِّتٍ كَعِتْقٍ أَوْ قِيَامِ غُرَمَاءَ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُفَوِّتٌ فَلَهُ رَدُّهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ جَهِلَ إبْطَالَ الْجَوَازِ بِذَلِكَ حَيْثُ أَشْبَهَ كَمَا نَقَلَهُ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ عَنْ اللَّخْمِيِّ ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْبَدْوِيُّ يُقِرُّ بِالزِّنَا وَالشُّرْبِ ، وَيَقُولُ فَعَلْت ذَلِكَ جَهْلًا ا هـ قَالَ الْأَمِيرُ وَالْبَدْوِيُّ نَصٌّ عَلَى الْمُتَوَهِّمِ ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُ الْجَهْلُ ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَهْلِ الْحَدِّ وَالْحُرْمَةِ ، وَأَمَّا جَهْلُ الْعَيْنِ بِأَنْ يَظُنَّهَا امْرَأَتَهُ وَالْخَمْرَ عَسَلًا فَعُذْرٌ حَيْثُ أَشْبَهَ ذَلِكَ وَفِي الْمُخْتَصَرِ عُذْرُهُ بِجَهْلِ الْحُكْمِ فِي الزِّنَا غَيْرِ الْوَاضِحِ إنْ جَهِلَ مِثْلَهُ ، وَفَرَّقَ عبق بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّرْبِ أَوَّلًا بِأَنَّ الشُّرْبَ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَثَانِيًا بِأَنَّ مَفَاسِدَهُ أَشَدُّ مِنْ مَفَاسِدِ الزِّنَا إذْ رُبَّمَا حَصَلَ بِالشُّرْبِ زِنًا وَسَرِقَةٌ وَقَتْلٌ وَلِذَا وَرَدَ أَنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ ، وَثَالِثًا بِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا وَوُجُوبَ الْحَدِّ فِيهِ مِنْ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّ فِيهِ وَاضِحًا وَغَيْرَهُ .
قَالَ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَقَدْ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَفَشَا فَلَا يُعْذَرُ جَاهِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ ا هـ وَتَنَاوَلَ قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا الْقَذْفَ وَالسَّرِقَةَ ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَالَ الْأَمِيرُ الْأَمَةُ الْمُعْتَقَةُ إذَا وَطِئَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا أَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَأَوْلَى إنْ حَاوَلَتْ هِيَ مِنْهُ ذَلِكَ سَقَطَ خِيَارُهَا ، وَلَا تُعْذَرُ بِدَعْوَاهَا الْجَهْلَ بِأَصْلِ التَّخْيِيرِ أَوْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْقِطٌ ، وَمِثْلُ الْجَهْلِ النِّسْيَانُ وَالْمَشْهُورُ وَلَوْ لَمْ يَشْتَهِرْ الْحُكْمُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَعَذَرَ الْبَغْدَادِيُّونَ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ بِالْجَهْلِ ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَى مَنْ اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ الْحُكْمُ ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِمَّا لَمْ تُعْذَرْ فِيهِ بِالْجَهْلِ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ رَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ بَيْعَ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا بِأَرْضِ غُرْبَةٍ فَظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ طَلَاقٌ ، ثُمَّ عَتَقَتْ وَلَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا حَتَّى عَتَقَ زَوْجُهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ فِي مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ أَوْ عَتَقَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَتُعْذَرُ بِجَهْلِ الْعِتْقِ وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْلِ حَيْثُ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيُؤَدَّبُ إنْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِالْعِتْقِ وَالْحُكْمِ وَلَا تُعْذَرُ بِنِسْيَانِ الْعِتْقِ .
قَالَ عبق لِمَا عِنْدَ النَّاسِ مِنْ زِيَادَةِ التَّفْرِيطِ عَلَى الْجَاهِلِ ا هـ بِتَصَرُّفٍ لِلْإِصْلَاحِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْمَرْأَةُ يَغِيبُ عَنْهَا زَوْجُهَا فَتُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَأْتِي نَعْيُهُ فَتَرُدُّ مَا أَنْفَقَتْ مِنْ يَوْمِ الْوَفَاةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ رَأَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ فَأَخَّرَ اللِّعَانَ بِلَا عُذْرٍ فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ ، وَلَيْسَ مِنْ الْعُذْرِ تَأْخِيرُهُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاخًا فَيَنْفَشُّ ، وَأَمَّا اللِّعَانُ لِرُؤْيَتِهَا تَزْنِي فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ نَعَمْ يَسْقُطَانِ بِالْوَطْءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِجَهْلٍ ، وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ لَا تُسْقِطُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْمُطَلَّقَةُ يُرَاجِعُهَا زَوْجُهَا فَتَسْكُتُ حَتَّى يَطَأَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تَدَّعِي أَنَّ عِدَّتَهَا كَانَتْ انْقَضَتْ ، وَتَدَّعِي الْجَهْلَ فِي سُكُوتِهَا ا هـ .
وَلَيْسَ الْوَطْءُ شَرْطًا لِمَا فِي الْمُخْتَصَرِ إذَا أَشْهَدَ بِرَجْعَتِهَا فَصَمَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ كَمَا فِي عبق عَنْ الْمُدَوَّنَةِ كَانَتْ انْقَضَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهَا دَلِيلُ كَذِبِهَا ا هـ أَمِيرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الرَّجُلُ يُبَاعُ عَلَيْهِ مَالُهُ وَيَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ حَاضِرٌ لَا يُغَيِّرُ وَلَا يُنْكِرُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ وَيَدَّعِي الْجَهْلَ ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ أَيْ فَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ وَلَهُ الثَّمَنُ مَا لَمْ تَمْضِ سَنَةٌ ، وَالْغَائِبُ لَهُ الرَّدُّ مَا لَمْ تَمْضِ سَنَةٌ فَالثَّمَنُ مَا لَمْ تَمْضِ ثَلَاثٌ هَذَا حَاصِلُ مَا قَرَّرَهُ لَنَا شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْعَدَوِيُّ قَالَ عبق وَالْمُعْتَمَدُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ لَا جَوَازُهُ وَلَا نَدْبُهُ .
قَالَ الْحَطَّابُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ ، وَمَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِ الْمَالِكِ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ ا هـ كَلَامُ عبق .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ مَنْ حَازَ مَالَ رَجُلٍ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ الَّتِي تَكُونُ عَامِلَةً وَادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يُعْذَرُ صَاحِبُ الْمَالِ إنْ ادَّعَى الْجَهْلَ ا هـ قَالَ الْأَمِيرُ : وَتَفْصِيلُ مُدَّةِ الْحَوْزِ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُخْتَصَرِ وَشُرُوحِهِ ، وَلَيْسَ التَّطْوِيلُ لَهُ مِنْ مُهِمِّنَا الْآنَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْمُظَاهِرُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي الصِّيَامِ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ .
ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ أَيْ إذَا وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَكَذَلِكَ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ لَا عُذْرَ بِهِمَا ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْإِطْعَامِ فَكَالصَّوْمِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : الْوَطْءُ لَا يُبْطِلُ الْإِطْعَامَ الْمُتَقَدِّمَ مُطْلَقًا ، وَالِاسْتِئْنَافُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَفْهُومُ وَطِئَ أَنَّ الْقُبْلَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ لَا يَقْطَعَانِهِ وَشَهَرَهُ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ يَقْطَعَانِهِ وَشَهَرَهُ الزَّنَاتِيُّ ا هـ عبق وَاقْتَصَرَ الْخَرَشِيُّ عَلَى الثَّانِي ا هـ أَمِيرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الرَّجُلُ يَجْعَلُ امْرَأَتَهُ بِيَدِ غَيْرِهَا فَلَا يَقْضِي الْمُمَلَّكُ حَتَّى يَطَأَ ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ يَقْضِيَ وَتَقُولُ جَهِلْت وَظَنَنْت أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ مَا كَانَ ا هـ قَالَ الْأَمِيرُ وَالْمُقَدِّمَاتُ كَالْوَطْءِ فَالْمَدَارُ عَلَى التَّمْكِينِ طَوْعًا ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ عِلْمِ ذَلِكَ ، وَصَحَّحَهُ فِي الشَّامِلِ اُنْظُرْ التَّتَّائِيَّ وَنَحْوُهُ لِلشَّيْخِ سَالِمٍ وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهَا وَابْنُ عَرَفَةَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِعِلْمِهِ وَرِضَاهُ ا هـ عبق ، وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَهَا هُوَ أَوْ خُيِّرَ ا هـ

