كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي

حال من اللفيف أي حال كونه اعتمد عليه في القسامة وجعل لوثاً فيها وهو أحد قولين . مشهورهما أنه ليس بلوث وعلى مقابله درج الناظم في الدماء حيث قال في أمثلة اللوث : أو بكثير من لفيف الشهدا . الخ .
وفهم من قوله في القسامة أنه لا يعتمد عليه في غيرها والعمل بفاس على جواز شهادته في الدماء والأموال وغيرهما فيثبت بها الدم وغيره ويقتص من القاتل بها مع القسامة حيث بلغ اللفيف اثني عشر فأكثر على ما هو مبين في شرح اللامية وغيرها ومعنى عدم الإعذار فيه أنه لا يقبل التجريح فيه بكل ما يجرح به العدل من مطل وحلف بعتق وطلاق ونحو ذلك لأنه مدخول فيه على عدم العدالة . نعم لا بد فيه من ستر الحال فلا يقبل تارك الصلاة ولا المجاهر بالكبائر من كثرة كذب وإظهار سكر وقمار وسفه ومجون ولا متهم كصديق وقريب للمشهود له أو عدو للمشهود عليه اتفاقاً ولا ممن فيه عصبية ففي البرزلي قبيل النفقات أثناء كلامه على شهادة اللفيف ما نصه : شاع وذاع في العامة أن يشهد بعضهم لبعض على وجه الإعانة واستخلاص الحقوق ويستند بعضهم إلى خبر بعض من غير تحقيق علم اه . وانظر ما يأتي في الدماء عند قوله : أو بكثير من لفيف الشهدا . الخ . . . ثم لا بد من استفساره لأنه قائم مقام تزكيته ، وسواء كان في الرسم إجمال أو احتمال أم لا لأن كل من لا يكتب شهادته لا بد من استفساره لفيفاً أو غيره إذ لعل الكاتب كتب ما لم يشهد به وهو من حق الخصم على عمل الفاسيين . وصفته : أن يقرأ الرسم المقيد عنهم أولاً على كل واحد منهم إن لم يحضروا جميعاً أو على جميعهم إن حضروا كلهم قراءة تفهم ، فإذا كملت قراءته سأله عن أداء شهادته كيف يؤديها وعن مستند علمه فيها فإذا أجاب بشيء كتبه بلفظه حرفاً حرفاً ولو ملحوناً ويسأله عن كل فصل يتوقف تمام الشهادة عليه على حدته فيقول له : ما علمك في هذا الفصل وفي هذا ولا يكتب عليه أنه أسقط فصلاً من فصولها بمجرد سكوته عنه كما يفعله كثير من جهلة العدول ، بل حتى يسأله عنه بخصوصه ولا يحقق فيه شيئاً وإن غلط فلا يؤاخذه به كما مرّ عند قوله : وخصم إن يعجز الخ . وهكذا يفعل في الثاني والثالث حتى يأتي على الأخير وإن رجع بعضهم كتب ذلك . وإن امتنع من الأداء كتب يشهد من يضع اسمه أثره أنه حضر بموضع كذا وسأل الشاهد أعلاه أو حوله عن شهادته فامتنع من أدائها امتناعاً كلياً فمن عاين امتناعه المذكور قيده في كذا ، فإذا ثبت امتناعه سقطت شهادته كامتناع العدل من أدائها . وقيل : يهدد الممتنع فإذا لج في الامتناع جازت شهادته ، ثم إذا كمل الاستفسار ووافق أداؤه ما قيد عنهم أولاً ثبتت شهادتهم ويبقى المدفع فيهم بالعداوة وترك الصلاة ونحوها مما مرّ لا بكل قادح لأنه مدخول فيهم على عدم تمام العدالة كما مرّ ، وإن خالف أداؤه شهادته أولاً سقطت الأولى والثانية والمعتبر في المخالفة اختلاف المعنى لا اللفظ ، وإن بقي إجمال بعد الاستفصال بغفلة ممن بحثهم عنه سئلوا عنه كما يسأل الشاهد عنه بعد أداء شهادته كما في المعيار قال فيه وما يتحيل به الشهود من سؤال الشاهد المستفسر عن أشياء تغلطه من الفساد ، بل الذي دلت عليه الرواية أن القاضي يسأله عما يتوقف عليه الحكم ولا يشترط حضور المشهود عليه للاستفسار كما لا يجب على المشهود له جلبهم له وإن كانوا من البادية مثلاً ، وإنما يجب عليه أن يعينهم للمطلوب وشأنه باستفسارهم قاله العبدوسي وغيره ، ثم إذا مات الشهود أو غابوا قبل الاستفسار فإنه يحكم بشهادتهم حيث كانت خالية من الإجمال والاحتمال لأن الأصلاستمرارها وعدم وجود ما يبطلها فإذا كان فيها إجمال ففي البرزلي عن أبي عمران يستفسر الشهود إذا قالوا : هذه الدابة لفلان هل يعلمون أنه باعها أم لا ؟ فإن غابوا حكم بشهادتهم ، وقيل : إذا كانوا من أهل العلم وإلاَّ فلا اه . واختلف إذا كانوا حضوراً ولم يقم المشهود له بها حتى مضت ستة أشهر فأكثر ، والذي به العمل أن الرسم إذا جاوز المدة المذكورة وادعى الخصم فيه مطعناً من غير الاستفسار مكن منه ، وأما إن طلب نسخة للاستفسار فإنه لا يمكن ويحكم به كذلك من غير استفسار قاله أبو زيد التالي . ونقله سيدي العربي الفاسي ، وفي المعيار جرى عمل بعض قضاة المغرب باستحسان ترك الاستفسار بعد مضي ستة أشهر من أداء الشهادة معتلاً بأن هذه مظنة النسيان . زاد في الفائق ما نصه : وبعضهم يقول باعتبار ستة أشهر إن أداها إثر تحملها ، وأما إن طال زمن تحملها ثم زعم نسيانها بعد ستة أشهر من أدائها فإنه لا يقبل قال : وهذه كلها استحسانات خارجة عن الأصول اه . ومفهوم قوله من أدائها أنهم إذا ماتوا أو غابوا قبل الأداء لا يعمل بها وهو الذي نقله بعض الثقات عن المجاصي وأنه رفعت إليه بينة اللفيف على عين بلد لأولاد ابن بكار وهي غير مؤداة ولها نحو الثمانين سنة فلم يحكم بها اه . وهذا ظاهر إن كان الأداء غير الاستفسار كما في ( ت ) في شرح اللامية : وإلاَّ فالمعمول به اليوم أن القاضي يكتفي بما قيده المتلقي عنهم ويكتب عقب أدوا أو شهدوا لدى من قدم لذلك فثبت الخ . ولا يطالبهم بالأداء عليه لأنه قدم المتلقي للتلقية والأداء ، وحينئذ فيعمل به حيث كتب القاضي شهدوا وأدوا ولو طال الزمان وما قاله المجاصي لعله مبني على أن الأداء لا يكون إلا عند القاضي أي فيؤدون عليه بعد التلقية ، ثم إن طلب الاستفسار استفسروا وهو الذي لأبي الحسن ، ومن المعلوم أن الاستحسان مقدم على القياس ، ولذا عول عليه ناظم العمل المطلق فقال :
واستحسنوا إن مر نصف عام
من الأداء ترك الاستفهام
وفي جواب لسيدي علي بن هارون ما نصه : جرى العمل بالتحديد في نسخة الاستفسار بستة أشهر مع العلم فإن زادت المدة فلا تعطى فيها نسخة وتعطى مطلقاً مع عدم العلم ، والقول قول من له الحق في ذلك أنه لا علم عنده ولولا ذلك لضاعت الحقوق اه . قلت : ولعل هذا القول المفصل هو الذي أصاب المفصل .
تنبيهات الأول : الشاهد غير المبرز الذي لا يعرف ما تصح به الشهادة حكمه حكم اللفيف في وجوب الاستفسار عن كيفية علمه بما شهد به كما في التبصرة ، وظاهره كان في الوثيقة إجمال أم لا . وأما العدل المبرز العارف بما تصح به الشهادة فلا يستفسر حيث لا إجمال مطلقاً ، وأما المبرز غير العالم بما تصح به الشهادة فيستفسر إذا أبهم أو أجمل كالذي قبله كشهادته بأن المرأة اختلعت من زوجها وسلمت له في جميع صداقها ومطالبها ثم قامت بعد ذلك تطالبه بحق خارج عن مطالب الزوجية زاعمة أن تسليمها إنما وقع فيما يرجع للزوجية فهنا يسأل الشاهد عما شهد به وعما فهمه من حال المرأة عند الشهادة هل ما ادعته الآن أو ما ادعاه الزوج عليها من التعميم قاله سيدي العربي الفاسي . قلت : ويفهم منه أن الخلاف بين ابن رشد وابن الحاج المشار له بقول اللامية : وإن عمم الإبراء والخلع سابق الخ . إنما هو إذا لم يحقق الشاهد عند الاستفسار شيئاً أو تعذر استفساره لموته أو غيبته وإلاَّ فالعبرة بما حققه الشاهد اتفاقاً منهما فتحققه منصفاً .الثاني : لا بد في الاستفسار من شاهدين يسألان اللفيف عما شهدوا به ولا يكفي الواحد لأنهم إن ثبتوا على شهادتهم على نحو ما قيدها عنهم الأولان فسماع هذا منهم زائد لا عبرة به ، وإن رجعوا عنها فلا يثبت رجوعهم بالشاهد الواحد قاله الزياتي في نوازله عن سيدي العربي الفاسي قال : وأما السماع من اللفيف فعمل المراكشيين على أنه لا بد من اثنين لأنه كالنقل ، وعمل الفاسيين على الاكتفاء بالواحد لأنه من باب الأداء والسامع منه نائب عن القاضي في ذلك ، فيشهد اللفيف عند عدل عينه القاضي نصاً أو بعموم الإذن له في تحمل الشهادات ، فإذا أدى اللفيف لديه كتب مضمن شهادتهم في رسم وأرخه ثم كتب أسماءهم عقب التاريخ ثم يطالع القاضي بذلك فيكتب بخطه عقب أسمائهم شهدوا لدى من قدم لذلك لموجبه فثبت فقوله : شهدوا أي اللفيف لدى أي عند من قدم أي قدمه القاضي لسماع البينات بإذن خاص أو عام ، فالفاعل الذي حول عنه الإسناد هو القاضي لذلك أي لسماع البينات اللفيفية لموجبه أي لموجب تقديمه لذلك لكونه عدلاً صالحاً لذلك ، ولضرورة استنابة القاضي إياه في ذلك لعسر مباشرة القاضي فثبت أي أداؤهم أي أداء اللفيف عند من ذكر ، ثم يكتب بعد ذلك رسم التسجيل عقبه فيه إشهاد القاضي بثبوت ذلك الرسم عنده .
الثالث : ما مر من أن الرسم يقرأ على اللفيف عند إرادة الاستفسار هو ما وقفت عليه لغير واحد من المتأخرين ، وأما غير اللفيف فقال في التبصرة شهادة الاسترعاء لا بد أن يستحضرها الشهود من غير أن يروا الوثيقة إذا كانت الوثيقة مبنية على معرفة الشهود كشهادتهم بمعاينة الغصب والحيازة ونحوهما ، فإذا رأى الحاكم ريبة من إجمال أو احتمال توجب التثبت ، فينبغي أن يقول لهم ما تشهدون به فإن ذكروا بألسنتهم ما في الوثيقة وإلا ردها . قال : وأما إن كانت الوثيقة منعقدة على إشهاد الشاهدين ، فلا ينبغي أن يؤاخذ الشهود بحفظ ما في الوثيقة وحسبهم أن يقولوا : إن شهادتهم فيها حق ولا يمسك القاضي الكتاب ويسألهم عنها اه ببعض اختصار وزيادة إيضاح . وظاهره أن المنعقدة على إشهاد الشاهدين لا استفسار فيها ولو مع إجمال أو احتمال لأن الشاهد حينئذ إنما حكى قول المتعاقدين وهو مخالف لما مرّ في مسألة الخلع من أنهم يسألون عما فهموه من حال المتعاقدين ومخالف لما نص عليه ابن لب في جواب له نقله الشارح وغيره عند قوله : والزوج حيث لم يجدها بكراً . الخ . قائلاً ما نصه الواجب في شأن اتصال تلك العصمة أن يستفسر شهود التفاصل والانفصال فإن كانوا قد فهموا من الزوج الطلاق وأدوا على ذلك فهو كذلك وإن فهموا بقاء العصمة وأدوا على ذلك قلدوا وحلف الزوج أنه ما أراد طلاقاً اه . وهذا من أدل دليل على دخول الاستفسار في شهادة الأصل خلافاً لمن وهم من بعض شيوخنا وهو في الحقيقة راجع إلى الشهادة بالفهم وفي إعمالها نزاع تقدم عند قوله : وليس بالجائز للقاضي إذا . وسيأتي إن شاء الله عند قوله : وغالب الظن الخ . . . إن الشهادة بما يفهم من القرائن والأحوال لا تقبل إلا من المبرز في علم الحقائق وأين هو ، ولذا لم يذكر في الفائق وجوب الاستفسار إلا في شهود الاسترعاء فقال : إن عمل القضاة جرى باستفسار شهود الاسترعاء عن شهادتهم وبعد أدائها عن فصول الوثيقة ومضمونها الخ . ويفهم منه ومما مر أنهم لا يستفسرون عما ليس من فصول الوثيقة كسؤالهم عن وقت الواقعة ومكانها ونحو ذلك مما لا يضر جهله كما يفعله بعض القضاة اليوم ، بل ذلك من الفساد كما مرّ ، وإنما استحسنواذلك في الزنا والسرقة كما قال ( خ ) وندب سؤالهم كالسرقة ما هي وكيف أخذت الخ . . بل ذكر شراحه عند قوله في القسامة ، وإذا اختلف شاهداه بطل أن شهود اللوث لا يلزمهم بيان الزمان والمكان ونحوهما ، وإذا كان هذا فيما يوجب القتل فكيف به في غيره .
الرابع : ما مرّ من أن العبرة في المخالفة اختلاف المعنى لا اللفظ هو الذي صرح به من لا يحصى ممن تكلم على شهادة اللفيف فلا يرد ما لابن الهندي في وثائقه من أن شهادة الأبداد لا تعمل شيئاً إذا شهد كل واحد منهم بغير نص ما شهد به صاحبه وإن اتفقت شهادتهم في المعنى اه . لأن كلامه في العدول العارفين بمعاني الألفاظ وصيغها واللفيف لا يتأتى منهم ذلك في الغالب على أنه قد ورد عن مالك ما يدل على جوازها ففي أحكام ابن سهل عن الإمام مالك في شاهدين شهد أحدهما في منزل أنه مسكن هذا وشهد آخر أنها حيزه فقال : هي شهادة واحدة ولا تفرق ، وقد يكون الكلام في الشهادة مختلفاً ، والمعنى واحد فأراهما قد اجتمعا على الشهادة ، قال سحنون : معنى حيزه أنه ملكه وحقه وفي التقريب على التهذيب : لو شهد رجل أن زيداً باع سلعته من عمرو وشهد آخر بإقرارهما بالبيع فشهادتهما كاملة لأنهما في المعنى قد اجتمعا على نقل الملك اه . والأبداد : بدالين مهملتين التفرق ومنه قولهم بدد الله شمل العدو .
ولا الكَثِيرُ فِيهِمُ العُدُولُ
والْخُلْفُ في جَمِيعها مَنْقُولُ
( ولا الكثير ) معطوف على ما مرّ ( فيهم ) خبر ( العدول ) مبتدأ والجملة حال ، وأشار به إلى ما ذكره ابن سهل في مسألة أبي الخير الملقب لزندقته بأبي الشر شهد عليه بأنواع كثيرة من الزندقة الواضحة عدد كثير ثبتت عدالة نحو العشرين منهم وأكثر من ضعفهم استظهاراً ، فأفتى قاضي الجماعة منذر بن سعيد وإسحاق بن إبراهم وأحمد بن مطرف بقتله دون إعذار وحكم به ولم يلتفت إلى من قال بالإعذار له ، وظاهر إطلاق الناظم أن الإعذار منتف مع الكثرة المذكورة في الأموال وغيرها لأنه إذا انتفى في الدماء مع خطرها فكيف به في الأموال وهو كذلك ؟ قال ابن سهل عقب نقله لفتوى من أفتى بقتل الزنديق المذكور ما نصه : والحق أن من تظاهرت الشهادة عليه في إلحاد أو غيره هذا التظاهر فالإعذار إليه معدوم الفائدة ، وفهم من قوله الكثير أنهم إذا لم يكثروا يعذر فيهم وهو كذلك قال في التبصرة : وأما الآجال في حق الزنادقة فمذهب المحققين أن المشهود عليه إن استفاضت عليه الأمور الموجبة للقيام عليه فلا يعذر إليه ولا يضرب له أجل ، وإن كان على اختلاف ذلك فإنه يؤجل شهراً لدفع البينة ، فإن طلب أجلاً آخر ورجى ثبوتحجته أجل أجلاً آخر دون الأول أو مثله بالاجتهاد وإن لم يرج لم يوسع عليه ( والخلف ) مبتدأ ( في جميعها ) أي جميع ما مر أنه لا يعذر فيه يتعلق بقوله : ( منقول ) خبر المبتدأ ، وقد نبهنا على الخلاف في كل مسألة بخصوصها عند الكلام عليها .
تنبيهان الأول : ما تقدم من عدم الإعذار في الموجه للتطليق وعدمه إنما هو من حيث الطعن فيه بالقوادح كما يفهم من التعليل بقوله منه بدلاً الخ . لا من حيث معارضته ببينة أخرى كما إذا شهد الموجه بأنها طلقت نفسها في وقت كذا من يوم كذا وطلب الزوج أن يأتي ببينة تشهد بأنها لم تتلفظ بالطلاق أصلاً في ذلك الوقت أو لم يحلفه في ذلك الوقت ونحو ذلك من الوجوه المعارضة الموجبة للتهاتر أو الصيرورة للترجيح ، فهذا ينبغي أن يعذر له فيه ويؤجل لإثباته إذ لا أقل أن توجب المعارضة المذكورة الخلاف ، ويحتاج الناظر في القضية حينئذ إلى مزيد تحرير وإتقان ، وقد نقل ( ح ) أن البينتين إذا تعارضتا فنفت كل منهما ما أثبتته الأخرى في وقت مخصوص ومكان مخصوص يكون تهاتراً ويصار للترجيح فانظره ، ولا سيما والموجه قد يكون واحداً وكذا يقال في اللفيف على ما به العمل من إعمال شهادته مطلقاً . وقلنا لا يعذر فيه بكل القوادح إذا أراد الخصم معارضته فيمكن كما نص عليه غير واحد .
الثاني : بقي على الناظم مما لا إعذار فيه شهادة القافلة بعضهم لبعض في حرابة إذا شهد عدلان منهم على من حاربهم بأخذ مال أو قتل ، فإن مذهب مالك في السلابة والمغيرين وما أشبههم إذا شهد المسلوبون والمنتهبون قبول شهادتهم عليهم إذا كانوا من أهل القبول دون إعذار ، وإن أدى إلى سفك دمائهم كما في ابن سهل عن أبي إبراهيم إسحاق المذكور ، وكذا لا إعذار في شهادة أهل القافلة بعضهم لبعض عند حاكم البلد أو القرية التي حلوا أو مروا بها بما وقع بينهم من المعاملات في ذلك السفر وإن لم يعرف حاكم البلد عدالتهم كما أشار إليه المصنف فيما يأتي بقوله : ومن عليه وسم خير قد ظهر . الخ . لأنه في ضرورة السفر مدخول فيهم على عدم العدالة ، وكذا لا إعذار في مزكي السر كما مرّ ولكن الذي عليه القضاة اليوم وجوب الإعذار فيه لما نبهنا عليه قبل في شاهدي المجلس ، ويأتي قول الناظم : والفحص من تلقاه قاض قنعا . وأما المبرز في العدالة فالمعتمد وجوب الإعذار فيه بكل قادح كما أشار له ( خ ) بقوله : وفي المبرز بعداوة وقرابة وإن بدونه كغيرهما على المختار ، وكذا من يخشى منه مذهب المدونة وجوب الإعذار فيه ، وإنما ذكره ( خ ) مع من لا إعذار فيه جمعاً للنظائر قاله طفي أي : لأن الجمع للنظائر قد يرتكب فيه غير المشهور ، وكذا لا إعذار في الشهادة بالضرر ولا في حكم الحكمين ولا في الشاهد على القاضي بالجرحة ، لأن طلبه للإعذار فيه طلب لخطة القضاء وطلبها جرحة كما تقدم ، وأما الوكالة فإنما ترك الإعذار فيها من تركه لأن القاضي لا بد له من الإعذار عند إرادة الحكم بقوله : أبقيت لك حجة فاستغني بذلك عن الإعذار فيها ابتداء فلا يسقط فيها الإعذار جملة كما في غيرها مما مرّ ، وكذا الإراثة كما في ( ح ) عن ابن بشير القاضي . والحاصل أن الطالب للإعذار إن كان هو الموكل فإن طلبه قبل قبض الوكيل ولم يتعلق للوكيل حق بالوكالة من بيع رهن بيده ليستوفي دينه ونحو ذلك فلا وجه للإعذار لأنه ممكن من عزله ، وإن كان بعد القبض وتلف المقبوض أو تعلق للوكيل حق بها فلا إشكال في وجوب الإعذار له ، وإن كانالطالب له هو الدافع فإن قلنا : إن الدافع لا ضمان عليه ولو ظهرت سخطة بشاهديها بعد قبض الوكيل وهروبه أو إفلاسه كما هو ظاهر كلامهم لأنه دفع بحكم ، والمصيبة من الموكل فلا حق للدافع في الإعذار بلا إشكال ، وإن قلنا بضمانه فكيف لا يعذر له إذا طلبه ابتداء وانتهاء . بل استظهر ابن رحال في شرحه وجوب الإعذار له مع عدم الضمان قائلاً لأنه قائم مقام الموكل في ذلك وأما إن قال : لا أدفع المال حتى يعذر إلى الموكل ففي ابن سلمون : إن قربت غيبة الموكل كالثلاثة فدون كتب إليه وإن بعدت الغيبة حكم عليه بالدفع ، وحينئذ فمن نفى الإعذار فيها مراده إذا طلب الغريم الإعذار لنفسه مطلقاً أو لرب الحق مع بعد الغيبة كما ترى ، وهذا كله إذا ثبتت الوكالة عند القاضي ، وأما إن لم تثبت واعترف الغريم بصحتها فحكم عليه الحاكم بالأداء ثم تبين عدم صحتها وقد هرب الوكيل أو فلس فعلى الدافع الغرم والمصيبة منه لأنه غار لنفسه باعترافه كما نص عليه ابن فرحون في القضاء بالإمارات هذا تحرير المسألة فيما يظهر ولم أقف عليه محرراً هكذا والله أعلم .
فصل في خطاب القضاةوهو كما قال الشيخ ( م ) أن يكتب قاضي بلد إلى قاضي بلد آخر بما ثبت عنده من حق الإنسان في بلد القاضي الكاتب على آخر في بلد المكتوب إليه ليحكم عليه هنالك عملاً بقوله : والحكم في المشهور حيث المدعى عليه الخ . . . وهذا التعريف لا يشمل الإنهاء بالمشافهة مع أنه خطاب فهو غير منعكس ، لكن لما لم يتعرض المصنف له داخل الفصل اقتصر على تعريفه بما ذكر ، وهو يشمل الإنهاء بالكتابة والخطاب على الرسوم الذي اقتصر عليه الناظم ههنا . ( وما يتعلق به ) من التعجيز والبشر ونحوهما .
ثُمَّ الخِطابُ لِلرُّسُومِ إنْ طُلِبْ
حَتْمٌ عَلَى القاضِي وإلاَّ لَمْ يَجِبْ
( ثم ) هي للترتيب الإخباري ( الخطاب ) من قاض لآخر بما ثبت عنده من صحة الرسم وعدالة شاهديه ، وهو مبتدأ ( للرسوم ) فيها أو عليها كقوله تعالى : ويخرون للأذقان } ( الإسراء : 109 ) أي عليها ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } ( الأنبياء : 47 ) أي فيه يتعلق بالخطاب ( إن طلب ) بالبناء للمفعول شرط أي إن طلبه الخصم من القاضي ( حتم ) خبر وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله كقوله : أنت ظالم إن فعلت لأن رتبة قوله : حتم التقديم ( على القاضي وإلا ) يطلبه الخصم من القاضي ( لم يجب ) عليه ولا مفهوم للرسوم بل بالمشافهة ، كذلك حيثطلبه الخصم أيضاً ( خ ) وأنهى لغيره بمشافهة إن كان كل بولايته وبشاهدين مطلقاً الخ . ابن رشد : يجب على القاضي المكتوب إليه أن يصل نظره بما ثبت عند القاضي الكاتب ، فإن كتب بثبوت شهادتهم فقط أي لا بقبولهم لم يؤمروا بإعادة شهادتهم ونظر في تعديلهم ، وإن كتب بتعديلهم وقبوله إياهم أعذر للمشهود عليه فيهم ، وإن كتب أنه أعذر فعجز عن الدفع أمضى الحكم عليه . والحاصل أنه يبنى على فعل الأول ( خ ) فنفذه الثاني وبنى كأن نقل لخطة أخرى وإن حدا إن كان أهلاً أو قاضي مصر الخ . . . وإنما كان يبني لأن إشهاد القاضي الأول بما ثبت من شهادتهم أو تعديلهم أو إعذار فيهم ونحوه حكم بذلك ، فلو لم يبن لكان متعقباً لحكم الأول . وفي ( خ ) ولا يتعقب حكم العدل العالم ، ولهذا اشترط في الباني أن يكون أهلاً أو قاضي مصر لم يعرف جوره ولا جهله لأن شأن قضاة الأمصار العلم ، ثم إذا كان الخطاب على الحكم بالحق بشاهدين فإن المخاطب بالفتح يعذر فيهما للخصم فإن أتى بمدفع فيهما لم يحكم عليه ، وإن ادعى الدفع فيهما بحجة في بلد الكاتب قيل له : أدِّ هنا ما ثبت عليك وامض فإن أثبت ما تدعيه من الحجة رجعت ، وإنما وجب الإعذار لأن المكتوب إليه لم يوجههما بل هما موجهان إليه فلا يعارض ما مرّ ، ويفهم من هذا أن الخطاب إذا لم يكن بالشاهدين بل بأعلم بصحته ونحوه على ما به العمل اليوم كما يأتي حكم بما خاطب به ، وإن لم يكن إشهاد فيبنى أيضاً وهو واضح ، وأن المكتوب إليه إذا لم يعرف خط الكاتب وعرف له به غيره لا بد من الإعذار في العرف بالكسر وهو كذلك ، وأن إشهاد الحاكم بصحة الرسم أو ثبوته ونحوهما أو إعلامه بذلك من غير إشهاد على ما به العمل ليس حكماً بالحق وإلاَّ ما احتاج المكتوب إليه إلى البناء بل ينفذ ذلك الحكم فقط ، وما ذاك إلا لكون اللفظ المذكور محتملاً للحكم بالحق وللحكم بتعديل البينة ونحوه دون إيقاع حكم ولا يلزم من الحكم بالتعديل مثلاً الحكم بالحق لأن التعديل راجع للحكم بعلم القاضي ، وقد يعارضه تجريح ونحوه يمنع من الحكم بالحق على أن كونه حكماً بالتعديل ونحوههو ما لابن رشد كما مرّ عنه وصرح به ابن عرفة ، والذي لغيره أنه ليس بحكم أصلاً وهو ما تقدم أول الباب ، وبه صرح الناظم في قوله بعد : وليس يغني كتب قاض كاكتفى . الخ . . . ولذا قال المازري وغيره في قاض خاطب آخر بقوله : ثبت عندي أن فلاناً وفلاناً اشتريا من فلان في عقد واحد كذا بثمن سماه الخ أن ذلك لا يوجب نقل الملك فتترتب عليه آثاره من شفعة ونحوها إذ النقل لا يثبت إلا باعتراف المتعاقدين أو حكم الحاكم عليهما بعد الإنكار ، والخطاب المذكور لم يصرح فيه بالاعتراف ولا بالحكم بالبيع ، بل هو محتمل للحكم ولما سواه من استماع لما أثبته من بينة زكيت دون إيقاع حكم ولا تلزم القضايا بلفظ فيه إشكال وإبهام اتفاقاً . انظر أقضية المعيار وأن القاضي إذا خاطب بحكم يجب أن يكتب حكمه وكل حجة له من تعديل أو تجريح وموجب حكمه لتكون له حجة على المحكوم عليه إن نازعه ، إذ لا يتم المعنى الذي وجب الخطاب لأجله إلاَّ بذلك وأن الخطاب على رسم ناقص لا يجب إذ الحجة لا تقوم به لأنه ساقط الاعتبار كما لا تعطى منه نسخة كما مرّ ، فإذا أشهد الشاهدين بوقتين مثلاً ولم يقيد فيه أنه لا يعلم أن الدين تأدى ولا سقط وطلب الخصم الخطاب عليه فلا يجاب إذ لا خطاب بشيء ناقص كما في المعيار ، وفي التبصرة أن الشهادة بالدين لميت أو عليه لا تتم إلا إذا قال الشاهد : إنه لا يعلم أن الدين تأدى أو سقط اه بالمعنى ، وهل يسمى المخاطب بالكسر الشهود الذي بنى عليهم حكمه في خطابه يجري ذلك على ما يأتي في فصل الحكم على الغائب من أنه إذا كان المحكوم عليه غائباً فلا بد من التسمية لأنه على حجته . ( خ ) وسمى الشهود وإلاَّ نقض الخ . وإن كان حاضراً فالتسمية مستحبة ، وبه العمل كما في ضيح والتبصرة ، ولكن الموافق لما مرّ عند قول الناظم وقول سحنون الخ . وجوب التسمية حتى في حق الحاضر لا استحبابها فقط لضعف عدالة قضاة الوقت ، وقد قال في تكميل التقييد ما نصه المازري من المصلحة والحكمة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل فيقول : علمت فيما لم يعلمه وعليه فلا يقبل قوله ثبت عندي كذا إلا أن يسمي البينة اه . وأما إن خاطب بمجرد شهادتهم أو بتعديله إياهم فلا بد من التسمية لبقاء الإعذار ولا يمكن إلا بها ، فإن قال : ثبت عندي بينة عادلة أن لفلان على فلان كذا ولم يسمهم رد خطابه ، ثم إن الأحوط تاريخ الخطاب لاحتمال عزل القاضي الكاتب لأن خطابه بعد عزله وقبل العلم به ساقط على أحد القولين في الوكيل يتصرف بعد العزل ، وقبلالعلم المشار لهما بقول ( خ ) وفي عزله بعزله ولم يعلم خلاف ، ولأن البينة التي خاطب بقبولها قد ينقلب حالها إلى جرحة لم تكن فإذا تأخر العمل بالخطاب ثم أعذر للخصم فيها ولم يكن تاريخ أمكنه إبطالها بالجرحة الثابتة الآن ، ولا يمكنه ذلك مع التاريخ لسلامة وقت الأداء من الجرحة الحادثة قاله الشارح . ونقله في المعيار مسلماً .
قلت : والتعليل الأخير يقتضي وجوب التاريخ وهو يؤيد ما مرّ عند قوله وحقه إنهاء ما في علمه الخ . من أن الفسق الطارىء بعد الأداء لا يبطل الشهادة فتأمله ، وفي نوازل الزياتي أن القاضي أبا عبد الله المكناسي سئل عمن استظهر برسم عليه خطاب قاض معروف مات معزولاً ، فادعى المطلوب أن القاضي خاطب عليه بعد عزله ، وخالفه الطالب فقال : إن لم يكن للخطاب تاريخ يعلم به قدمه على عزله لم يعمل به اه . قلت : وقد يؤرخ في حال العزل باليوم الذي كان مولى فيه ، وقد شاهدنا من ذلك العجب العجاب فلا تنتفي التهمة إلا بالتسجيل عليه والله أعلم .
ولما أخبر أن الخطاب واجب إن طلبه الخصم ، وكان ذلك شاملاً للخطاب في الشاهدين على كتاب القاضي الكاتب يشهدان بما فيه عند المكتوب إليه كما مرّ عن ( خ ) وللخطاب المجرد عنهما ، وسواء كانت الكتابة في بطاقة على حدتها مع الإحالة على رسم الحق أو في رسم الحق نفسه ، وقوله : للرسوم لا ينافي ذلك لأن المراد على مضمنها كان فيها أو على حدته كان بشاهدين أم لا ؟ بين أن الصور كلها جائزة ، وأن الخطاب بالكتابة حيث كان بلفظ أعلم مقبول على أي وجه كان فقال :
وَالْعَمَلُ الْيَوْمَ عَلَى قَبُولِ ما
خاطَبَهُ قَاضٍ بِمثْلِ اعْلَما
( والعمل ) مبتدأ ( اليوم ) ظرف يتعلق به ( على قبول ما ) خبر المبتدأ وما موصولة مضاف إليه وصلتها ( خاطبه قاض ) و ( بمثل أعلما ) يتعلق به وهو مقحم أو بمعنى نفس كما قيل بكل منهما في قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم } ( البقرة : 137 ) الآية . ولو قال بلفظ أعلما لأن الخطاب إنما كان في زمانه به لا بمثله ولا به وبمثله كأخبر كان أولى قاله ( ت ) قلت : وسيأتي أن الاقتصار على لفظ أعلما مجرد اصطلاح ولو تغير الاصطلاح إلى غيره مما يؤدي معناه لصح الخطاب به فاعتراضه إنما هو بالنسبة لتقييد النظم باليوم اه . وظاهر النظم القبول وإن لم يكن إشهاد وهو موافق لما حكاه ابن المناصف عن أهل عصره من اتفاقهم على قبول كتاب القاضيبمجرد معرفة خطه دون إشهاد عليه . قال : ولا يستطيع أحد صرفهم عنه فيما أظن مع أني لا أعلم فيه خلافاً إلا ما وقع في المذهب أن كتاب القاضي لا يجوز بمعرفة خطه اه . وقوله : لا أعلم فيه خلافاً الخ . يعني به إلاَّ ما وقع لسحنون من قبوله كتب أمنائه كما يأتي ، وظاهره أيضاً أن الخطاب بأعلم يقبل مطلقاً كان المخاطب بالفتح معيناً أم لا . وهو كذلك كما في العتبية فيعمل به مع عدم التعيين كل من يقف عليه من القضاة إذا عرف خطه أو ثبت ببينة عادلة أنه خطه ولو بشاهد واحد على ما للمكناسي في مجالسه عمن أدركه من القضاة ابن المناصف ، وإذا ثبت خط القاضي الكاتب وجب العمل به ، وإن لم تقم بينة بذلك ، والقاضي يعرف خط القاضي الكاتب فواجب عندي قبوله بمعرفة خطه ، وقبول سحنون كتب أمنائه بلا بينة يدل على ذلك وليس ذلك من باب قضاء القاضي بعلمه الذي لا يجوز القضاء به لأن ورود كتاب القاضي عليه بذلك الحق كقيام بينة عنده فقبوله الكتاب بما عرفه من خطه كقبوله بينة بما عرف من عدالتها اه .
قلت : وحاصل ما قاله أن قضاء القاضي يعلمه المجرد عن الواسطة كعلمه أن لزيد على عمرو درهماً ممتنع ، وأما إن علمه بواسطة البينة التي يعرف عدالتها أو بواسطة الخط الذي يعرف عدالة كاتبه ، فهذا جائز قضاؤه به لبعد التهمة ، وقد يقال : إن التهمة تقوي في انفراده بمعرفة الخط لمشاركة بعض الناس له في العلم بالعدالة وللبحث عن تحققها بالأعذار ، ولذا نظر فيه المكناسي في مجالسه قائلاً يلزم عليه أن من قام بشهادة عدلين ميتين أو غائبين ، ولم يوجد من يعرف خطهما ، والقاضي يعرف خطهما أن يحكم بذلك الرسم ، وهذا مما لا يقوله أحد أي لأنه من الحكم بعلمه إذ لا فرق فيما يظهر بين خط الشاهد وخط القاضي ، بل صرح أبو الحسن كما في أقضية المعيار بعدم قبوله في خط القاضي قائلاً لأنه حاكم بعلمه وهو الموافق لما مرّ في البيت قبله عن المازري ، ولا سيما مع ضعف عدالة قضاة اليوم ، فينبغي أن لا يباح ألبتة فتأمله والله أعلم .
وأما مع التعيين فيعمل به المكتوب إليه أو من ولي بعده كما يأتي في قول الناظم : ومعلم يخلفه والي القضا الخ . وظاهره أيضاً أنه يقبل وإن مات المخاطب بالكسر أو عزل أو مات المخاطب بالفتح أو عزل وهو كذلك في الجميع على المعتمد ، وبه العمل كما يأتي عند قوله : واعتمد القبول بعض من مضى الخ . وما يأتي للناظم مما يعارض إطلاقه هنا . وفي قوله : وإن يمت مخاطب الخ . ونحوه للشيخ ( م ) عن ابن المناصف في الفرع الثالث لا يعول عليه ، وكيفيته مع عدم التعيين على ما به العمل اليوم بفاس وما والاها أن يكتب أسفل الرسم أو عرضه أو في ظهره الحمد لله أديا فقبلا ، وأعلم به في تاريخ كذا على ما هو الأحوط أو الواجب كما مرّ وإن كان الناس اليوم فيما شاهدناه على عدم التاريخ أو الحمد لله أديا فثبت وأعلم به أو الحمد لله أعلم بصحته أو بثبوته أو باستقلاله وإن كان في الصك رسوم نبه على جميعها إن أراد ذلك وصحت عنده وإلاَّ قيد بالأخيرين مثلاً أو بما ثبت عنده منها وإن كان في الرسم عدل واحد أو عدد كثير ولم يقبل إلا واحد فيكتب على ما شهدناه اليوم أدي فقبل وأعلم به فلان ، وكان الضمير عندهم في به في الخطاب على الواحد يعود على الأداء المفهوم من أدى وليس له أن يخاطب على الواحد بقوله أعلم بصحة الرسم أو بثبوته أو باستقلاله مع قصده بذلك ثبوت الحقعلى المطلوب ، وأنه لم يبق له فيه مقال بطعن ولا غيره لما علمت أن الحق لا يثبت بالواحد إلا بعد اليمين معه ، وهذا في الأموال ، وأما في غيرها مما لا يثبت إلا بعدلين فلا وجه للخطاب فيها على الواحد لما مرّ أنه لا خطاب على رسم ناقص لا ينتفع به ربه ، اللهم إلا أن يرجى أن يضاف إليه شاهد آخر في غير موضع الخطاب فيخاطب حينئذ ، وإن كان الخطاب بورقة مفصولة عن رسم الحق غير ملصقة به فلا بد أن يقول أعلم بصحة الرسم الذي بيد حامله فلان المتضمن للحق الذي له على فلان المؤرخ بكذا الذي شهوده فلان وفلان ونحو ذلك مما يعين الرسم المخاطب عليه ، وإن ألصق ورقة بالرسم وخاطب فيها قال أعلم بصحة العقد المرتسم بالورقة الملتصقة لهذا المتضمن لفلان قبل فلان كذا ، أو المتضمن توكيل فلان فلاناً على كذا ونحوه مما يعين الحق المخاطب به ، فلا بد من زيادة المتضمن الخ . خشية أن يلصق ورقة الخطاب بورقة حق غير الحق الذي به وقع الخطاب ، ولا يعمل به إن سقط ذلك منه كما لا يعمل به إن كان الخطاب ملصقاً ولم يقل فيه بالملتصق أعلاه لإمكان إزالته من ورقة أخرى ، ولا يكفي عن زيادة المتضمن الخ . ما صدر به من قوله بالملتصق أعلاه كما يقتصر عليه الجهال من القضاة لأن ذلك لا يمنع إلصاقه بورقة أخرى ، وأما مع التعيين فكيفيته الحمد لله أعلم بصحة الرسم المقيد فوق هذا على ما يجب الشيخ الفقيه أبو فلان فلان ابن فلان أدام الله توفيقه وتسديده ، وليه في الله تعالى وموثقه فلان ابن فلان ، ويكتب اسمه بتخليط وتعمية ، ويسمى العلامة والشكل لئلا يخاطب على لسانه غيره ، وإنما قدموا مفعول أعلم وهو اسم المكتوب إليه على الفاعل الكاتب تعظيماً له واهتماماً به ، ثم إذا وصل الخطاب للمكتوب إليه المعين كتب تحته بخط يده أعملته ، وكذا إن كان المكتوب إليه غير معين ووقف عليه بعض القضاة وكان الخصام عنده فإن لم يكن الخصام عنده بل ببلد آخر لا يعرف قاضيها خط القاضي الكاتب ، ولكن يعرف خط الواقف عليه كتب الواقف المذكور الحمد لله أعلم بأعماله فلان ابن فلان ، وهكذا حتى يصل إلى بلد قاضي بلد النزاع .
