كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي

العامة : الحبس لا يحاز عليه إنما ذلك حيث لم يجز العمل بالمعاوضة فيه والبيع وإلاَّ فهو كغيره ما لم يكن الحائز معلوماً بالجاه والكلمة وإلاَّ فلا يعمل بحيازته كما يوجد من بعض أهل هذه البلدة أيضاً . وبالجملة ، فيجب التثبت في مثل هذا التثبت التام ، وقد عمت البلوى في هذه البلدة بكون الرجل يعاوض أو يستأجر ما خرب من الحبس أو قل نفعه وتمزق رسوم ما عاوض به ، ويأخذ رسم المعاوضة ولا يكتب على الحوالة بإزاء ما وقعت فيه المعاوضة أن ذلك المحل انتقل للرجل بالمعاوضة للاستخفاف بحقوق الناس والاتكال على رسم المعاوضة الذي بيد الرجل فيضيع رسم المعاوضة الذي بيده لطول العهد ونحو ذلك ، فيقوم ناظر الأحباس عليه أو على ورثته بما في دفتر الأحباس وحوالتها ، ويحتج عليه بأن المحل الذي بيده حبس ، وأن الحبس لا يجاز عليه فلا يجد الرجل ما يدفعه به فيأخد الناظر المحلين المحل الذي دفع الرجل له لتصرف الحبس فيه المدة الطويلة ، والمحل الذي أخذه بالاستحقاق من الرجل ، وهذا كثير وقوعه في هذه البلدة ، ولا تجدهم يكتبون المعاوضة أو الجزاء والاستئجار بإزاء ما في الحوالة إلا في النزر القليل . هذا كله لو كان ما قام به الناظر ثابتاً في الحوالة بعدلين مع ثبوت ملك المحبس والحيازة عنه وادعى الحائز معاوضته أو لم يدع شيئاً على ما مر بيانه ، أما إذا كان في الحوالة مجرد زمام فقط كما هو غالبها فإنه لا يقضي به بحال على المعمول به كما قال البرزلي فيما يوجد مكتوباً على ظهر الكتب أنها حبس ، أو على فخذ الفرس أنها حبس قال : لا يعمل بذلك على ما به العمل إلا إذا ثبت أصل تحبيسه بعدلين معروفين ، وثبت أن الأصل كان ملكاً للمحبس إلى أن حبسه وثبتت حيازته عنه ، ونظمه في العمل المطلق ولا فرق بين ما في الحوالة من أن المحل الفلاني حبس ، وبين ما يكتب من التحبيس على ظهر أوراق الكتاب أو فخذ الفرس ، إذ كل منهما لا يزيد على أن هذا المحل حبس فالكل محض زمام بغير شهادة وما في أحباس المعيار عن الشاطبي من أن زمام الأحباس يعمل به إذا لم يوجد ما هو أثبت منه لعله مقابل لما به العمل فلا يلتفت إليه أو يقال ذلك مع الشهرة كما في ( ح ) عند قوله : بحبست ووقفت الخ . وما رأينا أحداً اليوم يقضي بزمام الحوالة والقضاء به يفتقر إلى الإعذار فيه ولا اعذار في مجرد زمام كما مرَّ في فصل الإعذار ، وتقدم في شهادة السماع ما يؤيد هذا والله أعلم .
الثاني : الناظر على الوقف يقدم إصلاحه وعمارته إن كان عقاراً ونفقته إن كان حيواناً على المحبس عليهم ولو شرط الواقف عدم التبدئة بذلك لم يعمل بشرطه ابن عرفة : الحاصل أن نفقة الحبس من فائدة فإن عجز بيع وعوض من ثمنه ما هو من نوعه فإن عجز صرف ثمنه في مصرفه اه . ( ق ) . وكثيراً ما يتفق أن يترك الحبس بلا إصلاح والمحبس عليه يستغله هل يلزمه في ماله إصلاح ما وهى ؟ وفي ابن سهل : إن ترك الوكيل جنات المحجور وكرومه حتى تبورت ويبست فعليه قيمة ما نقص منها لتضييعه إياها اه . وناظر الأحباس كالوصي في ذلك كما مرّ عن البرزلي عند قوله : وكل ما يشترط المحبس الخ . . . وحبس الإمام والمؤذن إذا خرب فإنه يجب على الإمام والمؤذن أن يردا من غلته ما يصلح به كما في أحباس المعيار في ثلاثة مواضع . منها في أولها ووسطها وآخرها ، ولكن نص أبو الحسن في أجوبته على أن دار إمام المسجد تصلح من غلة الحبس إذا امتنع الإمام من أداء الكراء كما يعطي هو وسائر خدمة المسجد من غلة أحباسه مما يصرف عن غلة الحبس في الإصلاح على وزان ما يعطى من الغلة للإمام إجارة علىالإمامة اه . وهو الصواب انظر الدر النثير .
ولا تُبَتّ قِسْمَةٌ في حُبُسِ
وطالِبٌ قِسْمَةَ نَفْعٍ لَمْ يُسي
( ولا تبت ) بفتح الباء الموحدة وتشديد التاء الأخيرة مبنياً للمفعول ( قسمة في حبس ) أي إذا طلب المحبس عليهم المعينون قسمة الحبس قسمة بت فإنهم لا يجابون إلى ذلك ( و ) أما ( طالب قسمة نفع ) واستغلال فإنه يجاب لأنه ( لم يسي ) ء في طلبه لذلك ويجبر غيره عليه على المعمول به لما في بقائه على الإشاعة من التعطيل والضياع قاله في المتيطية . وهذا إذا كان الحبس دوراً أو أرضاً لا شجر فيها ، وأما الأشجار فلا تقسم قسمة الاستغلال كما في المقرب لما فيه من قسم ما لم يبد صلاحه ، وإنما يقسمون الغلة في أوانها ولو في رؤوس أشجارها بعد بدو صلاحها بشروطها المتقدمة في القسمة عند قوله : وقسم غير التمر خرصاً والعنب الخ . . .
فصل في الصدقة والهبة وما يتعلق بهماوحكمهما لذاتهما الندب . وعرف ابن عرفة العطية التي الهبة والصدقة من أنواعها بقوله : تمليك متمول بغير عوض إنشاء ، فخرج بقوله متمول منفعة كان أو رقبة تمليك الإنكاح كأن يقول : ملكتك تزوج ابنتي من زيد أو ممن أحببت ، أو تقول المرأة ذلك لوليها ، ويخرج به أيضاً تمليك الطلاق للزوجة أو لغيرها إذ الكل ليس بمتمول ، وخرج بغير عوض البيع ونحوه من المعاوضات ، وخرج بقوله إنشاء الحكم باستحقاق وارث إرثه لأنه لا إنشاء فيه ، وإنما هو تقرير لما ثبت وقيل : إن هذا خارج بتمليك لأن الإرث لا تمليك فيه من الموروث فلا حاجة لقوله إنشاء ويدخل فيها الهبة والصدقة والحبس والنحلة والعرية وهي هبة الثمرة ، والمنحة وهي هبة لبن الشاة ، والهدية وهي معروفة ، والإسكان وهو هبة منافع الدار مدة من الزمان كنسة ، والعمرى وهي تمليك المنفعة مدة عمره ، والعارية وهي تمليك منافع الدابة ونحوها بغير عوض ، فإن كان بعوض فهو إجارة ، والإرفاق وهو إعطاء منافع العقار كما يأتي ، والعدة وهي إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل والوفاء بها مطلوب غير لازم ، والإخدام إعطاء منفعة خادم غلاماً كانأو جارية ، والصلة وهي معروفة بين الأقارب ، والحباء بالكسر والمد العطاء الذي يعطيه الزوج لولي الزوجة عند العقد أو قبله ، فهذه كلها من أنواع العطية وكلها تفتقر لحيازة ما عدا النحلة كما مرّ في قوله : ونحلة ليس لها افتقار إلى حيازة الخ . . . ثم قال ابن عرفة : والهبة لا لثواب تمليك ذي منفعة لوجه المعطى بغير عوض ، والصدقة كذلك لوجه الله تعالى بدل لوجه المعطى فخرج بقوله : ذي منفعة العارية ونحوها ولوجه المعطى خرج به الصدقة لأنها لوجه الله تعالى ، وبقوله : لا لثواب هبة الثواب . وأحكام الهبة والصدقة سواء إلا في وجهين . أحدهما أن الهبة تعتصر دون الصدقة كما يأتي ، والثاني أن الهبة يجوز للواهب شراؤها وقبولها بهبة بخلاف الصدقة فإنه يكره فيها ذلك .
صَدَقَةٌ تَجوزُ إلا مَعْ مَرضْ
مَوْتٍ وبالدَّينِ المُحِيطِ تُعْتَرَضْ
( صدقة ) وتقدم تعريفها ( تجوز ) أي تصح وتلزم بالقول ، أو يقال المراد بالجواز الإذن الشامل للندب إذ هي مندوب إليها كما مر ، وظاهره وإن كان المتصدق به مجهولاً عند المتصدق وهو كذلك ولو خالف ظنه بكثير ( خ ) : وصحت في كل مملوك ينقل وإن كلباً ومجهولاً ، ولابن القاسم في العتبية أن الجهل إن خالف الظن فله نقضها ، وبه أفتى ابن هلال حسبما في العلمي وهو ضعيف . انظر الشامل وشرحه ( إلا ) إن تصدق ( مع ) تلبسه ب ( مرض موت ) فإنها تكون وصية منها ما حمله الثلث إن كانت لغير وارث وإلا توقفت على إجازة الورثة فإن أجازوها فهي ابتداء عطية تفتقر للحوز ، ومفهومه أنه إذا لم يمت من ذلك المرض بل صح صحة بينة ثم مات فإن الصدقة تصح وتنفذ إن حيزت كانت على وارث أو غيره ، ومراده بمرض الموت المرض المخوف الذي حكم أهل الطب بكثرة الموت به ، وقد تقدم بيانه في الخلع . وأما غير المخوف كالأمراض المزمنة المتطاولة كالفالج وحمى الربع والجرب والسعال المزمن ، فحكمه في ذلك كله كالصحيح ، فإذا حيزت عنه في ذلك الوقت فإنها تصح لوارث وغيره بل المخوف فيه تفصيل فقد قال الرجراجي في مناهجه : والمرض المخوف المتطاول كالسل إذا طلقها فيه وأعقبه الموت قبل المطاولة فإنها ترثه على مذهب المدونة ، ففهم منه أنه إذا لم يعقبه الموت إلا بعد المطاولة فإنها لا ترثه ، والهبة كذلك فالخوف إن أعقبه الموت بالقرب بطلب وإلاَّ صحت نقله الملوي . وأما غير المخوف فمهما شهدوا بأن مرضه وقت الهبة كان غير مخوف وأنه مات بمرض حدث بعدها فهي صحيحة للوارث وغيره إن حازها هذا الحادث وما تقدم عن الرجراجي نحوه قول ابن لب فيفتواه إذا كان الواهب ملتزماً للفراش واتصل حاله كذلك إلى أن توفي بعد ذلك بالأشهر اليسيرة فهبته لورثته باطلة الخ . فمفهوم قوله : بالأشهر اليسيرة أنه مات بعد طول فالهبة صحيحة بشرطها الحوز والمرض الملزم للفراش وهو المخوف لأنه لا يتصرف معه ، ولما قال في المدونة : من حبس في مرضه قال أبو الحسن : مراده المرض المخوف ، وأما غيره فحكمه الصحيح ، ونحوه في المتيطية قائلاً : إذا مرض الأب مرضاً متطاولاً فهو كالصحيح ويصح للابن قبض الحبس في ذلك الحال اه . وبالجملة ؛ فظاهر كلام الرجراجي وفتوى ابن لب وغيرهما أن المخوف المتطاول فيه التفصيل بين القرب والبعد ، وأما غير المخوف فحكمه حكم الصحيح والمدار فيه على كونه غير مخوف ، وأما الشهادة فإنه مات بمرض حدث بعده فلا يحتاج إليها على المذهب ، إلا على قول ابن عرفة الذي يقول : إن غير المخوف إذا أعقبه الموت يصير مخوفاً ، واعتمده ابن رحال في شرحه وهو مردود بأن المرض الخفيف لا يحصل منه الموت إلا بزيادته وبها صار مخوفاً فهو كمرض طرأ . وقد تقدم نحو هذا في باب الخلع ، وفهم مما مر أنها لا تقبل فيه إلا شهادة الأطباء العارفين بالمخوف ومن غيره ، ولا تقبل فيه شهادة غيرهم كما تقدم في قوله : ثم العيوب كلها لا تعتبر الخ . . .
تنبيه : لو كانت الصدقة على مجهولين محصورين مما يتوقع انقطاعهم كقوله : تصدقت على ولد فلان أو فلان وولده ، فقيل عن مالك وغيره أنها حبس مؤبد ترجع الأحباس قاله البرزلي ، وهي كثيرة الوقوع ، وفي المتيطية : ولا يصلح أن يشترط المتصدق في صدقته إذا مات المتصدق عليه أن ترجع الصدقة إلى غيره من الأقارب أو الأجانب ، فإن وقع ذلك نفذ ومضى كشرط اعتصارها وليس للمتصدق عليه بيعها إلا أن يموت الذي اشترط رجوعها إليه في حياة المتصدق عليه ، فيكون له ذلك انتهى ، وانظر ما يأتي في الوصية عند قوله : وصححت لولد الأولاد الخ .
( وبالدين المحيط تعترض ) وتبطل ولو بحدوثه فيما بين الهبة والحوز لأن حدوثه قبل الحوز مانع منه وكذا الحبس . ( خ ) : وبطلت إن تأخر لدين محيط أي وللغرماء إجازة ذلك ورده ، وإن كان الموهوب عبداً أو داراً مثلاً وزادت قيمته على الدين فإنه يباع والفضلة للواهب كما في الشامل وغيره . والحاصل أن الدين المستغرق إذا تحقق سبقه على العطية بطلت ، وإن تحقق سبق العطية له صحت إن حيزت قبل الدين أو جهل الحال هل تقدمت حيازتها عليه أو تأخرت كانت لصغير أو غيره ؟ وإن جهل السابق هل العطية أو الدين فإن حازها كبير أو أجنبي لصغير صحت وإن حازها له أبوه بطلت .
ولا رُجُوعَ بَعْدُ للمصدِّق
وَمِلْكُهَا بغيرِ إرْثٍ اتُّقي
( ولا رجوع بعد ) أي بعد تبتيلها لا رجوع فيها ولا اعتصار ولو قبل حيازتها ( للمصدق )بإدغام التاء في الصاد لأن الصدقة لا تعتصر وهي لازمة بالقول على المشهور ويجبر على الحوز كما يأتي ، وكذا الهبة والحبس . وعن مالك أنها لا تلزم بالقول وله الرجوع فيها ما لم تقبض وهو مذهب الشافعي ، وتقدم في الحبس أنه لا يبطل بتأخير القول ولو سنين ، وأحرى بتأخير الحوز حيث لم يحصل مانع من موت أو إحاطة دين ، وتقدم في الرهن أنه لا يشترط التحويز فيها بخلاف الرهن . ( وملكها ) أي الصدقة ( بغير إرث ) من شراء أو قبولها بهبة ونحوها ( اتقي ) ( خ ) : وكره تمليك صدقة بغير ميراث ولا يرقبها أو يأكل غلتها وينفق على أب افتقر منها ، وقيل يحرم التملك المذكور لخبر : ( العائد في صدقته كالكلب العائد في قيئه ) ومفهوم الصدقة أن الهبة لا يكره فيها ذلك كما مرّ أول الباب ، ومفهوم بغير إرث أن التمليك بإرث لا كراهة فيه لأنه جبري .
كَذَاكَ ما وُهِبَ لِلأَيْتَامِ
والفُقراءِ وأُولِي الأرْحَامِ
( كذاك ) لا رجوع في ( ما وهب للأيتام والفقراء وأولي الأرحام ) من عمة وخالة وابنة أخ وخال ونحو ذلك لأن الهبة في ذلك كله في معنى الصدقة فيكره تملكها بغير إرث ولا يصح اعتصارها كما يأتي في قوله :
وفقر موهوب له ما كانا
المنع لاعتصاره قد بانا
وسيأتي أيضاً في قوله : والأم ما حيي أب تعتصر الخ .
والأبُ حَوْزُهُ لما تُصُدِّقَا
بِهِ عَلَى مَحْجُورِهِ لَنْ يُتَّقَى
( والأب ) لو عبر بالولي ليشمل الوصي والمقدم ( حوزه لما تصدقا به ) أو وهبه ( على محجوره ) ولو بالغاً سفيهاً ذكراً كان أو أنثى ، ولو تزوجت الأنثى والذكر ( لن يتقى ) بل يجوز ويصح ما داما سفيهين ولا يحتاج إلى الإشهاد ، بأنه يحوز له بل يكفيه الإشهاد بالهبة والصدقة ، ويحمل على أنه يحوز له إلا أن تكون دار سكناه فلا بد من معاينة إخلائها كما مر قبل قوله : ونافذ تحبيس ما قد سكنه الخ . . . فإن بلغ المحجور رشيداً أو رشد السفيه ولم يحز حتى مات المتصدق بطلب كما مر في المحل المذكور أيضاً .ولِلْمُعَيِّنِينَ بالحَوْزِ تَصِحْ
وجَبرُه مهْما أباهُ مُتَّضِحْ
( و ) الصدقة أو الهبة ( للمعينين ) كزيد وعمرو وبكر أو فلان وعقبه ( بالحوز ) متعلق بقوله : ( تصح وجبره ) أي المتصدق وكذا الواهب على الحوز ( مهما أياه متضح ) بيِّن للزومها بالقول كما مر ( خ ) : وحيز وإن بلا إذن وأجبر عليه ، وقد مر ذلك عند قوله : والحوز شرط صحة التحبيس الخ . . . وظاهره أنه يجبر ولو تصدق بجميع ماله وهو كذلك لقصده القربة ويترك له ما يترك للمفلس ، وكذا يجبر لو قال : إن فعلت كذا فعبدي فلان أو عبدي ولا عبد له سواه حر ، وحنث بخلاف ما لو قال : التزمت أن أعتق عبدي فلاناً الآن أو بعد شهر فإنه لا يجبر بالقضاء عليه ، وظاهر النظم أيضاً كغيره أنها تصح بالحوز ، ولو كان المتصدق أو الواهب غائباً لا يدرى حاله من موت أو فلس لأنه على الحياة والصحة ، وهو اختيار ابن حبيب وقول ابن الماجشون كما في الفصل الرابع في تقسيم المدعى لهم من القسم الثاني من الكتاب الأول من التبصرة ، وبه أفتى سيدي عمر الفاسي قائلاً : يكتفي في رجحانه اختيار ابن حبيب له ، ووافقه على ذلك قاضي مكناسة الزيتون قائلاً : وهو الجاري على مذهب مالك في الحكم على الغائب ، وتبعهما على ذلك غيرهما من المعاصرين مع علمهم باقتصار ابن سلمون على خلافه قاله أبو العباس الملوي رحمه الله .
وفي سِوى المعَيَّنينَ يُؤْمَرُ
بالحوْزِ والخلْفُ أَتَى هل يُجْبَرُ
( و ) الصدقة والهبة والحبس ( في سوى ) أي غير ( المعينين ) كالمرضى والفقراء وطلبة العلم ونحو ذلك مما ليس بمعين ( يؤمر ) المتصدق والواهب والمحبس ( بالحوز ) ودفعها للمتصدق والمحبس عليه والموهوب له ( والخلف أتى هل يجبر ) إن أبى من دفعها أو لا يجبر لكون الطالب غير معين وهو المعتمد ، ومثله إذا تصدق أو وهب أو حبس بيمين ولو لمعين كقوله : إن فعلت كذا فداري صدقة أو حبس على الفقراء أو على زيد ، أو قال : والله إن فعلت كذا لأتصدقن على الفقراء أو على زيد ، أو إن فعلت كذا فعلي نذر ، أو قال لزوجته : إن تزوجت عليك فلك ألف درهم ، أو إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة ولم يعينها فإنه لا يجبر على شيء من ذلك على المعتمد ، ولو خالف وفعل المحلوف عليه لأنه لم يقصد القربة ، وإنما قصد اللجاج والحرج كما لابن رشد ، وإليه أشار ( خ ) بقوله : وإن قال : داري صدقة بيمين مطلقاً أو بغيرها ولم يعين لم يقضعليه ، وإن قال : داري صدقة أو حبس على مسجد معين فهل يجبر نظراً لتعيين المسجد فهو كمن تصدق على رجل بعينه أو لا يجبر نظراً للمصلين ؟ فيه وهم غير معينين وعليه الأكثر ، وبه الحكم وعليه العمل كما في ابن ناجي قولان .
والجَبْرُ مَحتُومٌ بذِي تعَيُّنِ
لِصِنْفِهِمْ مِنْ جِهَةِ المُعَيَّنِ
( و ) لو تصدق بداره على زيد المعين ثم بعده على الفقراء مثلاً ثم مات زيد قبل حوزها وأحرى بعده وطلبها غير المعين ب ( الجبر ) على دفعها للفقراء وتحويزها لهم ( محتوم ) مقضى به وإنما قضى به مع كونهم غير معينين لأنه لما وجب القضاء ( ب ) سبب كونها أو لا على ( ذي تعين ) وهو زيد وجب القضاء أيضاً لهم تبعاً فقوله ( لصنفهم ) متعلق بالجبر وضميره لغير المعينين أي : فالجبر لصنف غير المعينين محتم واجب بسبب وقوعها أو لا على معين وانتقالها إليهم ( من جهة ) ذلك ( المعين ) قاله ابن الحاج وغيره .
ولِلأَبِ التَّقْدِيمُ للكَبِيرِ
لِقَبْضِ ما يَخْتَصُّ بالصَّغيرِ
( وللأب ) أو الوصي والمقدم فيما إذا وهبوا للكبير والصغير ( التقديم للكبير ) ولو سفيهاً أو لأجنبي ( لقبض ما يختص بالصغير ) فإن لم يقدموا أحداً لحوز ما يجب للصغير وحاز الكبير حصته فقط ، أو لم يحز شيئاً حتى مات الواهب بطلت عند ابن القاسم وبه العمل كما مرَّ عند قوله :
والأب لا يقبض للصغير مع
كبيره والحبس إرث إن وقع
وقيل : يصح نصيب الصغير في الهبة والصدقة خاصة لأن الأب يحوز له بخلاف الحبس لأنه لا ينقسم ، وقولي : وحاز الكبير حصته فقط احترازاً مما إذا حاز حصته وحصة الصغير بغير تقديم فإنها تصح كما تقدم عن المجاصي عند قوله : والأخ للصغير حوزه وجب الخ . . . وهذا أيضاً إذا لم يحز الصغير حصته مع الكبير والأصح أيضاً لقوله : ونافذ ما حازه الصغير الخ . .
وحوزُ حاضِرٍ لِغَائِبٍ إذا
كانا شَرِيكيْنِ بِهَا قَدْ أُنفِذا
( وحوز حاضر لغائب إذا كانا شريكين بها ) أي فيها أي في الصدقة والهبة ، ومثلهما الحبس بأن تصدق أو حبس عليهما معاً وحازها الحاضر ( قد أنفذا ) حوزه وصح لهما ، وظاهره وإن لم يوكله بل وإن لم يعلم الغائب بالهبة كما في المقرب عن ابن القاسم ، وقال في الشامل : وهليكفي حوز غيره له بغير إذنه كزوج حاز لزوجته هبة أبيها أو لا يكفي إلا بوكالتها ؟ قولان اه . وأصله في التوضيح ، وعزى الأول لمطرف والثاني لأصبغ ، ورواية ابن القاسم عن مالك وهو يقتضي رجحان الثاني لأن الأول وإن كان لمطرف وابن القاسم ، لكن روايته عن الإمام تقدم عليه وهو ظاهر حيث أمكنه الحوز بنفسه أو التوكيل عليه ، فإن لم يفعل وحاز شريكه الجميع وحصل المانع فإن حصة الحائز تصح دون غيره لتفريطه ، وتقدمت الإشارة إليه عند قوله : وينفذ التحبيس في جميع ما . الخ . . . وبهذا يفترق حوز الكبير حصة الصغير فإنه يصح الجميع دون الكبير يحوز حصة غيره بغير وكالة فإنه لا يصح لقدرته على التوكيل أو الحوز بنفسه فلم يفعل والله أعلم .
وما عَلَى البَتِّ لِشَخْصٍ عُيِّنا
فَهْو له ومَنْ تَعدَّى ضَمِنا
( وما ) موصول مبتدأ واقعة على الصدقة ( على البت لشخص ) يتعلقان بقوله ( عينا ) والمعنى أن ما عزله الشخص من ماله صدقة على مسكين سماه بلسانه أو نواه بقلبه ، فإن بتله وأمضاه له بقول أو نية حازماً بذلك غير مترو فيه ( فهو له ) أي لذلك المسكين ( ومن تعدى ) من متصدق أو نائب عنه وأعطاه لغيره ( ضمنا ) ذلك للمبتل له حيث لم تكن قائمة بيد المعطى له ثانياً ، وإلا ردت للأول كما في الشامل ، وما ذكره الناظم به أفتى ابن رشد في نوازله ونقله ابن سلمون وغيره ، والضمان ظاهر فيما إذا أعطاه نائب المتصدق بغير إذن المتصدق ، وأما إن أعطاه هو أو نائبه بإذنه فإنما يتمشى على أحد قولي ابن القاسم فيمن وهب لثان وحاز إنها تكون للأول لأن الهبة تلزم بالقول فلم يهب الواهب للثاني إلا ما ملك غيره . قالوا : وهو القياس . أما على قوله الآخر وهو المعتمد من أنها تكون للثاني كما قال ( خ ) : أو وهب لثان وحاز فإنه لا ضمان ، وقال في الشامل : وقضى بها لثان حازها قبل الأول لا لأول على الأصح ، ولا فرق بين أن يفرط الأول في حوزها أم لا مضى له زمان يمكنه في الحوز ولم يحز أم لا .
وغيْرُ ما يُبَتُّ إذْ يُعَيَّنُ
رجُوعُهُ لِلْمِلْكِ لَيْسَ يُحْسُنُ
( وغير ما يبت ) بالبناء للمفعول ( إذ ) ظرف ( يعين ) في محل جر بإضافة إذ والتقدير : وغير المبتل للمسكين وقت تعينه أي لم يبتل له بقول ولا نية ، فالمسكين معين في هذه وفي التي قبلها ، وإنما اختلفا في التبتيل وعدمه ففي التبتيل يضمن على ما قال الناظم إن أعطاه للغير ، وفي عدمه لا ضمان عليه ولكن ( رجوعه ) في عدم التبتيل ( للملك ) أي لملك المتصدق ( ليس يحسن ) أي يكره وكذا يكره أن يعطيه للغير كراهة تنزيه فيهما .
وَلْلأَبِ القَبْضُ لما قَدْ وَهَبَا
ولدَهُ الصَّغيرَ شَرْعاً وجَبَا
( وللأب ) يتعلق بوجب آخر البيت ( القبض ) مبتدأ ( لما وقد وهبا ) يتعلق به ( ولده ) مفعولبوهب ( الصغير ) نعت له ( شرعاً ) منصوب على إسقاط الخافض ( وجبا ) خبره ، والتقدير : والقبض للصدقة التي وهبها لولده الصغير واجب للأب بالشرع ، والضمير في قوله : ولده حينئذ عائد على متأخر معنى لا لفظاً والمضر هو عوده على متأخر لفظاً ومعنى ، وهذا البيت مستغنى عنه بقوله : والأب حوزه لما تصدقا . الخ . . . وإنما أعاده ليرتب عليه قوله :
إلاّ الَّذِي يَهَبُ مِنَ نَقْدَيْهِ
فَشَرْطُهُ الخروجُ مِنْ يَدَيْهِ
( إلا الذي يهب ) الحاجر أباً أو غيره لمحجوره ( من نقديه ) الذهب والفضة ومثلهما كل ما لا يعرف بعينه من المثليات من مكيل أو موزون أو معدود ( فشرطه ) أي شرط صحته ( الخروج من يديه ) ويدفعه .
إلى أمِينٍ وعن الأَمِينِ
يُغْنِي اشْتِرَاءُ هَبْه بَعْدِ حِينِ
( إلى أمين ) بحوزه بمعاينة البينة ولا يكفي بغير المعاينة ولا حوز الحاجر لمحجوره في شيء من ذلك ، ولو ختم عليه بخلاف العروض والأصول فيكفي وهو ما قبل الاستثناء ( خ ) : إلا ما لا يعرف بعينه ولو ختم . قال في المتيطية : ومن تصدق على ولده الصغير في صحته بدنانير أو دراهم فليدفعها بعده لمن يحوزها عنه بمعاينة بينة . قال ابن زرب : فإن لم تعاين البينة الحوز فهي باطلة ، وإن جعلها الأب في صرة وختم عليها بمحضر بينة وحازها له فوجدت بعد موته على حالها فلا يجوز ذلك على رواية ابن القاسم عن مالك ، وبه الحكم وعليه العمل ثم قال : وحكم الطعام وما لا يعرف بعينه حكم العين اه . ابن عرفة : وفي السماع لو تصدق على ابنه بعبد موصوف في ذمة رجل صح . قبضه الأب أو لم يقبضه ولو تصدق عليه بدنانير في ذمة رجل ومات الأب وهي في ذمة الرجل صحت لأنها قد حيزت بكونها على الغريم ، وكذا لو تصدق عليه بدنانير ووضعها على يد غيره ، ثم أخذها منه لسفره أو بعد موته لأنها قد حيزت كالدار يحوزها عنه السنتين والسنة ثم يسكنها ويموت فيها فصدقته ماضية اه .
تنبيه : قال ابن رشد فيمن وهب لابنته الصغيرة ما في داخل تابوته المقفول عليه وأشهد على ذلك عدولاً دون أن يعاينوا ما فيه ثم مات ويوجد فيه الحلى والثياب : أنه لا شيء لها منذلك إلا أن يكون دفع مفاتيح القفل إلى الشهود عند الإشهاد وعاينوه مقفولاً عليه ويوجد بعد موت الواهب على ذلك فيصح حينئذ للابنة ما وجد داخله اه . انظر شرحنا للشامل ففيه زيادة فوائد .
( وعن الأمين يغني اشتراء هبه ) أي الاشتراء وقع ( بعد حين ) من هبة العين ونحوها يعني أن محل دفع العين الموهوبة ونحوها للأمين إذا لم يقع بها اشتراء ، وأما إذا اشترى الأب ونحوه ملكاً لمحجوره بمال زعم أنه من مال ولده ، وأنه لا يعلم للابن مال فإن ذلك صحيح للابن ، ولو كان الأب يعتمده لنفسه حتى مات على الصحيح المعمول به لأنه من باب الإقرار بالثمن في الصحة التي لا تلحقه في تهمة ولا توبيخ قاله في الاستغناء . وكذا لو اشترى داراً مثلاً وأشهد أنه اشتراها لابنه ، ولم يذكر أن ذلك من مال الابن فإن ذلك صحيح أيضاً ، ويحمل على أنه اشتراها له بمال وهبه إياه ، ولا يحتاج إلى أن يحوزه له لأنه بنفس الشراء كان ملكاً للابن فلم يتقرر للأب عليه ملك حتى يحتاج للحوز والثمن قد حيز بنفس الشراء قاله في المقصد المحمود وغيره . وإذا كان هذا في الصغير فأحرى الرشيد كما يدل له التعليل ، وهذا إذا اشترى له ملك غيره ، وأما إن وهب له ناضاً أو ما لا يعرف بعينه ثم باع منه ملكاً لنفسه ، فإنه إذا لم يكن بين البيع والهبة فسحة كالسنة ونحوها فإن ذلك باطل لأنه لما قرب اتهم أنه أراد هبة الأصل وجعل الناض جنة لسقوط الحيازة ، وإن كان بين البيع والهبة فسحة وأخرج الناض ونحوه من يده لمن يحوزه سنة ثم باع منه ملكاً فإنه يصح لانتفاء التهمة قاله في واسطة الدرر ، ونحوه في المقصد المحمود والورقة السابعة والعشرين من معاوضات المعيار .
وإن يَكُنْ موضِعَ سُكْنَاهُ يَهَبْ
فَإنّ الإِخلاء لهُ حُكْمٌ وَجَبْ
( وإن يكن ) الأب ونحوه ( موضع سكناه يهب ) لمحجوره ولو بالغاً وعبداً ( فإن الإخلاء له ) أي لموضع سكناه ( حكم وجب ) لا بد منه ، وظاهره أنه محمول على أنه كان يسكنها لنفسه حتى يثبت إخلاؤه لها وأنه لم يكن قبل وفاته يسكنها لا يشغلها بأمتعته ، وهو كذلك بخلاف غير دار السكنى فإنه محمول على أنه كان يستغلها لصغار بنيه قاله ابن رشد ، ونقله البرزلي وغيره ، وتقدم قول الناظم في الحبس :
ومن يحبس دار سكناه فلا
يصح إلا أن يعاين الخلا
راجع ما تقدم هناك ( خ ) عاطفاً على ما لا يصح قبضه لمحجوره ما نصه : ودار سكناه إلا أن يسكن أقلها ويكرى له الأكثر وإن سكن النصف بطل فقط ، والأكثر بطل الجميع الخ . وهذا في الصغار . وأما الكبار الرشداء فيصح لهم ما حازوه ولو قل ، وهذا في دار السكنى ، وأماغيرها من العقار والعروض على محاجيره فيكفيه الإشهاد كما مرَّ ولكن لا بد من إخلائه من شواغله أيضاً فإن ثبت بالبينة أنه لم يخله من شواغله فيكون بمنزلة من رجع إليه قبل عام فيجري على ما تقدم في الحبس ، وراجع ما مر عند قوله فيجب النص على الثمار الخ . . . وظاهر النظم كغيره أنه لا بد من معاينة الإخلاء ولو تصدق بما فيها من الأمتعة والأثاث وهو كذلك خلافاً لابن الطلاع في إجازته ذلك قائلاً لأنه بسكناه فيها حينئذ صار كالقابض لابنه . ولما ذكر ابن عرفة في كتاب الهبة ما أجازه ابن الطلاع قال ما نصه : ظاهر الروايات بطلان الصدقة لأنه قادر على أن يخرج ما في الدار لينظر فيه .