.
الْمَسْأَلَة السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الَّذِي يُمَلِّكُ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا فَتَقُولُ قَدْ قَبِلْت ثُمَّ تُصَالِحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَ مَا قَبِلَتْ ثُمَّ تَقُولُ كُنْت أَرَدْت ثَلَاثًا لِتَرْجِعَ فِيمَا صَالَحَتْ أَنَّهَا لَمْ تَرْجِعْ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ صَالَحَتْ عَلِمَتْ أَنَّهَا لَمْ تَطْلُقْ ثَلَاثًا وَلَا تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ ا هـ .

.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ مَلَّكَ زَوْجَتَهُ فَقَضَتْ بِالْبَتَّةِ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِحُكْمِ التَّمْلِيكِ فَقِيلَ يَلْزَمُك مَا أَوْقَعْت فَقَالَ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ، هَكَذَا فِي التَّوْضِيحِ فَجَعَلَ ادِّعَاءَهُ الْجَهْلَ مُكَذِّبًا لَهُ ، وَإِلَّا فَلَهُ مُنَاكَرَةُ الْمُمَلَّكَةِ إنْ نَوَى دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَشُرُوحِهِ ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْوَاضِحَةِ فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَتَهُ ، وَقَالَ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَقَالَتْ ذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَ وَلَا يُزَوِّجَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْوَفَاةِ وَإِنْ أَرَادَ رَدَّهَا ، وَادَّعَى أَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ وَالْجَارِيَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ أَصْبَغُ : فِي الْمُظَاهِرِ يَطَأُ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ ا هـ وَمِثْلُ الْوَطْءِ مُقَدِّمَاتُهُ كَمَا فِي شُرُوحِ الْمُخْتَصَرِ .

.
الْمَسْأَلَةُ الثَّلَاثُونَ إذَا أَطْلَقَ الزَّوْجُ فِي تَخْيِيرِ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَقَضَتْ بِوَاحِدَةٍ بَطَلَ مَا بِيَدِهَا ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَقُولَ جَهِلْت وَظَنَنْت أَنَّ لِي أَنْ أَخْتَارَ وَاحِدَةً ، وَمِثْلُ الْوَاحِدَةِ الِاثْنَانِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ قَالَ عبق فَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِمَا أَوْقَعَتْ لَزِمَ أَفَادَهُ الْأَمِيرُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ فِي التَّوْضِيحِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا زَوْجُهَا إنْ غِبْت عَنْك أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمْرُك بِيَدِك فَيَغِيبُ عَنْهَا ، وَتُقِيمُ بَعْدَ السِّتَّةِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُشْهِدَ أَنَّهَا عَلَى حَقِّهَا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَقْضِيَ وَتَقُولُ جَهِلْت وَظَنَنْت أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِي مَتَى شِئْت ا هـ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَالَ الْأَمِيرُ عُدَّ فِي التَّوْضِيحِ مِنْهَا الشَّاهِدُ يُخْطِئُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَالَ الْأَمِيرُ عُدَّ فِي التَّوْضِيحِ مِنْهَا الْغَرِيمُ يُعْتِقُ بِحَضْرَةِ غُرَمَائِهِ فَيَسْكُتُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ ثُمَّ يُرِيدُونَ الْقِيَامَ ، وَبَقِيَ مَسْأَلَةٌ ذَكَرَهَا الْأَصْلُ وَهِيَ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي حَالَةِ السَّعَةِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ عَنْ ذَلِكَ أَثِمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ السَّمْتِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْمَذَاهِبِ عَامَّةً قَوْلُهُمْ إنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ يَكْفِي وَآخَرُونَ يَقُولُونَ بَلْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ سَمْتِ الْكَعْبَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَالْإِطْلَاقَاتُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ بِسَبَبِ أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا إنَّمَا وَقَعَ فِيمَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ أَمَّا مَنْ قَرُبَ فَإِنَّ فَرْضَهُ اسْتِقْبَالُ السَّمْتِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَاَلَّذِي بَعُدَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَمُقَابَلَتَهَا وَمُعَايَنَتَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي تَعْيِينِ جِهَةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ وَرَاءَهَا ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ فِي الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَعْبَةِ أَنَّهَا وَرَاءَ الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَتْهَا أَدِلَّتُهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا إجْمَاعًا فَصَارَتْ الْجِهَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَالسَّمْتُ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ وَالْمُعَايَنَةُ مُجْمَعٌ عَلَى عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ فِي الصُّورَتَيْنِ فَأَيْنَ يَكُونُ الْخِلَافُ وَثَانِيهَا أَنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ السَّمْتِ قَطْعًا فَإِنَّ الْكَعْبَةَ عَرْضُهَا عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَطُولُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا عَلَى مَا قِيلَ ، وَالصَّفُّ الطَّوِيلُ مِائَةُ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرُ فَبَعْضُهُ خَارِجٌ عَنْ السَّمْتِ قَطْعًا فَقَوْلُهُمْ إنَّ الْقَاعِدَةَ اسْتِقْبَالُ السَّمْتِ مُشْكِلٌ .
وَثَالِثُهَا أَنَّ الْبَلَدَيْنِ الْمُتَقَارِبَيْنِ يَكُونُ اسْتِقْبَالُهُمَا وَاحِدًا مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُمَا أَطْوَلُ مِنْ سَمْتِ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ صَلَاةَ أَحَدِهِمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى بَاطِلَةٌ وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَكَانَ تَرْجِيحًا مِنْ

غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى بِالْبُطْلَانِ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَجَمِيعُهَا يَقْتَضِي الْإِشْكَالَ عَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ .
الْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ مَا كَانَ يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَ يُورِدُ هَذَا الْإِشْكَالَ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ عَنْهُ فَكَانَ يَقُولُ الشَّيْءُ قَدْ يَجِبُ إيجَابَ الْوَسَائِلِ ، وَقَدْ يَجِبُ إيجَابَ الْمَقَاصِدِ فَالْأَوَّلُ كَالنَّظَرِ فِي أَوْصَافِ الْمِيَاهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فَإِنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ وَكَالنَّظَرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إيقَاعِهَا فِي الْجَامِعِ ، وَكَذَلِكَ السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَمِثَالُ مَا يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصِدٌ لِنَفْسِهِ لَا ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِغَيْرِهِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ، وَأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِذَا أَخْطَأَ فِي الْجِهَةِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا أَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصِدُهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَالنَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا بَعُدَتْ عَنْ الْأَبْصَارِ جِدًّا ، وَتَعَذَّرَ الْجَزْمُ بِحُصُولِهَا جَعَلَ الشَّرْعُ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَةِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَصِيرُ الْخِلَافُ فِي