ولما كان الخطاب الذي لم يصرح فيه بالإعلام لغواً غير مقبول ولا معمول به عند القضاة نبه عليه بقوله :
ولَيْسَ يُغْني كَتْبُ قَاضٍ كاكْتَفى
عَنِ الخطابِ والمَزِيدُ قَدْ كَفى
( وليس ) فعل ناقص ( يغني ) خبرها ( كتب قاض ) اسمها ( كاكتفى ) مفعول بقوله كتب لأنالكاف اسم بمعنى مثل ( عن الخطاب ) يتعلق بيغني أي ليس كتب القاضي تحت الرسم اكتفى ، ومثله من نحو استقل أو صح أو ثبت مغنياً عن الخطاب بأعلم ، بل حتى يزيد وأعلم به أو يقول أعلم باستقلاله ونحوه مما مرّ وهو صريح في أن الثبوت ليس بحكم فقوله : ( والمزيد ) منصوب على نزع الخافض بقوله : ( قد كفى ) أي كفاه عن زيادة الشهود فهو يتعدى للأول بنفسه وللثاني بحرف الجر كقوله تعالى : واختار موسى قومه } ( الأعراف : 551 ) ويجوز أن تكون ليس مهملة بمنزلة لا وأن يكون اسمها ضمير للشأن والجملة خبرها . وحاصله : أن القاضي إذا اقتصر على كتب اكتفى أو استقل أو نحوهما كان ذلك قاصراً عليه وكأنه تذكرة لنفسه بأنه وقف على موجب اكتفاء الرسم لعدالة شاهديه ونحو ذلك ، وإخبار للمشهود له بأنه يكفيه ذلك عن الزيادة فلا يلزم قاضياً آخر إذا وقف على ذلك أن يمضيه اعتماداً على قوله اكتفى ونحوه ، لأنه لم يخاطبه ولو أمضاه لكان غير معتمد على شهادة ولا خبر من القاضي الأول . قلت : وذلك والله أعلم أن الأول قد يكتبه اعتماداً على ما ظهر له فيه ابتداء وإن كان سيراجع فيه نفسه ويبحث عن باطنه فلا يدل ذلك على أنه استقصى أمره فيه ، فكما أن الناقل لا ينقل إلا بإشهاد فكذلك المخاطب بالفتح لا يعمل به إلا بإعلام لاشتراط الإذن في كل منهما ، ولذا قال ( خ ) : ولم يشهد على حاكم قال : ثبت عندي إلا بإشهاد الخ . ولذا أتى الناظم بالحصر فقال :
وإنَّمَا الخِطابُ مِثْلُ أَعْلَمَا
إذْ مُعْلَماً به اقْتَضَىومُعْلِما
( وإنما ) حرف تأكيد وحصر ( الخطاب ) مبتدأ خبره ( مثل أعلما ) بصحته أو استقلاله أو استقل وأعلم به ونحو ذلك مما يقتضي أن المخاطب بالكسر أذن لمن يقف عليه أن يعمل بمقتضاه واقتصارهم على لفظ أعلم مجرد اصطلاح فلو تغير الاصطلاح إلى سواها مما يؤدي معناها كأخبر ونحوه لصح ، ولذا قال الناظم بمثل أعلم أي بأعلم أو مثله مما اصطلح قضاة الوقت عليه ( إذ ) تعليلة ( معلماً به ) بفتح اللام اسم مفعول من أعلم وضمير به يعود على الرسم المخاطب عليه على حذف مضاف أي بثبوته ونحوه وهو مفعول مقدم بقوله : ( اقتضى ) أي طلب وافهم ( ومعلما ) بكسر اللام معطوف على الأول ، ويكون الناظم ساكتاً عن الشخص المعلم بالفتح ، ويجوز العكس وهو كسر اللام في الأول وفتحها في الثاني ، وعليه فقد تضمن كلامه الثلاثة المعلم بالكسر وهو فاعل الإعلام ، والشيء الذي وقع به الإعلام وعليه يعود الضمير في به والشخص المعلم بالفتح أي لأنه اقتضى معلماً بالشيء الذي تضمنه الرسم وشخصاً معلماً وهو المخاطب بالفتح ، ويجوز فتح اللام فيهما ويكون المعلم بالكسر مستفاداً من اللفظ ، إذ لفظ الإعلام لا بد له من فاعل يوقعه ، وفي كل وجه من هذه الأوجه يصح التنازع في به على قول من أجازه في متقدم أي لأنهاقتضى شيئاً معلماً به وشخصاً معلماً بالفتح والكسر بذلك الشيء ، وهكذا والضمير في به على كل حال يعود على الشيء الذي وقع به الإعلام ، ثم إن هذا البيت ليس فيه كبير فائدة مع ما قدمه في قوله : والعمل اليوم الخ إلا ما أفاده من الحصر ، ومن بيان وجه كون اكتفى ونحوه لا يكفي في الخطاب أي لكونه لا يقتضي ما ذكر وحينئذ ، فلو قدم هذا البيت وجعل بعده قوله : والعمل اليوم الخ . ويقول بعده ما نصه :
من أجل ذا لا يغني كتب كاكتفى
عن الخطاب والمزيد قد كفى
أي لا يغني قاضياً كتب كاكتفى الخ . ليسلم من التكرار مع إفادة تعليل عدم الاكتفاء بذلك ، وإنما كان أعلم يقتضي ما ذكر لأن قولهم أعلم باستقلاله ونحوه لا بد له من الفاعل الذي هو المعلم بالكسر ، وهو هنا فلان القاضي الذي جرت العادة أن يكتب اسمه شكلاً يسمى العلامة وهو يتعدى إلى ثلاثة حذف ؛ أولها : الذي هو المعلم بالفتح للتعميم أي كل من يقف عليه كقوله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام } ( يونس : 52 ) والثاني والثالث : الذي هو المعلم به سد مسدهما المصدر المنسبك من أن ، والفعل إذ الأصل أعلم فلان فلاناً رسماً مستقلاً كقولك : أعلمت زيداً عمراً قائماً ، فلما دخلت أن على الثاني والثالث للتأكيد ونحوه سبكا بمصدر ، وكان الأصل أن يتعدى إليهما بنفسه كما تقول : أعلمت زيداً قيام عمرو ، ولكنهم اصطلحوا هنا على جره بالباء الزائدة كما ترى ، وقد سئل الشيخ المكودي رحمه الله عن وجه زيادتهم لها فقال : إنما سئل عنه لو كان من كلام العرب . وهذا ما يكتبه القاضي الكاتب ، وأما المكتوب إليه فقد تقدم أنه يكتب تحته أعملته من غير أن يضع علامته ، وكأنه تذكرة لنفسه فقط وسواء كان معيناً أم لا على ما به العمل ، وقيل : إن كان معيناً كتب قبلته وذلك مجرد اصطلاح فإن احتيج لتسجيل الإعمال والاستقلال ونحوهما كتب تحته : أشهد عدلان أشهد قاضي كذا ، وهو بإعمال واستقلال الرسم أعلاه الإعمال أو الاستقلال التام لصحته عنده وثبوته لديه بواجبه وهو بحيث يجب له ذلك من حيث ذكر فإذا طولع به القاضي ووضع علامته موضع البياض ووضع العدلان علامتيهما إثر تاريخه وليس لمن لم يسع من العدول إشهاده بالإعمال المذكور أن يشهد عليه بالإعمال ونحوه اتكالاً على رؤية ما كتبه من قوله أعملته أو استقل ونحوهما ، لأن هذا شاهد على خطه لا على إشهاده قال ( غ ) : وهذا وإن تسامح فيه أهل فاس وعملها ، لكن لا يعلم له أصل إذ كيف تصح الشهادة على خطه ، وقد لا يكون بين مقعده ، ودكان الشاهد الأقدر غلوة أو أقل اه . ونحوه للمكناسي في مجالسه ، والغلوة : منتهى الرمية يعني أن الشهادة على الخط إنما تجوز مع بعد الغيبة أو الموت والقاضي هنا بخلاف ذلك فكان الواجب أن لا يشهد عليه حتى يسمع إشهاده ، ولا سيما وقد تقدم أنه يكتب ذلك غير جازم به بل ليراجع فيه نفسه ، وكأنهم اعتمدوا في ذلك على ما في وثائق الفشتالي حيث قال ما نصه : فإذا ثبت الرسم عند القاضي وكتب تحته : أكتفي فتكتب في الرسم أشهد قاضي كذا باكتفاء الرسم فوقه الاكتفاء التام الخ . فظاهر أنه بمجرد رؤية خطه يشهد عليه ، وإن لم يشهده وفي ذلك من التسامح ما لا يخفى .
قلت : وتأمل هذا هل تصدق على هذا الشاهد حقيقة شهادة الزور وهي كما لابن عرفة أن يشهد بما لم يعلم عمداً ولو طابق الواقع وهو الظاهر أم لا .تنبيه : استفيد من الناظم أن اكتفى واستقل وثبت ونحوها ألفاظ مترادفة وأن بعضها يقع موضع بعض ، وأن الإعلام بها هو الواجب لإعمال المخاطب بمقتضاها لما مرّ ، وهو ظاهر ابن المناصف ، وعن العقباني أن الخطاب بالاستقلال فيما ثبت بشهادة المبرزين وبالثبوت فيما ثبت بدونهم ، وبالاكتفاء في الأدنى وهو مجرد اصطلاح .
وإن يَمُتْ مُخَاطِبٌ أو عُزِلا
رُدَّ خِطابُهُ سِوى ما سُجِّلا
( وإن يمت ) شرط ( مخاطب ) بالكسر فاعله ( أو عزلا ) عطف على فعل الشرط ( رد ) بالبناء للمفعول ( خطابه ) نائبه ، والجملة جواب الشرط أي يلغى خطابه ولا يعمل به على هذا القول الذي صدر به الناظم ، لأنهم نزلوا خطابه بالرسم منزلة خطابه بالمشافهة ، وهو إذا مات لا يتكلم ، وإذا عزل لا يقبل كلامه ( خ ) : ولا تقبل شهادته بعده أنه قضى بكذا أي إلا ببينة على ذلك ، وهو معنى قول الناظم : ( سوى ) استثناء ( ما ) موصول مجرور واقعة على المخاطب به ( سجلا ) بالبناء للمفعول أو الفاعل ، والعائد على ما في هذا الوجه محذوف أي سوى ما سجله القاضي على نفسه بأن يشهد عدلين باستقلال الرسم ، أو اكتفائه على حسب ما مرّ قبله ، أو يشهدهما بأنه قد أجله أو أعذر له ، أو حكم عليه ونحو ذلك كما مرّ في فصلي الإعذار والآجال لأن إشهاده بالتأجيل ونحوه حكم أمضاه بدليل أن المخاطب بالفتح يبني عليه كما مرّ فإطلاق الناظم شامل للأمرين إذ التسجيل إشهاد القاضي على نفسه بأي شيء كان ، ولا يقصر إطلاقه على الأول فقط لاقتضائه أنه إذا أشهدهما على نفسه بالتأجيل أو الحكم مثلاً وخاطب عليهما بالإعلام من غير تسجيل للخطاب أنه يرد على هذا القول وليس كذلك ، وبه تعلم أن اعتراض ( ت ) على ( م ) بأن التسجيل بالحكم لا يقرر به كلام الناظم لبعده ، ولأنه إذا حكم عليه وماله غائب ألزمه الضامن أو الرهن ، ولا يحتاج إلى خطاب من ينفذ الحكم الخ . ساقط لأنه قد يحكم ويعجز عن التنفيذ لسطوته أو لفراره بماله بعد الحكم وقبل إلزامه بالضامن أو الرهن ، وقد قال في المفيد : ولو كان المطلوب بالدين في بلد القاضي الكاتب فقال في خطابه : قد أنفذت حكمي بالشهادة على خط الشهود فإن حكمه ينفذ وإن تعذر قبض الحق منه حتى خرج من بلد القاضي الكاتب لزمه الحكم ولا يوهنه خروجه عن بلد القاضي الكاتب اه . وهو صريح في أنه مع العجز يخاطب من ينفذه ممن يأتي بعده أو غيره ، كيف وقد تقدم وما بالعهد من قدم ، عن المازري : أنه يخاطب بما حكم به لحاضره على غائبه وأشعر فرض الناظم الكلام في القاضي أن نائبه ليس له أن يسجل بما ثبت عنده وهو كذلك ، فإن فعل فلا يمضي إلا أن يجيزه المستخلف بالكسر ما لم يكن استخلفه بإذن الإمام وإلاَّ فيقبل تسجيله من غير إجازة ، وإذا قلنا لا يسجلفله أن يسمع البينة ويقبل من عرف عدالته وتعقد عنده المقالات ، ويرفع ذلك إلى المستخلف بالكسر لينظر فيه قاله في التبصرة ، ويفهم من قوله : ويدفع ذلك لمستخلفه أنه ليس له الرفع ولا الخطاب به إلى الغير ، وإن فعل لا يمضى مات المستخلف بالكسر أو عزل أو كان حياً والله أعلم .
واعْتَمَد القَبُولَ بَعْضُ مَنْ مَضى
وَمُعْلمٌ يَخْلُفُه وَالِي القَضَا
( واعتمد القبول ) مفعول والفاعل ( بعض من مضى ) قال الفشتالي في وثائقه : وإن كان القاضي لم يشهد بالتسجيل عليه وإنما كتب في الرسم بخطه أعلم باكتفائه فلان أو أعلم بثبوته أو استقلاله ، ثم وصل إلى غيره ، فإنه يعمله على ما جرى به العمل سواء عين فيه المكتوب له أو لم يعينه ، وسواء مات الكاتب أو عزل ووصل إلى المكتوب له هذا قوله في المدونة اه . ونحوه للعقباني في الدرر المكنونة ولليزناسي في شرحه للنظم ، وقد تبين أن الخطاب المسجل يعمل به مطلقاً اتفاقاً وغير المسجل يعمل به كذلك إن كان المخاطب بالكسر لم يعزل ولم يمت وإلاَّ فقولان ، بالرد وهو ما صدر به الناظم وعدمه قالوا : وبه العمل اليوم وهو مذهب المدونة كما رأيته ، وحكاه ابن المناصف أيضاً عن مختصر الواضحة ، ولكن قيده بما إذا أشهد القاضي الكاتب لأن إشهاده على ذلك كإشهاده على حكم مضى قال : وأما ما التزمه الحاكم وعملوا به في أقصى قطر المغرب من الاجتزاء بمعرفة خط القاضي الكاتب والعمل به دون إشهاد فلا يصح إلا أن يصل للمكتوب إليه والكاتب على حال ولايته اه .
واعتمد تقييده المذكور غير واحد ، وذكر ابن عرفة أنها نزلت في وسط القرن الثامن وأن شيخه أبا عبد الله السبطي رجع إلى تقييد ابن المناصف ، ولذا صدر به الناظم وهو الأحوط في العزل لأنه قد يفعله بعد عزله ويوهم أنه صدر منه قبله ، فإذا كان قول القاضي بعد عزله قد كنت حكمت بكذا قبله أو أجلت ونحوه لا يقبل إلا ببينة لاحتمال كذبه ، فكذلك هذا إذا خاطبه الوارد بعد عزله بمنزلة قوله ذلك ، وأما في الموت في حال الولاية فلا يتطرق هذا الاحتمال مع معرفة خطه فتأمله ، ثم بعد كتبي ما تقدم وقفت في شهادات المعيار على جواب لابن زيادة الله وابن الفراء الذي يقتضيه النظر هو ما ذكرناه فالحمد لله على الموافقة . ( و ) إن مات أو عزل ( معلم ) بفتح اللام أي مخاطب بالفتح فهو فاعل بفعل شرط مقدر يدل عليه فعل الشرط المتقدم لا معطوف على مخاطب لأن العطف يقتضي التشريك في الحكم ، وليس الأمر هنا كذلك خلافاً ل ( ت ) ويجوز أن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه صفة لمحذوف ( يخلفه ) بفتح الياء وضم اللام مضارع خلفه إذا قام مقامه خبر أو جواب ، وعلى كل حال فهو مرفوع لكن إن قدرالفاعل ماضياً كان رفعه حسناً لقول ابن مالك : وبعد ماض رفعك الجزا حسن . وإن قدر مضارعاً فالرفع ضعيف ( والي ) فاعل يخلف ( القضا ) مفعول في المعنى بوالي مجرور في اللفظ بالإضافة أي إن مات أو عزل المخاطب بالفتح قبل وصول الخطاب إليه فإن متولي القضاء بعده يخلفه في العمل بمقتضاه قاله في المدونة ، ثم أشار إلى مفهوم قوله : وإن يمت الخ . فقال :
والحَكَمُ العَدْلُ عَلَى قَضائِهِ
خِطابُهُ لا بُدَّ من إمْضائِهِ
( والحكم ) بفتح الكاف لغة في الحاكم مبتدأ ( العدل ) صفة ( على قضائه ) يتعلق بمحذوف حال أي مستمراً على قضائه ولم يحصل له موت ولا عزل ( خطابه ) مبتدأ ثان ( لا ) نافية للجنس ( بد ) اسمها ( من إمضائه ) خبرها . والجملة خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول أي : لا مخلص من إمضائه . ومفهوم العدل أن غيره لا يعمل بخطابه لأنه لا تصح توليته كما مرّ . ابن عرفة : وشرط إعمال خطاب القاضي صحة ولايته ممن تصح توليته ، وقد تقدم قول ( خ ) : إن كان أهلاً أو قاضي مصر ، وظاهر النظم أن المخاطب بالفتح يمضيه ويعمل به سواء وافق مذهبه أم لا . وهو كذلك على ما به العمل إن كان المخاطب بالكسر قد حكم بما خاطب به ، وأما إن لم يحكم به ، وإنما خاطبه بما ثبت عنده فلا يحكم إلا بما يوافق مذهبه قاله في المفيد . وذكر ابن فرحون القولين عن المازري من غير تعرض للمعمول به منهما .
قلت : وهذا بين إن كان الحاكم حكم بأحد حكمين متساويين ، أو كان من أهل الاجتهاد في المذهب والنظر في ترجيح الأقوال ، أو كان من مذهب آخر كشافعي يخاطبه مالكي مثلاً لأن حكمه حينئذ يرفع الخلاف ، وإلاَّ بأن قصرت رتبته عن الاجتهاد والنظر في الترجيح ولم يكن من مذهب آخر ، فلا يمضي حكمه وينقضه لأنه محجر عليه في الحكم بغير المشهور أو الراجح أو ما جرى به العمل كما مرّ .
وفي الأداءِ عِنْدَ قاضٍ حلَّ في
غيرِ مَحلِّ حُكْمِهِ الخُلْفُ اقْتَفِي
( وفي الأداء عند قاض ) من صفته ( حل ) أي نزل ( في ) بلد ( غير محل ) أي بلد ( حكمه الخلف ) مبتدأ ( اقتفي ) أي اتبع خبره ، وفي الأداء يتعلق به ، وعند قاض يتعلق بالأداء ، ومعناه أنه اختلف إذا نزل القاضي ببلد لا ولاية له عليها ، هل له أن يسمع بذلك البلد النازل فيه بينةشاهده بحق لمن هو له في ولايته على غائب نازل بولايته ويعمل على ما أخبره به قاضي ذلك البلد من عدالتهم ، وهو قول أصبغ قال : ولو اجتمع الخصمان عنده بذلك المحل النازل فيه ، والمتنازع فيه في محل ولايته لم ينظر بينهما إلا أن يتراضيا عليه أو ليس له أن يسمع ذلك على من غاب بولايته ، ولا أن يخاطب بذلك إلى أحد ، وله أن يسأل عن حال بينة شهدت عنده ، وهو قول ابن عبد الحكم ، وانظر قوله : وله أن يسأل عن حال بينة شهدت عنده أي شهدت عنده في ولايته ويسأل عن عدالتها ههنا ، وظاهره له أن يسأل قاضي البلد أو غيره ممن يعرفه بالعدالة فتأمله مع ما يأتي ، ثم إنه يؤخذ من قول أصبغ هذا أن للقاضي أن يسمع البينة بغير حضرة المطلوب ولو قربت غيبته ، وهو كذلك على ما به العمل وهو مذهب المدونة ، وبه قال ابن الماجشون إلاَّ أنه إذا حضر قرئت عليه الشهادة وأسماء الشهود فإن كان له فيهم مدفع ، وإلاَّ قضى عليه . وقال سحنون : لا يسمع الشهادة إلا بمحضر المطلوب إلا أن يكون بعيد الغيبة . انظر تبصرة ابن فرحون .
ومَنْعُهُ فيه الخِطابَ المُرْتَضى
وَسوَّغ التَّعْرِيفَ بعضُ مَنْ مَضى
( ومنعه ) أي القاضي مبتدأ مضاف إلى المفعول الأول ( فيه ) يتعلق بقوله : ( الخطاب ) مفعول ثان ، والصواب أنه على نزع الخافض كقوله تعالى : واختار موسى قومه } ( الأعراف : 551 ) والضمير المجرور يرجع لغير محل حكمه ( المرتضى ) خبر المبتدأ وأشار به لقول ابن سهل بعد نقله الخلاف المتقدم ، وسألت ابن عتاب عن قاض حل بغير بلده وقد ثبت عنده ببلده حق لرجل ، فطلب أن يخاطب به قاضي موضع المطلوب قال : لا يجوز ذلك ، فإن فعل بطل ثم قال : ولا يبعد أن ينفذ ( وسوغ ) أي جوز ( التعريف ) مفعول ( بعض من ) فاعل ( مضى ) صلة من وأشار به إلى قول ابن سهل إثر ما مر قلت لابن عتاب : فإن كان الحق الثابت عنده ببلده على من هو بموضع احتلاله أي نزوله فأعلم قاضي الموضع بذلك مشافهة بما ثبت عنده أيكون كمخاطبته بذلك ؟ قال : ليس مثله يعني ليس كمخاطبته إياه بذلك من محل ولايته ، ثم قال ابن سهل : ورأيت فقهاء طليطلة يجيزون إخبار القاضي المحتل بذلك البلد قاضي البلد ، ويرونه كمخاطبته إياه اه . فأشار الناظم بقوله : وسوغ الخ . إلى ما قاله فقهاء طليطلة ، ويفهم منه أن البعض الآخر لم يسوغ ذلك وهو ما قاله ابن عتاب ومقابل قوله : المرتضى هو قول ابن عتاب ، ولا يبعد أن ينفذ الخ . فالخطاب بالكتابة فيه قولان لابن عتاب وغيره وفي المشافهة قولان له وللطليطليين ، ولكن قد علمت أن الكتابة قائمة مقام المشافهة ، فمن قال بجواز خطابه في غير محل ولايته بالمشافهة وهم الطليطليون يلزمه أن يقول بجوازه بالكتابة إذ هي قائمة مقامها ،والعكس بالعكس فما قاله ابن عتاب : من أنه لا يبعد أن ينفذ موافق لقول الطليطليين فترجع المسألتان إلى مسألة واحدة ، وحينئذ فيجب أن يعمم في قول الناظم ومنعه فيه الخطاب أي : كان بالمشافهة أو بالكتابة ، وكذا في قوله التعريف أي بالكتابة أو بالمشافهة ، ويكون هذا مقابلاً لقوله المرتضى كما هو ظاهر ولا معنى لجعلهما مسألتين بل المسألة الأولى عند التأمل راجعة إلى هذا أيضاً ، وبيانه : أن قولي ابن عبد الحكم وابن عتاب كلاهما جار على المشهور : من أن القاضي إذا حل في غير بلده فهو معزول فلا يخاطب ولا يسمع بينة هناك لأن سماعها يستدعي تعديلها فإن شافهه قاضي ذلك البلد بعدالتها لم يحل له أن يحكم بذلك إذا رجع لأنه حينئذ حاكم بعلم سبق مجلسه كما في ابن شاس وابن الحاج وهو ما أفاده ( خ ) بقوله : وأنهى لغيره بمشافهة إن كان كل بولايته الخ . وقد جعل غير واحد قول أصبغ والطليطليين مقابلاً فلو أتى المصنف بفاء التفريع بدل الواو فيقول فمنعه فيه الخطاب الخ . إشارة إلى أن هذا بيان للخلاف المذكور لكان أظهر والله أعلم .
تنبيه : قال الشارح : وعلى ما ذهب إليه فقهاء طليطلة العمل عند قضاة الجماعة بالحضرة . يريد حضرة غرناطة ، وانظر ما الذي به العمل الآن في هذه الأقطار ، وظاهر قولهم : إن عمل المغرب تابع لعمل الأندلس أنه على ذلك .
ويُثْبِتُ القاضي عَلَى المَحْوِ وما
أشْبَهَهُ الرَّسْمَ على ما سَلِما
( ويثبت ) بضم الياء مضارع أثبت ( القاضي ) فاعله ( على المحو ) يتعلق بمحذوف حال من الرسم ( وما ) عطف على المحو ( أشبهه ) صلته أي من بشر وقطع وقرض فار ( الرسم ) مفعول يثبت ( على ما سلما ) حال من القاضي ، أو بدل من الرسم ، بدل بعض من كل أي : ويثبت القاضي الرسم في حال اشتماله على المحو ونحوه إذا طولب بالخطاب عليه حال كونه منبهاً على ما سلم منه فيقول مثلاً : أعلم بصحة الرسم أعلاه ما عدا المحو أو البشر الذي مبدؤه كذا ومنتهاه كذا ، أو أعلم بثبوت ما عدا المحو الذي بين لفظة كذا وكذا في الرسم أعلاه ، فلا بد من تنصيصه على الابتداء والانتهاء ، وظاهره أنه يثبت السالم سواء كتب في محل المحو والبشر شيء من فصول الوثيقة أم لا . أحتمل أن يكون موضع البشر ونحوه ما يبطل الرسم أو يضاد ما لم يسترب فيه أم لا . وهو كذلك إذا لم يسترب في جميع فصول الرسم من أجل ذلك ، وفهم من قوله : على المحوالخ . أن التقطيع الذي لم تذهب معه الكتابة بأن بقي المقطوع ملزقاً بخيط أو بطرف منه ، ونحو ذلك يثبته كله ، وهو كذلك لكن لا يحكم به إلا بعد الإيقاف زمناً رجاء أن يظهر له أمر فإن طال حكم به بعد الاستظهار باليمين كما في وصايا المعيار ، وفهم من قوله : على ما سلما أن السالم يستقل بنفسه وإلا سقط الرسم كله وهو كذلك ، فإذا كان رسم الصداق فيه سطر ممحو مثلاً كتب فيه أي في محل هذا المحو اشتراط عدم الرحيل مثلاً ، ولم يحفظ الشهود ذلك أو غابوا أو ماتوا حلف الزوج أنه ما اشترط لها ذلك وسافر حيث شاء ، وكذلك إن قال في الوثيقة لفلان على فلان مائة وخمسون ديناراً فوقع المحو ونحوه على الخمسين ، فإن المائة تثبت ولا إشكال . وانظر هل تسقط الخمسون الزائدة أو ينظر للتمييز ، فإن كان منصوباً فيحمل على أقل العقود وهو أحد عشر ، وهو الظاهر هذا معنى قوله : على ما سلما ، فإن حصلت الريبة في جميع فصول العقد بسبب البشر ونحوه لم يحقق شهود ما يوجب حكماً أو غابوا أو ماتوا قبل أن يسألوا بطل الرسم كله قاله في المعيار . قال : والبشر أشد وأكبر ريبة عند بعضهم ، وفي المتيطية وغيرها : إذا وجد في ذكر حق محو أو بشر غير معتذر عنه إن كان ذلك لا يخل بشرط ولا قيد في الرسم لم يضر ، وإن أبطل قيداً من قيود الرسم بطل بذاته مثل أن يخل بتاريخ أو عدد ونحوه ، وإن كان مما ينبني عليه الرسم مثل اسم المحكوم عليه أو له بطل جميعه . وقال في الطرر : إذا وقع في الوثيقة بشر أو محو أو ضرب في مواضع العقد مثل عدد الدنانير أو آجالها أو التاريخ ولم يعتذر عنه سئلت البينة فإن حفظت الشيء بعينه من غير أن يروا الوثيقة مضت وإن لم يحفظوه سئلوا عن البشر فإن حفظوه مضت أيضاً ، وإلا سقطت ، وإن كان ذلك في غير مواضع العقد لم يضر الوثيقة وإن لم يعتذر عنه اه بنقل المعيار ، ومثل عدم حفظهم لمحل البشر ونحوه موتهم أو غيبتهم كما مر وظاهر قوله : وإلا سقطت الخ . سقوط الوثيقة كلها سواء كان الباقي يستقل بنفسه أم لا . وليس كذلك بدليل ما مرّ لأنها إذا كانت تسقط كلها لم يبق للنظم محمل يحمل عليه . وفي كلام ( ت ) نظر ، ثم بعد كتبي هذا وقفت على أن مافي الطرر وإن نقله غير واحد مسلماً ، فقد بحث فيه سيدي يعيش فقال : يظهر لي أن فيه أموراً . الأول : إنه إذا سئلت البينة من غير أن يروا الوثيقة وحفظت الشيء بعينه فالاعتماد إذن على حفظهم لا على الوثيقة حتى يقال مضت . الثاني : إن قوله على البشر فيه إجمال لأنه إما أن يريد بذلك عن الكتابة الواقعة في موضع البشر ، أو عن البشر الذي يبقى الكلام فيه له معنى ، وأما البشر الذي ليس كذلك كبشر سطر ونحوه من غير كتابة ، فلا يتأتى فيه قوله بعد فإن حفظوه مضت . الثالث : أن قوله : وإن لم يحفظوه سقطت الوثيقة فيه جور على رب الرسم بل إذا سلم فيه مثلاً وتقابضا الثمن والمثمن معاينة خاطب القاضي عليه لينتفع به . الرابع : قوله : وإن كان ذلك في غير موضع العقد لم يضر الوثيقة فيه نظر ، إذ قد يكون مثلاً في وثيقة التصيير في قول الموثق وحازه معاينة ويقع النزاع في الحوز ، بل هذان الأمران مخالفان لقول الناظم : ويثبت القاضي على المحو الخ ، فإن ظاهره كان الذي سلم في العقد أو في غيره من الرسم اه .
قلت : ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الضمير في مضت يعود على الشهادة وعن الثاني بأنه يمكن أن يبشر السطر كله ويحفظوا كل ما كان فيه من غير كتابة كما هو ظاهر ، وعن الرابع بأن المراد بالعقد ما لا يتم العقد إلا به فيشمل ما هو شرط فيه ، وإن كان خارجاً عنه كالحيازةونحوها ، نعم يرد على الإطلاق في قوله : وإلا سقطت كما مرّ التنبيه عليه وهو البحث الثالث عنده والله أعلم .
فرع : إذا كانت النسخة مسجلة على القاضي بالصحة بعد المقابلة والمماثلة من شاهديها المعروفين بالعدالة وما تقتضيه ألفاظ التسجيل ، فشهد غيرهما بأن الأصل المنتسخ منه كان فيه تقطيع أو محو ونحوه ، فإن شهادة الغير لا تعارض شهادة شاهدي النسخة لجواز أن يكون البشر ونحوه طرأ بعد الانتساخ ، أو يكون هذا الذي رآه الغير نظير المنتسخ منه لكون شاهديه عدلا عنه ، لما فيه من البشر ونحوه ، وكتب غيره سليماً ومن هذا السليم أخذت النسخة قاله في المعيار إثر ما مرّ .
وعِنْدَ ما يَنْفُذُ حُكْمٌ وطُلِبْ
تَسْجِيلُهُ فإنَّهُ أمْرٌ يَجِبْ
( وعندما ) ظرف زمان مضمن معنى الشرط فهو كحيث الواقعة على الزمان ( ينفذ ) بضم الفاء ( حكم ) فاعله ويجوز نصبه على أنه مفعول ينفذ بكسر الفاء المشددة وفاعله ضمير يعود على القاضي ( وطلب ) بالبناء للمفعول نائبه ضميره العائد على القاضي . ( تسجيله ) مفعول ثان ، والجملة معطوفة على جملة ينفذ مدخولة للشرط المذكور ( فإنه أمر ) الفاء رابطة بين الشرط وجوابه ( يجب ) صفة لأمر أي : أي وحيثما نفذ القاضي حكماً وطلب منه أحد الخصمين تسجيله أي كتبه وإشهاد شاهدين عليه ليتمسك به تحصيناً لنفسه من مفسدة تجديد الخصومة فإنه أمر واجب عليه فعله وتقدمت كيفية تسجيله في الآجال ، وفهم منه أنه لا بد من تسمية شاهدي التسجيل والإعذار والآجال وشاهدي الحق ، إذ لا تتم الحجة إلا بذلك . وهو كذلك . وسواء كان المحكوم عليه غائباً أو حاضراً لأن المحكوم عليه إذا أنكر حكم القاضي والخصومة عنده فلا يقبل قول القاضي عليه كما مرّ عند قوله وقول سحنون الخ . وشمل قوله : وطلب ما إذا طلبه كل منهما وهو نص في وجوب إعطاء الحاكم النسخة للمحكوم عليه من حكمه ، ولا سيما إذا قال حكم عليه بما لا نص فيه . وقد صرح به الفقيه سيدي أبو القاسم بن حجوا حسبما في نوازل الزياتي قائلاً : من البدع المحرمة منع قضاة الكور تسجيل الحكم وما بني عليه من المحكوم عليه . فمن منع ذلك فهو ذو حيف مبتدع اه .
قلت : ولا سيما مع ضعف عدالة قضاة الوقت وعدم معرفتهم بكيفية إجراء الأحكام على قوانينها ، وانظر أواخر الركن الثاني من القسم الأول من التبصرة فإنه ذكر فيه : أن القاضي إذا قال : شهدوا عندي بكذا وحكمت وأنكرت البينة الشهادة عنده بذلك هل ينقض حكمه أو لا ؟ قولان : الراجح منهما لمناسبة تهمة قضاة الوقت النقض .
وَمَا عَلَى القاضي جُناحٌ لا وَلا
مِنْ حَرَجٍ إن ابْتداءً فَعَلا
( وما ) نافية ( على القاضي ) خبر ( جناح ) أي إثم مبتدأ ( لا ) تأكيد لما ( ولا ) نافية ( من ) زائدة( حرج ) مجرور لفظاً وهو مرفوع معنى معطوف على جناح ومعناه الإثم أيضاً فهما بمعنى ( إن ) شرط ( ابتداء ) مصدر منصوب على نزع الخافض وفعل الشرط محذوف يفسره ( فعلا ) وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي ليس على القاضي جناح ، ولا حرج إن فعل كتب الحكم وتسجيله ابتداء قبل أن يطلب منه .
وَسَاغَ مع سُؤَالِهِ تَسْجِيلُ ما
لَمْ يُواقِعِ النِّزاعُ فِيهِ كَلِما
( وساغ مع سؤاله ) يتعلق بساغ وهو مصدر مضاف للمفعول وضميره للقاضي ( تسجيل ) فاعل ساغ ( ما ) نكرة أو موصولة ( لم يوقع ) بضم الياء مع كسر القاف أو فتحها . ( النزاع ) فاعله أو نائبه ( فيه ) يتعلق بالنزاع ( كلما ) بكسر اللام وفتح الكاف جمع بمعنى كلام مفعول بقوله يوقع بكسر القاف على أنه مبني للفاعل أو بضم الكاف وتشديد اللام منصوب على الظرفية الزمانية بساغ لأن ما التي أضيفت إليه كل بمعنى الزمان وهي نكرة حذفت صفتها تقديرها يسأل منه ذلك على أن يوقع بفتح القاف مبنياً للمفعول ، وعلى كل فالجملة صفة لما الأولى أو صلتها والرابط الضمير في فيه ، والمعنى على الأول وساغ للقاضي مع سؤاله تسجيل شيء لم يوقع النزاع فيه كلاماً ، والمعنى على الثاني وساغ له تسجيل الشيء الذي لم يوقع النزاع فيه كل زمان يسأل منه ذلك . قال الشارح : وذلك مثل رسوم الأحباس التي يهلك شهودها ويشهد على خطوطهم وغير ذلك مما ثبت عنده ولم يقع فيه خصام اه . فمعنى التسجيل هنا إشهاده بصحة تلك الرسوم وكتب ذلك الإشهاد فليس فيه حكم ، إذ الحكم يستدعي محكوماً عليه ، وإنما هو للتحصين والاستعداد بخلاف الأول فإنه إشهاد بالحكم وكتبه كما مرّ .
وسائلُ التَّعْجِيزِ ممنْ قَدْ قضى
يُمْضىلَهُ في كلِّ شيءٍ بالقَضَا
( وسائل التعجيز ) أي : الحكم بعدم قبول ما يأتي به من حجة زيادة على الحكم بالحق قاله اللقاني ، وقيل : إن التعجيز هو نفس الحكم بالحق أو بالإبراء منه وليس هو شيئاً زائداً عليه ، وإنما يكتب تأكيداً للحكم وهو مفاد التوضيح وعياض وارتضاه طفي وهو ظاهر ما للموثقين ، ولا سيما المتيطي في عدة مواضع من وثيقة النكاح منها قوله : فإذا انقضت الآجال والتلوم ولم يأت المؤجل بشيء يوجب له نظر أعجزه القاضي وأنفذ القضاء عليه وسجل بذلك وقطع شغبه عن خصمه في ذلك ، ثم قال : لا تسمع له بعد ذلك حجة ولا بينة كان طالباً أو مطلوباً إلا في العتق والطلاق والدم والنسب . قاله مطرف وابن القاسم وابن وهب وأشهب ، واختاره ابن حبيب اه . ومثله لابن سهل وقد قال ابن رشد : اختلف فيمن أتى ببينة بعد الحكم عليه بالتعجيز على ثلاثة أقوال الخ . فلو كان التعجيز هو الحكم بعدم قبول الحجة ما تأتى له حكايةالخلاف ، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف على أن الذي في الزرقاني أنه لا تقبل حجته بعده على المذهب ، ولو لم يحكم بعدم قبول حجته وحينئذٍ فتنفيذ القضاء في النص المتقدم ليس أمراً زائداً على الحكم بالحق كما مرّ أول الكتاب ، فلم يبق معنى لقولهم عجزه إلا الحكم بثبوت الحق أو نفيه ، فالتعجيز في النظم على حذف مضاف أي سائل كتبه تأكيداً للحكم أو سائل إيقاعه أي التعجيز بمعنى الحكم أي سائل إيقاع الحكم ، ولا يتكرر مع قوله قبل وعندما ينفذ حكم الخ لأن ذلك في سؤاله كتابة الحكم بعد إيقاعه ، وهذا في سؤاله كتابة التعجيز تأكيداً للحكم المذكور ، أو في سؤاله إيقاعه أي التعجيز الذي هو الحكم حيث لم يأت المؤجل بشيء . والحاصل أن المحكوم له طالباً أو مطلوباً إذا سأل ( ممن قد قضى ) له بالحق أو نفيه أن يكتب تعجيز المطلوب تأكيداً للحكم المذكور أو سأل منه إيقاع الحكم حيث لم يأت المؤجل بشيء فإنه يجاب إلى ذلك في الأول استحباباً وفي الثاني وجوباً ، فقضى بمعنى المضارع على الوجه الأول أو على حذف الإرادة على الوجه الثاني ، وقد : للتحقيق على كل حال ، والمجرور من الموصول وصلته يتعلق بالمبتدأ الذي هو سائل وخبره قوله : ( يُمضي ) بضم الياء مبنياً للمفعول ونائبه ضمير يعود على التعجيز ( له ) يتعلق به ( في كل شيء ) ويجوز قراءته بالبناء للفاعل وفاعله ضمير يعود على التعجيز بمعنى الحكم أي سائل الحكم ممن يقضي بين الناس يوجب إليه ويمضي حكمه على المحكوم عليه في كل شيء مال أو غيره ( بالقضا ) ء فيه ، وهذا على الوجه الثاني من أن المراد بالتعجيز إيقاع الحكم لا كتابته تأكيداً له ، وإلاَّ فيؤول يمضي بيكتب أي يجاب إليه ويكتب له في كل شيء قضى به ، ولكن هذا الحمل مع قلة فائدته بعيد من لفظ يمضي ومن الاستثناء في قوله :
إلاّ ادِّعاءُ حُبْسٍ أو طَلاَقِ
أوْ نَسَبٍ أوْ دَمٍ أوْ عَتَاقِ
( إلا ادعاء حبس ) منصوب على الاستثناء أي سائل الحكم يوجب إليه ، ويمضي ذلك الحكم في كل شيء ولا تسمع للمحكوم عليه حجة بعد ذلك إلا ادعاء حبس أو طلاق الخ ، فإنه لا يجاب إليه لأنه إنما شرع لقطع النزاع والشغب وهو إن حكم في هذه الأمور ، فإن الطالب على حجته فلم يكن لحكمه فائدة ، وبهذا تعلم افتراق هذه المستثنيات من غيرها ، فإن الطالب يحكم عليه في غيرها بعد عجزه ولا تسمع حجته بعد بخلافها فلا يحكم عليه إذ لا ثمرة له وإنما يعرض عنهما كما قالوه عند قوله : أو وجد ثانياً أو مع يمين لم يره الأول وغاية ما يقول للزوجة ونحوها بعد العجز عن الإثبات لا تسمع هذه الدعوى مجردة ويخلى بينها وبين زوجها ، وهذا ليس بحكم كما إذا قال : لا أحكم بالشاهد واليمين أو لا أسمع هذه البينة ونحو ذلك كما في التبصرة وهو قول خليل : لا أجيزه أو أفتي كما مر أول الكتاب ، وبه أيضاً تعلم ضعف ما مرّ عن اللقاني من أن التعجيز هو الحكم بعدم قبول الحجة لأنه حينئذٍ يصير المدار في قطع النزاع والشغب على صدور التعجيز بالمعنى المذكور ، والحكم بدونه لا يقطع ذلك . وهذا بعيد لا دليل عليه عقلاً ولا نقلاً ، وقول ابن فرحون تبعاً للجزيري : إن قضى القاضي على القائم بإسقاطدعواه من غير صدور تعجيز ثم وجد بينة فله القيام بها الخ . مردود كما في طفي ، وأيضاً هو مبني على المقابل من أن المحكوم عليه تسمع حجته المشار له بقول ( خ ) فإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر كنسيان الخ . أعني : إذا حكم عليه بإسقاط دعواه ، ولم يقل في حكمه أنه لا تقبل له حجة يأتي بها ثم أتى ببينة نسبها أو لم يعلم بها فإنها لا تقبل وهذا وان كان موافقاً لنص خليل المذكور لكنه خلاف المشهور كما ستراه فإن قال في حكمه : لا تقبل له بينة يأتي بها فلا تقبل حينئذٍ اتفاقاً لأن حكمه بعدم قبول الحجة يرفع الخلاف ، وبالجملة فالمعتمد من قول ابن القاسم يوافق ابن الماجشون في عدم الحكم على الطالب في هذه المستثنيات ويختلفان في غيرها ، فرأى ابن الماجشون أن كل شيء عجز الطالب عن إثباته ابتداء فلا يحكم فيه ويترك وتحقق دعواه متى أمكنه ، وكل شيء أثبته وأوجب فيه عملاً على المطلوب فأثبت المطلوب ما يسقطه وينقضه فادعى الطالب حجة عجز عن إثباتها بعد ضرب الأجل له فإنه يحكم عليه وتقطع حجته . ورأى ابن القاسم أنه يحكم عليه في غير المستثنيات مطلقاً إذا سأل المطلوب ذلك والحجة له ما تقدم في رسالة القضاء لعمر رضي الله عنه من قوله : اجعل للمدعي أجلاً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلاَّ وجهت القضاء عليه الخ . وظاهر قوله : حبس سواء ادعى أن هذه الدار مثلاً حبس على الفقراء أو على معين وهو في الأول ظاهر لحق الغائب منه ، وكذا في الثاني لأن الحبس حق لله لا يجوز بيعه ويدخل في الحبس الطريق العامة . ( أو طلاق ) ادعته المرأة وعجزت عن إثباته ، فلا يجاب الزوج إلى الحكم بقطع دعواها ، وأما إذا أثبتته وعجز الزوج عن الطعن فيما أتت به فإنه يحكم به عليه ولا تسمع حجته بعد ، وكذا يقال في باقي المستثنيات فلا يعجز مدعي إثباتها ويعجز مدعي نفيها ما عدا الدم لخطره كما ستراه . ( أو نسب ) ادعى شخص أنه من ذرية فلان وعجز عن إثباته فلا يجاب من هو من ذريته إلى الحكم بقطع دعواه ( أو دم ) ادعاه شخص على آخر غيلة أو حرابة فعجز الولي عن إثبات ذلك فلا يجاب القاتل إلى الحكم بقطع دعوى الولي هذا هو المراد بالدم لأن ضابط المسائل الخمس كل حق ليس لمدعيه إسقاطه بعد ثبوته ، وليس المراد ادعاءه أنه قتل وليه عمداً في غير الغيلة والحرابة وعجز عن إثباته ، فإن هذا يحكم عليه ولا تقبل حجته بعد لعدم دخوله في الضابط المذكور ولا ادعاء العفو أو التجريح فعجز عن إثباتهما فحكم بقتله فوجد البينة بهما قبل أن يُقتل ، فإن هذا يقبل منه ما أتى به من العفو والتجريح لخطر الدماء فقط ، ولو كان مالاً لم يقبل منه ولكن لا يقرر به كلام الناظم لأن الكلام في الحكم على الطالب كما مرّ ، وهذا مطلوب . وأيضاً فإن هذا من دعوى العفو في الحدود فلا يختص بالقتل بل القذف كذلك والتجريح في السرقة بالنسبة للقطع كذلك ، ولو أرادوه لقالوا أو عفوا الخ . وأيضاً لو كان المراد بالكلية ما يشمل الطالب والمطلوب لورد عليهالغائب واليتيم إذ لكل منهما الإسقاط بعد القدوم والرشد مع أنه يحكم عليهما وينزع الشيء من يدهما وهما على حجتهما والله أعلم . ( أو عتاق ) ادعاه العبد على سيده وعجز عن إثباته فإنه لا يعمل بدعواه ويخلى بينه وبين سيده وتسمع حجته إن وجدها وعتاق بفتح العين مصدر عتق كما في القاموس .