تنبيهان . الأول : تقدم في الحبس أن صرف المحبس الغلة لنفسه يبطلها ، وكذلك الهبة والصدقة لأنها من باب واحد كما للفاسي في نوازله ، ونقلنا على ذلك أنقالاً في الحبس والهبة من الشامل ، ورجح الشيخ الرهوني أن صرف الأب الغلة في مصالح نفسه لا يبطلها ، ونقل على ذلك أنقالاً وهي كلها حجة عليه لمن تأملها من ذلك ما نقله عن ابن لب من أنه إذا صرف الغلة لنفسه فالمشهور بطلانها والصحيح صحتها اه . فقال : أعني الرهوني عقبه ، وقد علمت أن مقابل الصحيح فاسد فيكون المشهور فاسداً على قوله . وقد تقدم عن ابن فرحون عند قول الناظم أول الكتاب : مع كونه الحديث للفقه جمع الخ . . . ما يرد احتجاجه ، وأيضاً فهو حينئذ يحتج على الشخص بمذهب مثله وهو لا يقوله أحد ، وإنما مراد ابن لب أن الصحيح من جهة المعنى فهو كقول ابن العطار وغيره لولا اجتماع الشيوخ على بطلانها بصرف الغلة لنفسه لكان القياس أن لا يكون تعدي الأب على الغلة نقضاً للحبس ، لكن جرت الفتيا وعمل القضاة ببطلانه ورأوا أنه كسكنى الدار ولبس الثياب التي حبس اه . ونقله في المتيطية وغيرها وقال في هبات المعيار : إن صرف الواهب الغلة لنفسه فإن ذلك يمنع الحوز الحكمي ويأباه على المشهور المعمول به اه . ومنها بحثه في كون الغلة يثبت صرفها لنفسه بإقرار الواهب أو المحبس مع أنه نقله عن أبي الحسن وسلمه في الدر النثير وغيره . وبالجملة ، فإن أبحاثه لا تسلم وعلى تسليمها فإنها لا تدفع الفقه ، وانظر قول ابن العطار وغيره : لولا اجتماع الشيوخ الخ . . . فلم يعتمدوا في ذلك أبحاثهم ولا قياساتهم . ومنها قوله : وما أدري ما مستند المتيطي ومن تبعه في تشهير البطلان بصرف الغلة لنفسه الخ . . . فإنه لو لم يكن للمتيطي مستند إلا قول ابن العطار وغيره : لولا اجتماع الشيوخ الخ . . . لكان كافياً في مستنده ، فكيف وقد قاله غير واحد ممن لا يحصى وأما ما نقله عن القلشاني من أن ابن عرفة أفتى بصحة الحبس مع صرف المحبس الغلة لنفسه فذلك اختيار منه لمقابل المشهور المعمول به فلا يتابع عليه ، وإن ثبت عنه ولا تكون فتواه حجة على المشهور المعمول به لما مر من أن مذهب الشخص ومختاره لا يكون حجة على غيره ، والناس كلهم يقولون : احكم علينا بالمشهور أو المعمول به ، وتقدم أول الكتاب أن الحكم بخلاف ذلك ينقض كما قاله ابن عرفة وغيره ، ففتوى ابن عرفة المتقدمة : لو حكم حاكم بها لوجب نقض حكمه ، وهكذا شأن هذا الشيخ رحمة الله يعتمد في كثير من اعتراضاته على أبحاثه التي تظهر له وكثيرها لا يسلم وعلى تسليمها لا تدفع الفقه لقول ( ح ) وغيره المعتمد في كل نازلة على ما هو المنصوص فيها ، ولا يعتمد على القياس والتخريج والله أعلم .الثاني : إذا وهب لمحجوره دوراً متعددة صفقة واحدة فإن حكم ذلك حكم الدار الواحدة ، فإن سكن واحدة منها وهي الأقل وأكرى الباقي له صح الجميع ، وإن سكن الأكثر بطل الجميع ، وإن سكن النصف بطل ما سكن ، فإن كان ذلك في عقود متعددة فإنما يبطل من ذلك ما سكن كان الأقل أو الأكثر ، وكذلك لو كانت أشياء مختلفة من دور وأجنات وفدادين ، فما كان في صفقة واحدة يجري على تفصيله ، وما كان في صفقات فإنه يبطل ما عمره فقط كما لأبي الحسن . قال ابن القاسم : فإن تصديق على رشيد بدور متعددة أو دار واحدة ، فإن سكن الأب كثيراً بطل ما سكن فقط وصح ما حيز عنه قلَّ أو كثر ، وإن سكن الأب قليلاً صح الجميع . أبو الحسن : ظاهره أن الرشيد إذا حاز اليسير صح ذلك له بلا خلاف ، وظاهر عياض وجود الخلاف فيه .
ومَنْ يَصِحُّ قَبْضُهُ وما قَبَضْ
مُعْطاهُ مُطْلَقاً لتفْرِيطٍ عَرَضْ
( ومن يصح قبضه ) للهبة ونحوها وهو الكبير الرشيد قريباً كان أجنبياً ( وما قبض معطاه مطلقاً ) كان المعطي أصلاً أو غيره وكان تركه للقبض ( لتفريط ) منه ( عرض ) له .
يَبْطُلُ حَقُّهُ بِلا خِلاَفٍ
إن فَاتَهُ في ذلك التّلاَفِي
( يبطل حقه بلا خلاف إن فاته في ذلك التلافي ) بأن مات المعطي أو فلس أو أحاط به الدين أو استهلك الهبة أو وهبها لثان وحازها الثاني على ما مرّ قريباً عن ( خ ) وكذا لو فرط حتى باعها الواهب بعد علمه بها ، ولكن يكون له الثمن على الراجح من إحدى الروايتين فإن لم يعلم أو علم ولم يفرط في حيازتها فهو بالخيار في نقض البيع أو إمضائه وأخذ الثمن ، وهو محمول عند الجهل على التفريط حتى يثبت عدم تفريطه كما في ابن عرفة عن ابن حارث ، ومحل الخيار إذا كان الواهب حياً ، وأما إن مات فلا شيء للموهوب له بيعت أو لم تبع كما في المدونة ، وبه العمل كما في ابن سلمون والمفيد . وسئل ابن القاسم عمن قال : ثلث غنمي هذه صدقة على ابني وثلثها في السبيل ثم باعها ومات وابنه صغير ؟ فقال : صدقة الابن ثابتة يأخذها من تركته لأنه الحائز له ولا شيء لأهل السبيل لأنه لم يخرجه من يده اه . وظاهره أن بيعها لا يكون اعتصاراً وهو كذلك كما يأتي في فصله ، وانظر شرح الشامل فيما إذا وهبه ثم رهنه فإن الهبة تصح ويبطل الرهن إلا أن يموت قبل أن يحوزها الموهوب له فتبطل الهبة علم بها أو لم يعلم ، ومفهوم التفريط أنه إذا لم يفرط كاشتغاله بتزكية شهود الهبة أو إقامة ثان لم تبطل . ( خ ) : وصح إن قبض ليتروى أوجد فيه أو في تزكية شاهده الخ . وليس من عدم التفريط موت الواهب قبلعلم الموهوب بل الهبة باطلة على المشهور كما لابن رشد خلافاً لما صححه في الشامل ، وأما إن مات الموهوب قبل علمه والواهب حي لم يقم به مانع ، فإن الهبة صحيحة ويتنزل وارثه منزلته إلا أن يكون الواهب قصد عين الموهوب له فلا شيء لورثته حينئذ ، وكذا لو مات الموهوب له بعد علمه وقبل الحيازة فإن ورثته يحوزونها كما تقدم لابن رشد . وتقدم أول باب الحبس أن القبول لا تشترط فوريته .
تنبيهات . الأول : إذا وهب شخص أرضاً أو داراً واستثنى غلة ذلك سنين إلا أنه حوزه الرقبة ثم مات الواهب ، فإن الهبة لا تبطل على ما به العمل ونظمه في العمل المطلق ، وانظر ما تقدم عند قوله :
ويجب النص على الثمار
حيث يكون الحبس للصغار
وتقدمت كيفية الحوز في الحبس .
الثاني : من الهبات الباطلة هبات بنات القبائل والأخوات لقرابتهن كما في نظم العمل وشرحه ونوازل العلمي والمعيار والدر النثير ، وقد أجبت على ذلك بجواب طويل أثبته في نوازل الحجر من نوازلنا فعليك به ، ومن الهبة الباطلة أيضاً هبات الهرم من الرجال والنساء كما في العلمي وغيره ، والقول قولهما إنهما وهبا ليقوم الموهوب له بنفقتهما ومؤنتهما فيكون من أفراد قول ( خ ) : وكبيعه بالنفقة عليه حياته ، ومعلوم أن الإنسان مصدق في الوجه الذي أخرج به ماله عن ملكه كما قال أيضاً : والقول له إنه لم ينفق حسبة وقال : إلا أن تهبه على دوام العشرة ، وأما الجهل بقدر الموهوب فلا يبطلها كما مر أول الباب .
الثالث : قال ابن رشد : إن تصدق على ابنه الصغير بدار سكناه ثم باعها قبل أن يرحل منها فإن الثمن يكون للابن ، وإن مات الأب في الدار لأنها للمتشري لا لابنه إلا أن يكون باعها لنفسه استرجاعاً للصدقة فلم يعثر على ذلك حتى مات فإن الصدقة تبطل ، ولو عثر على ذلك في حياته وصحته لفسخ البيع وردت الدار لولده ، ولو باعها بعد أن رحل منها وحازها لابنه لجاز البيع على الابن وكان له الثمن من مال أبيه حياً كان أو ميتاً ، وإن لم ينص على أنه باع لابنه إلا أن يبيع نصاً استرجاعاً لصدقته فبيعه مردود إلى الولد حياً كان أو ميتاً والثمن للمشتري في مال الأب بخلاف ما لو حبسها ثم باعها قبل أن يرحل منها ولم يعثر على ذلك حتى مرض أو مات ، ولو عثر على ذلك في صحته لفسخ البيع وصح الحبس بالحيازة اه . بنقل البرزلي قائلاً انظره في رسم أوصى .
فصل في الاعتصار
ابن عرفة : هو ارتجاع المعطي في عطيته دون عوض بلا طوع المعطى أخرج به هبة المعطى بالفتح للمعطي بالكسر وصيغته ما دل عليه لفظاً كان بمادة الاعتصار أو الرجوع أو الرد أو غير ذلك ، وهو يصح في الهبة والعطية والعمرى والنحلة كما في المدونة قال فيها : وأما الحبس فإن كان بمعنى الصدقة لم يعتصر ، وإن كان في معنى الهبة بكونه سكنى أو عمرى إلى شهر أو شهرين ثم مرجعها إليه فإنه يعتصر .
الاعْتِصَارُ جَازَ فيما يَهَبُ
أَوْلاَدَهُ قَصْداً لِمَحَبَّةِ الأبُ
( الاعتصار ) مبتدأ خبره ( جاز فيما يهب أولاده ) مفعول به ( قصداً لمحبة ) مفعول لأجله ( الأب ) فاعل يهب ، وظاهره كان الأولاد كباراً أو صغاراً وهو كذلك ، واحترز بقصد المحبة مما إذا كانت الهبة لله والدار الآخرة أو كانت هبة ثواب فإنه لا اعتصار في ذلك ، واحترز بالأب من جد وجدة وعم وأجنبي فإنه لا اعتصار لهم إلا أن يشترطوه عند الهبة .
والأمُّ ما حَيُّ أبٌ تَعْتصِرُ
وَحَيْثُ جَازَ الاعْتِصَارُ يُذْكَرُ
( والأم ما حيي أب تعتصر ) أي تعتصر ما وهبته لولدها الصغير مدة حياة الأب ما لم تفت الهبة ، فإن فاتت الهبة بزيد أو نقص ونحوهما فلا اعتصار لها ، وظاهر أنه إذا مات الأب لا اعتصار لها أيضاً وليس كذلك ( خ ) كأم فقط وهبت ذا أب ولو تيتم على المختار ، وهذا في الصغير وأما الكبير فتعتصر منه وما وهبته مطلقاً ( وحيث جاز ) ممن ذكر ( الاعتصار ) فإنه ( يذكر ) في الوثيقة أن يقول : وسلط عليها حكم الاعتصار أو هبة يصح اعتصارها أو من شأنها الاعتصار ونحو ذلك ، فإن لم يذكر ذلك في الوثيقة فلا يسقط حكم الاعتصار لأن ذكره إنما هو على وجه الكمال وحسم مادة الخلاف لئلا ينازع الولد أباه إذا اعتصر منه ، وإلاَّ فالسنة أوجبت له الاعتصار ، وإن لم يذكره الأب ولا الموثق في وثيقته ، ونظيره : كتب الموثق رضا المضمون بالضمان حسماً لمادة الخلاف وإلاَّ فالمشهور عدم اعتبار إذنه ورضاه كما تقدم في قوله : ولا اعتبار برضا من ضمنا . وكذا كتبه في بيع الأصول وحل المبتاع محل بائعه فيما ابتاعه ونزل فيه منزلته وأبرأه من درك الإنزال الخ . فإنه إنما يكتب حسماً لمادة الخلاف ، وإلاَّ فالعقد يوجبهويدخل في ضمانه بمجرده ( خ ) وضمن بالعقد الخ . . . قال ابن سهل : مضى عمل الأندلس بالإنزال أي بكتبه . قال : ولا معنى له إذا لا يلزم عليه ضمان ولا غيره اه . [ يعني : وإنما يكتبونه خروجاً من خلاف أشهب الذي يقول البيع هو العقد مع القبض لا العقد فقط فلا ينتقل ضمان المبيع للمشتري على قوله : بالقبض ، فحسموا مادة الخلاف بالتنصيص على الحلول والإنزال في المبيع كما مرَّ صدر البيوع وسيأتي عند قوله : وناب عن حيازة الشهود الخ . . . أن العمل على الإنزال ، ومفهوم قوله : حيث جاز الخ . . . أن الهبة إذا كانت في معنى الصدقة فإنه لا يذكر فيها إلا أن يشترطه كما مرّ .
وضُمِّنَ الوِفَاقُ في الحُضُورِ
إنْ كَانَ الاعْتِصَارُ مِنْ كَبِيرِ
( وضمن ) في رسم الاعتصار ( الوفاق في الحضور ) أي حضور الابن الكبير ( إن كان الاعتصار من كبير ) فهو كقول ابن سلمون وإن كان الابن كبيراً قلت : وبمحضر الابن وموافقته على ذلك اه . وهذا من باب قطع النزاع أيضاً لأنه قد يدعي ما يمنع الاعتصار من صدقة أو فوات بدين ونحوه فحضوره وموافقته يقطع ذلك ، فالتضمين المذكور إنما هو من باب الكمال كالذي قبله وإلا فهو يعتصرها منه جبراً عليه .
وكلُّ مَا يَجْرِي بِلفظِ الصَّدقة
فَالاعتِصارُ أبَداً لنْ يَلْحَقَه
( وكل ما يجري ) من العطية والنحلة والعمرى ( بلفظ الصدقة ) أو كان بلفظ الهبة ودلت القرائن على قصد الصدقة والدار الآخرة ( فالاعتصار أبداً لن يلحقه ) إلا أن يشترطه عند عقد الصدقة كما مر ( خ ) كصدقة بلا شرط الخ . . . ومفهومه أنها إذا كانت بشرط فيعتصرها . قال ابن الهندي : فإن قيل كيف يجوز أن يشترط في الصدقة الاعتصار والصدقة لا تعتصر ؟ قيل : وسنة الحبس لا يباع وإذا شرطه المحبس في نفس الحبس كان له شرطه اه . فيؤخذ منه أنه كما يعمل بشرط الاعتصار في الصدقة من الأب والأم يعمل بشرطه فيها على أجنبي وهو كذلك خلافاً للمشدالي .
ولا اعِتصَارَ مَعَ موتٍ أَوْ مَرَضْ
لهُ أَوِ النِّكاحِ أَوْ دَيْنٍ عَرَضْ
( ولا اعتصار ) أصلاً ( مع ) حصول ( موت ) للموهوب له أو الواهب ( أو ) حصول ( مرض )متصل بموت ( له ) أي للواهب أيضاً ( أو ) حصول ( النكاح ) للموهوب له بعد الهبة ( أو ) حصول ( دين عرض ) أي حدث للموهوب له أيضاً بعد الهبة لتعلق حق الغير بها في النكاح والدين لأنهم إنما أنكحوه وداينوه لأجلها ، ولأنه في مرض الواهب يعتصر لغيره وفي مرض الموهوب له تعلق بها حق ورثته ، وأحرى بخروجها من يد الوليد ببيع أو هبة ونحوهما لتعلق حق المشتري والموهوب له بها ، وكذا لو فاتت الهبة بزيادة أو نقص في ذاتها لأن تغيرها بذلك يصيرها غير الموهوب ، وكذا لو وطىء الولد البالغ الأمة الموهوبة أو أعتقها أو كاتبها ، وأما حوالة الأسواق فلا تفيته ، ومفهوم قوله : عرض الخ . . . أن المرض والنكاح والدين إذا لم يعرض واحد منها بل كان موجوداً وقت الهبة فإنه لا يمنع الاعتصار ، وكذا لو صح من المرض العارض بعدها فإن الاعتصار يعود ويصح . ( خ ) وللأب اعتصارها من ولده كأم إن لم تفت لا بحوالة سوق بل بزيد أو نقص ولم ينكح أو يداين لها أو يطأ ولو ثيباً أو يمرض كواهب إلا أن يهب على هذه الأحوال ويزول المرض على المختار أي : بخلاف زوال النكاح والدين فلا يعود معه الاعتصار لأن المرض إذا زال تنقطع توابعه ، والنكاح والدين لا تنقطع توابعهما لأن الصداق قد يستحق ، وكذا ما دفعه للغرماء بمجرد النكاح والدين مانع بخلاف المرض .
وَفَقْرُ مَوْهُوبٍ له ما كانا
لِمَنْعِ الاعْتِصَارِ قد أَبَانا
( وفقر موهوب له ما كانا ) صغيراً أو كبيراً رشيداً أو سفيهاً وهو مبتدأ ( لمنع الاعتصار ) منه ( قد أبانا ) خبر والمجرور يتعلق به . قال في الوثائق المجموعة : إذا كانت هبة الأبوين على فقير من بنيهما فليس لهما الاعتصار لأن من وهب لفقير قد علم أنه إنما أراد الصلة والأجر اه . بنقل ( م ) ومثله في ابن سلمون ، فظاهرهما كالناظم كان الولد صغيراً أو كبيراً كما قررنا . وقال اللخمي : اختلف في اعتصار الأب إذا كان الولد كبيراً فقيراً فقيل : للأب أن يعتصر ، ومنع ذلك سحنون وقال : إنما يعتصر إذا كان الولد في حجره أو بائناً عنه وله مال كثير . اللخمي : يريد إذا كان في حجره فله أن يعتصر وإن كان فقيراً لأن القائم له والمنفق عليه فهو في معنى الموسر الخ . . . فخلاف سحنون إنما هو في الفقير الكبير ومع ذلك صدر بأنه يعتصر كما ترى ، وكذا صدر به في الشامل فقال : وكذا له أن يعتصر من ولد فقير ، ومنعه سحنون قائلاً : لا يعتصرها إلا ممن في حجره أو أن بان عنه وله ومال الخ . . . وذلك كله يفيد أنه يعتصر في الصغير اتفاقاً ،وكذا في الكبير على المذهب ، ولذا لم يذكر في ( خ ) الفقر من مواضع الاعتصار ، وهذا كله ما لم يصرح في هبته بقصد الثواب والأجر وإلاَّ فلا اعتصار كما مرَّ .
وَمَا اعْتِصَارٌ بيعُ شيءٍ قَدْ وُهِبْ
منْ غَيْرِ إشْهَادٍ بهِ كَمَا يَجِبْ
( وما ) نافية ( اعتصار ) خبر عن قوله ( بيع شيء قد وهب ) والتقدير : وما بيع شيء قد وهب اعتصار ( من غير إشهاد به ) أي بأن بيعه لذلك اعتصار ( كما يجب ) فيه ، وبيعه محمول على أنه لغبطة أو مصلحة فهو كقول ابن سلمون : ولبعض فقهاء الشورى فيمن وهب لابنه الصغير هبة سلط عليها حكم الاعتصار ثم بعد ذلك باعها باسم نفسه ومات إن الثمن للابن في تركة أبيه وليس بيعه باسم نفسه عصرة منه إلا أن يشهد عند البيع أو قبله أن بيعه عصره منه لا هبة وإلاَّ فلا اه . زاد في الطرر : ولا يصح الاعتصار بعد البيع لأنها قد تغيرت عن حالها ، ولا مفهوم لشرطه الاعتصار لأنه شرط مؤكد فقد لأن سنتها الاعتصار ولو لم يشترط . وفي ابن عرفة قال بعض فقهاء الشورى من شرط في هبة ابنه الاعتصار ثم باعها إلى آخر ما مر فأسقط التقييد بالصغير ، فظاهره كالناظم أنه لا يكون عصرة مطلقاً ، وما ذاك إلا لكون البيع ليس صريحاً في الاعتصار فيها معاً حتى يقع الإشهاد به كما ترى . قال في الكراس الثالث عشر من معاوضات المعيار راداً على من قال : إن البيع عصرة ما نصه : فأما إيحاب العصرة بلفظ محتمل يتسلط عليه التأويل فلا يصح لأن الهبة قد صارت ملكاً للموهوب له فلا يصح نقلها عن ملكه إلى ملك الأب بأمر محتمل لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس ) اه . الغرض منه وهو صريح في أنه لا فرق بين الكبير والصغير لأن الأب يكون قد أراد أخذ ذلك الثمن مع كونه لم يقصد بالبيع الاعتصار من غير طيب نفس الولد به ، لكن إذا لم يكن اعتصار في الكبير أيضاً فيفصل فيه بين أن يكون الأب باعها قبل أن يحوزها الكبير بعد علمه وتفريطه فيجري على ما تقدم عند قوله : ومن يصح قبضه وما قبض الخ . . . أو يكون باعها بعد حوزه إياها فيجري على بيع الفضولي ، وقد مر الكلام عليه في فصله . وظاهر قولهم : إلا أن يشهد عند البيع أو قبله أن قول الأب بعده إنما قصد به الاعتصار غير مقبول ، وهذا كله في البيع . ويفهم منه أنه في الهبة لا يكون اعتصار إلا بالإشهاد أيضاً في الصغير والكبير لأن الصغير هو الذي يحوز له فيه هبة ثابتة بعد الحوز لا تصح للثاني ولو حازها . وكذا في الكبير بعد حوزه إياها لا قبل حوزه فتكون للثاني إن حاز كما مر .
( تنبيه ) : ذكر في الكراس الرابع من معاوضات المعيار عن سيدي مصباح : أن من حبس على ابنه ملكاً ثم باعه فإن ذلك يعد منه اعتصاراً وهو مخالف لما مر من أنه لا يكون اعتصاراً حتى يشهد بأن بيعه اعتصار . ولما ذكر أن تصرف الأب في الهبة والبيع لا يعد اعتصاراً استدرك ما إذاصير الهبة التي وهبها لابنه في دين له على أبيه فقال :
لكنَّهُ يُعَدُّ مهْما صَيَّرَا
ذاك لموْهُوبٍ له مُعَتَصِرَا
( لكنه يعد مهما ) أشهد بأنه ( صيرا ذاك ) الموهوب ( لموهوب له ) الذي هو الابن في الدين الذي للابن عليه ( معتصرا ) له ويصير الموهوب ملكاً للولد عوضاً عن الدين الذي كان له على أبيه ، لا بالوجه الأول الذي هو الهبة ، فقوله : معتصراً مفعول ثان ليعد ، والفرق أن التصيير على هذا الوجه لا يحتمل غير الاعتصار لأن إدخال الموهوب في ملك الولد بسبب الدين الذي له على الأب فرغ إدخالها في ملك الأب ، وإلاَّ لم يكن قضاء لدينه بخلاف البيع ، فإنه يحتمل أن يقصد به الاعتصار ، ويحتمل أن يكون قصد به الغبطة والمصلحة ، فإذا لم يكن أشهد أنه قصد به الاعتصار لم يكن اعتصاراً إذ لا ينتقل الملك عن مالكه بأمر يحتمل كما مر ، وهذا في التصيير للصغير ، وأحرى في التصيير للكبير إذ لا يكون إلا برضاه . وظاهر هذا القول كأن يعرف الابن بالمال أم لا .
وقيل بل يَصِحُّ إن مالٌ شُهِرْ
لهُ وإلاَّ فَلِحَوْزٍ يَفْتَقِرْ
( وقيل بل ) إنما ( يصح ) التصيير المذكور ( إن مال شهر له ) أي للابن وعرف به بأن تشهد بينة أن له مالاً ورثه من أمه أو حصله من كسب يده وإن لم يبين قدره ( وإلا ) يكن معروفاً بالمال ( فلحوز يفتقر ) إن وجد بأن كان يصرف الغلة في مصالح ولده أو جهل حالة تمت الهبة وصحت وإلاَّ بأن كان يصرفها في مصالح نفسه فلا تصح لما مر عند قوله : وعن الأمين يغني الاشتراء الخ . . . من أنه أراد هبة الأصل وجعل إقراره بالدين وتصيير الهبة فيه جنة لسقوط الحيازة ، لأنالتصيير إما لأنه لا يفتقر لحيازة لأنه من قبيل البيع وإما لأنه يفتقر لحيازة شهر فقط كما مرَّ في فصله ، والهبة لا بد أن تحاز عاماً فأكثر فإذا رجع إليها بعد العام لم تبطل كما مرَّ ، وبهذا تعلم أن هذا القول المفصل هو الذي أصاب المفصل لا ما صدر به الناظم تبعاً لابن الحاج والله أعلم .
فصل في العمرى وما يلحق بها من المنحة والإخدامابن عرفة : هي تمليك منفعة مدة حياة المعطي بغير عوض إنشاء فخرج بالمنفعة تمليك الذات وبحياة المعطي الخ . . . الحبس والعارية والمعطى بفتح الطاء خرج به حياة المعطي بكسرها فإنه لا يسمى عمرى حقيقة ، وإن كان جائزاً كحياة أجنبي غيرهما وخرج بقوله : بغير عوض ما إذا كان بعوض فإنها إجارة فاسدة ، وبقوله : إنشاء الحكم باستحقاق العمرى لأنه تقرير لها لا إنشاء ، وهذا الحد يوجب جوازها في الأصول والحلى والثياب وغير ذلك . أبو الحسن : إلا أنه إن بقي من الثوب شيء رده وإلاّ فلا شيء عليه ، وخصها الناظم بالأصول لكثرتها فيها فقال :
هِبَةُ غَلّةِ الأصُول العُمْرَى
بِجَوْزِ الأصْلِ حوْزُها اسْتقَرا
( هبة غلة الأصول ) كالدور والأرضين والحوانيت ( العمرى ) ولا بد فيها من الحوز كما قال ( بحوز أصل حوزها استقرا ) لأن المنفعة تحاز بحوز أصولها كما مرَّ ، والحيازة للصغير فيها بصرف الغلة كما مرَّ في الهبة .
طول حياة معمَرٍ أو مُدّه
مَعْلُومةٍ كالعَامِ أو ما بعْدَه
( طول ) بالنصب ظرف لقوله : هبة وهي خبر عن قوله : العمرى ، والتقدير : العمرى هبة غلة الأصول طول ( حياة المعمر ) بالفتح ( أو ) هبة غلة الأصول ( مده معلومة كالعام أو ما بعده ) كالعامين أو العشرة ، وحوزها استقر بحوز أصلها . اللخمي : والعمرى أقسام مقيدة بأجل ، وحياة المعمر بالفتح ومطلقة ومعقبة ، فالمقيدة بأجل أو حياتي أو حياتك هي إلى ذلك الأجل ، وإن أطلق ولم يقيد كان محمله على عمر المعطى له حتى يقول : عمري أو حياتي وإن عقبها فقال : أعمرتك أنت وعقبك لم ترجع إلىه إلى أن ينقرض العقب . قال : ويحمل قوله : كسوتك هذا الثوب وحملتك على هذا الفرس على هبة الرقاب بخلاف قوله : أعمرتك أو أسكنتك أو أخدمتك فإنه يحمل على العمرى ، وإن قال : أذنت لك أن تسكن داري وتزرع أرضي أو تركب دابتي أوتلبس ثوبي كان عارية فيجري على حكمها من ضرب الأجل وعدمه اه . يعني إذا لم يضرب الأجل فإن العارية تنقض بمضي ما يعار لمثله . وقوله : حياة المعمر يقتضي أن الجهل بمدة الحياة لا يضر وهو كذلك ، لأن الغرر إنما يمنع في المعاوضات دون التبرعات وذكر المواق في الضمان إحدى عشرة مسألة يجوز الجهل فيها الخمالة والهبة والوصية والبراءة من المجهول والصلح يعني : إذا لم يعرفا قدر الحق المصالح فيه كما مرّ في بابه ، والخلع والصداق والقراض والمساقاة والمغارسة والصدقة اه . وقولهم : أرسل من يدك بالغرر ولا تأخذ به معناه أرسل من يدك بالغرر من غير عوض ولا تأخذ به بعوض فكأنهم قالوا ولا تعاوض به .
تتمة : إذا مات المعمر بالفتح أو انقضى الأجل فإنها ترجع للمعمر بالكسر أو وارثه . ( خ ) : ورجعت للمعمر أو وارثه الخ . والمعتبر في الوارث هو يوم الموت لا يوم المرجع ، فإذا مات المعمر بالكسر عن أخ مسلم وابن كافر أو رقيق فورث المسلم أخاه ثم أسلم الابن أو عتق الرقيق ثم مات المعمر بالفتح ، فإن العمرى ترجع للأخ ، المسلم كما في الزرقاني .
وبيعُها مُسوَّغٌ لِلمُعْمَرِ
منْ مُعمِرٍ أو وارِثٍ لِلمُعْمِر
( وبيعها ) أي العمرى أن منفعتها ( مسوغ للمعمر ) بالفتح أي يبيع ماله من المنفعة مدة حياته ( من معمر ) بالكسر ( أو ) من ( وارث للمعمر ) بالنقد والعروض والطعام وغير ذلك نقداً أو نسيئة وتسمية ذلك بيعاً مجازاً وإنما هو كراء ، وفهم منه أنه لا يجوز بيعها من غير المعمر أو وارثه وهو كذلك فيما إذا كانت حياة المعمر لأنها حينئذ إجارة مجهولة ، وإنما اغتفر مؤاجرتها للمعمر أو وارثه مع وجود الجهل أيضاً للمعروف كما جاز للمعري اشتراء عريته يخرصها تمراً مع ما فيه من بيع الطعام بالطعام نسيئة للمعروف أيضاً وأما إن كانت مقيدة بأجل كعام ونحوه فله عقد الكراء فيها مع المعمر أو غيره إلى تلك المدة كما في ابن سلمون وغيره ثم أشار إلى المنحة وهي هبة لبن الشاة كما مرّ أول باب الهبة فقال :
وَغَلَّةٌ للحيوانِ إنْ تُهَبْ
فَمِنْحَةٌ تُدْعَى وَلَيْسَتْ تُجْتَنَبْ
( وغلة للحيوان ) كلبن بقرة أو شاة ( أن تهب ) لشخص حياة الممنوح أو مدة معينة فإن أطلق فهو مصدق فيما يدعيه من المدة فإن مات أو غاب ، فالظاهر أنه يحمل على حياة الحيوان الممنوح ( فمنحة تدعى ) أي تسمى ( وليست تجتنب ) بل هي مندوبة لكونها من المعروف ، ولا يدخل فيغلة الحيوان ركوب الدابة لأن هذه عارية كما تقدم قريباً عن اللخمي ، وتقدم أيضاً أول باب الهبة ثم أشار إلى الإخدام فقال :
وخِدْمَةُ العَبْدِ هِي الإخْدامِ
وَالحَوْزُ فِيهَا لَهُ الْتزامِ
( وخدمة العبد ) أو الأمة أن تهب لشخص حياة العبد أو المخدم بالكسر أو المخدم بالفتح أو لمدة معلومة كعام ونحوه ( هي الإخدام ) في الاصطلاح فإن أطلق وقال : أخدمتك هذا العبد فإنه يحمل على حياة العبد كما مرّ أول باب الحبس ( والحوز فيهما ) أي في المنحة والاخدام قبل حصول المانع ( له التزام ) فلا يصحان بدونه كما مرَّ .
حَياةُ مُخْدَمٍ أوِ المَمْنُوحِ
أَوْ أَمَدٍ عُيِّنَ بالتَّصْرِيحِ
( حياة مخدم ) ظرف لتهب المقدر بعد خدمة العبد ( أو ) حياة ( الممنوح ) ظرف لتهب المذكور في كلامه من اللف والنشر المعكوس ( أو ) إلى ( أمد ) كعام أو شهر ( عين ) فيهما ( بالتصريح ) فإن أطلق ولم يعين فقد مر حكمه .
وأُجْرَةُ الرَّاعِي لما قَدْ مُنِحا
عَلَى الذِي بِمِنْحَةٍ قد سَمِحَا
( وأجرة الراعي لما ) أي للحيوان الذي ( قد منحا ) لبنه واجبة ( على ) الشخص ( الذي بمنحه قد سمحا ) أو على المانح وظاهره أنه إذا اشترطت أجرته على الممنوح أو جرى عرف بها لأنه كالشرط لا يجوز ذلك لأنها تنقلب حينئذ إجارة بمجهول وهو كذلك ، ففي نوازل الفاسي : لا يجوز إعطاء بقرة لمن يرعاها على أن يأخذ نصف زبدها قال : ولكن في المواق والمعيار عن ابن سرج ما يؤذن بالترخيص في ذلك من أجل الاضطرار لأن مذهب مالك مراعاة المصلحة إن كانت كلية حاجية اه . وانظر ما قدمناه أول الإجارة ولا مفهوم للزبد ولا لنصفه بل كذلك بكل الزبد أو اللبن ، ومثل هذا ما يقع كثيراً في إجارة معلم الصبيان يجعلون له مخضة على كل واحد فقال العقباني : إن ذلك لا يجوز لأنه لم يدخل معهم على تحديد ما يأخذه من الزبد بالوزن ، وإنما دخل على أن يأخذ مخضة لا يدري قدرها ، ولما نقله ابن رحال عند قوله ( خ ) في الإجارة : أو حميم ذي الحمام . قال عقبة : الصواب الجواز ، وأشار إلى ما تقدم عن ابن سراج والمعيار ، وأما علف الدابة المعارة فقد قال ( خ ) آخر العارية : وفي علف الدابة قولان . أي : هل هو على المعير أو المستعير ؟ ومحلهما مع السكت وعدم العرف ، وأما الشرط أو العرف فهو على من اشترط عليه أو قضى العرف أنه عليه اتفاقاً لأنه يجوز كراء الدابة بعلفها كما قال ( خ ) : وجاز على أن عليكعلفها الخ . . . والعرف عندنا بفاس أن علف العارية على المستعير حيث باتت عنده فإن لم تبت فعلى ربها ، وأما نفقة المخدم فاقتصر في الاستغناء كما في المواق على أنها على المخدم بالفتح ، وفي المدونة أنها على المخدم روي بفتح الدال وكسرها ، وهذا مع السكت أو عدم العرف أيضاً وإلاَّ فهي على المخدَم بالفتح اتفاقاً إذ لا يجوز مؤاجرة الأجير بأكله وتنفسخ إذا ظهر أكولاً قال ( خ ) : كظهور مستأجر أوجر بأجره أكولاً الخ . . . وزكاة فطره حينئذ على سيده قطعاً لأنه المالك المنفق عليه .
وجائِزٌ لِمَانِحٍ فيها الشِّرا
بِما يَرَى نَاجِزاً أوْ مُؤَخَّرَا
( وجائز لمانح فيها ) أي المنحة ( الشرا بما ) أي بالثمن الذي ( يراه ) المانح ويرضى به كان ذلك الثمن طعاماً أو غيره ( ناجزاً ) كان ( أو مؤخراً ) ولا يدخله بيع اللبن المجهول بدنانير أو بطعام نسيئة لأن ذلك كله معروف رخص له فيه كما مرَّ في العمرى . ولا يجوز لغيره شراؤه إلا بالشروط المذكورة عند شراح ( خ ) عند قوله في الإجارة : وشاة للبنها ، ويفهم من النظم أنه يجوز للمخدِم بالكسر شراء خدمة مخدمه كالمنحة والعمرى إذ لا فرق بين الجميع والله أعلم .