السَّمْتِ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ لَا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ وَلَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ قَوْلَانِ وَهَلْ تَجِبُ الْجِهَةُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَمْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ قَوْلَانِ هَذَا هُوَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقَاعِدَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِهَةُ وَاجِبَةً بِالْإِجْمَاعِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ وُجُوبِهَا هَلْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ أَوْ الْمَقَاصِدِ ، وَيَكُونُ السَّمْتُ لَيْسَ وَاجِبًا مُطْلَقًا إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ فَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ هَلْ الْوَاجِبُ الْجِهَةُ أَوْ السَّمْتُ قَوْلَانِ يَصِحُّ فِيهِ قَيْدٌ لَطِيفٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ هَلْ الْوَاجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ السَّمْتُ أَوْ الْجِهَةُ ؟ قَوْلَانِ فَبِهَذَا الْقَيْدِ اسْتَقَامَ حِكَايَةُ الْخِلَافِ ، وَاتَّضَحَ أَيْضًا بِهِ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ هَلْ تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْجِهَةَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَقَطْ لَا شَيْءَ وَرَاءَهُ أَوْ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فَتَجِبُ الْإِعَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ تُفْضِ إلَى مَقْصُودِهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَاتَّضَحَ الْخِلَافُ وَالتَّخْرِيجُ ، وَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ حِينَئِذٍ بِهَذَا الْقَيْدِ الزَّائِدِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ الِاسْتِقْبَالَ الْعَادِيَّ لَا الْحَقِيقِيَّ ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ ، وَيَجِدُ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ أَقْصَرُ مِنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ ، وَإِذَا بَعُدَ ذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بُعْدًا كَثِيرًا عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الطَّوِيلِ نَفْسَهُ مُسْتَقْبِلًا

لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ فِي نَظَرِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّخْلَةَ الْبَعِيدَةَ أَوْ الشَّجَرَةَ إذَا اسْتَقْبَلَهَا الرَّكْبُ الْعَظِيمُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنْ الْبُعْدِ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ أَوْ الْقَافِلَةِ نَفْسَهُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ ، وَيَقُولُ الرَّكْبُ بِجُمْلَتِهِ نَحْنُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ إلَيْهَا وَإِذَا قَرُبُوا مِنْ الشَّجَرَةِ جِدًّا لَمْ يَبْقَ قُبَالَتَهَا إلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ الرَّكْبِ فَكَذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بِمِصْرَ أَوْ بِخُرَاسَانَ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِحَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُبْصِرُ الْكَعْبَةَ لَرَأَى نَفْسَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ كَمَا قُلْنَا فِي الرَّكْبِ مَعَ الشَّجَرَةِ فَقَدْ حَصَلَ فِي حَقِّهِمْ الِاسْتِقْبَالُ الْعَادِيُّ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَلَدَيْنِ الْمُتَقَارِبَيْنِ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ ، فَهُمَا كَالصَّفِّ الطَّوِيلِ سَوَاءٌ وَالْجَمِيعُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ الْعَادِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ مَعَ الْبُعْدِ وَمَعَ الْقُرْبِ الْوَاجِبُ الِاسْتِقْبَالُ الْحَقِيقِيُّ .
حَتَّى إنَّهُ إذَا صُفَّ صَفٌّ مَعَ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَصَادَفَ أَحَدُهُمْ نِصْفَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ وَنِصْفَهُ خَارِجًا عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ بِجُمْلَتِهِ الْكَعْبَةَ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ اسْتَدَارَ ، وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ قَصُرُوا عَنْ الدَّائِرَةِ وَفِي الْبُعْدِ يُصَلُّونَ خَطًّا مُسْتَقِيمًا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْرِيرِ ، وَأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا خَطًّا مَعَ الْبُعْدِ يَكُونُونَ مُسْتَقْبِلِينَ عَادَةً بِخِلَافِهِمْ مَعَ الْقُرْبِ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ السَّمْتِ وَبَيْنَ

قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ .
وَصَحَّ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَانْدَفَعَتْ الْإِشْكَالَاتُ الَّتِي عَلَيْهَا وَهُوَ مِنْ الْمَوَاطِنِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَرَّرَهُ هَذَا التَّحْرِيرَ إلَّا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ رُوحَهُ فَلَقَدْ كَانَ شَدِيدَ التَّحْرِيرِ لِمَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْقُولِهَا وَمَنْقُولِهَا ، وَكَانَ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ لِغَيْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً .

.
قَالَ : ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ السَّمْتِ إلَى قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ فِي الصُّورَتَيْنِ فَأَيْنَ يَكُونُ الْخِلَافُ ) قُلْت أَمَّا مُعَايِنُ الْكَعْبَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ فَرْضَهُ اسْتِقْبَالُ سَمْتِهَا كَمَا ذَكَرَ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَايِنِ فَنَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ مَعْرُوفٌ هَلْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ السَّمْتِ كَالْمُعَايِنِ أَمْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ وَظَاهِرُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِالسَّمْتِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ لِلْكَعْبَةِ فَرْضُهُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ قُدِّرَ خُرُوجُ خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ نَافِذًا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَمَرَّ بِالْكَعْبَةِ قَاطِعًا لَهَا لَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ فَرْضَهُ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَمُعَايَنَتُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَلَا قَائِلَ بِهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ إذْ فِيهِ تَكْلِيفُ الْمُعَايَنَةِ مَعَ عَدَمِهَا ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ فَالْخِلَافُ مُعْجَمٌ فِي الْجِهَةِ هَلْ هِيَ الْمَطْلُوبُ أَمْ لَا وَفِي السَّمْتِ هَلْ هُوَ الْمَطْلُوبُ أَمْ لَا ، لَكِنَّ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِالْجِهَةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّفِّ الْمُسْتَقِيمِ الطَّوِيلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَحَاذِيَيْنِ أَوْ الْمَوَاضِعِ ، وَيُرَجَّحُ أَيْضًا بِأَنَّ التَّوَصُّلَ إلَى تَحْقِيقِ الْجِهَةِ مُتَيَسِّرٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بِخِلَافِ التَّوَصُّلِ إلَى تَحْقِيقِ السَّمْتِ ، وَالْحَنِيفِيَّةُ سَمْحَةٌ وَدِينُ اللَّه يُسْرٌ قَالَ ( وَثَانِيهَا أَنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ إلَخْ ) قُلْت هُوَ أَقْوَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ قَالَ : ( وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ مَا كَانَ يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ لَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ

لِغَيْرِهِ ) .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ حَاكِيًا لَهُ عَنْ عِزِّ الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : وَاجِبٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ، وَوَاجِبٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرَ قَالَ ( إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ، وَأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَخْطَأَ فِي الْجِهَةِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا أَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصِدُهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ، وَالنَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا بَعُدَتْ مِنْ الْأَبْصَارِ جِدًّا وَتَعَذَّرَ الْجَزْمُ بِحُصُولِهَا جَعَلَ الشَّرْعُ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَةِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ) قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْخَطَأِ خَطَأَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ لَا خَطَأَ الْجِهَةِ فَإِنَّ خَطَأَ الْجِهَةِ خَطَأُ الْمَقْصُودِ فَتَلْزَمُ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خَطَأِ الْعَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ : ( فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَصِيرُ الْخِلَافُ فِي السَّمْتِ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ لَا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ وَلَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ قَوْلَانِ وَهَلْ تَجِبُ الْجِهَةُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَمْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ؟ قَوْلَانِ هَذَا هُوَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقَاعِدَتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِهَةُ وَاجِبَةً بِالْإِجْمَاعِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ وُجُوبِهَا هَلْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ أَوْ الْمَقَاصِدِ ، وَيَكُونُ السَّمْتُ لَيْسَ وَاجِبًا مُطْلَقًا إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، فَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ هَلْ الْوَاجِبُ الْجِهَةُ أَوْ السَّمْتُ ؟ قَوْلَانِ يَظْهَرُ فِيهِ قَيْدٌ لَطِيفٌ فَيَكُونُ