ثُمَّ عَلَى ذا القولِ ليسَ يُلْتَفَتْ
لِمَا يُقَالُ بَعْدَ تَعْجِيزٍ ثَبَتْ
( ثم ) عاطفة جملة على جملة ( على ذا القول ) يتعلق بقوله : ( ليس ) واسمها ضمير الشأن وجملة ( يلتفت ) بالبناء للمفعول خبرها ( لما يقال ) يتعلق به وكذا ( بعد تعجيز ) وجملة ( ثبت ) صفة تعجيز أي ثم إذا أجيب سائل التعجيز أي الحكم لما سأله على هذا القول المذكور من إيجابه إليه وإمضائه عليه في كل شيء إلا ما استثني لا يلتفت لما يأتي به بعد من حجة طالباً أو مطلوباً وإلاَّ لم تكن فائدة لضرب الآجال ولا تنقطع حجة أحد أبداً وظاهره أقر بالعجز أم لا كان هناك عذر من نسيان ونحوه أم لا . كانت الحجة التي أتى بها في غير المستثنيات تجريحاً أو غيره ، وهو كذلك في الجميع على الراجح المعمول به قال في الشامل : ثم لا حجة للمحكوم عليه بعده ، وكذا إن أقر بالعجز على المشهور . وثالثها : إلاَّ لوجه . ورابعها : تقبل عند من حكم عليه فقط وقيل تقبل من الطالب وحده ، وقيل إن لم يدخل خصمه في عمل اه فعلم منه بحسب ظاهره أنه إذا حكم عليه وهو يدعي الحجة لا تقبل حجته بعد اتفاقاً وإن محل الخلاف إذا أقر بالعجز وهو كذلك وبالمشهور قال أشهب ومطرف : وفي كتاب ابن دبوس : إذا فصل الحاكم بين الخصمين لم ينظر له في بينة بعد ذلك ولم يعذر في غيبتها أو جهلها أو جهل من يجرح من شهد عليه ، ونفذ الحكم عليه على ما عليه حكام أهل المدينة . قال أصبغ : وبه قال ابن القاسم وأصحابنا اه . وفي ابن سهل : إنه الذي جرى به العمل ، وكذا في الجزيري وابن رحال في حاشيته هنا ، وفي التبصرة إذا قال المحكوم عليه بعد الحكم كنت أغفلت حجة كذا لم يقبل منه ذلك اه بخ .
قلت : وبهذا تعلم أن قول ( خ ) فإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر كنسيان الخ . وكذا قوله : أو ظهر أنه قضى بفاسقين الخ كلاهما مقابل ، ويدخل في الفسق العداوة والقرابة وسائرالقواد ( ح ) كما لابن رحال في شرحه . وفي التبصرة أن المازري صوب عدم النقض ، وممن صرح بالمقابلة بين المحلين ابن سهل في أحكامه ونقله المتيطي في أول نهايته قال بعد أن ذكر عن سحنون أنه ما ضربت له الآجال ووسع عليه إلا لتقطع حجته وأنه لا يقول في ذلك بقول ابن القاسم بن سهل يريد : الذي روى عنه في موضعين قوله في أقضية المدونة إن أتى بماله وجه قبل منه مثل أن يأتي بشاهد عند من لا يرى الشاهد واليمين ، فوجد بعد الحكم عليه شاهداً آخر ، وفي السرقة منها مثل أن يظفر ببينة لم يعلمها ، وفي كتاب التبصرة : إن وجد من يجرح من حكم عليه بهم فإنه يسمع منه ذلك عند ذلك الحاكم وعند غيره ثم قال : وفي سماع أصبغ عنه فيمن ادعى نكاح امرأة وادعى بينة بعيدة وأنكرته لم تؤمر بانتظاره إلا أن تكون البينة قريبة لا يضر ذلك بالمرأة فإن عجزه الحاكم ثم جاء ببينة فقد مضى الحكم أنكحت أم لا ؟ قال : وهذه الرواية نحو روايته عنه في كتاب ابن حبيب خلاف المدونة وفي سماع يحيى لأنه لم يسمع منه بعد التعجيز اه . وهذه الرواية هي قول خليل في التنازع ، وأمرت بانتظاره لبينة قريبة ثم لم تسمع بينته إن عجزه قاض مدعي حجة الخ لكن ما في المدونة من قبول حجته بعد الحكم إن أتى بماله وجه الخ . طالباً كان أو مطلوباً صرح في معاوضات المعيار في جواب لمؤلفه بأنه المشهور في المذهب قال : وسواء كان الحكم بعد العجز أو التعجيز على طريق أكثر المشايخ خلافاً لابن رشد وصاحب المعين اه . وفي الوثائق المجموعة أنه الذي به العمل فقوله : خلافاً لابن رشد يريد لأنه جعل الحكم مع التعجيز أن بين اللدد قاطعاً لكل حجة يأتي بها علمها أم لا ، وقصر الخلاف على ما إذا أقر بالعجز ، وقد علمت منه أن أكثر المشايخ على خلاف قوله فتأمله مع ما درج عليه الناظم ، وفي الحطاب عند قوله : وتؤولت على الكمال في الأخير الخ ، من النقول ما يشهد لما شهره في المعيار فانظره ، لكن الأول أقوى لأنه الذي به العمل .
تنبيهان الأول : إذا قال المدعي في غير المستثنيات بينتي غائبة فإن كانت قريبة الغيبة أنظر بقدر ذلك ، وإن كانت بعيدة قضى عليه وهو على حجته إذا قدمت فإن سأل من القاضي أن يحلفه له ويبقي على حجته أجيب إن حلف أنها بموضع بعيد وسماها وإلاَّ فليس له تحليف المطلوب مع بقائه على حجته كما في اللامية . ابن عرفة : ولا بد أن يعين الموضع خوف أن يعتقد بعد ما ليس ببعيد والخوف مع القرب كالبعد .
الثاني : لم تجر العادة عند الموثقين بإفراد عقد التعجيز أي الحكم ، وإنما يضمنونه عقد التسجيلات أي الآجال ورسوم الحق التي أشهد على نفسه بقبولها وعدالة شهودها وكيفية ذلك أن تقول : لما انصرمت الآجال والتلومات الثابتة أعلاه أو حوله ، ولم يأت المتأجل بشيء يوجب له نظراً سأل القائم بالحق أو المطلوب به أعلاه أو حوله ممن يجب سدده الله وهو
إعمال الواجب في ذلك وأن يحكم له بما ثبت له على المتأجل المذكور أو يقطع دعواه عنه ، فاقتضى نظره السديد أن حكم على المتأجل المذكور بكذا بعد أن أعذر له بأبقيت لك حجة فادعاها أو نفاها حكماً لازماً أنفذه وأمضاه وأوجب العمل بمقتضاه شهد على إشهاد من ذكر إلى آخر ما تقدم في فصل الإعذار فإن سأل كتابة التعجيز تأكيداً للحكم المذكور على حسب ما مر زاد بعد قوله أنفذه وعجزه ، وأوجب العمل الخ . وقولنا : بعد أن أعذر الخ . لا بد منه كما مر في أولفصل الإعذار وصفة الوثيقة ظاهر مما مر آنفاً والله أعلم فإن ذهبت إلى كتبه مفرداً فانظر كيفية ذلك في التبصرة .
باب الشهودجمع شاهد ( وأنواع الشهادات ) الخمس ( وما يتعلق بذلك ) من التوقيف وتعارض البينات . والفرق بين الرواية والشهادة مع أن كلاً منهما خبر هو أن الخبر إن تعلق بجزئي وقصد به ترتيب فصل القضاء عليه كقولك : لفلان على فلان كذا فهو الشهادة ، وإن تعلق بأمر عام لا يختص بمعين كالأعمال بالنيات والشفعة فيما لا ينقسم أو تعلق بجزئي ، لكن من غير قصد ترتيب فصل القضاء عليه كحديث : يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ونحوهما مما يقصد به تعريف دليل الحكم الشرعي لا ترتيب فصل القضاء ، فهو الرواية ، ولذا قال في جمع الجوامع الإخبار عن عام لا ترفع فيه الرواية وخلافه الشهادة اه .
وَشَاهِدٌ صِفَتُهُ المَرْعِيَّهْ
عَدَالَةٌ تَيَقُّظٌ حُرِّيَّهْ
( وشاهد ) مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الجنس أو كونه صفة لمحذوف ( صفته ) مبتدأ ثان ( المرعية ) نعت له أي المعتبرة فيه ( عدالة ) وما عطف عليه بحذف العاطف خبر عن الثاني ، والجملة خبر الأول ولا يخفى أنها تتضمن الإسلام والعقل والبلوغ إذ كل عدل مطلقاً كان عدل رواية أو شهادة لا بد فيه منها وقت الأداء والإخبار . ( تيقظ ) أي فطنة بحيث لا تتمشى عليه الحيل فهو أخص من العقل ، إذ لا يلزم من وجود العقل وجود التيقظ كما أنه لا يلزم من وجود التيقظ وجود البلوغ فلا يتكرر مع ما قبله وخرج به المغفل إذا شهد فيما يلتبس لا إن شهد في غيره كقوله : رأيت هذا يقطع يد هذا فتقبل فمفهوم هذا القيد فيه تفصيل ، فلا يعترض به . والمغفل من لا يستعمل قوة التنبه مع وجودها فيه ، وأما البليد فهو خال منها فلا تجوز شهادته مطلقاً وخرج به أيضاً السفيه كان مولى عليه أم لا على ما به العمل من أنه يحجر عليه لأن من استحق التحجير لعدم حفظه ماله وعدم حسنه النظر فيه لخداعه في البيع ونحوه لا تيقظ له كما خرج بما قبله الصبي والمجنون والكافر ، فلا تجوز شهادتهم ولو على مثلهم إلا الصبي علىمثله في الجراح كما يأتي ( حرية ) ولو عتيقاً بعضه لأن المناصب الدينية من القضاء والشهادة فيها إلزام والنفوس تأبى أن يلزمها من دونها ممن فيه شائبة رق لأنه أثر كفر ، ولهذا جازت روايته لأنه لا إلزام فيها لمعين كما مرّ وأسقط قيد الذكورية لتدخل الأنثى فقوله : وشاهد أي وشخص شاهد ، فالناظم قصد بيان شروط الشاهد من حيث هو ، وإن كانت شهادة النساء إنما تجوز في البعض دون البعض فغير المبرز ، كذلك تجوز شهادته في البعض دون البعض فلو كان مقصوده من تجوز شهادته في كل شيء لخرجا معاً . ولا يقال كان القياس إدخال شهادة الصبيان لأنها تجوز في البعض أيضاً . لأنا نقول جوازها على خلاف الأصل كما يأتي . ولما كانت القيود المذكورة لا تكفي في جواز شهادة الشاهد ، بل لا بد من قيدين آخرين نبه على أولهما بقوله :
والعَدْلُ مَنْ يَجْتَنِبُ الكَبَائرا
وَيتّقِي في الغَالبِ الصّغَائِرا
( و ) الشاهد ( العدل ) الذي يستحق أن يسمى عدلاً وأن تجوز شهادته شرعاً هو ( من ) وجدت فيه القيود المتقدمة و ( يجتنب ) معها الذنوب ( الكبائرا ) دائماً وهي ما توعد عليه من حقد وحسد ورياء وسمعة وسرقة وفاسقي الإعتقاد كالقدري والخارجي ونحو ذلك . وكذا صغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، وإن لم تكن كبيرة ، والمراد بالاجتناب أن لا تصدر منه رأساً أو عرفت توبته منها ، فالعدل مبتدأ حذفت صفته كما قررنا خبره ما بعده من الموصول وصلته ( ويتقي ) معطوف على الصلة ( في الغالب ) يتعلق به ( الصغائرا ) الغير الخسة كالنظرة للأجنبية والكذبة الواحدة في السنة لا الصغائر من حيث هي لما مرّ من أن صغيرة الخسة لحقت بالكبائر في دوام الاجتناب لا في الغالب فقط ، فكلامه مساوٍ لقول الشيخ خليل : العدل حر مسلم عاقل بالغ بلا فسق وحجر لم يباشر كبيرة أو صغيرة خسة الخ . لأن مفهوم قوله : أو صغيرة خسة أن غير الخسة فيه تفصيل بين الإدمان عليه فيقدح وعدمه فلا يقدح كما في النظم لأن النادر لا يسلم منه إلا من عصمه الله ، وقد قال مالك : من الرجال رجال لا تذكر عيوبهم . ابن يونس : إذا كان عيبه خفيفاً والأمر كله حسن فلا يذكر اليسير الذي لا عصمة منه لأحد من أهل الصلاح وعلى ثانيهما بقوله :وما أبيحَ وهو في العِيان
يَقْدَحُ في مُروءَةِ الإنسان
( وما ) موصول معطوف على الصغائر بقيد الغلبة كما هو ظاهر . أي : ويتقي في الغالب ما ( أبيح ) شرعاً من قول أو فعل ( وهو ) مبتدأ والواو للحال ( في العيان ) يتعلق بمحذوف حال أي : وهو حال وجوده في العيان بناء على مجيء الحال من المبتدأ أو يتعلق بالخبر الذي هو قوله : ( يقدح في مروءة الإنسان ) كالإدمان على لعب الحمام ولو بغير قمار ، والشطرنج وكحرف المهنة من دباغة وحجامة وحياكة اختياراً في بلد يزري به التحرف بذلك وليس هو من أهله ، أما إن كان لا يزري به في ذلك البلد أو كان من أهله أو اضطر له فلا . وكالتصريح بأقوال لم ينطق الشرع بها إلا بالكناية ونحو ذلك ( خ ) ومروءة بترك غير لائق من حمام وسماع غناء ودباغة وحياكة اختياراً الخ . وبالجملة ؛ فالمروءة هي المحافظة على فعل مباح يوجب تركه الذم عرفاً كترك الانتعال للمليء في بلد يزري بمثله ذلك وعلى ترك مباح يوجب فعله الذم عرفاً كالأكل في السوق لغير السوقي وفي حانوت الطباخ لغير الغريب ، وقولنا بقيد الغلبة إشارة إلى أن النادر من المباح القادح لا يضر لأنه إذا كانت صغيرة غير الخسة إنما يطلب اتقاؤها في الغالب فأحرى المباح القادح في المروءة ، وبما قررنا به هذه الأبيات يندفع ما أوردوه ولا يفوته شيء مما شرطوه . ولما كان الاجتناب والاتقاء المذكوران في طوق الشاهد واختياره دون غيرهما وآفات العدالة إنما تأتي في الغالب من ناحيتهما عبر بعضهم كابن رشد عن حدها بأنها اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر وحفظ المروءة إشارة إلى أن على ذلك مدار العدالة وروحها ، فتبعه الناظم فأعاد لفظ العدل في البيت قبله إشارة إلى ذلك ، وإلا فهو في غنى عنه بأن يقول مثلاً مع كونه يجتنب الخ . ولا يصح جعل البيتين وحدهما تفسيراً للعدالة المتقدمة كما قيل : لما علمت من عدم شمولهما لكل قيودها .
ثم اعلم أن هذه الشروط إنما تشترط في حال الأداء فقط لا التحمل إلا العقل ، فإنه يشترط فيهما وسيأتي قول الناظم : وزمن الأداء لا التحمل . الخ . قيل : وهذا التفصيل إنما هو فيما عدا شهود الخط والنكاح ، وأما هما فلا بد من الشروط كلها في التحمل والأداء اه .
قلت : إن كان مراده بالنكاح أن الزوج لا يعتمد في دخوله بزوجته على شهادة الصبي ومن في معناه ممن لم تتوفر فيه الشروط وإن فعل فيصدق عليه أنه دخل بلا إشهاد فيحد ويفسخولو أداها حينئذٍ بعد زوال المانع فواضح ، وإن كان المراد أن العقد لا يثبت بشهادة من تحمله حال المانع ولو أداها بعد زواله وقبل الدخول أو بعده أو بعد الموت فهو يحتاج إلى نص يساعده ، وأما الخط فإن كان المراد أن من عرف خط شخص حال المانع بالممارسة والتكرر لا يرفع على عينه بعد زوال المانع ولو مبرزاً ففيه نظر ، وإن كان المراد لا يرفع عليه في غيبته اعتماداً على ما عرفه منه حال المانع ، فهذا لا يختص به من تلبس بالمانع حال التحمل بل غيره كذلك إذ معاينة الرسوم لا تفيد خلافاً لأبي الحسن كما يأتي ، والله أعلم .
تنبيه : ظاهر النظم كغيره أن الفاقد لواحد من الشروط المذكورة لا تقبل شهادته ولو في بلد لا عدول فيه ، وسواء شهد على معروف بالسرقة والعداء أم لا ، وهو كذلك على المشهور ومذهب الجمهور قال ابن العربي في أحكامه : إذا كانت قرية ليس فيها عدول وبعدوا عن العدول فالذي عليه الجمهور أن لا تجوز شهادتهم لبعضهم بعضاً ، لكن نقل في الذخيرة عن النوادر أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة ويلزم ذلك في القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح ، وما أظن أحداً يخالف في هذا لأن التكليف شرطه الإمكان اه . وبه عمل المتأخرون حسبما في ابن سلمون والمعيار ونحوهما ، وفي المازونية أنه تجوز على السارق شهادة من لقيه من النساء والصبيان والرعاة إذا عرفوه وقالوا فلان رأيناه سرق كذا أو غصبه ونحو ذلك قال : وقد سئل مالك عن مثل هذا الأمر في لصوص الحجاز والبرابر فقال : تجوز عليهم شهادة من لقيهم من النساء . قيل له : إنهم غير عدول . قال : وأين يوجد العدول في مواضع السارق واللص وإنما يتبعان الخلوات اه . وهذا من باب قولهم إن المعروف بالظلم والتعدي يغلب الحكم في حقه لأن شهادة غير العدل كالعدم ، وإلى مثل هذا أشار في العمليات بقوله :
لوالد القتيل مع يمين
القول في الدعوى بلا تبيين
وهو وإن كان خلاف الأصول لقوله عليه السلام : ( البينة على المدعي ) ولقول عمر رضي الله عنه : والله لا يوسر أحد في الإسلام بغير العدول الخ . لكن عملهم عليه كما يأتي في باب الغصب اه . فإن أقر الخصم بالعدالة فلا تشترط حينئذ كما مرّ عند قوله : وفي الشهود يحكم القاضي بما الخ . ثم أشار إلى ما يجرح به الشاهد العدل وأنه قسمان مبرز وغيره فقال :
فالْعَدْلُ ذو التَّبرِيزِ لَيْسَ يَقْدَحُ
فيه سِوى عَدَاوَةٍ تُسْتَوْضَحُ
( فالعدل ) مبتدأ ( ذو التبريز ) نعت له أي المبرز بكسر الراء المشددة من برز بالتشديد والفتحأي فاق أصحابه فضلاً وعدالة متقدماً في ذلك عليهم ، وأصله من تبريز الخيل في السبق وتقدم سابقها ، وليس هو من تصدى لتحمل الشهادة وبيعها في الأسواق بإذن قاض أو أمير كما يعتقده العامة بل هو الفائق في الفضل كما مرّ ، وأين هو اليوم ؟ وكان بعض الشيوخ يمثله بأبي محمد صالح ونظائره ، وقيل هو معدوم في زماننا كبيض الأنوق أي الرخمة قال في المعيار : أما عدم هذا الوصف الذي هو التبريز في العدالة وعزته في المنتصبين للشهادة ممن أدركنا من عدول المغرب الأوسط والأقصى فغير بعيد ، وأما عدمه وعزته مطلقاً في المنتصبين وغيرهم فغير مسلم ، وقد شاهدنا منهم والحمد لله العدد الكثير اه . ( ليس يقدح ) خبر ليس واسمها ضمير الشأن ( فيه ) يتعلق بيقدح ( سوى عداوة ) فاعل يقدح أو اسم ليس على أنه من باب التنازع بين مشتق وجامد عند من أجازه ( تستوضح ) مبني للمفعول صفة لعداوة ، والجملة من ليس وما بعدها خبر المبتدأ . وقوله : عداوة أي دنيوية بينه وبين المشهود عليه أو ابنه أو أبيه ونحوهما من الأصول والفروع وإن علوا أو سفلوا ، لأن العداوة تورث ، وأما على الحواشي فقولان بالجواز والمنع لا إن تمحضت الدينية فقط فلا أثر لها لجواز شهادة المسلم على الكافر ، وفي معنى العداوة القرابة بدليل قوله فيما يأتي : والأب لابنه وعكسه منع الخ . فحذف القرابة هنا اتكالاً على ما يأتي ، ومفهوم عداوة أنه لا يقدح فيه بغيرها وعليه اقتصر ابن سلمون و ( خ ) في باب القضاء حيث قال : والمبرز بغير عداوة وقرابة الخ . والمشهور وهو اختيار اللخمي أنه يقدح فيه بغيرهما مما يقدح به في المتوسط ( خ ) في الشهادات ، وقدح في المتوسط بكل وفي المبرز بعداوة وقرابة وإن بدونه كغيرهما على المختار ، وهذا في غير الملاطفة ، وأما هي فلا يقدح بها في المبرز ، واحترز بقوله : تستوضح من العداوة الخفية التي لا تورث شحناء كالمخاصمة في ثمن الثوب ونحوه فإنها لا تقدح كما في ابن سلمون وابن عرفة وكيفية وثيقة العداوة يعرف الواضع شكله وأثره فلاناً وفلاناً معرفة تامة بعينهما واسمهما ومعها يشهد بأن بينهما عداوة قديمة وشحناء ومقاطعة على أسباب الدنيا وحطامها منذ كذا قبل تاريخ الشهادة بالحق أعلاه أو حوله ولا يعلمهما اصطلحا ورجعا عن ذلك حتى الآن أو حتى ماتا أو أحدهما ، وقيد بذلك شهادته في كذا فقولنا : وشحناء ومقاطعة تأكيد وتفسير للعداوة ، ولو اقتصر على أحد هذه الألفاظ لكفاه لأن مجرد الهجران وقطع الكلام يرد الشهادة إذا زاد على ثلاثة أيام . انظر شرحنا على الشامل ، وقولنا على أسباب الدنيا أي كالمنازعة في مال أو جاه وفي معناهما ففي المعيار إن كان بين الشاهد والمشهود عليه مقاسمة المغارم والكلف التي تلزم الرعية من السلاطين والمدافعة عليه وبينهما التشكي للعمال والقضاة على ذلك لم تجز شهادته عليه ، وفي الطرر عن الاستغناء في أهل مسجد قاموا في حبسه أو في حقه على رجل شهدوا فيه فأنكرهم لم تجز شهادتهم لأنهم خصماؤه ، فإن قام عليه منهم طائفة وشهد غيرهم جازت لأنهم غير خصماء اه . ومنه شهادة المشهود عليه على الشاهد ولو بعد شهرين من شهادة الشاهد كما في الشامل ، فإن كانت العداوة غضباً لله تعالى لكون المغضوب عليه كافراً أو فاسقاً فلا تمنع القبول لأن ذلك يدل على قوة الإيمان قاله ابن شاس ، وقولنا : منذكذا الخ بيان لعدم العداوة وإنها قبل الأداء احترازاً من العداوة الحادثة بعده فلا تضر ، وقول ( خ ) ولا إن حدث فسق بعد الأداء مقيد بغير العداوة كما تقدم عند قول الناظم : وحقه إنهاء ما في علمه . الخ ، فإن حدثت العداوة بعد التحمل وقبل الأداء بطلت الشهادة ، ولذا كان يجب تاريخ الخطاب بالأداء كما مرّ في فصله وفي التبصرة وابن شاس اختلف فيمن كانت عنده شهادة ، وكان يذكرها ثم عاداه المشهود عليه فاحتاج إلى القيام بها قال اللخمي : قبولها هنا أحق إن كانت قد قيدت اه . وفي المعيار من حكم عليه القاضي فبادر لمخاصمته لا يرفع الحكم عنه ، وكذا من شكا بالقاضي للسلطان فعدل بينة تشهد عليه لا يرد تعديله اه . وإذا شهد عدوك لك وعليك فإن شهد بذلك في مجلس واحد سقطت لأنه يتهم في جواز شهادته عليه بشهادته له ، وإن شهد عليك في وقت ثم شهد لك في وقت آخر جازت فيما لك لا فيما عليك . وقولنا : ولا يعلمهما اصطلحا احترازاً مما إذا زالت العداوة بالصلح والرجوع لما كانا عليه قبل العداوة وطال ذلك طولاً يدل على براءتهما منها لأنه يتهم إذا شهد بقرب صلحه أنه إنما صالحه ليشهد عليه ، وفي المسائل الملقوطة في قوم بينهم فتنة أو بين آبائهم وأجدادهم ثم اصطلحوا فلا يشهد بعضهم على بعض حتى ينقضي قرن الذين شهدوا الفتنة اه . نقله الحطاب ، ولعل ما في المسائل الملقوطة لا يخالف ما قبله لأن العداوة بين الجماعة والقوم أشد إذ الفتنة ربما أفضت للقتل فإن سقط هذا الفصل من أصله فالأصل الاستصحاب لأن المانع قد ثبت واحتمال ارتفاعه لا يؤثر لأنه شك في ارتفاع المانع لا في نفس المانع قاله بعض .
تنبيه : فإن اعترف المشهود عليه أنه لا معرفة له بالشاهد ، ثم قام يجرحه بالعداوة لم يقبل منه وله أن يجرحه بغيرها قاله في اختصار المتيطية ونقله ابن سلمون .
وَغيْرُ ذي التَّبْريز قدْ يُجَرَّحُ
بِغَيْرِها مِنْ كُلِّ ما يُسْتَقْبَحُ
( وغير ذي التبريز ) مبتدأ خبره ( قد يجرج ) و ( بغيرها ) يتعلق به وكذا قوله ( من كل ما ) مصدرية أو نكرة موصوفة ( يستقبح ) وهو تفسير لغير والضمير المضاف إليه غير العداوة أي يجرح بكل مستقبح شرعاً غير العداوة وأحرى بها ، وظاهره سواء بين المجرح السبب أم لا وكيفيته يعرف الواضع شكله فلاناً بعينه واسمه ومعها يشهد بأنه ممن لا تقبل شهادته لقبح مذهبه وسوء صنعه ولا يعلمونه رجع عن ذلك إلى الآن وبذلك قيد شهادته الخ . وهذا على أن شهادة التجريح تقبل مجملة من أهل العلم وعليه غير واحد من الشيوخ والصواب كما في المتيطية أن لا تقبل مجملة كان الشاهد من أهل العلم أم لا ، قال لوجهين ، أحدهما : إن كثيراً من الجرح يختلف العلماء فيه فبعضهم يراه جرحاً وبعضهم لا يراه . الثاني : إنه يتعلق به حقان حق الشاهد لانتهاك حرمته وحق المشهود له في إسقاط حقه فكان من حقهما بيان ما يقع به التجريح إذ قديكون شاهد التجريح سمع منه كلمة أو رأى منه فعلاً له فيه تأويل لا تسقط الشهادة معه اه . وهو ظاهر قول خليل ، وإن لم يعرف الاسم ولا اللقب بخلاف الجرح أي التجريح فلا بدّ فيه من بيان السبب لغلط كثير منهم فيه كالذي فسره بالبول قائماً وبعدم ترجيح الميزان وعليه فتقول بعد قولك : ممن لا تقبل شهادته الخ ، بأنه يعمل بالربا أو يخرج الصلاة عن وقتها أو أقر بوطء جارية اشتراها قبل استبرائها أو ممن يجهل أحكام قصر الصلاة والزكاة وهو من أهل السفر والمال ، أو ممن يشرب الخمر أو يبيع العنب لمن يعصرها خمراً أو يكثر سماع الغناء أو يكذب أو يضرب الخط أو يشتغل بالسحر والكهانة أو يترك زوجته تخرج بادية الأطراف من غير عذر له أو يحضر محافل الفساق أو يختلي بالنساء والأطفال أو يتولى أخذ المظالم والمغارم والمكوس من الرعية ويقسطها عليهم أو يعامل أهل الغصوب أو يشهد بالزور أو يتعرض لأخذ الزكوات كما في المعيار أو يشتغل بالغيبة والنميمة أو يلقن الفجور للخصوم أو يحلف بالطلاق والعتاق ، أو يدوام الأكل عند العمال ، أو يقبل جوائزهم ، أو يدخل الحمام بغير مئزر ، أو يلتفت في الصلاة أو ينتسب إلى غير أبيه أو من أهل العصبية وهي أن يبغض الرجل الرجل لكونه من بني كذا ونحو ذلك ، وليس منها من ترك تعاهد القرآن مشتغلاً بغيره من الواجب حتى نسيه فلا إثم عليه بخلاف إن تركه استخفافاً به كما في البرزلي وليس للعمال أيضاً أن يقدحوا في شهادة الرعية عليهم بأنهم يغرمونهم كما في البرزلي أيضاً فقولنا بعينه واسمه احترازاً مما إذا كان لا يعرفه بهما أو يعرفه بالإسم فقط ، فإن كان يعرفه بالعين دون الاسم واللقب كفاه أن يؤدي الشهادة على عينه كما مرَّ عن خليل وكما يأتي في قول الناظم : ومطلقاً معروف عين عدلاً . الخ . إذ لا فرق بين التعديل والتجريح وغيرهما من المعاملات في هذا الباب ، وإذا حكم بتعديله أو تجريحه أو لزوم بيعه ونحوه فإنه يسجل على صفته وحليته حيث لم يعرفه شهود الحكم بالعين والاسم وإلا سجلوا على معرفته ، وبهذا يقيد إطلاق اللامية في قولها شهادة معروف الخ ، وقولنا : ولا يعلمونه رجع الخ تقدم في الوثيقة قبله أن سقوطه لا يضر اه . وهذا مع تعذر الاستفسار وإلا فيسأل عن انتفاء علمه وظاهر النظم قبول التجريح فيه ولو أثبته بعد موته وهو كذلك كما في ابن عرفة في أثناء الكلام على الشهادة على الخط وفهم من النظم أن تأخير القاضي للعدل عن الشهادة لا يبطل شهادته فيما شهد فيه كما مرّ عند قوله : وعدل إن أدى على ما عنده . الخ . لأنه قد استند إلى علمه في إبطال حق ثبت وهو لا يستند لعلمه ، ومن ذلك إذا رأى القاضي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام وقال له : لا تحكم بشهادة فلان فإن ذلك لا يصده عن الحكم بها إذا كان الشاهد عدلاً قاله ابن رشد . ثم أشار إلى أن غير المعروف بالعدالة على أربعة أحوال باعتبار افتقاره للتزكية وعدم افتقاره لها فقال :
وَمَنْ عَلْيهِ وَسْمُ خيْرٍ قَدْ ظَهَرْ
زُكِّيَ إلاَّ في ضَرُورَةِ السَّفَرْ
( ومن ) مبتدأ موصول ( عليه ) يتعلق بقوله ظهر ( وسم ) أي علامة ( خير ) مبتدأ خبره ( قد ظهر ) والجملة صلة من ( زكي ) بالبناء للمفعول خبر الموصول أو جواب الشرط إن جعلتها شرطيةولا تقبل شهادته دون تزكية في زمان ومكان ( إلا في ) زمان ( ضرورة السفر ) أي السفر الضروري فتقبل شهادة القافلة بعضهم لبعض فيما يقع بينهم من المعاملات والكراآت عند حاكم القرية التي مروا بها وإن لم يعدلوا ولا إعذار فيهم كما مرّ في فصله ثم ما درج عليه الناظم من جوازها في ضرورة السفر هو ما لابن حبيب ودرج عليه في المتيطية وهو خلاف المذهب . ابن رشد : لا خلاف أعلمه في المذهب أن المجهول الحال لا تجوز شهادته حتى يعدل لقوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء } ( البقرة : 282 ) ولا يرضى إلا من عرفت عدالته ، غير أن ابن حبيب أجاز شهادته على التوسم فيما يقع بين المسافرين في السفر للضرورة قياساً على جواز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح اه . ولذا لم يعرج خليل على ما لابن حبيب ، وإنما تعرض لجوازها على المحارب فقال : والقافلة بعضهم لبعض في حرابة يعني والشهود من القافلة عدول كما لشراحه .
وَمَنْ بِعَكْسِ حَالِهِ فَلاَ غِنَى
عَنْ أنْ يُزكِّي والَّذِي قَدْ أَعْلَنَا
( ومن ) موصول مبتدأ ( بعكس ) خبر قوله ( حاله ) والجملة صلة من أي ومن ظهر عليه وسم الشر ولم يتحقق عليه ( فلا ) نافية للجنس ( غنى ) اسمها مركب معها ( من أن يزكي ) يتعلق بغنى وخبرها محذوف أي فلا غنى عن تزكيته موجود وسواء كان في سفر أو حضر وظاهره ، ولو كان القاضي يعرف عدالته وتأمله مع ما مر عند قوله وفي الشهود يحكم القاضي بما الخ ( والذي ) مبتدأ ( قد أعلنا ) صلته .
بِحَالَة الْجَرْحِ فَلَيْس تُقْبَلُ
لهُ شَهادةٌ ولا يُعَدلُ
( بحالة الجرح ) من القذف وشرب الخمر ونحوهما مما مرّ ( فليس تقبل . له شهادة ) مرفوع على أنه اسم ليس أو نائب عن الفاعل يتقبل إن جعلت اسم ليس ضمير الشأن والجملة خبر المبتدأ ( ولا يعدل ) معطوف على ما قبله أي لا يقبل تعديله لظهور فسقه .
وإنْ يَكُنْ مَجْهُولَ حالٍ زُكِّيا
وشُبْهَةً تُوجِبُ فيما ادُّعِيا
( وإن يكن ) شرط ( مجهول حال ) خبر يكن أي لم يظهر عليه وسم خير ولا شر ( زكيا ) بالبناء للمفعول جواب الشرط أي ولا يقبل دون تزكية لا في حضر ولا في سفر ( و ) لكن لا تلغى شهادته قبلها مطلقاً بل ( شبهة ) مفعول بقوله ( توجب ) بكسر الجيم ، وفاعله ضمير يعود على المحتاج للتزكية بدليل تأخيره فيشمل من ظهر عليه وسم الخير والمجهول لأن الكل تقبل تزكيته ( فيما ) يتعلق بما قبله ( ادعيا ) بالبناء للمفعول صلتها والعائد محذوف أي فيه فتوجب الكفيل وتوقيف المدعى فيه ولو عقاراً وتقوي تهمة وجوب اليمين على القول بعدم وجوب شيءمن ذلك بمجرد الدعوى على ما يأتي وأحرى على القول بوجوبها في الجميع مع التجرد وبه العمل وتكون لوثاً في الدماء على أحد قولي مالك الآتي في قول الناظم : ومالك فيما رواه أشهب . البيت . وإذا كان هذا في المجهول فمن ظهر عليه وسم الخير أحرى ، وكذا من ظهر عليه وسم الشر إذ المدار على كونه ممن ترجى تزكيته فيعمم في النظر كما قررنا والله أعلم .
وقد علم أن كل ما عدا المعلن بالفسق من هذه الأقسام تقبل تزكيته وأن شهادته قبلها شبهة لأن كل من يرجى ثبوت الحق به إذا زكى فهو شبهة كما هو ظاهر كلامهم في فصل التوقيف خلافاً لما في المتيطية من أن شهادة من ظهر عليه وسم الشر لا تكون شبهة إذ لا يخفى أنها أقوى ممن شهدت بالنشدان ونحوه ، وعلم منه أيضاً أن الأصل في الناس الجرحة ولو كان ممن تتوهم فيه العدالة كرواة العلم فلا بد من تزكيته وهو كذلك كما لابن ناجي في شرح المدونة قال : واختار ابن عبد البر وهو قول جماعة من العلماء قبول رواة العلم حتى تظهر جرحتهم لقوله عليه الصلاة والسلام : ( يحمل هذا الدين من كل خلف عدو له ) اه . فالمراد برواته من تضلعوا فيه واطلعوا على سرائره بدليل الحديث المذكور لا كل من يتعلمه .
ومُطْلَقاً مَعْرُوفُ عَيْنٍ عدِّلا
والعَكْسُ حاضِراً وإنْ غَابَ فَلا
( ومطلقاً معروف عين ) مبتدأ خبره ( عدلا ) بالبناء للمفعول ومطلقاً حال من نائبه أي الشاهد المعروف بالعين والاسم والنسب عند القاضي أو عند الناس وإن لم يعرفه القاضي تقبل تزكيته مطلقاً سواء حضر مجلس القاضي وأديت التزكية على عينه أم لا . لأن من كان معروفاً عند الناس مشهوراً تمكن القاضي بمعرفته من مطلق الناس ( والعكس ) مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي والعكس وهو ما إذا كان الشاهد غير معروف عند القاضي ولا مشهوراً عند الناس يعدل حال كونه ( حاضراً ) مجلس القاضي ، وظاهره وإن لم يعرف المزكي بالكسر اسمه ولا نسبه ولا كنيته لأنه إنما يشهد على عينه وتسجل وثيقة التعديل على حليته وصفته وهو كذلك كما مرّ عند قوله : وغير ذي التبريز الخ . ولا يلزم من المخالطة في الحضر والسفر مع طول العشرة الخ . اللتين يعتمد عليهما المزكى أن يكون عارفاً باسمه ، ونسبه إذ قد يخالطه وتطول العشرة وينسى اسمه ولا يعرف اسمه بالكلية ، ومن اشتهر بكنيته حتى صارت علماً عليه هو كمعروف الاسم فليس هو من محل الخلاف ، ( وإن غاب ) غير معروف العين ( فلا ) يعدل وظاهره ولو بعدت غيبته ، والذي لابن عرفة عن عبد الحق أن محل هذا إن غاب عن المجلس وهو في البلد أو قريب منه وإلاَّ جازت تزكيته كما يقضى عليه ونحوه في التبصرة عن المازري ، فيقيد كلام الناظم بالقريب أو الحاضر في البلد :وشاهِدٌ تَعْدِيلُهُ بِاثْنَيْنِ
كذَاكَ تَجْرِيُ مُبَرِّزَيْن
( وشاهد ) مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الجنس أو العموم كقولهم : كل يموت أي كل شاهد ( تعديله ) مبتدأ ثان ( باثنين ) خبره والجملة خبر الأول ( كذاك ) خبر عن قوله ( تجريح ) بالتنوين ( مبرزين ) صفة لمحذوف أي تجريح كائن كذلك باثنين مبرزين ، فالأول على حذف الصفة كقوله تعالى : الآن جئت بالحق } ( البقرة : 71 ) أي البين وإلاَّ فموسى عليه السلام لم يأت إلا بالحق فحذف الناظم مبرزين من الأول لدلالة الثاني عليه أو هو من باب الاحتباك فحذف من كل ما أثبت نظيره في الآخر ، وهذا أولى من جعله صفة لاثنين المذكور لما فيه من الفصل بأجنبي ، وفهم منه أن كلاً من التعديل والتجريح لا يثبت إلا باثنين مبرزين وهو في التعديل مسلم إذ لا يقبل فيه إلا المبرز الفطن الذي لا يخدع في عقله ولا يتزلزل في رأيه معتمداً على طول عشرته من أهل سوق المزكى بالفتح ، ومحلته على المشهور المعمول به والقضاة اليوم يتساهلون ويقبلون التزكية من مطلق العدول ، وما كان ينبغي لهم ذلك وإن كان روي عن مالك أن شهود التزكية كشهود سائر الحقوق ، لكنه غير المشهور ، وأما في التجريح فإن لم يبينوا سببه بل أجملوا وقالوا : هو غير عدل ولا جائز الشهادة ، فكذلك لا يقبل إلا من المبرزين أيضاً العارفين بوجوه التجريح كما لابن رشد ، ونقله ابن عرفة وهو معنى ما لابن عتاب حسبما في ابن سهل ونقله في التبصرة من أن الذي أحاط به العلم وجرى به الحكم أن التبريز لا يشترط في التجريح بالعداوة ، وإنما يطلب التبريز في غيرها من وجوه التجريح اه . ونحوه لابن مغيث في مقنعه قال : لا يكون التعديل والتجريح بأقل من اثنين مبرزين قاله أكثر الأصحاب ، وبه مضت الفتوى عند الشيوخ وتبعهم الشارح وهو ظاهر النظم ، ولكن مرادهم والله أعلم إذا أجملوا كما مرّ عن ابن رشد لأن التوفيق بين كلام الأئمة مطلوب ما أمكن ، وأما إن لم يبينوا السبب فهو وإن كان فيه خلاف في اشتراط التبريز أيضاً ، لكن الراجح عدم اشتراطه كان المقدوح فيه مبرزاً أم لا ، وهو قول مطرف . واختاره اللخمي قال : لأن الجرح مما يكتم ولا يطلع عليه كل الناس وعليه عول ( خ ) في قوله وإن بدونه ، وسيأتي عند قوله وثابت الجرح الخ . أنه يبطل بتجريح عدلين شهادة من يعدله العدد الكثير من المبرزين ، فيقيد إطلاق الناظم بعدم بيان السبب ليكون ماشياً على المعتمد . وقوله :باثنين يعني وليس المزكى بالفتح شاهداً مع المزكي بالكسر على ذلك الحق أو ناقلاً معه فيه ، وإلاَّ فلا يجوز لأن الحق حينئذ ثبت بعدل واحد ، وظاهر قوله باثنين ولو كان المزكى بالفتح قد جرح في القديم والذي في المقدمات أن التزكية في هذا لا تقبل إلا ممن علم بجرحته وشهد بتوبته منها ونزوعه عنها ، ومفهوم قوله باثنين أن تزكية الواحد لا تكفي وهو كذلك على المشهور . وقال مطرف : يجوز تعديل الواحد وهذا كله في تزكية العلانية . وأما تزكية السر فأشار لها بقوله :
والفَحْصُ مِنْ تِلْقاءِ قَاضٍ قُنِعا
فيه بِواحِدٍ في الأمْرَيْنِ مَعا
( والفحص ) مبتدأ أي البحث ( من تلقاء قاض ) أي جهته يتعلق بمحذوف صفة أي الفحص الواقع من جهة القاضي ( قنعا ) بالبناء للمفعول ( فيه ) يتعلق به ( بواحد ) نائب فاعل قنعا ( في الأمرين ) أي التعديل والتجريح يتعلق به أيضاً ( معاً ) حال والجملة خبر المبتدأ والرابط الضمير المجرور بفي ووجه ذلك خروجه من باب الشهادة التي يشترط فيها التعدد إلى باب الخبر الذي لا يشترط فيه ذلك ، وصفته أن يتخذ الحاكم رجلاً من أهل العدل والرضا مجمعاً عليه بذلك فيوليه السؤال عن الشهود سراً أو يبدأ الحاكم بالسؤال عن الشاهد ممن يظن أنه خبير بحاله من جيرانه وأهل سوقه ومحلته .
والحاصل إما أن يتولى السؤال بنفسه أو يولي من يسأل وعلى كل حال لا يكتفى في السائل منهما بسؤال واحد خشية أن تكون بينه وبين الشاهد عداوة ، وإنما يسألان عنه الثقات وأهل الخبرة به وفهم من قوله : قنعا بواحد الخ ، أن الاثنين أولى وهو كذلك بل الذي في المتيطية والوثائق المجموعة أن العمل والقضاء على عدم الاجتزاء بالواحد في تعديل السر وتجريحه وقال اللخمي : لا أرى اليوم أن يجتزأ بأقل من اثنين قولاً واحداً اه ولكن ما اقتصر عليه الناظم هو الذي في ابن الحاجب ومختصر خليل ، ثم من حق الشاهد والمشهود عليه أن يعلما بالمجرح ، فقد تكون بينه وبين أحدهما عداوة أو بينه وبين المشهود له قرابة أو غير ذلك مما يمنع التجريح قاله في المتيطية وغيرها ، قال : واختلف إذا كان الشاهد والمشهود له ممن يتقى شره هل يعلم بالمجرح أم لا ؟ فقال سحنون : يعلم . وقال ابن القاسم : إذا قال الشهود نكره عداوة الناس جاز التجريح سراً . اللخمي : وقول سحنون أحسن لفساد القضاة اليوم اه . وقال ابن رحال : إذا كان هذا في زمن اللخمي فكيف بزمننا ؟ قال : وبه تعلم أن الاكتفاء بالواحد في السر تزكية وتجريحاً وعدم القدح فيه لا يناسب زمننا لأن القاضي ربما يقول : عدل عندي الشهود أو جرحوا ، ولم يكن شيء من ذلك ، فلذلك اعتمد الناس تزكية الظاهر وتجريحه ، وأهملوا ذلك في السر بحسب ماأدركنا عليه القضاة من شيوخنا اه . قلت : وعلى ما قال من إهمال تزكية السر وتجريحه وأنه لا بد من الإعذار فيه أدركنا الأشياخ اليوم حسبما أشرنا إليه في آخر فصل الإعذار والله أعلم .