فصل في الإرفاقوهو إعطاء منافع العقار .
إرْفَاقُ جَارٍ حَسَنٌ للجارِ
بِمَسْقَى أَوْ طَرِيقٍ أو جِدَارِ
( إرفاق جار حسن ) أي مستحب ( للجار ) لحديث : ( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) . وهو ثلاثة أقسام : ما له حق واحد وهو الجار الذمي ، وما له حقان وهو الجار المسلم الأجنبي ، وما له ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم القريب . قال تعالى : وبالوالدين إحسانا } إلى قوله : الجار ذي القربى والجار الجنب } ( النساء : 36 ) . وحد الجوار أربعون داراً من كل جانب ( بمسقى ) يتعلق بإرفاق فيحتمل أن يكون اسم مكان أي يرفقه بموضع يوصل منه الماء ليسقي حائطه أو داره ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي يسقي ماء فضل عنه ليسقي الجار به حائطه ونحوه أو ب ( طريق ) في أرضه يمر عليها لحائطه أو دار أيضاً ( أو ) ب ( جدار ) يغرز فيه خشبةونحوها . ( خ ) : وندب إعارة جدار لغرز خشبة وإرفاق بماء وفتح باب ليمر عليها الخ . . . وهذا كله حيث لم يكن على المرفق بالكسر فيه ضرر فحينئذ يتعلق الندب به . وقد حض عليه الصلاة والسلام على الجار فقال : ( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره ) وقال : ( الجار أمين على جاره فعليه أن يسد حجابه عنه أي عليه ويكف أذاه عنه ويغض بصره عنه وإن رأى عورة سترها أو سيئة غفرها أو حسنة شكرها ) وقال : ( لا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه ) .
والحَدُّ في ذَلِكَ إنْ حُدَّ اقْتُفي
وعُدَّ في إرْفَاقِهِ كالسَّلَفِ
( والحد في ذلك ) الإرفاق ( إن حد ) بزمن كسنة أو عشر سنين أو إلى الأبد مثله ( اقتفي ) واتبع وكان لازماً للمرفق ليس له الرجوع قبله ( و ) إن أطلق ولم يقيد بأجل ( عد ) المرفق بالكسر ( في اطلاقه كالسلف ) يتسلفه الإنسان ولا يتعرضان لأجله فإنه لا بد أن يتركه مدة ينتفع به فيها عادة أمثاله ، فكذلك هذا لا بد أن يترك للمرفق بالفتح ينتفع به المدة الجارية بين الجيران عادة ، وظاهره أن الحكم هو ما ذكر سواء كان الإرفاق بالغرز أو فتح باب أو سقي ماء وغير ذلك كإعارة عرصة للبناء ، والمعتمد أنه في الغرز لا رجوع بعد الإذن طال الزمان أو قصر عاش أو مات إلا أن ينهدم الجدار فلا يعيد الغرز إلا بإرفاق ثانٍ حيث علم أن الخشبة وضعت أولاً بالإرفاق وإلاَّ فله ردها كما كانت من غير إذن قاله ابن الرامي . وأما إعارة العرصة للبناء فالراجح أن له الرجوع حيث لم يقيدا بأجل ولو قبل أن يمضي ما يرفق ويعار لمثله في العادة ، ولكن بعد أن يدفع ما أنفق أو قيمته ( خ ) : وله أن يرجع وفيها إن دفع ما أنفق وقيمته . وقال أيضاً : وله الإخراج في كبناء إن دفع ما أنفق ، وفيها أيضاً قيمته الخ . والفرق بين العرصة والجدار أن بعض أهل العلم يرى القضاء بإعارة الجدار إذا امتنع ربه من إعارته للغرز وليس فيه عليه ضرر ، وبه قال الشافعي وابن كنانة وابن حنبل ، قال الأبي : وكان الشيخ يعني ابن عرفة يقول : ليس المراد بالغرز المندوب إليه أن يغرز ليبني فوق ذلك لأن ذلك معلوم كونه مضراً بالجدار ، وإنما المعنى أن يغرز للتسقيف .
تنبيه : ما تقدم من أن له الإخراج في العرصة هو مذهب المدونة كما رأيته ، وجعل ابن رشد وابن زرقون ذلك جارياً في الجدار أيضاً لأن كلاً منهما هبة منفعة ، ورجحه ابن رحال فقال : قد تبين أن المذهب لا فرق بين الجدار والعرصة في أن لكل منهما الرجوع حيث لم يقيدا بأجل بعد أن يعطي كلاً منهما ما أنفقه المعار والمرتفق ، وإلاَّ فليس لكل منهما الرجوع إلا بعد أن يمضي ما يرفق ويعار له بحسب العادة اه باختصار . وهو مخالف لما تقدم من أنه ليس له الإخراج في الجدار على المعتمد فشدّ يدك على ما تقدم للفرق المتقدم ولأن العرصة لا تضطر الحاجة إليها كاضطراره للغرز ، ولذا قيل بوجوبه للأحاديث القوية فيه والخاصة به والله أعلم .
فصل في حكم الحوز
ذكر خليل وغيره مسألة الحيازة آخر الشهادات لأنها مبينة لصاحبها على تصديق دعواه وتقدم عند قوله : والمدعي فيه له شرطان الخ . . . أن الدعوى في مسألة الحيازة تسمع ويكلف المطلوب بجوابها لعله يقر أو ينكر فيحلف ، وقولهم : لا تسمع دعواه ولا بينته الخ . . . معناه لا تسمع سماعاً يوجب قبول بينة لا أنه لا يؤمر بالجواب بل يؤمر به كما مرَّ . وتقدم أيضاً أن الدعاوى التي كلها توجب اليمين بدون خلطة على المعمول به ، ولا يستثنى من ذلك إلا الدعاوى التي فيها معرة كدعوى السرقة والغصب على من لا يليق به ذلك فيؤدب المدعي ولا يمين على المطلوب واعلم أن الحيازة على قسمين حيازة مع جهل أصل الملك لمن هو ، وحيازة مع علم أصل الملك لمن هو فالأولى يكفي فيها عشرة أشهر فأكثر كان المحوز عقاراً أو غيره ، والثانية لا بد فيها من عشر سنين فأكثر في العقار ، أو عامين فأكثر في الدواب والعبيد والثياب كما يأتي ، وكل من الحيازتين لا بد في الشهادة به من ذكر اليد وتصرف الحائز تصرف المالك في ملكه والنسبة وعدم المنازع ، وطول المدة عشرة أشهر في الأولى وعشر سنين في الثانية وعدم التفويت في علمهم فلا تقبل الشهادة مع فقد هذه الأمور أو واحد منها على المعمول به إلا إن كان من أهل العلم كما بيناه في حاشية اللامية ، وهل يشترط زيادة مال من أمواله . ابن عرفة : وفي لغو شهادة الشاهد في دار بأنها ملك فلان حتى يقول ومال من أمواله وقبولها مطلقاً : ثالثها : إن كان الشهود لهم نباهة ويقظة الأول لابن سهل عن مالك قائلاً : شاهدت القضاء به اه . وكيفية وثيقة ذلك أن تقول : يشهد الواضع شكله إثره بمعرفته لفلان ومعها يشهد بأنه كان بيده وعلى ملكه مالاً من أمواله وملكاً خالصاً من جملة أملاكه جميع كذا المحدود بكذا يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه وينسبه لنفسه ، والناس إليه من غير علم منازع ولا معارض مدة من عشرة أشهر أو عشر سنين ، ولا يعلمون أنها خرجت عن ملكه إلى الآن أو إلى أن تعدى عليها فلان أو إلى أن غاب أو إلى أن توفي وتركها لمن أحاط بميراثه الخ . . . فإذا أثبتت هذه الوثيقة هكذا وأعذر فيها للمقوم عليه فلم يجد مطعناً فلا إشكال أنها تدل دلالة ظنية على أن الملك لهذا القائم ولا تفيد القطع لأن الشهادات من حيث هي إنما تفيد غلبة الظن فقط ، وهو معنى قولهم : إنما تعمل فيما جهل أصل ملكه لأن أصل الملك لمن هو مجهول عندنا حتى شهدت به البينة لهذا القائم ، وحينئذ فيقضى له به حيث لا مطعن بعد أن يسأل الحائز أولاً هل لك حجة ، ولعله يقر بأن الملك للقائم وأنه دخل بكراء أو عارية فإن قال : حوزي وملكي وبيدي وأثبت حيازة ذلك عنه عشر سنين في الأصول أو عامين في غيرها بالقيود المذكورة أيضاً من اليد والنسبة ودعوى الملك والتصرف وعدم المنازع الخ . . . والحال أن القائم حاضر ساكت بلا مانع الخ . . . فقد سقط حق القائموتبقى الأملاك بيد حائزها ولا يكلف ببيان وجه تملكه ولا غير ذلك كما يأتي ، وبالجملة فمهما ثبتت الحيازة عشرة أشهر فأكثر بالقيود المذكورة أولاً لا تقطعها الحيازة الواقعة بعدها إلا أن تكون عشر سنين فأكثر بالقيود المذكورة أيضاً ، وهو معنى قولهم : حيازة عشرة أعوام مع علم أصل الملك لمن هو عامله أي لأنها قطعت حجة القائم مع علم أصل ملكه ومحل قطعها لذلك إذا لم يعلم أصل مدخله أما إذا علم ككونه دخل بكراء من القائم أو إسكان أو مساقاة ونحو ذلك فإنها لا تقطعها ولو طالت ، وهذه الثانية هي مقصود الناظم في هذا الفصل ، وأما الأولى فلم يتكلم عليها وتكلم عليهما معاً ( خ ) فقال في الأولى : وصحة الملك بالتصرف وعدم منازع وحوز طال كعشرة أشهر وأنها لم تخرج عن ملكه في علمهم الخ . وقال في الثانية : وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع بينته إلا بإسكان ونحوه ، وقد علمت من هذا أن أصل الملك وأصل المدخل شيئان متغايران وهما وإن كان كل منهما يشترط جهله لكن الأول شرط في قبول بينة القائم إذ هي لا تقبل إلا إذا لم يعلم أن أصل ذلك الملك لغيره . والثاني شرط في إعمال حيازة المقوم عليه إذ لا يعمل بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله ، أما إذا علم بإسكان ونحوه فإنها لا تنقطع حجة الأول بل هي حينئذ كالعدم ، وانظر الكلام على القيود المذكورة من اليد والنسبة وغيرهما في حاشيتنا على اللامية . واعلم أيضاً أن الناظم قدم الكلام أولاً على الحيازة القاطعة لحجة القائم ثم فرع عليها مسائل :
الأولى : أن يثبت القائم أصل مدخل الحائز من إسكان ونحوه .
الثانية : أن يدعي الحائزان القائم تبرع عليه بذلك المحوز أو اشتراء منه .
الثالثة : أن يثبت القائم الشراء من الحائز فيدعي الحائز الإقالة ثم الحائز إما أجنبي من القائم أو قريب جداً كالأب مع ابنه ولم يتكلم عليه الناظم ، وسيأتي عن ( خ ) أن الحيازة بينهما إنما تكون في المدة الطويلة التي ينقطع فيها العلم أو تهلك فيها البينات وإما قريب لا جداً كالإخوة والأعمام والأصهار والموالي وهو ما يأتي في قوله : والأقربون حوزهم مختلف الخ . . . وفي كل إما أن يكون بين القائم والمقوم عليه شركة أم لا فأشار إلى القسم الأول بقوله :
والأَجَنبِيُّ إنْ يَحُزْ أصلاً بِحَقْ
عَشرَ سنينَ فالتَملُّكَ استَحَقْ
( والأجنبي ) شريك أو غيره ( إن يحز أصلاً ) كأرض ودار ونحوهما يتصرف فيه وينسبه لنفسه من غير منازع الخ . والقائم حاضر عالم بالغ رشيد لم يمنعه من القيام مانع ، وسواء كان تصرفه بالازدراع والسكنى والاستغلال في جميع العشر أو في أول جزء منها ، أو كان يبور الأرض سنة ويزرعها أخرى ، وأحرى تصرفه بالهدم والبناء الغرس ، وهذا في غير الشريك ، وأما الأجنبيالشريك فلا بد أن يكون تصرفه بالهدم والبناء أو الغرس وإلاَّ لم يعتبر . ( خ ) كشريك أجنبي حاز فيها إن هدم وبنى ( بحق ) أي بوجه شرعي احترازاً مما إذا حازه بغصب أو تعد أو كان معروفاً بذلك فإن حيازته كالعدم ، وإن سكت القائم بعد زوال سلطة الغاصب وقهره فإن سكوته لا يضره إلا أن يفوته الغاصب ببيع أو غيره بعد زوال سلطنته ، أو يموت فيقسم ورثته المال بحضرته فلا شيء له كما في المعين والمقصد المحمود وغيرهما ، ويدخل في الشرعي ما إذا قال : اشتريت منه أو من أبيه أو وهبه لي على ما يأتي أو ورثته أو اشتريته من فلان ولا أدري بأي وجه صار إلى الذي ورثته عنه أو اشتريته منه ، وما إذا لم يقل شيئاً من ذلك كله كما هو ظاهره إذ الحائز لا يكلف ببيان وجه ملكه وبأي سبب صار له لأنه يقول : ملكته بأمر لا أريد إظهاره كما اقتصر عليه ابن يونس ، وكما لابن أبي زمنين وغيره خلافاً لما جزم به ابن رشد من أنه لا بد من بيان سبب ملكه من شراء أو إرث قال : وأما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئاً من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل الملك لغيره اه . وهو وإن اقتصر عليه ( ت ) ههنا فإنه خلاف الراجح المعمول به كما يأتي ، اللهم إن كان معروفاً بالغصب والاستطالة فلا بد أن يبين بأي وجه صار إليه ولا ينفعه قوله : اشتريته من القائم أو غيره أو ورثته بل لا بد من إثباته ذلك فإن لم يثبته فعليه الكراء في جميع المدة التي كان بيده بما يقوله أهل المعرفة قاله في الوثائق المجموعة . وقال أيضاً : إن عرف أن دخوله كان بباطل لم ينفعه طول الحيازة وإن ادعى شراءه إلا أن يطول ذلك نحو الخمسين سنة ونحوها والقائم حاضر لا يغير ولا يدعي شيئاً .
تنبيهان . الأول : لما قال ابن رشد مجرد الحيازة لا ينقل الملك اتفاقاً ولكن يدل عليه كالعفاص والوكاء في اللقطة قال ابن رحال في شرحه عقبه : هو عندي غير صحيح بل ينقل الملك ونقل على ذلك أنقالاً ثم قال : وإن أراد ابن رشد أن الملك لا يقطع بنقله كما قاله ابن عرفة وغيره فلا خصوصية للحيازة بل كذلك الإرث والشهادة الصريحة وغير ذلك اه . باختصار .
قلت : ولكن مراد ابن رشد هو ما قاله ثانياً من أنه لا يقطع بنقله بدليل قوله : ولكن يدل عليه كما نبينه إن شاء الله عند قوله : أو يدعي حصوله تبرعاً الخ . . . وحينئذ فلا وجه لاعتراض الشيخ الرهوني على ابن رحال لأن ابن رحال إنما أجال الأمر والنظر بين أن يقول أراد لا ينقله فلا يصح وبين أن يريد لا يقطع بنقله فهو صحيح ولكن لا خصوصية لها .
الثاني : تقدم أن الشريك الأجنبي لا يعتبر تصرفه إلا بالهدم أو البناء والغرس ، وأما الأجنبي الذي ليس بشريك فهل الهدم والبناء والغرس حوز في حقه من حينه ووقته وإن لم تمض العشر سنين ولا ما دونها أو لا يكون حوزاً إلا بمضي العشر ؟ قولان لابن الماجشون وابنالقاسم . والأول هو الذي اعتمده شراح الرسالة كابن عمر وابن ناجي ، وكذا أبو محمد صالح عليها قائلاً هذا إذا لم يحدث في العشر سنين بناء ولا غرساً أو هدماً ، وإن أحدث فيها شيئاً من ذلك فإن ذلك يسقط كلام المدعي بنفس الفعل يعني إن لم ينكر بمجرد علمه الخ . . . ونحوه في ابن يونس قال ابن رحال : وكونه حوزاً من حينه ووقته هو الذي يظهر لا غير اه .
قلت : بل هو الذي يجب اعتماده لكثرة المشاحة وعدم المسامحة في البناء والغرس في هذا الزمان ، وإن كان مذهب ابن القاسم أنه لا بد من العشر وهذا إذا هدم صحيحاً له قدر وبال ليتوسع فيه أو يبني غيره مكانه أو ليزيده مسكناً آخر لا أن هدمه لخوف سقوط أو لأجل إصلاح حق فإن ذلك لا يسقط حق القائم ولو مضت العشر أو أكثر لأن رب الدار يأمر المكتري بأن يصلح من كرائها .
( عشر سنين ) ظرف لقوله إن يحز ، وظاهره أنه لا بد منها ولا يكفي ما دونها من ثمان أو تسع وهو كذلك على المعمول به ، ابن عرفة عن ابن القاسم : وما قارب العشر هو مثلها . ابن رشد : يريد بما قارب الشهر والشهرين وما هو ثلث العام فأقل اه . ( فالتملك ) مبتدأ ( استحق ) خبره وضميره للحائز عشر سنين والجملة خبراً لأجنبي .
وانْقَطَعَتْ حِجّةُ مدَّعيهِ
مَع الحضورِ عن خِصامٍ فيهِ
( وانقطعت حجة مدعيه ) الذي أثبت أنه كان يملكه قبل هذا عشرة أشهر فأكثر ولو مائة سنة فلا تقبل دعواه ولا بينته وإن سلمت من الطعن ( مع الحضور ) ظرف ليحز أيضاً أي مع حضور القائم في جميع العشر فإن حضر خمساً أو ثمانياً وغاب الباقي فهو على حقه كما يفيده كلام ابن مرزوق وغيره ، فإن تكرر قدومه وسفره فلا حق له انظر ابن سلمون . فقوله : مع الحضور أو ومع علمه بأنه ملكه وبأنه يتصرف فيه وينسبه لنفسه ملكاً كما في القلشاني وأبي الحسن ، واستغنى الناظم بالحضور عن العلم بما ذكر لأنه إذا لم يعلم بذلك فكأنه غير حاضر ( عن خصام ) يتعلق بمحذوف حال أي حال كونه ساكتاً عن خصام ( فيه ) ولا مانع يمنعه منه لأنه إذا كان هناك مانع فهو غير ساكت حكماً إذ لا يشترط الشيء إلا مع إمكان وجوده فقوله : إن يحز الخ . حذف متعلقه أي إن يحز بتصرف مع نسبته إليه كما قررنا ، وكما فسر به ربيعة قوله عليه الصلاة السلام ( من حاز شيئاً عشر سنين فهو له ) قال ربيعة : معنى ذلك إذا كان الحائزينسب ذلك لنفسه بحضرة المدعي أي ولو مرة واحدة فصار تقدير كلام الناظم هكذا : والأجنبي إن يحز أصلاً بتصرفه فيه ونسبته إليه مع حضور القائم وعلمه بأنه ملكه وبأنه يتصرف فيه حال كونه ساكتاً عن خصام فيه ولا مانع يمنعه عشر سنين فالتملك استحق الخ . وقوله أصلاً احترز به من غير الأصل فإنه سيأتي الكلام عليه في قوله : وفي سوى الأصل حوز الناس الخ . وقوله : بحق احترز به من الحوز بغصب أو تعد كما مرّ . وقوله : مع الحضور احترز به عما إذا كان غائباً على أربعة أيام فما فوقها الخ . كما يأتي في قوله : وقائم ذو غيبة بعيدة الخ . فإنه لا يسقط حقه ولو كان عالماً بالحيازة ويصدق في دعواه أنه كان عاجزاً عن القدوم والتوكيل وإن لم يعرف إلا من قوله على المذهب ، وتقدم في الشفعة أن المرأة والرجل الضعيف في معنى الغائب ، وكذا السفيه وغير العالم بأنه ملكه أو بأنه يتصرف فيه فإن الحيازة لا تعمل عليها إلا بعد أن يرشد السفيه أو يعلم غيره وتحاز عليهما الأملاك عشرة أعوام من يوم الرشد والعلم وهما ساكتان بلا مانع ، وأما الغيبة القريبة كاليومين فهو كالحاضر . ابن رشد : وهو محمول على عدم العلم بالحيازة حيث يثبت علمه وكذلك الحاضر في البلد فإنه محمول على عدم العلم أيضاً قال ( ح ) عن ابن ناجي ونحوه تقدم في الشفعة . وقوله : عن خصام فيه احترز به عما إذا خاصم فإن حقه لا يسقط كما يأتي في قوله : والمدعي إن أثبت النزاع مع الخ . وظاهره كظاهر ( خ ) ولو مرة في أي وقت من العشر سنين وهو ظاهر الوثائق المجموعة والفشتالي وغيرهما حيث قالوا : لا يعلمونه نازعه في ذلك طول المدة المذكورة وهو الذي يجب اعتماده لأن ماهية النزاع تحصل بالمرة الواحدة وبها يختل السكوت المشترط في قطع حجة القائم وبوجود المنازعة مرة تنخرم ماهية الحيازة خلافاً لما في القلشاني وابن سلمون عن سحنون من أنه لا تنفعه في المنازعة مرة أو مرتين ، بل حتى يتكرر ذلك منه مراراً فإنه لا يعول عليه كما لابن رحال في شرحه وحاشيته ، واعتراض الشيخ الرهوني عليه بما لسحنون خلاف ما أطبق عليه أهل التوثيق إذ لو كان يشترط التكرار لقالوا : لا يعلمون تكرار نزاع فيه ، ولقال الناظم : وغيره ساكت عن تكرر خصام فيه ، وهكذا مع أنهم لم يقولوه فدل ذلك على عدم اشتراطه ، نعم إذا سكت عشر سنين بعد المنازعة فإنه يسقط حقه وظاهر كلامهم أيضاً أن مجرد النزاع كاف ولو لم يكن عند القاضي وهو كذلك خلافاً لما في ابن عمر من أن المنازعة إذا لم تكن عند القاضي لم ينتفع بها فإنه لا يعول عليه أيضاً ، وإن زعم الشيخ الرهوني أيضاً أنه الراجح إذ لا دليل له على رجحانه . وظاهر كلام الرسالة وغيرها خلافه ، وعليه اقتصر الزرقاني وغيره ومن تتبع كلامهم وجدهم أطلقوا ولم يقيدوا بكونها عند القاضي أو عند غيره وإطلاقهم حجة ، واحترز به أيضاً مما إذا كان هناك مانع منعه من الخصام كصغر أو سفهوللحائز عليه دين أو كون الحائز ذا سطوة أو استناد لذي سطوة كما مرَّ أو كانت الحيازة في محل لا تناله الأحكام أو كان المحوز عليه امرأة ذات زوج غيور عليها شديد الضبط لها مانع لها من الخروج كما في المتيطية ، فإنه مع وجود واحد من هذه الأمور غير ساكت ولا يسقط حقه إلا أن يقيم الحائز بينة بالسماع أنه اشتراها من القائم أو أبيه وقد حازها عشر سنين ، فإنه يسقط حق القائم ولو مع العذر المذكور كما مر في شهادات السماع ، وأما إن قال : جهلت أن الحيازة تلك المدة تقطع البينة فإنه لا يعذر بذلك لأن العرف يكذبه كما قاله الجزولي والعبدوسي فإن قال : إنما تركت القيام لاشتغالي بالخدمة غدواً ورواحاً فقال ابن زرب : إذا ثبت أنه كان يشهد الشهود أنه غير تارك لحقه فله القيام قاله في نوازل الضرر من المعيار ، وظاهره ولو كان يشهدهم بغير حضرة الحائز وأنه لا يحتاج إلى إثبات التقية من سطوة الحائز ونحو ذلك وفيه دليل لما تقدم من أن المنازعة عند غير القاضي كافية لأن هذا انتفع بإشهاد الشهود على عدم تركه لحقه فكيف لا ينتفع بالمنازعة عند غير القاضي من جماعة المسلمين أو محتسب أو قائد إذ لا أقل أن يكون هؤلاء بمنزلة الشهود الذين يشهدهم على عدم ترك حقه ، وأما إن قال : كنت عالماً بأنه ملكي وبتصرف الحائز ولكن سكت لغيبة شهودي أو لعدم وجود رسمي ، والآن وجدت ذلك فأردت القيام فالذي نقله العلمي عن الوانشريسي في شرحه لابن الحاجب أن الصواب قبول عذره . قال : وبه الحكم والقضاء اه . وكذا قال ابن رحال في شرحه الحق أنه يقبل قوله مع يمينه قال : وتصويب ابن ناجي عدم القبول غير ظاهر اه . وسيأتي أول الاستحقاق أن الإنسان إذا اشترى شيئاً وهو يرى أنه لا بينة له ثم وجدها أن له القيام ويأخذ الثمن من البائع ، وقد أطال الشيخ الرهوني في الانتصار لقبول عذره في باب الفلس عند قول ( خ ) : وإن ظهر دين الخ . وكلام الوانشريسي الذي صرح فيه بأنه به الحكم كاف في ذلك وإن كان هو أعني الوانشريسي بحث في الكراس الثالث من معاوضات معياره مع ابن الحاج الذي جعل غيبة الرسم عذراً قائلاً : إنما يكون عذراً إذا لم يعلم بأنه ملكه حتى وجد الرسم وإلاَّ فلا يكون عذراً اه . باختصار ، ولكن المعول عليه أنه عذر كما ترى وبه يبطل قول ( ت ) ههنا .
ليس من المانع جهل الحكم
ولا مغيب شاهد أو رسم
ولا جهالة بدين في الأصح الخ . بل مغيب الشاهد والرسم كلاهما عذر كما ترى وكذا الجهالة بهما يعني هل له رسم على ذلك أم لا ؟ وهل يجد من يشهد له أنه ملكه أم لا ؟ والعجب منه كيف اقتصر عند قوله : وإن يكن مدعياً إقالة الخ . على كلام ابن الحاج وقال : إنه صحيح مع أن ابن الحاج يقول : إن غيبة الشاهد والرسم عذر . وقوله : ليس من المانع جهل الحكم الخ . يعني : جهل كون الحيازة قاطعة لحجته كما تقدم عن الجزولي وغيره . وأما جهل كونه ملكاً له فإنه عذر بعد يمينه على المشهور كما مرَّ ، وانظر ما قدمته آخر بيع الفضولي ولا بد . واعلم أن مدة الحيازة تلفق بين الوارث والموروث ، فإذا تصرف الموروث خمساً بالقيود المذكورة ومات ثم تصرف وارثه خمساً أيضاً فإن ذلك قاطع لحجة القائم كما لابن رشد وغيره وما في المعيار من أنها لا تلفق لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ، وكما تلفق الحيازة من وارث وموروث كذلك يلفق السكوت من وارث وموروث أيضاً كما في الدر النثير عن أبي الحسن قائلاً : إن الحيازة التي تشهد بنقل الملك لمن ادعاه كما يحكم بها على ساكت واحد كذلك يحكم بها ملفقة من سكوتوارث وموروث اه . ثم أشار الناظم إلى المسألة الأولى من المسائل التي فرعها على الحيازة القاطعة فقال مستثنياً من قوله : فالتملك استحق . وانقطعت حجة مدعيه الخ . . .
إلاّ إذا أَثْبَتَ حَوْزاً بالكِرَا
أو ما يُضاهِيهِ فلنْ يُعْتَبَرَا
( إلا إذا أثبت ) القائم ( حوزاً بالكرا ) أي أثبت بالبينة أو الإقرار أن ابتداء حوز الحائز إنما كان بسبب الكراء منه أو من أبيه ( أو ما يضاهيه ) أي الكراء كالإسكان مجاناً والمساقاة والعمرى والعارية والغصب ونحو ذلك ( ف ) بإن حوز الحائز عشر سنين فأكثر بالقيود المتقدمة ( لن يعتبرا ) لأنه قد علم حينئذ أن أصل مدخله الكراء ونحوه فلا تنفعه حيازته ، وهو معنى قولهم : إذا أثبت أصل المدخل ببينة أو إقرار فلا حيازة ، وتارة يقولون : إنما تنفع الحيازة إذا جهل أصل المدخل هل بكراء ونحوه أو بشراء ونحوه ، أما إذا علم فإن كان بكراء ونحوه لم ينتفع به حتى يأتي بأمر محقق من شراء أو هبة أو صدقة من القائم أو أبيه ، وظاهره أنه لا تنفعه الحيازة مع علم أصل المدخل ولو طالت كالخمسين سنة وليس كذلك ، بل صرح ابن فرحون وصاحب الوثائق المجموعة بأنها إن طالت الخمسين سنة ونحوها والقائم حاضر لا يغير ولا يدعي شيئاً فإنها تنفعه وإن لم يثبت ابتياعاً ولا صدقة ونحوه لابن رشد كما في حاشية الشيخ بناني . ثم أشار إلى المسألة الثانية من المسائل المفرعة عاطفاً على الاستثناء فقال :
أو يَدَّعِي حُصولَهُ تَبرُّعا
مِنْ قَائِمٍ فَلْيُثْبِتنَّ ما ادَّعَا
( أو يدعي ) الحائز عشر سنين فأكثر ( حصوله ) أي الشيء المحوز بيده ( تبرعا ) بهبة أو صدقة . ( من قائم ) أو موروثه ( فليثبتن ) الحائز ( ما ادعا ) ه من التبرع ويتم ملكه .
أَوْ يَحْلِفُ الْقَائِمُ وَاليَمِينُ لَهْ
إن ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ مُعْملَهْ
( أو يحلف القائم ) إن لم يثبت ذلك ويأخذ شيئه بخلاف ما لو ادعى الحائز الشراء من القائم أو موروثه فإنه لا يكلف إثباته ويصدق في أنه اشتراه مع يمينه كما قال : ( واليمين له ) أي للقائم على الحائز ( إن ادعى ) الحائز ( الشراء منه ) أي من القائم ( معمله ) هذا وكأن الناظم يقول الحائز عشر سنين إن أقر بما لا ينقل الملك كالإسكان ونحوه لم ينتفع بحيازته ، وإن أقر بما ينقله كالهبة والشراء ففيه تفصيل فينتفع بالحيازة والشراء دون الهبة ، ولكن ما ذكره من التفرقة والتفصيلبين الهبة والشراء خلاف المعتمد كما مرَّ عن ابن رشد ونحوه لابن يونس قائلاً : الصواب لا فرق بين البيع والهبة ونحوه في التوضيح ، وما ذاك إلا لكون الحيازة عشر سنين كقيام البينة على انتقال الملك إلى الحائز بشراء ونحوه سواء كان الحائز هو البائع أو غيره كما هو ظاهر النظم وغيره ، ولهذا كان لا يكلف الحائز ببيان وجه ملكه للشيء المحوز على الراجح المعمول به كما مرَّ ، لكن إن وقع ونزل وبين وجهه فإن بينه بما لا ينقل الملك أو قامت بينة به فهو قوله : إلا إذا أثبت حوزاً بالكراء وإن بينه بما ينقله من صدقة أو شراء ونحوهما فقوله مقبول بيمينه كما لابن رشد وغيره ، وسواء قال : اشتريته منك أو من وكيلك ولا يكلف بإثبات الوكالة خلافاً لما في ابن سلمون وأقضية المعيار ، لأن الحيازة دليل على نقل الملك إليه بالوجه الشرعي كما مر ، وعليه فكان حق الناظم أن يحذف قوله : أو يدعي حصوله تبرعاً . البيتين . لأنه إنما يتمشى على قول من يقول إنه يكلف ببيان وجه ملكه ، اللهم إلا أن يقال إنه تبرع بالبيان من غير تكلف كما قررنا .
تنبيه : ما تقدم من أنه لا يكلف ببيان وجه ملكه هو الذي اقتصر عليه ابن سلمون وغيره في وثيقة الاعتمار ونحوه في نوازل العلمي قائلاً : لا يسأل الحائز عن شيء وارثاً كان أو غيره . قال ابن رحال في شرحه : وهو الذي به العمل .
قلت : ولا زال العمل عليه إلى الآن ، وعليه فلا يلتفت إلى ما قاله الشيخ الرهوني من أن الراجح هو تكليفه ببيان وجه ملكه إذ هو مخالف للمعمول به ، وقول ابن رشد مجرد الحيازة لا ينقل الملك الخ . يعني في نفس الأمر وفيما بينه وبين الله بدليل قوله متصلاً به ، ولكن يدل على الملك كإرخاء الستر ومعرفة العفاص والوكاء في اللقطة ، وقول ابن رحال في شرحه وحاشيته ههنا : بل ينقل الملك للحائز عند وجود الشروط الخ . يعني يقضى له بذلك في الظاهر ، وهو معنى قول ابن رشد ولكن يدل على الملك الخ . وإذا كانت تدل على نقل الملك وتوجب القضاء به في الظاهر فلا وجه لتكليفه ببيان وجه ملكه ، وإنما يحسن تكليفه بالبيان على القول الذي يفصل بين الهبة والشراء لأنه حينئذ إذا ادعى الهبة يكلف بإثباتها ، وقد علمت أنه خلاف المعتمد ، وبعد كتبي هذا وقفت على أن أبا الحسن قال بعد ذكره الخلاف في تكليفه بالبيان ما نصه : ولعل القائل بالتفصيل بين البيع والهبة هو الذي يقول يكشف عن وجه ملكه ، وأما القائل بأن البيع والهبة سواء فلا فائدة في كشفه اه . وقال ابن رحال أيضاً : ظاهر قول ( خ ) : لم تسمع ولا بينة الخ . ادعى الحائز أن الحوز حصل له من القائم ببيع أو هبة أو لم يدع ذلك وهو كذلك كما رأيته من تصويب ابن يونس اه . وهذا كله إذا ادعى الحائز أنه ملكه ، وأما إن ادعى أنه حوزه فقط فلا إشكال أنه لا ينفعه ذلك .
وَيثبِتُ الدَّفْعَ وَإلاّ الطالِبُ
لَهُ اليَمينُ وَالتقضِّي لاَزِبُ( و ) إذا قبل قول الحائز في الشراء بيمينه فلا بد أن ( يثبت الدفع ) للثمن فيبرأ منه ( وإلا ) يثبته ف ( الطالب له ) أي عليه ( اليمين ) ما قبضه ولا شيئاً منه ( والتقضي ) أي قضاء الثمن ودفعه للطالب ( لازب ) أي لازم للحائز ويدفع من الثمن ما أشبه أن يكون ثمناً وإلاَّ فالقيمة ولا يسقط عنه إلا أن يطول إلى الأمد الذي لا يتابع الناس إلى مثله قاله المشاور ، وفيه دليل على أن الشهادة بالشراء دون تسمية قدر الثمن صحيحة تامة كما مر عند قوله : ومن لطالب بحق شهدا الخ . وبيانه أن البينة هناك شهدت بأصل الشراء لا بالثمن والحيازة هنا دلت على الشراء لا على قدر الثمن ، فكما قالوا هنا يصح البيع ويدفع ما أشبه من الثمن أو القيمة ، فكذلك ينبغي أن يقال هناك كما مر . ثمَّ لا يقال كيف يمكن القائم من الثمن وهو لا يدعيه ، لأنا نقول إنما يمكن إذا رجع إلى تصديق المشتري المدعي للحيازة كما في ( ح ) عن ابن رشد . قلت : وأيضاً فإن المتبايعين إذا اختلفا في عقد البيع وأثبته المشتري أو حلف ونكل البائع فإنه يأخذ الثمن وإن كان لا يدعيه .