مَعْنَاهُ هَلْ الْوَاجِبُ وُجُوبُ الْمَقَاصِدِ السَّمْتُ أَوْ الْجِهَةُ قَوْلَانِ فَبِهَذَا الْقَيْدِ اسْتَقَامَ حِكَايَةُ الْخِلَافِ ، وَاتَّضَحَ أَيْضًا بِهِ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ هَلْ تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْجِهَةَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَقَطْ لَا شَيْءٌ وَرَاءَهُ ، أَوْ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ تُفْضِ إلَى مَقْصُودِهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ، وَاتَّضَحَ الْخِلَافُ وَالتَّخْرِيجُ وَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ حِينَئِذٍ بِهَذَا الْقَيْدِ الزَّائِدِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ ) قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَحْرِيرُ خِلَافٍ وَلَا كَلَامَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْجِهَةَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمَةٌ عِنْدَ الْخَطَأِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ : ( وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) .
قُلْت : هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الْقَائِلِينَ بِالسَّمْتِ دَفْعًا لِاسْتِدْلَالِ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ عَلَيْهِمْ بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ ، وَلِلْقَائِلَيْنِ بِالْجِهَةِ أَنْ يَقُولُوا سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذَا الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِنَا مِنْ الْقَوْلِ بِالْجِهَةِ وَغَيْرُ مُحَصِّلٍ لِمَقْصُودِكُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالسَّمْتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمُعَايَنَةِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ مَعَ الْبُعْدِ وَمَآلِ قَوْلِكُمْ بِالسَّمْتِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ إلَى قَوْلِنَا بِالْجِهَةِ ، فَعَلَى التَّحْقِيقِ ذَلِكَ الْجَوَابُ لَيْسَ بِجَوَابٍ بَلْ تَسْلِيمٌ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

.
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ السَّمْتِ ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ فَرْضَ مَنْ قَرُبَ مِنْ الْكَعْبَةِ وَعَايَنَهَا اسْتِقْبَالُ السَّمْتِ أَيْ عَيْنِهَا فَإِذَا صَفَّ صَفٌّ مَعَ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَصَلَاةُ الْخَارِجِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ بِجُمْلَتِهِ الْكَعْبَةَ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ اسْتَدَارَ ، وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ دَائِرَةً وَقَوْسًا إنْ قَصَرُوا عَنْ الدَّائِرَةِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنْ السَّمْتِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ أَيْ لِكَوْنِهِ خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَكَذَا مَنْ بِمَكَّةَ أَيْ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَامَتَةُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَعْرِفَ سَمْتَ الْكَعْبَةِ بِالْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ اسْتَدَلَّ أَيْ إنَّ مَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ كَانَ بِلَيْلٍ مُظْلِمٍ فَإِنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِأَعْلَامِ الْبَيْتِ مِثْلِ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ يَسْتَدِلُّ بِالْمَطَالِعِ أَوْ الْمَغَارِبِ إنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَإِنْ قَدَرَ بِمَشَقَّةٍ أَيْ عَلَى الْمُسَامَتَةِ كَمَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى صُعُودِ السَّطْحِ ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ أَوْ مَرِيضٌ فَفِي الِاجْتِهَادِ نَظَرٌ أَيْ تَرَدُّدٌ حَكَاهُ ابْنُ شَاسٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الصَّوَابُ الْمَنْعُ ا هـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ شَرْحَيْ خَلِيلٍ وَابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ الْحَطَّابُ هَذَا مَا نَعْرِفُهُ لِأَصْحَابِنَا ، وَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ الْكَعْبَةُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ أَهْلِ الدُّنْيَا فَهَذَا النَّقْلُ عَنْهُ غَرِيبٌ ، وَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : إنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ } فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَالْحَمْلُ فِيهِ عَلَيْهِ ا هـ .
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ بِأَنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ هَلْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ السَّمْتِ كَالْمُعَايِنِ أَوْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَخَارِجِهِ ، وَيَرْجِعُ لِلثَّانِي أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمَنْقُولِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ لِلْكَعْبَةِ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَمُعَايَنَتُهَا حَتَّى يُقَالُ إنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَلَا قَائِلَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّ فَرْضَهُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ قُدِّرَ خُرُوجُ خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ عَلَى زَوَايَا قَائِمَةٍ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ نَافِذًا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَمَرَّ بِالْكَعْبَةِ قَاطِعًا لَهَا إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ إذْ فِيهِ تَكْلِيفُ السَّمْتِ وَالْمُعَايَنَةِ مَعَ عَدَمِهَا بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِالْجِهَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّكْلِيفُ بِتَحْقِيقِ الْجِهَةِ ، وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهِ مُتَيَسِّرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ .
وَثَانِيهِمَا إجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّفِّ الْمُسْتَقِيمِ الطَّوِيلِ الَّذِي طُولُهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرُ ، وَصِحَّةِ صَلَاةِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَحَاذِيَيْنِ أَوْ الْمَوَاضِعِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الصَّفِّ وَأَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ أَوْ الْمَوَاضِعِ خَارِجٌ عَنْ السَّمْتِ قَطْعًا فَإِنَّ الْكَعْبَةَ عَلَى مَا قِيلَ عَرْضُهَا عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَطُولُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَمْرِ الثَّانِي بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالسَّمْتِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ

نَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ الِاسْتِقْبَالَ الْعَادِيَّ لَا الْحَقِيقِيَّ ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ ، وَيَجِدُ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ قَصِيرٌ مِنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ .
وَإِذَا بَعُدَ ذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بُعْدًا كَثِيرًا عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ بِأَنْ كَانَ بِمِصْرَ أَوْ خُرَاسَانَ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الطَّوِيلِ نَفْسَهُ مُسْتَقْبِلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ فِي نَظَرِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّخْلَةَ الْبَعِيدَةَ أَوْ الشَّجَرَةَ إذَا اسْتَقْبَلَهُمَا الرَّكْبُ الْعَظِيمُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنْ الْبُعْدِ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ نَفْسَهُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَوْ النَّخْلَةِ ، وَيَقُولُ الرَّاكِبُ بِجُمْلَتِهِ نَحْنُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَوْ النَّخْلَةِ وَنَحْنُ سَايِرُونِ إلَيْهَا .
وَإِذَا قَرُبُوا مِنْهَا جِدًّا لَمْ يَبْقَ قُبَالَتَهَا إلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ الرَّكْبِ ، وَكَذَلِكَ الْبَلَدَانِ الْمُتَقَارِبَانِ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَ مَنْ فِيهِمَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالسَّمْتِ الْعَادِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ مَآلُهُ إلَى الْقَوْلِ بِالْجِهَةِ فَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ تَسْلِيمٌ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَتَحْرِيرُ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ : إنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ يَكْفِي عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ : إنَّ اسْتِقْبَالَ السَّمْتِ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا هُوَ مَا كَانَ يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابًا عَنْ اسْتِشْكَالِهِ أَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَّةَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَمُقَابَلَتَهَا وَمُعَايَنَتَهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ

يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي تَعْيِينِ جِهَةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ وَرَاءَهَا ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا وَرَاءَ الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَتْهَا أَدِلَّتُهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا إجْمَاعًا فَصَارَتْ الْجِهَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَالسَّمْتُ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ وَالْمُعَايَنَةُ مُجْمَعٌ عَلَى عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ فِي الصُّورَتَيْنِ فَأَيْنَ يَكُونُ الْخِلَافُ بِقَوْلِهِ الشَّيْءُ قَدْ يَجِبُ إيجَابَ الْوَسَائِلِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَالنَّظَرِ فِي أَوْصَافِ الْمِيَاهِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الطُّهُورِيَّةِ ، وَفِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى إيقَاعِهَا فِي الْجَامِعِ ، وَالسَّفَرِ إلَى الْحَجِّ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى إيقَاعِهِ بِعَرَفَةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ .
وَقَدْ يَجِبُ إيجَابَ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْضًا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصِدٌ لِنَفْسِهِ لَا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِغَيْرِهِ فَعَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ يَكْفِي يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبًا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا بَعُدَتْ عَنْ الْإِبْصَارِ جِدًّا وَتَعَذَّرَ الْجَزْمُ بِحُصُولِهَا جَعَلَ الشَّرْعُ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَةِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ ، فَلَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ أَمَّا إذَا أَخْطَأَ الْجِهَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ الْمَقْصُودَ فَيَلْزَمُ الْإِعَادَةُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ اسْتِقْبَالَ السَّمْتِ لَا بُدَّ مِنْهُ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبًا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ

الْعَيْنَ فِي اجْتِهَادِهِ فِي الْجِهَةِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصِدُهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ فِي كُلٍّ مِنْ السَّمْتِ وَالْجِهَةِ أَمَّا فِي السَّمْتِ فَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا لَا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ وَلَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ ؟ قَوْلَانِ ، وَأَمَّا فِي الْجِهَةِ فَهُوَ أَنَّهَا هَلْ تَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ ؟ قَوْلَانِ فَالْجِهَةُ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ وُجُوبِهَا هَلْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ أَوْ الْمَقَاصِدِ وَفِي السَّمْتِ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا مُطْلَقًا .
فَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ : هَلْ الْوَاجِبُ الْجِهَةُ أَوْ السَّمْتُ ؟ قَوْلَانِ فِيهِ قَيْدٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هَلْ الْوَاجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ السَّمْتُ أَوْ الْجِهَةُ ؟ قَوْلَانِ وَبِهَذَا الْقَيْدِ يَتَّضِحُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْجِهَةَ هَلْ تَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، فَإِذَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَلَا إعَادَةَ ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْعَيْنَ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَوْ تَجِبُ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فَإِذَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْعَيْنَ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ تُفْضِ إلَى مَقْصُودِهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْجِهَةَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ ، وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمَةٌ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِيهَا لَا فِي الْعَيْنِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ، فَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ وَالصَّوْلَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِهِمْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ { عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } أَيْ هُوَ أَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِ الْمُتَحَاكِمِينَ .
وَبِهِ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ { عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } وَإِذَا كَانَ مُعَاذٌ عُرِفَ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ أَقْضَى النَّاسِ غَيْرَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحِجَاجِ وَالتَّفَطُّنِ لَهَا كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
وَهُوَ يُخْدَعُ بِأَيْسَرِ الشُّبُهَاتِ فَالْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا التَّفَطُّنِ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ تَبَعُ الْحِجَاجِ وَأَحْوَالِهَا فَمَنْ كَانَ لَهَا أَشَدَّ تَفَطُّنًا كَانَ أَقَضَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ وَأَحْوَالِ الْكَوَافِلِ وَالْمُنَاظَرَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ ، وَيُقَدَّمُ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَأَحْكَامِ

الزَّكَاةِ مِنْ الْخُلْطَةِ وَغَيْرِهَا .
وَيُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِهَا وَعَوَارِضِ سَهْوِهَا وَاسْتِخْلَافِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِهَا وَمَصَالِحِهَا حَتَّى يَكُونُ الْمُقَدَّمُ فِي بَابٍ رُبَّمَا أُخِّرَ فِي بَابٍ آخَرَ كَالنِّسَاءِ مُقَدَّمَاتٍ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى أَخْلَاقِ الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً وَأَقَلُّ أَنَفَةً عَنْ قَاذُورَاتِ الْأَطْفَالِ ، وَالرِّجَالُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَالُ عَنْهُنَّ وَأَخِّرْنَ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ وَيَظْهَرُ لَك بِاعْتِبَارِ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَقْدِيمٌ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَعْرِفَةِ مُعَاقَدِ الشَّرِيعَةِ وَضَبْطِ الْجُيُوشِ وَوِلَايَةِ الْأَكْفَاءِ وَعَزْلِ الضُّعَفَاءِ وَمُكَافَحَةِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْدَاءِ وَتَصْرِيفِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِهَا مِنْ مَظَانِّهَا وَصَرْفِهَا فِي مُسْتَحَقَّاتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى .
وَعَلَى هَذَا وَرَدَ سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ رَضِيَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا إشَارَةٌ لِتَقْدِيمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَجَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَقْدِيمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْإِمَامَةِ وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْخِلَافَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِلْخِلَافَةِ ،

وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَّبِعُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ ، وُكِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُشِيرُ إلَى خِلَافَتِهِ بِالْإِيمَاءِ وَأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ فَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ { وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } مُشِيرًا بِذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخِلَافَةِ كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِلصَّلَاةِ فَمُرَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّك رَضِيَك النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدِينِنَا الرِّضَا الْخَاصَّ الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَاك لِلْخِلَافَةِ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الرِّضَا بِحَيْثُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً الثَّانِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصَدَ بِذَلِكَ تَسْكِينَ الثَّائِرَةِ وَالْفِتْنَةِ وَرَدْعَ الْأَهْوَاءِ بِذِكْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِيَسْكُنَ لَهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَنْدَفِعَ الْفَسَادُ .
وَثَالِثُهَا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَك النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدِينِنَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَتُجْعَلَ الْإِضَافَةُ عَلَى بَابِهَا مُوجِبَةً لِلْعُمُومِ كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ هُوَ اللُّغَةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فَجَعَلُوهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لُغَةً ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَيْتَتِهِ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ فَفَهِمَ عُمَرُ مِنْ إشَارَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الصِّدِّيقَ مَرْضِيٌّ لِجَمِيعِ حُرُمَاتِ الدِّينِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَحْوَالُ الْأُمَّةِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعَمِّ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَهُوَ مِنْ الدِّينِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا أَيْ هَؤُلَاءِ

إنَّمَا يَتَنَازَعُونَ يَعْنِي الْأَنْصَارَ فِي أُمُورِ رِئَاسَةٍ وَعُلُوٍّ وَحُصُولِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قِبَلِهِمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا دِينِيٌّ فَيَكُونُ حَسِيسًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ ، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمَرْضِيَّ لِمَعَالِي الْأُمُورِ لَا يَقْصُرُ دُونَ خَسِيسِهَا فَانْدَفَعَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ هَذَا السُّؤَالُ ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَلَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا قَامَ الْأَنْصَارُ فِي مُنَازَعَتِهِ لِطَلَبِ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَقَةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَجِدْ هَذَا الْقَائِلُ الْأَمْرَ يَصْفُو لَهُ وَحْدَهُ طَلَبَ الشَّرِكَةَ تَحْصِيلًا لِمَقْصِدِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَصْلَحَةً لِلنَّاسِ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك } إنَّهُ الْخِلَافَةُ وَإِنَّهُ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لِيَنْصُرُوهُ فَيَقُولُونَ لَهُ وَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي قَدْ مُنِعْتُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } } فَلَمْ يَكُنْ لِلْأَنْصَارِ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَيْءٌ ، وَهَذَا مُسْتَوْعَبٌ فِي كُتُبِ الْإِمَامَةِ وَمَوْضِعُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّا بِالْقَيْرَوَانِ نَعْلَمُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا بِالْقَضَاءِ ، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْفُتْيَا وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْإِمَامَةِ أَيَخْفَى ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَصَدَقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا قَالَهُ وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَيْضًا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ عَزَلَ الْأَوَّلَ وَوَلَّى الثَّانِيَ ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَعْلَى وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي عَزَلَهُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِهِ ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ مَعْزُولًا عَنْ غَيْرِ الْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَمَصْلَحَةُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ .
فَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِ الْأَصْلَحِ لِلنَّاسِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمُحَرَّمُ لَا يَنْفُذُ فِي الشَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } فَقَدْ تَحَرَّرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْكُفَلَاءِ فِي الْحَضَانَةِ وَفِي غَيْرِهَا ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتَحْرِيرِ ضَابِطِهِمَا وَبِاَللَّهِ الْعِصْمَةُ .