وَمَنْ يُزَكِّي فَلْيَقُلْ عَدْلٌ رِضَا
وبَعْضُهُمْ يُجِيزَانِ أَوْ يُبَعِّضا
( ومن ) شرط ( يزكي ) فعل الشرط ( فليقل ) جوابه ( عدل ) خبر لمحذوف ( رضا ) خبر ثان والجملة محكية بالقول وما ذكره من الجمع بين اللفظين هو المشهور ، ومذهب المدونة ( خ ) بأن شهد أنه عدل رضا . قال في ضيح : لأن العدالة تشعر بسلامة الدين والرضا يشعر بالسلامة من البله والغفلة ، وكثير من العدول لا يفهم معنى اللفظين فيجب سؤاله عن معناهما إذا ظن به عدم معرفتهما على أنه قد تقدم أن التعديل لا يصح إلا من المبرز العارف بما يصح به التعديل وفهم من قوله عدل رضا أنه لو قال : هو ممن تقبل شهادته أو يقضى بها أو قال نعم العبد أنه لا يكون تزكية ، وقيل إنه تزكية إن كان من أهل العلم ، وظاهر النظم أنه يكتفي بما ذكر سواء أداه بلفظ أشهد أو أعرف أو أعلم أو أراه أو غير ذلك ، وهو كذلك على المذهب وظاهر نص ( خ ) المتقدم أنه لا بد من لفظ أشهد وفي المسألة اضطراب هل لفظ أشهد في أداء الشهادة من حيث هي متعبد به فإذا أديت بغيره ألغيت وعليه اقتصر ناظم العمل حيث قال : لا بد في تأدية من يشهد الخ أولاً فتؤدى به وبغيره مما يؤدي معناه وهو المعتمد كما مر . ( وبعضهم ) مبتدأ خبره قوله ( يجيز أن يبعضا ) بكسر العين المشددة وضميره الشاهد أي أن يبعض الشاهد اللفظين المتقدمين فيكفيه الاقتصار على أحدهما ، ويحتمل قراءته بالبناء للمفعول وضميره يعود على اللفظ الذي تقع به التزكية ، لكن الأول أولى لسلامته من سناد التوجيه والقول بالتبعيض هو المذهب عند ابن زرقون وابن فتوح لأن كلاًّ من اللفظين يستلزم معنى الآخر وعليه درج ناظم العمل حيث قال : وإن يقل رضا مزَك قِبلا . ولابن رشد الاختيار أن يجمع بين اللفظين لقوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء } ( البقرة : 282 ) مع قوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم } ( الطلاق : 2 ) فإن اقتصر على أحدهما أجزأ لأنه تعالى ذكر كل لفظة على حدتها وفصل اللخمي فقال : إن اقتصر على إحدىالكلمتين ولم يسأل عن الأخرى فهو تعديل وإن سئل عنها فوقف فهو ريبة يسئل عن سبب وقفه فقد يذكر ما لا يقدح أو يذكر ما يريب فيوقف عنه اه . وقد تقدم أن العدالة معتبرة في كل زمان بأهله وأن التزكية لا تقبل إلا من المبرز الفطن العارف الكائن من أهل سوق المزكى ومحلته لا من غيرهم لأن توقفهم عن تزكيته ريبة المعروف عند القاضي لا غير معروف إلا لعذر بأن لا يكون في أهل سوقه عدول معروفون عند القاضي أو كان المزكى بالفتح غريباً أو امرأة ، فيصح أن يكون المزكي حينئذ بالكسر مجهولاً عند القاضي ثم يزكيه آخرون معروفون عنده وهو معنى قول من قال :
تعديل احتاج لتعديل هبا
إلا مزكي امرأة أو غربا
ويكتب في ذلك شهوده يعرفون فلاناً معرفة تامة ويعلمونه عدلاً في أحواله رضا في شهادته ولا يعلمونه رجع عن ذلك إلى الآن ، وقيدوا بذلك شهادتهم على عينه في كذا ، فإن سقط قولهم ولا يعلمونه الخ لم يكن تعديلاً إلا إذا كانوا من أهل العلم ، وإن سقط لفظ التعديل أو الرضا ، فهو محل الخلاف المتقدم . وقولنا : على عينه هذا إذا كان غير معروف عند القاضي وهو حاضر البلد أو قريب الغيبة ، وإلاَّ فالمعروف عنده أو بعيد الغيبة لا يحتاج فيها إلى ذلك وأشعر اشتراط التبريز أن تزكية النساء لا تقبل لأن التبريز صفة تختص بالرجال لنقصان مرتبة النساء في الشهادة ، ولذلك لم تجز في نكاح ولا طلاق وجعلت شهادة امرأتين كرجل فلا يزكين الرجال ولا النساء فيما تجوز شهادتهن فيه ولا فيما لا يجوز قاله في المدونة ، ولابن نافع وابن الماجشون جواز تزكيتهن الرجال فيما تجوز فيه شهادتهن ، وأجاز بعض الشيوخ تزكيتهن النساء أيضاً قال : لأن مالكاً أجاز شهادتهن في الأموال والتزكية في الأموال تجر إليه .
قلت : وهذا يتلمح مما تقدم عن مالك من عدم اشتراط التبريز في التعديل وأن شهوده كشهود سائر الحقوق . تنبيه : ابن رشد : لا يلزم الشاهد في التعديل أن يقول هو من أهل العدالة لأن القطع به لا يصح ولو قاله لم يضره ، ولا يكون غموساً لأن معناه في ظني وهذا يجري أيضاً فيما إذا قطعوا في الملك فيقولون ولم يخرج عن ملكه يريد : إذا كان من أهل العلم وإلاَّ فلا تقبل منه مجملة والله أعلم .
وثابِتُ الْجَرحِ مُقَدَّمٌ عَلَى
ثابِت تَعْدِيلٍ إذَا ما اعْتَدَلا
( وثابت الجرح ) بفتح الجيم مبتدأ خبره ( مقدم على . ثابت تعديل ) يتعلق بالخبر المذكور ( إذا ) ظرف يتعلق بالخبر أيضاً ( ما ) زائدة ( اعتدلا ) جملة في محل خفض بإضافة إذا . وألف التثنية فيهيعود على التعديل والتجريح أي إذا تعارضت بينتاهما وتكافأتا في العدالة فتقدم بينة الجرح والتعبير بالتقديم هنا مجاز فيما يظهر لأنهما لو تكافأتا سقطتا ، والأصل في الناس الجرحة ، ومفهوم قوله : إذا ما اعتدلا أنه إذا كانت إحداهما أعدل يعمل عليها ، وهو كذلك إذا قطعت كل منهما بكذب الأخرى كقول المعدلة : بات معتكفاً على الصلاة ليلة كذا ، وقالت المجرحة : بات معتكفاً على شرب الخمر في تلك الليلة وأما إن لم تقطع كل منهما بكذب الأخرى بل أرسلت كل منهما الشهادة بالنسبة للزمان والمكان فليس من التعارض في شيء فتقدم بينة الجرح حينئذ ولو كانت أقل عدالة كما مر عن ( خ ) في قوله بخلاف الجرح وهو المقدم الخ . وعن سحنون لو عدله أربعة وجرحه اثنان والأربعة أعدل لأخذت بشهادة المجرحين لعلمهما من باطن الأمر ما لم يعلمه الآخرون اه . فكلام الناظم إنما هو في التعارض كما قررنا بدليل قوله : إذا ما اعتدلا إذ الاعتدال وعدمه إنما ينظر إليه مع ذلك لا مع عدمه لأنهما إذا أرسلا الشهادة لم يتواردا على زمان واحد فالمعدلة شاهدة بعدم علم الجرحة والمجرحة شاهدة بوجودها منه فكل منهما صادق بحسب الظاهر بمنزلة ما إذا شهدت إحداهما بعدم علم البيع والأخرى بوقوعه والشهادة بالبت لا تعارضها الشهادة على نفي العلم في كل شيء من غير نظر للأعدل من غيره فلا ترد هذه على مفهوم النظم ، ومحل ما ذكرنا من أنه لا تعارض مع إرسالهما للشهادة إذا قرب تاريخ التجريح من تاريخ التعديل وإلاَّ قضي بأحدثهما تاريخاً ويحمل على أنه كان عدلاً ففسق أو فاسقاً فعدل .
والحاصل ؛ أنهما إذا تواردتا على زمن واحد وتكافأتا سقطتا وبقي الشيء على أصله وهو الجرحة وإن كانت إحداهما أعدل فيقضي به وهذا معنى كلام الناظم منطوقاً ومفهوماً وإذا قضينا بالمجرحة إن كانت أعدل وقد جرحته بما فيه أدب أو حد فلا أدب عليه ولا حد وإن لم تتواردا على زمن واحد فلا تعارض ولكن إن قرب تاريخ إحداهما من الأخرى قضى بالمجرحة وإن تباعد ما بين التاريخين قضى بالأحدث تاريخاً إلا أن يكون في وقت تقييداً لمجرح ظاهر العدالة فالمجرحة أولى قاله اللخمي وغيره وهو الموافق لما مرّ عند قوله : وعدل إن أدى على ما عنده . الخ . وقوله : وثابت الجرح الخ يعني بعدلين وأما بعلم القاضي فتقدم في قوله : وفي الشهود يحكم القاضي الخ . وإذا ثبت بعدلين فظاهره اتفقا على سببه أم لا . كقول أحدهما يعمل بالربا ، وقول الآخر يشرب الخمر لأنهما متفقان في المعنى على أنه رجل سوء وقيل لا تجوز حتى يتفقا على الشرب أو الربا ، فإن قال أحدهما خائن والآخر يأكل أموال اليتامى جازت اتفاقاً .
وطالِبُ التجْدِيدِ لِلتَّعْدِيلِ مَعْ
مُضِيِّ مُدَّةٍ فَالأُوْلى يُتَّبَعْ
( وطالب التجديد ) مبتدأ ( للتعديل ) الواقع على مجهول الحال ظهر عليه وسم خير أو شر أولم يظهر عليه واحد منهما وهو يتعلق بالتجديد ( مع ) وجود ( مضي مدة ) ظرف يتعلق بالمبتدأ والتنوين في مدة للتقليل أي إذا شهد المجهول المذكور في قضية وزكى ثم بعد مدة يسيرة دون السنة شهد في قضية أخرى وطلب المشهود عليه ثانياً تجديد تعديله فإنه لا يجاب في قول ابن القاسم إلا أن يشهد بعد سنة من شهادته الأولى لأن السنة تتغير فيها الأحوال وتحدث فيها الأحداث . وقال سحنون : يجاب مطلقاً شهد بعد السنة أو قبلها حتى يكثر تعديله ويشتهر . ابن عرفة : العمل على قول سحنون ، ولذا قال الناظم : ( فالأولى ) بنقل حركة الهمزة للام مبتدأ خبره ( يتبع ) بالبناء للمفعول ونائبه يعود على التجديد ، والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ودخلت الفاء لما في المبتدأ الأول من العموم أي فالأولى والأحسن إجابته لما طلب من التجديد مطلقاً حتى يكثر المعدلون كما قال سحنون فإن عجز عن تعديله قبل السنة أو بعدها لفقد من عدله أولاً وجهل الناس بحاله الآن قبلت شهادته لأن طلب تعديله ثانياً إنما هو استحسان .
ولأخيهِ يشْهَدُ الْمُبَرِّزُ
إلاَّ بما التُّهْمَةُ فيهِ تَبْرُزُ
( ولأخيه ) يتعلق بقوله ( يشهد المبرز ) أي في كل شيء مال أو غيره حيث لم يكن في عياله ( إلا ) استثناء ( بما ) يتعلق بمقدر أي إلا إذا شهد بما ( التهمة ) مبتدأ ( فيه ) يتعلق بالخبر الذي هو قوله : ( تبرز ) . والجملة صلة ما وما ذكره من اشتراط التبريز نحوه في ( خ ) وهو الذي في أوائل المدونة ووقع في أثنائها ما ظاهره عدم اشتراطه وهو ظاهر الرسالة أيضاً ، وبه صدر ابن الحاجب وابن شاس وصرح القلشاني والشيخ زروق بأنه المشهور ، وما ذكره من عدم جوازها له فيما إذا ظهرت التهمة نحوه للخمي ، وصوبه القلشاني وغيره ، بل حكى المازري اتفاق المذهب على رد شهادة الأخ لأخيه مع قوة التهمة كأن يشهد له بما يكتسب به شرفاً أو يدفع به معرة أو تقتضيه الحمية والعصبية مثل أن يشهد لأخيه وهو وضيع القدر أنه تزوج امرأة يتشرف بنكاحها أو أن فلاناً قذفه أو يجرح من جرح أخاه ، وكذلك رأى غيره أنه يتفق على رد شهادته له بالمال الكثير الذي يحصل له به الشرف ولا يجوز له في جراح عمد على المشهور قاله في ضيح والشامل ، وظاهر قول ( خ ) بخلاف أخ لأخ إن برز ولو بتعديل الخ . جوازها بالشرط المذكور مطلقاً قويتالتهمة أم لا بدليل قوله : ولو بتعديل لأنه مما يتشرف به ويدفع به معرة عن نفسه ، ولكن في اختصار المتيطي ما نصه : ولا تجوز شهادته لأخيه في الفرية ولا في نكاح من يتشرف بها بخلاف الدين والتعديل وشبهه إذا كان الأخ الشاهد مبرزاً وليس في عيال المشهود له اه . ثم قال : واختلف فيمن شهد لأخيه بمال فقيل تجوز إن كان مبرزاً ، وأجازها بعضهم في القليل دون الكثير ، ولا تجوز فيما يدركه فيه حمية ولا فيما يكسبه حظوة ، واختلف في شهادته له في جراح العمد الخ ، وقد تبين أن المعتمد هو ما للناظم من اشتراط نفي التهمة ، وأما اشتراط التبريز ففيه قولان . شهد كل منهما وفهم منه أن غير المبرز لا تجوز شهادته مطلقاً قويت التهمة أم لا . وأن غير الأخ تجوز شهادته له بغير شرط التبريز وهو كذلك . قال اللخمي : وشهادة الرجل لابن أخيه ولعمه ولابن عمه بالمال جائزة ما لم يكن الشاهد في نفقة المشهود له ، ولا تجوز فيما يجمعهم فيه الحمية والعصبية ولا فيما يدفع به المعرة أو يكتسب به شرفاً وهم في هذا الوجه كالأخ اه . وأفهم قوله : ما لم يكن الشاهد في نفقة المشهود له الخ ، أن العكس وهو كون المشهود له في نفقة الشاهد يجوز وهو كذلك عند ابن حبيب ، وقال بعض المتأخرين : ينبغي أن لا تجوز له بمال لأنه يدفع بذلك نفقته وإن كانت لا تلزمه لأن ترك النفقة عليه معرة له ، وأما إن كان المشهود له أجنبياً وهو في عيال الشاهد فشهادته له جائزة كما في التبصرة . تنبيه : هذه إحدى المسائل السبع التي يشترط فيها التبريز المذكورة في قول ( خ ) بخلاف أخ لأخ إن برز ولو بتعديل كأجير ومولى وملاطف ومفاوض في غير المفاوضة وزائد وناقص ، وذكر بعد شك وتزكية .
قلت : وفي المعيار عن سيدي مصباح اشتراطه في الشهادة في الحبس فمن قام يدعي حبساً بشهادة غير مبرزين لم يقض له به لما فيه من الاستبعاد ، وتقدم في قول الناظم كذاك تجريح الخ ، أنه يشترط أيضاً في التجريح بغير العداوة ، وفي الباب الثاني من القسم الثاني من التبصرة اشتراطه في الشاهد مع اليمين وفيها في الباب الرابع والأربعين اشتراطه في الشاهد على الخط ، وربما يشعر بهذا قول الناظم فيما يأتي وشاهد برز الخ . . وفي المعيار اشتراطه في شهادة الرجل لزوج حفيدته كما يأتي . وفي الغرناطية اشتراطه أيضاً فيمن أشهد على نفسه بحق وأنه لا يجبر على إشهاد غيرهما زيادة عليهما ، وإن كان ابن رشد أطلق فقال : لا يجبر من أشهد على نفسه بشيء على زيادة الإشهاد بعدلين ، وإن طلب المشهود له ذلك . وقال البرزلي : إن كثر العدل فيهم أجبروا وإلاَّ فلا . وفي شرح العمليات اشتراطه أيضاً في المشهود له على خطه ، وفي الخامس عشر من الفائق اشتراطه في سائر عقود الاسترعاء .
والأبُ لابنِهِ وعَكْسُهُ مُنِعْ
وفي ابنِ زَوْجَةٍ وَعَكْسُ ذَا اتُّبِعْ
( والأب ) مبتدأ على حذف مضاف أي وشهادة الأب ( لابنه ) يتعلق بالمضاف المذكور ( وعكسه ) مبتدأ على حذف مضاف أيضاً أي وشهادة الابن لأبيه كذلك وقوله : ( منع ) بالبناء للمفعول خبر المبتدأ الأول فهو مؤخر من تقديم ، والقياس منعت بتاء التأنيث الساكنة وحذفهالجوازه مع ضمير التأنيث المجازي كقوله : ولا أرض أبقل أبقالها . وظاهره شهد أحدهما للآخر بحق أو بتعديل ، والمراد بالأب ما يشمل الأم ، وإن علت وبالابن ما يشمل البنت وإن سفلت ، وظاهره عدم جوازها ولو شهد لأحد ولديه على الآخر ولأحد أبويه كذلك وهو كذلك ، لكن يشترط ظهور الميل للمشهود له كشهادته للبار على العاق أو للسفيه على الرشيد كما في ( خ ) وتجوز شهادة الولد على أبيه بطلاق أمه إن كانت منكرة ، وكذلك إن كانت هي القائمة بذلك عند ابن القاسم ، ( وفي ابن زوجة ) يشهد لزوج أمه ( وعكس ) وهو شهادتها له أو شهادة الرجل لابن زوجته وإن سفل ( ذا ) مبتدأ والإشارة للمنع المتقدم ( اتبع ) بالبناء للمفعول خبره ، وفي ابن زوجة يتعلق به وعكس بالتنوين معطوف على ابن .
وَوالِديْ زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجةِ أبْ
وحَيْثُما التُّهْمَةُ حالُها غَلَبْ
( ووالدي زوجة ) عطف على ابن أي واتبع هذا المنع أيضاً في والدي زوجة بأن يشهد الرجل لأبي زوجته أو لأمها ، وبالعكس بأن يشهد الرجل لزوج ابنته والمرأة لزوج ابنتها وأحرى شهادة الزوجين للآخر ( أو زوجة أب ) تشهد لربيبها ذكراً كان أو أنثى وإن سفل ، وكذا لا يشهد ربيبها وإن سفل لها ، وأحرى شهادة الرجل لزوج جده وزوج جدته وإن بعد ، أو لزوجة ابن ابنه أو زوج بنت ابنه وإن سفل ، إذ المدار على قوة التهمة كما قال : ( وحيثما التهمة حالها غلب ) وظاهره عدم الجواز ولو كان الشاهد مبرزاً وهو كذلك كما هو ظاهر قول ( خ ) ولا متأكد القرب كأب وإن علا الخ . واختار عياض حسبما في المعيار جواز شهادة المبرز لزوج حفيدته بعد أن قرر في ذلك خلافاً ، وحكى في الشامل ثلاثة أقوال في جوازها لزوجة ابنه أو زوج ابنته . ثالثها : جوازها من المبرز دون غيره لكن المعتمد ما مرّ لأن التهمة حاصلة في الجميع ، والمدار على قوتها كما تقدم وعليه فكل من يحرم نكاحه تمنع الشهادة له قاله ابن رحال ، وحيثما اسم شرط والتهمة مبتدأ وجملة حالها غلب خبره ، ويجوز في التهمة أن يكون فاعلاً بفعل مقدر أي وحيثما غلبت التهمة وحالها مبتدأ وغلب خبره ، والجملة مؤكدة لمعنى ما قبلها وقوله :
كَحالَةِ العَدُوِّ والظَّنين
والْخَصْمِ والوصِيِّ والمَدِينِ
( كحالة العدو ) مثال لبعض ما صدق عليه الشرط قبله لأنه صادق بتهمة القرابة وتهمة العداوة وغيرها ، فلا تقبل شهادة العدو على عدوه ولو على ابنه إن كانت العداوة دنيوية لا دينية كما مر في قوله سوى عداوة الخ وظاهره ولو شهد العدو لعدوه وعليه وهو كذلك إذا كان في مجلس واحد ، فإن كانا في مجلسين صحت الشهادة له لا عليه قاله في التبصرة . ( والظنين ) أيالمتهم في شهادته كالحارص على قبول شهادته المشار إليه بقوله ( خ ) ولا إن حرص على القبول كمخاصمة مشهود عليه مطلقاً أو جربها كشهادته على موروثه المحصن بالزنا أو قتل العمد ليقتل فيرثه أو دفع بها كشهادة بعض العاقلة بفسق شهود القتل وكشهادة الملاطف لملاطفه إن لم يكن مبرزاً أو شهادة البدوي لحضري أو شهادة كل من العدلين لصاحبه للتهمة على اشهد لي وأشهد لك على ما عند اللخمي ، وينبغي اعتماده وإن كان ( خ ) درج على جوازها أو تزكية من شهد لمن لا تجوز شهادته له كأبيه مثلاً المشار إليه بقول ( خ ) ومن امتنعت له لم يزك شاهده ولم يجرح شاهداً عليه الخ . ونحو ذلك مما تكفل به ( خ ) وغيره ( و ) من ذلك شهادة ( الخصم ) على خصمه ( والوصي ) بمال ليتيمه لاتهامه على قبضه وظاهره ولو عزل نفسه وهو كذلك لأنه ليس له ذلك بعد التزامه النظر . اللهم إلا أن يشهد لرشيد ملك نفسه ، فتجوز شهادته له لانتفاء التهمة وما ذكره هو مذهب المدونة وهو المعتمد وروي جوازها وشهره الباجي ، وفي الكافي أنه هو الصواب ، وأما عكسه وهو أن يشهد على يتيمه فجائز إن كان عدلاً وأفهم قوله الوصي إن المشرف تجوز شهادته لليتيم وهو كذلك إذ لا تلحقه تهمة . ( والمدين ) لرب الدين وظاهره كان المدين معسراً أم لا . وقيده ( خ ) بالإعسار فقال عاطفاً على الموانع أو المديان المعسر لربه ، والمراد معسر في نفس الأمر لا أنه ثابت العسر ، وإلا جازت . وظاهره أيضاً عدم الجواز ولو شهد له بغير المال كالقصاص والقذف ، وهو كذلك لأن المديان كما قال مطرف كالأسير في يد رب الدين وظاهره أيضاً كظاهر ( خ ) عدم الجواز سواء حل الدين أو قرب حلوله أم لا . وهو ظاهر اللخمي وابن شاس وابن الحاجب قال ابن رحال في شرحه : وهو الحق لأنه الجاري على ما ذكروه في بيوع الآجال من اعتبار التهمة ، ولو لم يقرب الأجل ، وقيد في الشامل المنع بالحلول أو قربه ونحوه لشراح ( خ ) وأصله لابن رشد والباجي ، وأما شهادة رب الدين للمديان بمال فتمنع كذلك إن كان المدين معسراً وحل الدين أو قرب حلوله ، وإلاَّ جازت كشهادته له بغير المال كقصاص وقذف ، ومن ذلك من دفع مالاً لرجلين ليدفعاه لرجل ، وقال : لا تشهدا على الدفع غيركما ففعلا فشهادتهما ساقطة ولا يضمنان لأنهما مأموران بذلك قاله البرزلي . وأفهم قوله المدين أن عامل القراض تجوز شهادته لربه ، وكذا العكس وسواء كان العامل ملياً أو معدماً شغل المال أم لا ، وهو كذلك على ما صدر به الشامل من أقوال ثلاثة ، ومما أدخلته الكاف شهادة المصلح بين الناس لأنه يتهم على إتمام فعل نفسه ، وكذلك شهادة الخاطب أو السمسار إن تولى العقد كل منهما وإلاَّ جازت ، لكن محل السمسار إن كانت سمسرته معلومة لا تزيد لزيادة ثمن ولا تنقص لنقصه ، وفات الفسخ وإن كان قبل الفوات فلا تجوز لأنه يجر نفعاً بسبب عدم الفسخ ، وأما شهادة الوزان المنصوب من القاضي للوزن بين الناس فجائزة ، فإن لم ينصبه القاضي وشهد بأن وزن ما قبضه فلان كذا لم تقبل وإن شهد بأن فلاناً قبض ما وزنه جازت وإن شهد بهما فالظاهر البطلان لأن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة ردت كلها قاله الأجهوري . وهذا كله فيالتهمة الموجودة وقت الأداء ، أما الحادثة بعده فلا عبرة بها كالرجل يتزوج المرأة بعد أن شهد لها أو يخاصمه بعد أن يشهد عليه .
وَسَاغَ أنْ يَشْهَدَ الابْنُ في مَحَلْ
مَعَ أبِيهِ وبِه جَرَى العَمَلْ
( وساغ ) أي جاز ( أن يشهد ) في موضع رفع فاعل ساغ ( الابن ) وإن سفل فاعل يشهد ( في محل ) يتعلق به وكذا ( مع أبيه ) وإن علا فيثبت الحق بشهادتهما بغير يمين ولا يتهم أحدهما في إرادته إتمام شهادة الآخر ( وبه ) يتعلق بقوله : ( جرى العمل ) وهو قول مطرف وابن الماجشون ، وظاهره اشتراط عدم التبريز وهو كذلك خلافاً لسحنون في اشتراطه ، وما ذكره من العمل المذكور نحوه في المفيد وابن سلمون والتبصرة والقشتالي وغيرهم ، وعليه درج في العمليات حيث قال :
والابن مع أبيه في محل
قد يشهدان مع قول الكل
وبه وقع الحكم من الإمام المذهبي حين اختلف فقيها عصره السراج والحميدي فأفتى الأول بما قال ( خ ) والثاني بما للناظم ، وأفهم قوله : وبه جرى العمل أن هناك قولاً آخر بعدم جواز ذلك ، وأن الحق لا يستقل بشهادتهما بل لا بد من شاهد آخر أو يمين الطالب في الأموال ، وهو قول أصبغ . وفي الوثائق المجموعة والمتيطية والجزيري أنه الذي به العمل وعليه اقتصر ( خ ) فقال : وشهادة ابن مع أب واحدة وعلة ذلك أن الأب لو شهد لابنه لم تجز ، وكذلك عكسه فهما إذا شهدا معاً فكأن أحدهما زكى الآخر ، وكأنه قد شهد بعضهما لبعض فلذلك صارت شهادتهما واحدة قاله في المفيد ، وهذا التعليل يفيد أن مثال الأب مع الابن عند أصبغ صار في باقي القرابة الذين لا تجوز شهادة بعضهم لبعض مما مرّ إذا شهدوا لغيرهم وعليه فهل المقبول من الشاهدين واحد لا بعينه فإذا جرح أحدهما بقيت شهادة الآخر وهو الظاهر من التعليل المذكور ، واستظهره ابن رحال أيضاً أو المقبول هو الذي شهد أولاً ، وهو صريح قول ابن سهل سقطت الأخيرة أي لأنه يتهم على إتمام شهادة الأول وعليه فالأول هو محل الإعذار ، وإذا جرح لم تبق شهادة أصلاً ، وظاهر النظم جوازها وإن لم يكونا مبرزين وهو كذلك خلافاً لسحنون كما مرّ ، وفهم من قوله مع أبيه أن شهادته مع أخيه أو عمه جائزة وهو كذلك كما في ابن عرفة وفهم من قوله مع الخ . إن شهادة أحدهما عند الآخر إذا كان حاكماً أو على شهادته بمعنى أن ينقلأحدهما عن الآخر أو على حكمه إذا عزل أو شهادة أحدهما على خط الآخر لا تجوز ، وهو أحد قولين وعليه اقتصر ( خ ) حيث قال : ككل عند الآخر أو على شهادته أو حكمه الخ . لكن قال ابن ناجي في شرح المدونة : أفتيت بجوازها على خط أبيه اه . وفتواه هذه تؤذن بترجيح القول بالجواز في الجميع إذ لا فرق بين هذه الصور ، نعم شهادة كل منهما عند الآخر يترجح فيها المنع لما فيها من التعديل المتفق على منعه .
وَزَمَنُ الأداءِ لا التَّحْمُّلِ
صَحَّ اعْتبارُهُ لِمُقْتَضٍ جَلِي
( وزمن الأداء ) مبتدأ وهو كما لابن عرفة إعلام الشاهد الحاكم بشهادته بما يحصل له العلم بما شهد به اه . فالمصدر مضاف للفاعل والحاكم مفعوله والمجرور بعده يتعلق بإعلام سد مسد المفعول الثاني والثالث ، وباؤه للتعدية والباء الثانية تتعلق بإعلام وهي للتعدية أيضاً أو سببية وما واقعة على ألفاظ الأداء وهي بدل من شهادته ، ويحصل بالتضعيف صفة لما أو صلة ، وفاعله ضمير يعود على ما والعلم مفعوله والباء الثالثة تتعلق بالعلم ، والمراد به الظن لأنه الذي يحصل للحاكم بسبب الشهادة والضمير في له يعود على الحاكم ، والتقدير أن يعلم الشاهد الحاكم بأنه يشهد بكذا بلفظ يحصل للحاكم العلم بما شهد به ، والأقرب أن المجرور الثاني يتعلق بمحذوف جواب سؤال مقدر ، وكأنه لما قال : إعلام الشاهد الحاكم بشهادته قيل له بأي شيء يكون الإعلام المذكور ؟ فقال : بما أي بلفظ يحصل له العلم الخ قال : وفي النوادر عن أشهب قوله للقاضي هذه شهادتي أداء لها قال : والأظهر أن الإشارة المفهمة في ذلك تكفي وتقدم عند قوله : ومن يزك فليقل الخ . أن الأداء لا يختص بلفظ : أشهد على الراجح ثم إن القاضي لا يقول للشاهد عند الأداء أشهد بكذا لأنه تلقين ، وإذا نسي فلا بأس أن يذكره الآخر لقوله تعالى : إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ( البقرة : 282 ) أي إن تنس إحداهما الخ وإن اتهمهما القاضي بالغلط فلا يفرق بينهما لئلا يرعب الشاهد ويختلط عقله خلافاً لما في المفيد قاله الشارح في الفصل بعد هذا ، ولا يكتفي القاضي في الأداء من العوام بقوله : هذه شهادتك ، فيقول الشاهد : نعم بل حتى ينص شهادته نصاً لا احتمال فيه ولا إجمال ، والمراد بالعامي غير العالم بما تصح به الشهادة ، ولا بد من سؤاله أيضاً عن كيفية علمه ومستنده في تلك الشهادة لأن غير العالم بما تصح به إنما يكتب في الغالب جرياً على المساطير ، وإن لم يكتب فأحرى لأنه حينئذ لا يعرف ما في الرسم والمعتبر في الأداء أن يكون عند القاضي لا عند المبرزين إلا في اللفيف على ما عليه عملهم من استفساره عند المبرز كما مرّ ، وفي البرزلي عن ابن سهل أن شهادةالاسترعاء إذا تأخرت عن وقت تحملها فلا ينقلها إلا من حفظه ، وجرت عادة القضاة اليوم أنه يقرأ الوثيقة ثم يطلب الشاهد بالحفظ . ( لا ) زمن ( التحمل ) معطوف على المبتدأ أي لأنه إذا تحملها كافراً أو صبياً أو عبداً أو فاسقاً ثم أداها عند القاضي وهو بخلاف هذه الصفات أو تحملها عدلاً ثم أداها فاسقاً ( صح اعتباره ) فاعل بصح ، والجملة خبر المبتدأ ( لمقتض ) يتعلق بصح ( جلي ) صفة له أي ظاهر فيعمل بشهادته في الأولى وتلغى في الثانية وذلك لأن روح الشهادة وثمرتها هو أداؤها ، ومتى لم تؤد فهي كالعدم ، فلذا كانت شروط الشهادة كلها ما عدا العقل إنما تشترط حال الأداء لا حال التحمل كما مرّ أول الباب . ابن عرفة : والتحمل تحصيل علم ما شهد به بسبب اختياري وهو مأمور به شرعاً لأنه فرض كفاية إذ لو تركه الناس كلهم لضاعت الحقوق ، وأما كونه كفاية فلأن الغرض يحصل بالبعض فإن لم يوجد من يقوم به غيره كان فرض عين ولو فاسقاً لأنه قد يحسن حاله عند الأداء ، ويجوز أن ينتفع على التحمل بأجرة ونحوها دون الأداء لأنه فرض عين ( خ ) فإن انتفع فجرح وأشعر قوله علم أنه لا يجوز مع غيره من شك أو وهم ، وقد يكون قطعياً ، وقد يكون غلبة ظن كما يأتي في قوله : وغالب الظن الخ . فالمراد بالعلم ما يشمل الظن والاعتقاد وهو العزم على الشيء والتصميم عليه والنية التي هي إرادة الفعل متأخرة عنه لأنه يعزم على أن ينوي قاله ( تت ) في شرح الرسالة وخرج بقوله بسبب اختياري علمه دون اختيار كمن قرع سمعه صوت مطلق فإنه لا يسمى تحملاً ، وإنما يكون فرض كفاية إن كان المشهود فيه أمراً جائزاً أو مندوباً أو واجباً وإلاَّ فيكره في المكروه ويحرم في المحرم ، فإن فعل زاد في الوثيقة والأمر بينهما محمول على ما يصححه الشرع منه أو يبطله ، ومن العلماء من أجازه في المحرم بقصد أن يرد .
قلت : وهو الظاهر لأن عدم تحمله إبطال الحق القائم بفسخه انظر ( ح ) وما مر من جواز الأجرة على التحمل . قال ابن عرفة : به استمر العمل وتكون معلومة بما اتفقا عليه من قليل أو كثير ما لم يكن المكتوب له مضطراً للكاتب لقصر القاضي الكتب عليه أو لكونه لم يجد بذلك الموضع غيره ، فيجب على الكاتب أن لا يطلب فوق حقه فإن فعل فهو جرحة فإن لم يسميا شيئاً فهو عندي كهبة الثواب فإن أعطاه أجرة المثل لزمه وإلا كان مخيراً في قبول ما أعطاه وتمسكه بما كتب له إلا أن يتعلق بذلك حق للمكتوب له فيكون فوتاً ويجبر على أجرة المثل ، وظاهر النظم أن الجرحة الحادثة بعد الأداء لا تضر وهو الموافق لما مر في فصل خطاب القضاة من أنه يجب تاريخ الخطاب بالأداء ليسقط التجريح بما حدث بعده ، ويؤيده أيضاً ما في البرزلي والمعيار أن القاضي إذا كتب أن الرسم ثبت عنده فإنه حكم نفذ فلا تسقط شهادتهم بحدوث عزلهم بجرحة ونحوها ، وهو الموافق أيضاً لما مر من أن القاضي إذا خاطب بالأداء أو بالعدالة فإن من بعده يبني على فعله وما ذاك إلا لكون الخطاب بذلك حكماً ولا يعارض . هذا قول ( خ ) ولا إن حدث فسق بعد الأداء الخ . لإمكان أن يكون هذا فيما لا خطاب فيه ولا حكم بثبوته ، فتأمل ذلك إذ التوفيق بين كلام الأئمة مطلوب ما أمكن بل ظاهر النظم أيضاً أن العبرة بزمن الأداء كان الرسم أصلاً أو استرعاء . وفي الشارح أول الباب أن الأصل يعتبر فيه تاريخ التحمل للشهادة لا تاريخ أدائها قال : ولا عبرة بتاريخ الأداء إلا في مسألة حل الأصل بإثبات العداوة بين الشهود وبين المحكوم عليه الخ . فيستفاد منه أن الجرحة الحادثة بعد تاريخ التحمل إن كانت الشهادة أصليةلا تضر ، وبهذا تعلم أن الواجب في العدول المنتصبين للشهادة إذا قيدوا شهادة أصلية ثم طرأ فسقهم بعد تقييدها وقبل أدائها أو بعده أن لا يسقط الحق المشهود به كما مرّ عند قوله . وحقه إنهاء ما في علمه . الخ وإلا دخل الضرر على أرباب الحقوق لكونهم تحصنوا لحقوقهم عند من أمروا بالتحصين عنده من المنتصبين لتحمل الشهادة والله أعلم .
فصل في مسائل من الشهادات :
ذكر فيه جواز شهادة المختفي والشهادة على الخط والرجوع عن الشهادات والنقص والزيادة ، وحكم إعادة الشهادة بعد كتبها وأدائها وما يتعلق بذلك .
وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بالإقْرَارِ
مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ عَلَى المُخْتَارِ
( ويشهد الشاهد بالإقرار ) يتعلق بمحذوف حال أي ويشهد الشاهد بالحق على المقر معتمداً على إقراره الصادر منه ( من غير إشهاد ) وقوله : ( على المختار ) يتعلق بيشهد وما ذكره هو الذي به العمل كما في المفيد وابن سلمون وغيرهما ، وظاهره كان الحق مالياً أو بدنياً كان الشاهد فقيهاً استفتاه المقر فيما لا ينوي فيه أم لا . كان الشاهد مختفياً بحيث لا يراه المقر أم لا . وهو كذلك في الجميع لكن
بِشَرْطِ أنَّ يَسْتَوْعِبَ الكَلاما
مِع المُقِرِّ البَدْءَ والتَّمَامَا
( بشرط أن يستوعب ) الشاهد ( الكلاما ) مفعول بالفعل قبله ( من المقر ) يتعلق بذلك الفعل أو بمحذوف صفة للكلام ( البدء والتماما ) بدلان من الكلام أي أوله وآخره والألف واللام في الكلام والتمام معاقبة للضمير ، وهذا الشرط يعتمد عليه الشاهد فقط . والوثيقة مقبولة إن لم ينص عليه فيها وكان من أهل العلم فإن لم يكن من أهل العلم فينبغي استفساره ، وإنما اشترطهذا الشرط لأنه إذا لم يستوعب الكلام قد يفوته شيء لو سمعه لم يشهد عليه ، إذ قد يقول له سراً ، ما الذي عليك إن جئت بكذا ، فيقول لك عندي كذا ويسمع الشاهد الجواب فقط ونحو ذلك ، فلا يشهد حتى يحيط بسرهم وجهرهم اه . وبقي شرط آخر وهو أن لا يكون المقر مخدوعاً ولا خائفاً قاله ابن المواز ، وإنما تركه الناظم لأنه شرط في كل شهادة لا في خصوص الشهادة بالإقرار ، ومع ذلك لو أنكر الضعيف الجاهل الإقرار جملة لزمته الشهادة وإنما يصدق مع يمينه إذا قال : إنما أقررت لما ذكر من الخوف والخداع ونحوهما . ومثل الإقرار الذي هو موضوع المصنف الإنشاء كما لو سمع رجلاً يطلق زوجته أو يقذف رجلاً ، وظاهره أيضاً أنه يشهد عليه بما سمع منه ولو قال له قبل ذلك : لا تشهد عليَّ بما تقول وهو كذلك فعن مالك في الرجلين يقولان للعدل لا تشهد علينا بشيء ، فإنا تقاررنا بأشياء من أمرنا لا ندري أيتم ذلك بيننا أم لا . فيتكلمان ثم يعترفان ويسأله أحدهما الشهادة بما سمعه منهما قال : لا أرى أن يعجل بالشهادة فإن أقرا أو جحدا شهد بما سمعه منهما ، ومقابل المختار مروي عن مالك أنه لا يشهد عليه حتى يشهده ، ومفهوم قوله : من غير إشهاد أنه إذا أشهده جازت الشهادة عليه اتفاقاً ، ويكتب الموثق حينئذ أشهد فلان بأن قبله لفلان كذا ليتخلص من الخلاف وهي حينئذ أصلية ولا تضع علامتك فيها إن كان المشهود عليه ممن يظن أنه لم يحط فيما فيها علماً أو أن يكون مخدوعاً حتى تقرأها عليه ، وإن قال لك قبل ذلك ما فيها هو حق أميّاً كان أو قارئاً قاله في التبصرة ، وأما في غير موضوع المصنف فهي استرعائية وتصدر وثيقتها بأقر أو أعترف لدينا أو بحضرتنا ونحو ذلك ، ولا بد فيها من معرفة المشهود عليه أو له أو التعريف بهما أو وصفهما والوصف هو الذي عمل به الموثقون والتعريف ضعيف كما في المعيار والبرزلي ، ثم إذا وصفه لا يحكم عليه حياً كان أو ميتاً حتى يثبت أن تلك الصفات من صفاته ، ولا بد في الاسترعائية من قوله : لدينا أو بحضرتنا كما مرّ ، وإن كان الدين من بيع قالوا : باع منه كذا وكذا بحضرتنا أو بإقراره عندنا بالبيع وقبض المبيع ، فإن سقط من الوثيقة لفظ لدينا أو بحضرتنا أو قبض المبيع في البيع لم تعمل الشهادة حتى يبينوا ذلك فإن تعذر استفسارهم بأن غابوا أو ماتوا سقطت كما تسقط إذا لم يتعرضوا لمعرفة ولا تعريف ولا صفة وتعذر أداؤهم على عينه ولم يكونوا من أهل الضبطوالتحفظ وإلاَّ قبلت ، فإن سئل الشاهد عمن عرفه بالمشهود عليه فلا يعينه ، وسؤاله عنه جهل من القضاة فإن عين شخصه بطلت لأنها صارت كالنقل وان عين جنسه ففي أجوبة ابن رشد أن الشاهد إذا قطع بمعرفة المشهود عليها ثم بعد ذلك قال : إنه لم يعرفها وإنما عينها له حين الإشهاد عليها امرأة وثق بها أن الشهادة عاملة إذا كان هو الذي ابتدأ سؤال المرأة المعرفة لأن ذلك من باب الخبر اه . فيفهم منه أن تعيين الجنس غير مضر فانظره .