تنبيه : ما ذكره الناظم من أنه يثبت الدفع للثمن إنما يتمشى على قول ابن القاسم القائل : يصدق البائع في عدم قبضه إلى عشرين سنة لا على قول غيره الذي تقدم صدر البيوع أنه المعتمد وعرف الناس اليوم عليه لأن مضي العام والعامين يدل على دفعه فكيف يمضي العشر ما لم يكتب الثمن في كتاب ، وإِلاَّ فيجري على حيازة الدين المتقدمة هناك أيضاً كما لأبي الحسن وغيره . ثم أشار إلى المسألة الثالثة المفرعة على قطع حجة القائم فقال :
وَإنْ يَكُنْ مُدَّعياً إقَالَهْ
فَمَعْ يَمِينِهِ لَهُ المَقْالَهْ
( وإن يكن ) الحائز ( مدعياً إقالة ) من القائم الذي أثبت الشراء من الحائز ( فمع يمينه ) أي الحائز ( له المقالة ) فهو كقول ابن سلمون عن ابن الحاج : لو قال الحائز أقلتني فيها بعد أن بعتها منك لكان القول قوله مع يمينه وتبقى الأملاك بيده اه . وقال قبل ذلك : ولو قال القائم إني اشتريتها ثم أعرتك إياها أو أكريتها منك ولذلك لم أقم بها عليك لكان أبين في أن يحلف إذا استظهر بوثيقة الشراء ويأخذها اه . فظاهره أنه يأخذها وإن لم يدع غيبة الوثيقة وليس كذلك كما يأتي قريباً فيجب حمله على ما إذا ادعى مع ذلك غيبتها ، وقد علمت أن الإقالة بيع فهذا حينئذ داخل في البيت الذي قبله يليه فلو حذفه ما ضره ، ثم لا مفهوم لقوله مدعياً إقالة بل كذلك إذا لم يدع شراء ولا غيره ، وإنما قال : هو حوزي وملكي أو ورثته من أبي وهذه مدة الحيازة على عينك وأنت حاضر عالم الخ . كما مر قريباً من أنه لا يكلف ببيان وجه ملكه ، وكما يأتي أيضاً ويحمل الأمر على أنها رجعت للحائز بهبة أو شراء أو إقالة كما صرح بذلك ابن جزيفي تكملته ، ونقله ابن رحال وشارح نظم العمل عند قوله : لا يوجب الملك عقود الأشرية الخ . قال : ويوافقه كلام ابن الحاج لأنه إنما جعل القيام للمشتري على البائع بعد مدة الحيازة وهو بيد البائع إذا قال : إنما سكت لكوني لم أجد وثيقة الشراء أما لو لم يعتذر بذلك لم يقض له بأخذ الأملاك من يد البائع اه . وما نقل عن العبدوسي مما يخالفه لا يعول عليه لأن ظاهره ولو ادعى البائع إقالة أو شراء أو نحوهما فإن المشتري يأخذه من يده وهو مخالف لما للناظم وغيره الذي تلقى غير واحد بالقبول وسلموا له هذا الفرع ، وما للعبدوسي لعله مبني على ما يأتي عن ابن رشد في حيازة الأقارب ، وسيأتي ما فيه بل لو لم يدع شيئاً لم يضره كما مرَّ وفي دعاوى المعيار عن ابن لب قال في أثناء جواب له ما نصه : ولأن العادة تقضي أن المشتري لا يدفع الثمن ويبقى الشيء المشترى بيد البائع السنتين والثلاث ، إذ من المعلوم في ذلك الاستهلاك والتغيير وذهاب الغلة اه . وإذا كان هذا في السنتين والثلاث فكيف بمن بقي بيده مدة الحيازة ؟ وقال ابن يونس مستدلاً على أن الحيازة تنقل الملك ما نصه : ولما كان الإنسان في أغلب الأحوال لا يحاز عنه شيئه ويرى الحائز يتصرف فيه تصرف المالك دل ذلك على أنه خرج عن ملكه فإذا قام يطالبه ويقيم البينة أن ذلك له صار مدعياً لغير العرف فلم يقبل قوله اه . فلم يفرق بين كون الحائز هو البائع أو غيره ولا بين كونه ادعى بيعاً ونحوه أو لم يدع شيئاً والأنقال في مثل هذا كثيرة .
تنبيه : علم مما مر أن قولهم عقود الأشرية لا تفيد الملك ولا ينتزع بها من يد حائز محله إذا لم يكن الحائز هو البائع وإلا فينتزع بها من يده إذا لم تطل مدة الحيازة العشر سنتين فأكثر ، وإلاَّ فلا ينتزع بها من يد البائع كما مر فشدّ يدك عليه لأن الموافق للنقل في النظم وغيره ، ولا تلتفت إلى ما سواه ولا يتجه اعتراض الوانشريسي على ابن الحاج لأن ابن الحاج إنما جعل له القيام مع الاعتذار بعدم وجود الوثيقة ، فجعل عدم وجودها من موانع القيام كالصغر والسفه كما تقدم والله أعلم . وإنما قلنا لأنه الموافق للنقل لما مرّ لأن صاحب المعيار بنفسه قال في أثناء جوابه ما نصه : وأما مجرد الحيازة من غير تعرض لضميمه دعوى الملك في المحوز بوجه من وجوه النقل من شراء أو هبة أو صدقة فلا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز اه . وهو تابع في ذلك لابن رشد القائل : إن الحائز يكلف ببيان وجه ملكه كما يأتي ، وتقدم أن العمل على خلافه وأنه إنما يحسن البيان إذا كان هنا فرق بين الهبة وغيرها ولم يفرق ابن رشد ولا غيره في دعوى الإقالة والشراء بين كونهما من بائع أو غيره ، وإذا كان كذلك فالبائع إذا ادعى الشراء أو الإقالة فقولهمقبول كما ترى في النظم وغيره ، بل وكذا إن ادعى الهبة كما ترى أيضاً في كلام ابن رشد وغيره ، وإنما يبقى الكلام إذا لم يدع الجائز ولو بائعاً شيئاً ، وتقدم أن العمل على عدم كشفه والله أعلم . والعجب منهم كيف جعلوا كلام ابن الحاج مفيداً لكون عقود الأشرية تفيد الملك وصاروا يتكلمون معه من هذه الحيثية ، فمنهم من يقول : إن كلامه صحيح لأنها تفيد الملك إذا كان البائع هو الحائز لا غيره ، ومنهم من يقول كالوانشريسي : أنها تفيد الملك مع أن ابن الحاج إنما جعل القيام للمشتري على البائع الحائز بسبب دعواه عدم وجود الوثيقة كما مر ، وأيضاً فإن ما في النظم من دعوى الإقالة هو لابن الحاج أيضاً ، فلو كانت عقود الأشرية عنده تفيد الملك وينتزع بها من يد البائع ما صدقه في دعوى الإقالة . ولما قدم أن العشر سنين لا بد منها للحديث المتقدم ذكر أن ما قاربها من تسع سنين أو ثمانية بعطى حكمها فقال :
وَالتِّسْعُ كالعَشْرِ لدى ابن القَاسِمِ
أو الثَّمانِ في انقِطاعِ القَائِمِ
( والتسع ) سنين ( كالعشر ) المتقدم ذكرها ( لدى ) عند ( ابن القاسم أو الثمان ) كذلك عنده ( في انقطاع ) حق ( القائم ) . ولكن المعمول هو العشر كما مر .
والمدعي إنْ أثْبَتَ النِّزَاعَ مَعْ
خَصِيمهِ في مُدةِ الحَوْزِ انْتَفَعْ
( والمدعي إن أثبت النزاع مع خصيمه في مدة الحوز ) التي هي العشر سنين ( انتفع ) بذلك وظاهره ولو نازعه مرة واحدة ولو عند غير القاضي وهو كذلك ما مرّ وكما هو ظاهر ( خ ) حيث جعل عشر سنين ظرفاً لحاضر ساكت بلا مانع الخ . فتتنازعه العوامل الثلاثة .
وَقَائمٌ ذو غَيْبَةٍ بَعيدهْ
حَجَّتُهُ باقِيَةٌ مُفيدَهْ
( وقائم ذو غيبة بعيدة ) عن محل الحوز ( حجته باقية مفيدة ) وظاهره ولو غاب بعد الحيازة عليه ست سنين أو ثمان سنين لأنه يصدق عليه أنه لم تجز عليه عشر سنين إذ ما بعد الغيبة لا يحسب عليه وهو كذلك كما يفيده ابن مرزوق وكما يفيده جعل ( ح ) عشر سنين ظرفاً لحاضر وهذا ما لم يتكرر قدومه وسفره كما مرّ . .
وَالْبُعْدُ كالسَّبْعِ وكَالثَّمانِ
وَفي الَّتي تَوسَّلَتْ قَوْلاَنِ
( والبعد كالسبع ) مراحل ( وكالثمان ) وظاهر بلغه العلم بالحيازة عليه أم لا كانت الحيازة عليه بالهدم والبناء أو بالاستغلال والسكنى ثبت عجزه عن القدوم والتوكيل أم لا ، وهو كذلكاتفاقاً ( وفي ) انقطاع حجته في الغيبة ( التي توسطت ) كالثلاثة والأربعة فما فوقها إلى السبع ( قولان ) أولهما لابن حبيب وابن القاسم أنه يسقط حقه إذا لم يثبت عجزه عن القدوم أو التوكيل ، وثانيهما لابن القاسم أيضاً لأنه لا يسقط حقه ولو لم يثبت عجزه ويصدق فيما يدعيه من العجز عن القدوم والتوكيل لأنه قد يكون معذوراً كمن لم يتبين عذره وهو المعتمد ، قال المشاور : وبه العمل . ابن رشد : وهذا الخلاف إنما هو إذا علم بالحيازة عليه .
وَكالحُضُورِ اليَوْمُ واليَوْمَانِ
بِنِسْبَةِ الرِّجَالِ لا النِّسْوَانِ ( وكالحضور ) في عدم سماع دعواه وبينته ( اليوم واليومان ) مع الأمن لا مع الخوف والقدرة على القدوم أو التوكيل لا مع ثبوت العجز عنهما والعلم بالحيازة عليه لا مع عم علمه . ابن رشد : وهو محمول على عدم العلم حتى يثبت علمه ، وتقدم أن الحاضر كذلك ، وهذا ( بنسبة الرجال لا النسوان ) فلا ينقطع حقهن ولو على مسافة يوم أو أقل على ما تقدم في الشفعة ولو علمن بالحيازة عليهن وهن محمولات على العجز عن القدوم وعدم القدرة على التوكيل لقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة إلا مع ذي محرم ) الخ . ولا مفهوم لليوم والليلة . وأما التوكيل فقد لا يجدن من يحسن الخصام ومن يثقن به ، ومفهوم اليوم واليومان أن ما فوقهما لا يقطع حقه وهو كذلك على المعمول به كما مرّ . ثم أشار إلى مفهوم قوله : والأجنبي إن يجز أصلاً الخ . فقال :
والأقْرَبُونَ حَوْزُهُم مُخْتَلِفُ
بحَسَب اعْتمارِهم يَخْتَلِفُ
( والأقربون ) غير الأب وابنه من الإخوة والأعمام وأبنائهم والأخوال وأبنائهم ، وفي معناهم الأصهار والموالي كانوا شركاء أم لا . ( حوزهم ) أي أمد حوزهم ( مختلف بحسب اعتمارهم ) أي تصرفهم في الشيء المحوز ( يختلف ) فتارة يكون اعتمارهم وتصرفهم أقوى الأشياء كالهدم والبناء والغرس وسيأتي ، وتارة يكون بغير ذلك وهو قوله :
فإنْ يَكُنْ بمثْلِ سُكْنَى الدَّارِ
وَالزَّرْعِ لْلأَرْضِ وَالاَعْتِمارِ
للحوانيت بأخذ أكريتها والاستغلال للثمار في الأشجار .
فهو بما يجَوزُ الأرْبعِين
وذو تَشَاجُرٍ كالأَبْعَدِين
( فهو ) أي أمد الحيازة القاطع للحجة فيما بينهم ( بما يجوز الأربعين ) عاماً فإذا حازها أحدهم المدة المذكورة فأكثر فلا حق للمحوز عنه على ما جرى به عمل أهل الوثائق قال ابن لب : وهذا إذا لم يكن بينهم تشاجر ولا عداوة أو أشكل أمرهم ، وأما من عرف التشاح بينهم فهمكالأجانب كما قال : ( وذو تشاجر ) منهم ( كالأبعدين ) فيكتفي فيهم بعشر سنين ، ومراده بالتشاجر التشاح وعدم المسامحة كما في النقل عن ابن يونس والمواق وغيرهما وما في الدر النثير من أن عشرين سنة إلى ثلاثين غاية المدة في حيازة الأقارب لكثرة التشاح في أهل هذا الزمان الخ . لا يعول عليه بل العشر سنين كافية كما للناظم وغيره .
ومِثْلُه ما حِيزَ بِالْعَتَاقِ
ما كَان أَو بالبْيع باتِّفاقِ
( ومثله ) أي اعتمار صاحب التشاجر ( ما حيز بالعتاق ) كيف ( ما كان ) ناجزاً أو مؤجلاً أو كتابة أو تدبيراً ( أو ) ما تصرف فيه ( بالبيع ) فتنقطع فيه حجة القائم بمضي عشر سنين وهو لا ينكر ولا يغير ( باتفاق ) وفيه نظر فإن العتق والبيع يسقطان حق البائع بمجرد علمه وسكوته وإن لم تمض مدة الحيازة من غير فرق بين أجنبي أو قريب كما مرّ في فصل بيع الفضولي حيث قال : وحاضر بيع عليه ماله الخ . ثم أشار إلى حوزهم بأقوى الأشياء فقال :
وفيه بالْهَدْمِ والبُنْيانِ
وَالغْرْسِ أَو عقْدِ الكِرَا قَوْلانِ
( وفيه ) أي وفي مقدار أمد حوز الأقربين ( بالهدم ) لما لا يخشى سقوطه بل ليتوسع فيه أو ليبني غيره مكانه كما مر ( وبالبنيان ) الغير الخفيف ( والغرس ) كذلك ( أو عقد الكرا ) ء في الدار ونحوها وقبضه باسم نفسه بمحضر غيره من الأقارب ( قولان ) أحدهما أن العشر سنين كافية كالشريك الأجنبي ، وثانيهما أنها لا تكفي بل بما يجاوز الأربعين كالحيازة بالسكنى والازدراع ، وهو المذهب ما لم يكن بينهم تشاح فالعشر كافية كما مر ( خ ) : وفي الشريك الغريب معهما أي الهدم والبناء قولان . لا بين أب وابنه إلا أن يطول معهما ما تهلك فيه البينات وينقطع العلم .
تنبيهات . الأول : فإن حاز الوارث الشريك مثل سهمه أربعين سنة فهو له ولا شيء له في الباقي ، وإن ادعى أن ما حازه خاص به وأن حقه ثابت فيما بقي لم يكن له ذلك إذا ادعى إشراكه إنما تركوه ليكون له سهمه وسهامهم فيما بقي وحلفوا على ذلك ، وإن حاز أقل من سهمه كمل له بقية سهمه مما بقي ، وإن حاز أكثر من سهمه فهو له كله قدر سهمه بسهمه ما زاد على سهمه بالحيازة قاله مطرف في الواضحة . قال الرجراجي : وهو المذهب ونحوه في ابن يونس وغيره ، قال الرجراجي : فإن حاز كل من الورثة طائفة من الأرض يحرث ويعمر حتى يموت بعضهم فيكون ولده كذلك فيما تركوا وقد اقتسم ورثته أو لم يقتسموا ثم طلب ورثه الجدالقسم ، فإن طال الزمان فيما يندرس فيه علم المقاسمة فذلك باق على حاله ولا يقبل قول من طلب القسم ثانياً إلا أن يكون عنده بينة ولو بسماع أن ذلك كان منهم على التجاوز والمسامحة دون المقاسمة ، فليستأنف القسم فمن وقع حقه فيما بني أو غرس فهو له ، ومن وقع بناؤه في حق غيره فليحلف ما بني إلا بمقاسمة ثم يخير صاحبه بين أن يعطيه قيمة البناء والغرس قائماً وبين أن يعطيه الباني قيمة أرضه ، وإن أبيا كانا شريكين إلا أن تقوم بينة قاطعة أنه حازه بغير مقاسمة ، أو ينكل عن اليمين ويحلف الآخر فإنه يعطيه قيمته منقوضاً أو يأمر بقلعه فإن لم يكن له بينة قاطعة أو نكلاً أعطاه قيمته قائماً على ما ذكرنا اه . وانظر ما تقدم في المغارسة .
الثاني : ذكر ( ح ) آخر الحيازة مستدلاً بحيازة الدين عن سماع يحيى أن الإنسان إذا أصدق لزوجة ابنه أحقالاً وبقيت بيده سنين حتى مات فأرادت أخذ ذلك فقال لها الورثة : قد عاينته زماناً وهي بيده ولا ندري ولعله أرضاك من حقك أترى للمرأة في ذلك حقاً ؟ . قال : نعم ولا يضرها طول ما تركت ذلك بيد أب زوجها لأن الصداق ليس من الأثمان وليس هو صدقة حتى يحتاج للحوز . قال ابن رشد : وهذه المسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا اختلاف لأن حقها تركته في يد حميها فلا يضرها ذلك طال الزمان أم قصر ، وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز ويفرق فيها بين القرابة والأصهار إذ قد عرف وجه كون الأحقال بيد الحم فهي على ذلك محمولة حتى يعرف تصييرها إليه بوجه صحيح لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها ، وهذا أصل في الحكم بالحيازة اه . فقوله لأن الحائز لا ينتفع بحيازته الخ . يقتضي أن البائع الحائز المدة المعتبرة بين الأقارب والأصهار أو بين الأجانب وادعى أنه رجع إليه بإقالة أو شراء لا يقبل منه لأنه قد عرف أصل مدخله ، وهو كونها كانت بيده وقت العقد أو المسامحة ونحوها ، ومثله تقدم عن العبدوسي . وبكلام ابن رشد هذا استدل الشيخ الرهوني على أن حيازة البائع لا يعمل بها على المشتري منه ولو طالت وادعى الإقالة ونحوها وهو مخالف لقوله : وإن يكن مدعياً إقالة الخ . الذي تلقاه غير واحد بالقبول ومخالف لما مرّ عن الرجراجي قريباً من أن من ادعى القسمة مع طول المدة يصدق والقسمة بيع وقد عرف وجه دخوله وهو المسامحة ونحوها . وما كان يخفى على أولئك الشيوخ كلام ابن رشد هذا لأن ما قاله مبني على مذهبه من أن الحائز لا ينتفع بحيازته إذا لم يدع ابتياعاً أو هبة كما مر عنه ، والورثة إنما قالوا في هذه المسألة : لا ندري ، ولعله أرضاك من حقك فلم يجزموا بالخروج من يدها بالبيع ونحوه ، ولو جزموا بذلك ما جعل له القيام كما مر عنه . قال أبو الحسن على قولها : حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر ما نصه : وهذا إذا ادعى الانتقال بالبيع ونحوه ، وأما لو لم يدع إلا مجرد الحيازة فقال ابن رشد : لا خلاف أنه لا ينفعه لأنه مقر بالملك لغيره مكذب لشاهد العرف الذي هو الحيازة اه . ولكن تقدم أن العمل على خلافه وأن الاتفاق الذي حكاه غير مسلم . قال الرجراجي : واختلف هل يكلف الحائز من أي صار له ؟ على قولين أحدهما إنه يكلف أنه كان بشراء أو هبة ، والثاني أنه لا يكلف إذا ادعى أمراً لا يريد إظهاره أو لم يدع شيئاً إلا مجرد الحيازة وهو قول مطرف ، وهو ظاهر المدونة في الذي قامت الدار بيده سنين يحوزها ويكري ويهدم ، ثم أقام رجل البينة أن الدار داره أو أنها لأبيه حيث قال : فإن كان هذا المدعي حاضراً يراه فلا حجة له وذلك يقطع دعواه ، ولم يقل إنه يسأل من أين صارت إليه اه . بلفظه . وقد تقرر عندهم أنظاهر المدونة كالنص ، ولهذا أفتى ابن أبي زمنين وغيره ، واقتصر عليه ابن يونس كما مرّ ، وتقدم أن العمل عليه وأنه إنما يكلف بالبيان على القول الذي يفرق بين البيع والهبة وإلاَّ فلا فائدة فيه ، وإذا علمت هذا فالوجه اعتماد ما تقدم تحريره عند قوله : وإن يكن مدعياً إقالة الخ . وإنما أطلنا في هذه المسألة وكررنا الكلام فيها مراراً لمسيس الحاجة إليها ولاعتماد الكثير من طلبة الزمان على كلام ابن رشد والله أعلم .
الثالث : حيازة الديون تقدم الكلام عليها صدر البيوع ومنها الوصي يقوم عليه اليتيم بعد طول الزمان وينكر قبض ماله من الوصي ، فإن كانت مدة يهلك في مثلها شهود الوصي فلا شيء عليه وإلاَّ فعليه البينة بالدفع اه . نقله ( ح ) قبيل ما مر عنه .
الرابع : تقدم في الحبس أن الحبس لا يحاز عليه ، وتقدم ما فيه حيث جرى العمل بأنه يباع . واعلم أن عدم المنازع ونحوه كعدم التفويت في علمهم وكونه مالاً من أمواله إنما شرطوه في الشهادة بالملك لا في الشهادة بالحبس ، وإنما شرطوا في الشهادة به أنها تحرم بحرمة الأحباس كما في ابن سلمون وغيره ، وإن كان النص بذلك إنما هو في شهادة السماع فالشهادة بالقطع كذلك بل أولى لأنها أقوى منها ، ويصح قطعهم بذلك إن كان السماع مفيداً للقطع ، فإذا سمع ممن لا يحصى أن هذا حبس على مسجد كذا فإنه يعتمد الشاهد على ذلك ويقطع بأنه يحترم بحرمة الأحباس ولا يسند ذلك إلى السماع ، ولا سيما إن رأى نائب المسجد المذكور يتصرف له طول المدة وينسب ذلك إليه ، ثم إذا وكل أهل المسجد واحداً منهم يخاصم وشهد باقيهم لذلك المسجد بما ذكر فإن شهادتهم جائزة كما في ( ح ) عن ابن عات في باب الشهادات ولا تتوجه يمين الاستحقاق على الحبس ولا يمين القضاء ، وإن شهد للمسجد شاهد واحد فيجري على قول ( خ ) في الشهادات وإن تعذر يمين بعض الخ . وكيفية وثيقة ذلك أن تقول : يعرف شهوده المحل الفلاني المحدود بكذا ومعها يشهدون بأنه حبس على مسجد كذا ، وأنه يحاز بما تحاز به الأحباس ويحترم بحرمتها إلى الآن أو إلى وقت كذا ، فإن كانت شهادة سماع قلت ومعها يشهدون بأنهم لم يزالوا يسمعون سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم أنه حبس على بني فلان أو على مسجد كذا ويعرفونه يحاز بما تحاز به الأحباس ويحترم بحرمتها إلى الآن أو إلى وقت كذا انظر ابن سلمون وغيره . وإذا ثبتت الشهادة بالقطع فلا إشكال أنه ينزع بها من يد الحائز ، وكذا بالسماع على ظاهر ابن عرفة كما تقدم عند قوله في شهادة السماع : وحبس حاز من السنين الخ . ثم أشار الناظم إلى مفهوم قوله : إن يحز أصلاً فقال :
وفي سوى الأصولِ حوزُ النَّاس
بالعَامِ والعامَيْنِ في اللِّباسِ
( وفي سوى الأصول ) من العروض والحيوان وغيرهما ( حوز الناس ) الأجانب يكون ( بالعام والعامين في اللباس ) فحوز الناس مبتدأ وفي سوى الأصول يتعلق به وبالعام والعامين خبره ، وفي اللباس بدل من قوله في سوى الأصول بدل بعض من كل .وما كَمَرْكوبٍ ففيه لَزِما
حوزٌ بعَامَيْن فما فوقَهُما
( وما ) كان ( كمركوب ) من الدواب اسم شرط ( ففيه لزما ) جوابه ( حوز بعامين ) فاعل ( فما فوقهما ) عطف عليه .
وفي العبيد بثَلاَثةٍ فما
زَاد حُصُولُ الحَوْزِ فيما اسْتُخْدِما
( وفي العبيد بثلاثة ) من الأعوام ( فما زاد ) عليها ( حصول الحوز فيما استخدما ) فحصول الحوز مبتدأ وفي العبيد يتعلق به وبثلاثة خبره وفيما استخدما بدل من قوله في العبيد بدل بعض من كل أيضاً ، ومعنى الأبيات ظاهر ، وما ذكره من أن الأصول تفارق غيرها في حيازة الأجانب أصله لأصبغ كما في المفيد وغيره ، وعليه درج ( خ ) حيث قال : وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ، ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان ويزاد في عبد وعرض الخ . إلا أنه اعترض عليه بحسب مفهومه لأن مفهوم قوله : في الأجنبي أن العقار وغيره سواء في حيازة الأقارب فلا بد فيه من الأربعين سنة ، وهذا لا يقوله أصبغ بل هو كما فرق بين الأجانب في الأصول فرق في غيرها من الأقارب ، فجعل الحيازة بينهم في غيرها فوق العشرة أعوام ودون الأربعين بالاجتهاد كما في ابن سلمون ، وأما ابن القاسم فسوى بين الأصول وغيرها في الأجنبي كما سوى بينهما في الأقارب ، ففي المدونة قال ابن القاسم : من حاز على حاضر عروضاً أو حيواناً أو رقيقاً فذلك كالحيازة في الربع اه . وعليه فمفهوم قوله في الأجنبي لا يتمشى على قول أصبغ كما ترى ولا على قول ابن القاسم لأن الحكم لا يختلف عنده في الأصول وغيرها ، فالأجانب بالعشرة فيهما والأقارب بما يزيد على الأربعين فيهما فتوجه عليه الاعتراض ، وأما الناظم فكلامه خاص بالأجانب كما قررنا ، وأما حوز الأقارب لغير الأصول فلم يتكلم عليه وتكون الحيازة بينهم فيه بما فوق العشرة ودون الأربعين على قول أصبغ الذي درج عليه فلا اعتراض عليه ، ولكن مستند ( خ ) فيما ذكره هو قول ابن رشد ما نصه : ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والعروض والحيوان ، وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي مال الأجنبي اه . قال طفي : ولم أر التفصيل الذي سلكه ابن رشد من التفريق في الأجنبي فقط إلا أنه رجل حافظ ولعله فقه له اه .
والوطْءُ لِلإِماءِ باتِّفاقِ
مع عِلمْهِ حَوْزٌ عَلَى الإطْلاَقِ
( والوطء للإماء باتفاق مع علمه ) أي القائم وسكوته بلا مانع ( حوز على الإطلاق ) طالت المدة أم لا . فقوله : باتفاق يتعلق بقوله حوز ، ومع علمه يتعلق بالوطء ، وهذا البيت تكرار مع قوله في فصل بيع الفضولي :والعتق مطلقاً على السواء
مع هبة والوطء للإماء
وَالماءُ لِلأَعْلَيْنَ فيما قَدُما
والأَسْفَلُ الأقْدَمُ فيه قُدِّما
( و ) إذا غرس قوم غروساً أو زرعوا زروعاً على ماء مباح غير مملوك كماء الأمطار أو ماء الأنهار ف ( الماء للأعلين ) الذين يجري عليهم أولاً ( فيما قدما ) بضم الدال أي تقدم غرساً أو زرعاً وكذا لو تساووا بأن غرسوا أو زرعوا دفعة واحدة أو شك من المتقدم والمتأخر فإن الأعلين يقدمون في السقي في ذلك كله ، فإن غرس الأسفلون أولاً أو زرعوا كذلك تحقيقاً فهو قوله : ( والأسفل الأقدم ) غرساً أو زرعاً ( فيه ) أي الماء ( قُدِّما ) بضم القاف وتشديد الدال المكسورة مبنياً للمفعول وكل من قضى بتقديمة فإنما يمسك الماء للكعب ثم يرسل جميعه للآخر على المذهب خلافاً لابن رشد حيث استظهر مذهب الأخوين أنه يرسل ما زاد على الكعبين لا جميع الماء . والحاصل أن الماء الذي تحقق عدم ملكه فإن الأعلى يقدم فيه سواء تقدم في الغرس والزرع أو ساوى ، وسواء تحقق تقدمه أو مساواته أو شك في ذلك ، وأن الأسفل المتقدم في الغرس والزراعة يقدم على الأعلى مطلقاً خيف على زرعه الهلاك أم لا . والأصل في هذا ما قضى به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مهزور بتقديم الزاي على الراء ومذينب وهما واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر ، ومحل تقديم الأقدم إذا لم يكن الأقدم رحى أو حماماً والأقدم سقي الجنان ونحوها عليهما ، ولو تقدمت في الأحياء وكانت أقرب للماء كما لابن رشد لأن ماء الجنان يصرف إذا بلغ إلى الكعب للرحى ولا يصرف ماء الرحى ونحوها له ، ولأن تأخير سقي الجنان قد يؤدي لتلف ما في الحائط وتأخير الماء عن الرحى لا يؤدي لتلفها بل لتعطيلها فقط قاله الأجهوري .
واعلم أن ماء الأنهار والخارج من العناصر والعيون من جبل ثم يجري لأراضٍ تحته إما أن يكون أصله مملوكاً ببينة عدلة أم لا ، فإن كان مملوكاً فربه أحق به وله منعه وبيعه وله صرفه حيث شاء ، ولو غرس عليه غيره بعارية وانقضت أو بغير إذن وربه ساكت عالم الخ . فإن ذلك لا يضر لأن الماء المعلوم ملكيته بالبينة لا يحاز بالانتفاع به دون استحقاق أصله لاحتمال أن سكوت المالك طول الزمان إنما هو لعدم الاحتياج إليه ، وإن لم تقم بينة بملكيته لأحد بل جهل أمره ولم يدر السابق من اللاحق ولا المالك من غيره لتقادم الأعصار وهلاك البينات القديمة فإنه يبقى كل واحد على انتفاعه كما كان ولو كان الآن ينبع في أرض مملوكة إذ لا يدري أصله كيف كانوالأصل بقاء الأشياء على ما كانت عليه حتى يدل دليل على خلافه لاحتمال أن يكون أصله مملوكاً للجميع أو يكون مملوكاً للأسفل . وهذا محصل ما للفقيه النوازلي سيدي إبراهيم الجلالي ، ونقله في نوازل العلمي واستدل على ذلك بنقول ووجهه ظاهر والله أعلم . وبهذا كنت حكمت في عناصر وادراس لما تحاكم إلي أهل المنزل مع من فوقهم وكان لأهل المنزل سواقي قديمة مبنية فأراد الأعلون أن يقطعوا ذلك الماء عنهم ، فحكمت بقسمته بينهم على ما كانوا عليه إذ لا يدرى السابق من اللاحق ولا المالك من غيره ، ووافق على ذلك المعاصرون من الفقهاء والله حسيب من بدل أو غير .
تنبيه : إذا مال الوادي عن مجراه القديم وصار الموضع الذي كان يمر عليه يابساً فقيل موضعه لمن ألقاه النهر إليه وحازه له وهو قول عيسى بن دينار وابن الماجشون ، وبه أفتى ابن حمديس وابن الحاج . قال سيدي يحيى السراج : وهو الراجح حسبما في نوازل الزياتي ، وقيل هو بمنزلة الموات . قال أبو الحسن علي بن يحيى الأندلسي في آخر وثائقه : وهذا الخلاف إذا تغير عن جريه المعروف وبقي موضعه يابساً ، وأما ما اقتطعه النهر من أرض الغير فالصواب بقاء ما غيره النهر واقتطعه على ملك ربه ويقال : وكذلك لو انحرف النهر عن مجراه وجرى في أرض رجل ثم عاد إلى موضعه أو يبس لعادت أرضه إلى ملك ربها اه .
وما رَمَى البَحْرُ بهِ من عَنْبَرِ
ولؤْلؤٍ واجدُهُ بهِ حَرِي
( وما رمى البحر به من عنبر ) وصدف بالدال المهملة ( ولؤلؤ ) غير مثقوب وإلا فهو لقطة ( واجده ) مبتدأ ثان ( به حري ) خبره والجملة خبر الموصول ( خ ) : وما لفظه البحر من كعنبر فلواجده بلا تخميس الخ . وأحرى الحوت الذي يصطاد من البحر فليس للإمام ولا لغيره أن يأخذ الصيادين فيه خمسه أو عشره أو نحو ذلك ، ويحكى أنه كانت بحيرة في تونس يخرج منها حوت كثير فكان يعيش به خلق كثير حتى وضع عليه الإمام مكساً فذهب بالكلية ولم يخرج منها شيء .
فصل في الاستحقاقابن عرفة : هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله أو حرية كذلك بغير عوض الخ . فقوله : بثبوت ملك قبله أخرج به رفع الملك بالهبة والبيع والاعتصار والعتق ونحوها لأنه رفع ملكبثبوت ملك بعده في ذلك كله وقوله : أو حرية عطف على ملك من قوله بثبوت ملك بعده يعني أو رفع ملك بثبوت حرية كذلك أي قبله ، وأشار به إلى الاستحقاق بالحرية وبقوله بغير عوض وأخرج به ما وجد في المغانم بعد بيعه أو قسمه فإنه لا يأخذ إلا بالثمن كما يأتي ويدخل في الحد مدعي الحرية إذا استحق برق لأن مدعي الحرية يملك منافع نفسه واستحقاقه برقية برفع ذلك الملك ، كذا يدخل الاستحقاق بالحبس إن قلنا هو على ملك الواقف ، وكذا إن قلنا هو ملك للموقوف عليه . قال ( ح ) : ولا يتصور الاستحقاق إلا بمعرفة حقيقته وحكمه وسببه وشروطه وموانعه ، أما حقيقته فهو ما ذكر ، وأما حكمه فقال ابن عرفة : حكمه الوجوب عند تيسر أسبابه في الربع والعقار بناء على عدم يمين مستحقه وعلى يمينه هو مباح كغير العقار والربع لأن الحلف مشقة اه . وتعقبه ابن رحال وغيره بأنه لا مقتضى للوجوب هنا لأن هذا حق مخلوق فكيف يأثم بعدم القيام به اه . ؟
قلت : وقد يجاب بأن مراد ابن عرفة إذا لم تسمح نفسه بذلك لما فيه حينئذ من إطعام الحرام لغيره مع القدرة على منعه منه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ) . وقال ( انصر أخاك وإن ظالماً ) ونصره أن تمنعه عن ظلمه فالمستحق حينئذ آثم بعدم قيامه بالاستحقاق لأنه ترك واجباً عليه فهو راجع إلى تغيير المنكر وهو واجب على كل من قدر عليه ، والمستحق من ذلك القبيل وهذا عام سواء كان الاستحقاق من ذي الشبهة أو من غاصب لأن المستحق يجب عليه أن يعلم ذا الشبهة بأنه لا ملك له فيه ، وأنه يستحقه منه ، وأنه لم تسمح نفسه به ويطلعه على بيان ملكه للشيء المستحق وإذا لم يعلمه كان قد ترك واجباً عليه آثماً بذلك وهو معنى وجوب قيامه بالاستحقاق خلافاً لما للشيخ الرهوني من أنه لا يظهر وجوبه بالنسبة لذي الشبهة اه . قال ( ح ) : وأما سببه فهو قيام البينة على عين الشيء المستحق أنه ملك للمدعي لا يعلمونه خرج عن ملكه إلى أن وجده بيد فلان الخ . ويأتي هذا للناظم في قوله : وما له عين عليه يشهد إلى آخر الأبيات الثلاثة . ثم إن الشهادة بأنها لم تخرج عن ملكه إنما تكون على نفي العلم في قول ابن القاسم المعمول به قال : وأما شروطه فثلاثة . الأول : الشهادة على عينه إن أمكن وإلاَّ فبحيازته الخ . قلت : هذا هو عين قوله وأما سببه كما لا يخفى وقاله ابن رحال وجواب الشيخ الرهوني عنه لا يظهر . الثاني : الإعذار في ذلك إلى الحائز وسيأتي هذا في قول الناظم : وإن يكن له مقال أجلا الخ . الثالث : يمين الاستحقاق وفي لزومها ثلاثة أقوال . المعمول به عند الأندلسيين أنه لا يحلف في العقار ويحلف في غيره ، وسيأتي هذا للناظم أيضاً : ولا يمين في أصول ما استحق الخ . ثم قال ( ح ) : وأما موانعه ففعل أو سكوت . أما السكوت فمثل أن يترك القيام من غير مانع حتى يمضي أمد الحيازة أي المتقدمة في الفصل قبل هذا ، وأما الفعل فمثل أن يشتري ما ادعاه من عند حائزه فلو قال : إنما اشتريته خوف أن يفوته علي فإذا أثبته رجعت عليه بالثمن لم يكن له مقال . وقال أصبغ : إلا أن تكون بينته بعيدة جداً أو يشهدقبل الشراء أنه إنما اشتراه لذلك فذلك ينفعه ، ولو اشتراه وهو يرى أن لا بينة له ثم وجد بينة فله القيام وأخذ الثمن منه اه . وأحرى لو اشتراه وهو غير عالم أنه له قاله ابن رحال وهو ظاهر .