قَالَ : ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ ) قُلْت : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ وَبِمَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُتَّصِفِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِمَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مَنْ هُوَ أَتَمُّ قِيَامًا مَعَ أَنَّ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِهَا فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وُجُوبَ حَتْمٍ تَقْدِيمُ الْأَقْوَمِ بِتِلْكَ الْمَصَالِحِ ، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَقْوَمِ بِهَا وَتَقْدِيمُ الْأَقْوَمِ أَوْلَى ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ حَاصِلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَعَيُّنِ الْأَقْوَمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً ، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا بِتَعْيِينِ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ فَإِنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا كَالنِّسَاءِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ أُمُورِ الْحَضَانَةِ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُنَّ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي مِثْلِ رَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلِيَّةُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلَحُ لَهَا مَعَ أَنَّ الْأَدْنَى صَالِحٌ لَهَا أَيْضًا .
قَالَ : ( وَيَظْهَرُ لَك بِاعْتِبَارِ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَقْدِيمٌ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى إلَى قَوْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ

مَعْرُوفٌ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى ) .
قُلْت : مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الْخِلَافَةِ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَعَلَى هَذَا وَرَدَ سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ رَضِيَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا إشَارَةً لِتَقْدِيمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَقْدِيمِهِ لِلْإِمَامَةِ ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْخِلَافَةِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ إنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذَا الْمَسَائِلِ أَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَصَدَقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا قَالَهُ ) .
قُلْت : الْجَوَابَاتُ لَا بَأْسَ بِهَا غَيْرَ مَا تَضَمَّنَهُ الْجَوَابُ الْأَخِيرُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي قَوْلِهِ إنَّمَا قَامُوا فِي مُنَازَعَتِهِ لِطَلَبِ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصْفُو لَهُمْ طَلَبُوا الشَّرِكَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمْرٌ لَا يَلِيقُ بِهِمْ ، وَلَا تَصِحُّ نِسْبَةُ مِثْلِهِ إلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ لِمُتَوَلِّي أَمْرِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَلَمَّا لَمْ يُسَاعَدُوا عَلَى ذَلِكَ طَلَبُوا الشَّرِكَةَ طَمَعًا فِي تَحْصِيلِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُجُورِ إذْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ جَمِيعِهَا هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِمْ لَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ إيثَارِ الرِّئَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ فِي بَذْلِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : ( وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَيْضًا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ عَزَلَ الْأَوَّلَ وَوَلَّى

الثَّانِيَ ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) .
قُلْت : مَا حَكَاهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ عَزَلَ الْمُتَوَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُقَصِّرٌ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ ، وَلَكِنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ مِنْهُ بِالْأَهْلِيَّةِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْقَضَاءِ تَحْصُلُ مِنْ الْمَفْضُولِ الْمُتَّصِفِ بِالْأَهْلِيَّةِ كَمَا تَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَا وَجْهَ لِعَزْلِهِ ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْوَصِيِّ فِيهِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا وَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيمَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَلَمْ يَنْصَحْ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ يَجْتَهِدُ وَيَنْصَحُ وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ بِالْأَهْلِيَّةِ مِنْهُ ، وَمَا قَالَهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوقِ السَّبْعَةِ إلَى تَمَامِ الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْمِائَةِ صَحِيحٌ .

الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِأَيِّ وِلَايَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ وَتَأْخِيرُ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا تَحْصُلُ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِالْأَهْلِيَّةِ لَا مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْأَيْتَامِ مَنْ اتَّصَفَ بِأَهْلِيَّةِ تَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ وَأَحْوَالِ الْكَوَافِلِ وَالْمُنَاظَرَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِتِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ ، وَيُقَدَّمُ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ النُّصُبِ وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُلْطَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةُ ، وَيُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ كَانَ أَهْلًا فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَعَوَارِضِ سَهْوِهَا وَاسْتِخْلَافِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِهَا وَمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَهْلًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْأَتَمُّ قِيَامًا بِذَلِكَ فَلَا يَجِبُ حَتْمُ تَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَتَمِّ عَلَى الْأَتَمِّ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ حَاصِلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ الْأَتَمِّ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ وَجَبَ عَلَيْهِ عَزْلُ الْأَوَّلِ وَتَوْلِيَةُ الْأَصْلَحِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ

الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَعْلَى وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي عَزَلَهُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِهِ ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ا هـ .
يَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَاصِرٌ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ ، وَلَكِنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ مِنْهُ بِالْأَهْلِيَّةِ إذْ لَا وَجْهَ لِعَزْلِهِ حِينَئِذٍ ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْقَضَاءِ كَمَا تَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُتَّصِفِ بِالْأَهْلِيَّةِ كَذَلِكَ تَحْصُلُ مِنْ الْمَفْضُولِ الْمُتَّصِفِ بِهَا ، وَتَعْيِينُ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ إنَّمَا هُوَ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا كَالنِّسَاءِ فِي أَهْلِيَّةِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ أُمُورِ الْحَضَانَةِ فَإِنَّ النِّسَاءَ أَصْبَرُ عَلَى أَخْلَاقِ الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً وَأَقَلُّ أَنَفَةً عَنْ قَاذُورَاتِ الْأَطْفَالِ وَأَكْثَرُ إقَامَةً بِالْمَنْزِلِ ، وَالرِّجَالُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَتَعْيِينُ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِنَّ أَمَسَّ مِنْهُمْ بِالْأَهْلِيَّةِ ، كَمَا إنَّ تَقْدِيمَ الرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ ، بَلْ الْأَهْلِيَّةُ فِيهَا لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ لِجَمِيعِ الرِّجَالِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ } مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْقَضَاءَ تَبَعُ الْحِجَاجِ وَأَحْوَالِهَا ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهَا أَشَدُّ تَفَطُّنًا كَانَ أَقْضَى مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةُ فَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إذْ هُوَ يُخْدَعُ

بِأَيْسَرِ الشُّبُهَاتِ ، وَلِكَوْنِ الْقَضَاءِ عِبَارَةً عَنْ التَّفَطُّنِ لِلْحِجَاجِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } فَظَهَرَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ ، وَأَنَّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِالْفُتْيَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَدِيدُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ كَمَا إنَّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ إمَامَةَ الْخِلَافَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَضَبْطِ الْجُيُوشِ وَوِلَايَةِ الْأَكْفَاءِ وَعَزْلِ الضُّعَفَاءِ وَمُكَافَحَةِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْدَاءِ وَتَصْرِيفِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِهَا مِنْ مَظَانِّهَا وَصَرْفِهَا فِي مُسْتَحَقَّاتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْخِلَافَةِ كَانَتْ إشَارَةُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ رَضِيَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا إلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ فِي الصَّلَاةِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْإِمَامَةِ لَا تَسْتَقِيمُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّك رَضِيَك النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدِينِنَا مُطْلَقَ الرِّضَا بِحَيْثُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً بَلْ الرِّضَا الْخَاصُّ الْمُفَسَّرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ مِنْ نَحْوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ وَمِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ { يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إلَّا