وَما بِهِ قَدْ وَقَعَتْ شَهادَهْ
وَطُلِبَ العَودُ فَلا إعادَهْ
( وما ) مبتدأ موصول واقعة على الحق وجملة ( به قد وقعت شهادة ) صلتها والمجرور بالباء يتعلق بوقعت أو شهادة هو الرابط ( وطلب ) بالبناء للمفعول ( العود ) نائبه وأل فيه عوض عن الضمير وهو اسم مصدر بمعنى إعادة ، والجملة معطوفة على الصفة ( فلا ) نافية للجنس ( إعادة ) اسمها والخبر محذوف أي : والحق الذي وقعت شهادة به سواء كتبت وأديت أو كتبت فقط أو أديت فقط وطلب من الشاهد إعادة الشهادة به معتذراً بضياع الرسم وشبه ذلك فلا إعادة جائزة ، وظاهره سواء طلب إعادة الكتابة والأداء معاً أو إعادة الأداء فقط برسمه أو بدونه عند القاضي الأول أو عند غيره وهو كذلك لئلا يتكرر الحق على المطلوب ، وهذا فيما يمكن فيه التكرار كالدين والوصية والكتابة والجراح ونظمها بعضهم فقال :
دين وصية كتابة دما
لا نسخ في رسومها قد علما
على أنه لا مفهوم لهذه الأربع ، بل كذلك الوديعة والقراض المقبوضان بإشهاد ، وكذا البضاعة والقطاعة المقبوضان به أيضاً فضابط المنع كل ما يخشى فيه التكرار ، وأما ما لا يخشى فيه ذلك كرسوم الملكيات المشتملة على التصرف وعدم النزاع ورسوم البيع للأصول ونحوها بالعقد ونحو ذلك فتجوز إعادة كتبه وأدائه لكن في الأداء برضا الشاهد إذ لا يلزمه الأداء مرتين لقولهتعالى : ولا يضار كاتب ولا شهيد } ( البقرة : 282 ) إلا أن يكون في الرسم إجمال أو إبهام فيلزمه تفسيره كما في المعيار وكما لا تعاد الشهادة فيما يخشى فيه التكرار كذلك لا تعطى النسخة من رسمه مسجلة على القاضي ، كما أشار له ناظم العمل :
والحكم بالنسخة مشروط بأن
تقوى العدالة وحال من فطن
لكن رسم الدين والوصية
محتمل التكرار والتدمية
وظاهر النظم أنه إن أعادها لا يقضي بها سواء أعادها جهلاً أم لا كان المشهود له مأموناً أم لا . وهو كذلك خلافاً لابن الماجشون في أنه يقضي بها إن أعادها جهلاً ، ولمطرف في أنها تعاد للمأمون فقط ، وقد سئلت عمن ادعى على شخص بدين من سلف فقال المطلوب : لا حق له قبلي فاستظهر برسم تضمن أنه أسلفه مائة وحازها بالمعاينة ، وأنه كتب له بذلك رسماً ، وزعم الآن ضياعه فأعيدت له الشهادة بذلك ، فأجبت بأن الطالب لا ينتفع بما استظهر به مع فقد أصله لإمكان كون المطلوب مزق الرسم عند أداء ما فيه وسواء ادعى القضاء أو أنكر الدين رأساً كما يقتضيه كلام الكافي وغيره ، وقد قال العقباني وغيره : لا يعمل على النسخة إن كان الأصل مما لا يصح نسخه كالدين والوصية ونحوهما لئلا يتكرر التقاضي وإعادة الشاهد شهادته نسخ لها في الحقيقة ، وقول ابن الماجشون : إن جهلوا وأعادوا قضى بها مقابل للمشهور بدليل ما مرّ عن العقباني ، ويدل أيضاً على كونه مقابلاً قول المشهور يقضي بأخذ المدين الوثيقة أو تقطيعها كما في ( خ ) إذ لو كان رب الدين ينتفع بالإعادة لم يكن لأخذ المدين الوثيقة أو تقطيعها فائدة وما لا فائدة فيه يمتنع القضاء به ، وفي حديث ابن عمر : أرى أن تشق الصحيفة فجعل شقها إبطالاً للحق كما في مسائل ابن الحاج ولو عمل بما لابن الماجشون لم تحصل لغريم أبداً براءة إذ عوائد الناس تمزيق الرسوم عند أداء الديون كما هو مشاهد قديماً وحديثاً ولا يستطيع أن يردهم عن ذلك إلى كتب البراءة حاكم ولا غيره ، وما قيل من أن العمل على كتب البراءة دون التقطيع إنما هو عند التنازع فيما يظهر . أعني : إذا طلب أحدهما التقطيع وطلب الآخر الكتب لا فيما بعد الوقوع مع كون العادة جارية بالتقطيع والله أعلم . ووافقني على ذلك مفتي فاس في حينه شيخي سيدي محمد بن إبراهيم وغيره .
وشاهِدٌ بُرِّزَ خَطَّهُ عَرَفْ
نَسِيَ ما ضَمَّنَهُ فيما سَلَفْ
( وشاهد ) مبتدأ سوغ الابتداء به الوصف بقوله : ( برز ) وبقوله : ( خطه عرف ) وبقوله : ( نسي ما ضمنه ) وفاعل الأفعال الثلاثة ضمير مستتر يعود على الشاهد ، وما واقعة على القصة ، ويجوز أن تكون الجملتان الأخيرتان معطوفتين على جملة برز بحذف العاطف ، ولكن المعطوف علىالوصف وصف فهو راجع للمعنى الأول ( فيما سلف ) يتعلق بما قبله يليه وما الثانية واقعة على الزمان ، يعني أن الشاهد إذا عرف خطه في الوثيقة ، والشكل الذي يكنى به الشاهد عند تسمية نفسه أو في الشكل فقط ونسي القضية التي تضمنتها الوثيقة في الزمان السالف .
لا بُدَّ مِنْ أَدَائِهِ بِذَلِكْ
إلاَّ مع اسْتِرَابَةٍ هُنَالِكَ
( لا بد من أدائه ) عند القاضي ( بذلك ) المعنى الذي تضمنته الوثيقة معتمداً على خطه أو شكله جازماً بذلك غير ذاكر للقاضي أنه نسي القصة . والجملة من لا وخبرها خبر المبتدأ ، ومعنى لا بد لا محالة ولا فرار أي لا تخلص موجود من أدائه ، وإذا أدى فإنه يقضى بها كما هو ظاهره إذ لا فائدة للأداء إلا ذاك ، وظاهره أيضاً أنه يقضي بها ، ولو ذكر للقاضي أنه نسيها وهو كذلك على ما يظهر من التعليل بكثرة النسيان اليوم وهو الظاهر من نظم العمل الآتي ، وهو المروي عن مالك في الموطأ ، فينبغي أن يعتمد وإن كان في الشامل صحح أنه إذا ذكر له أنه نسيها لزمه ردها وعدم القضاء بها ، وعزاه في ضيح لمطرف وابن الماجشون واقتصر عليه ابن سلمون ( إلا ) إن أدى ( مع ) وجود ( استرابة ) من محو أو بشر لم يعتذر عنه ( هنالك ) أي في الرسم ظرف مكان يتعلق باسترابة والسين والتاء زائدتان فإنه لا يقضي بها حينئذ لوجود الريبة زيادة على النسيان ، ويفهم من عدم القضاء بها مع الريبة عدم وجوب أدائها إذ لا فائدة له ، فالاستثناء من مقدر كما ترى ، وما ذكره المصنف هو قول مالك المرجوع عنه ، وبه قال ابن الماجشون ومطرف والمغيرة وابن وهب وابن عبد الحكم وابن دينار وابن أبي حازم ، وصوبه اللخمي وغيره قائلين : لو وكل الناس اليوم إلى الحفظ لما أدى واحد شهادته ولضاعت الحقوق اه ولأنه لو لم يشهد حتى يذكرها لما كان لوضع شكله فائدة وعليه العمل الآن قال ناظمه :
والشاهد العارف خطه ولم
يذكر شهادته أدى للحكم
إن لم يكن محو به أو ريبة
وتنفع الشهادة المطلوبة
ومقابله المرجوع إليه هو مذهب المدونة أنه لا يشهد حتى يستيقن الشهادة ويذكرها ، وعليه اقتصر ( خ ) فقال : لا على خط نفسه حتى يذكرها وأدى بلا نفع أي ذاكراً له أنه نسيها ، وقيل : إن كانت الوثيقة مكتوبة بخطه فليشهد ، وإن لم يكن له إلا مجرد الشكل فلا ، وظاهر المصنف أنهيؤدي سواء كان كل من الوثيقة والشكل بخط يده ، أو لم يكن بخط يده إلا الشكل وحده وهو كذلك كما قررنا ، لكن لا يجب عليه أداؤها في الصورتين إلا إذا تحقق من نفسه أنه لم يكتب خط مسامحة ، وأما لو كان يكتب في بعض الأحيان مسامحة ، ثم راجع نفسه وتاب فلا يؤدي ما يجده بخطه حتى يتحقق أنه بعد تاريخ توبته قاله عياض ، وظاهر النظم أيضاً أنه لا يؤدي مع وجود الريبة من محو ونحوه ولو كان الباقي يستقل ، وليس كذلك بل يؤدي بذلك المستقل ويحكم به القاضي كما مر في قوله : ويثبت القاضي على المحو وما أشبهه الخ . وأفهم قوله برز أن غير المبرز لا يؤديها وإن أداها لا يعمل الحاكم عليها ، وهو كذلك إذا أقر أنه كان نسيها لأنه إذا اشترط التبريز مع التذكر كما مر عن ( خ ) في قوله : وذاكر بعد شك فأحرى أن يشترط مع عدمه ، ولا يقال ما ذكره ( خ ) إنما هو فيما إذا لم تكن الشهادة مكتوبة وما هنا في المكتوبة ، لأنا نقول : لا فرق بين الكتابة وعدمها عنده في الذاكر بعد الشك كما هو ظاهره كما أنهما عنده سواء فيما إذا لم يتذكرها ، وأنها لا تقبل كتب أم لا . لقوله : وأدى بلا نفع فالكتابة لا أثر لها في مثل هذا إذ الخط يمكن الضرب عليه ، بل هو كثير ولا تحصل الثقة بعدم الضرب إلا من المبرز لأنه هو الذي يتحراه ويتفطن للضرب وعدمه ، ولذا لا يرفع على الخطوط إلا المبرز الفطن كما يأتي والله أعلم .
والْحُكْمُ في القاضِي كمْثلِ الشَّاهِدِ
وَقِيلَ بالفرْقِ لِمَعْنًى زَائِدِ
( والحكم ) مبتدأ ( في القاضي ) يتعلق به ( كمثل الشاهد ) خبر ، والمعنى أن القاضي إذا وجد في ديوانه حكماً بخطه وهو لا يذكر القضية فإنه ينفذه ويمضيه حيث لم تكن ريبة كما أن الشاهد كذلك ( وقيل ) مبني للمفعول ( بالفرق ) نائب عن فاعله ( لمعنى ) يتعلق بقيل ( زائد ) صفة لمعنى ومعموله محذوف أي زائد فيه أي في القاضي ، وهو أنه كان قادراً على أن يشهد على حكمه عدلين بخلاف الشاهد ، فقد فعل مقدوره فهو معذور ، وأيضاً فإن القاضي هو المنفذ لما تضمنهخطه ولا يرفع الأمر إلى غيره بخلاف الشاهد فإنه يرفع للقاضي شهادته وينهى إليه ما عنده منها ومع ذلك لا يثبت الحق بشهادته وحده ، بل لا بد من يمين أو شاهد ثان قاله ابن منظور .
تنبيه : اعترض الشارح وغيره كلام الناظم بأن الخلاف المستفاد من كلام ابن المناصف على الوجه المذكور إنما هو في قبول كتب القاضي إلى قاض بمجرد معرفة خطه ، هذا هو الذي حكى فيه الخلاف بين أهل عصره وأهل المذهب كما تقدم في خطاب القضاة ، وأما مسألة القاضي يجد في ديوانه حكماً بخطه فليس عنده إلا عدم جواز التنفيذ قولاً واحداً قال : ولا يتخرج فيه القول بالتنفيذ من الخلاف في الشاهد يتيقن خطه ، ولا يذكر الواقعة لعذر الشاهد في الجملة إذ ذاك مقدوره ، والقاضي كان قادراً على الإشهاد على حكمه اه باختصار . فمسألة القاضي يجد حكماً في ديوانه بخطه دون أن يذكره ليس فيها قول بالتنفيذ دون إشهاد لا نصاً ولا تخريجاً ، وإنما الخلاف في قبول كتاب القاضي بمجرد معرفة خطه كما مرّ وقد أصلحه ( ت ) بقوله :
والحكم في القاضي بعكس الشاهد
فلا ينفذ لمعنى زائد
وخَطُّ عَدْلٍ مَاتَ أَوْ غابَ اكْتُفي
فِيهِ بِعَدْلَيْنِ وفي المالِ اقْتُفِي
( وخط عدل ) مبتدأ ومضاف إليه ( مات ) في موضع الصفة لعدل ( أو غاب ) معطوف على مات ، ومراده غاب ببعد كما صرح به بعد في قوله وفي مسافة القصر الخ . ( اكتفي ) مبني للمفعول خبر المبتدأ ( فيه ) يتعلق به وهو على حذف مضاف ( بعدلين ) نائب فاعل اكتفى أي : اكتفى القاضي في ثبوته بعدلين يشهدان أنهما نظرا إلى الوثيقة أعلاه مثلاً وحروفها أو شكلها المختومة به فتحققا أنها بخط فلان لا يشكان في ذلك ، وأنه مات أو غاب ببلد كذا أو جهل محله وبه قيدا شهادتهما الخ . وهذه الشهادة على الكيفية هي ظاهر النظم وهي معنى قول ( خ ) إن عرفه كالمعين وهي كافية حيث كان ذو الخط معروفاً بالعدالة عند القاضي أو غير معروف ، وعدله عنده غيرالشاهد بخطه فإن لم يعدله أحد ألغيت شهادته . والحاصل أن من لم يعرف عدالة ذي الخط لا يشهد إلا بمعرفة خطه خاصة ، ثم إن احتاج القاضي فيه إلى تعديل عدل وإلاَّ فلا ، وليس من تمام التعريف التعرض للتعديل كما هو ظاهر ابن سلمون والفائق وغيرهما لأن التعديل مما يستند فيه القاضي إلى علمه فإن أراد الشاهد بالخط تعديل صاحبه لمعرفته بحاله زاد بعد قوله : لا يشك في ذلك ما نصه : وإنه كان حين إيقاعه لها ووضعها فيه من أهل العدالة وقبول الشهادة ، واستمر على ذلك في علمه إلى أن مات أو إلى أن غاب ، وكذا إن عدله غير الشاهد بخطه . وهذا معنى قول ( خ ) وتحملها عدلاً أي ووضعها في حال العدالة ، وإنما اشترط هذا لئلا يكون وضعها وهو فاسق ولو كان حياً لم يؤدها ، وإنما اشترط الاستمرار على العدالة لئلا يكون قد طرأت جرحته ، ففي اختصار المتيطية قال مالك : لا تجوز الشهادة على خط الشاهد ومعرفة عدالته حتى يقول الشاهد بخطه : إنه كان في تاريخ الشهادة عدلاً ولم يزل على ذلك حتى توفي احتياطاً من أن تكون شهادته سقطت لوجه ما ونقله ( ح ) وغيره اه .
وقوله : ولم يزل على ذلك الخ . ظاهر كلام غير واحد كصاحب الشامل وشراح المختصر والمتيطي في باب الحبس وابن سلمون وابن عرفة أنه شرط صحة . وقال ابن رحال في شرحه : لعله شرط كمال فقط لأن العدالة إذا ثبتت فالأصل بقاؤها ، ويدل لذلك قوله احتياطاً لأن الاحتياط يدل على عدم الوجوب اه . وفيه نظر ، فإن الرفع بمنزلة أداء الشاهد المرفوع على خطه ، وهو إذا طرأ عليه فسق قبل الأداء كان جرحة فيه فلا بد حينئذ من قولهم واستمر على ذلك في علمهم حتى مات الخ . ولأن الشاهد لا يعمل بشهادته حتى يذكر اقتفاء علمه بالمبطل لها كما مرّ في خطاب القضاة . وظاهر قوله : ولم يزل على ذلك الخ . أنه يسوقها مساق القطع ، وليس ذلك بل على العلم فقط كما مرّ ، وهل لا بد أن يشهد الشاهد بالخط أو غيره أن المشهود على خطه كان يعرف من أشهده معرفة عين لئلا يكون قد شهد على من لا يعرف ، ولا سيما وقد غلب تساهل الناس في وضع شهادتهم على من لا يعرفون . وهذا قول ابن زرب وصحح ودرج عليه ( خ ) في قوله : وإنه كان يعرف مشهده أو لا يشترط ذلك وهو ظاهر النظم وكلام المتقدمين . ابن رشد : وهو الصواب وبه العمل لأن ذا الخط يحمل على أنه لم يضعها إلا عن معرفة وإلا كان شاهداً بزور والغرض أنه عدل ، وهذا إذا كانت الوثيقة المشهود على خطها خالية من المعرفة والتعريف والوصف ، وإلاَّ فلا يشترط ذلك اتفاقاً ، وظاهر النظم أنه لا يشترط إدراك صاحب الخط وهو كذلك على ما به العمل ، ونقله في المعيار عن اللخمي وغيره قالوا : ولو تكرر عليه خطه وعلمه بالتواتر حتى لا يشك فيه صح أن يشهد أنه خطه لأنه إذا تكرر وطال حصل العلم به كما نقطع بخطوط قوم ماتوا ، وما أدركناهم الخ . وفي نوازل البيوع ما نصه : إذا كان الشاهد معروفاً بالشهادة في ذلك البلد وتكررت منه في الوثائق جاز لمن عنده العلم بها أن يحييها ، وإن لم يعاصره اه . وعليه عول ناظم العمل حيث قال :ورفع عدلين على خطوط من
عاصر أو سواه من أهل الزمن
وقيل : لا يرفع على خطه إلا من رآه يكتب علامته على الرسوم في تلك الوثيقة أو غيرها . وقول الناظم : خط أي سالم من الريبة كمحو وكشط ونحوهما بدليل قوله : إلا مع استرابة الخ . لأنه إذا اشترط في خط نفسه فأحرى في غيره ، وقوله : عدل أي منتصب للشهادة لأن الغالب إطلاقه عليه ، وإلاَّ فلا يرفع على خطه ، ولو كان مشهوراً بالعدالة لأن العادة أن الناس إنما يتوثقون في الرسوم من المبرزين المنتصبين لا من غيرهم . قاله العبدوسي وعليه عول ناظم العمل حيث قال :
وارفع على العدول خط العادة
إذ غيرهم لا يكتب الشهادة
وأما غير العدول وهو الفاسق فلا معنى للرفع عليه . وقوله : عدلين أي : فطنين عارفين بالخطوط ممارسين لها فحذف الصفة في هذا وفي الذين قبله فلا يقبل الرفع من مطلق العدول ، وظاهر قوله : اكتفى فيه بعدلين أن القاضي لا يكتفي بمعرفته ، بل لا بد من الرفع ، وإلا كان قاضياً بعلمه وهو كذلك على ما مرَّ في خطاب القضاة ولا ينافي هذا ما مرّ في أول التقرير من أن القاضي إذا عرف عدالة الغائب أو الميت فيعمل عليها لأن ذلك بعد التعريف له بالخط وظاهر النظم أنه لا يمين على المشهود له لضعف الشهادة وهو كذلك ، لكن لا يقضي له إلا بعد الاستثناء والتثبت كما في التبصرة لضعف الشهادة ، وأما يمينا القضاء والاستحقاق فلا بد منهما . ومفهوم قوله عدلين أن الرفع بالواحد لا يكفي وهو المنصوص ، وجرى العمل بالاكتفاء بالواحد ولو تعدد الخط دون يمين قاله في الفائق ، وبه أفتى المجاصي وغيره قيل وهو مما لا يساعده نص ولا تجريح . وعن الشيخ برذلة أن الاكتفاء بالواحد من باب الخبر قال : هكذا تلقيت ذلك من شيخنا ابن سودة وغيره ونحوه . نقله بعض عن فتوى الشيخ ( م ) قائلاً أنه بمنزلة المقوم والقاسم والمخبر بالعيب فكما يرجع لأهل الصنائع في صنعتهم كذلك يرجع لأهل الخط في الإخبار بأن هذا خط فلان اه . وانظر ما يأتي عند قوله وواحد لجزئي في باب الخبر وما في ( ت ) من أن الاكتفاء بالواحد هو قول أشهب كما في التبصرة تحريف وقع في نسخته ، والذي في النسخ المخلطة باللام والله أعلم . وفهم من قوله : مات أو غاب الخ . أن الحاضر لا يرفع على خطه وكذلك الغائب غيبة قريبة على أقل من مسافة القصر ، لأن امتناع الشاهد من أداء شهادته مع حضوره أو قرب موضعه ريبة فيها قاله في ضيح .
تنبيهات الأول : ما تقدم عن ( خ ) والمتيطي وغيرهما من أنه لا بد أن يقول الشاهد أنه وضعها في حال العدالة ولم يزل على ذلك إلى موته الخ . هو المنقول المنصوص لغير واحد كالإمام وغيره كما رأيته ، وذكر ناظم العمل أن العمل جرى بعدم اشتراطه فقال :
وشاع في الرفع الشهادة على
موت برسم ما عليه عولا
إلى قوله :
فإننا نعرف خطهم ولا
نعرف من أحوالهم ما جهلا
ونقل كلام ابن سودة فقال : علم حال الشاهد وقت شهادته من عدالة وجرحة والاستمرار على ذلك من المتعذر ، فإنا نشهد على خط من قبلنا ولا ندري هل كان عدلاً حين الشهادة ، وهلاستمر على ذلك أم لا اه ؟ قال ابن رحال في شرح المختصر : وفي هذا العمل نظر ، ثم قال وقوله : لم يزل على ذلك الخ . لعله شرط كمال إلى آخر ما مرّ . وقوله : فيه نظر أي لكونه مخالفاً للمنصوص والعمل لا بد له من موافقة قول .
الثاني : لا بد للرافع على الخط من تسمية نفسه ووضع علامته ليتمكن الخصم من الإعذار فيه كما تقدم .
الثالث : لا يجوز الرفع إلا على الخطوط المعروفة التي لا يقدر على الضرب عليها قاله في المعيار ونحوه لابن عرضون قائلاً : إذا كانت العلامة يمكن الضرب عليها من الفجار لعدم قوة تشكيلها ، فلا يجوز لحاكم أن يقبل الرفع عليها لأن الشك يتطرق إليها وحيث يتطرق سقط الحكم اه بالمعنى .
الرابع : لا بد أن يكون الخط المرفوع عليه حاضراً لأن الخط عين قائمة فلا بد من الشهادة على عينه عند القاضي قاله ابن عبد السلام وغيره . وعليه نبهنا بقولنا في الوثيقة نظراً إلى الوثيقة أعلاه الخ لأنها إذا لم تكن حاضرة كانت هي المسألة المعبر عنها بمعاينة الرسوم وهي لا تفيد خلافاً لأبي الحسن في قوله : لا يشترط الحضور .
الخامس : إذا تعارضت الشهادتان في أنه خطه وغير خطه فالمثبتة أولى من النافية قاله ابن زيتون .
السادس : إذا لم يضع ذا والخط علامته فلا يرفع عليه لأنه ربما كتب ولم يتم الأمر قاله البرزلي عن الطرر .
قلت : وتأمله مع ما يقع كثيراً من عدول فاس يقيدون الحقوق حتى يتفرغون لكتابتها ، ثم يطرأ موت قبل الكتابة .
ولما كانت الخطوط تتشابه قال بعضهم : لا تجوز على الخط في شيء من الأشياء لأنه قد يحصل غلط للعقل بذلك ، وعزاه الباجي للمشهور ، وقيل : إن الغلط نادر ، وعليه فهل تجوز فيما يجوز فيه الشاهد واليمين فقط أو فيه وفي الأحباس القديمة وإلى الثاني أشار بقوله : ( وفي المال ) يتعلق بقوله : ( اقتفي ) بالبناء للمفعول ونائبه يعود على الاكتفاء المفهوم من اكتفي ، والجملة مستأنفة أي وأتبع الاكتفاء بعدلين في المال وما يؤول إليه فقط .
والْحَبْسُ إنْ يَقْدُمْ وقِيلَ يُعْتَمَلْ
في كلِّ شَيْءٍ وَبِهِ جَرَى الْعَمَلْ
( و ) قيل : يكتفي بهما في ذلك وفي ( الحبس أن يقدم ) شرط حذف جوابه للدلالة عليه ، والواو هنا بمعنى أو لتنويع الخلاف كما قال ابن الهندي ، وبجوازها في الأموال والأحباس جرى العمل قال : ويلزم من أجازها في الأحباس أن يجيزها في غيرها لأن الحقوق عند الله سواء وكما قال ابن حارث : العمل بجوازها ولا أرى أحداً فرق بين الأحباس وغيرها ونحوه في أحكام ابن سهل عن مولى ابن الطلاع وهو معنى قوله : ( وقيل يعتمل ) مبني للمفعول ونائبالثاني يعود على الاكتفاء أي يعتمل الاكتفاء بها ( في كل شيء ) ولو حداً أو طلاقاً أو نكاحاً ( وبه ) يتعلق بقوله : ( جرى العمل ) بقرطبة زمن ابن حارث ، واستمر إلى زمن الناظم وزماننا .
كَذَاكَ في الْغَيْبَةِ مُطْلَقاً وَفي
مَسَافَةِ الْقَصْرِ أُجِيزَ فَاعْرِفِ
( كذاك ) خبر لمبتدأ محذوف أي العمل الآن به كذلك ( في الغيبة ) يتعلق بالاستقرار ( مطلقاً ) حال أي كان المشهود به مالاً أو غيره ، وأعاد هذا مع استفادته من قوله : أو غاب الخ لإفادة شرطها الذي هو مسافة القصر فأكثر كما قال : ( وفي مسافة القصر ) يتعلق بقوله ( أجيز ) ونائبه يعود على الاكتفاء المذكور ، ويجوز أن يكون النائب في اقتفى ويعتمل وأجيز ضميراً يعود على الشهادة المضافة لعدلين في التقدير لأن المعنى اكتفى فيه بشهادة عدلين على خطه على حد قوله : ولا أرض أبقل إبقالها .
( فاعرف ) أمر حذف مفعوله أي فاعرف ذلك وهو تتميم وما ذكره من التحديد بمسافة القصر هو قول ابن الماجشون . ابن منظور : وبه العمل عن ابن عبد السلام ، والأحسن قول سحنون عدم التحديد إلا بما تنال الشاهد فيه مشقة والقاضي يعلم ذلك عند نزوله قال : وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة يتنزل منزلة البعد وإن كان ما بين العملين قريباً لأن حال الشاهد يعلم في بلده وعند قاضيه لا في غير ذلك وفيه مع ذلك ضعف فإن الذي يشهد على خطه كالناقل عنه ، فلا بد أن يعدله أو يكون معلوماً عند القاضي .وكَاتبٌ بِخَطِّهِ ما شاءَهُ
وماتَ بَعْدُ أَوْ أبى إمْضاءَهُ
( وكاتب ) مبتدأ سوغ الابتداء به عمله في قوله : ( بخطه ) وقوله : ( ما شاءه ) مفعول لكاتب وجملة شاءه صلة ما وهي واقعة على حقوق الغير من ديون وأمانات وطلاق ونحوها . والجملة في قوله : ( ومات بعد ) معطوفة على كاتب أي بعد أن كتب ما ذكر مات وأنكر ذلك وارثه ( أو ) لم يمت وأنكر هو أن يكون خطه و ( أبى إمضاءه ) مفعول بقوله أبى ، والجملة معطوفة على كاتب أو على مات .
يُثْبَتُ خَطّهُ ويَمْضِي ما اقْتَضى
دُونَ يَمِينٍ وبِذَا اليَوْمَ القَضَا
( يثبت ) بضم أوله وفتح ثالثه مبني للمفعول ( خطه ) نائب والجملة خبر ( ويمضي ) بالبناء للمفعول ونائبه قوله ( ما ) وهي موصولة صلتها ( اقتضى ) والعائد محذوف أي يمضي الحق الذي اقتضاه خطه ، ويجوز بناؤه للفاعل أي يمضي القاضي المفهوم من السياق ما اقتضاه خطه ( دون يمين ) على الطالب . والظرف يتعلق بيمضي ( وبذا ) خبر والإشارة للحكم المذكور في قوله : يمضي دون يمين ( اليوم ) يتعلق بالمبتدأ الذي هو ( القضا ) ء لأنه المشهور ( خ ) وجازت على خط مقر بلا يمين اه . وقيل : لا بد من اليمين وهما روايتان ومنشؤهما هل ينزل الشاهدان على خطه منزلة الشاهدين على الإقرار أو منزلة الشاهد فقط لضعف الشهادة على الخط فلا يمين على الأول ، ولو قام بالخط شاهد واحد فهل يحلف الطالب معه ويستحق أو تبطل شهادته ؟ روايتان أيضاً مبنيتان على الاحتياج مع الشاهدين إلى اليمين فلا تقبل أولاً فتقبل مع اليمين . وفي التبصرة عن صاحب الطرر أن الصواب عدم الحكم بها اه . ولابن رشد لم يختلف قول مالك في قبول شهادة الشاهد الواحد على الخط مع اليمين ونحوه لابن يونس ، فهذا أقوى مما في الطرر انظر شرحنا على الشامل ، وظاهر ما به العمل في المسألة التي قبل هذه أنه يثبت خطه هنا بغير يمين أيضاً ، وظاهر النظم أنه يقضي بالشهادة على الخط ، ولو كان بالغبارى أو غيره كالمعبر عنه برسمالزمان ، ولو لم يضع علامته عليه وهو كذلك كما في المعيار وفي الشامل ، ولو كتب ذكر حر على نفسه بخطه ولم يكتب شهادته أي علامته فهو إقرار فإن كتبها يعني الشهادة أي العلامة بأقوى أي فهو أقوى في الإقرار اه . فإن كانت الوثيقة مكتوبة بخط غيره والعلامة مكتوبة بخطه ، فالظاهر أنه ليس بإقرار ، ولو كتب الحق على أبيه وأقر أن شهادته فيه ، وزعم أنه كتبها بغير حق أو أنكرها فشهد عليه فقيل يؤخذ بالحق لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه ، واختاره ابن حبيب وقيل : لا يؤخذ بالحق إلا بإقرار وبغير خطه وبشهادته . ابن رشد : وهو أقيس قاله في ضيح ومفهوم قوله يثبت خطه أنه إذا لم يثبت أنه لم يقض عليه بشيء وهل يجبر حينئذ المطلوب على الكتابة ويطول عليه فيها بحيث لا يمكنه استعمال غير خطه لتقابله بالخط الذي عند الطالب ، أو لا يجبر ؟ قولان للخمي وعبد الحميد ، واستظهر ابن عرفة الثاني ورجح بعض الشيوخ الأول كما في التبصرة .
تنبيه : ما مرّ من جوازها في الطلاق محله كما لابن رشد إذا كتب الزوج بخطه أنه طلق زوجته وأرسل ذلك إليها أو إلى رجل يعلمها بذلك ، فيحكم لها حينئذ بطلاقه إذا شهد على خطه عدلان ، وأما إن لم يخرج الكتاب من يده فلا يحكم لها به إلا أن يقرّ أنه كتبه مجمعاً على الطلاق أي أو ينص فيه على أنه أنفذه كما قال في نوازله أيضاً في مسألة العتق ونصه : وأما إن كان دفعه أي الكتاب إلى العبد أو كان قد نص فيه على أنه أنفذه على نفسه فالشهادة على خطه يعني في حياته أو بعد موته عاملة كالشهادة على خطه بالإقرار بالمال قال : وفي قبول قوله إنه كتبه غير مجمع على الطلاق بعد إنكاره كتبه خلاف اه . ويفهم منه أنه إذا كتب الطلاق بخطه ولم يخرجه من يده أنه إذا مات ترثه ولو كان انقضت عدتها على تاريخ الكتاب ، وإنما يبقى النظر فيما إذا أشهد بطلاقها وكتبه بعدلين ولم يعلمها بذلك حتى مات ، ووجد الكتاب والطلاق بائن أو خرجت من العدة وهي معه في المصر أو بحيث يمكنه إعلامها ، والذي في حفظي أنها ترثه مع جهل محل النص الذي وقعت عليه بإرثها إياه في الوقت ، وكثيراً ما يفعله بعض الفجار فراراً من أن ترثه والله أعلم .
وامْتَنَعَ النّقْصَانُ والزِّيادَهْ
إلاَّ لِمَنْ بَرَّزَ في الشَّهادَهْ
( وامتنع النقصان ) فاعل على حذف مضاف أي قبول النقصان ( والزيادة ) معطوف عليه ( إلا ) استثناء ( لمن ) موصولة واللام بمعنى من كقوله :
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
والمستثنى منه محذوف أي من كل أحد إلا ممن ( برز ) بفتح الراء وتشديدها صلة من ( في الشهادة ) يتعلق به كأن يشهد بعشرة لزيد على عمرو أو بربع في دار ثم بعد أدائه شهد بأنها خمسةأو خمسة عشر أو بأن له النصف أو الثمن في الدار فإنها تقبل منه ويعمل على ما أدى به ثانياً إن ادعى نسيان ذلك أو لا . وظاهره كان ذلك قبل الحكم أو بعده طابقت شهادته دعوى المدعي أم لا . وهو كذلك في الزيادة فإن المدعي يحلف معه على طبق دعواه فقط ، والزائد يسقط لأن المدعي لا يدعيه فيحمل على أنه قبضه ولا يفيده رجوعه عن الدعوى إلى شهادة الشاهد ومحل القضاء له بما يدعيه إذا لم يكذب الشاهد في الزيادة فإن كذبه فلا شيء له لأنه قد جرحه كمن شهد له بشيء فصدقه في البعض وكذبه في البعض الآخر ، وأما في نقصان شهادته عن الدعوى فلا يخلو إما أن يكون قبل الحكم فيحلف على طبق الشهادة فقط ويسقط ما بقي مما ادعاه وإن كان بعد الحكم فلا يسقط شيء ويغرم الشاهد النقص لأنه من الرجوع بعد الحكم إن لم يتعذر ، وهذا فيما إذا زاد أو نقص بعد الأداء وإلاَّ فيعمل على ما أدى به كان مبرزاً أم لا . ومفهوم في النقصان والزيادة أن تفسير المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق يقبل من الشاهد مطلقاً وهو كذلك قاله في هبات المعيار ونحوه لابن ناجي عند قولها في التخيير والتمليك ، وإن قالت : اخترت نفسي سئلت عن نيتها الخ . قال : أقام شيخنا حفظه الله من قولها سئلت أن الشاهد إذا شهد شهادة مجملة فإنه يفسرها ولا يكون زيادة فيها ووقع الحكم بذلك عندنا بالقيروان اه . وسئلت عن نازلة من هذا المعنى وهي أن رجلاً حبس على أولاده الصغار جميع البستان في محل كذا ، وأشهد بذلك ثم مات فقام من نازع الصغار ، وأثبت أن المحبس كان يأكل غلته من تمر وزرع وغيرهما ، واستمر على ذلك ولم ينتقل عنه إلى أن سافر السفر الذي مات فيه بقربه ومستند علمهم في ذلك المخالطة التامة والمعاينة الخ ثم قالوا في الاستفسار بعد الأداء أنهم عرفوا ذلك بالمخالطة وإقرار المحبس فأفتى من يعتد به من فقهاء سجلماسة ببطلان الحبس لأجل ما ثبت من أكله الغلة المذكورة ، وأن زيادة الإقرار في الاستفسار بيان لما أجمله في المخالطة فلا تضره ، وأيضاً فإن المضر هو زيادة العدد كما في الشراح . فأجبت عن ذلك بما نصه : الحمد لله من تأمل الشهادة بأكل المحبس غلة حبسه مع استفسارها علم أنها ناقصة عن درجة الاعتبار لأن لفظ المخالطة والمعاينة المؤدى به أولاً ليس من قبيل المجمل كلفظ غريم لرب الدين والمدين حتى يقبل من الشاهد في الاستفسار قصره على بعض محتملاته ولا من العام كمن الشرطية والموصولة حتى يقبل من الشاهد قصره على بعض أفراده ولا من المطلق الدال على مطلق الماهية كنحو دابة ودار حتى يقبل من الشاهد تقييده ببعض خواصه ، بل هو نص في معناه الخاص الذي لا يقبل أن يفسر بغيره فذكرهم الإقرار في الاستفسار زيادة على اللفظ المؤدى به قطعاً إذ المخالطة المعاملة والمعاينة المشاهدة بحاسة البصر إذ هو مفاعلة من عاين الشيء يعاينه إذا رآه ببصره فلا يطلقواحد منهما على الآخر ، ومما تمجه الأسماع والطباع ويرد على قائله بلا نزاع قول القائل خالطه بإقراره لديه ، فالمخالطة لا تدل على الإقرار لا بالمطابقة ولا بالتضمن والالتزام ، فالإقرار حينئذ من الزيادة التي لا تقبل إلا من المبرز وأين هو اليوم هذا لو تمحضت الزيادة ، كيف والشاهد أسند علمه أولاً إلى المخالطة والمعاينة وثانياً إلى المخالطة والإقرار ، وأسقط المعاينة فقد اشتملت شهادته أولاً وثانياً على الزيادة والنقصان معاً ، فإسقاطه معاينة بعد أدائه بها رجوع عنها إلى غيرها ، وذلك لا يقبل من مبرز ولا من غيره وليست الزيادة في كلام الأئمة خاصة بزيادة العدد ، بل فرضهم ذلك في العدد إنما هو على جهة المثال ، وإلا فالزيادة كل معنى لا يصح أن يتناوله اللفظ الأول بشيء من الدلالات المذكورة ، وفي المعيار عن العبدوسي الاستفسار سؤال الشاهد عن شهادته التي أداها فإن أتى بشهادته نصاً أو معنى وإن اختلف اللفظ صحت وإلاَّ بطلت . وفيه أيضاً من جواب لمؤلفه فيمن شهد بعمرى وأدى بها ، ولم يذكر قبول المعمر بالفتح ثم بعد الأداء ذكر أنه كان قد قبل ما نص الغرض منه إذا نص الشاهد شهادته ثانياً على نقص أو زيادة لم تتضمن شيئاً منه شهادته الأولى سواء قال : إن الزيادة والنقص من شهادته الأولى كان لنسيان أو غفلة ، ولو سئلت عنه لأثبته وإنما سكت عنه لأني اعتقدت أن السكوت عنه غير قادح أو ظننت أن الزيادة ثانياً لا يحتاج إليها أولاً وإن ذكرها ثانياً لا يذكر بالبطلان على شهادتي أولاً . فالحكم في ذلك كله قبوله من المبرز دون غيره وشهادته أولاً وثانياً ساقطة اه .
وراجِعٌ عنْها قَبُولُهُ اعتُبِرْ
ما الحكْمُ لَمْ يَمْضِ وإنْ لَمْ يَعْتَذِرْ
( وراجع ) مبتدأ سوغ الابتداء به عمله في ( عنها ) أي عن شهادته ( قبوله ) مبتدأ ثان وضميره للرجوع المفهوم من راجع ( اعتبر ) بالبناء للمفعول خبر الثاني وهو مع خبره خبر عن الأول ( ما ) ظرفية تتعلق باعتبر ( الحكم ) مبتدأ ( لم يمض ) خبره أي قبول رجوعه معتبر مدة كون الحكم لم يقع هذا إذا اعتذر عن رجوعه بأن قال : اشتبه علي مثلاً وظننته أنه المشهود عليه بل ( وإن لم يعتذر ) فتسقط شهادته وتصير كالعدم ولا يلزمه غرم اتفاقاً ، وإنما الخلاف في أدبه وقبول شهادته في المستقبل ، ففي المتيطية إن كان مأموناً وأتى بشبهة قبل وإلاَّ فلا . قال : ولا يؤدب عند أشهبوسحنون مخافة أن لا يرجع أحد وبه العمل . وقال ابن القاسم : يؤدب ومحله ما لم يكن الرجوع عن زنا ، وإلاَّ فيحد ، وظاهره أنه يعتبر رجوعه قبل الحكم ولو بعد الأداء وهو كذلك إن رجع عند القاضي الذي أدى عنده اتفاقاً فإن رجع عند غيره من العدول أو عند غير قاضيه فقولان بالقبول . ابن ناجي : وبه العمل وبعدمه أفتى الغبريني ، وصدر به ابن سلمون قال الحميدي : وبه العمل عندنا ، وبه أفتى سيدي إبراهيم الجلالي ، وظاهر هذا أنه إذا رجع عند غير قاضيه لا يعمل برجوعه ولو مات فظهر بهذا قوة هذا القول دون ما تقدم عن ابن ناجي ، واقتصر عليه ناظم العمل المطلق .
قلت : وموضوع هذا الخلاف أن الراجع مقرّ برجوعه أو لم يعلم ما عنده لغيبته أو موته وإلاَّ فلا يعمل برجوعه لأن الرجوع شهادة ، والشاهد عليه ناقل ، ويشترط في النقل أن لا يكذبه الأصل وإن كان قد علل ذلك سيدي إبراهيم الجلالي بأن تصديقهما ليس بأولى من تصديقه ، ولكن التعليل بما مر أولى . وفي التبصرة لو لقي الشاهد المشهود عليه فقال له : ما شهدت به عليك باطل أو لا شهادة لي عليك فلا يضره ذلك ، وإن كانت له عليه بينة إلا أن يرجع عن شهادته رجوعاً بيناً ويقف عليه ولا ينكره فإن قال له عند الحاكم أو عند إرادة نقلها عنه فذلك إبطال لها اه . ونحوه لابن سلمون وابن عرفة . قلت : وتأمله مع مالك وشراحه عند قوله : ومكن مدع رجوعاً من بينة كيمين إن أتى بلطخ ، واختلف إذا أدى شهادته ثم رجع إلى القاضي وقال له : نالني من أجل شهادتي أذى ، وبالله الذي لا إله إلا هو ما شهدت إلا بحق لكني قد رجعت عنها فلا تقض بها . فقيل : ليس قوله ذلك برجوع لأن الرجوع أن يكذب نفسه أو يقول : دخلني شك . وقال ابن زرب : إنه رجوع . قاله في المعيار ، وليس من الرجوع من أدى شهادته ثم بعد طول لقي المشهود عليه فقال : ما شهدت عليك بشيء وكتبه له ناسياً لما أدى به أولاً قاله السجستاني في نوازله ، ثم أشار إلى مفهوم قوله : ما الحكم لم يمض الخ . فقال :
وإنْ مَضَى الْحكْمُ فَلا واخْتُلِفَا
في غُرْمِهِ لِمَا بِهَا قَدْ أُتْلِفا
( وإن ) شرط ( مضى الحكم ) فاعل أي وقع ( فلا ) جواب الشرط أي فلا يقبل رجوعه بعد وقوع الحكم بل ينفذ ويمضي وتبطل شهادته الأخيرة التي رجع إليها ( و ) إذا أبطلت فقد ( اختلفا ) بالبناء للمفعول ( في غرمه ) بفتح الغين وضمها يتعلق باختلف ( لما ) يتعلق بغرم ( بها ) أي الشهادة يتعلق بقوله : ( قد أتلفا ) بالبناء للفاعل أو المفعول صلة ما فقال ابن الماجشون : لا غرامة لأنهما لو غرما حيث لم يتعمدا الزور لتورع الناس عن الشهادة مع كثرة الاحتياج إليها ، وبه قال المغيرة وابن أبي حازم وقال مالك وابن القاسم : إذا رجعا بعد الحكم ، وقيل الاستيفاء كما إذا حكم بغرم المال أو القصاص وقبل استيفائهما رجع ، فإن الحاكم لا ينقض ويستوفي المال والدم ويغرمان الدية والمال للمحكوم عليه لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء ووافقهما أشهب وغيره في استيفاء المال دون الدم لحرمته ورجع إليه ابن القاسم أيضاً قال ابن رحال في شرحه : وهو الذي يظهر رجحانه من كلامهم ولا أقول بغيره ، وعلى الأول اقتصر ( خ ) فقال :لا رجوعهم وغرما مالاً ودية ولو تعمدا الزور فإن المال يستوفى ولا يقتص منهما وإنما عليهما الدية فقط في أموالهما ، وأما إن رجعا بعد الحكم والاستيفاء فليس إلا غرم المال والدية وإن لم يثبت عمدهما فإن ثبت فالدية عند ابن القاسم أيضاً والقصاص عند أشهب ، فقول الناظم : وإن مضى الحكم الخ ، صادق بالصورتين وشمل أيضاً ما إذا تبرأ الشهود من الشهادة بعد الحكم بها وادّعوا عدم أدائها ، وإن الإشكال مستعملة عليهم وجوروا القاضي فإنه لا يلتفت إليهم كما مرّ في المعيار وغيره ، وتقدم عن التبصرة أن فيه قولين وبعدم النقض قال ابن القاسم لأن ذلك رجوع . وانظر هل يجري فيهم الخلاف بالغرامة وعدمها أو لا لأنهم لم يقروا بالشهادة الموجبة للغرامة ، وشمل أيضاً ما إذا ثبت الرسم عند القاضي وأشهد أنه ثبت عنده وأنه حكم بإمضائه وإعماله ثم طرأت جرحة من عزل أو رجوع أو نحوهما . فالظاهر أنه حكم نفذ فلا تسقط الشهادة لأنه حكم بإنفاذه قاصداً لهذا الوجه قاله البرزلي . وقد تحصل أن الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فيه قولان في الدم ، وأما المال فيستوفى اتفاقاً من ابن القاسم وأشهب ، وأما بعد الحكم والاستيفاء فقولان في الدم بالقصاص وعدمه مع العمد ، وكذا في المال بالغرامة وعدمها كعدم التعمد في الدم ومحل الخلاف في استيفاء الدم ما لم يثبت كذبهم كحياة من قتل أوجبه قبل الزنا ومحله أيضاً إذا ادعى الوهم والتشبيه فإن اعترف بالزور فهو قوله :
وشاهِدُ الزُّورِ اتِّفاقاً يَغْرِمُهْ
في كلّ حالٍ والعِقابُ يَلْزَمُهْ
( وشاهد الزور ) مبتدأ وهو كما لابن عرفة الشاهد بغير ما يعلم عمداً ولو طابق الواقع روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) ثلاث مرات . ويدل للحديث الكريم قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ( الحج : 30 ) الآية وهو مأخوذ من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك مأخوذ من الإفك وهو الصرف ، فإن الكذب محرف مصروف عن الواقع قاله البيضاوي . ( اتفاقاً ) أي من ابن الماجشون وغيره وهو حال من الغرم المدلول عليه بالخبر الذي هو ( يغرمه ) فالضمير المستتر يعود على الشاهد والبارز يعود على ما الواقعة على الشيء المتلف بفتح اللام في البيت قبله أي يغرم ما أتلفه حال كون غرمه متفقاً عليه في المذهب ( في كل حال ) أي كان المشهود به مالاً أو دماً عند ابن القاسم كما مر عن ( خ ) في قوله : ولو تعمد الخ . وقال أشهب : يقتص منه في العمد وهو أقرب لأنهم قتلوا نفساً بغير شبهة ، والجار يتعلق بقوله يغرمه فإن علم الحاكم بزورهم أو بقادح فيهم أو علم مقيم البينة بكذبهما فالقصاص عليهما أو على من علم منهما . وفهم من قوله : لما بها الخ أنه إذا رجع أحدهما أو أقر بالزور غرم نصف الحق فقط لأنه لم يتلف بها إلاَّ ذاك ، فإن حكم بشهادته مع يمين الطالب فقال ابن القاسم وابن وهب : يغرم المال كله وهو المعتمد ، وإن كان مبنياً على ضعيف منأن اليمين استظهار لا كالشاهد . وقال ابن الماجشون : عليه نصف الحق لأن اليمين كالشاهد وهو معنى قول ( خ ) وإن رجع أحدهما غرم نصف الحق كرجل مع نساء إلى قوله : وعن بعضه غرم نصف البعض وإن رجع من يستقل الحكم بعدمه فلا غرم ، فإذا رجع غيره فالجميع ( والعقاب ) مبتدأ خبره ( يلزمه ) فيطاف به في المجالس ويضرب ويسجن ( خ ) وعزر شاهد بزور في الملأ بنداء ولا يحلق رأسه أو لحيته ولا يسخمه ثم في قبوله تردد الخ . وبعدم القبول وإن تاب قال مالك والمتيطي : وبه العمل اه . فلا تصح ولاية القاضي إن قبل شهادته أو قبل شهادة الفاسق ونحوه لغير عذر ، وليس من العذر خوفه من العزل إن لم يقبله كما لابن عرفة وغيره ، والقاضي إذا ثبت عليه الجور أو أقرّ به أقبح من شاهد الزور فلا تجوز ولايته أبداً ولا شهادته وإن صلحت حاله وعليه العقوبة الموجعة قاله ابن عتاب وغيره .