المُدّعي استحقاق شيءٍ يلزَمُ
بَيِّنَةً مثبِتةً مَا يَزْعَمُ
( المدعي استحقاق ) ملك ( شيء يلزم ) بفتح الزاي المخففة مبنياً للمفعول ونائبه ضمير المدعي ( بينة ) مفعوله الثاني ( مثبتة ما ) أي الملك الذي ( يزعم ) بأن يقيم بينة تشهد على عين الشيء المستحق أنه ملكه ومال من ماله وتحت يده تصرف فيه وينسبه لنفسه من غير منازع له في ذلك ولا معارض مدة من عشرة أشهر فأكثر وأن حده كذا إن كان أرضاً ونحوها ولا يعلمونه خرج عن ملكه بوجه من الوجوه إلى أن ألفاه الآن بيد فلان أو إلى أن توفي وتركه لمن أحاط بميراثه كما تقدم أول فصل الحوز . واختلف هل هذه القيود لا بد أن يصرح بها الشاهد فإذا سقط شيء منها بطلت الشهادة إن تعذر سؤالهم بأن ماتوا أو غابوا أو لا يحتاج إلى التصريح بذلك ، وإنما يعتمد عليها في باطنه فقط ، والأول هو المعمول به . وقد بسطنا الكلام على ذلك في حاشية اللامية . ثم إن هؤلاء الشهود يؤدون على عين الشيء المستحق إن أمكن وإلا فيبعث القاضي من يحوز الدار ونحوها كما يأتي . وقوله : بينة يعني أو إقرار المطلوب ، ففي أقضية البرزلي عن ابن أبي زيد من طلبت منه أخته ميراثها من أملاك أبيها فقال : بيدي ربع ملكته من أبي وربع ملكته بكسبي وغفل عنه حتى مات أن على ورثته إثبات ما ادعى أنه استفاده بعد أبيه وإلاَّ حلفت ما علمت بما استفاده وقسم بينهما اه . بنقل ( ح ) في باب الإقرار ، ونقلنا مثله عن ابن أبي بكر اللؤلؤي في باب الاستحقاق من شرح الشامل . ثم أشار إلى أن المدعي يلزم بالإتيان بالشهادة المتقدمة فقال :
من غَيْرِ تَكْليفٍ لِمَنْ تملَّكهْ
من قبل ذا بأيِّ وَجْهٍ مَلَكَهْ
( من غير تكليف لمن تملكه ) أي حاز الشيء المستحق وادعى ملكيته ( من قبل ذا ) يتعلق بملكه من قوله ( بأي وجه ملكه ) والإشارة للاستحقاق أي يلزم المدعي بالإتيان بالشهادة المذكورة من غير تكليف لمن ادعى ملكيته بأي وجه ملكه من قبل هذا الاستحقاق ، بل يكفي المطلوب أن يقال : حوزي وملكي . وبالجملة ، فإن المدعي إما أن يدعي أن هذا الشيء ملكه فإن المطلوب يوقف على الإقرار أو الإنكار خاصة فإن قال : حوزي وملكي فلا يكلف بأكثر من ذلك ويكلف المدعي بالإتيان بالشهادة المتقدمة فقط ، وإما أن يدعي أنه ملك جده مثلاً فإن المطلوب لا يوقف على الإقرار والإنكار حتى يثبت المدعي موت جده وإراثته فإن أثبت ذلك وقف المطلوب على الإقرار والإنكار أيضاً ، فإن قال : حوزي وملكي فلا يكلف بأكثر من ذلك ويكلفالمدعي بالإتيان بملكية جده على الوصف المتقدم فإن عجز المدعي عن إثبات موت جده وإراثته فلا يكلف المطلوب بالجواب كما تقدم في فصل المقال فراجعه هناك . وإذا وقع ونزل وكلفه بوجه ملكه قبل إثبات الملكية فقال : ملكته بشراء ثم رجع وقال : حوزي وملكي فإنه يقبل رجوعه إذ ما كان للقاضي أن يكلفه ببيان وجه ملكه قبل أن يثبت المستحق الملكية وقبل الإعذار له فيها قاله في استحقاق المعيار . فإذا أثبت ملكية نفسه أو ملكية جده وإراثته على الوجه المتقدم وأعذر للمطلوب في ذلك ولم يجد مطعناً كلف المطلوب حينئذ بالجواب من أين صار له وبأي وجه ملكه فإن قال : حوزي وملكي وقد حزته عشر سنين والمدعي عالم ساكت بلا مانع كلف إثبات ذلك فإذا أثبته أعذر فيه للمدعي فإذا لم يجد مطعناً سقطت دعواه كما مر في الفصل قبله ، فإن لم يدع المطلوب حيازته عشر سنين أو ادعاها ولم يثبتها على الوجه المطلوب بل أثبت أقل منها أو اختل شرط من شروطها المتقدمة فلا بد حينئذ أن يبين من أين صار له وبأي وجه ملكه ولا يكفيه قوله : حوزي وملكي ، فإن ادعى أنه صار له بالبيع ونحوه من غير الذي أثبت الملك وله وهو الطالب أو موروثه لم يلتفت إليه ولا ينفعه ذلك ولو أثبته لأنه قد يبيعه أو يهبه من لا يملكه فإن أثبت مع ذلك ملكية بائعه أو واهبه فينظر فيما بين الملكيتين بالمرجحات المتقدمة في الشهادات ، وإن ادعى أنه صار له بالبيع ونحوه من قبل الطالب أو موروثه كلف إثبات ذلك ، فإن أثبته وعجز الطالب عن الطعن فيه بطلت دعواه وإن عجز عن إثبات ذلك للطالب به بعد يمين الاستحقاق في غير الأصول كما قال :
وَلا يمين في أصُولِ ما استُحِقْ
وفي سِوَاها قَبُلُ الإعْذَارِ يَحِقْ
( ولا في يمين أصول ما ) زائدة ( استحق وفي سواها ) أي الأصول من العروض والحيوان وغيرهما ( قبل الإعذار ) للمستحق منه ( يحق ) هو أي اليمين بأن يقول : بالله الذي لا إله إلا هو ما باع الشيء المستحق ولا وهبه ولا خرج عن ملكه بوجه إلى الآن . قال المتيطي : واتفقوا في غيرالأصول أنه لا يقضى للمستحق بشيء من ذلك حتى يحلف اه . وإنما وجبت اليمين لأن الشهود إنما قالوا ولا يعلمونه خرج عن ملكه كما مر ، فهم يشهدون على نفي العلم ولا تقبل منهم إلا كذلك ، وقد يكون الملك خرج عن ملكه وهم يعلمون فاستظهر بهذه اليمين على باطن الأمر ، وإنما سقطت هذه اليمين في الأصول لأن انتقال الملك فيها لا يكاد يخفى والتفريق بين الأصول وغيرها هو الذي عليه العمل عند الأندلسيين وغيرهم كما مرّ . وفي ابن عرفة عن ابن زرقون أن المشهور لزوم اليمين حتى في الأصول ، وفي المعيار عن ابن لب أنه الذي به العمل ودرج عليه ناظم عمل فاس حيث قال :
كذا في الاستحقاق للأصول
القول باليمين من معمول
وقوله قبل الإعذار يحق صوابه بعد الإعذار لئلا يطعن المستحق منه في البينة فتذهب يمين المستحق باطلاً كما تقدم نظيره في اليمين مع الشاهد .
تنبيه : من شهد له بملك أمة فولدها بمنزلتها يأخذه المستحق معها إن أمكن أن يكون ولدته بعد التاريخ الذي شهد له بملكها فيه قاله في المعين . ومن استحق من يده شجر وقد كان أنفق عليها وسقى وعالج وهو ذو شبهة فإنه يرجع بأجرة سقيه وعلاجه كما في ( ح ) عند قول ( خ ) أوائل البيوع : وتراب صائغ وله الأجر الخ . قال : وكذا لو اشترى آبقاً ففسخ البيع بعد أن أنفق عليه . وانظر أقضية المعيار فإنه ذكر فيه أنه يصدق في قدر الغلة ولا يصدق في قدر الإنفاق ، وانظر تحصيل استحقاق الأرض بعد زرعها في فصل كراء الأرض والجائحة فيه ، وإذا أعذر للمستحق منه فإنه يقال له أنت مخير بين أن تسلم أو تخاصم فإن قال : أنا أخاصم فسيأتي وإن قال : سلمت فهو قوله :
وَحيثما يقُولُ ما لي مَدْفَعُ
فهو على من باع مِنْهُ يَرْجِعُ
( وحيثما يقول ) المستحق منه عند الإعذار له فيما أثبته المستحق ( ما لي ) أي ليس لي ( مدفع ) وطعن في البينة الشاهدة له ولا أخاصمه بالكلية فلا أراجع الشهود ولا استفسرهم ولا أسأل العلماء عن فصول الوثيقة فإنه يحكم القاضي حينئذ باستحقاق من يده ( فهو ) أي المستحق منه ( على من باع منه يرجع ) بثمنه الذي دفعه له ، وللبائع حينئذ أن يخاصم أو يسلم ، وهكذا وليس للمستحق منه أن يرجع على البائع بالثمن قبل الحكم عليه بالاستحقاق كما في الأقضية والشهادات من البرزلي ، بل ولا يطالب أيضاً بالخصومة كما في المديان والدعاوى والأيمان من المعيار قائلاً : إن البائع لا يطالب بالخصومة حتى يحكم على المشتري منه بالاستحقاق ، ثم إذا رجع على البائع بالثمن فلا يخلو إما أن يكون البائع معه في البلد فالأمر واضح ، وإن كان ببلدآخر فله أن يذهب بالدابة ونحوها ليرجع عليه بعد أن يضع قيمتها ببلد الاستحقاق ، وإن كان المستحق بالفتح جارية لم تدفع إليه حتى يثبت أنه مأمون عليها وإلاَّ دفعت إلى أمين ثقة يتوجه بها معه وأجرته عليه ، وكذا عليه نفقتها في ذهابها ورجوعها وأجرة حملها ، ويؤجل في ذلك أجلاً بقدر بعد الموضع وقربه فإن رجع بها عند الأجل فذاك وإلاَّ أخذ المستحق القيمة ، فإن جاء بها سالمة بعد أخذه القيمة فلا شيء له فيها ، وإن جاء بها عند الأجل قبل أن يقضى له بالقيمة وقد تغيرت خير في أخذها أو القيمة ، وإن ماتت فمصيبتها من الذاهب بها وأخذ المستحق القيمة ، وإن تلفت القيمة والشيء المستحق فمصيبة كل من صاحبه انظر ابن سلمون واللامية وشروحها .
تنبيهان . الأول : هل يتسلسل الذهاب فيذهب البائع بها إلى بائعه أيضاً وهلم جرًّا كما في المقدمات أو الذهاب بها مخصوص بالأول ؟ وأما غيره فيرجع بالاسم والصفة وهو الذي في المعيار والمفيد . قال الحميدي : وبه العمل لكن محل الخلاف إذا أراد الرجوع بالثمن ، وأما إذا أراد الذهاب بها ليثبت أنها ملك البائع المرجوع عليه فإنه يمكن من ذلك الثاني والثالث والرابع وهلم جرًّا . لأن الإثبات لا يكون إلا على عينها قاله الشدادي في حواشي اللامية ، ونحوه تقدم عن ابن رحال في فصل التوقيف ، وتقدم هناك ما إذا أراد المستحق بالكسر الذهاب بها ليقيم البينة على عينها . وانظر العمل المطلق في الاستحقاق فإنه ذكر أن المستحق منه يرجع على بائعه بالصفة ، وسيأتي عند قوله : وما له عين عليها يشهد الخ .
الثاني : قال سيدي عبد القادر الفاسي : إذا اختار المستحق من يده عدم الخصام فإن الخصومة ترجع بين البائع والمستحق ، فإذا خاصم البائع المستحق وغلبه كان الشيء المستحق للبائع لا للمستحق من يده لأنه قد أسلمه وقد انفسخ البيع . ثم أشار إلى ما إذا لم يسلم وقال : أنا أخاصم فقال :
وإنْ يَكُن له مَقَالٌ أُجِّلاَ
فإن أتى بما يَفِيدُ أُعْمِلا
( وإن يكن له ) أي المستحق منه ( مقال ) في البينة الشاهدة بالاستحقاق وسأل الاعذار فيها ليجرحها ، أو قال شهدت بزور أو كذب ونحو ذلك ( أجلا ) لإثبات ما أعاده من التجريح وما معه أجلا قدره شهر كما مرّ في فصل الآجال حيث قال : وحل عقد شهر التأجيل فيه الخ . ( فإن أتى بما يفيد ) في تجريحها ونحوه ( أعملا ) ما أتى به وبقي الشيء بيده ( و ) إن لم يأت بشيء وعجزعن إثبات ما ادعاه حكم القاضي بالاستحقاق لمدعيه .
وَما لهُ في عجْزهِ رجُوعُ
عَلَى الذِي كانَ لهُ المبيعُ
( وما له ) للمستحق منه ( في ) حال ( عجزه ) المذكور ( رجوع ) بالثمن ( على الذي كان له ) الشيء ( المبيع ) لأنه يقول رجوعه : أنت بعتني ما ليس لك بدليل هذه البينة الشاهدة للمستحق وهو قد كذبها بدعواه تجر ونحوه ، وحيث كطبها فهو مقر بصحة ملك البائع فليس له الرجوع عليه بما تقتضيه شهادتهما على المعمول به كما معاوضات المعيار عن أبي الحسن ، وفيها أيضاً عن العبدوسي في رجل باع أملاكاً فاستغلها المشتري أربعة أعوام فاستحق حظ منها بالحبس وأخذ المشتري يخاصم إلى أن حكم عليه قال : لا رجوع له على بائعه لأن مخاصمته تتضمن أنه إنما باعه ما ملك ، وأن دعوى المستحق فيه باطلة فكيف يرجع عليه هذا هو المشهور وبه العمل اه . وقوله : لأن مخاصمته تتضمن الخ . صريح في أنه كان لا يرجع لعلمه صحة مالك البائع لأنه بالتكذيب ودعوى التجريح مقر بذلك ، وهو إذا أقر بصحة ملكه ثم يرجع لأنه معترف بأن المستحق قد ظلمه والمظلوم لا يظلم غيره كما قال ( خ ) : في الاستحقاق تشبيهاً في عدم الرجوع ما نصه : كعلمه صحة ملك بائعه الخ . فجواب العبدوسي المذكور صريح في أن مسألة الناظم راجعة لعلم صحة ملك البائع وهو ظاهر ( خ ) أيضاً لأنه اقتصر على علم صحة ملك البائع ولم يتعرض لمسألة الناظم كما أن الناظم لم يتعرض لعلم صحة ملك البائع ، وما ذاك إلا لكون المسألتين بمعنى واحد كما ترى ، واقتصر غير واحد في مسألة الناظم على عدم الرجوع وصرح العبدوسي وأبو الحسن بأن العمل به كما ترى ، وبالجملة فعلم صحة ملك البائع إما أن يكون بإقرار المبتاع كما لو كتب الموثق في رسم الشراء وعلم المبتاع وأقر بصحة ملك البائع عند العقد ، وإما أن يكون بدعوى التجريح والتكذيب لبينة الاستحقاق إذ ذلك كله راجع لصحة ملك البائع كما مرَّ عن العبدوسي ، والأحكام إنما تدور على المعاني لا الألفاظ ، وقد ذكروا في علم صحة ملك البائع روايتين . قال ابن رشد : لكل منهما وجه من النظر فوجه الرواية بعدم الرجوع هو أنه لا يصح له أن يرجع على البائع بما يعلم أنه لا يجب عليه ووجه الرجوع أن البائع أدخل المشتري في ذلك فعليه أن يبطل شهادة من شهد عليه بباطل حتى لا تؤخذ السلعة من يد المشتري ويتهم إذا لم يفعل ذلك أنه قصر في الدفع إذا علم أن المشتري لا يتبعه بالثمن فأراد أن يكلفه من الدفع ما هو ألزم له منه اه . وقد ذكر أبو الحسن حسبما في الدر النثير أن بالرواية الأولى العمل ، وقال ابن المدونة ونحوه في الفائق والمعين والفشتالي وغيرهم ، وصرح المكناسي في مجالسه بأنهالمشهور ، وقد تبين أن كلاً من القولين عمل به فيما إذا علم حصة ملك بائعه ، ولكن أكثر الموثقين على القول بالرجوع ، ووجهه ظاهر كما مر عن ابن رشد فيجب اعتماده والتعويل عليه ، وأما مسألة التكذيب ودعوى التجريح فلم يقتصروا فيها إلا على عدم الرجوع ، ومنهم من صرح بأن العمل عليه كما مرّ مع أنها أضعف أضعف من علم صحة المكل إذ لا يلزم من التكذيب والطعن علم صحة الملك للبائع إذ قد يكذبها ويريد الطعن فيها . وصحة ملك البائع مشكوكة عنده إذ كل من قامت عليه شهادة يجوز كذبهم وصدقهم وكونهم ممن يقدح فيهم والشرع جوز له البحث عن ذلك ، فإذا تبين صدقهم وكونهم ممن لا يقدح فيهم رجع على بائعه فالتكذيب وإرادة الطعن أعم من العلم بصحة ملك البائع ، والأعم لا إشعار له بأخص معين فيلزم القائل بالرجوع في علم صحة الملك أن يقول به في التكذيب وإرادة الطعن بالأحرى . وحينئذٍ فيجب التعويل فيها على ما مر في علم صحة الملك ولا وجه للتفريق بينهما ، ولهذا لم يفرق بينهما ( م ) في شرح اللامية بل جعل الروايتين جاريتين في مسألة الناظم ، وهذا كله إذا طلب الإعذار للتكذيب والتجريح كما قررنا ، وأما إذا طلبه بقصد طلب رجوعهم عن الشهادة وسؤالهم عن كيفية شهادتهم وهل فيها تناقض أو سقط فصل من فصولها وأركانها ونحو ذلك مما لا يقتضى التكذيب كما هي عادة الناس اليوم ، فإن ذلك لا يبطل حقه في الرجوع قطعاً ، ولا ينبغي أن يختلف فيه لأنه لم يكذبهم قاله ابن رحال . قال : وكذا لو يكن له إلا مجرد الإعتقاد أو الشك كما مرّ ، وبهذا كله يسقط ما قد قيل : إن التكذيب أضر من علم صحة الملك كما في شرح العمل المطلق والله أعلم .
والأَصْل لا تَوْقِيفَ فيه إلاّ
مع شُبْهَةٍ قويَّةٍ تَجَلّى
( والأصل ) إذا ادعى شخص استحقاقه وطلب أن يعقله ويوقفه فإنه ( لا توقيف فيه ) ولا يجاب إلى ما طلب ( إلا مع شبهة قوية تجلى ) أي تتضح وتظهر كشهادة عدل ولو محتاجاً للتزكية أو اثنين كذلك أو عدلين مقبولين وبقي الإعذار فيهما كما مر في فصل التوقيف .
وفي سِوَى الأصْلِ بِدَعْوَى المُدِّعِي
بيّنةً حاضِرةً في المَوضِعِ
( وفي سوى الأصل ) من العروض والحيوان يوقف ( بدعوى المدعي بينة حاضرة بالموضع ) كما تقدم له تفصيل ذلك في الفصل المذكور ، ولذلك أجمل ههنا .
وَما لهُ عَينٌ عَلَيْهَا يَشْهَدُ
من حيوانٍ أوعُرُوضٍ تُوجَدُ
( وما ) مبتدأ ( له عين ) يتعلق بتوجد آخر البيت ( عليها يشهد ) خبر المبتدأ ( من حيوان أو عروض ) بيان لما ( توجد ) صلة ( ما ) والتقدير : وما توجد له عين أي ذات من حيوان أو عروضيشهد شهود الاستحقاق ويؤدون شهادتهم على عينها ، وهذا الإعراب ظاهر من جهة المعنى ، ولكن فيه تقديم النائب عن فعله ، ويجوز أن يكون له عين هو صلة ( ما ) وتوجد صفة لعين أي : والذي استقر له عين موجودة في البلد من حيوان أو عروض لا بد أن يؤدي شهود الاستحقاق عند الحاكم أو نائبه شهادتهم على عينها كما مرَّ أول الفصل وفهم من قوله : توجد إنها لو لم تكن موجودة بل كانت غائبة لجازت الشهادة فيها على الصفة وهو كذلك ، ففي الوثائق المجموعة إذا كانت الجارية غائبة فالشهادة فيها على النعت والاسم جائزة فإن وجدت جوارٍ كثيرة على تلك الصفة كلف الحاك المستحق أن يثبت عنده أنها واحدة منهن ، وإن لم يوجد سواها لم يكلف شيئاً انتهى . ونقله ابن سلمون وغيره وهو معنى قول ( خ ) في القضاء وحكم بما يتميز غائباً بالصفة كدين الخ .
قلت : وكذا يقال في المستحق من يده فإنه يرجع على بائعه بالصفة ما لم تكن هناك دواب أو جوار على تلك الصفة وإلا كلف تعيينها كما مرّ وكذا يقال إذا هلك الشيء المستحق بيد مشتريه ثم ثبت الاستحقاق بالصفة ولا مشارك له فيها فإنه يرجع المستحق بالثمن على قابضه وهو البائع أو على غاصبه ولا شيء على المشتري كما في الزرقاني وغيره في باب الفلس عند قوله : وإن تلف نصيب غائب عزل فمنه ، وما في ابن سلمون عن ابن الحاج من أن استحقاق الكتاب بالصفة بعد فواته لا يصح يجب حمله على ما إذا كان هناك من الكتب ما يشاركه في صفته وخطه . ثم أشار إلى مفهوم قوله : من حيوان أو عروض فقال :
وَيُكْتَفَى في حَوْزِ الأصْلِ المستحَقْ
بِوَاحدٍ عَدْلٍ والاثنَانِ أحَقْ ( ويكتفى في حوز الأصل المستحق ) من دار وأرض وكل ما لا يمكن نقله فإن الحيازة فيه ( بواحد عدل ) يقدمه القاضي لها كافية عن حضوره عند الحاكم وأداء الشهادة على عينه لتعذر ذلك فيه وشغل القاضي عن الذهاب إليه ، وإنما اكتفى بالعدل الواحد لأنه موجه من قبل القاضي فهو نائب عنه ( والاثنان أحق ) وأولى من توجيه الواحد للحيازة المذكورة لأن الحيازة شهادة وهي يطلب فيها التعدد كما مر في قوله : وواحد يجزىء في باب الخبر الخ . ومعنى النظم أنه إذا شهد عدلان بملكية المستحق للدار والأرض ونحوها وذكرا حدودها وتناسخ الوراثات إلىأن خلصت لهذا القائم على الكيفية المتقدمة في البيت الأول من هذا الفصل ، فإن كان من شهد بتناسخ الوراثات هم الشهود بالملك للجد مثلاً ونحوه وصلوا شهادتهم بأنهم لا يعلمون أحداً من الوارثين فوت حظه من ذلك إلى أن توفي أو إلى الآن وإن كانوا سواهم لم يكلفوا بذلك ، فإذا ثبت ذلك فإن أنكر المطلوب الحدود التي في الرسم وقال : لا أدري هذه الأرض التي ينازع فيها ولا حدودها وجب حينئذ أن يعين شهداء الملك ما شهدوا به بالحيازة فيوجه القاضي معهم عدلاً واحداً أو عدلين ويقولان لهما أو له بعد تطوفهما على الحدود : هذا الذي حزناه وتطوفنا على حدوده هو الذي شهدنا بملكه لفلان عند القاضي هذا إن كان شاهدا الملك يعرفان الحدود وكانا حاضرين ، فإن كانا لا يعرفان ذلك وإنما شهدا بأن الموضع المسمى بكذا ملك لفلان ومال من أمواله إلى آخر ما تقدم من غير تعرض لحدوده لعدم معرفتهما بها أو لغيبتهما أو موتهما ، وكان شاهدان آخران يعرفان حدود الموضع المذكور ولا يعرفان كونه ملكاً لفلان المذكور فإن القاضي يوجه عدلين أو عدلاً أيضاً يقول لهما أو له شهود الحيازة هذا الذي حزناه وتطوفنا على حدوده هو الذي يسمى بكذا وهو المشهود بملكه لفلان عند القاضي فلان كما يأتي في قوله : وجاز أن يثبت ملكاً شهدا الخ . فيكون مجموع الشهود في هذا الوجه ستة وفي الأول أربعة ولا تبطل شهادة شهود الملك بعدم تعرضهم لتحديد المشهود به إذا وجد من يشهد بتحديده كما تقدم صدر البيوع وقال في باب القضاء من العمل المطلق :
وفي التخالف أجز أن يشهدا
بالحوز غير من بملك شهدا
الخ .
هذا كله إذا أنكر الحدود كما ترى ، وأما إن أقر المطلوب بأن الحدود التي في الرسم هي التي تحت يده فلا حيازة حينئذ كما قال :
وناب عن حيازةِ الشُّهُودِ
توافُقُ الخَصْمَيْنِ في الحدُودِ
فإذا تمت الشهادة بالحيازة أو بتوافق الخصمين على الحدود وجب عقل المشهود به بتوقيفالخراج والمنع من الحرث كما مر ، ثم أعذر للمطلوب في شهود الملك فقط أو فيهما وفي شهود الحيازة في الوجه الثاني دون الوجهين من قبل القاضي فإنه لا إعذار فيهما على ما مر بيانه في فصل الإعذار .
تنبيهات . الأول : قد علمت مما مر أن الموجهين يشهدان بأمرين بتوجيه العدلين للحيازة ولو كانا شهود الملك وبأنهما قد حازا وعينا حدود المشهود به ويكتبان ذلك كله في رسم تحت شهادة الملك ، وأما شهادتهما على القاضي بصحة رسم الملكية فإن خطابه عليه بالاستقلال والقبول كاف إذ هو عين الصحة عنده فلا يحتاج إلى الإشهاد عليه مع الخطاب المذكور نعم حكمه بنقل الملك أو ببقائه ونحوه لا بد أن يشهد عليه شاهدان كانا شهود الحق أو غيرهما كما في التبصرة قبيل القسم الثاني ونحوه في المواق خلافاً لمن قال لا بد أن يكون شاهد الحكم غير شاهد الحق .
الثاني : تقدم في فصل المقال والجواب أن الطالب إذا أثبت الوراثة وجر ذلك إلى نفسه وعجز عن إثبات وراثة سائر الوارثين أنه يقضى له بحقه ، وانظر فصل التوارث من المتيطية فقد اقتصر فيه على أن الشهود إذا عرفوا عدد الورثة ولم يعرفوا أسماءهم فهي شهادة تامة ، وذكر فيها أيضاً أنهم إذا سموهم ولم يشهدوا على عينهم أي : ولم يذكروا أنهم يعرفونهم فهي تامة إلا أن يقع بينهم في ذلك تنازع .
الثالث : قال أبو الحسن علي بن يحيى الأندلسي في آخر وثائقه : إذا توافقا المتداعيان في الحدود سقطت الحيازة إلا أن يفتقر المحكوم له إلى الإنزال فلا بد من الحيازة اه .
قلت : الإنزال هو القبض كما في المتيطية ، ونقله في الارتفاق قال : ويجب على البائع الإنزال إن لم يقر المشتري له بالملك خيفة أن يكون باع منه ما ليس له اه . وتأمله فإنه لا معنى لوجوبه كما مرَّ صدر البيوع وما علل به من خشية بيعه ما ليس له لا يدفعه الإنزال المذكور ، ثم وقفت على قول ابن مغيث ما نصه : إن سقط من وثيقة الابتياع ذكر الإنزال فطلبه المبتاع بذلك لزمه أن ينزله في ذلك فإن اختلفا فقال المبتاع : من هنا إلى هنا ابتعت منك ، وقال البائع : بل من هنا إلى هنا فإن كان ذلك على قرب من تاريخ التبايع تحالفا وتفاسخا البيع إذا عدمت البينة ، وإن مضى لتاريخ البيع سنة سقط الإنزال ، وإن كان في وثيقة الابتياع براءة الإنزال لكان القول قول البائع مع يمينه ، وبهذا مضى العمل اه . ونقله ابن سلمون في ترجمة العقار والأرض البيضاء .
وواجبٌ إعْمَالُهَا إنِ الحَكَمْ
بِقِسْمَةٍ عَلى المَحَاجِيرِ حَكَمْ
( وواجب ) خبر مقدم ( إعمالها ) مبتدأ وضميره للحيازة ( إن الحكم ) لغة في الحاكم ( بقسمة على المحاجير حكم ) وكذا إن حكم بها على غير المحاجير من الشركاء . قال الباجي : الذي أجمععليه مالك وقدماء أصحابه أنه لا يجوز للقاضي أن يأذن للورثة في القسمة حتى يثبتوا أصل الملك لموروثهم واستمراره وحيازته والموت والوراثة ، وبه جرى عمل القضاة بقرطبة وطليطلة اه . ونقله في المعيار في نوازل الصلح فقوله للورثة شامل للمحاجير وغيرهم ، وفي المفيد عن الباجي أيضاً أنه طلب بعض الشركاء قسمة الملك الذي بينهم من القاضي فلا يحكم لهم بذلك حتى يثبت عنده أن الملك لهم اه . ونحوه في المقرب كما نقله ( م ) وعللوا وجوب الحيازة بأنهم ربما أدخلوا في قسمتهم ما ليس لهم .
قلت : وقد علمت أن القسمة بيع والقاضي لا يجوز له البيع ولا الإذن فيه حتى يثبت عنده ملك البيع عليه وحيازته له كما تقدم في فصل مسائل من أحكام البيع ، وفي فصل البيع على الغائب فإن وقع ونزل وقسم أو باع بدون ثبوت الملك والحيازة فالظاهر عدم نقض ذلك حتى يثبت أنه قسم ، أو باع ملك الغير إذ الأصل أنه باع أو قسم ما يملكونه حتى يثبت خلافه كما مر في البيع على الغائب ، ولا يعجل بالنقض بمجرد الاحتمال فقول الناظم : وواجب أعمالها يعني ابتداء ، والله أعلم .
وَجَاز أنْ يُثْبِتَ مِلكاً شُهدا
وَبالْحِيَازَةِ سِوَاهم شَهِدا
( وجاز أن يثبت ) بضم الياء وكسر الباء الموحدة مضارع أثبت الرباعي ( ملكا شهدا ) بضم الشين وفتح الهاء جمع شهيد ككريم وكرما فهو مدود وقصره ضرورة فاعل يثبت وملكا مفعوله أي وجاز لمن ادعى ملكاً بيد غيره أن يثبته أي يشهد له به شهداء لا يعرفون حدوده ولا يقدرون على حيازته ( وبالحيازة ) فقط ( سواهم شهدا ) بفتح الشين وكسر الهاء أي : وسواهم شهد بالحيازة لا غير لأنهم لا يعرفون الملك لمن هو فإن الشهادتين تلفقان ، ويثبت الملك للمدعي المذكور كما تقدم قبل قوله : وناب عن حيازة الشهود الخ . . . وإنما تلفق الشهادتان .
إنْ كانَ ذَا تَسْمِيَةٍ مَعْروفهْ
وَنِسْبَةٍ مشهورةٍ مَأْلُوفهْ
( إن كان ) الملك المشهود به للمدعي ( ذا تسمية معروفة ) كحجاجة والزيات بفاس ( و ) ذا ( نسبة مشهورة مألوفة ) كجنان الخادم وعرصة الجيار بفاس أيضاً فتشهد بينة بأن الموضع المسمى بعرصة الجيار مثلاً هو ملك لفلان ومال من أمواله وتحت يده يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه وينسبه لنفسه إلى آخر الوثيقة المتقدمة في البيت الأول من هذا الفصل ولا يتعرضون لذكر حدوده لأنهم لا يعرفونها أو لغيبتهم أو موتهم ، وتشهد بينة أخرى بأن الموضع المسمى بما ذكر حده من ناحية القبلة كذا ، ومن الغرب كذا ، ومن الجنوب كذا ، وأن التسمية المذكورة إنما تطلق على ما دخل الحدود لا على ما خرج منها ولا يعرفون الموضع لمن هو إلا أنهم كانوا يخدمونه مثلاً أويعرفون حدوده خلفاً عن سلف ، فإن الشهادتين تلفقان كما مر . ويوجه القاضي معهما شاهدين يشهدان على حيازتهما فيكون مجموع الشهود ستة كما مرَّ ويثبت حينئذ الاستحقاق انظر ( ح ) فإن فيه بعض زيادة وإيضاح .