أَبَا بَكْرٍ } فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَاكَ لِلْخِلَافَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُشِيرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخِلَافَةِ كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِلصَّلَاةِ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِلْخِلَافَةِ .
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَّبِعُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وُكِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُشِيرُ وَيُومِئُ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ إلَى خِلَافَتِهِ ، أَوْ يُقَالُ قَصَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ تَسْكِينَ الثَّائِرَةِ وَالْفِتْنَةِ وَرَدْعَ الْأَهْوَاءِ بِذِكْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِيَسْكُنَ لَهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَنْدَفِعَ الْفَسَادُ أَوْ يُقَالُ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهِمَ مِنْ إشَارَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الصِّدِّيقَ مَرْضِيٌّ لِجَمِيعِ حُرُمَاتِ الدِّينِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَحْوَالُ الْأُمَّةِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهَمِّ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَهُوَ مِنْ الدِّينِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ لِدِينِنَا عَلَى بَابِهَا مُوجِبٌ لِلْعُمُومِ لِكَوْنِ الْأُصُولِيِّينَ جَعَلُوهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لُغَةً فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَيْتَتِهِ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَفَلَا نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا أَيْ مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ فَلَا نُقَدِّمُ عَلَيْك مِنْ الْأَنْصَارِ مَنْ يَطْلُبُ التَّقَدُّمَ عَلَيْك فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ مِنْ تَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ لِمُتَوَلِّي أَمْرِ الْأُمَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَا نُشْرِكُ مَعَك مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ الشَّرِكَةَ فِيهِ طَمَعًا لِتَحْصِيلِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُجُورِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَحْوَالِ الْأَنْصَارِ فِي

بَذْلِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ الْمَرْضِيَّ لِمَعَالِي الْأُمُورِ لَا يَقْصُرُ دُونَ خَسِيسِهَا .
وَلِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَقَةِ ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك } إنَّهُ الْخِلَافَةُ وَإِنَّهُ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لِيَنْصُرُوهُ ، فَيَقُولُونَ لَهُ وَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي قَدْ مُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } } فَلَمْ يَكُنْ لِلْأَنْصَارِ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَيْءٌ كَمَا هُوَ مُسْتَوْعَبٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّا بِالْقَيْرَوَانِ وَإِنَّا نَعْلَمُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا بِالْقَضَاءِ ، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْفُتْيَا ، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْإِمَامَةِ أَيَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَانِ الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالرَّوَافِعِ لِلْأَسْبَابِ لَا تُعْتَبَرُ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَاوَى ظَاهِرُهَا التَّنَاقُضُ وَفِي التَّحْقِيقِ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ إذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ الْوُضُوءُ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ ، وَإِنْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَلَا عِبْرَةَ بِالطَّهَارَةِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً لَزِمَهُ الثَّلَاثُ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ ، وَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا هَلْ هِيَ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ أَوْ غَيْرُهُمَا لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا شَكَّ فِيهِ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَصَلَّى وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَجْلِ الشَّكِّ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ ، فَوَقَعَتْ هَذِهِ الْفُرُوعُ مُتَنَاقِضَةً كَمَا تَرَى فِي الظَّاهِرِ ، وَإِذَا حَقَقْت عَلَى الْقَوَاعِدِ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا تَنَاقُضٌ بَلْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَشْكُوكٍ فِيهِ مُلْغًى فَكُلُّ سَبَبٍ شَكَكْنَا فِي طَرَيَانِهِ لَمْ نُرَتِّبْ عَلَيْهِ مُسَبَّبَهُ ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ كَالْعَدَمِ الْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ الْحُكْمَ ، وَكُلُّ شَرْطٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبْ الْحُكْمَ ، وَكُلُّ مَانِعٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ مُلْغًى كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إنْ وُجِدَ سَبَبُهُ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَا فِي الطِّهَارَاتِ ، وَتَعَيَّنَ إلْغَاؤُهَا مِنْ وَجْهٍ وَاخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِأَيِّ

وَجْهٍ تُلْغَى وَإِلَّا فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى اعْتِبَارِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا شُكَّ فِي طَرَيَانِ الْحَدَثِ جَعَلْته كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ .
وَالْمَجْزُومُ بِعَدَمِهِ لَا يَجِبُ مَعَهُ الْوُضُوءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ الْوُضُوءُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ تَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مُبَرِّئٍ مَعْلُومِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونِ الْوُجُودِ ، وَالشَّكُّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ ، وَالشَّكُّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ هَلْ هِيَ سَبَبٌ مُبَرِّئٌ أَمْ لَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلَاةُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهَا ، وَالْمَجْزُومُ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ مَظْنُونَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرْفًا بِحَرْفٍ ، وَكِلَاهُمَا يَقُولُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ مُلْغًى لَكِنْ أَلْغَاهُ مَالِكٌ فِي السَّبَبِ الْمُبَرِّئِ وَإِلْغَاءُ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدَثِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَاتِ وَسَائِلٌ ، وَطَرْحُ الشَّكِّ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصِدِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِهِ لِتَحْقِيقِ الْوَسَائِلِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهَارَاتِ يُشَكُّ فِيهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا إذَا شُكَّ فِيهِ ، وَأَمَّا إذَا شُكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَالْمَشْكُوكُ فِيهِ مُلْغًى عَلَى الْقَاعِدَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ شَرْطُهَا الْعِصْمَةُ ، وَنَحْنُ نَشُكُّ فِي بَقَائِهَا فَيَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِ مُلْغًى عَلَى الْقَاعِدَةِ وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الْجَمِيعُ لِأَنَّا نَشُكُّ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا فِي السَّبَبِ الْمُبَرِّئِ فَلَعَلَّهُ غَيْرُ مَا وَقَعَ فَوَجَبَ اسْتِيعَابُهَا حَتَّى يُعْلَمَ السَّبَبُ الْمُبَرِّئُ

كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ إذَا شَكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَتِهَا ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِ مُلْغًى عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا سَجَدَ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ نَصَبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِلسُّجُودِ لَا لِلزِّيَادَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَلْيُطَالَعْ مِنْ هُنَاكَ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هَاهُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَاتِ وَبَيْنَ الشَّكِّ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ أَشَرْت إلَيْهِ هَاهُنَا وَتَكْمِيلُهُ هُنَاكَ .

( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَانِ الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالرَّوَافِعُ لِلْأَسْبَابِ لَا تُعْتَبَرُ ) الْقَاعِدَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ هِيَ أَنَّ كُلَّ مَشْكُوكٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا مُلْغًى فَكُلُّ سَبَبٍ شَكَكْنَا فِي طَرَيَانِهِ لَمْ نُرَتِّبْ عَلَيْهِ مُسَبِّبَهُ ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ كَالْمَعْدُومِ وَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ الْحُكْمَ وَكُلُّ شَرْطٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ الْحُكْمَ ، وَكُلُّ مَانِعٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إنْ وُجِدَ سَبَبُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الطَّهَارَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ جَعَلَ الْعُلَمَاءَ - وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهَا فِيهَا أَيْضًا - يَخْتَلِفُونَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُلْغَى بِهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ فِيهَا .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا شُكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ جَعَلْته كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ لَا يَجِبُ مَعَهُ الْوُضُوءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ الْوُضُوءُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الشَّكُّ فِي طَرَيَانِ الْحَدَثِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ ، وَالشَّكُّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ هَلْ هِيَ سَبَبٌ مُبَرِّئٌ أَمْ لَا .
وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ تَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مُبَرِّئٍ مَعْلُومِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونِ الْوُجُودِ لَا مَشْكُوكِ الْوُجُودِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذَا الصَّلَاةُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهَا ، وَالْمَجْزُومُ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَكِلَاهُمَا يَقُولُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ مُلْغًى