فصل
في ( أنواع ) أي أقسام ( الشهادات ) باعتبار ما توجبه وهي المذكورة في الفصول الآتية .
ثُمَّ الشَّهادَةُ لَدىالأداءِ
جُمْلُتها خَمْسٌ بالاسْتِقْراءِ
( ثم ) للترتيب الإخباري ( الشهادة ) مبتدأ ( لدى الأداء ) يتعلق بمحذوف صفة أي الحاصلة عند الأداء أما قبله فهي كالعدم ( جملتها ) مبتدأ ثان أي جملة أقسامها ( خمس ) خبر والجملة خبر الأول ( بالاستقراء ) يتعلق بجملتها أي جملتها بطريق الاستقراء أي التتبع خمس ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف خاص حال أي جملة أقسامها حال كونها منحصرة بالاستقراء خمس لا زائد عليها ، وتبع في هذا التقسيم الجزيري في وثائقه وهو باعتبار ما توجبه كما مرّ ، ولابن شاس ومن تبعه تقسيم آخر باعتبار ما يكفي في المشهود فيه وسموه مراتب ، فالزنا مثلاً يكفي فيه أربعة ، وما ليس بمال ولا آيل إليه يكفي فيه عدلان وهكذا وكلا الاعتبارين له وجه .
تَخْتَصُّ أُولاَهَا عَلَى التَّعْيِينِ
أنْ تُوجِبَ الحقَّ بِلاَ يَمِينِ( تختص أولاها ) تأنيث أول فاعل تختص والضمير المضاف إليه يعود على خمس ، والجملة بدل مفصل من مجمل ( على التعيين ) أي مع تعيينها للأولية لكونها توجب الحق بمجردها فاستحقت التقديم ، لذلك قال عوض عن الضمير وعلى بمعنى مع كقوله تعالى : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } ( الرعد : 6 ) وهي حال من أولاها أي تختص أولاها حال كونها مصاحبة لتعيينها للأولية ( أن ) أي بأن يتعلق بقوله تختص ( توجب ) بكسر الجيم ( الحق ) مفعول ( بلا يمين ) يتعلق بتوجب ، والمراد بغير يمين تقوي الشهادة وتعضدها فهو على حذف الصفة فلا ينافي أنها قد تجب معها يمين القضاء حيث تكون الشهادة على ميت أو غائب أو ما في معناه من صغير أو سفيه أو مساكين أو بيت مال أو يمين الاستحقاق في غير العقار أو فيه على ما به العمل لأنها في الأولى لرد دعوى مقدرة ، وفي الثانية لرد دعوى محققة إن كان المستحق من يده حاضراً وادعى خروجه عن ملك المستحق كما في ابن سلمون لأن الشهود إنما يقولونه ولا يعلمونه خرج عن ملكه ولا يلزم من نفي علمهم بالخروج عدم الخروج ، وإن كان غائباً أو لم يحقق دعوى الخروج بأن جوزه فقط رجعت للقسم الأول لأنها حينئذ في مقابلة فرض دعوى صيرورة الشيء المستحق لمن ملك المستحق منه ذلك .
والحاصل أنها فيهما لمجرد رفع الاحتمال ففي الأول لرفع احتمال القضاء والإحالة ونحوهما ، وفي الثاني لرفع احتمال الخروج حيث غاب أو حضر ولم يحقق دعواه لا أنها مقوية للشهادة راجعة لليمين مع الشاهد كما للشيخ ( م ) في شرح اللامية فإن صدقه في عدم الخروج فلا يمين ثم الشهادة التي توجب الحق بلا يمين تحتها ستة أنواع أشار لأولها بالفاء جواباً لشرط مقدر أي إن أردت معرفة ما يوجب الحق بلا يمين .
فَفِي الزِّنَا مِنَ الذِّكُورِ أُرْبَعَهْ
وما عَدا الزِّنا فَفِي اثْنَيْنِ سَعَهْ
( ففي الزنا ) خبر مقدم أي ففي الشهادة برؤيته ( من الذكور ) حال من ضمير الاستقرار ( أربعة ) مبتدأ ولا بد من كونهم عدولاً واللواط مثله ، وإنما اشترط فيهما أربعة لقصد الستر ودفع عار الزاني والمزني بها وأهلها اللخمي . وهذا إن شهدوا بالزنا طوعاً وإن شهدوا به على الإكراه فكذلك على حد الرجل في الإكراه وإلاَّ كفى في ذلك رجلان لما تستحقه المرأة من المهر على الواطىء أو على مكرهه اه . وقوله : وإلا كفى في ذلك رجلان يريد أو أحدهما مع اليمين لأن ذلك يؤول إلى المال ثم إن كيفية الشهادة أن يأتي الأربعة مجتمعين يشهدون أنهم رأوا فرجه فيفرجها أو غيب حشفته فيها في وقت واحد وموضع واحد وصفة واحدة فإن تمت هكذا حدّا سواء كانا بكرين أو ثيبين رأوه دفعة واحدة أو واحداً بعد واحد في لحظات متصلة لأن ذلك اتحاد عرفاً وليس من تمام الشهادة زيادة قولهم كالمرود في المكحلة ، بل هو تأكيد فقط كما قاله ابن مرزوق وهو ظاهر قول ( خ ) وللزنا واللواط أربعة بوقت ورؤية اتحدا وفرقوا فقط أنه أدخل فرجه في فرجها ولكل النظر للعورة الخ . وقيل : لا بد منها وبه قرره شراحه ثم لا يلزم من اجتماعهم عند الإتيان اجتماعهم عند الأداء لأنهم عند الأداء يفرقون فإن أتوا مفترقين أو اختلف وقت الرؤية أو موضعه كأن يقول بعضهم زنى بها في غرفة ويقول الآخرون في بيت أو صفته كأن يقول أحدهم كانت مستلقية والآخرون متكئة أو بعضهم زنيا طائعين والآخرون مكرهين أو أحدهما بطلت وحد الشهود دون المشهود عليهما . أبو عمران : يسئل شهود الزنا والسرقة فإن أبوا أن يبينوا هذه الوجوه سقطت شهادتهم وإن غابوا قبل السؤال حكم بشهادتهم ، وقيل : إن كانوا من أهل العلم بما يوجب الحد وإلاَّ فلا اه . والأول هو الذي درج عليه ( خ ) حيث قال : وندب سؤالهم كالسرقة ما هي وكيف أخذت الخ . والثاني هو المعتمد كما يأتي عند قوله : وغالب الظن الخ .
ولثانيها بقوله : ( وما ) مبتدأ ( عدا ) خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة أي والحقوق التي هي غير ( الزنا ففي ) عدلين ( اثنين ) خبر عن قوله ( سعه ) أي توسعة في ثبوت الحق بهما ، والجملة خبر الموصول ولعمومه دخلت الفاء في خبره ، وقوله : اثنين أي من الذكور بدليل البيتين بعده وأشعر قوله ففي اثنين الخ أن البائع بالدين مثلاً إذا طلب الإشهاد بأكثر وأبى المشهود عليه من الزيادة عليهما أن البائع لا يجاب وهو ما لابن رشد . وقال البرزلي : الصواب أن يجاب إذا كثر فيهم العزل لجرحة أو مطلقاً وشمل المصنف سائر الحقوق مالية أو بدنية على تفصيل في أفرادها إذ منها ما لا يثبت إلا بعدلين ، ومنها ما يكفي فيه الواحد والمرأتان أو أحدهما مع اليمين ، وما يكفي فيه امرأتان . وهكذا كما يأتي فمن الأول العتق والإسلام والردة والنكاح والطلاق والرجعة والنسب والتعديل والتجريح والكتابة والتدبير ونقل الشهادة فيما ليس بمال ، ومنه إثبات العدم وإسقاط الحضانة وكذا الحبس والوصية لغير معينين والإيصاء كما في ابن ناجي أول أقضية المدونة ، وليس منها الموت باعتبار الإرث كما يأتي في الفصل بعده ومن جعله منها فإنما يعني باعتبار اعتداد زوجته وعتق مدبره ، ومنها العدة أي الخلوة الموجبة لها أو باعتبار ابتدائها في الموت ، وأما في الطلاق فهي مصدقة في انقضائها ، وأما دعواه هو الانقضاء في الرجعى لتسقط عنه النفقة فيكفي الشاهد واليمين فيما يظهر قاله ابن رحال ، وكذا البلوغ باعتبار إقامة الحد عليهلا باعتبار الإسهام له في الغنيمة فيكفي فيه الشاهد واليمين ، وتأمل قول ( خ ) في الحجر وصدق إن لم يرب الخ . وكذا الولاء باعتبار المال يكفي فيه الواحد واليمين ( خ ) وإن شهد واحد بالولاء أو اثنان أنهما لم يزالا يسمعان أنه مولاه أو وارثه لم يثبت ، لكنه يحلف ويأخذ المال الخ . وكذا الوكالة في غير النكاح ونحوه إن لم يتعلق بها حق للوكيل ، فإن تعلق ككون الوكيل له دين على الموكل الغائب أو كانت بأجرة ونحو ذلك فتثبت بالشاهد واليمين كالشركة والآجال لأن الشركة مال والآجال آيل إليه وكلاهما يثبت باليمين والشاهد ، وأما الوكالة في النكاح ونحوه مما ليس بمال فلا تثبت إلا بشاهدين فإن ادعى أنها وكلت وزوجها وكيلها منه وأقام شاهدين على النكاح وواحداً بالوكالة حلفت أنها ما وكلت ولا رضيت بصنعه إن كانت بموضع لا يخفى عليها فيه الأمر غالباً . وإدخال الحبس والوصية على غير معنيين في هذا القسم صحيح بالنسبة للشاهد واليمين لتعذرها من غير المعينين لا بالنسبة للشاهد والمرأتين فيثبتان بهما كما في ابن عرفة .
ولثالثها بقوله :
ورَجُلٌ بامْرَأَتَيْنِ يَعْتَضِدْ
في ما يَرْجِعُ لِلْمَالِ اعْتُمِدْ
( ورجل ) أي عدل مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بما ذكر وبالجملة في قوله : ( بامرأتين ) عدلتين يتعلق ب ( يعتضد ) بفتح الياء وكسر الضاد مبني للفاعل ( في كل ما ) أي حق ( يرجع ) بفتح الياء مبني للفاعل صفة لما ( للمال ) يتعلق به والمجرور بفي يتعلق بقوله ( اعتمد ) مبني للمفعول خبر المبتدأ ، وظاهره وليس بمال كالوكالة إن تعلق بها حق للوكيل كما مرّ أو لمن عامل الوكيل ببيع ونحوه ، ونقل الشهادة عمن شهد بمال كما في ( خ ) حيث قال عاطفاً على الحائز ، ونقل امرأتين مع رجل في باب شهادتهن الخ . والأجل في الثمن أو الصداق يدعيه المشتري أو الزوج ويخالفهما البائع أو المرأة سواء اختلفا في أصله أو قدره أو انقضائه لا الأجل في العتق والكتابة ، فالقول للعبد في قدره وانقضائه للتشوف للحرية ، وأما إن حلف بالطلاق أو الحرية ليقضين فلاناً حقه إلى أجل كذا أو ليدخلن الدار إلى أجل كذا ، فزعمت المرأة أو العبد أنه قد انقضى ولم يفعل وأقاما بذلك شاهداً وامرأتين ، وزعم الحالف أنه لم ينقض فلا يقضى عليه بالحنث لأن هذا من القسم الأول . نعم يحلف لرد الشهادة ، وكذا لو أثبتت المرأة الطلاق والعبد العتق ، وأعذر للزوج وللسيد وأنكر الأجل في ذلك فلا يثبت عليهما إلا بشاهدين وهذا ونحوه مراد من قال : إنالأجل بحسب المؤجل فيه ففي الطلاق والعتق والعفو لا يثبت إلا بشاهدين وكالخيار والشفعة ونحو ذلك مما ليس بمال ، ولكن يرجع إليه ومما يرجع للمال إذا شهد رجل وامرأتان على نكاح بعد موت الزوج أو الزوجة أو على ميت أن فلاناً أعتقه أو على نسب أن هذا ابنه أو أخوه ، ولم يكن له وارث ثابت النسب صحت الشهادة على قول ابن القاسم ، وكان له الميراث ولم تجز على قول أشهب لأنه قال : لا يستحق الميراث إلا بعد إثبات الأصل بشهادة رجلين فإن ثبت ذلك ثم شهد واحد أنه لا يعلم له وارثاً سوى هذا جازت واستحق المال قاله اللخمي ، واختصره ( ق ) بإسقاط التفصيل بين كونه له وارث أم لا . فأوهم كلامه خلاف المراد وما ذكره في الشاهد والمرأتين يجري في الشاهد واليمين كما يأتي في الفصل بعده ، وفهم من قوله : يرجع للمال جوازها فيه ولو قارنه ما ليس بمال ولا آيل إليه كشهادة رجل وامرأتين على رجل بطلاق زوجته وتصييره داره في صداقها شهادة واحدة فتصح في التصيير دون الطلاق على المشهور من أن الشهادة إذا ردّ بعضها للتهمة رد كلها ، وإن ردّ بعضها للسنة جاز منها ما أجازته السنة دون غيره ، وقد ذكر في التبصرة في الباب الخامس والأربعين أمثلة وفهم منه أيضاً جوازها في نفس المال بالأحرى كعشرة من سلف أو بيع ونحوهما ومثل ما في النظم عكسه وهو الشهادة بالمال ، ولكن يؤول لغيره كشهادة من ذكر للأمة بأنها أدت نجوم الكتابة أو بأن ابنها أو زوجها قد اشتراها من سيدها فتؤدي إلى العتق في الأولين وإلى الفراق في الثالث ، وفهم من قوله بامرأتين أن الواحدة لا تكفي ولا بد من اليمين حينئذ . وقوله : بامرأتين أي فأكثر ولو كن مائة لتنزلهن منزلة العدل الواحد كما يأتي في الفصل بعده .
ولرابعها وهو شهادة امرأتين بقوله :
وفي اثْنَتَيْنِ حَيْثُ لا يَطَّلِعُ
إلاَّ النِّساءُ كالمَحِيضِ مَقْنَعُ
( وفي ) امرأتين ( اثنتين ) خبر عن قوله : مقنع وفي بمعنى الباء ( حيث ) ظرف مكان متعلق بالاستقرار في الخبر ( لا يطلع ) بالبناء للفاعل ( إلا النساء ) فاعله ، والجملة في محل جر بإضافة حيث ( كالمحيض ) خبر لمحذوف وهو من إطلاق المفعول على مصدره كما هو أيضاً في قوله : ( مقنع ) أي قناعة كائنة بامرأتين في المحل الذي لا يطلع على المشهود به أحد غالباً إلا النساء ، وذلك كالحيض والرضاع والاستهلال والولادة والحمل وإرخاء الستر وعيوب الفرج ، فإن كان العيب في غير الفرج مما هو عورة ففي نفي الثوب عن محله لينظره الرجال أو يكتفي بالمرأتين ؟ قولان . واقتصر الباجي على الأول وهو ظاهر النظم فيفيد أنه المعتمد ، وأفهم قوله : بامرأتين أن الواحدة لا تكفي وهو كذلك إذ الواحدة لا تجوز شهادتها في شيء كما في المدونة إلا في الخلطة على القول باشتراطها في توجه اليمين ، وظاهره لا تكفي الواحدة ولو أرسلها القاضي لتنظر العيب ونحوه وهو كذلك ، وظاهره ، بل صريحه أنه لا يمين معهما تيقن القائم بهما صدقهماكالبكارة والثيوبة أم لا ، كالحيض والولادة ، وقيل : تلزم اليمين مع التيقن لأنها تحقق الدعوى بكذبه وهو المعتمد كما تتوجه عليه إذا قامت شهادتهما بأنه أرخى الستر عليهما ، وأنكر هو ذلك فتحلف وتستحق الصداق وظاهر قوله : حيث لا يطلع الخ أن المولود إذا مات ودفن تجوزشهادتهما بذكوريته أو أنوثيته إذ لا يطلع على ذلك غالباً إلا النساء ويورث ويرث بالجهة التي شهدتا بها وهو كذلك على قول ابن القاسم ، لكن مع يمين ، وقيل : لا تجوز لأنه يصير نسباً قبل أن يصير مالاً ويورث على أنه أنثى إلا أن يكون لا يبقى أو أن أخر دفنه إلى شهود الرجال قاله أشهب وسحنون وأصبغ . ورواه ابن القاسم أيضاً . وقال أصبغ أيضاً : إن فات بالدين والطول حتى تغير ذكره ، فإن كان فضل المال يرجع إلى بيت المال أو إلى رجل بعيد جازت كما قال ابن القاسم ، وإن كان يرجع إلى بعض الورثة دون بعض أخذت بقول أشهب .
وسبب الخلاف أنها شهادة بغير مال لكنها ترجع إلى المال فهل هي كالمال نفسه أم لا ؟ فهذا حينئذ من إفراد قوله ثانية توجب حقاً مع القسم في المال الخ . وظاهر ما مر جوازها في الولادة ولو كانت تؤول إلى العتق كما إذا قال الرجل لأمته : أول ولد تلدينه فهو حر فتلد توأمين فشهد امرأتان على أولهما خروجاً أو شهدتا بولادة أمة أنكر السيد ولادتها وقد كان أقرّ بوطئها بعدلين فيعتق أول التوأمين كما في المنتخب وتصير الأمة أم ولد كما في المدونة ثم ما مرّ من جوازها في الاستهلال محله إذا لم يقطع بكذبهما لعدم تمام خلقته ، وكذا إذا شهدتا بظهور الحمل ، وأنه من شهرين أو من أقل من ثلاثة أشهر أو بتحركه وأنه من أقل من أربعة أشهر وعشر لا يشكان في ذلك فإن الأمة لا ترد لبائعها بشهادتهما لأن الحمل لا يظهر ظهوراً بيناً من غير تحرك أو مع تحرك في أقل مما ذكر والموجب لسقوطها جزمهما بأنه أقل مما ذكر إذ ذاك مما لا يمكن القطع به فقولهما لا يشكان في ذلك أو تحققناه كذباً وزوراً فإن قالتا في ظننا ونحوه أو لم تتعرضا لمدته صحت ونظر ، فإن كانت مكثت عند المشتري ثلاثة فأكثر في الظهور أو أربعة وعشراً في التحرك لم ترد لإمكان حدوثه وإلاَّ ردت ولا ينتظر وضعها ، فإن أنفش بعد ردها فلا ترد للمشتري إذ لعلها أسقطته فإن تعارضت شهادة النساء في الحمل وما معه فالمثبتة أولى من النافية إلا أن تقوى النافية قوة بينة فيما يظهر .
ولخامسها بقوله :
وواحِدٌ يُجْزِىءُ فِي بابِ الْخَبَرْ
وَاثْنانِ أَوْلَى عِنْدَ كلِّ ذي نَظَرْ
( وواحد ) مبتدأ سوغه الوصف أي واحد عدل أو شخص واحد ، وظاهره ولو أنثى وهو كذلك فيما تجوز فيه شهادة النساء كما إذا لم يجد من يترجم له مثلاً من الرجال غيرها في المال وما يؤول إليه أو فيما لا يظهر للرجال ( يجزىء ) خبر ( في باب الخبر ) يتعلق به ، وتقديره شخص أولى ليشمل الرجل والمرأة كما مرّ وإدخال هذا النوع في أقسام الشهادة من حيث إنه يوجب الحق بغير يمين وإلاَّ فليس منها ( واثنان ) مبتدأ سوغه ما مر ( أولى ) خبر ( عند كل ذي نظر ) يتعلق بهوالخبر ما شأنه أن يشارك المخبر به غيره كذا قيل وفيه نظر فإن الشهادة كذلك لأن الخبر أعم . قال في جمع الجوامع : الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية أي الخبر وخلافه الشهادة ، وقال ابن بشير : الفرق الذي بين الخبر والشهادة أن ما خص المشهود عليه فبابه باب الشهادة وكل ما عم ولزم القائل منه ما يلزم المقول له فبابه باب الخبر اه . والمقصود منه هنا ما اجتمعت فيه الشائبتان لأن الكلام فيما فيه النزع لا في غيره كنجاسة الماء والأعمال بالنيات ، والظاهر أن ما اجتمع فيه ما ذكر محصور بالعد لا بالحد . قال في الذخيرة : المتردد بين الشهادة والخبر سبع : القائف والترجمان والكاشف عن البنيان وقائس الجرح ، والناظر في العيوب كالبيطار والطبيب والمستنكه للسكران ، إذا أمر الحاكم بذلك ، وأما الشهادة على الشرب فلا بد من اثنين كالتقويم للسلع والعيوب والرقبة والصيد في الحج . واختلف في الحكمين فقيل : اثنان وقيل واحد لأنه حاكم اه . بنقل ( تت ) قال : وأضفت إلى ذلك المزكي على أحد القولين وكاتب القاضي والمحلف .
قلت : وذكر القرافي أول الفروق من قواعده أن من ذلك المفتي والمترجم عن الخطوط والقاسم والخارص ، وكذا المخبر بنجاسة الماء وبرؤية هلال رمضان ، وفي الباب الرابع عشر من التبصرة جملة وافرة من ذلك ، ولما اجتمعت في هذه الأمور ونحوها شائبتا الخبر والشهادة كانت مترددة بينهما كما مرّ عن الذخيرة ، فالقائف والترجمان مثلاً من حيث إن في قوليهما إلزاماً لمعين صارا كالشاهد ، ومن حيث إنهما منتصبان انتصاباً عاماً لجميع الناس صارا كالراوي المخبر ، وأيضاً فإنهما أشبها الحاكم من حيث إنه وجههما لذلك ، وهكذا يقال في الخارص والقاسم وغيرهما من كل ما لا يباشره القاضي بنفسه ، ولما كانت شبهة الشهادة أقوى في جل الأفراد أو كلها لأن الشاهد يشاركهم في الانتصاب المذكور ، وإن لم يشاركهم في غيره كان الاثنان أولى كما قال الناظم : وبقوة الشبهة وضعفها اختلف الترجيح في هذه الأفراد فالمخبر عن النجاسة أشبه الشاهد في كونه أخبر عن وقوع نجس معين في ماء معين . ولما كانت حرمة استعماله لا تختص بمعين كان خبراً محضاً وكفى فيه الواحد قطعاً ، ولما كان هلال رمضان فيه إلزام الصوم لمعينين موجودين في هذا الشهر دون الماضي والآتي من الشهور ترجح فيه جانب الشهادة فلا يكفي فيه غير عدلين على المشهور وهكذا . وفي المعيار عن أبي محمد أن القرى بالبوادي إذا كانت عادتهم التنيير عند رؤية الهلال فمن أصبح صائماً لذلك التنيير فصيامه صحيح قياساً على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم بأن الهلال قد رؤي اه .
وظاهر النظم أن الواحد المذكور لا بد فيه من العدالة لذكره له في سياق من تشترط فيه ، وهو كذلك ما لم تتعذر في ناظر العيب والطبيب ونحوهما ( خ ) وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين فإن قصر ووجد لذلك من لا نعرف عدالته مع وجود العدل لم يجز له الحكم بقوله ، وظاهره أيضاً أنه يقبل الواحد ولو لم يوجد لذلك من قبل الحاكم وهو كذلك في نحو المفتيونجاسة الماء ورؤية الهلال عند من يكتفي فيه بالواحد لا في نحو الترجمان والقاسم ونحوهما فقول الذخيرة : إذا أمر الحاكم بذلك راجع للسبع المتقدمة فقائس الجرح والناظر في العيب مثلاً إنما يقبلان إذا توجها بأمر الحاكم وإلاَّ فلا بد من اثنين كما إذا أديا بعد برء الجرح أو انهدام البنيان أو دفن الأب في القافة ( خ ) وإنما تعتمد القافة على أب لم يدفن الخ . أو موت المعيب وتغيره أو غيبته أو عند حاكم آخر ، وكذا بعد موت المترجم عنه أو المحلف بفتح اللام فيما يظهر . وقولنا : وتغيره احترازاً مما إذا مات ولم يتغير فإنه ملحق بالحي كما قال بعضهم .
قلت : ويدل له ما مر عن ( خ ) في القافة وظاهر إطلاقاتهم في الترجمان والقاسم يقبلان ، ولو بعد إنكار المترجم عنه والمقسوم عليه كالمحلف بالكسر وإلاَّ أدى للتسلسل هذا . وفي ابن شاس ما نصه : ويشترط التعدد في المزكي والمترجم اه . قال ( ز ) بناء على أنه أي المترجم شاهد وهو المشهور وحينئذ فقول من قال : إن كلام ابن شاس فيما إذا أتى الخصم بمن يترجم عنه غير ظاهر بل كلامه مطلق كما ترى وفي ( ح ) عن العمدة أن الحكم إذا كان لا يتضمن مالاً فلا يجزىء إلا بترجمة اثنين على المذهب وإلاَّ فقولان اه . فالترجمان مما ترجح فيه جانب الشهادة على هذا خلافاً لما في ( خ ) حيث قال : والمترجم مخبر هذا في ترجمان القاضي ، ويشترط فيه على القولين أن لا يكون عدواً للمترجم عنه ولا قريباً لخصمه كما في التبصرة وانظر هل غيره من القاسم ونحوه كذلك وهو الظاهر أم لا ؟ وعليه فإذا طلب المقسوم عليه ونحوه القدح بما ذكر أجيب وأجل له ، وأما ترجمان الفتاوى والخطوط فالمراد به أن يقرأ الفتوى لمن لا يحسن الكتابة أو لا يفهم القلم الذي كتبت به أو يقول إنه خط فلان ، والمراد بالمستنكه للسكران أي شام ريح فيه من نكهه كسمعه أي نشقه أي : ويجد . وقوله : كالتقويم للسلع أي السلع المتلفات ولأروش الجنايات ونحو ذلك كتقويم العرض المسروق هل بلغت قيمته نصاباً فيقطع أم لا ( خ ) وكفى قاسم واحد أي فيما يخبر أنه صار لكل واحد منهم لا مقوم الخ . أي : فلا بد فيه من اثنين بل ذكر ناظم عمل فاس في شرحه له أن العمل بعدم الاكتفاء بالواحد في القاسم والمخبر عن قدم العيب وحدوثه فانظره . وقوله : والعيوب والرقبة أي مع الرقبة قالوا وبمعنى مع أي المقوم للعيب مع الرقبة وقوله : واختلف في الحكمين أي في النشوز ، والله أعلم .
تنبيه : قال المكناسي في مجالسه : إن القاضي يشترط على أرباب البصر بالمباني أن لا يحكموا بالحائط لأحد . وحسبهم أن يصفوه فقط بوصف يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال ، ثم ينظر القاضي بعد أداء شهادتهم فيه ويحكم اه .
قلت : وكذا الواقفون منهم على الحدود في الأرضين والأجنات ونحوها حسبهم أن يصفوا لأن أرباب البصر ممن لا علم عندهم في الغالب ، فقد يستندون إلى دلائل ضعيفة لا تعتبر شرعاً أو معتبرة ، لكنهم يأخذونها على غير وجهها ، فلذا وجب أن يذكروا الدلائل التي استندوا إليها من كون العقد والقمط ونحوهما لناحية كذا ، ومن كون الحاجز في الحدود هو كذا . أما قبول قولهم : ظهر لنا أن الحائط لفلان مطلقاً من غير بيان كما عندنا في هذا الزمان فمن الاستخفاف الذي لا يختلف فيه اثنان .
ولسادسها بقوله :وبِشَهادةٍ من الصِّبْيانِ في
جَرْحٍ وقَتْلٍ بَيْنَهُمْ قدِ اكْتُفِي
( وبشهادة ) يتعلق بقوله اكتفى ( من الصبيان ) يتعلق بمحذوف صفة ( في قتل ) يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الصفة ( وجرح ) معطوف على ما قبله ( بينهم ) في محل الصفة لقتل وجرح على وجه التنازع أو محذوف من الأول لدلالة الثاني عليه ( قد اكتفي ) مبني للمفعول ، ونائبه محذوف لدلالة السياق أي عن العدول . وظاهره أنه يكتفي بها من غير قسامة وهو كذلك وما ذكره من جوازها عليه أكثر أهل المدينة وهو المشهور في المذهب ، وخالف ابن عباس والقاسم وسالم وقالوا بعدم جوازها وهو مذهب الشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة رضي الله عنهم ، وبه قال ابن عبد الحكم ، واحتج المشهور بأنها لو كانت لم تجز لأدى ذلك إلى إهدار دمائهم مع أنهم يندبون إلى تعلم الرمي والصراع وحمل السلاح ، والغالب أن الكبار لا يحضرون معهم ، ولهذا لم تجز شهادة النساء وإن كن عدولاً فيما يقع بينهن من قتل وجرح في عرس وحمام ومأتم بميم مفتوحة فهمزة ساكنة فمثناة فوقية أي حزن لعدم ندبهن لذلك أي : فلا ضرورة تدعو إلى الاجتماع المذكور لأنه غير مشروع فاجتماعهن قادح في عدالتهن وإن شهدن بقتل الصبيان الذي يؤول للمال فأحرى بقتل بعضهن لأنه فيه القصاص في العمد .
ولما كانت شهادة الصبيان على خلاف الأصل لم تجز إلا بشروط أشار لأولها بقوله :
وشَرْطُها التَّمْيِيُ والذُّكورَه
والاتّفَاقُ في وقُوعِ الصُّورَه
( وشرطها ) مبتدأ ( التمييز ) خبر لأن غير المميز لا يضبط ما يقول وحدّ سن المميز في المدونة لمن بلغ عشر سنين فأقل مما قاربها . وعن عبد الوهاب أنه الذي يعقل الشهادة وهو أخص مما في المدونة ( و ) ثانيها ( الذكورة ) معطوف على الخبر فلا تقبل شهادة الإناث ( و ) ثالثها ( الاتفاق ) معطوف على الخبر أيضاً ( في وقوع الصورة ) يتعلق بالاتفاق ، فإن اختلفوا وقت تلقيها منهم سقطت كما لو قال بعضهم : قتله الصبي زيد وقال الآخر : بل الصبي عمرو ، ولا إشكال في هذه إن اتحد القائل من الجانبين لعدم تمام النصاب ، وكذا لو شهد اثنان أن الذي قتله فلان وقال آخران بل ركضته دابة على الصحيح خلافاً لابن الماجشون في قوله تقدم الشهادة بالقتل على الشهادة بالركض لأنها أثبت حقاً ، وكذا لو قال اثنان : ضربه بعصا ، والآخران بحديدة ، أو قال اثنان : قتله أو شجه زيد ، وقال الآخران : بل عمرو هذا ظاهره وعليه فلو لعب منهم ستة في بحر فغرق واحد منهم فقال ثلاثة من الخمسة الباقية : إنما غرقه الاثنان وعكس الاثنان فقالا : إنما غرقه الثلاثة سقطت شهادتهم لعدم الاتفاق وهو ظاهر نص ( خ ) الآتي أيضاً . وقيل : الدية على عاقلة الخمسة لاتفاقهم أن القتل لم يخرج عنهم ، وبه صدر في الشامل ونسبه في التبصرةلمالك مقتصراً عليه في القسم الثاني وصدر في القسم الثالث بالسقوط ، وبه صدر اللخمي أيضاً وقرر به ( تت ) وغيره كلام المختصر :
مِن قَبْل أنْ يَفْتَرِقُوا أو يَدْخُلا
فِيهِمْ كَبِيرٌ خَوفَ أن يُبَدَّلا
( من قبل أن يفترقوا ) حال من الاتفاق ، وهذا شرط رابع فإن تلقيت بعد التفرق لم تقبل ولو اتفقوا ( أو ) من قبل أن ( يدخلا فيهم ) وقت القتل أو الجرح ( كبير ) أي بالغ ذكراً كان أو أنثى عدلاً أو غيره ، فإن حضر معهم لم تقبل ، وهذا شرط خامس . وأو بمعنى الواو ويدخل معطوف على يفترقوا ، وفيهم يتعلق به وكبير فاعله وإنما اشترط عدم التفرق وعدم الدخول ( خوف أن يبدلا ) الكبير الكيفية ويعلمهم كيف يشهدون فهو مفعول لأجله تعليل للافتراق والدخول ، ولو قال : أو يحضرا معهم كبير خوف أن يغير السلم مما يوهمه لفظ الدخول من أنه دخل فيهم بعد الفراغ من الواقعة ، لأن هذا إنما تسقط به شهادتهم إذا قضى ما يمكنه فيه التعليم ولا يمكن عدلاً ، وإلا فلا كما في ( خ ) فلا يناسب إطلاقه وما مر من أن حضور الكبير يسقط الشهادة واضح إن كان الكبير غير عدل ، وإلاَّ عمل على شهادته إن شهد بشيء للاستغناء بشهادته مع يمين المدعي وينتظر بلوغه إن كان صغيراً ولو كان الكبير العدل امرأتين فأكثر لأنهن يجزن في الخطأ وعمد الصبي خطأ قاله الباجي . وإن لم يشهد بشيء وقال : لا أدري عمل بشهادة الصبيان انظر ( ح ) وسادس الشروط الحرية والإسلام فلا تقبل شهادة الصبي العبد أو الكافر ، وسابعها أن يتعدد فلا تقبل شهادة الواحد منهم والأول مفهوم من قوله : وبشهادة لأن العبد الكبير إذا كانت شهادته لا تسمى شهادة وهي كالعدم فأحرى الصغير والثاني من الجمع في قوله : الصبيان . وثامنها : أن لا يشهدوا على كبير أوله وهذا يفهم من قوله بينهم . وتاسعها : أن لا يكون الشاهد عدواً للمشهود عليه ولا قريباً للمشهود له ولا معروفاً بالكذب وسواء كانت العداوة بين الصبيان أو بين آبائهم وربما يفهم هذا من قوله شهادة على حسب ما مر في الشرط السادس . وعاشرها : أن يعاين البدن مقتولاً فلا تقبل شهادتهم مع فقده كما لو سقط في بحر ولم يخرج منه وربما يشعر به قوله في قتل إذ لا يتصف المقتول بالقتل على التحقيق إلا بمعاينته ميتاً ( خ ) إلا الصبيان لا نساء في كعرس في جرح أو قتل والشاهد حر مميز ذكر تعدد ليس بعدو ولا قريب ولا خلاف بينهم وفرقة إلا أن يشهد عليهم قبلها ولم يحضر كبير ويشهد عليه أولاً . ولا يقدح رجوعهم ولا تجريحهم الخ . والمناسب للاختصار إسقاط قوله : إلا أن يشهد عليهم قبلها لأن عدم الفرقة إنما اشترط لمظنة التعليم مع وجودها وهم إذا شهدوا عليهم قبلها انتفت المظنة وصدق عليهم أنهم مشهود عليهم قبل الفرقة فما استثناه مفهوم من قوله ولا فرقة .تنبيهان الأول : ما تقدم من أن الدية في مسألة الصبيان الذين يلعبون في البحر على عواقلهم هو مذهب الإمام نقله القرافي في شرح الجلاب . ونقل ابن يونس عن رواية ابن وهب مثله ثم قال بعده قال محمد : يعني ابن المواز هذا أي ما قاله الإمام غلط ، بل لا تجوز يعني شهادتهم في تلك الصورة ولضعف ما للإمام صدر اللخمي بمقابله كابن فرحون في أول القسم الثالث من تبصرته قائلاً لأن الصبيان لا إقرار لهم قال : فليسوا كالكبار الستة مثلاً يلعبون في البحر فيغرق واحد منهم فيشهد ثلاثة منهم على اثنين أنهما غرقاه ، ويشهد الاثنان بعكس ذلك فإن الدية في أموالهم إن قالوا عمداً وعلى عاقلتهم إن قالوا خطأ لأنهم تقاروا أن موته كان من قبلهم وسببهم إلا أنهم تراموا به بخلاف الصغار فإنهم لا إقرار لهم فاستفيد من هذا ترجيح القول بعدم الجواز كما هو ظاهر النظم ، وإن كان اللخمي حكى قولين في مسألة الكبار بالسقوط وعدمه واختار السقوط وهو الظاهر إذ لا إقرار هنا في الحقيقة ولا سيما إن لم يكونوا عدولاً فإن كانوا عدولاً فهو من إعمال شهادة كل فريق على الآخر ويجري هذا الخلاف فيما إذا قتلوا دابة أو كسروا آنية وتراموا ذلك .
الثاني : لو شهد صبيان فأكثر بأن الصبي فلاناً قتل صبياً آخر وشهد عدلان أنه لم يقتله بل مات بسبب آخر فقولان . بتقديم شهادة الصبيان لأنها أوجبت حقاً أو العدلين واختار اللخمي تقديم العدلين اه .
فصل
ذكر فيه القسم الثاني من أقسام الشهادات فقال :
ثَانِيَةٌ تُوجِبُ حَقاً مَعْ قَسَمْ
في المالِ أو ما آلَ لِلْمالِ تَؤَمْ
( ثانية ) مبتدأ سوغه الوصف أي شهادة ثانية ( توجب ) بضم التاء وكسر الجيم ( حقاً ) مفعول والجملة خبر ( مع قسم ) بسكون العين يتعلق بتوجب أي توجب هي أي الشهادة مع القسم من المدعي الحق المدعى به ( في المال ) يتعلق بتؤم ( أو ما آل للمال ) معطوف على ما قبله ( تؤم ) أي تقصد بضم التاء وفتح الهمزة مبني للمفعول حال من فاعل توجب وقوله : أو ما آل للمال أي إليه أي كالأجل والكفالة والخيار والشفعة والإجارة وقتل الخطأ وجراحة وأداء كتابة وإيصاء بتصرف فيه أي المال ، أو بأنه حكم له به قاله ( خ ) . ومعنى الأخير أن من حكم له القاضي بمال ثم أراد طلبه في غير محل الحكم وعنده شاهد واحد أو امرأتان على حكم القاضي فإنه يحلف ويستحق على المشهور ومقابله ضعيف ، وإن شهره ابن الحاجب وفهم منه أن ما ليس بمال ولا يؤول إليه لا يثبت بشاهد أو امرأتين مع اليمين . ويرد عليه ما فيه القصاص من جراح العمد فإنه يثبت بما ذكر . وأجيب : بأن هذا استحسان والقياس خلافه ، وظاهر قوله في المال أنه يثبتبما ذكر ، ولو أدى لغير المال وهو كذلك كشهادة من ذكر بأن الأمة قد أدت نجوم الكتابة أو أن ابنها أو زوجها قد اشتراها فتؤدي إلى العتق في الأولين وإلى الفراق في الثالث كما مرّ ، وكذا لو شهد من ذكر باستحقاق حدّ قذف فإن الحد يسقط عن قاذفه وأحرى في الذي يؤول للمال كشهادة من ذكر بدين على رجل وقد أعتق عبداً لا يملك غيره ، فإن العتق يرد ويرجع العبد إلى الملك ، واختلف هل يحلف المشهود له مع شاهده قبل الإعذار أو حتى يعذر للمطلوب فيه لئلا تذهب يمينه باطلاً وهو الصحيح ؟ قولان : ما قاله أبو الحسن في كتاب الجنايات . قال : بذلك وقعت الفتوى بسؤال أتى من سبتة اه . ونقله ابن رحال في شرحه وقال بعده : وكذا يمين الاستحقاق فإن هذه العلة جارية فيه لأن المستحق من يده ربما يخرج ببينة المستحق فتذهب يمينه باطلاً اه . وقوله : بيمين الاستحقاق نحوه في المعيار عن بعضهم وعللوه بما مرّ وهو خلاف قول الناظم الآتي وفي سواها قبل الإعذار بحق الخ ، وإذا فرعنا على الصحيح فإنما ذلك ابتداء فإذا وقع مضى فمن استحق دابة مثلاً وأتى بها إلى بلده وأثبتها وحلفه قاضي بلده يمين الاستحقاق فإنها تجزئه ويعذر للمستحق منه في البينة إن طلب ذلك فإن عجز أو لم يطلب القدح اكتفى بتلك اليمين ، وكذا يقال في اليمين مع الشاهد والله أعلم .