ولما أنهى الكلام على استحقاق الكل أشار إلى الحكم في استحقاق البعض ، وحاصله كما في ( ت ) أن المستحق بعضه إما مثلي أو مقوم ، والمقوم إما أن يستحق منه بعض معين أو شائع ، والشائع إما أن يكون فيما يقبل القسمة كمتعدد من حيوان أو عروض أو دار متسعة أو دور أو فيما لا يقبلها كدار ضيقة أو عبد واحد . وفي كل من الأقسام الأربعة إما أن يكون البعض قليلاً أو كثيراً ، ففي المثلى إن كان المستحق كثيراً خير في رد ما لم يستحق ويأخذ جميع ثمنه أو التمسك فيه بما ينوبه من الثمن كما قال :
وَمُشْتَرِي المثليّ مَهْمَا يُسْتَحَقْ
مُعْظَمُ ما اشتُرِي فَالتّخيير حَقْ
( ومشتري المثلى ) أو المصالح به ( مهما يستحق ) أو يتلف منه أو يتعيب وقت ضمان البائع ( معظم ما اشترى ) أو صولح به ، والمعظم هو الثلث فأكثر كما أفاده ( خ ) بقوله : وإن انفك فللبائع التزام الربع بحصته فقط لا أكثر خلافاً للشارح حيث جعل المعظم ما جاوز الثلث ، وعلى ما في ( خ ) عول الأجهوري في نظمه حيث قال :
ثم الكثير الثلث في المثلى وفي
مقوم ما فات نصفاً فاعرف
( له التخيير حق ) واجب للمشتري ، والجملة جواب الشرط وهو مع جوابه خبر المبتدأ لكن التخيير مختلف ففي الاستحقاق والتلف وقت ضمان البائع يخير .
في الأَخْذِ للبَاقي من المَبيعِ
بِقِسْطِهِ وَالرَّدُّ للجَميعِ
( والأخذ للباقي من المبيع بقسطه ) من الثمن ( والرد للجميع ) أي لجميع الباقي بعد الاستحقاق والتلف ويأخذ جيمع ثمنه وفي التعييب وقت ضمان البائع يخير في رد الجميع وأخذ ثمنه أو التمسك بجميع المبيع بجميع الثمن ، وليس له أن يتمسك بالسالم من العيب بما ينوبه منالثمن إلا برضا البائع ، وقد علمت من هذا أن الصلح مثل الشراء لأنه بيع وأن التلف والتعييب قبل كيله أو وزنه أو عده مثل الاستحقاق . ثم أشار إلى مفهوم قوله معظم فقال :
وإنْ يَكُنْ مِنْه اليَسِيرُ ما استُحِقْ
يَلزمُهُ الباقي بما لهُ بِحَقْ
( وإن يكن منه ) أي المثلى ( اليسير ) بالنصب خبر يكن ( ما استحق ) اسمها ومنه يتعلق باستحق فهو معمول للصلة وصح تقديمه على الموصول لأنه من الظروف وهم يتوسعون فيها أي : وإن يكن المستحق من المثلى اليسير وهو ما دون الثلث فالمشتري ( يلزمه الباقي بما له يحق ) من الثمن . قال في الشامل : بخلاف استحقاق مثلى فإنه يلزم مشتريه بحصته إلا الثلث فأكثر فيخير اه . وقال ( خ ) : وحرم التمسك بالأقل إلا المثلى أي : فإنه لا يحرم التمسك بأقله حيث استحق أكثره بل يخير في التمسك والرد كما مر . ثم أشار إلى ما إذا كان البعض المستحق مقوماً معيناً وفيه صورتان أيضاً إما أن يكون البعض المستحق كثيراً وهو ما زاد على النصف أو قليلاً وهو النصف فدون فقال :
وَمَا لَهُ التقويم باستِحقاقِ
أَنْفَسِهِ يَرَدُّ بالإطلاَقِ
( وما ) مبتدأ واقعة على الشيء ( له التقويم ) مبتدأ وخبر صلة ما ( باستحقاق أنفسه ) يتعلق بقوله ( يرد ) والجملة خبر و ( بالإطلاق ) حال أي والشيء المبيع المقوم يرد باستحقاق أنفسه مطلقاً تراضياً على التمسك بالباقي بما ينوبه أم لا . والتلف والتعييب وقت ضمان البائع والاستحقاق كما مر .
إنْ كانَ في مُعَيِّنٍ وَلا يَحِلْ
إمساكُ باقيهِ لِمَا فيه جُهِلْ
( إن كان ) ذلك الاستحقاق ( في ) مقوم ( معين ) كعبدين استحق أفضلهما أو خمسة أثواب متساوية في القيمة استحق ثلاثة منها أو داران استحقت إحداهما وينوبها أكثر الثمن لكون قيمتها أكثر من قيمة الأخرى فيفسخ في الجميع ويرجع بجميع ثمنه ( ولا يحل ) للمشتري ( إمساك باقيه ) بعد الاستحقاق بما ينوبه من الثمن ولو وافقه البائع على ذلك ( لما فيه جهل ) أي لأجل الثمن الذي جهل فيه ، وذلك لأنه لما استحق الأكثر انتقض البيع في الجميع لأن الأقل تابع للأكثر الذي هو وجه الصفقة فالتمسك بالأقل إنشاء عقد بثمن مجهول إذ لا يدري ما ينوبه من الثمن إلابعد التقويم ( خ ) : ولا يجوز التمسك بأقل استحق أكثره الخ . وقال في المدونة : فإن كان المستحق وجه الصفقة انتقض البيع ، ولا يجوز أن يتمسك بما بقي بما ينوبه من الثمن وإن رضي البائع إذ لا يعرف ثمنه حتى يقوم وقد وجب الرد فصار بيعاً مؤتنفاً بثمن مجهول اه . فمفهومها أنه إذا قوم وعلم ما ينوبه صحح التمسك به وهو كذلك كما مرَّ في صدر البيوع فراجعه هناك قال مصطفى : قد أطبق من وقفت عليه من الشراح على تقييد حرمة التمسك بالأقل بعدم الفوات فانظره ثم أشار إلى مفهوم قوله أنفسه فقال :
وَإنْ يَكُنْ أقلَّهُ فالحكمُ أنْ
يَرْجِعُ في حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنْ ( وإن يكن ) المستحق ( أقله ) وهو النصف فدون ( فالحكم أن يرجع ) المشتري ( في حصته ) أي الأقل ( من الثمن ) وذلك لأنه لا ينفسخ العقد باستحقاق الأقل لأنه لما صح البيع في الأكثر كان الأقل تابعاً له فلم ينفسخ العقد أصلاً ولم يكن التمسك به إنشاء عقد ، وإنما له أن يرجع بما ينوب الأقل من الثمن ولا كلام له في الرد ولا للبائع إلا برضاهما معاً . ثم أشار إلى ما إذا كان البعض المستحق شائعاً وهو مفهوم قوله : إن كان في معين الخ . وفيه أربع صور لأنه إما أن يكون مما يقبل القسمة أم لا . وفي كل إما أن يكون المستحق كثيراً أو قليلاً ولم يحرر الناظم ذلك بل قال :
وإنْ يَكُن على الشِّياع المُسْتَحَقْ
وَقَبْلَ القِسْمة فالقَسْمُ استَحَقْ
( وإن يكن على الشياع المستحق و ) الحال أنه ( قبل القسمة ) كربع أو عشر من أرض أو ثياب متعددة أو دار تقبل القسمة على ذلك من غير ضرر ( فالقسم ) مفعول بقوله ( استحق ) أي فالذي يستحقه المشتري هو المقاسمة ويتمسك بالباقي ويرجع بحصة ما استحق ، وظاهره كان متخذاً للغلة أم لا وهو كذلك ، وظاهره أيضاً قليلاً كان المستحق أو كثيراً وليس كذلك ، بل إنما ذلك إذا كان قليلاً كما قررنا ، وأما إن كان كثيراً كثلث في دار ونصف في أرض فهو بالخيار بين التمسك بالباقي ويرجع بحصة المستحق وبين الرد فيرجع بجميع ثمنه منقسماً كان أم لا متخذاً للغلة أم لا . وبالجملة فالدار الواحدة الثلث فيها كثير والأرض النصف فيها كثير وما عدا ذلك لا خيار فيه إلا ما زاد على النصف وعليه فقول الأجهوري في نظمه المتقدم ما فات نصفاً الخ . يعني فيما عدا الأرض والدار ، ومفهوم قوله : وقبل القسمة والموضوع بحاله من كون المستحق قليلاً هو ما أشار له بقوله :وَالخُلْفُ في تمسُّكٍ بما بَقي
بِقِسْطِهِ ممَّا انْقِسَامُه اتُّقي
( والخلف في تمسك بما بقي ) بعد استحقاق القليل هل له أن يتمسك به ( بقسطه ) من الثمن أو لا ؟ قولان . حكاهما ابن سلمون وذلك الخلاف ( مما ) أي في المشاع الذي ( انقسامه اتقي ) ومنع لعدم قبوله إياه كشجرة واحدة أو دار ضيقة ونحوهما ، والمعتمد أنه إذا لم يكن متخذاً للغلة فالخيار للمشتري بين التمسك بالباقي بما ينوبه وبين الرد فيرجع ثمنه ، وإن كان متخذاً للغلة فلا خيار له بل يلزمه الباقي بحصته من الثمن ، وبالجملة فالكثير يخير فيه مطلقاً ، وأما القليل فما لم ينقسم ولم يتخذ للغلة فكذلك وما اتخذ للغلة أو انقسم فلا خيار له بل يلزمه الباقي بما ينوبه قاله الزرقاني . قال : وعليه فيقيد القليل في قول ( خ ) أو استحق شائع وإن قلَّ الخ . بما إذا كان القليل غير منقسم ولا متخذ للغلة اه . قال ابن رشد في البيان ما نصه : إذا اشترى داراً واستحق عشرها فإن كانت لا تنقسم أصلاً أو تنقسم ولم يكن لكل جزء مدخل ومخرج على حدة أو كان لكل جزء مدخل ومخرج إلا أن القسم ينقص من ثمنها فالمشتري بالخيار في ذلك كله ، وإن كانت تنقسم ولكل مدخل ومخرج ولم ينقص ذلك من ثمنها فلا خيار له ، وإنما يرجع بما ينوبه وهذا في دار السكنى ، وأما دار الغلة فلا ترد إلا باستحقاق الثلث اه . بنقل ( م ) وقد اقتصر ( ح ) في الاستحقاق عند قوله : : ّوإن استحق بعض فكالعيب الخ . على أن استحقاق الشائع يوجب الخيار مطلقاً قلّ أو كثر وهو خلاف تقييد الزرقاني له .
وَإنْ يكُن في الْفَيءِ مَالُ المُسْلِمِ
فهْوَ له من قبلِ قُسْمِ المغْنمِ
( وإن يكن في الفيء ) أراد به الغنيمة بدليل قوله قبل قسم المغنم ، ويحتمل أن يكون أراد ما يشمل الفيء الحقيقي والغنيمة وما هو مختص بأخذه لأن ما ملك من مال الحربي إما غنيمة وهو ما أخذ بقتال وما في حكمه كفرارهم عنه بعد نزول الجيش عليهم ، وإما فيء كفرارهم عنه قبل خروج الجيش وهدية الطاغية قبل دخول المسلمين بلدهم وصلحهم على مال ونحو ذلك . وإما مختص بأخذه كهروب أسير بشيء من مالهم ونحوه ، فمراده بالفيء ما يشمل الجميع إذ الحكمفي الجميع واحد ( مال المسلم ) أو الذمي ( فهو له ) مجاناً حيث اطلع ربه عليه ( من قبل قسم المغنم ) أو من قبل قسم الفيء على مستحقيه أو من قبل الأسير ما هرب به ، وظاهره أنه له ولو بمجرد دعواه وليس كذلك بل لا بد أن يشهد له به واحد ولو غير عدل على المعتمد كما يفيده قوله ( خ ) في الجهاد : وأخذ معين وإن ذمياً ما عرف له قبله أي القسم مجاناً وحلف أنه باق على ملكه إلى الآن .
وَإنْ يَقُمْ من بعدِ ما قد قُسِما
فهْوَ بهِ أَوْلى بِمَا تَقَوَّما
( وإن يقم ) ربه ( من بعد ما قد قسما ) ماله في المغنم والفيء أو من بعد بيعه ( فهو به أولى بما تقوما ) به يوم القسمة على القول بأن الغنيمة تقسم أعيانها بعد تقويمها ، وعلى القول بأنها تباع ويقسم ثمنها فهو أحق به بعد دفع الثمن الذي بيع به ( خ ) : وله بعده أي : القسم أخذه بثمنه وبالأول إن تعدد البيع الخ . فإن عرف المال أنه لمسلم غائب حمل له إن كان الحمل خيراً وإلاَّ بيع له وحمل له ثمنه ، فإن كان المال مما لا يمكله إلا المسلم كنسخة البخاري والمصحف ونحوهما ولم يعرف ربه ، فالمشهور أنه يقسم بين المجاهدين تغليباً لحقهم ، فإن هرب الأسير ونحوه بشيء من متاعهم وباعه فاستحقه مسلم وأثبت أنه له . فإن المستحق لا يأخذه من يد مشتريه إلا بالثمن الذي اشتراه به ويرجع به المستحق على الأسير الذي باعه لأن الأسير لا يملك مال المسلم الذي بيد الحربي وبمجرد هروبه به إذ دار الحرب لا تملك على المشهور .
وَمُشْتَرٍ وحائزٌ ما سَاقَ مَنْ
أُمِّنَ لاَ يُؤْخَذُ منه بالثَّمَنْ
( ومشتر وحائز ) بالهبة ونحوها ( ما ساق من ) بفتح الميم ( أمن ) بضم الهمزة وكسر الميم المشددة مبنياً للمفعول ( لا يؤخذ منه بالثمن ) أي إذا أتى المؤمن إلينا وساق معه شيئاً من أموال المسلمين فباعه من مسلم أو ذمي أو وهبه له أو لذمي فليس لمالكه المسلم أخذه من يد مشتريه أو حائزه بالهبة بثمن ولا بغيره لأنه على ذلك أعطى الصلح وعليه وقعت الهدنة ، ولكن يكره لغير مالكه شراء ذلك من المستأمن ( خ ) : وكره لغير المالك اشتراء سلعة وفاتت به وبهبتهم لها الخ . ومفهوم قوله ما ساق من أمن أنه إذا لم يأت إلينا بل دخل بعض المسلمين بلدهم فاشترى منهم أووهبوه ذلك بدارهم وقت الهدنة أو الحرب فإن ربه يكون أحق به بالثمن في البيع وبدونه في الهبة ( خ ) : ولمسلم أو ذمي أخذ ما وهبوه بدارهم مجاناً وبعوض به إن لم يبع فإن بيع مضى ولمالكه الثمن في الموهوب أو الزائد على الثمن الأول في البيع .
وَيُؤْخَذُ المَأْخُوذُ مِنَ لِصَ بِلا
شيْءٍ وَمَا يُفْدى بما قَدْ بُذِلا
( و ) إذا عدا لص ونحوه على مال شخص فنهبه أو سرقه فأتى من له حرمة ووجاهة أو غيره وافتكه من يد اللص أو السارق بلا شيء فإن ربه ( يأخذ ) ماله ( المأخوذ من لص ) ونحوه ( بلا شيء ) أيضاً أي بلا أجر يدفعه لمن افتكه من اللص ونحوه ( و ) أما ( ما يفدى ) من يد اللص ونحوه بعوض فإن ربه لا يأخذه إلا ( بما ) أي بالعوض الذي ( قد بذلا ) أي أعطى فيه ولا سبيل له إليه بدونه على المختار عند الشيوخ ، إذ لو أخذه مالكه بلا شيء كان سد الباب الفداء مع شدة حاجة الناس إليه قاله ابن ناجي وابن عبد السلام وغيرهما ، وعليه عول ( خ ) إذ قال : والأحسن في المفدى من أمن أخذه بالفداء الخ . ومحله إذا لم يقدر ربه على تخليص متاعه من اللص من غير شيء وإلاَّ فيأخذه من يد فاديه بغير عوض ، ومحله أيضاً إذا فداه بقصد رده إلى ربه ، وأما إن فداه أو اشتراه بقصد تملكه فإن ربه يأخذه من يده مجاناً كالاستحقاق ، والقول قول الفادي في أنه فداه بقصد رده إذ لا يعلم ذلك إلا من قوله : ولا محل للتوقيف فيه ، ومحله أيضاً إذا ثبت أنه فداه بذلك العوض الذي ادعاه وإلاَّ فلربه أخذه بلا شيء ما لم تكن العادة جارية بالفداء وإلاَّ فيجب عليه فداء المثل فيما يظهر .
تنبيهات . الأول : ما تقدم من أن ربه يأخذه مجاناً حيث لم يدفع الفادي عليه عوضاً ظاهر إذا كان الفادي لم يتكلف سفراً ولا تزود لافتكاكه بل افتكه بغير سفر إليه وإلاَّ فله أجر مثله عملاً بالقاعدة المتقدمة في الإجارة وهي كل من أوصل لك نفعاً بعمل أو مال لزمك أجر العمل ومثل المال انظرها عند قوله : والقول للعامل حيث يختلف الخ . ثم هل يرجع ربه بتلك الأجرة على اللص والسارق والمحارب ونحوهم ؟ وهو المعتمد لأنهم تسببوا في إغرامه تلك الأجرة ، ففي المازونية عن أبي الفضل العقباني فيمن هرب بأمة فاستأجر ربها من يبحث عليها وأعطى عطايا على استخلاصها فقال : على الهارب بالأمة جميع ما خسره ربها في استخلاصها ما لم يجاوز ما خسره قيمتها فلا يلزمه ما زاد على القيمة اه .
الثاني : إذا غرم رب المال الفداء للفادي فله أن يرجع بما غرمه على اللص والسارق والمحارب ونحوهم لأنهم أخذوه بغير حق من غير خلاف في ذلك ، فإذا لم يقدر عليهم وإنما قدر على بعض أهلهم وأقاربهم فينظر فإن كان أهلهم وأقاربهم يمنعونهم ويذبون عنهم إن أريدأخذهم من الإنصاف منهم فإن أهلهم وأقاربهم يؤاخذون بهم لأنهم معينون لهم على ظلمهم وهي المسألة المعروفة عند الناس بالكفاف ( خ ) في باب الحرابة والقتال : يجب قتله ولو بإعانة الخ . قالوا وقوله : ولو بإعانة أي على القتل ولو بالتقوى بجاهه وإن لم يأمر بقتله ولا تسبب فيه لأن جاهه إعانة عليه حكماً عليه اه . وإذا كان هذا في الدماء فأحرى في المال ، وإن كان أهلهم لا يذبون عنهم ولا يمنعون أحداً من الانتصاف منهم فإنهم لا يؤاخذون بهم ، والمعلوم من عادة قبائل الزمان اليوم هو الذب عنهم . انظر أجوبتنا لأسئلة الإمام محيي الدين الحاج عبد القادر فقد بسطنا الكلام في ذلك والله أعلم .
الثالث : إذا افتكه الفادي بعوض دفعه من عنده للص ونحوه ، وقلنا لا يأخذه ربه إلا بذلك العوض وطلب الفادي زيادة أجرة مشيه وذهابه فقال ابن عبد السلام : حيث دفع الفداء من عنده فلا إشكال في منعه أخذ الأجرة لما فيه من الإجارة والسلف وإلاَّ فللنظر فيه مجال اه .
قلت : أما ما أشار إليه من إجالة النظر فلا محل له مع القاعدة المتقدمة في الإجارة ، وأما ما أشار إليه من المنع للإجارة والسلف فقد قال ( ت ) : قد يغتفر ذلك للضرورة كالسفاتج إذا عم الخوف مع أن فيها صريح السلف بمنفعة للحاجة إليها .
الرابع : إذا تلف الشيء المفدى بعد الفداء وقبل الوصول لربه فإن ذلك مصيبة نزلت بالفادي ولا شيء له على ربه من ثمن الفداء ولا من النفقة وأجرة الحمل بخلاف ما إذا أوصله إليه فإنه يجب له ذلك كله إذا أراد به أخذه قال في العمليات :
ومن فدى بغير إذن فعرض
قبل الوصول تلف لا يفترض
الخامس : إذا فداه بنية تملكه فاستحق من يده ففي رجوعه بالفداء على المفدى منه قولان . الراجح منهما أن له الرجوع كمن اشترى شيئاً مغصوباً عالماً بغصبه فاستحق من يده فإن له الرجوع على الغاصب على المعتمد .
السادس : قال في الشامل : وفات بيع مكافىء ومشتر على المنصوص ولربه ما زاد على الثمن الأول إن كان فإن باعه من وهب له مضى على المشهور ويرجع به فقط على الموهوبله اه . ومعناه إن من أهدى له اللص شيئاً مما غصبه فكافأه عليه بشيء أو اشتراه من اللص ولم يعلم بغصبه فيهما فباعه المشتري أو المكافىء فإنه يفوت ذلك على مالكه ، فإن باعه من وهبه له اللص مضى أيضاً ولربه الثمن على الموهوب له .
فصل في العارية والوديعة والأمناءالعارية : بتشديد الياء وقيل بتخفيفها قاله في التوضيح هي من المعاورة وهي الأخذ والإعطاء يقال : هم يتعاورون من جيرانهم أي يأخذون ويعطون وقال الأبي : هي من عرا كغزا بمعنى قصد فهي عريوة ثم صارت عرية لاجتماع الياء والواو فهي بمعنى مطلوبة ومقصودة . وشرعاً قال ابن عرفة : هي تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض فتدخل العمرى والإخدام لا الحبس فخرج بقوله : منفعة تمليك الذوات ببيع أو هبة ونحوهما ، وخرج بها أيضاً تمليك الانتفاع لأن مالك المنفعة له أن يستوفيها بنفسه أو بغيره بخلاف مالك الانتفاع كسكان المدارس والزوايا والربط فإنهم لا ينتفعون إلا بأنفسهم ، وليس لهم أن يؤاجروا ذلك أو يعيروه لغيرهم والنكاح من الانتفاع لا من المنفعة ، وكذا الجلوس في المسجد والسوق ، وبالجملة فالانتفاع هو الذي قصد به المعطي خصوص من قام به الوصف أو خصوص ذات المعطى بالفتح كسكنى بيوت المدارس ونحوها وكمستعير منعه المالك من الانتفاع بغيره ، ومنه النكاح بخلاف المنفعة فهي التي قصد فيها الانتفاع بالذات استوفاها المعطى له بنفسه أو بغيره فله أن يعيرها أو يستأجرها لمثله ، وبهذا تعلم أن الحبس على قسمين منه ما قصد به المحبس خصوص تمليك الانتفاع لمن قام به الوصف كالفقراء ، فهذا لا يجوز لمن استحقه أن يهبه ولا أن يؤاجره ولا أن يعيره المدة الكثيرة ، ومنه ما قصد به تمليك المنفعة وذلك كالحبس على شخص معين وأعقابه مثلاً ، فهذا تجوز فيه الهبة والإجارة والإعارة ، واختلف في الحبس على الإمام والخطيب والمدرّس هل هو من القسم الأول أو الثاني وهو الظاهر ، وخرج بقوله : مؤقتة تمليك المنفعة المطلقة كما لو ملك عبده منفعة نفسه فإنه يصدق عليه ذلك وليس بعارية وليس عتقاً أيضاً بدليل أن الأمة إذا ملكها منفعة نفسها ثم تزوجها فإن أولادها يرقون لسيدها ، وخرج به أيضاً القسم الثاني من قسمي الحبس فإنه تمليك منفعة غير مؤقتة فليس بعارية والحبس على مختار . ابن عرفة : لا يكون إلا مؤبداً وتسمية المؤقت منه حبساً مجاز عنده فلا يرد عليه أن الحبس قد يكون مؤقتاً كما قال ( خ ) : ولا يشترط التأبيد وخرج بقوله لا بعوض الإجارة .
وأما حدها بالمعنى الاسمي فيقال : هي مال ذو منفعة مؤقتة ملكت بغير عوض . وحكمهاالندب لأنها معروف وإحسان والله يحب المحسنين ، وقد يعرض وجوبها كغنى عنها لمن يخشى هلاكه بعدمها كإبرة لجائفة وفضل طعام أو شراب لمضطر إليه وحرمتها ككونها معينة على معصية وكراهتها ككونها معينة على مكروه . قال القرطبي في سورة آل عمران : من الغلول منع الكتب من أهلها . قال : وكذا غيرها والماعون الذي توعد الله على منعه في قوله تعالى : ويمنعون الماعون } ( الماعون : 7 ) الآية . إنما هو الزكاة المفروضة وهو الذي ذهب إليه مالك رحمه الله وجمهور أهل العلم . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أنه عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم .
وَمَا اسْتُعِيرَ رَدُّهُ مُسْتَوْجَبُ
وَمَا ضمانُ المُسْتَعِير يَجِبُ
( وما استعير ) أي شيء كان ( رده ) لربه ( مستوجب ) أي واجب لقوله عليه السلام : ( العارية مؤداة ) أي يجب ردها وتأديتها لربها بحيث لا يتركها المستعير عنده بعد أن قضى منها وطره حتى يأتي ربها إليها . وفي الحديث الكريم إشعار بما اختاره ابن رشد من أن أجرة ردها على المستعير ( خ ) : ومؤنة أخذها على المستعير كردها على الأظهر ، وفي علف الدابة قولان الخ . ومحلهما ما لم يكن عرف وإلاَّ فيحملان عليه اتفاقاً لأنه كالشرط وتكون حينئذ إجارة ، إذ يجوز كراء الدابة بعلفها والعرف بفاس أن علف العارية على المستعير حيث باتت عنده فإن لم تثبت فعلى ربها كما تقدم ( وما ) نافية ( ضمان المستعير يجب ) أي لا يجب على المستعير ضمان العارية إن هلكت .
إلاَّ بقابِلِ المَغيب لَم تَقُمْ
بَيِّنةُ عَلَيهِ أَنَّه عُدِمْ
( إلا ) بأحد أمرين . أحدهما : أن تكون العارية وقعت ( بقابل ) أي في قابل ( المغيب ) عليه فالباء بمعنى ( في ) وذلك كالثياب والسفينة السائرة والحلى وسائر العروض ، فإنه إذا ادعى تلف شيء من ذلك فإنه يضمنه لآخر رؤية رئي عنده حيث ( لم تقم بينة عليه ) ب ( أنه ) قد ( عدم ) وتلف بغير سببه ، فمفهوم قابل المغيب أنه إذا كان لا يقبل الغيبة عليه كالحيوان والعقار وسفينة بالمرسى لا ضمان عليه إن ادعى تلفه وهو مصدق فيه ما لم يظهر كذبه كدعواه موت دابة يوم كذا فشهدت بينة بأنها ريئت عنده بعد ذلك أو دعواه موتها في رفقة أو مدشر ولم يعلم أحد منهم بموتها ، ومفهوم لم تقم بينة عليه أنه إذا شهدت بينة بتلف ما يغاب عليه بغير تفريط لم يضمن لأن الضمان إنما هو للتهمة ، وقد انتفت بقيام البينة فإن شهدت ، أنه تلف بتعديه أو تفريطه وهو الأمر الثاني من الأمرين فهو ضامن كما قال عاطفاً على قابل المغيب أي لا ضمان إلا في قابل للمغيب .أو ما المُعَارُ فيه قَدْ تُحُقِّقا
تَعَدَ أَوْ فَرَّطَ فيه مُطْلَقا
( أو ) في ( ما ) أي في الذي ( المعار فيه ) يتعلق بقوله ( قد تحققا تعد ) نائب الفاعل بتحققا ( أو فرط ) بالبناء للمفعول أو الفاعل ( فيه مطلقا ) كان مما يغاب عليه أم لا وقد تحصل منه أن ما ثبت فيه تعد أو تفريط يضمنه مطلقاً وما لم يثبت ذلك فيه ففيه تفصيل فإن كان مما لا يعاب عليه فلا ضمان إلا أن يظهر كذبه فإن ادعى تلف دابة ولم يظهر كذبه فلا يضمنها ويضمن سرجها ولجامها ، وما كان مما يغاب عليه فهو ضامن إلا أن تقوم بينة على تلفه بغير سببه ، وظاهره أنه يضمن المغيب عليه مع عدم البينة ، ولو شرط نفي الضمان عنه وهو كذلك على المشهور . ابن ناجي : وبه الفتوى ومقابله أنه لا ضمان عليه ، ورجحه اللخمي والمازري قالا : لأن العارية معروف وإسقاط الضمان معروف آخر لا مانع منه وهو الجاري على ما لابن أبي زيد عن أشهب في الصانع : يشترط أن لا ضمان عليه إن شرطه عامل لأنه إذا انتفى في الصانع مع الشرط فأحرى في المستعير لأنه فعل معه معروفاً من وجهين كما علمت ، وظاهره أيضاً أنه لا ضمان عليه فيما لا يقبل الغيبة ولو شرط عليه الضمان وهو كذلك ( خ ) : وضمن المغيب عليه إلا ببينة وهل إن شرط نفيه تردد لا غيره ولو بشرط الخ . لكن العارية مع شرط الضمان تنقلب إجارة لأن الشرط المذكور يخرج العارية عن حكمها إلى الإجارة الفاسدة لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحوزها في ضمانه فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم فيلزمه إجارة المثل في استعماله العارية قاله ابن رشد . وهو مقدم على اللخمي القائل : إنها لا تنقلب إجارة مع الشرط بل تمضي على حكم العارية ولا ضمان عليه ولا أجر لأن القاعدة عند الشيوخ أن ما استظهره ابن رشد من عنده مقدم على ما استظهره اللخمي من عنده أيضاً كما قاله الزرقاني عند قوله في الزكاة : كالتمر نوعاً أو نوعين وقد تقدم التنبيه عليه أول الكتاب فلا تلتفت إلى ما للشيخ الرهوني فيحاشيته .
تنبيهان . الأول : مثل قيام البينة في قابل الغيبة ما إذا أتى بالثوب محروقاً أو به قرض فار أو نحو ذلك مما يعلم أن إتلافه نشأ عن غير فعله . قال في الشامل : وحلف ما فرط فيما علم أنه بلا سببه كسوس وقرض فار وحرق نار الخ . ونحوه قول ( خ ) : وحلف فيما علم أنه بلا سببه وكسوس أنه ما فرط الخ . إذ من جملة ما يدخل تحت الكاف قرض الفار والنار وهو الذي عزاه اللخمي لابن القاسم في المدونة ، واختاره ابن رشد . ابن رحال : وهو الراجح لأنه محمول على أن النار ليست من سبب كما لأبي الحسن وابن ناجي اه . وذكر مصطفى أن حرق النار ليس كالسوس وقرض الفار لأن النار يحتمل أن يكون هو الذي تسبب في إيقادها فيجب ضمانه حتى يثبت أنها بغير سببه كما قاله في تضمين الصناع من المدونة . وانتصر له الشيخ الرهوني في حاشيته . وبالجملة : فهما قولان في المدونة ، ولكن المعتمد أن حرق النار كقرض الفار إذ الأصل عدم العداء وأن النار ليست من سببه ، ولذا سوى بينهما في الشامل . وقال ( خ ) في الرهن : ولم تشهد بينة بحرقه فلم يشترطا في عدم الضمان قيام البينة على كون النار ليست من سببه ، ولا سيما وقد اختاره ابن رشد وهو مقدم على غيره كما مر .
( الثاني ) : إذا استعار نحو الفأس والمنشار والسيف للقتال ونحو ذلك فأتى بشيء من ذلك مكسوراً فقال ( ح ) : وبرىء في كسر كسيف إن شهد له أنه معه في اللقاء أو ضرب به ضرب مثله الخ . وهذا قول ابن القاسم في المدونة . وقال عيسى بن دينار ومطرف وأصبغ : لا ضمان عليه في ذلك إذ أتى بما يشبه ويرى أنه ينكسر في ذلك الفعل بل يصدق بيمينه . ابن حبيب : وبه أقول . ابن يونس : وهو عندي أبين . ابن رشد : وهو أصوب الأقوال . ابن عبد السلام : وهو أقرب لأن المستعير قد فعل ما أذن له في فعله ولم يقم دليل على كذبه بل قام ما يصدقه اه . فيجب أن يكون هذا القول هو المعتمد لما ترى من اختيار الشيوخ له ، ولأن الأصل عدم العداء ، وسبب الخلاف هل يقاس تعييب الشيء المعار على ذهاب عينه أم لا ؟ فمن جعل تعييبه كذهاب عينه قال : المستعير ضامن ، ومن جعل تعييبه مخالفاً لذهاب عينه قال : يصدق بيمينه . ثم ما تقدم من أنه يحلف ما فرط الخ . هو عام فيما يغاب عليه وما لا يغاب عليه ، فإن نكل فيضمن القيمة بمجرد نكوله لأنها يمين تهمة . وتعتبر القيمة يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه قال ابن رشد :
وَالقولُ قولُ مُسْتعِير حَلَفا
في رَدِّ ما اسْتَعَارَ حَيْثُ اخْتَلَفَا
( والقول قول مستعير ) من نعته وصفته ( حلفا في رد ما استعار ) يتعلق بقوله ( حيث اختلفا ) وهذا إذا كان لا يغاب عليه ( خ ) كدعواه رد ما لم يضمن الخ . وإلا فالقول للمعير في عدم رده كما قال :
ما لم يكن مما يُغَابُ عَادَه
عليْهِ أَوْ أُوخِذَ بالشِّهَادَه
( ما لم يكن ) الشيء المعار ( مما يغاب عاده عليه ) كالعروض والحلى ونحوهما ( أو ) مما لا يغاب عليه ولكن ( أخذ ) من يد المعير ( بالشهادة ) المقصودة للتوثق وتقدمت حقيقتها في القراض .فالقولُ للمُعِيرِ فِيمَا بَيَّنَه
وَمُدّعِي الرَّدِّ عليْه البيِّنَه
( فالقول ) في الصورتين حينئذ ( للمعير فيما بينه ) أي ادعاه عليه من عدم ردها ( ومدعي الرد ) في الصورتين وهو المستعير ( عليه البينة ) أنه ردها ومثل العارية في ذلك كله الوديعة والشيء المستأجر والقراض والرهن والصناع قال في المقدمات : كل موضع يصدق فيه القابض في دعوى الضياع مثل الوديعة والقراض ورهن ما لا يغاب عليه فإنه يصدق في دعوى الرد إذا قبضه بغير بينة فإن قبضه ببينة لم يصدق في الرد ثم قال : وكل موضع لا يصدق فيه دعوى الضياع لا يصدق فيه في الرد قبض بينة أم لا . وتقدم أن المكتري لا ضمان عليه فيما يغاب عليه وما لا يغاب عليه كما مرَّ في فصل أحكام من الكراء حيث قال :
ومكتر لذاك لا يضمن ما
يتلف عنده سوى أن ظلما
فيقتضي أنه مصدق في الرد مطلقاً ما لم يقبضه ببينة ، وبه تعلم أن الحلى ونحوه الذي يكرى لتزيين العروس لا ضمان فيه ، وأنه مصدق في ضياعه كما يصدق في رده ما لم يقبضه ببينة ، فلو اكترى دابة فلما قدم قال : أودعتها لأنها وقفت علي في الطريق فإنه يصدق ولو أنكر المودع عنده ولا ضمان عليه لأن الشأن دفع الودائع بغير بينة كما تقدم في باب الكراء . وانظر شرح الشامل عند قوله في الوديعة : ولا يصدق إن خاف عورة موضعه ، وظاهر النظم و ( خ ) أنه يصدق في دعوى رد ما لا يغاب عليه حيث أخذه بغير بينة ، ولو رده مع عبده أو غلامه أو غيرهما وهو كذلك كما في ابن سلمون ، وإذا ادعى الرسول أنها عطبت أو ضلت فلا يضمن المستعير لأن شأن الناس على ردها مع الرسول ، ولو لم يعلم ضياعها إلا من قوله ولو غير مأمون كما في ( ح ) .