لَكِنَّ إلْغَاءَ مَالِكٍ فِي السَّبَبِ الْمُبَرِّئِ وَإِلْغَاءَ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدَثِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَاتِ وَسَائِلٌ وَطَرْحُ الشَّكِّ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصِدِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِهِ لِتَحْقِيقِ الْوَسَائِلِ ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إلْغَاءِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَدَمِ إلْغَائِهِ فِي طَرَيَان غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ وَرَوَافِعِهَا كَالشَّكِّ فِي طَرَيَان الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَيُلْغَى الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ حِلِّ الْعِصْمَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ ، أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ سُجُودِ السَّهْوِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ ، أَمَّا إذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ إذْ لَا يَعْلَمُ السَّبَبَ الْمُبَرِّئَ إلَّا بِاسْتِيعَابِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ إذَا شَكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَتِهَا أَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَاحِدَةً فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَمْ يَقَعْ فِي الطَّلَاقِ بَلْ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الرَّجْعَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ أَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَيَأْتِي بِرَابِعَةٍ ، وَيَسْجُدُ إذْ لَيْسَ هُنَا شَكٌّ فِي السَّبَبِ حَتَّى يُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ بَلْ سَبَبٌ فِي الشَّكِّ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ نَصَبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِلسُّجُودِ لَا لِلزِّيَادَةِ .
وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ بَسْطُ مَسَائِلِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَلْتُطَالِعْ ثَمَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ اعْتِبَارِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الشَّكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ

ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَفِي أَنَّهُ هَلْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَفِي أَنَّهُ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ يَجِبُ الْوُضُوءُ ، وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُهُ ، وَفِي الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ ، وَفِي الرَّابِعِ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا ، وَيُصَلِّي الرَّابِعَةَ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَجْلِ الشَّكِّ فَاعْتَبَرَهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا وَبَيْنَ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ الشَّكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ لَا عِبْرَةَ بِالطَّهَارَةِ ، وَفِي الثَّانِي وَفِي الثَّالِثِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِلْغَاءِ الشَّكِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَصْلٌ ) حَدَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ السَّبَبَ وَالْعِلَّةَ بِالْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ فَخَرَجَ بِالظَّاهِرِ الْخَفِيُّ كَاللَّذَّةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَالْعُلُوقِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُمَا لِخَفَائِهِمَا تُرِكَا ، وَجُعِلَ السَّبَبُ فِي النَّقْضِ اللَّمْسَ وَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ ، وَخَرَجَ بِالْمُنْضَبِطِ نَحْوُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ لَمْ يُنَطْ بِهَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا لِاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ ، وَإِنَّمَا أُنِيطَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدَخَلَ بِالْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ التَّامَّةِ لَا خُصُوصِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ السَّبَبُ الْمُعَرِّفُ لِحُكْمٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ كَحِلِّ الشَّعْرِ بِالنِّكَاحِ وَحُرْمَتِهِ بِالطَّلَاقِ جُعِلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِلَّةً لِثُبُوتِ حَيَاتِهِ كَالْيَدِ ، وَحَدُّ الْمَانِعِ الْمُرَادِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مَانِعُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ الْمُعَرِّفِ نَقِيضَ حُكْمِ السَّبَبِ فَقَيَّدَ الْوَصْفَ فِي حَدِّ الْمَانِعِ بِالْوُجُودِيِّ لِإِخْرَاجِ عَدَمِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مَانِعًا لَا تَسَمُّحًا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ ،

وَأَطْلَقَهُ فِي حَدِّ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ فِي السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ مَانِعٌ لِوُجُودِ حُكْمِ السَّبَبِ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ كُلُّ مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ مِنْ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِلْمَانِعِ وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ عَدَمَ شَيْءٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُ الشَّيْءِ سَبَبًا فِي الْوُجُودِ أَوْ بَعْضَ سَبَبٍ وَشَرْطٍ فِيهِ ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَبَبًا إلَخْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلنَّقِيضِ أَيْ الْعَلَامَةُ عَلَيْهِ وَنَقِيضُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ فَالْأُبُوَّةُ مَثَلًا نَفَتْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلَ ابْنَهُ لَا غَيْرُ .
وَأَمَّا ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْقِصَاصِ مِنْهُ فَبِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لَهَا كَمَا قَالَهُ سم وَهُوَ الْحَقُّ ، وَإِذَا كَانَ عَدَمُ الشَّيْءِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الشَّيْءِ بِأَنْ يُقَالَ انْتَفَى كَذَا لِعَدَمِ كَذَا كَانَ وُجُودُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ ، وَأَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ رَفْعُ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَيْسَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى السَّبَبِ ، بَلْ الْمُعَلَّلُ بِهِ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَدَمِيًّا كَمَا يُعَلَّلُ عَدَمُ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ الْعَقْلِ فَإِنَّ عَدَمَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْتِفَاءٌ لِحُكْمِ السَّبَبِ حَتَّى يَكُونُ عَدَمُ الْعَقْلِ مَانِعًا فَلَا يَصِحُّ بَلْ مَأْخُوذٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ هُوَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِانْتِفَاءِ عِلَّةِ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ ، جَوَّزُوا كَوْنَ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ عَدَمًا مُضَافًا بِخِلَافِ الْمَانِعِ نَعَمْ فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ عَدَمِيَّةً مَعَ وُجُودِ الْحُكْمِ نِزَاعٌ كَبِيرٌ .
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْعَضُدُ وَالْمُخْتَارُ مَنْعُهُ وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ فِي السَّبَبِ

وَالْعِلَّةِ فَأَمْرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَانِعَ لِلْحُكْمِ هُوَ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ كَالْأُبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ كَوْنَ الْأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الِابْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِيرَ الِابْنُ أَيْ مِنْ حَيْثُ قَتْلِهِ سَبَبًا لِعَدَمِهِ ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حِكْمَةٌ تَقْتَضِي الْحُكْمَ لَا نَقِيضَهُ نَعَمْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَانِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَانِعِ الِاصْطِلَاحِيِّ ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَانِعُ عَلَى مَا يَتَحَقَّقُهُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ فَيَشْمَلُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَلِذَا قَالَ الْعَضُدُ : حَقِيقَةُ الشَّرْطِ أَنَّ عَدَمَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ وُجُودُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ فَبِالْحَقِيقَةِ عَدَمُهُ مَانِعٌ ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ فِي عَدَمِهِ تُنَافِي حِكْمَةَ الْحُكْمِ أَوْ السَّبَبِ إلَى آخِرِ مَا بَيَّنَهُ ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ فِي مَانِعِ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ شَيْءٍ لِمَا عَلِمْت كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي مَانِعِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ كَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهَا ، فَإِنَّ حِكْمَةَ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ اسْتِغْنَاءُ الْمَالِكِ ، وَلَيْسَ مَعَ الدَّيْنِ اسْتِغْنَاءٌ فَالْفَرْضُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ ، وَاَلَّذِي جَعَلَ عَدَمَهُ مَانِعًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ إلَّا شَرْطًا لِلسَّبَبِ بِأَنْ يُخِلَّ عَدَمُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ ، وَعَدَمُ حِكْمَةِ السَّبَبِ عَدَمٌ لَهُ ، وَالْفَرْضُ تَحَقُّقُهُ وَأَنَّ هُنَاكَ حِكْمَةٌ تُخِلُّ بِحِكْمَتِهِ ، وَبِهَذَا عُلِمَ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ مَانِعِ السَّبَبِ وَعَدَمِ شَرْطِ السَّبَبِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ مَانِعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ شَرْطِ الْحُكْمِ ، وَتَحَصَّلَ أَنَّ لَنَا سَبَبًا وَمَانِعًا لِلْحُكْمِ وَمَانِعًا لِلسَّبَبِ وَشَرْطًا لِلْحُكْمِ وَشَرْطًا لِلسَّبَبِ وَعَدَمَ شَرْطٍ لِلْحُكْمِ وَعَدَمَ شَرْطٍ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31