ثم إن هذا القسم الذي يوجب الحق مع القسم تحته أربعة أنواع . أشار لأولها بقوله :
شَهادَةُ العَدْلِ لمِنْ أقامَهْ
وامْرَأتانِ قامَتا مَقَامَهْ
( شهادة العدل ) الواحد مبتدأ والخبر محذوف أي من ذلك شهادة العدل الخ . أو وهي شهادة العدل ( لمن ) يتعلق بشهادة ( أقامه ) صلة من أي شهد له بمائة من سلف مثلاً أو إن البيع بينهما بخيار أو نحو ذلك فإنه يحلف معه ويستحق . ولثانيها بقوله : ( وامرأتان ) عدلتان مبتدأ خبره ( قامتا مقامه ) بفتح الميم ظرف من قام الثلاثي وضميره يعود على العدل ، وأما بضمها فهومن أقام الرباعي أي قامتا مقامه في ثبوت الحق بشهادتهما مع اليمين ، ويجوز أن يكون قوله امرأتان بألف التثنية مبتدأ حذف خبره أو خبر لمبتدأ مضمر أي من ذلك أو هي امرأتان أي شهادتهما بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والجملة بعده صفة أي من صفتهما قامتا مقامه في الاتصاف بالعدالة فهو من عطف الجمل في هذه الوجوه ، وإما على نسخة الياء إن صحت فواضح عطفه على العدل فهو من عطف المفردات . وقوله : وامرأتان أي فأكثر ولو كن مائة فهن بمنزلة العدل الواحد قال في الرسالة : ومائة امرأة كامرأتين وذلك كرجل واحد الخ . قال شراحها : يريد أو أكثر من مائة وكان الغبريني يقول : إذا بلغن هذا العدد خرجن من باب الشهادة إلى باب الانتشار المحصل للعلم وانظر ( ق ) عند قوله : وبما ليس بمال الخ . وظاهر قوله : توجب الحق الخ . أن صاحب الشاهد واليمين يحاصص مع ذي الشاهدين لأن كلاًّ من الحقين ثابت وهو كذلك ، وظاهره أيضاً جوازها في المال وما يؤول إليه ولو شاركهما ما ليس بمال ولا آيل إليه كشهادة امرأتين مثلاً بدين وطلاق أو بوصية بمال وعتق فتبطل في الطلاق والعتق دون المال وهو كذلك على المشهور من أن الشهادة إذا جاز بعضها للسنة جاز منها ما أجازته دون غيره .
تنبيه : إذا نكل عن اليمين مع شاهده فوجد ثانياً لم يعلم به بعد تحليف خصمه أو قبله ضم إلى الأول وقضى له بغير يمين وليس نكوله تكذيباً لشهادة الأول ، وكذا لو نكل مع شاهده في حق لم يمنعه نكوله أن يحلف معه إذا شهد له في حق آخر ولا يرث من أقام شاهداً أو امرأتين بموت فلان وأنه وارثه مع الثابت النسب بشاهدين . نعم إن لم يكن له وارث ثابت النسب حلف من ذكر واستحق المال لا النسب ، وكذا المرأة تقيم امرأتين أو شاهداً على النكاح بعد موته فإنها تحلف وتستحق على قول ابن القاسم خلافاً لما يوهمه كلام ابن فرحون في الباب الثالث من القسم الثاني من أنه لا بد من عدلين مطلقاً إلا في حصر الورثة فيكفي الشاهد واليمين ، لأن ذلك لا يجري إلا على قول أشهب كما ذكره هو في المحل المذكور .
فإن قلت : فما بال الشراح تواطؤوا على اعتراض قول ( خ ) في الاستلحاق وعدل يحلف معه ويرث ولا نسب الخ . تبعاً لاعتراض ابن عرفة وضيح على قول ابن الحاجب ، وعدل يحلف معه ويشاركهما ولا نسب الخ . وهلا حملوا كلامهما على ما إذا لم يكن للميت وارث ثابت النسب ؟ قلت : لما فرض ابن الحاجب المسألة في الولدين لزم مطلقاً حصول الوارث المعروف وهي متفق فيها على عدم الإرث ، وبهذا أيضاً يتضح ما اعترض به الشراح قول ( خ ) في الاستلحاق ، وبما جزم به في الشهادات من أن ما ليس بمال وهو آيل إلى المال يكفي فيه الشاهد والمرأتان أو أحدهما مع اليمين ، ومثله بقوله : ونكاح بعد موت أو سبقيته ولا زوجة ولا مدبرالخ . ثم قال في العتق : والولاء أن الشاهد بالقطع أو الشاهدين على السماع بالنسب يثبت بهما المال مع اليمين أي لتقييد ما في الشهادات والعتق والولاء بما إذا لم يكن للميت وارث ثابت النسب ولا يتأتى ذلك التقييد في كتاب الاستلحاق لفرض ابن الحاجب وقريب منه كلام ( خ ) المسألة مع وجود الوارث الثابت النسب ، وقد علم من هذا أن الموت يثبت بالشاهد واليمين باعتبار الإرث كما مرّ عن ( خ ) . وقد صرح ابن رحال في حاشيته بأنه المذهب وأحرى مع حصر الورثة كما مرّ عن ابن فرحون ، وتقدم في الفصل قبله عن اللخمي ومفهوم قوله بعد موت أنه في الحياة لا يثبت بذلك وهو كذلك .
فإن قلت : هو في الحياة ليس بمال ولكنه يؤول للمال وهو الصداق ، وحينئذ فالواجب أن يثبت بما ذكر . قلنا : هو يؤول للمال ولغيره من الزوجية ولواحقها من النسب وغيره لا للمال فقط ، فلو أعملنا فيه الشاهد واليمين أدى إلى التناقض وهو الإعمال في المال وعدم الإعمال في الزوجية فتكون الشهادة عاملة غير عاملة قاله القلشاني . وتأمله مع قولهم المعروف من المذهب أن الشهادة إذ رد بعضها للسنة صحت في غيره كمن شهد في وصية بعتق ومال لرجل تبطل في العتق ، وتصح في المال للرجل نقله ابن عرفة . ومثله قول ( خ ) والمال دون القطع في سرقة كقتل عبداً آخر الخ . فلم لا يقال تصح في الصداق وتبطل في الزوجية ولواحقها إلا أن يقال الصداق فرع النكاح فلا يثبت إلا حيث يثبت أصله .
تنبيه : الحكم بالشاهد واليمين مما خالف فيه أهل الأندلس مذهب الإمام مالك كما مرّ مع نظائره . قال ابن لبابة : اختلاف العلماء وما ذهب إليه مالك في الشاهد واليمين معروف وقضاتنا لا يرون ذلك . وقال ابن القصار في اختصار مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب : كل موضع قبل فيه شاهد وامرأتان قبل فيه الشاهد واليمين عندنا ، وعند الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وهو قول أبي بكر وعلي والفقهاء السبعة وشريح ، وقال اللخمي وابن أبي ليلى والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز الحكم بالشاهد يعني أو المرأتين مع اليمين وإن حكم قاض بذلك نقض حكمه وهو بدعة وبذلك قال الزهري قال : والحكم به بدعة وأول من قضى به معاوية اه . فأطلق كالناظم فظاهره كان مبرزاً أم لا ، وهو كذلك على المعتمد كما أطلق في ذلك ( خ ) وغيره ، خلافاً لابن عبد الحكم في أن ذلك إنما هو في المبين العدالة لا غير .
ولثالثها بقوله :
وها هُنا عنَّ شاهِدٍ قد يُغْني
إرْخَاءُ سِتْرٍ واحْتيازُ رَهْنِ
( وههنا عن شاهد ) يتعلق بقوله : ( قد يغني ) وقد للتحقيق لكثرة ذلك ( إرخاء ستر ) فاعليغني ( واحتياز رهن ) معطوف على ما يليه .
واليَدُ مَعْ مُجَرَّدِ الدَّعْوىأو أنْ
تَكَافَأتْ بَيِّنَتان فاسْتَبِنْ
( واليد ) بالرفع معطوف على إرخاء ( مع مجرد الدعوى ) في محل نصب على الحال من اليد ( أو أن ) بفتح الهمزة ونقل حركتها للواو ( تكافأت بينتان ) الجملة في تأويل مصدر معطوف على مجرد أي اليد مع مجرد الدعوى أو تكافىء البينتين ، وفي بعض النسخ وإن بكسر الهمزة والواو التي بمعنى أو فهي شرط معطوف على مع مدخول اليد ، وفعله الجملة من الفعل والفاعل من تكافأت بينتان والجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، إذ المعنى وإن تكافأت البينتان فاليد تغني . ( فاستبن ) تتميم .
والمُدَّعىعَلَيْهِ يَأْبىالقَسَما
وفي سِوى ذلِكَ خُلْفٌ عُلِما
( والمدعى عليه ) معطوف على إرخاء ( يأبى القسما ) حال من المعطوف المذكور ، فهذه أمثلة خمسة للشاهد العرفي وهو بيان لقوله فيما مر :
والمدعى عليه من قد عضدا
مقاله عرف أو أصل شهدا
وكأنه عقد في هذه الأبيات قول المتيطي ما نصه : وأما الشهادة التي توجب المشهود به مع اليمين فإنها أقسام أحدها : شاهد عدل أو امرأتان في الأموال ، ثم قال : والثالث ما يقوم مقام الشاهد من الرهن وإرخاء الستر ونكول المدعى عليه ومعرفة العفاص والوكاء واليد مع مجرد الدعوى أو مع تكافىء البينتين وما أشبه ذلك اه . فأسقط منه المصنف معرفة العفاص والوكاء لترجيح عدم اليمين فيهما وأدخلهما مع غيرهما في قوله : ( وفي سوى ذلك ) يتعلق بعلما ( خلف )مبتدأ ( علما ) خبره فأشار ( خ ) لأولها بقوله : وصدقت في خلوة الاهتداء وإن بمانع شرعي الخ . والمراد بإرخاء الستر مجرد الخلوة وإن لم يكن هناك ستر ولا غلق باب ، ولذا كانت المغصوبة تحمل ببينة مصدقة كالزوجة في دعوى الوطء ولكل منهما الصداق كاملاً . ويكفي في ثبوت خلوة الاهتداء والغصب شاهد أو امرأتان مع اليمين لأنها دعوى تؤول إلى المال ، وأما باعتبار العدة والاستبراء وقد أنكرت الخلوة والوطء فلا بد من عدلين وباعتبار حد الغاصب لا بد من أربعة . ولثانيها بقوله : ولراهن بيده رهنه ، وقوله : هو كالشاهد في قدر الدين لأن معنى ما في النظم أن احتياز الرهن شاهد للراهن بدفع الدين وللمرتهن بقدر دينه ، فإذا حازه الراهن بعد أن كان بيد المرتهن فهو شاهد بالدفع ، وإن كان لا زال محوزاً بيد المرتهن فهو شاهد بقدر الدين ، ولثالثها بقوله : وبيد ان لم ترجح بينة مقابله ، فقوله : إن لم ترجح قضية سالبة لا تقتضي وجود الموضوع فتصدق بما إذا لم توجد بينة في مقابلة اليد أصلاً ، وإنما هناك مجرد الدعوى أو وجدت وتكافأت مع بينة ذي اليد فيتساقطان كما أشار له بعد بقوله : وإن تعذر الترجيح سقطتا . وبقي بيد حائزه وهو المثال الرابع في النظم ولخامسها بقوله : وإن نكل في مال وحقه استحق به بيمين إن حقق فضمير نكل للمطلوب وضميراستحق وحقق للطالب وضمير به للنكول ، ومفهوم إن حقق أنه في دعوى الاتهام يستحق بمجرد النكول فقول الناظم : يأبى القسما أعم من أن يكون في دعوى تحقيق أو اتهام إلا أن النكول في الاتهام كشاهدين لا كشاهد فقط ، قال ابن شاس : وإذا قال المدعى عليه لا أحلف أو أنا ناكل أو قال للمدعي : احلف أنت وتمادى على الامتناع فقد تم نكوله فإذا قال بعد ذلك : أنا أحلف لم يقبل منه اه وهو معنى قول ( خ ) ولا يمكن منها ان نكل وقال قبله : وليس للحاكم حكمه أي حكم النكول بأن يشرح للمطلوب ما يترتب عليه ، وأنه إن نكل حلف الطالب واستحق وأنه لا يقبل منه الرجوع لليمين ، وظاهره كعبارة المدونة الوجوب وعليه فهو شرط في صحة الحكم كالإعذار . كما قال ابن رحال في شرحه : وهو الحق ولعل محل الوجوب إذا كان المطلوب يجهل حكمه ، وربما أشعر قول الناظم : يأبى القسما أن الطالب إذا امتنع من الحلف مع شاهده فنكوله شاهد للمطلوب فيحلف ويبرأ لأن الطالب بشاهده صار في معنى المدعى عليه ، ثم إن الإشارة في قول الناظم : ذلك الخ . راجعة لما مرّ من الأمثلة فيشمل العفاص والوكاء في اللقطة ( خ ) ورد بمعرفة مشدود فيه وبه وعدده بلا يمين ، وقال في النكاح : وقبل دعوى الأب فقط في إعارته لها في السنة بيمين وصدقت في انقضاء عدة الإقراء والوضع بلا يمين ما أمكن والغمط والعقد في الحيطان ، ودعوى الشبه في البياعات كقوله في اختلاف المتبايعين وصدق مشتر ادعى الأشبه وإن اختلفا في انتهاء الأجل ، فالقول لمنكر التقضي . وفي قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما والقول لمدعي الصحة وقوله في العيوب ،والقول للبائع في العيب أو قدمه إلا بشهادة عادة للمشتري وفي الوكالات ، والقول له إن ادعى الإذن أو صفة له وصدق في الرد كالمودع ، وفي الإجارات والقول للأجير أنه وصل كتاباً أو خولف في الصفة أو في الأجرة إن أشبه وحاز إلى غير ذلك ، فالمغني عن الشاهد الحقيقي أحد أمرين الأصل أو العرف ، وذلك شائع في أبواب الفقه كما ترى فقوله : خلف أي في الراجح فالشاهد العرفي وإن اختلف فيه من أصله هل هو كشاهد أو شاهدين ، لكن اختلف الراجح باختلاف أفراده فكأنه يقول هذه الأمثلة الراجح فيها أنها كشاهد وفي سواها اختلف الراجح باختلاف الأفراد ففي بعضها الراجح أنه كشاهدين فلا يمين كاللقطة وانقضاء العدة والنكول في التهمة وبعد القلب كما يأتي في البيت بعده ونحو ذلك وفي بعضها أنه كشاهد فقط كالأمثلة الباقية . انظر شرح المنجور لمنهج الزقاق ، ومن الأفراد التي الراجح فيها أنه كشاهدين نكول المدعي بعد نكول المدعى عليه كما قال :
[
ولا يَمِينَ مَعْ نُكُولِ المُدَّعي
بَعْدُ ويُقْضى بِسُقُوطِ ما ادُّعِي
( ولا ) نافية للجنس ( يمين ) اسمها ولو فرعه بالفاء المفيدة لكونه من أفراد قوله خلف لكان أظهر ( مع نكول المدعي ) خبرها ( بعد ) ظرف مقطوع يتعلق بمحذوف حال من نكول أي : لا يمين على المطلوب ثابتة مع نكول المدعي حال كونه كائناً بعد نكول المطلوب وعكس كلام الناظم ، وهو أن ينكل المطلوب بعد نكول الطالب من الحلف مع شاهده كذلك ، وهو معنى قولهم : النكول بالنكول تصديق للناكل الأول ، وظاهره أنه لا يمين على المطلوب سواء قلب اليمين المتوجبة عليه على الطالب فقال له : احلف أنت ولك ما تدعيه أو لم يقلبها ، ولكن قال : أنا لا أحلف أو تمادى على الامتناع فنكل الطالب أيضاً وهو كذلك ، ويتم نكول المدعي هنا بما يتم به نكول المطلوب في البيت قبله ، وإذا تم نكوله بما مرّ فلا يمكن منها إن أقلع عن نكوله كما مر عن ( خ ) وابن شاس وهو معنى قوله : ( ويقضي ) بالبناء للمفعول ( بسقوط ) نائبه ( ما ) مصدرية أو موصولة ( ادعي ) صلتها أي دعواه أو الذي ادعاه اللهم إلا أن يجد بينة بعد نكوله فلا يسقط حقه حينئذ كما في التبصرة وظاهر قوله بعد أي بعد نكوله كان مع القلب أو بدونه أن له القلب ولو كان التزم حلفها كما أفاده ( ح ) بقوله بخلاف مدعى عليه التزمها ، ثم رجع الخ .وهذا قول أبي عمران ، وعلله بأن التزامه لا يكون أشد من إلزام الله إياه فإن كان له أن يرد اليمين ابتداء مع إلزام الله له إياها فالتزامه هو تأكيد فقط لا يؤثر شيئاً . ورده اللقاني في حواشي ضيح بأنا لا نسلم أن الله ألزمه اليمين بل خيره بينها وبين ردها على المدعي ، ومن التزمها فقد أسقط حقه من ردها اه . ونحوه لابن رحال في شرحه قائلاً لأن المذهب أن من التزم حقاً لغيره لزمه بالقول وهو قد التزم أن لا ينتقل عن اليمين إلى قلبها ، والمدعي له حق في عدم القلب ، فكيف يصح تعليل أبي عمران لمن أنصف ، وإنما يجزم بقول ابن الكاتب القائل بأن الالتزام المذكور يسقط حقه من ردها . قال : وتعليل أبي عمران مأخوذ من لفظ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وذلك غير مفيد لأن ذلك محمول على الخيار بلا خلاف ، وأيضاً يلزم عليه أن المدعي يلزمه إقامة البينة مع أنه يجوز له تركها ويحلف المطلوب اه باختصار .
قلت : والحاصل أن المدعى عليه التزم هنا الحلف والناكل فيما مرّ التزم عدمه ، وبالالتزام المذكور في الصورتين يتعلق حق الخصم إذ من التزم شيئاً فقد أسقطه حقه من غيره ، فابن الكاتب طرد الحكم فيهما وأبو عمران فصل بما ترى وهو محجوج بما مرّ ، ولذا درج ناظم العمل على ما لابن الكاتب فقال :
والخصم يختار اليمين ونكل
فما لقلبها سبيل أو محل
ويؤيده ما يأتي عن التبصرة عند قوله يسوغ قلبها وما إن تقلب الخ . ومفهوم قول الناظم مع نكول المدعي الخ أنه إذا لم ينكل وإنما سكت سكوتاً لا يعد به ناكلاً عرفاً لم يسقط حقه ويمكن من اليمين ( خ ) : وإن ردت على مدع وسكت زمناً فله الحلف الخ . ولا مفهوم لقوله : مدع ، ولذا قيل لو قال ولو سكت من توجهت عليه زمناً الخ .
تنبيه : تقدم أن من صور النكول أن يقول : من توجهت عليه اليمين من طالب أو مطلوب احلف أنت وإنه إن أراد أن يقلع عن رضاه ويرجع إلى اليمين لا يمكن كما مرّ ويبقى النظر إذا أراد أن يقيم البينة على دعواه فأفتى ابن عتاب بأن له ذلك قال : وليس قوله رضيت بيمينك إسقاطاً لبينته بل حتى يفصح ويصرح بإسقاطها ، وبه قرر الشراح قول ( خ ) وإن استحلفه وله بينة حاضرة أو كالجمعة يعلمها لم تسمع أي وإن حلفه بالفعل وله بينة الخ . وأفتى ابن رشيق بأن رضاه باليمين مع علمه بالبينة الحاضرة يوجب عدم رجوعه إليها وهو ظاهر إطلاقات الشراح عند قول ( خ ) في الإقرار كان حلف في غير الدعوى لأنهم قالوا : إن قال له في الدعوى : احلف وخذ فلا رجوح له ، وقد ألم البرزلي في الحمالة بجميع ذلك . قلت : وهو الظاهر فما مر عن ابن الكاتب ينبغي اعتماده لأن رضاه التزام أي لأنه لما رضي باليمين أسقط حقه من البينة كما أن من قلب اليمين أسقط حقه منها كما مرّ فليس لكل منهما الرجوع إلى ما أسقط حقه منه ، ولما ذكر ابن ناجي في شرح الرسالة قول المدونة إذا استحلفه وهو عالم ببينته تاركاً لها لم يكن له قيام بها قال ما نصه : إلا أن قوله تاركاً لها . قال أبو إبراهيم : سقطت في بعض المواضع فقيل : اختلاف . قلت : وعلى القول باشتراطه فهل المراد تصريحاً أو إعراضه كاف وعليه الأكثر في ذلك ؟ تأويلان . حكاهما عياض اه . فنسب للأكثر مثل ما لابن رشيق ، كذا وجدت بخط أبي العباس الملوي وهذا كله إذا رضي اليمين مع علمه بها ، وأما إن حلفه بالفعل ، وأراد القيام بالبينةبعد ذلك فالمشهور كما مرّ عن ( خ ) عدم القيام بها إلا إن كان لا يعلمها كما قال أيضاً : فإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر كنسيان الخ . والمشهور أيضاً أنه لا يعذر ولو مع النسيان كما مرّ قبل باب الشهادات .
ولرابع الأقسام التي توجب الحق بيمين بقوله :
وغالِبُ الظَّنَّ بِهِ الشَّهادَهْ
بِحيْثُ لا يَصحُّ قَطْعُ عَادَهْ
( وغالب الظن ) معطوف على قوله شهادة العدل ( به الشهادة ) مبتدأ وخبر ، والجملة في محل نصب حال من غالب ( بحيث ) ظرف مكان يتعلق بالاستقرار في الخبر ( لا يصح قطع ) فاعل يصح ، والجملة في محل جر بإضافة حيث ( عادة ) منصوب على إسقاط الخافض والتقدير وهي شهادة العدل وشهادة غالب الظن في حال كون الشهادة كائنة به أي بسببه في المكان الذي لا يصح في العادة القطع فيه ، ويجوز أن يكون غالب مبتدأ والظرف متعلق به ، والشهادة مبتدأ ثان والمجرور خبره ، والجملة خبر الأول والتقدير وغالب الظن في المكان الذي لا يصح القطع فيه الشهادة عاملة به كذلك أي مع القسم فيكون من عطف الجمل وليس فيه الفصل بأجنبي لأن الجملة خبر وهي معمولة للمبتدأ الذي تعلق به الظرف ، ولك أن تجعل الظرف في هذا الوجه حالاً من المبتدأ الأول ، وقوله : بحيث لا يصح أي كشهادة عدلين باعتبار المديان وضرر الزوجين والرشد وضده واستحقاق الملك وحصر الورثة وكون الزوج غاب وتركها بغير نفقة والتعديل والتعريف بالخط ونحو ذلك . قال في الفروق : مدارك العلم التي لا يستند إليها الشاهد أربعة : العقل وأحد الحواس الخمس والنقل المتواتر والاستدلال فتجوز الشهادة بما علم بأحد هذه الوجوه ، ثم قال في الجواهر ما لا يثبت بالحس بل بقرائن الأحوال كالإعسار يدرك بالخبرة الباطنة بقرائن الصبر على الجوع والضرر يكفي فيه الظن القريب من اليقين ( خ ) : واعتمد في إعسار بصحبته وقرينةصبر كضرر الزوجين الخ . وظاهر النظم أن هذه اليمين على البت لأنها الأصل لا على نفي العلم وهو كذلك ، وإنما وجبت اليمين لأن الشهادة في ذلك إنما هي على نفي العلم فيقولون مثلاً : لا يعلمون له مالاً ظاهراً ولا يعلمون أنه رجع عن الإضرار بها إذ لا تتم الشهادة بالضرر إلا بزيادة ذلك ، وأنه لم يخرج عن ملكه في علمهم ، وأنه لا يعلم له وارثاً سوى من ذكر وأنه لم يترك لها نفقة في علمهم وأنه عدل لا يعلمونه انتقل عنها إلى غيرها ، وقد يكون المشهود به على خلاف ذلك ، فاستظهر على الباطن باليمين لكن يستثنى من ذلك حصر الورثة والترشيد وضده واستحقاق العقار والتعديل والتعريف بالمشهود له أو عليه فإنه لا يمين في ذلك وكذا الأب إن أثبت العسر لينفق عليه ابنه فإن جزموا بالشهادة فقالوا : لا مال له قطعاً أو لم يرجع عن الإضرار بها قطعاً أو لم يخرج عن ملكه قطعاً بطلت وإن أطلقوا ولم يقولوا قطعاً صحت من أهل العلم كما مرّ عند قوله : ومن يزكِّ فليقل عدل رضا . الخ . وبطلت من غيرهم إن تعذر سؤالهم كما يأتي قريباً وقولي : كشهادة عدلين احترازاً من شهادة عدل واحد بما ذكر فإنه لا يعمل به في العدم كما في ابن ناجي والترشيد وضده كما في ابن سلمون ، وكذا في ضرر الزوجين لأنه يؤول إلى خيار الزوجة وكذا التعديل ويعمل به في الباقي لكن يحلف بيمينين إحداهما لتكميل النصاب والأخرى للاستظهار ، ولا يجمعان وكلاهما على البت كما مرّ وظاهر قوله : غالب الظن أنه يعتمد الشاهد عليه لا أنه يصرح به عند الأداء . أو في الوثيقة : وإلاَّ لم تقبل قاله ابن عرفة وانظره مع ما للقرافي في الفرق الحادي والثلاثين والمائة من أن الشاهد إذا صرح بمستند علمه في الشهادة بالسماع المفيد للعلم أو بالظن في الفلس أو حصر الورثة ، فلا يكون تصريحه قادحاً على الصحيح قال : وقول بعض الشافعية يقدح ليس له وجه فإن ما جوزه الشرع لا يكون النطق به منكراً اه .
وانظر شرحنا للشامل عند قوله : واعتمد في إعسار الخ ، وما ذكرناه من أن الشاهد يعتمد على ذلك فقط هو نظير ما مرّ في التعديل من أنه يعتمد فيه على طول عشرة الخ وهو صريح لفظ ( خ ) المتقدم أي : ولا يتوقف قبول شهادته على بيان مستند علمه في ذلك من طول العشرةفي الحضر والسفر في التعديل والصبر على الجوع والبرد في الإعسار ونحو ذلك ، وهو واضح إن كان الشاهد بذلك من أهل العلم وإلاَّ فلا بد من سؤاله عن مستند علمه فإن تعذر سؤاله لموته أو غيبته سقطت . قال أبو العباس الملوي : وهو الذي جرت عليه الفتوى من فقهاء العصر حتى لا يستطاع صرفهم عنه ، وهو الذي قال به اليزناسي كما في أحباس المعيار أنه المذهب معترضاً على ابن سهل بما يعلم بالوقوف عليه ، وانظر ( ح ) عند نص ( خ ) المتقدم آنفاً ، وانظر ما يأتي عن الوثائق المجموعة وغيرها عند قوله : وحيثما العقد لقاض ولى ، الخ . وفي المسألة خلاف شهير فرجح الصباغ كما في أنكحة المعيار أن بيان مستند العلم إنما هو شرط كمال فقط ، وهو مختار ابن سهل وعليه عول ( خ ) في الشركة حيث قال : ولو لم يشهد بالإقرار بها على الأصح . قلت : وعندي أن هذا خلاف في حال ، فابن سهل ومن معه تكلم على ما علم من عدول وقتهم ، وغالبهم علماء عارفون وغيره تكلم على ما غلب في بلده ووقته من الجهل بما تصح به الشهادة ، وإلاَّ فكيف يقول منصف بقبول شهادة الجاهل مرسلة ، ولذا اقتصر ابن فرحون في فصل مراتب الشهود على أن غير العالم بما تصح به الشهادة لا بد من سؤاله عن مستند علمه ونحوه في الطرر والمعين والمتيطية ، وكذا في الوكالات وبيع الوكيل من ابن سلمون ونقل ابن رحال في الارتفاق نحوه عن كثير ، وذكر الفشتالي وابن سلمون صدر وثائقهما أن قول الموثق ممن يعرف الإيصاء لا يكفي حتى يقول بإشهاد من الموصى عليه إلا إذا كان من أهل العلم ، وعلى أهل العلم يحمل قول ابن سلمون في الشهادات إذا قال الشاهد أشهدتني فلانة ، ولم يقل أعرفها بالعين والاسم فهي شهادة تامة اه . وفي ابن عرفة أن الشاهد إذا لم يذكر معرفة ولا تعريفاً وتعذر سؤاله سقطت شهادته إن لم يكن من أهل العلم ، وذكر في كتاب المأذون من المتيطية ما نصه : وليس لهم تلفيق الشهادة بأن يقولوا نشهد أنه مأذون له في التجارة ولا يفسرون الوجه الذي علموا به ذلك أي من أنه أذن له سيده بمحضرهم أو أقر بذلك لديهم قال : ومن التلفيق أن يشهدوا أن لفلان على فلان كذا وكذا ديناراً ولا يبينون وجه ذلك ، بل لا تقبل حتى يقولوا أسلفه لدينا أو أقر بمحضرنا وإن كان الدين من بيع فسروا ذلك أيضاً فيقولون : باع منه بمحضرنا أو أقر بذلك لدينا . قال : وإنما لم تجز الشهادة إلا مع البيان لأن الشهود أكثرهم جهلة فقد يتوهمون أنه وجب من حيث لا يجب اه بخ . ونقله الفشتالي في باب القضاء مقتصراً عليه قائلاً فيجب بيان مستند العلم في جميع الأشياء من دين أو غيره لأن أكثر الشهود لا يفهم ما تصح به الشهادة اه . وقال اللخمي : إن الأربعة إذا شهدوا بالزنا وغابوا أو بعضهم قبل أن يسألوا عن كيفية الشهادة فإن الحد يقام إن كان الغائب عالماً بما يوجب الحد وإلاَّ سقط ، وفي البرزلي عن المازري إن الشاهد إذا كان من أهل العدالة والمعرفة فلا يستفسر ، ففهم منه إذا لم يكن كذلك استفسر . قال : ولم يكن الموثقون يستفسرون إلا في الحدود والزنا للحرص على الستر ، فأنت ترى تعليلهم بكثرة الجهر وبه يتضح لك أن قول ( خ ) ولو لم يشهد بالإقرار بها إنما هو في العالم ، والله أعلم .
تنبيه : علم مما مرّ أن الشاهد إذا شهد بإقرار شخص لديه بدين لغيره مثلاً فالشهادة تامة اتفاقاً لأنه قد بين فيها مستند علمه وهو الإقرار لديه ، فما في المعين عن بعض المتأخرين حسبما في التبصرة والحطاب مسلماً من أنه لا يؤاخذ بإقراره حتى يشهدوا بإقراره بالسلف أو المعاملة وهم ظاهر لأن الخلاف كما علمت في إرسال الشاهد شهادته لا في إرسال المقر إقراره لأنهمؤاخذ به ، وإن لم يبين سببه بل لو بينه بما يوجب رفعه لم يقبل منه ولو نسقاً ( خ ) : ولزم أن نوكر في ألف من ثمن خمر الخ . وأيضاً لو كان الحكم كما قال لم تصح الشهادة بالإقرار بشيء مع أنها صحيحة ويجبره على تفسيره ، والله أعلم .
فصل في التوقيفوذكر أسبابه وكيفيته ويسمى العقلة والإيقاف .
ثالِثَةٌ لا تُوجِبُ الحَقِّ نَعَمْ
تُوجِبُ تَوْقِيفاً بِهِ حُكْمُ الحَكَمْ
( ثالثة ) مبتدأ سوغ الابتداء به الوصف أيضاً وجملة ( لا توجب الحق ) خبره ( نعم ) حرف جواب في الأصل وهي هنا بمعنى لكن وليست على معناها اللغوي الذي أشار له عج بقوله :
نعم لتقرير الذي قبلها
إثباتاً أو نفياً كذا حرروا
بلى جواب النفي لكنه
يصير إثباتاً كذا قرروا
( توجب توقيفاً ) مفعول ( به ) خبر عن قوله ( حكم الحكم ) والجملة صفة لتوقيف . وحاصله : أن الطالب إما أن يأتي بعدلين أو بعدل أو بمجهول مرجو تزكيته أو مجهولين كذلك ، أو بلطخ أو بمجرد الدعوى ، فالتوقيف في الأول ليس إلا للإعذار فيوقف ما لا خراج له من العقار بالغلق ، وما له خراج يوقف خراجه وغير العقار من العروض والثمار والحبوب بالوضع تحت يد أمين وبيع ووضع ثمنه عنده في الثمار إن كان مما يفسد ، وفي الثاني للإعذار فيه أو لإقامة ثانٍ إن لم يرد أن يحلف معه لرجائه شاهداً آخر ، فالمنع من التفويت فقط في العقار ولا ينزع من يده لكن يوقف ما له خراج منه وفي غير العقار بالوضع تحت يد أمين وبيع ما يفسد أيضاً إلا أن يقول : إن لم أجد ثانياً فلا أحلف مع هذا البتة فلا يباع حينئذ بل يترك للمطلوب ، وفي الثالث للتزكية والإعذار بعدها وحكمه على ما لابن رشد وأبي الحسن وابن الحاجب حكم الذي قبله في سائر الوجوه ، قال ابن رحال في شرحه : هو كالعدل المقبول في وجوب الإيقاف به إلا أنه لا يحلف معه ، وفي الرابع للتزكية والإعذار أيضاً ، وحكمه كالذي قبله لا في بيع ما يفسد فيباع على كل حال . وفي الخامس ولا يتأتى إلا في غير العقار بالوضع عند أمين ما لم يكن مما يفسد فيخلى بينه وبين حائزه فيما يظهر لأنه كالعدل الذي لا يريد صاحبه الحلف معه . وفي السادس لا عقل أصلاً إذ لا يعقل على أحد بشيء بمجرد دعوى الغير فيه علىالمنصوص وجرى العمل بالإيقاف بمجرد الدعوى في غير العقار كما يأتي ، فأشار الناظم إلى الأول بقوله :
وهْيَ شَهادَةٌ بقَطْعِ ارْتُضِي
وبَقيَ الإعْذَارُ فيما تَقْتَضِي
( وهي شهادة ) مبتدأ وخبر ( بقطع ) يتعلق بشهادة ( ارتضي ) صفة لقطع والرابط الضمير النائب أي بقطع مرتضى لكونه بعدلين مقبولين ، وتثبت الحيازة بهما أو بغيرهما في العقار أو بموافقة الخصمين على حدوده لأن التوقيف يستدعي تعيين الموقوف ولا يتعين إلا بذلك واحترز بقطع عن شهادة السماع فإنها لا توجب توقيفاً إذ لا ينزع بها من يد حائز . نعم إن ادعى معها بينة قطع قريبة فتوجبه كما يأتي وبقوله : ارتضي عن العدل أو المجهول أو المجهولين فإن التوقيف في ذلك للتزكية والإعذار لا للإعذار فقط ، وبالمنع من التفويت فقط في العقار ، فإذا شهد عدلان باستحقاق الدار مثلاً ( و ) قد ( بقي الإعذار فيما تقتضي ) شهادتهما لأن الحكم بدونه باطل ، فهذه الشهادة لم توجب حقاً الآن بل توقيفاً فقوله : وبقي الإعذار جملة حالية تقدر قد معها ، وفاعل تقتضي ضمير يعود على الشهادة والعائد على ما محذوف أي فيما تقتضيه .
وحَيْثُ تَوْقِيفٌ مِنَ المطْلُوبِ
فَلا غِنًى عن أجَلٍ مَضْرُوبِ
( وحيث ) ظرف مكان ضمن معنى الشرط ولذا دخلت الفاء في جوابه ( توقيف ) مبتدأ ( من ) بمعنى في متعلقة بمحذوف خبر أي حصل أو وجد في الشيء ( المطلوب ) والجملة في محل جر بإضافة حيث ( فلا ) نافية للجنس ( غنى ) اسمها ( من ) بمعنى عن ( أجل ) يتعلق بغنى ( مضروب ) صفة لأجل والخبر محذوف ، وبه يتعلق بالظرف أي لا غنى عن أجل مضروب موجود حيث توقيف حصل في الشيء المطلوب كان التوقيف للإعذار أو للتزكية أو للإتيان ببينة أو بشاهد ثان وتقدم في فصل الآجال أن الأجل في هذا يختلف باختلاف المتنازع فيه وأن ذلك الحد لا ينقص منه ولا يزاد عليه لأن مستند الزيادة والنقصان هي القرائن وهي كما قال المازري : لا يضبطها إلا المبرز في علم الحقائق فإن رخصنا في الاعتماد عليها لحاذق فيزعم الآخر أنه أحذق منه والزمان فاسد اه . قال ابن رحال عقبه وصدق رحمه الله : ولهذا ضبط الفقهاء الأمور وحدوها بتحديد حتى إذا تخطاه القاضي أنكر عليه . ألا ترى أن اللفيف عندنا حد باثني عشر . وقال بعض : لا حد في ذلك بل هو موكول لاجتهاد القاضي فما حصل به غلبة الظن في الصدق اكتفى به انظر تمامه عند قول ( خ ) في الشهادات : وحلف بشاهد الخ . ثم إن انقضىالأجل ولم يأت بمطعن قضى به للطالب وإن أتى بمطعن كتجريح أو بينة تشهد أنه اشتراها من القائم ونحو ذلك وطلب القائم الإعذار فيما أتى به فيمكن منه ولا إشكال ، وهل ينحل العقل على المطلوب ويخلي بينه وبين شيئه في مدة تأجيل الطالب ، وهو الظاهر ، وبه رأيت بعض القضاة يحكم أو يستمر العقل حتى يعجز الطالب انظر ذلك . وعلى الأول إن أتى الطالب بمطعن أعيد العقل وهكذا حتى يعجز أحدهما والله أعلم .
ثم أشار إلى كيفية التوقيف في هذا الوجه فقال :
وَوَقْفُ ما كالدُّورِ غَلْقٌ مَعْ أَجَلْ
لِنَقْلِ ما فِيهَا بِهِ صَحَّ العَمَلْ
( ووقف ما كالدور ) مبتدأ وأدخلت الكاف كل ما يراد للسكنى لا للغلة من أرض ونحوها ( غلق ) خبره . فإن كانت في غير الحاضرة بعث أميناً يغلقها وتوضع مفاتحها عند أمين ( مع ) بسكون العين يتعلق بمحذوف صفة لغلق ( أجل ) يضرب ( لنقل ما ) أي الأمتعة التي ( فيها ) وإن سأل أن يترك ما يثقل عليه نقله أجيب كما في التبصرة وظاهر قوله : مع أجل أن الغلق مصاحب للأجل وليس كذلك إلا أن يقال أنه مصاحب لانتهائه لا لابتدائه ، وتقدم أن قدر الأجل في النقل ثلاثة أيام حيث قال : وبثلاثة من الأيام إلى قوله : وفي إخلاء ما كالربع في ذاك اقتفي . ( به ) يتعلق بقوله : ( صح العمل ) أي بهذا القول الذي هو وقف ما يراد للسكنى بالغلق مع قيام العدلين وما له خراج يوقف خراجه ويمنع الحرث في الأرض وبالمنع من الإحداث فقط مع قيام الشاهد العدل أو المرجو تزكيته في الأصول ، إلى غير ذلك مما يأتي جرى عمل القضاة وهو قول مالك في الموطأ ، وقول ابن القاسم في العتبية ومقابله مذهب المدونة : أن الربع الذي لا يحول ولا يزول ولا يوقف بالحيلولة وقف الخراج ، بل بالمنع من الإحداث فقط وهو المشهور الذي أفتى به ( خ ) حيث قال : والغلة له للقضاء والنفقة على المقضى له به إذ الخراج بالضمان والنفقة على من له الخراج فقوله قبل : وحيلت أمة مطلقاً كغيرها إن طلبت بعدل أو اثنين يزكيان الخ مراده بالغير العروض لا الأصول إذ لا حيلولة فيها عنده .
وَمَا لَهُ كالفُرْنِ خَرْجٌ والرَّحا
فَفيه تَوْقيفُ الخَراجِ وَضَحا
( وما ) أي الأصل الذي ( له خرج ) بسكون الراء لغة في الخراج مبتدأ والمجرور خبره والجملة صلة ما . ( كالفرن ) حال من خرج أو خبر عن محذوف ( والرحا ) والحانوت والفندقونحو ذلك مما له غلة ( ففيه ) يتعلق بوضح ( توقيف الخراج ) مبتدأ ( وضحا ) خبره . والجملة خبر الموصول ودخلت الفاء لشبهه أي الموصول بالشرط في العموم والإبهام أي يوقف خراجه فقط عند أمين ولا يغلق ولا تعطل منفعته .
وهَوَ في الأرْضِ المَنْعُ مِنْ أنْ تَعْمَرا
والحَظُّ يُكْرَىويُوَقَّفُ الكِرَا
( وهو ) أي التوقيف مبتدأ ( في الأرض ) حال منه ( المنع ) خبره ( من أن تعمرا ) بحراثة أو بناء أو نحوهما يتعلق بالمنع ( والحظ ) مبتدأ خبره ( يكرى ) أي وتوقيف الحظ إن كان النزاع فيه فقط كثلث من أرض أو حانوت مثلاً ففي الأرض يمنع من حرث كلها . وفي الحانوت ونحوه مما له غلة يكرى جميعه أيضاً ( ويوقف الكرا ) جملة من فعل ونائب معطوفة على جملة يكري واختلف .
قيلَ جَميعاً أَوْ بِقَدْرِ ما يَجِبْ
لِلْحَظِّ مِنْ ذاكَ والأوَّلُ انْتُخِبْ
( قيل ) يوقف ذلك الكراء حال كونه ( جميعاً ) ما ينوب المتنازع فيه وغيره ( أو ) أي وقيل يوقف ( بقدر ما يجب للحظ ) المتنازع فيه ( من ذاك ) الكراء فقط والمجروران يتعلقان بيجب ( والأول ) مبتدأ ( انتخب ) أي اختير خبره قال في التبصرة : فإن كانت الدعوى في حصة فتعقل جميع الأرض والدار وجميع الخراج فيما له خراج ، وقيل يعقل من الخراج ما ينوب الحصة المدعى فيها ويدفع باقية للمدعى عليه . وفي المقرب والقول الأول أولى عندي بالصواب اه . قلت : لم يظهر لي وجه كونه أولى بالصواب فإن الذي يقتضيه النظر العكس لأن توقيف الجملة ضرر على المطلوب يمنعه من التصرف فيما لا نزاع فيه ولا يضر بأحد لينتفع غيره ، بل لا نفع للطالب في وقف الجملة ولهذا والله أعلم قال الشارح : توقيف الجملة لا يخلو من إشكال فتأمله اه . وعليه فالذي تقتضيه القواعد هو القول الثاني فلا ينبغي أن يعدل عنه ، ومفهوم قوله : ووقف ما كالدور الخ . أن غير الربع من العروض والحيوان يوقف بالوضع تحت يد أمين ، وهو كذلك وللثاني بقوله :
وشاهِدٌ عَدْلٌ بِهِ الأصْلُ وُقِفْ
ولا يُزَالُ مِنْ يَدٍ بها أُلِفْ
( وشاهد ) مبتدأ سوغه الوصف بقوله : ( عدل ) أو امرأتان عدلتان ( به ) يتعلق بوقف ( الأصل ) مبتدأ خبره ( وقف ) أي إذا طلب المطلوب الإعذار فيه ، وكذا بعد الإعذار إذا أبى الطالبأن يحلف معه لرجائه شاهداً آخر وأجل للإتيان به أو كان القاضي ممن لا يرى الشاهد واليمين وأجله للإتيان بثان أيضاً ، وأشار إلى كيفية الإيقاف به بقوله : ( ولا يزال ) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير يعود على الأصل ( من يد ) يتعلق به ( بها ) يتعلق بقوله : ( ألف ) بالبناء للمفعول والجملة صفة ليد فعلم منه أن توقيفه إنما هو بالمنع من الإحداث ومعناه كما لأبي الحسن أن يقال للحائز : لا تحدث فيه حدثاً من تفويت ولا تغيير أي هدم أو بناء ولا يخرج من يدك ، وهذا في الأصل الذي لا يراد للخراج بل للسكنى كالدور أو للحراثة كالأرض ، وأما ما له خراج كالفرن والرحا فتوقف غلته كلها أو بعضها إن كان النزاع في حصة منه كما قال :
وبِاتِّفاقِ وَقْفُ ما يُفادُ
مِنْهُ إذا ما أُمِنَ الفَسَادُ
( وباتفاق ) خبر عن قوله ( وقف ما ) أي الخراج الذي ( يفاد منه ) أي من الأصل الموقوف بشهادة عدل ، وإنما يوقف ذلك الخراج ( إذا ) ظرف يتعلق بقوله وقف لا بيفاد ( ما ) زائدة ( أمن ) بالبناء للمفعول ( الفساد ) نائبه ، والجملة في محل خفض بإضافة إذا وجوابها محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وذلك كثمرة تيبس وكراء ونحوهما ، فإذا لم يؤمن فساده بيع ووقف ثمنه كما يأتي في قوله : وكل شيء يسرع الفساد له . الخ . ومفهوم قول الأصل أن العروض والحيوان توقف بالوضع على يد أمين ومفهوم عدل أن غيره يأتي في قوله : وحيثما يكون حال البينة الخ وقوله : باتفاق يعني والله أعلم أنه على القول الذي صح به العمل من التوقيف بالشاهد العدل اتفقوا على وقف الخراج فيما له خراج من الأصول الموقفة به ، وإلاَّ فالإيقاف بالعدل الواحد مختلف فيه من أصله اختلافاً قوياً كما في ابن سهل وغيره فلا يظن بالناظم أنه لم يطلع عليه .ولثالثها ورابعها بقوله :
وَحَيْثُما يَكُونُ حالُ البَيِّنَهْ
في حَقِّ مَنْ يَحْكُم غيْرَ بَيِّنَهْ
( وحيثما ) ظرف مجرد عن الشرط يتعلق بيوقف بعد وما زائدة ( يكون حال البينة ) بالرفع اسم يكون ( في حق من يحكم ) يتعلق بيكون ( غير بينة ) خبرها والجملة في محل جر بإضافة حيث ولجواز تذكير الحال وتأنيثها أنث بينة .