والقولُ في المُدّةِ للمُعيرِ
مَعْ حَلْفِهِ وَعَجْزِ مُسْتَعِير
( والقول ) في اختلافهما ( في المدة ) فقال المستعير : أعرتني ليومين أو شهرين ، وقال المعير : بل ليوم أو شهر ، وكان ذلك قبل انقضاء المدة التي يدعيها المستعير بدليل قوله بعد : والقول من بعد الركوب ثبتا الخ . ( للمعير مع حلفه ) بسكون اللام ( وعجز مستعير ) عن إثبات ما يدعيه ، وفهم من قوله : مع حلفه أن العارية تلزم بالعقد وهو كذلك وإلا لم يكن على المعير يمين فإن أثبت المستعير ما يدعيه من المدة ونكل المعير فالقول له .
كَذَاكَ في مَسَافَةٍ لما رَكِبْ
قبلَ الرُّكوب ذَا لَهُ فيه يَجِبْ( كذاك ) تجب اليمين على المعير ( في ) قدر ( مسافة لما ركب ) بالبناء للمفعول أو الفاعل أي لما شأنه أن يركب أو يحمل عليه إذا اختلفا ( قبل الركوب ) أو الحمل أصلاً أو بعد ركوب أو حمل المتفق عليه فقال المستعير : أعرتني لبلد كذا ، وقال المعير : لبلد أقرب منه أو أسهل منه ( ذا ) أي كون القول ( له ) أي للمعير ( فيه ) أي الاختلاف المفهوم من السياق مقدار أو في مسافة وقبل الركوب متعلقان به ( يجب ) خبر عن اسم الإشارة ، والتقدير : ذا أي كون القول للمعير يجب ويثبت في الاختلاف في قدر مسافة لمركوب قبل ركوبه حال كون القول له كذلك أي مع يمينه كما في المسألة قبلها و ( ما ) على هذا مصدرية ، وإذا حلف المعير في هذا الموضوع خير المستعير في ركوب المسافة المحلوف عليها أو الطريق السهلة وفي أن يترك ولا يركب ولا يحمل شيئاً كما قال :
والمدّعي مخيَّرٌ أنْ يَرْكبا
مِقْدَارَ مَا حَدَّ له أَوْ يَذْهَبا
( والمدعي مخير ) في ( أن يركبا مقدار ما حد له أو يذهبا ) وكذا يخير في اختلافهما في المدة ، وإذا اختار الركوب والحمل فلا تسلم له الدابة إن خشي منه العداء بركوب الطريق الصعبة أو إلا بعد إلا بتوثق منه . ثم أشار إلى مفهوم قوله قبل الركوب فقال :
والقولُ من بَعْدِ الرّكُوبِ ثَبَتا
لِلْمُسْتَعير إنْ بِمُشْبِهٍ أَتَى
( والقول من بعد الركوب ) للمسافة المختلف فيها كلها أو ركوب المدة المختلف فيها أيضاً ( ثبتا للمستعير ) لأن الأصل عدم العداء ( إن بمشبه أتى ) وحينئذ فلا كراء عليه إن سلمت ولا ضمان عليه إن عطبت أو تعيبت .
وَإن أَتَى فيه بما لا يُشْبِه
فالقولُ للمعير لا يَشْتَبه
( فإن أتى فيه بما لا يشبه ) كدعواه مسافة لا يعير الناس أو هذا المعير إلى مثلها أو مدة كذلك أو أتى بما يشبه فيهما ونكل عن اليمين ( فالقول للمعير لا يشتبه ) أي لا يلتبس بشيء ويأخذ كراء تلك الزيادة إن سلمت ويخير في أخذ قيمتها أو كراء الدابة إن عطبت كزيادة الحمل فيما يظهر ( خ ) مشبهاً في كون القول للمعير كزائد المسافة إن لم يزد ، وإلا فللمستعير في نفي الضمان والكراء يعني إن أشبه وإن برسول مخالف للمعير أو المستعير .
والقولُ قَوْلُ مدّعي الكِراءِ في
ما يُسْتَعارُ مع يمينٍ اقْتفي
( و ) إن أخذ شخص دابة من غيره أو ثوباً ونحوه فانتفع بذلك وادعى أنه أعاره إياهاوادعى ربها كراءها له ف ( القول قول مدعي الكراء ) لأن المستعير ادعى عليه معروفاً والأصل عدمه ( في ما ) أي في الشيء الذي ( يستعار مع يمين ) منه على ذلك فيؤخذ منه توجه اليمين في دعوى المعروف وهو المشهور وتقدم نحوه في الضمان ( اقتفي ) أي اتبع نعت ليمين ، فإن نكل حلف المستعير فإن نكل غرم الكراء وهذا ما لم يكن مثله لا يكري الدواب لشرف قدره وعلو منصبه وإلاَّ فالقول للمستعير قاله ابن القاسم وهو معنى قوله :
ما لَمْ يَكُن ذَلِكَ لا يَليقُ
بهِ فَقَلْبُ القَسَم التّحَقيقُ
( ما لم يكن ذلك لا يليق به ) أي بالذي ادعى الكراء ( فقلب القسم ) على المستعير هو ( التحقيق ) فيحلف ولا كراء عليه ، فإن نكل حلف المعير وأخذ كراءه فإن نكل أيضاً فلا شيء له ( خ ) وإن ادعاها الآخذ والمالك الكراء فالقول له بيمين إلا أن يأنف مثله عنه الخ .
تنبيهات . الأول : ما تقدم من كون القول لربها ولزوم الكراء ظاهر إذا كان الشيء قائماً أو قامت على هلاكه بينة أو كان مما لا يغاب عليه ولم تقم بينة بأنه تلف بتفريط ممن كان بيده ، وأما إن كان مما يغاب عليه ولم تقم بينة بتلفه فمقتضى كون القول لربه حيث كان مثله لا يأنف من ذلك أنه يجب الكراء ويسقط الضمان لأن الكراء لا ضمان فيه ولو فيما يغاب عليه كما مر ، والغالب حينئذ أن ربها إنما يدعي الكراء في هذه الصورة إذا كان أكثر من قيمة ذلك الشيء ، فإن تساويا فالمال واحد ويظهر أنه لا يمين على المالك إذ ذاك لأنه قادر على أخذ ذلك بإقرار منازعه وإن كان الكراء أقل فلا يدعيه غالباً وعلى تقدير ادعائه ذلك فعدم الحلف أحرى من صورة المساواة قاله الشيخ الرهوني .
الثاني : عكس هذه المسألة وهو أن يدعي ربها العارية ويدعي الآخر الكراء لئلا يضمن قد تقدم حكمه في فصل أحكام الكراء عن ابن سلمون وصاحب المعيار .
الثالث : سئل ابن القطان عمن ذهب إلى صهره يستعير منه حمارة فلم يجده ووجد الحمارة فأخذها ثم ردها وهي مريضة فعطبت في دار صاحبها ، فلما قدم صاحبها أنكر مرضها وذهب إلى إغرام دابته بعد أن سكت مدة من ثلاثة أعوام لم يطلبها إلا بعد خصام وقع بينهما . فأجاب بأن له طلب حقه ويضمن أخذ الدابة قيمة الدابة اه . نقله ابن سلمون . قلت : ما لابن القطان ظاهر إذا لم تكن هناك عادة بالإعارة وإلا فلا ، وظاهر أيضاً حيث لم يطلبها إلا لخصام وقع بينهما فقد قال القوري في الأقارب والأصهار ومن في معناهم : يأخذ أحدهم متاع الآخر من غير مشورته ولا إذنه ، وذلك على عادتهم وسيرتهم إلى أن هلك بعض المأخوذ من المستعير لا ضمان على المستعير حيث ثبتت عادتهم بذلك وكانت مما لا يغاب عليه وهلكت لغير تضييع ولا تفريط . قال : وقد نص اللخمي على أن كل ما لا يطلب إلا عند المشاجرة والمخاصمة لا يحكم به لطالبه اه . ونحوه في البرزلي عن ابن الحاج فيمن غارت عليهم خيل العدو ، وعادتهم أن منوجد فرساً ركبه فأخذ العدو الفرس غلبة وقهراً عليه أنه لا ضمان عليه اه . باختصار .
الرابع : لا يجوز الصلح على شيء قد فات حتى تعرف قيمته ويكون الصلح بمعجل لا بمؤجل لئلا يكون ديناً بدين ، وقد تقدم ذلك في الصلح ثم أشار الناظم إلى بعض أحكام الوديعة فقال :
فصل في الوديعةوهي بالمعنى المصدري كما قال ( خ ) : توكيل على مجرد حفظ مال فخرج به إيداع الأب ولده لمن يحفظه لانتفاء لوازم الوديعة من الضمان ونحوه ، وخرج أيضاً الأمة المتواضعة لأن القصد إخبار الأمين بحيضتها وعدمه لا حفظها ، وخرج بقوله مجرد حفظ الخ . الإجارة على حراسة المال ويشمل قوله مال الرباع ونحوها ، وإذكار الحقوق لأنها منضمة للمال وتحفظ لأجله وبالمعنى الاسمي مال نقل لمجرد حفظه .
وَيضْمَنُ المُودَعُ معْ ظُهُورِ
مخَايلِ التَّضييع والتّقصيرِ
( ويضمن المودع ) بفتح الدال الرشيد ما تلف من الوديعة ( مع ظهور مخايل ) أي دلائل ( التضييع ) منه كلبس الثوب المودع وركوب الدابة المودعة فهلكا وقت الانتفاع بهما ( والتقصير ) في الحفظ كعدم تفقد الثوب المودع حتى تسوس كما في الزرقاني عند قوله في العارية : وحلف فيما علم أنه بلا سببه الخ . قائلاً يؤخذ من هذه المسألة أنه يجب عليه تفقد العارية ، وكذا يجب عليه تفقد الرهن والشيء المودع الخ . ومن ذلك من أودع مائة مثقال مثلاً فجعلها في داره على سريره أو في كوة ولو غير نافذة وسرقت ، فإنه يضمنها لأنه مضيع ومفرط بالنسبة إلى أهل بيته وتقطع يد السارق إذا سرقها لأن المودع عنده ليس بمضيع لها بالنسبة إلى الأجنبي قاله السوداني ( خ ) : وضمن بسقوط شيء من يد المودع عليها وضمن أيضاً بانتفاعه بها فهلكت وبخلطها حيث تعذر تمييزها وبنسيانها في موضع إيداعها وبدخوله الحمام بها وبخروجه بها يظنها له فتلفت ، لا إن نسيها في كمه فوقعت أي سقطت أو شرط عليه الضمان فلا ضمان عليه .
ولا ضَمَان فِيهِ للسَّفيهِ
وَلا الصَّغِير معْ ضَياعٍ فِيهِ
( ولا ضمان فيه )أي في الشيء المودع والمعار ( للسفيه ) أي عليه فالللام بمعنى ( على ) كقوله تعالى : وإن أسأتم فلها } ( الإسراء : 7 ) ( ولا ) على . ( الصغير ) ، المميز وأحرى غيره ( مع ضياع فيه ) أي في الشيء المودع وشمل كلامه ما إذا قامت بينة على تضييعهما أو تقصيرهما أو تعمدهما للإتلاف ، ومجرد الدعوى من وليهما بذلك فالكل لا ضمان فيه لأن ربها سلطه عليها ولو ضمن لبطلت فائدة الحجر ، اللهم إلا أن يصون به ماله فيضمن في المال الذي صونه أي حفظه خاصة ، فإذا باع الوديعة مثلاً وصرف بعض ثمنها في نفقته التي لا غنى عنها وتلف البعض الآخر أو أكل بعضها وتلف البعض الآخر فلا يضمن إلا القدر الذي صرفه في نفقته التي لا غنى له عنها دون الذي تلف أو التي له غنى عنها ويضمن في المال الذي كان بيده وقت الإنفاق فقط ، فإن تلف ما كان بيده وقتئذ أو لم يف بما أنفقه وأفاد غيره لم يضمن فيه قاله اللخمي وغيره . وحاصله أن يضمن الأقل مما بيده أو أنفقه فإذا كان المال الذي بيده يساوي عشرة الوديعة عشرون وقد أنفقها لم يضمن إلا عشرة ، وكذلك العكس وهو محمول على أنه أنفقه فيما له غنى عنه حتى يثبت أنه أنفقه فيما لا غنى عنه فيضمنه حينئذ كما قاله ابن رشد . ويأتي هذا أيضاً أول باب الرشد ، ومفهوم الإيداع أن المحجور صغيراً كان أو كبيراً إذ أتلف ما لم يودع عنده ولا أمن عليه فإنه يضمنه ويتبع به في ذمته إن لم يكن له مال وقت الإتلاف قال في المدونة . ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه فذلك في مال الابن فإن لم يكن له مال ففي ذمته اه . وهو منطوق قول ( خ ) وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه ، ومفهومه هو ما صرح به في الوديعة حيث قال : وإن أودع صبياً أو سفيهاً أو أقرض أو باع فأتلف لم يضمن الخ . وهو ما للناظم هنا وسيأتي عند قول الناظم أيضاً في الحجر به وكلما أتلفه المحجور فغرمه من ماله المشهور الخ .
تنبيهان . الأول : إذا أودع المحجور وديعة عند رشيد فتلفت فإن الرشيد يضمنها ولو تلفت بغير سببه ولو لم يعلم الرشيد بحجره قاله الرزقاني وهو ظاهر لتعديه بقبضها ونقلها بغير إذن معتبر ، بل ذكر المواق عن البرزلي عند قول ( خ ) : وإن أودع صبياً الخ . أن أبا محمد بن أبي زيد أفتى بضمان رجل أعطاه صبي مالاً ثم رده عليه لأنه رد لمن يجوز له أن يعطاه اه . وأما المحجور إذا أمن محجوراً أو عامله فأتلف الثمن فإن الضمان على المتلف بكسر اللام قاله ابن رحال عند قوله في النكاح : ولولي صغير فسخ عقده الخ .
الثاني : من أدى عن محجوره ما لزمه من متاع كسره أو أفسده أو اختلسه فإنه يرجع عليه به في ماله ويتبع به في ذمته لم يكن له مال ، وهذا إن لم يؤمن عليه فإن كان قد أمن عليه لم يتبع به في ذمته ، وإنما يرجع عليه في المال الذي بيده إن كان صون به ماله لا فيما أفاد بعد ذلك .
وَالتَّجْرُ بالمودَعِ مِنْ أَعْمَلَهُ
يَضْمَنُه وَالرِّبْحُ كلُّه لهُ
( والتجر بالمودع ) مبتدأ ( من ) مبتدأ ثان ( أعمله ) صلته والضمير للتجر ( يضمنه ) أي المودعبالفتح ولو تلف بغير سببه لأن التجر به يتضمن سلفه وضمان السلف من المتسلف ( والربح ) الحاصل بسبب التجارة ( كله له ) أي للمودع بالفتح لأن الخراج بالضمان وإنما يطيب له الربح إذا رد رأس المال كما هو وإلا فلا يحل له منه قليل ولا كثير قاله بعض المتأخرين ، وظاهر النظم أن الربح كله له كانت الوديعة عيناً أو مثلياً أو مقوماً وهو كذلك غير أنه إذا كانت مقوماً أو كان المودع بالفتح معدماً حرمت التجارة ابتداء ، وإن كانت عيناً أو مثلياً كرهت ابتداء أيضاً ( خ ) : وحرم أي على المودع سلف مقوم ومعدم وكره النقد والمثلى كالتجارة والربح له وبرىء إن رد غير المحرم الخ . أي إذا تسلف الوديعة ليتجر بها ونحو ذلك . وادعى رد مثلها لمحله فإن كان لا يحرم تسلفها كالنقد والمثلى فإنه يصدق في رده وفي تلفه بعده ، وإن كان يحرم تسلفها كالعرض فإنه لا يصدق في رده ولا في تلفه بعده .
تنبيهان . الأول : الوصي والغاصب كالمودع في كون الربح لهما إذا اتجرا بالمال لأنفسهما بخلاف المقارض والمبضع معه فليس لهما أن يتجرا لأنفسهما ، فإن فعلا فالتلف والخسر عليهما والربح لرب المال ، وكذا الوكيل . وتقدم آخر اختلاف المتبايعين ما إذا قال الوكيل : اشتريته لنفسي ، وقال الموكل : بل لي فانظره هناك قال في المنهج :
والربح تابع للمال ما عدا
غصباً وديعة وتفليساً بدا
ومراده المفلس يوقف ماله فيتجر فيه فالربح له لا للغرماء ، وهذا على القول بأن ضمانه إذا تلف منهم لا من المفلس ، وأما على أن الضمان من المفلس فذلك باق على قاعدة اتباع الربح للمال ، والمشهور أن ضمان العين منهم وضمان العرض منه وعليه فإنما ذلك بالنسبة للمفلس في ربح العين فقط .
الثاني : كون الربح للمودع ومن في معناه واضح إن كانت الوديعة دنانير أو دراهم وإن كانت عرضاً فربها مخير في الثمن أو القيمة يوم التعدي فإن اختار القيمة فلا كلام ، وإن اختار الثمن فإن كانت فيها زيادة قبل البيع فهي للمودع بالكسر وما حدث بعد البيع فللمودع بالفتح كأن يكون العرض بعشرة فباعه بعشرين واشترى به سلعة باعها بثلاثين فالربح في البيعة الأولى وهو عشرة لربها ، وفي الثانية وهو عشرة للمودع بالفتح ، وأما إذا كان يبيع العرض بالعرض وهلم جرّا فلا ربح له وله الأجرة قاله الزرقاني . ومحل التخيير في الثمن والقيمة إذا مات ، وأما إن كان قائماً فيخير بين الإجارة وأخذ الثمن أو رد البيع وأخذ عرضه .
وَالقَوْلُ قَولُ مُدَّعِ فيما تَلِفْ
وَفي ادَّعَاءِ رَدَّهَا مع الْحَلِفْ
( و ) إذا طولب المودع برد الوديعة فقال تلفت أو قال رددتها ففي الأول ( القول قول مدعفيما تلف ) منها مطلقاً كلاً أو بعضاً قبضها بإشهاد أم لا . لأنه أمين ويحلف إن حققت عليه الدعوى كان ممن يتهم أم لا . فإن لم تحقق عليه حلف المتهم ( و ) في الثاني القول له أيضاً ( في ادعاء ردها ) لربها ( بعد الحلف ) متهماً كان أم لا . حقق عليه ربها الدعوى أو اتهمه فقط في عدم الرد ، فإن نكل حلف ربها في دعوى الرد مطلقاً ، وفي دعوى التلف إن حقق عليه عدمه فإن اتهمه فقط غرم بمجرد نكوله ومحل كون القول له في الرد .
ما لمْ يَكُن يَقْبَضُهُ ببَيِّنَه
فَلاَ غِنَى في الرَّدِّ إنْ يُبَيِّنَه
( ما لم يكن ) المودع بالفتح ( يقبضه ) أي الشيء المودع ( ببينه ) مقصودة للتوثق وتقدمت حقيقتها في القراض ( ف ) إنه حينئذ ( لا غنى ) له ( في ) دعوى ( الرد ) عن ( أن يبينه ) ويقيم البينة عليه ولا تقبل دعواه الرد بدونها إذا ما قبض بإشهاد لا يبرأ منه إلا به .
تنبيه : من ادعي عليه بوديعة فجحدها وأقام ربها بينة بالإيداع فأقام المودع بينة بالرد فهل تقبل بينة المودع أم لا ؟ لأنه كذبها بالجحد الأول في ذلك خلاف جار على ضمن الإقرار هل هو كصريحه أم لا ، وقد تقدم قول الناظم : ومنكر للخصم ما ادعاه الخ . وبعضهم يقيد ذلك بمن كان عارفاً بما يترتب على جحده ، فحينئذ لا تنفعه بينة الرد وإلاَّ نفعته . واعتمد هذا التقييد ( ح ) والرهوني وغيرهما ، وفيه نظر فإن المعمول به هو الإطلاق كما مر في شرح نص النظم المذكور ونحوه في نظم العمل المطلق حيث قال :
ولا تصدق جاحد الإيداع
من أصله في الرد والضياع
ونقل عن سيدي مصباح وغيره أن كون مضمن الإقرار كصريحه هو مذهب المدونة ، وبه العمل والقضاء اه . وكثير من الناس من يحتج لصحة التقييد المذكور بقاعدة من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه فهو مصدق الخ . وهي قاعدة مبحوث فيها فإن صاحب المعيار لما نقلها عن أبي الحسن قال منكتاً عليه ما نصه ؛ قال ابن رشد : الأصل في هذا أن كل ما يتعلق به حق الغير لا يعذر الجاهل فيه بجهله وما لا يتعلق به حق الغير فإن كان مما يسعه ترك تعلمه عذر بجهله ، وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه لم يعذر بجهله ، فهذه جملة كافية يرد إليها ما شرد منها اه . ونظم كلامه صاحب المنهج ، ولذا قالوا الجهل بالسبب مؤثر اتفاقاً كتمكين المعتقة جاهلة بالعتق وإسقاط الشفعة قبل علمه بالبيع والجهل بالحكم غير مؤثر على المشهور كتمكينها جاهلة أن لها الخيار ، وإسقاط الشفعة عالماً بالبيع جاهلاً وجوبها اه . ومع هذا كله فليس الكلام في المشهور من الأقوال ، وإنما الكلام في المعمول به منها ، وكل من حكى العمل من المتقدمين والمتأخرين لا يقيده بالعارف بما يترتب على حجره كما تقدم ، ولو حكمت تلك القاعدة وعمل بمقتضاها وقلنا يعذر بالجهل في الحكم لم يقف عقد على ساق ، إذ الناس كلهم أو جلهم عوام جهال إلا الفردالنادر الذي في حكم العدم ، فيلزم على ذلك أن من أقر بألف من خمر مثلاً إذا قال : جهلت لزوم الإقرار وأن لفظة من خمر تعد من التعقيب بالرافع أنه يصدق لدعواه من يجهله أبناء جنسه ، ويلزم أن من بيع عليه ماله مثلاً بحضرته وسكوته وادعى أنه جاهل بكون السكوت يعد رضا أنه يصدق ، ويلزم أن من شهد له أبوه أو ابنه بحق فأقر المشهود عليه بالحق وادعى أنه أقر اتكالاً على صحة الشهادة أنه يصدق ، ويلزم أيضاً أن من جهل لزوم الطلاق هزلاً يصدق ، وأن المعتقة إذا ادعت أنها جهلت كون التمكين يقطع خيارها أنها تصدق ، وهكذا مما لا ينحصر فيؤدي إلى حل عقود العوام كلها أو جلها مع تعلق حق الغير بها ، وأي شغب أكثر من فتح هذا الباب ولهذا قال ابن رشد ما قال ، وأطلق العمل جميع من تقدم من الموثقين في مسألة التكذيب للبينة ولم يفصل بين جاهل وغيره وما كان يخفى عليهم عذره بالجهل . وقد رجح ابن رحال في باب الوكالة أن الإنكار لأصل المعاملة مضر مطلقاً في الأصول وغيرها اه . وانظر حاشيتنا على اللامية ولما ذكر أن المودع والمستعير كل منهما أمين لا ضمان على المودع مطلقاً ولا على المستعير فيما لا يغاب عليه كما مرَّ ناسب أن يذكر كل من شاركهما في الأمانة كما أشار له في الترجمة فقال :
وَالأُمنَاءُ في الّذِي يَلُونا
ليسوا لشيءٍ مِنه يَضْمنُونَا
( والأمناء ) جمع أمين ( في الذي يلونا ) مضارع ولي الأمين الشيء يليه إذا تولاه بوجه من الوجوه ( ليسوا لشيء منه ) أي من الذي يلون ( يضمنونا ) وعدهم الناظم سبعة عشر فأولهم ولي المحجور .
كالأَبِ وَالوصِيِّ وَالدَّلاَلِ
ومُرْسِلِ صُحْبَتَهُ بالمَال
( كالأب والوصي ) ووصيه ومقدم القاضي والكافر واللقيط فيما التقطه فإنهم مصدقون فيما ادعوا تلفه من مال المحجور ، والذي حازوه بأيديهم كان مما يغاب عليه أم لا صداقاً كان أو غيره ، ولا ضمان عليهم في شيء من ذلك ( خ ) : وقبضه مجبر ووصي وصدقا ولو لم تقم بينة ، وكذا يصدقون أيضاً في قدر النفقة ، وأما دفع المال له بعد بلوغه ورشده فلا ( خ ) : والقول في قدر النفقة لا في دفع ماله بعد بلوغه الخ . والمراد بالكافل من حاز طفلاً بماله من غير تقديم عليه لعدم الوصول للقاضي أو لكونهم ببلد لا قاضي بها إذ القيام بالطفل وحفظ ماله حينئذ فرض كفاية على أهل البلد ويسقط بقيام بعضهم به ، وأشعرت الكاف أنهم غير محصورين في السبعة عشر التي ذكرها فيدخل الزوج والزوجة إذا كان الصداق مما لا يغاب عليه وهو بيدأحدهما وطلق قبل البناء فإن ضمانه منهما ولا يرجع أحدهما على الآخر بنصفه ، فإن كان مما يغاب عليه ولم تقم على هلاكه بينة فضمانه من الذي هو بيده ( خ ) : وضمانه أي الصداق إن هلك ببينة أو كان مما لا يغاب عليه منهما وإلاَّ فمن الذي في يده ، وتدخل الأمة المتواضعة أيضاً إذا كانت تحت يد المشتري فإنه مصدق في ضياعها وضمانها حينئذ من بائعها ، ويدخل أيضاً من قلب فخاراً أو زجاجاً بحضرة ربه فيسقط من يده فلا ضمان عليه فيه كما مرّ في فصل بيع العروض حيث قال :
ومن يقلب ما يفيت شكله
لم يضمن إلا حيث لم يؤذن له
ويدخل الوارث إذا طرأ عليه دين أو وارث وادعى تلف ما كان بيده بعد القسمة فإنه يصدق فيما لا يغاب عليه دون غيره كما مرَّ عن ابن رشد عند قوله في القسمة : وينقص القسم لوارث ظهر الخ . وأما قبل القسمة فهم مصدقون مطلقاً ويدخل أيضاً المكتري لما يغاب عليه ، وأحرى غيره كما قدمه في قوله :
ومكتر لذاك لا يضمن ما
يتلف عنده سوى أن ظلما
( والدلال ) ويقال له السمسار فيصدق فيما ادعى ضياعه كما يصدق في رده إلا أن يأخذه ببينة فلا يصدق في الرد كالمودع قاله البرزلي وغيره . ابن رحال في باب الوكالة : وهذا على المشهور من عدم ضمانه وأما على ما به العمل من أنه يضمن ما يغاب عليه فلا يقبل منه دعوى الرد اه . وفي المعيار أن عياضاً كان يحكم بتضمين السماسرة ، واستحسنه ابنه قال : ولا سيما في وقتنا هذا حيث قلت الأمانة اه . وهذا هو الذي في رواية الأمهات آخر العيوب واستحسنه فضل . ابن رشد : وله وجه من القياس لأنهم نصبوا أنفسهم لذلك فصار حرفة وصناعة لهم ، ولهذا المعنى ضمن العلماء الراعي المشترك وحارس الحمام لتنزيلهم منزلة الصناع . ابن الحاج : والذي عليه الفتوى والعمل أن السماسرة كالصناع فيضمنون ما يغاب عليه دون غيره اه . وإليه أشار ناظم العمل المطلق فقال :
وألحقوا السمسمار بالصناع
فضمنوه غائب المتاع
وعليه فهو ضامن لما يغاب عليه ولو ظهر خيره خلافاً لقول ( خ ) : وسمسار ظهر خيره على الأظهر ، بل أفتى ابن المكوى بضمانهم ما لا يغاب عليه أيضاً ، واختاره ابن رحال في تأليف له قائلاً : لقلة أمانة النخاسين .
تنبيهان . الأول : إذا ادعى السمسار بيع السلعة من رجل بعينه ودفعها له فأنكره الرجل فقال ابن رشد : لا خلاف أنه يضمن ولو كان العرف عدم الإشهاد إذ ليست هذه المسألة من المسائل التي يراعى فيها العرف لافتراق معانيها اه . فيؤخذ منه أن شهادة السمسار عليه بالبيع لا تجوز وهو كذلك كما مر . وقوله : ولو كان العرف عدم الإشهاد خالفه في ذلك ابن أبي زيد قائلاً : لا ضمان إن كان العرف عدم الإشهاد . قال ابن رشد : وما حدث عند نشر السمسار الثوب من تمزيق مسمار ونحوه لا ضمان عليه فيه ، فإن قال أهل المعرفة : ما حدث فيه لا يكون إلا عن عداء ضمن ، وإن قالوا أنه محتمل فهل يحمل على العداء أو على عدمه ؟ في ذلك خلاف والصواب حمله على العداء اه .الثاني : إذا أرسل شخص سمساراً ليأتيه بثوب يشتريه مثلاً فأخذه من ربه وتلف في يده فضمانه من الدافع ، وقيل من المرسل بالكسر لأنه أمين لهما جميعاً فاختلف أي الأمانتين تغلب والأظهر تغليب أمانة المرسل لأنها سابقة اه . وعن القابسي فيمن بعث الرجل يطلب له ثياباً فيضيع منها ثوب أن ضمانه من الآمر إن اعترف بإرساله أو ثبت عليه ويحلف السمسار أنه ما فرط وهذا داخل في قوله :
( ومرسل ) بفتح السين سمساراً كان أو غيره ( صحبته ) كائنة ( بالمال ) ليشتري به ثوباً لك مثلاً أو يوصله لشخص فادعى تلفه قبل الشراء أو بعده ، وكذا إن ادعى تلفه قبل وصوله للمرسل إليه فإن ادعى أنه دفعه للمرسل إليه وتلف وصدقه المرسل إليه فلا إشكال ، وإن كذبه فهو ضامن ( خ ) في الوديعة عاطفاً على ما فيه الضمان أو المرسل إليه المنكر الخ . وقال في المدونة : ومن بعثت معه بمال إلى رجل صدقة أو صلة أو سلفاً أو ثمن مبيع أو يبتاع لك به سلعة فقال : قد دفعته إليه وكذبه الرجل لم يبرأ الرسول إلا ببينة وإن صدقه برىء ، وكذلك إن أمرته بصدقة على قوم معينين إن صدقه بعضهم أو كذبه بعضهم ضمن حصة من كذبه ، ولو أمرته بصدقة على قوم غير معينين صدق مع يمينه وإن لم يأت ببينة اه .
وَعَامِلِ القِرَاض وَالموَكِّلِ
وصَانِعٍ لم يَنْتَصِبْ لِلْعَملِ
( وعامل القراض ) مصدق في التلف والخسر والرد إن قبض بلا بينة كما مر في بابه ( والموكل ) مفوضاً أم لا إلا أن غير المفوض إذا وكل على قبض دين ونحوه وادعى تلفه بعد قبضه فإنه لا ضمان عليه ولا يبرأ المدين منه إلا ببينة تشهد بدفعه للوكيل ( خ ) : ولو قال غير المفوض قبضت وتلف برىء ولم يبرأ الغريم إلا ببينة الخ . وكذا لا ضمان عليه إذا ضاع الثمن منه قبل دفعه للبائع ولزم الموكل غرمه ( خ ) : ولزمه غرم الثمن إلى أن يصل لربه أي البائع ، وكذا يصدق في دفع ما قبضه من دين ونحوه لموكله ( خ ) : وصدق في الرد كالمودع فلا يؤخر للإشهاد ، وأما إذا وكله على دفع الثمن للبائع ونحوه فادعى أنه دفعه إليه وأنكره البائع فإنه ضامن ولا يصدق ( خ ) : وضمن ان أقبض الدين ولم يشهد ( وصانع ) كخياط وصباغ ( لم ينتصب للعمل )للناس وإنما شأنه أن يصبغ أو يخيط لنفسه فقط فواجره بعض الناس على خياطة ثوب أو صبغه وادعى ضياعه فإنه يصدق ولا ضمان عليه ، ومثله الصانع الخاص برجل أو جماعة ولو كثروا فإنه لا ضمان عليه أيضاً ، ومفهوم لم ينتصب الخ . أنه إذا نصب نفسه لجميع الناس ومن تلك الصنعة معاشه ، سواء كان يصنع بداره أو بحانوته وكل من أتاه بثوب خاطه أو صبغه مثلاً فإنه ضامن ولو قبضه بغير أجر إلا أن تقوم بينة على تلفه بغير سببه أو صنعه بحضرة ربه أو بمنزل ربه فضاع أو سرق فلا ضمان عليه كما قال :
وذُو انْتِصَابٍ مِثْلُهُ في عَمَلِهْ
بِحَضْرَةِ الطالب أو بمنزِلِه
( وذو انتصاب ) للصنعة ( مثله ) أي مثل غير المنتصب في التصديق وعدم الضمان حيث سرع ( في عمله ) بحانوته أو داره ( بحضرة الطالب ) أي ربه واستمر معه ولم يغب عنه إلى أن تلف المصنوع بغير سببه ( أو ) غاب الصانع على المصنوع ولكن كان يعمله ( بمنزله ) أي منزل الطالب الذي هو به ، فإنه لا ضمان عليه أيضاً ، وإن كان منتصباً للصنعة لأنه لما ضاع بحضرة ربه أو في منزله انتفت عنه التهمة .
تنبيه : ضمان المنتصب إنما هو في المصنوع لا فيما لا صنعة له فيه كالكتاب الذي ينسخ له منه ، وظرف القمح عند الطحان فلا ضمان عليه في الظرف والكتاب المنسوخ منه ، وإنما هو أيضاً إذا لم يكن في الصنعة تغرير ، فإن كان فيه تغرير مثل نقش فص وثقب لؤلؤ وتقويم سيف وحرق خبز بفرن وحرق ثوب بقدر صباغ فلا ضمان إلا أن يأخذ الصنعة من غير وجهها لعدم معرفته بها أو يعرفها ، ولكن تعدى فأخذها على غير وجهها فيضمن حينئذ ، ومثل ذلك البيطار يطرح الدابة فتموت ، أو الخاتن يختن الصبي فيموت ، أو الطبيب يسقي المريض فيموت أو يكويه فيموت من كيه أو يقطع منه شيئاً فيموت من قطعه ، أو الحجام يقلع ضرس الرجل فيموت فلا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا في عاقلته لأنه مما فيه تغرير ما لم يأخذ الصنعة على غير وجهها قاله ابن رشد .
والمستعيرُ مِثْلُهم والمرتهِنْ
في غَيْر قابِلِ الْمَغيبِ فاستبِنْ
( والمستعير مثلهم ) أي الأمناء فهو مصدق فيما لا يغاب عليه كما مر ( والمرتهن ) كذلك أيضاً هو مصدق ( في غير قابل المغيب ) كالحيوان والعقار ، وفهم منه أن قابل الغيبة لا يصدق فيه المستعير ولا المرتهن وهو كذلك ( فاستبن ) تتميم .