يُوَقِّفُ الفَائِدُ لا الأصولُ
بِقَدْرِ ما يُسْتَكْمَلُ التَّعْدِيلُ
( يوقف الفائد ) نائب ( لا الأصول ) معطوف على الفائد ( بقدر ما ) أي الزمان الذي ( يستكمل ) بالبناء للمفعول ( التعديل ) نائبه والمجرور يتعلق بيوقف والعائد على ما محذوف أي : فيه ، ويجوز أن تكون ما مصدرية ومعناه أن الشاهدة بالاستحقاق سواء كانت شخصاً واحداً أو متعدداً إذا كانت مجهولة عند القاضي لا يعرفها بعدالة ولا جرحة وسأل الطالب الإيقاف حتى يعدلها فإن الفائد أي الخراج الذي يؤمن فساده يوقف بقدر استكمال التعديل بل وبقدر الإعذار للمطلوب بعده لا الأصول فإنها لا توقف بالمنع من التصرف بل بالمنع من الإحداث فقط كما مرّ في العدل ، فكلام الناظم في فائد الأصول بدليل قوله : لا الأصول ، وأما غيرها من الحيوان والعروض فإنها توضع بنفسها عند أمين ولا يكتفي بوقف فائدها فلا يشملها كلامه ، وقوله : بقدر ما يستكمل الخ مستغنى عنه بما قدمه في فصل الآجال وليس المراد بقوله : لا الأصول أنها لا توقف أصلاً ، وإنما مراده أنها لا توقف بالمنع من التصرف فيها بل من الإحداث فقط كما قررنا وجعلنا البينة في كلامه شاملة للواحد المجهول وللمجهولين أولى من قصره على المجهولين فقط لأن البينة شرعاً تطلق على المتعدد والواحد لأنه يستحق به مع اليمين ولأن الواحد المجهول يوقف به كما مرّ في قول الناظم :وإن يكن مجهول حال زكيا
وشبهة توجب فيما ادعيا
وفي المقدمات شهادة الشهود غير العدول في استحقاق الشيء المعين توجب توقيفه عند أصبغ . ونقله ابن هلال في نوازله والمكناسي في مجالسه وقال : كل منهما به جرى العمل ، وعليه اقتصر ابن الحاجب كما مرّ على أن ظاهر العبارة يصدق حتى بمعلوم الجرحة وكذا ظاهر عبارة ابن ناجي الآتية ، لكن تقدم في النظم أن معلوم الجرحة لا توجب شهادته شيئاً والجمع في قول الشهود غير مراد بدليل تخصيصه التوقيف بأصبغ ، وبدليل قولهم : به جرى العمل لأن التوقيف بالمجهولين فأكثر مشهور منصوص عليه في المدونة وغيرها فلا وجه حينئذ لتخصيصه بأصبغ ولا لقولهم به جرى العمل ، ويدل له قول المتيطية ، وأصله لابن رشد كما في أبي الحسن ، والشاهد الذي لا تتوسم فيه العدالة ولا الجرحة لا تجوز شهادته دون تزكية إلا أنها شبهة في بعض المواضع توجب اليمين عند بعض العلماء وتوجب القسامة والحميل وتوقيف الشيء المدعى فيه اه . وفي التبصرة : أن الريع يوقف بالمنع من الإحداث بالشاهد العدل أو المرجو تزكيته وباللطخ كالشهود غير العدول الخ . فانظره ولعل مراده بغير العدول أي الذين لا ترجى تزكيتهم وهم من تتوسم فيهم الجرحة ولم تثبت ، وأما معلوم الجرحة فلا توجب شهادته شيئاً على ما في المتيطية ، وفي ابن ناجي ما نصه ، وظاهر قوله يعني في المدونة : وأقام شاهداً عدلاً أنه لو أتى برجل أو رجلين فأكثر ولم يكن فيهم من يزكي وطلب وضع قيمته ليذهب به أنه لا يمكن من ذلك ، وظاهر ما بعده يعني قولها أو بينة تشهد على السماع أنه سرق له مثل هذا العبد أنه يمكن من باب أحرى لأنهم شهدوا بالقطع أنه عبده والعمل على الثاني اه . فتأمل قوله : ولم يكن فيهم من يزكي الخ . فإن الذي لا يزكي هو معلوم الجرحة واحترزت في أصل التقرير بقولي الذي يؤمن فساده مما إذا لم يؤمن فإنه ينظر فإن رجي حصول ما لا يتم الحكم إلا به من إعذار وتعديل قبل فساده وقف ، وإن خيف فساده قبل ذلك بيع ووقف ثمنه كما قال :
وكلُّ شَيءٍ يُسْرِعُ الفَسادُ لَهْ
وَقِفَ لا لأنْ يُرىقَدْ دَخَلَهْ
( وكل شيء ) مبتدأ والجملة في قوله ( يسرع الفساد له ) صفة لشيء سواء استحق بعدلين أو بعدل أو بمجهول أو بمجهولين كان مستحقاً أو فائد ما استحق كلحم ومشمش ونحوهما ( وقف ) لمدة قليلة لا يدخله الفساد فيها ( لا لأن ) اللام بمعنى إلى وأن زائدة والمجرور بالام محذوف وجملة ( يرى ) صفته أي وقف لمدة قليلة لا إلى مدة يرى أن الفساد ( قد دخله ) فيها والجملة من وقف وما بعده خبر المبتدأ ولك أن تجعل أن غير زائدة ويكون المعنى وقف لرؤية عدم دخول الفساد فيه لا لرؤية دخوله وهو أقرب .
والحُكْمُ بَيْعُهُ وتَوْقِيفُ الثَّمَنْ
إنْ خِيفَ في التَّعْدِيل من طُول الزَّمَنْ( فالحكم ) مبتدأ والفاء جواب سؤال مقدر ( بيعه ) خبر وضميره يرجع لما يفسد بالتأخير ( وتوقيف الثمن ) معطوف على الخبر ( إن خيف ) شرط في البيع وتوقيف الثمن ( في ) التأخير لأجل ( التعديل ) والإعذار يتعلق بخيف ( من طول الزمن ) نائب فاعل خيف وقد علمت أنه لا مفهوم للتعديل بل التأخير للإعذار كذلك ، وكذا لإقامة ثان حيث لم يحلف مع هذا لرجائه شاهداً آخر ، فإن وجده وإلاَّ حلف فإن قال : لا أحلف مع هذا إن لم يجد آخر لم يبع بل يترك بيد حائزه يفعل به ما شاء . وحينئذ لا يقال : إن الإيقاف لتعديل المجهول أو المجهولين يباع فيه ما يفسد بخلاف العدل فإنه لا يباع بل يترك بيد حائزه مع أن الحكم كما يتوقف على تعديل المجهول كذلك يتوقف على إقامة ثان فأما أن يباع فيهما أو يترك للمطلوب فيهما . لأنا نقول : إنما قلنا بعدم البيع في العدل حيث قال صاحبه : لا أحلف معه إن لم أجد آخر كما مرّ لأنه قادر على إثبات حقه بيمينه ، فلما ترك ذلك اختياراً صار كأنه مكنه منه بخلاف ذي المجهول أو المجهولين ، فلا قدرة له قاله عبد الحق ، وللمازري فرق آخر انظره في ( ح ) ولقد أطنب الناظم في هذه الأبيات فلو قال بعد قوله : ولا يزال من يدٍ بها ألف . ما نصه :
إلا الذي له الخراج يوقف
وحكم مجهول كذاك يعرف
وكل ماله الفساد يسرع
فبيعه للوقف مما يشرع
لكفاه والله أعلم .
ولخامسها بقوله :
والمدَّعِي كالعَبْدِ والنِّشْدانُ
ثبوتُهُ قامَ بهِ البُرْهانُ
( والمدعي ) مبتدأ ( كالعبد ) يتعلق به وأدخلت الكاف الثوب والفرس ونحوهما ( والنشدان ) مبتدأ والواو للحال ( ثبوته ) مبتدأ ثان وقوله : ( قام به برهان ) خبره والجملة خبر النشدان بكسرالنون مصدر نشد الضالة نشداً ونشدة ونشداناً بكسر النون فيهما إذا طلبها والبرهان الحجة .
أو السِّماعُ أنْ عبَدَهُ أَبِقْ
إنْ طَلَبَ التّوْقيفَ فَهْو مُسْتَحِقْ
( أو السماع ) مبتدأ ( أن ) بفتح الهمزة على حذف الجار يتعلق بالسماع ( عبده أبق ) بفتح الباء وقد تكسر خبرها . والجملة في تأويل مصدر يتعلق بالسماع وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه أي قام به برهان ، والجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها ، ويجوز عطف السماع على النشدان وظاهره كظاهر نص المدونة و ( ح ) الآتيين ، ولو ثبت النشدان أو السماع بعدل واحد وهو كذلك لأنه بينة في الحقيقة يثبت به الحق فكيف باللطخ ( إن طلب التوقيف ) شرط ( فهو مستحق ) له بكسر الحاء جوابه ، والجملة من الشرط والجواب خبر المدعي . ومعناه أن المدعي لنحو عبد . وقد أثبت بعدل أو عدلين نشدان عبد أو سماعاً بإباق عبد له فهو مستحق لتوقيفه الخمسة أيام ونحوها حيث ادعى أن له بينة حاضرة أو قريبة الغيبة تشهد على عينه بالقطع فقوله :
لخَمْسَةٍ أوْ فَوْقَها يَسيرا
حَيْثُ ادَّعَى بَيِّنَةً حُضورا
( لخمسة ) يتعلق بتوقيف كما قررنا واللام للغاية بمعنى إلى ( أو فوقها ) معطوف ( يسيرا ) حال أي فوق الخمسة بيوم أو ثلاثة لا أكثر ( حيث ) ظرف متعلق بمستحق كما قررنا أيضاً والجملة من قوله : ( ادعى بينة ) في محل جر بإضافة حيث ( حضورا ) صفة لبينة أي حاضرة بالبلد أو على مسافة ثلاثة أيام لأن القريب كالحاضر فإن لم يأت بشيء أسلم إلى المطلوب بعد يمينه إن ظن به العلم فإن أتى الطالب بعد ذلك ببينة حكم له بها . واعلم أن الإيقاف على وجهين فتارة يريد المستحق أن يذهب به ليقيم البينة على عينه وتارة ليأتي بالبينة تشهد على عينه ، وكلام الناظم في الوجه الثاني ، وأما الأول فلم يتعرض له ، وسيأتي حكمه بعد هذا إن شاء الله فقوله : أو السماع من عطف العام على الخاص لأنه إما أن يكون من المستحق وهو المعبر عنه بالنشدان أو من غيره بأن يقولوا سمعنا من الثقات أو من غيرهم أنه ذهب له عبد مثلاً ، ولهذا اقتصر في المدونة على السماع ولم يذكر نشداناً وعليه فلو قال الناظم :
والمدعي لنحو عبدك استحق
توقيفه بلطخ أنه أبق
لخمسة الخ . وما ذكره الناظم من التحديد بالخمسة ونحوها هو قول سحنون ، ومذهب ابن القاسم أنه يوقف له من غير تحديد بالخمسة ولا غيرها بل بالاجتهاد . قال في التهذيب : فإن جاء بشاهد أو سماع وسأل إيقاف العبد ليأتي ببينة فإن كانت بعيدة وفي إيقافه ضرر استحلفالقاضي المدعى عليه وسلمه إليه بغير كفيل ، وإن ادعى شهوداً حضوراً على حقه أوقفته له نحو الخمسة أيام أو الجمعة ، وهذا التحديد لغير ابن القاسم ، ورأى ابن القاسم أن يوقف له أي من غير تحديد أبو الحسن فقول سحنون خلافاً لابن القاسم في التحديد قال : ومفهوم قوله بعيدة هو قوله : وإن ادعى شهوداً حضوراً ، وقوله بشاهد أي عدل وأبى أن يحلف معه لرجائه شاهداً آخر كما تقدم في شرح النظم قبل هذه الأبيات . وفي التبصرة إن أتى بلطخ كالقوم غير العدول أو عدول يشهدون بالسماع فإن أراد المدعي أن يذهب بالعبد إلى موضع بينته ، فذلك له بعد أن يضع قيمته قال : وإن لم يرد أن يضع قيمته وقال يوقف حتى آتي ببينتي فإن كان مما يقرب وقف له ما بين الخمسة الأيام إلى الجمعة قاله سحنون ، وإن كان مما يبعد وفيه مضرة لم يجب توقيفه وأحلف المطلوب وأخلي سبيله من غير كفيل يلزمه انتهى المقصود منه .
وبهذا تعلم أن قول الناظم حيث ادعى بينة حضوراً قيد في التوقيف بالسماع أو النشدان كما هو ظاهره ، فقول من قال صوابه أو ادعى بينة حضوراً الخ . غير ظاهر لأنه إنما يحتاج إليه لو كان كلامه غير مطابق للمنصوص ومجرد دعوى البينة الحاضرة مسألة ثالثة لم يتكلم عليها الناظم كما لم يتكلم على التوقيف للذهاب به كما مرّ ، وتكلم على ذلك في المختصر ولم يتكلم على ما في النظم كما يأتي .
ثم أشار الناظم إلى مفهوم قوله حضوراً وهو الوجه الأول في المدونة والوجة الثالث في التبصرة فقال :
وإنْ تَكُنْ بَعِيدَةً فالمُدَّعَى
عَليْهِ ما القَسَمُ عَنْهُ ارْتَفَعا
( وإن تكن ) شرط ( بعيدة ) بأن زادت على الجمعة خبر تكن ( فالمدعى عليه ) مبتدأ ( ما ) نافية ( القسم ) مبتدأ متعلقه محذوف أي ما القسم بأنه لا يعلم فيه حقاً للقائم ( عنه ارتفعا ) خبره والجملة خبر الأول والجملة من الأول وخبره جواب الشرط ، فإن نكل وقف هذا ظاهره لأن فائدة اليمين إنما تظهر في النكول وظاهره كظاهر المدونة المتقدم أنه يحلف كانا من بلد واحد أو أحدهما طارئاً وليس كذلك لأنه إذا ادعى الطارىء على المقيم . قال المقيم : أنت لا تدعي علي معرفة ذلك ، وكذا العكس فلا يحلف أحدهما للآخر في طرو أحدهما قاله أبو الحسن عن اللخمي ونحوه في التبصرة لابن فرحون .
كَذاكَ مَعْ عَدْلٍ بِنِشْدَانٍ شَهِدْ
وَبُعْدِ بَاقِيهِمْ يَمِينُهُ تَرِدْ
( كذاك ) حال من فاعل ترد ( مع عدل ) يتعلق بترد أيضاً وجملة قوله : ( بنشدان شهد ) صفة لعدل ( وبعد باقيهم ) بضم الباء وسكون العين عطف على عدل ( يمينه ) مبتدأ ( ترد ) خبره أي ترد يمين المطلوب مع عدل شهد للطالب بنشدان ومع ادعائه بعد باقي الشهود به أي بالنشدانحال كونها كذلك من أنه يحلف لا يعلم فيه حقاً للقائم ، وإنما وجبت اليمين ولم يوقف لأن اللطخ لم يتم . هذا ظاهر النظم عند شراحه وعليه قرروه ولم يدعموه بنقل وهو يقتضي أن الشاهد العدل بالسماع أو بالنشدان لا يكون لطخاً وفيه نظر ، فإن مجرد دعوى قرب البينة الشاهدة بالقطع لطخ كما يأتي فكيف مع الشاهد الواحد بالنشدان أو السماع ؟
فإن قلت : مرادهم لا يكون لطخاً مع بعد البينة الشاهدة بالقطع . قلنا : لو ثبت النشدان بعدلين في هذه لا يكون لطخاً كما في البيت قبله .
فإن قلت : مرادهم لا يكون لطخاً يوجب وقفه خمسة أيام أو فوقها ومجرد دعوى البينة الحاضرة إنما يوقف معها اليوم ونحوه . قلنا : لا دليل في كلامهم عليه على أنه ليس حلف المطلوب هنا لرد شاهد اللطخ بأولى من حلف الطالب مع شاهده ويوقف له ما لا ضرر فيه كالخمسة ونحوها ، بل حلف الطالب أنه سرق له مع شاهد النشدان أو السماع ليوقف به ما ذكر أولى لأنه يؤول للمال ولأن الشاهد بالنشدان على القطع أقوى من بينة السماع به والله أعلم . وحينئذ فالواجب أن الضمير في قوله باقيهم يرجع لعدل بدون قيده أي وادعى بعد باقي شهود القطع لا شهود النشدان كقولهم : عندي درهم ونصفه ، والمراد بالعدل الجنس فيشمل الواحد والمعتدد ، وهذا وإن كان مفهوماً من البيت قبله لكنه أولى من الفساد .
تنبيهان . الأول : ما تقدم إنما هو في توقيف المدعى فيه وأما توقيف المدعى عليه نفسه حيث كانت الدعوى بما في الذمة ولم يأت بحميل بالوجه فسيأتي في قوله :
وضامن الوجه على من أنكرا
دعوى امرىء خشية أن لا يحضرا
الثاني : تقدم أن الناظم لم يتكلم على الإيقاف للذهاب ، وقد صرح في المدونة بأنه إيقاف أيضاً ولا على الإيقاف للإتيان بالبينة الحاضرة وتكلم عليهما ( خ ) ولم يتكلم على ما في النظم فقال مختصراً لما في المدونة : وإن سأل ذو العدل أو بينة سمعت وإن لم تقطع وضع قيمة العبد ليذهب به إلى بلد يشهد له على عينه . أجيب : لا انتفيا أي العدل والسماع وطلب إيقافه ليأتي ببينة وإن على مسافة كيومين إلا أن يدعي بينة حاضرة أو سماعاً بالبلد يثبت به فيوقف ويوكل به في كيوم اه . وظاهر قوله : ليذهب به الخ . ولو كانت ببلد بعيد وهو كذلك إن كانت الطريق مأمونة وإلاَّ فينبغيالرجوع بالصفة اتفاقاً قاله الرجراجي ، وعليه فالفرق بين هذا وبين ما مر من أنه لا يوقف له مع بعد البينة أن الذهاب مع وضع القيمة أخف من الإيقاف من غير ذهاب لأنه إذا هلك في الذهاب أخذ المطلوب القيمة ، وفي الإيقاف لا يأخذ شيئاً قال أبو الحسن والعبدوسي : وقوله ليذهب الخ . هذا في الطالب ، وكذا في المطلوب إن أراد الذهاب بهما ليثبت ملكيتها بعد أن أثبتها الطالب ، والخلاف الذي في الذهاب بالدابة المستحقة هل يتسلسل أو هو للأول المستحق من يده فقط مخصوص بمن يريد الرجوع بثمنه ، وأما من أراد إثبات ملكيتها فله الذهاب أيّاً كان ولا يدخله الخلاف ، قال معناه ابن رحال ، وهذه المسألة لها فروع تتعلق بها أضربنا عنها لكونها أجنبية من النظم والله أعلم . وقوله : إلا أن يدعي الخ هذه هي المسألة الثالثة التي تقدم أن الناظم لم يتكلم عليها لأن الإيقاف بغير ذهاب إما بالنشدان أو السماع مع دعوى حضور البينة فيهما أو دعوى حضور البينة من غير نشدان ولا سماع إلا أنه في الأولى والثانية يوقف من الخمسة إلى الجمعة ، وفي الثالثة اليوم ونحوه كما مر ، وقوله أو سماعاً يثبت به الخ أي يثبت به اللطخ لا السماع المفيد للعلم فهو داخل تحت قوله : حاضرة ، وقوله وضع قيمته أي عيناً ولا يكتفي منه بكفيل إلا برضا الآخر إلا أن يكون العبد قد استحق نفسه بحرية فيكتفي منه به ، ومفهوم حاضرة أنه إذا لم يدع ذلك لا إيقاف أصلاً لا للذهاب ولا للإتيان ببينة وهو ظاهر قول الناظم ومدع كالعبد الخ . وحكى ابن ناجي الاتفاق على عدم الإيقاف حينئذ . 9 قال ابن أبي زمنين : ولو جاز هذا أي الإيقاف بغير لطخ لاعترض الناس أموال الناس اه . وهذا هو القسم السادس المتقدم في التحصيل . قلت : وجرى العمل بالإيقاف بمجرد الدعوى وتمكينه من وضع القيمة ولو لبلد بعيد قال ناظمه :
وكل مدع للاستحقاق
مكن من الإثبات بالإطلاق
وبحث في هذا العمل غير واحد بأن العمل لا بد أن يستند إلى قول ولا قائل بإيقاف بمجرد الدعوى . قلت : رأيت في اختصار الوانشريسي للبرزلي ناسباً لأوائله ما نصه : لا يفتى بغير قول ابن القاسم إلا في خمس مسائل فذكرها إلى أن قال : الرابعة توقيف المخصوم فيه قبل إثبات الطالب وهو رواية ابن عبد الحكم وابن كنانة اه . وقد علمت أن ما مرّ في النظم و ( خ ) كله في المدونة فلم يبق حمله إلا على مجرد الدعوى فانظر ذلك في أوائل البرزلي ، وانظره مع ما مرّ عن ابن ناجي من الاتفاق على أن هذا العمل إن صح مستنده ففيه ما لا يخفى من الإخلال بحق المطلوب والمحافظة على حق الطالب ، فإن كان ولا بدّ فينبغي أن يضع قيمة كرائها في أيام الذهاب والإيقاف زيادة على قيمتها ، فإن لم يثبت شيئاً أخذه المطلوب لأن هذا قد اعترض مال غيره وعطله عن منافعه من غير أن يستند إلى لطخ بخلاف ما إذا استند له فلا يضمن الكراء للشبهة ولم أر ذلك منصوصاً لأحد ممن قال بهذا العمل ، وقد حكى كثير من الناس أنهم كانوا إذا تعذر عليهم المعاش يذهبون للفنادق فيعترضون دواب الواردين حتى يصالحوهم بقليل أو كثير ، ولا سيما إن كان رب الدابة مزعوجاً يريد الخروج في الحين ، وقد شاهدنا من ذلك العجب العجاب وقد قال في الذخيرة : إذا التزم المدعى عليه إحضار المدعى فيه لتشهد البينة على عينه فإن ثبت الحق فالمؤنة على المدعى عليه لأنه مبطل وإلاَّ فعلى المدعي لأنه مبطل في ظاهر الشرع ولا تجب أجرة تعطيل المدعي به في مدة الإحضار اه . فتأمل قوله لأنه مبطل في ظاهر الشرع الخ . مع أن ما قاله من وجوب الإحضار إنما هو مع قيام اللطخ .فصل
ذكر فيه النوع الرابع من أنواع الشهادات .
رَابِعَةُ ما تُلْزِمُ اليَمِينا
لا الحَقَّ لكِنْ لِلْمُطالِبينا
( رابعة ) أي شهادة رابعة مبتدأ ( ما ) موصولة واقعة على الشهادة وهي مع صلتها خبر ( تلزم ) بضم التاء مضارع ألزم ( اليمينا ) مفعول ( لا الحق ) معطوف عليه ( لكن ) حرف استدراك وابتداء لا عاطفة لتخلف شرطها الذي هو تقدم النفي أو النهي ( للمطالبينا ) بفتح اللام اسم مفعول يتعلق بمحذوف دل عليه ما قبله أي لكن تلزمها للمطالبين لا للطالب كما في القسم الثاني ، واللام الجارة بمعنى ( على ) إن فسرنا تلزم بتوجب وأما إن أبقيناه على معناه فهي زائدة لا تتعلق بشيء .
شَهادةُ العَدْلِ أو اثْنَتْينِ في
طَلاقٍ أو عتاقٍ أو قَذْفٍ يَفِي
( شهادة ) خبر مبتدأ مضمر أي وهي شهادة ( العدل ) الواحد ( أو ) شهادة امرأتين ( اثنتين في طلاق ) يتعلق بتفي على قراءته بالتاء المثناة فوق على أنه حال من شهادة والمجرور يتعلق به أي حال كون شهادة العدل أو المرأتين كائنة في طلاق ( أو عتاق أو قذف ) ويجوز أن يتعلق المجرور بشهادة و ( يفي ) بالياء المثناة تحت صفة لقذف ، فإذا أقامت الزوجة شاهداً أو امرأتين بالطلاق أو أقام العبد شاهداً بالعتق أو أقام المقذوف شاهداً أو امرأتين بالقذف حلف المطلوب في الجميع لرد شهادة الشاهد وبرىء وفهم منه أنه لا يمين بمجرد الدعوى . قال مالك : ولو جاز هذا للنساء والعبيد لم يشأ عبد إلا حلف سيده ولا امرأة إلا حلفت زوجها كل يوم .
وتُوقَفُ الزَّوْجَةُ ثمَّ إنْ نَكَلْ
زَوْجٌ فَسِجْنٌ ولِعامٍ العَمَلْ
( وتوقف الزوجة ) قبل الحلف أي يحال بينها وبين زوجها ، وكذا العبد للإعذار في الشاهد أو لإرادة إقامة ثان فإن عجز المطلوب عن الدفع وعجز الطالب عن الإتيان بثان توجهت اليمين ( ثم إن نكل ) عنها ( زوج ) أو سيد أو قاذف ( فسجن ) لازم للجميع وفي قدر مدته روايات قيل أبداً حتى يحلف ، وقيل إلى أن يطول والطول بالاجتهاد وقيل عام كما قال : ( ولعام العمل ) فإنحلفوا بعدها وإلا أطلقوا ، وإنما لم يكن النكول كشاهد لأن هذه ليست بمال ، وكان مالك يقول : تطلق بالنكول مع الشاهد ثم رجع إلى ما في النظم فقوله : فسجن مبتدأ والخبر محذوف كما ترى وثم للترتيب عطفت جملتي الشرط والجزاء على جملة توقف ، وفهم من تخصيصه الحكم بهذه الثلاث أن غيرها مما لا يثبت إلا بعدلين لا يجزى فيه ذلك ، فلا يحلف السارق لرد شهادة الشاهد بالنسبة لقطعه ولا الصبي لرد شهادة الشاهد ببلوغه بالنسبة لإقامة الحد عليه ، ولا المرتد لرد شهادة الشاهد التعديل والتسفيه ونحو ذلك ، ولا يسجن الولي بعدم حلفه لرد شهادة الشاهد بعفوه بل يسقط القصاص ، كما إذا لم يحلف مع مجرد الدعوى ( خ ) وللقاتل الاستحلاف على العفو الخ . وذلك لأن العفو تخلفت فيه قاعدة كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها . وكذا النكاح إن ادعاه أحد الزوجين على الآخر فلا يمين لرد شهادة شاهده لأنه لو أقرّ به لم يثبت بخلاف الطلاق وما معه ، ولأن الغالب شهرته فالعجز عن شاهدين دليل على كذب مدعيه ما لم يكونا طارئين وإلاَّ توجهت لرد شهادة الشاهد لأن الشهرة لا تتأتى في الطارئين ( خ ) وحلف بشاهد في طلاق وعتق لا نكاح ، فإن نكل حبس وإن طال دين .
وقيلَ لِلزَّوْجَةِ إذْ يُدَيَّنُ
تَمْنَعُ نَفْسَها ولا تَزَيَّنُ ( وقيل للزوجة إذ يدين ) مبني للمفعول نائبه يعود على الزوج ، وهذا وجه تخصيصه بالذكر فيما مر ، وإلا فالسجن لا يختص به كما مرّ والمجرور والظرف يتعلقان بقيل ( تمنع نفسها ولا تزين ) أي لا تستعمل زينة النساء فهو مبني للفاعل حذفت منه إحدى التاءين لأن أصله لا تتزين والجملة من تمنع وما عطف عليها في محل رفع نائب فاعل قيل : أي يقال لها هذا اللفظ ولا مفهوم للزوجة ، بل أمة الوطء كذلك في العتق وما ذكره في الزوجة ظاهر إذا كان الطلاق بائناً ( خ ) ولا تمكنه إن سمعت إقراره وبانت أي والحال أنها بانت ولا تتزين إلا كرهاً ولتفتد منه وفي جواز قتلها له عند مجاورتها قولان .فصل
ذكر فيه القسم الخامس من أقسام الشهادة المتقدمة في قوله : ثم الشهادة لدى الأداء . جملتها خمس الخ . وما يقال هنا من أن هذا القسم ليس من أقسامها ، بل هو قسيم أي مقابل لها مناقشة لفظية لا طائل تحتها .
خامِسَةٌ لَيْسَ عَليها عَمَلُ
وهْيَ الشَّهاةُ التي لا تُقْبَلُ
( خامسة ) مبتدأ سوغه الوصف كما مرّ والجملة من قوله : ( ليس عليها عمل ) خبره أي لا عمل عليها في شيء فلا توجب يميناً ولا توقيفاً فضلاً عن غيرهما ( وهي ) مبتدأ ( الشهادة ) خبره ( التي لا تقبل ) صفة أي لا تقبل ما لتخلف شرط من الشروط المتقدمة أول الباب .
كَشَاهِدِ الزُّور والإبْنِ لِلأبِ
وما جَرِىمَجْرَاهُما مِمَّا أُبي
( كشاهد الزور ) سواء ظهر عليه في هذه الشهادة أو فيما قبلها لأنه فاسق ( و ) أما القيام مانع كشهادة ( الابن للأب ) والزوج للزوجة ( وما جرى مجراهما مما أبي ) أي منع فمما جرى مجرى الأول فقد العقل والبلوغ والحرية وعدم اجتناب الكبائر المشار لها بقوله أول الباب : وشاهد صفته المرعية ، إلى قوله : وما أبيح وهو في العيان الخ . ومن ذلك من اعتاد مؤاجرة نفسه لأهل الذمة يستعملونه في الحراثة وشبهها لما فيه من إهانة الإسلام ، ومما جرى مجرى الثاني العداوة وتهمة الجر والدفع المشار لها بقوله : والأب لابنه وعكسه منع . إلى قوله : وحيثما التهمة حالها غلب . كحالة العدو والظنين الخ . فقوله مجراهما بفتح الميم ظرف يتعلق بجرى ، ومما بيان لما يتعلق بجرى وأبى بضم الهمزة مبني للمفعول صلة ما .
فصل في شهادة السماع
وهي قسمان : ما يفيد العلم سواء بلغ حد التواتر المفيد للقطع كالسماع بأن مكة موجودة وعائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو حدّ الاستفاضة المفيدة للظن القوي القريب من القطع ، كالسماع بأن نافعاً مولى ابن عمر ، وعبد الرحمن هو ابن القاسم ، وهذا القسم لا يصرح الشاهد فيه بالسماع ، بل يجزم الشهادة فقد قيل لابن القاسم : أيشهد بأنك ابن القاسم من لا يعرف أباك ولا أنك ابنه إلا بالسماع ؟ فقال : نعم يقطع بهذه الشهادة ويثبت بها النسب والإرث . ابن رشد : لا خلاف في هذا لأن الخبر إذا انتشر أفاد العلم فإذا انتشر الخبر بأن فلاناً تزوج فلانة وكثر القول به جازت الشهادة بالنكاح على القطع ، وإن لم يحضر لعقده وكذا الموت والنسب وغيرهما إذا حصل له العلم بذلك من جهة السماع فيؤدي شهادته على القطع فيقول : نعلم أنها زوجته وأنه ابن فلان ولا يخبر بأن ذلك العلم إنما حصل له من جهة السماع . قلت : إذا أخبر بذلك هل تبطل به الشهادة كما مرّ عند قوله وغالب الظن الخ . والظاهر أنها لا تبطل إذا صرح بالانتشار أو التواتر .
القسم الثاني : ما لا يفيد العلم ولا الظن القريب منه وهذا هو الذي يقصد الفقهاء الكلام عليه ، وإذا أطلقت شهادة السماع إنما تنصرف إليه وهو راجع في الحقيقة للشهادة التي توجب الحق مع اليمين . ابن عرفة : هي لقب لما يصرح الشاهد فيه بإسناد شهادته لسماع من غير معين فتخرج شهادة البت والنقل فالبت خرج بقوله بإسناد شهادته لسماع ، والنقل بقوله من غير معين ، والكلام عليها في هذا القسم من وجهين . الأول : شرطها ومنه تعلم كيفيتها . الثاني : محلها أي المحل الذي تجوز فيه دون غيره ، فأما الشرط فسيأتي في قول الناظم : وشرطها استفاضة إلى قوله : مع السلامة من ارتياب الخ . وأما محلها وهو ما تقبل فيه ففيه طرق . ثالثها لابن شاس وابن الحاجب وغيرهما أنها تجوز في مسائل معدودة ، ولرجحانها اقتصر الناظم عليها فقال :وأُعْمِلَتْ شَهادَةُ السَّماعِ
في الحَمْلِ والنِّكاح والرَّضَاعِ
( وأعملت شهادة السماع في الحمل ) يتعلق بأعملت أي يشهدون بالسماع الفاشي أن الأمة الفلانية حملت من سيدها فلان حملاً ظاهراً لا خفاء فيه فتصير بذلك أم ولد إن ادعت سقوطه وتصدق في ذلك ، وإلاَّ فهو قوله فيما يأتي والميلاد الخ . وهذا ظاهر إن كان السيد قد مات أو كان حياً أو أقرّ بوطئها وإلاَّ فلا . ( والنكاح ) أي يشهدون بالسماع الفاشي على ألسنة أهل العدل وغيرهم أن فلاناً نكح فلانة هذه بالصداق المسمى وأن وليها فلاناً عقد عليها نكاحها برضاها وأنه فشا وشاع بالدف والدخان . هكذا ذكر المتيطي هذه الوثيقة في نهايته قال : فإذا أعذر القاضي للمرأة ولم تجد مطعناً ثبت النكاح واستحق البناء بها . وقال قبل هذه الوثيقة ما نصه : فإن أتى المدعي منهما ببينة بالسماع الفاشي من أهل العدل وغيرهم على النكاح واشتهاره بالدف والدخان ثبت النكاح على المشهور المعمول به . وقال أبو عمران : إنما يعمل بالسماع في النكاح إذا اتفق الزوجان عليه وإلاّ فلا اه . واقتصر ابن هارون في اختصاره على قوله : فإن أتى المدعي الخ . وكذا ابن فرحون في تبصرته ، فظاهر كلامهم أن قول ابن عمران مقابل وصرح به في الشامل في تنازع الزوجين فقال : ولا يثبت النكاح إلا ببينة ولو بسماع على اشتهاره بدف ودخان على المشهور ، وقيل : إن اتفقا على الزوجية اه . وشهر في شهادة السماع في باب الشهادات ما لأبي عمران فقال : ونكاح اتفق عليه الزوجان على المشهور وإلاَّ فلا اه . قال ابن رحال : عقبه ما قاله أبو عمران وشهره في الشامل يعني في باب الشهادات فيه ما فيه ، وقال في حاشيته : هنا الراجح الجواز وإن لم تكن تحت الحجاب ونحوه ل ( ز ) في تنازع الزوجين وعلى خلاف أبي عمران رد ( خ ) بقوله في التنازع ولو بالسماع وقد علمت من هذا أن النكاح يثبت بالسماع على المعمول به ، ولو أنكرت المرأة أو لم تكن تحت حجاب الزوج خلافاً لأبي عمران في الإنكار ولابن الحاج فيما إذا لم تكن تحت الحجاب وهذا كله إذا لم تكن تحت زوج آخر ، وإلاَّ فلا تنزع منه بالسماع اتفاقاً .فإن قيل : ظاهر ابن الحاج أنه لا يعمل بها إذا لم تكن تحت حجابه ولو مقرة بالنكاح وظاهر ما لأبي عمران عكسه وكيف يكلفان بثبوته مع الإقرار وكونها تحت الحجاب ؟ قلنا : يكلفان حيث كانا بلديين لرفع الحد عنهما ولا يكفي فيه الواحد كما مرّ عند قوله : رابعة ما تلزم اليمين الخ . وظاهر ما مر عن المتيطي أن بينة السماع لا بد أن تذكر العاقد والصداق كبينة القطع ، وهذا ظاهر إذا حملنا كلامه على شرط الصحة ، والظاهر أنه شرط كمال بدليل قوله : وإن فشا وشاع بالدخان . الخ ، مع أنهما لا تشترط معاينتهما ولا كونهما من جملة المسموع كما في ( ز ) وغيره ولأن الفرض أن النزاع في أصل الزوجية لا في تلك الفصول فإذا رجع المنكر عن إنكار أصل الزوجية إلى أنها وقعت بغير ولد أو بغير رضاها فذلك انتقال من دعوى لأخرى فتبطل الأولى والثانية ، وهذا كله إذا لم يطل الزمان وإلا فيكفي السماع بأنها زوجته ولا سيما مع موت أحدهما . ابن رشد : إذا كانت المرأة منقطعة عمن تقاررت معه على النكاح ولا بينة على أصله وليسا بطارئين فقيل لا ميراث بينهما ، وإن طال ذلك وفشا في الجيران قال : وهذا القول بعيد لأن النكاح مما تصح فيه شهادة السماع إذا مضى من الزمان ما يبيد فيه الشهود أي كالعشرين سنة ونحوها . وقول المتيطي والشامل بالدف والدخان لا مفهوم له ، بل لو لم يتعرضوا لهما لصح ، وكذا لو لم يتعرضوا للصداق فيما يظهر ويجب صداق المثل كما ذكروه فيما إذا شهدوا بالقطع ولم يحفظوا صداقاً لجواز نكاح التفويض والله أعلم .
( والرضاع ) أي لم يزالوا يسمعون أنها أخته أو أمه من الرضاع فتنتشر الحرمة وظاهره كغيره أنه يفرق بينهما بهذه ولو بعد العقد كما أن ظاهر كلامهم أيضاً أن السماع الفاشي بالعتق ينتزع به من حائزه حيث لم تكن له بينة قاطعة بملكة وإلاَّ لم يكن لبينة السماع فائدة . وبيانه : أن مدعي رقبته له لا يستحقه بمجرد دعواه ، فإن كانت له بينة بملكه قدمت بينة الملك فلا حاجة لبينة السماع فيهما ، وإن لم يكن له إلا مجرد الحوز فهو الذي تظهر فيه ثمرتها وهو المطلوب فتأمل ذلك ، وحينئذ فقولهم بينة السماع لا ينتزع بها من حائز مخصوص بما يحول ويزول والله أعلم .
والحَيْضِ والمِيرَاثِ والمِيلادِ
وحالِ إسْلامِ أو ارْتِدادِ
( والحيض ) فيثبت به الخروج من العدة في الطلاق الرجعي فلا توارث بينهما بعده ( والميراث ) حيث شهدوا بالسماع أنه مات وأنه لا وارث له سوى فلان لكونه مولاه أو ابن عمه وأنهم سمعوا أنه يجتمع معه في الجد الفلاني أو في جد واحد كما في البرزلي عن ابن رشد ، وهذا حيث لم يكن هناك وارث معلوم النسب ( والميلاد ) فتصير الأمة أم ولد وتخرج به الحرة من العدة فلا توارث إن مات أحدهما ( وحال إسلام أو ) حال ( ارتداد ) فتبنى عليهما أحكامهما من الإرث وغيره .والجَرْحِ والتَّعْدِيلِ والوَلاءِ
والرُّشْدِ والتَّسْفِيهِ والإيصاءِ
( والجرح ) بفتح الجيم أي التجريح وظاهره كغيره بينوا سببه أم لا كقولهم : لم تزل تسمع أنه مجرح فتسقط شهادته ( والتعديل ) فيعمل بشهادته وما ذكره في التجريح والتعديل قال القرافي في فروقه : محله إذا لم يدرك زمان المجرح والمعدل بالفتح وإلا فلا بدّ من القطع ( والولاء ) والمراد به اللحمة التي هي كلحمة النسب لا مجرد المال فقط خلافاً لقول ( خ ) في العتق والولاء : وإن شهد واحد بالولاء أو اثنان أنهما لم يزالا يسمعان أنه مولاه لم يثبت لكنه يحلف ويأخذ المال الخ فإنه خلاف المعتمد . ( والرشد ) فتمضي أفعاله ولو مولى عليه على ما به العمل من اعتبار الحال لا الولاية ( والتسفيه ) فترد أفعاله ولو لم يكن مولى عليه ( والإيصاء ) بالنظر لشخص معين على الأولاد كما في التبصرة عن الكافي ، وأما الوصية بالمال فهي داخلة في الهبة والصدقة كما قال :
وفي تَمَلُّكٍ لمِلْكٍ بِيَدِ
يُقامُ فِيهِ بَعْدَ طُولِ المَدَدِ
( و ) أعملت أيضاً ( في ) سبب ( تملك ) أي دخول ( لملك ) أصلاً كان أو غيره ( بيد ) حائزه فأطلقوا السبب الذي هو التملك بمعنى الدخول في الملك على سببه الذي هو ما يوجب النقل من الشراء والصدقة ونحوهما ، والباء بمعنى في تتعلق بملك والأصل إضافة تملك لملك لكن لما كانت الإضافة بمعنى اللام أظهرها للوزن أي وأعملت في سبب دخول الملك في ملك ذي يد ، فإذا كان الملك بيده ثم ( يقام ) عليه ( فيه بعد طول المدد ) جمع مدة كالعشرين سنة على ما به العمل وأثبت القائم أن الملك لأبيه أو جده ، فإن ذا اليد يكفيه بينة السماع أنه اشتراه من كأبي القائم أو وهبه له أو تصدق به عليه أو أوصى به له ، وإنما تسمع بينة القائم ويحتاج الحائز إلى ردها ببينة السماع إذا كان له عذر من غيبة أو سفه ونحوهما ، وإلاَّ فمجرد الحيازة مدة من عشر سنين قاطع لبينته كما يأتي إن شاء الله ، ومفهوم بعد طول أنه لا يعمل بها مع عدمه وهو كذلك لأن الطول مظنة انقراض البينات ، فلذا اكتفى معه بالسماع وانظر ما يأتي عند قوله مع السلامة من ارتياب ، وظاهره أنه خاص بالتملك المذكور وهو خلاف ظاهر . ابن الحاجب : من شرطيته في جميع الإفراد وعليه قرره ابن عبد السلام وهو ما عول عليه الشارح فيما يأتي حيث قال : من شروطها تقادم العهد وطول الزمن . قال ابن رحال في حاشيته : هنا طول الزمان يشترط في جميع أفراد شهادة السماع إلا في ضرر الزوجين اه . . ويمكن تمشية المصنف عليه بجعل قوله : يقام فيه الخ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13