وَمُودَعٌ لدَيْهِ وَالأَجِيرُ
فيما عليهِ الأَجْرُ والمأْمُورُ
( ومودع لديه ) أي عنده هو مصدق أيضاً في التلف مطلقاً كان مما يغاب عليه أم لا . قبضه بإشهاد أم لا . ويحلف إن حققت عليه الدعوى مطلقاً فإن لم تحقق حلف المتهم كما مر ( خ ) وحلف المتهم ولم يفده شرط نفيها الخ . وكذا يصدق في الرد إن قبضه بغير إشهاد كما مرّ( والأجير ) على غسل ثوب أو سقي دابة ونحوهما هو أمين مصدق ( في ) ضياع ( ما ) أخذ ( عليه الأجر ) حيث لم يكن منصوباً لذلك ، ويدخل فيه أجير الصانع وصائغه اللذان تحت يده فإنه لا ضمان عليهما ، فالصانع يضمن بشروط وهي أن نصب نفسه وغاب عليه ولم يكن في الصنعة تغرير الخ . وأجيره وصانعه لا ضمان عليهما لأنهما صانعان لخاص ( خ ) عاطفاً على ما لا ضمان عليه وأجير لصانع الخ . لكن قال أشهب : محل عدم ضمانهما إذا لم يغيبا فقال في الغسال تكثر عليه الثياب فيؤاجر أجراء يبعثهم إلى البحر بالثياب يغسلونها فتتلف أنهم ضامنون ، وكذلك أجراء الخياط ينصرفون بالثياب إلى بيوتهم فتتلف أنهم ضامنون . ابن ميسر : وهذا إذا واجره على عمل أثواب مقاطعة أي كل ثوب بكذا ، ابن يونس : لأنه حينئذ كصانع دفع إلى صانع ما استعمل عليه ، وأما إن كان واجره يوماً أو شهراً فدفع إليه شيئاً يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه اه . وكلام ابن ميسر تفسير لكلام أشهب ، كما أن قول أشهب تقييد للمدونة كما يفهم من كلام ابن يونس وابن عرفة وغيرهما .
( والمأمور ) بالإتيان لحاجة أو ردها أو وضعها في محل كذا بغير أجر فيدعي تلفها فهو مصدق ولا ضمان عليه ، فإن كان بأجر فهو ما قبله على أن المأمور هو الوكيل .
وَمثْلُهُ الرَّاعِي كذا ذو الشّرِكَه
في حالةِ البضَاعَةِ المشترَكَه
( ومثله ) في التصديق وعدم الضمان ( الراعي ) غير المشترك وهو الراعي الخاص بواحد أو جماعة فإنه لا ضمان عليه فيما ادعى تلفه بغير تعد ولا تفريط ، وهو محمول على عدم العداء والتفريط ( خ ) : وهو أمين فلا ضمان عليه ولو شرط إثباته إن لم يأت بسيمة الميت الخ . وهذا في الراعي المكلف الرشيد لا غير الرشيد ، فإنه لا ضمان عليه ولو تعمد إتلاف الماشية كما مرَّ في قوله : ولا ضمان فيه للسفيه الخ . وراعي الدولة بالنوبة كالراعي الخاص لا ضمان عليه فيما ادعى تلفه وإن كان محجوراً واسترعاه أرباب الماشية في نوبته أو نائباً عن غيره عالمين به أو عادتهم ذلك فلا ضمان عليه ولو تعمد الإتلاف كما مر . وأما الراعي المشترك وهو الذي ينصبنفسه لرعي كل من يأتيه بدابة أو بقرة أو شاة فإنه ضامن لما ادعى تلفه قال في العمليات :
ضمان راعي غنم الناس رعى
ألحقه بالصانع في الغرم تعى
وإذا ألحق بالصانع على المعمول به فلا يصدق في الرد كما مر عن المقدمات ، وأن كل من لا يصدق في التلف لا يصدق في دعوى الرد ، وبه أفتى ( ت ) وغيره وهو ظاهر . وإن كان كالصانع أيضاً فلا ضمان على أجيره الذي يجعله تحت يده لأنه أجير لخاص كما مرَّ فلم ينصب نفسه لرعي كل دابة يؤتى إليه بها مثلاً ( كذا ذو الشركة ) كل منهما مصدق في التلف والخسر وغيرهما ( في حالة البضاعة المشتركة ) لأن كلاً من الشريكين وكيل عن صاحبه ( خ ) وكل وكيل عن الآخر الخ . فيجري فيهما ما تقدم في الوكيل كانت شركة مفاوضة أو عنان وأيديهما تجول في المالين .
وَحامِلٌ للثَّقْلِ بالإطْلاَقِ
وَضَمِنَ الطعامَ باتّفَاقِ
( و ) وكذا ( حامل للثقل ) فإنه مصدق ولا ضمان عليه ( بالإطلاق ) حمل على ظهره أو دابته أو سفينته كان المحمول مقوماً أو مثلياً غير طعام كقطن وحناء ونحوها ما لم يفرط أو يقر بفعل كعلمه بضعف الحبل ، ومع ذلك ربط به حمل الدابة فانقطع أو انحل فسقط المحمول فتلف فإنه يضمن المثل في المثلى والقيمة في المقوم بموضع التلف ، وله من الكراء بحسب ما سار لأن الغرر بالفعل تفريط ( خ ) عاطفاً على ما لا ضمان فيه أو انقطع الحبل ولم يغر بفعل الخ . وإنما يضمن مع الغرور إذا هلك المتاع من ناحية الغرور لا إن غر وسلم من ناحية الغرور وأخذه اللصوص أو سرق مثلاً فلا ضمان .
ومن الغرور بالفعل من دفع قمحه إلى رجل ليطحنه فطحنه بأثر نقش الرحى فأفسده بالحجارة فلم يضمن له مثل قمحه كما في المنتخب ، ومفهوم بفعل أنه إذا غر بالقول كقوله لرب المتاع الحبل صحيح مع علمه بضعفه فتولى رب المتاع الربط به فهو غرور بالقول ، وكذا إن أسلم الدابة لمن يحمل عليها وهو عالم بعثارها فحمل عليها فهو من الغرور بالقول أيضاً ، وكمن سأل خياطاً قياس ثوب فقال : يكفيك وهو يعلم أنه لا يكفيه أو قلب دراهم عند صيرفي فقال : إنها جياد وهو يعلم أنها رديئة ، وكبيعه خابية عالماً بكسرها وهو يعلم أن المشتري يعمل فيها زيتاً فجعله المشتري فيها فتلف فلا ضمان ، كما لو دلس في بيع عبد بسرقة فسرق من المشتري شيئاً ، والمشهور في الغرور بالقول عدم الضمان ما لم ينضم إليه عقد كما لو أكرى خابية عالماً بكسرها لمن يعمل فيها زيتاً فإنه يضمنه . والفرق بين البيع والكراء أن المنافع في ضمان المكري حتى يستوفيها المكتري بخلاف البيع . انظر شرح الشامل آخر الإجارة ثم اخرج الناظم الطعام من الإطلاق المتقدم فقال :
( وضمن الطعام باتفاق ) وإن لم يفرط ولا تعدى على دعواه ، وبه قال الفقهاء السبعة لسرعة الأيدي إليه كان الطعام من الأقوات كالقمح والشعير والأدام أو من الفواكه كالترمس ونحوه ، وهو ظاهر ، وأنه لا فرق بين أن يدعي ضياعه بعثار دابة أو سرقة أو بغصب أو بسماوي من الله تعالى وهو كذلك إلا أن يأتي ببينة تشهد بذلك من غير تفريط أو ضاع بصحبة ربه لأن ضياعه بحضرة ربه أقوى من قيام البينة على ضياعه لما ذكر . واختلف إن حمله في بحر وربه معه .اللخمي : والضمان أحسن ونحوه لابن يونس عن القبايسي لأنهم يخونونه بالليل ، وتحصيل ما يضمنه الحمالون أم لا كما في ابن يونس على خمسة أوجه . الأول : هلك بسبب حامله من عثار أو ضعف حبل ولم يغر أو بهروب دابة أو سفينة بما عليها فلا ضمان عليه ولا أجرة ، ولا يأتي بمثله ليحمله ورجع بالكراء إن دفعه لأنه على البلاغ . والثاني : ما هلك بسبب غرور حامله من عثار أو ضعف حبل فهلك ، فإنه يضمن قيمة ذلك العرض بموضع الهلاك وله من الكراء بحسابه . والثالث : ما هلك بأمر من الله عز وجل بالبينة من عرض أو غيره فللمكري الكراء بأسره وعليه حمل مثله من موضع هلك فيه . والرابع : ما هلك من الطعام ولم يعلم ذلك إلا من قولهم فلا يصدقون فيه ويضمنون مثله بموضع حملوه إليه ولهم جميع الكراء . الخامس : ما هلك بقولهم من العروض ولم يعلم إلا من قولهم فهم مصدقون فيه ولهم الكراء بأسره ، وعليهم حمل مثله من موضع هلك فيه إلى موضع يحمله إليه كالذي هلك بالبينة بأمر من الله اه . ونقله أبو الحسن والقرافي وغيرهما مسلماً .
قلت : قوله : وعليهم حمل مثله الخ . لعله إذا كان ربه يقدر على خلافه وإلاَّ فتنفسخ الإجارة وله من الكراء بحساب ما سار كما قالوه فيمن استؤجر على حصاد زرع ليس لربه غيره فتلف أو استؤجر على الحرث في يوم فانكسر المحراث ونحو ذلك ، فإن الإجارة تنفسخ كما مرَّ في الإجارة .
تنبيهان . الأول : ما تقدم من أنه يضمن مثل الطعام في المحل الذي يحمله إليه محله إذا علم كيله وإلا فيضمن قيمته . اللخمي : وأنا أرى إن تحاكما في موضع هلاكه غرم مثله فيه وإن تحاكما في موضع وصوله غرمة فيه انظر بقيته .
الثاني : إن شرط الحمال سقوط الضمان في الطعام أو لزوم الضمان في العروض ، فروى محمد أن الشرط ساقط والعقد فاسد فإن فات فله كراء المثل . وفي المدونة قال الفقهاء السبعة : لا يكون كراء بضمان أي في العرض إلا أن يشترط على الحمال أن لا ينزل ببلد كذا أو وادي كذا ولا يسير بليل فيتعدى ما شرط عليه فتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي فيضمنه اه . وكذا يقال في الطعام مع قيام البينة وقد شرط عليه ما ذكر . والفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب بكسر الياء المشددة ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن بسار . واختلف في السابع فقيل : هو أبو بكر بن عبد الرحمن . ففي المدونة قال مالك : علم القضاء كغيره من العلوم ، ولا أعلم بهذا البلد أحداً أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن ، وكان أخذ شيئاً من علم القضاء من أبان بن عثمان ، وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان اه . وقيل : هو أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، قال البرزلي في أول الأقضية : اختلف في هذين أيهما أحد الفقهاء السبعة فقيل : الأول ، وقيل : الثاني والآخر أحد النظراء . وهم أي النظراء السبعة : سالم بن عبد الله ، وأبان بن عثمان ، وعلي بن الحسين ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبو بكر بن عمر بن حزم ، وعبد الله بن هرمز ، فهؤلاء الأربعة عشر من التابعين أفقه أهل زمانهم . قال : والفقهاء السبعة حجة عند مالك اه . وعلى كون أبي بكر بن عبد الرحمن بنالحارث بن هشام هو أحد الفقهاء لا أحد النظراء نظم بعضهم حيث قال :
ألا كل من لا يقتدى بأئمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسما
سعيد أبا بكر سليمان خارجه
والقولُ قَوْلُهُمْ بلا يمينِ
والاتِّهام غَيْرُ مُسْتَبينِ
( والقول قولهم ) أي الأمناء المتقدمين ( بلا يمين ) عليهم ( و ) الحالة هذه وهي كون ( الاتهام غير مستبين ) فإن اتهم أحدهم وكان ممن يشار إليه بها وجبت عليه اليمين كما مر عن ( خ ) في المودع حيث قال : وحلف المتهم .
وقِيلَ مِنْ بَعْدِ اليمينِ مُطْلَقا
وَالأَوَّلُ الأَوْلى لدى مَن حَقّقَا
( وقيل ) القول قولهم ( من بعد اليمين مطلقا ) كان ممن يتهم أم لا ( والأول ) وهو عدم اليمين إذا لم يتهم هو ( الأولى ) والمعتمد ( لدى من حققا ) وعليه درج ( خ ) كما مر . وانظر ما تقدم في شرح قوله : وتهمة إن قويت بها تجب يمين متهوم الخ .
وَحَارِسُ الحَمَّامِ ليس يَضْمَنُ
وَبَعْضُهُمْ يقولُ بلْ يُضَمَّنُ
( وحارس الحمام ليس يضمن . وبعضهم يقول بل يضمن ) اللخمي : اختلف في تضمين صاحب الحمام ما ذهب من الثياب فقال مالك في المدونة : لا ضمان عليه ، وقال في كتاب محمد : يضمن إلا أن يأتي بحارس ، وإذا أتي بحارس سقط عنه الضمان وعاد الخلاف في الحارس فقال في المدونة وكتاب محمد : لا ضمان عليه . وقال ابن حبيب : يضمن لأنه أجير مشترك وعدم الضمان أحسن اه . وقال ابن رشد : حارس الثياب إن استأجره صاحب الحمام لحفظ ثياب الداخلين بأجرة ثابتة في ذمته فلا خلاف في عدم ضمانه إلا أن يفرط ، وأما إن كان يحرس ثياب الناس يجمل بأخذه من كل داخل فقال مالك : لا ضمان عليه . وقال ابن لبابة : وما سواه خطأ . وقيل : يضمن لأنه كالراعي المشترك ، وإليه ذهب ابن حبيب اه . وقد علمت أن صاحب الحمامهو مكتريه لا حارس الثياب والخلاف فيهما معاً ، والمشهور عدم الضمان فيهما كان بأجرة أم لا . ( خ ) : كحارس ولو حمامياً الخ . ابن عبد البر : كلا القولين معمول به على حسب الاجتهاد ، ابن يونس : روى محمد إن نام حارس بيت فسرق ما فيه لم يضمنه وله أجره ، وكذلك حارس النخل قال محمد : لا يضمن جميع الحراس إلا بتعد كان ما يحرسونه طعاماً أو غيره . ابن عرفة : قوله لا ضمان عليه في نومه يجب تقييده بكونه في وقت نومه المعتاد له لا في نومه في وقت حاجة العسس والحرس . وفي البرزلي عن ابن أبي زيد فيمن اكترى مخزناً للطعام وصاحبها ساكن فيها لا ضمان عليه في الطعام إذا ذهب . الشعبي : من اكترى بيتاً في داره أو حيث يسكن لخزن الطعام فضاع كله أو بعضه لا شيء على صاحب البيت ولا يمين إن كان صالحاً وإن كان متهماً حلف .
قلت : لأنه وديعة بأجرة وأخذ الأجرة لا يخرجه عن الأمانة . وفي البرزلي أيضاً قبل هذا : إن شرط الضمان على الحراس لا يلزم ولهم أجر مثلهم فيما لا ضمان عليه وتأمله مع ما في اليزناسني عن ( تت ) أن العرف الآن ضمان الحراس لأنهم إنما يستأجرون على ذلك اه . لأن العرف غايته أن يكون كالشرط والشرط بالصراحة لا ضمان فيه .
تنبيهات . الأول : قال البرزلي : حارس الطعام إذا استخلف غيره فالصواب ضمانه إلا أن يستخلف لضرورة قوياً مثله على الحرس .
الثاني : جزم ابن رحال في تضمين الصناع بأن حارس الفندق وحارس الحوانيت بالليل ضامن قال : وكذا حارس الطعام في المطمر وهو المسمى بالمراس قلت : وما قاله من ضمان حارس الفندق والسوق والمطمر ظاهر لأن كلاً منهم حارس لغير منحصر ولا مخصوص . ألا ترى أن صاحب الفندق نصب نفسه لحراسة أمتعة كل من دخل إليه ووضع أمتعته فيه كانت مما يغاب عليه أم لا . فهو فيما لا يغاب عليه بمنزلة الراعي المشترك ، وقد جرى العمل بتضمينه وفيما يغاب عليه كالسمسار والعمل بتضمينه أيضاً ، وكذا البيات في السوق نصب نفسه لحراسة أمتعة كل من اكترى حانوتاً في ذلك المحل ووضع أمتعته فيه أيّاً كان طلع لهذا الحانوت في هذا الشهر أو السنة أو غيرهما ، وحارس المطمر كذلك نصب نفسه لكل من يخزن الطعام في ذلك المحل وعلى قياسه يقال : حارس الحمام كذلك لأن العادة عندنا اليوم أن مكتري الحمام يؤاجر أجيراً تحته يقبض أجرة الداخلين للاغتسال ويحرس ثياب النساء والرجال ناصباً نفسه لذلك وهم مخصوصين ولا منحصرين ، ولذا قال المتيطي عن بعض الشيوخ ما في المدونة : من عدم الضمان على حارس ثياب الحمام لا يقتضي سقوط الضمان عن مكتري الحمام لأن أجير الصانع لا يضمن ويضمن الصانع وصاحب الحمام في حكم الصانع لأن المقصود منه التنظيف والاغتسال فيضمن فيما لا يستغنى عنه على الائتمان عليه ، كما قال ابن حبيب في الطحان : يضمن القمحوظرفه إلا أن يطحنه بحضرة صاحبه أو يكون كالحمال يضمن الطعام لأنه مما جرت العادة بسرعة الأيدي إليه وكذلك صاحب الحمام جرت العادة بجنايته على ثياب الناس فيضمنها اه . وقد علمت أن الصواب هو الضمان في الجميع لما تقدم أن كلا القولين معمول به ، وترجح الضمان بما عللوا به من جري العادة بالجناية وقد قال اليزناسني في السمسار : أن ما قاله ابن عبد البر من ضمانه هو الذي ينبغي أن يعمل به في هذه الأزمنة التي قل فيها الصدق عند من يظن به فضلاً عن غيره اه . وهذا التعليل جار في جميع ما ذكرناه . وحكي أيضاً عن عياض أن الحكم بن نصر حكم بسوسة بتضمين صاحب الحمام قال القلشاني : عدل عن المشهور إلى الحكم بالشاذ مراعاة للمصلحة العامة التي شهد لها الشرع بالاعتبار فمنع من بيع الحاضر للبادي ومن بيع التلقي على القول بأنه لحق المجلوب إليهم اه . وفي هذا كله كفاية لمن اكتفى .
الثالث : لو قال حارس الثياب أو الفندق دفعت ثيابك أو بهيمتك لمن شبهته بك أو قال : رأيت من أخذها وتركته يأخذها لظني أنه أنت فإنه يضمن بلا خلاف ، لأن غايته أن يكون مفرطاً أو مخطئاً والخطأ والعمد في أموال الناس سواء ، والتفريط هو أن يفعل ما لا يفعله الناس كما في البرزلي وهو موجب للضمان كما تقدم .
فصل في القرض وهو السلفبفتح القاف وقيل بكسرها ، وفي الذخيرة هو من أعظم المعروف وأجل القرب وأصله الندب وقد يجب في مسغبة ونحوها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( قرض مرتين يعدل صدقة مرة ) خرَّجه البزار وصححه عبد الحق ، وروي أن درهم القرض بثمانية عشرة ودرهم الصدقة بعشرة كذا رآه ( صلى الله عليه وسلم ) مكتوباً على باب الجنة ليلة الإسراء ، وسأل جبريل : ( ما بال القرض أفضل من الصدقة ) فقال : إن السائل يسأل وعنده كفاية ، والمقترض لا يقترض إلا لحاجة ، وهذا يعارض ما دل عليه حديث البراز من أن الصدقة أفضل . وعرفه ابن عرفة بقوله : القرض دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلاً تفضلاً فقط لا يوجب إمكان عارية لا تحل متعلقاً بذمته اه . فخرج بقوله متمول غير المتمول كالخمر والخنزير ويدخل جلد الميتة المدبوغ ، فإنه يجوز قرضه ليرد له مثله على الراجح لأنه متمول ، وأما جلد الأضحية فلا يجوز قرضه لأنه بيع له ، وبقوله في عوض دفعه هبة ، وبقوله غير مخالف له البيع ، وقوله لا عاجلاً عطف على مقدر أي حال كونه مؤجلاً لا عاجلاً أخرج به المبادلة المثلية فإنه يصدق الحد عليها لولا الزيادة . وبقوله تفضلاً الخ . قصد نفع نفسه أو أجنبي ، وبقوله لا يوجب الخ قرض الجارية ، وبقوله متعلقاً بذمته الخ . نحو دفع شاة في أخرى بعينها لأجل ثم قال : ولو قلنا مماثل بدل غير مخالف لم يشمل إلا ما شرط فيه المثل لامتناع مماثلة الشيء نفسه اه . واعترض بأنه جعل جنسه الدفع مع أن القرض يوجد ويلزم بلا دفع لأنه يلزم بالقول وقد يجاب بأن المعنى عقد على دفع متمول الخ .القَرْضُ جَائزٌ وفِعْلٌ جَارِي
في كلِّ شَيْءٍ ما عَدَا الجَوَارِي
( القرض جائز ) بل مندوب إليه كما مر ، وإنما عبر بالجواز لأجل الإخراج في قوله : ما عدا الجواري ( وفعل جار في كل شيء ) من النقود والأطعمة والمقومات والمثليات والحيوان ( ما عدا الجواري ) فإنه لا يجوز قرضهن لغير محرم منهن ولغير امرأة وصغير لأن ذلك يؤدي إلى عارية الفروج ، لأن المقترض لما كان متمكناً من رد المثل والعين بعد الغيبة عليه ما لم تتغير صفته كان رد العين في معنى عارية الفرج ، لأنه يستمتع بها ما شاء ثم يردها بعينها ويقضى على المقرض بقبولها حيث لم تتغير صفتها ، ولذلك انتفى المنع إذا كان المقترض محرماً منها كبنت أخيه أو كان امرأة أو صغيراً أو كانت الجارية لا يوطأ مثلها ولا تبلغ في مدة القرض سن من يوطأ مثلها ، ومثل الجواري في المنع المذكور ما لا يمكن الوفاء بمثله كالدور والأرضين أو ما لا تحصره الصفة كتراب المعادن ، وكذا الجزاف فإنه لا يجوز قرضه إلا ما قل كرغيف برغيف ، وبالجملة فكل ما لا يصح السلم فيه كهذه الأمور لا يجوز قرضه . ( خ ) : يجوز قرض ما يسلم فيه فقط إلا جارية تحل للمستقرض أي فإنه يجوز السلم فيها ولا يجوز قرضها ، فإن وقع ونزل وأقرضت لمن يحل له وطؤها فإنها ترد إذا لم تفت بوطء ونحوه من غيبة عليها وإلا رد قيمتها ، ومحل المنع في استقراض الجواري إذا لم يشترط عليه رد المثل وإلاَّ جاز عند ابن عبد الحكم والأكثر على أنه وفاق للمذهب حينئذ .
تنبيه : لا يجوز تصديق القرض في كيل الطعام أو وزنه أو عده لئلا يجد المقترض نقصاً فيغتفره رجاء أن يؤخره عند الأجل ، فإن وقع وصدقه لم يفسخ كما في ابن يونس ( خ ) : وتصديق فبه كمبادلة ربويين ومقرض الخ .
وشَرْطُهُ أن لا يَجُرَّ مَنْفَعَه
وَحَاكِمٌ بِذَاكَ كلٌّ مَنَعَه
( وشرطه ) : أي القرض ( أن لا يجر منفعة ) للمقرض أو الأجنبي فإن جرها لأحدهما أولهما امتنع كما قال ( و ) قرض ( حاكم بذاك ) أي بجر المنفعة للمقرض أو لأجنبي ولو قلت كسلف طعام عفن أو سايس أو مبلول أو رطب أو قديم أخذ سالم عنه أو يابس أو جديد ( كل منعه ) إن لم تكن مسغبة ، فإن كانت والنفع للمقترض وحده بحيث لوباعه ربه أمكنه أن يشتري بثمنه في زمن الرد مثله أو أكثر فيجوز ( خ ) : إلا أن يقوم دليل على أن القصد نفع المقترض فقط في الجميع كفدان مستحصد خفت مؤنه عليه يحصده ويدرسه ويرد مثله ، وإن كان النفع للمقرض والمقترض معاً كما لو كان بحيث لو باعه لم يمكنه أن يشتري به مثله ، بل أقل ، فالمشهور المنع . وروى أبو الفرج : الجواز .
قلت : وينبغي التمسك به نظراً لحاجة المقترض ، وقولي : بشرط أخذ سالم الخ . احترازاً مما إذا لم يشترط عليه ذلك ولا جرت به عادة ، وإنما تطوع المقترض بقضاء السالم عن العفن ونحوه ، فإنه جائز ( خ ) : وقضاء قرض بمساو وأفضل صفة إلى قوله لا أزيد عدداً أو وزناً الخ . وفي ابن يونس عن ابن عمر رضي الله عنهما ؛ أن رجلاً قال : أسلفت لرجل سلفاً واشترطت عليه أفضل منه . فقال ابن عمر : ذلك الربا . قال : وأرى أن تمزق الصحيفة أي الرسم ، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته وإن أعطاك دونه فأخذته أجرت عليه ، وإن أعطاك فوق ذلك طيبة بذلك نفسه فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته اه .
تنبيه : من سلف بمنفعة مسألة السفتجة وهي البطاقة التي يكتب فيها الإحالة بالدين ، وذلك أن يسلف الرجل مالاً في غير بلده لبعض أهله ويكتب القابض لنائبه أو يذهب معه بنفسه ليدفع عوضه في بلد المسلف وهي ممنوعة على المشهور ، إلا أن يعم الخوف . وروى ابن الجلاب عن مالك الكراهة ، وأجازها ابن عبد الحكم مطلقاً عم الخوف أم لا . وهذه المسألة تقع اليوم كثيراً في مناقلة الطعام فيكون للرجل وسق من طعام مثلاً في بلد فيسلفه لمن يدفعه له في بلده أو قريب منه فتجري فيها الأقوال المذكورة إن كان ذلك على وجه السلف لا على وجه المبادلة والبيع ، وحينئذ فلا يشوش على الناس بالمشهور إذ لهم مستند في جواز ذلك ، ولا ينكر على الإنسان في فعل مختلف فيه كما مرَّ في بياض الأشجار في المساقاة وأوائل الإجارة والمزارعة والله أعلم . وكذا اختلف في ثمن الجاه فمن قائل بالتحريم ، ومن قائل بالكراهة بإطلاق ، ومن مفصل بين أن يكون ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر فأخذ مثل أجره فذلك جائز وإلاَّ حرم . وهذا هو الحق ولكن لا ينكر على دافعه ولا على آخذه مطلقاً لأنه مختلف فيه فلا ينكر على من دفعه لمن يتكلم في أمره مع السلطان ونحوه كما هي عادة الناس اليوم ، ثم المشهور أن القرض يملك بالقول فيصير مالاً من أموال المقترض ويدخل في ضمانه بالعقد كغيره من العقود الصحيحة ما لم يكن فيه حق توفية وإلاَّ فلا يدخل في ضمانه إلا بالتوفية وإذا لزم بالقول فإنه يقضي له به ويبقى بيده إلى الأجل أو قدر ما يرى في العادة أنه قد انتفع به إن لم يضربا أجلاً كما قال :
وليس باللازم أنْ يُرَدَّا
قبلَ انقِضَاءِ أَجْلٍ قد حُدَّا ( وليس باللازم ) للمقترض ( أن يردا ) القرض لمقرضه ( قبل انقضاء أجل قد حدا ) بنص أو عادة لأن العادة كالشرط ( خ ) وملك بالقول ولم يلزم رده إلا بشرط أو عادة الخ .
وإن رأى مسَلِّفٌ تَعْجيلَهُ
أُلْزِمَ مَنْ سَلَّفَهُ قُبَولَهُ
( وإن رأى مسلف ) بفتح اللام ( تعجيله ) أي السلف لربه قبل أجله ( ألزم من سلفه قبوله )كان عيناً أو غيرها ، ولو نفس المال المقترض بالفتح إن لم يتغير أو تغير بزيادة ، فإن تغير بنقص خير وهذا إذا قضاه بمحل قبضه وإلاَّ فلا يلزم ربه أخذه لما فيه من زيادة الكلفة عليه إن كان غير عين ، وإلاَّ لزمه قبوله إن كان المحل مأموناً ( خ ) : كأخذه بغير محله إلا العين .
تنبيهات . الأول : إذا تنازعا في اشتراط الأجل فقال المقرض : على الحلول ، وخالفه المقترض فالقول للمقترض على المعتمد فإن اختلفا في قدر مدة تأجيله فالقول للمقرض ، فإن التزم المتسلف تصديق المسلف في عدم القضاء بلا يمين ، فذكر ابن ناجي أن الذي عليه العمل هو أعمال الشرط فلا يحلف .
الثاني : لو جاء المديان ببعض الحق وقال ربه : لا أقبل إلا كله فقال ابن القاسم : إن كان الغريم موسراً لم يجبر رب المال على أخذ ما جاء به ، وإن كان معسراً أجبر وقيل يجبر ولو موسراً ، وظاهر الجزولي أنه الراجح .
الثالث : يصح السلف على شرط على شرط أن يرده من مال بعينه وأخذه بعضهم من قصر سلف اليتيم على ما في ملكه يوم السلف كما في ابن عرفة في السلم وأوائل القرض .
باب في العتق وما يتصل بهعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه ) . ابن عرفة : العتق رفع ملك حقيقي لا بسباء محرم عن آدمي حي فخرج بملك رفع غير الملك كرفع الحكم بالنسخ مثلاً ، وخرج بحقيقي استحقاق عبد بحرية لأن المستحق من يده ليس بمالك في الحقيقة ، وبقوله : لا بسباء محرم فداء المسلم من حرب سباه أو ممن صار له منه لأن ملك الحربي له سباء محرم وهو عطف على مقدر أي بسباء حلال لا بسباء محرم ، وبقوله : حي الخ . رفعه عند الموت وأورد عليه أن قوله : لا بسباء محرم مستغنى عنه بقوله : ملك حقيقي لأن محترزه ليس فيه ملك حقيقي ، وأورد عليه أيضاً أنه غير مانع لصدقه ببيع العبد فإنه رفع ملك أيضاً . وقد يجاب عن هذا الثاني بأن ملك في سياق النفي فيعم ولا يتحقق عمومه إلا برفع كل ملك والبيع فيه رفع ملك البائع وثبوت ملك المشتري .العِتْقُ بالتدْبيرِ وَالْوَصاةِ
وبالْكِتَابَةِ وبَالبَيّنَاتِ
( العتق ) على أربعة أوجه ( بالتدبير ) وهو كما في ( خ ) تعليق مكلف رشيد وان زوجة في زائد الثلث العتق بموته على غير وجه الوصية لا على وجه الوصية فقوله : العتق معمول تعليق وهو على حذف مضاف أي : تعليقة نفوذ العتق لأن المعلق إنما هو نفوذ العتق ، وأما إنشاء العتق فهو من الآن فالتدبير تعليق على وجه الانبرام واللزوم ، والوصية تعليق على وجه الانحلال والرجوع . والتعاليق ثلاثة : معنوي ولفظي ونحوي ، وكل واحد أخص مما قبله ، فالأول يشمل أم الولد لأن حريتها معلقة على موت سيدها ولا لفظ في ذلك التعليق ، واللفظي يشمل النحوي ، وهو الذي لا يكون إلا بأداة الشرط ويشمل نحو : أنت مدبر ودبرتك ونحوه لأنه تعليق بغير أداة الشرط ، واللفظي هو مراد الفقهاء في هذا الباب ، وعليه فإذا أتى بأداة الشرط فقال : إن كلمت فلاناً أو دخلت الدار فأنت حر بعد موتي ، أو فأنت مدبر فدخل الدار أو كلم فلاناً فذلك تدبير لازم سواء نوى التدبير أم لا . لأنه حانث في يمينه وبوقوع المعلق عليه لزمه ذلك ولا ينفذ إلا بعد موته لأنه شرط ذلك في يمينه ، وإن لم يأت بأداة الشرط فتارة يأتي بألفاظ صريحة في التدبير كقوله : دبرتك وأنت مدبر أو حر عن دبر مني فإنه يكون تدبيراً لازماً لا رجوع فيه ، ولو لم ينو لزومه لأن الصيغة الصريحة في بابها لا تنصرف لغيرها إلا ببينة أو قرينة كقوله : ما لم أغير ذلك أو أرجع عنه ، فإن نوى بذلك عدم اللزوم وأن له الرجوع والانحلال ، فظاهر التوضيح أنه ينصرف للوصية وأحرى ، إذا أتى بالقرينة الدالة على عدم اللزوم ، وتارة يأتي بألفاظ صريحة في الوصية كقوله : إن مت من مرضي أو سفري هذا فأنت حر أو مدبر فذلك وصية غير لازمة ، وله الرجوع فيه لأنه لما علقه على الموت من ذلك المرض أو السفر وقد ينشأ عنهما موت وقد لا ينشأ ، وذلك يقتضي أن له الرجوع وإن لم يمت في ذلك المرض أو السفر كان ذلك قرينة صارفة عن التدبير إلا أن ينوي لزوم الحرية والتدبير فلا رجوع له وتنصرف للتدبير حنيئذ ، وكذا إذا قال في صحته : أنت حر بعد موتى أو يوم أموت فهو وصية لأن ذلك من صيغتها الصريحة حتى ينوي بذلك اللزوم ، أو يأتي بقرينة فيقول مثلاً : هو حر بعد موتي لا يغير عن ذلك فينصرف للتدبير .
وقد تحصل أن العتق بعد الموت إذا التزمه بنية اللزوم وعدم الرجوع أو أتى بقرينة فهو التدبير ولو كان بصيغة الوصية الصريحة ، وإن كان التزمه بعد الموت أيضاً بنية الرجوع فيه والانحلال أو أتى بقرينة فهو الوصية ، ولو كان بصريح التدبير فإن لم تكن له نية ولا قرينة فإن كان بصريح التدبير فتدبير وبصريح الوصية فوصية وإنما كان ينصرف صريح التدبير للوصية بالنية والقرينة وبالعكس لتقارب هذين البابين ، وهذا إذا لم يعلقه بالأداة على شيء وحنث فيه وإلاَّ فليزمه بالحنث ، ولو نوى عدم اللزوم مؤاخذة له بظاهر لفظه المخالف لنيته كما مرَّ أول التقرير ، وأما لو قال : هو حر بعد موتي بيوم أو شهر أو أكثر فهو وصية لمخالفته للتدبيربكونه غير معلق على الموت إلا أن يريد التدبير ، وبهذا كله يظهر الفرق بين الوصية والتدبير وإن كان كل منهما لا ينفذ إلا من الثلث . قال سحنون لابن القاسم : أي شيء هذا التدبير في قول مالك ؟ فقال : هو إيجاب أوجبه السيد على نفسه والإيجاب عند مالك لازم ، ثم قال : وما الوصية ؟ فقال : إنها عدة ، والعدة ليست بإيجاب والتدبير إيجاب والإيجاب ليس بعده اه . وقال فيمن قال : أنت حر بعد موتي يسأل ؟ فإن نوى التدبير أو الوصية فإنه يصدق ويلزمه ما نوى اه . ولأجل أن العتق في التدبير لازم لا رجوع فيه استتبع الأولاد وكانوا مدبرين كأمهم بخلاف الوصية بالعتق فإن الأولاد لا يتبعون أمهم كما قاله ابن القصار . وحكى عليه الإجماع وقول ( خ ) : وإن زوجة في زائد ثلثها الخ . إنما كان يلزمها ولو في زائد ثلثها بل ولو في عبد لا تملك غيره . مع أنها محجر عليها في زائد الثلث ، لأن الزوج لا ضرر عليه لأنه وإن كان الآن زائداً على الثلث فلا ينفذ بعد الموت إلا منه فلا ضرر عليه .
تنبيه : اعترض ابن عرفة تعريف ابن الحاجب للتدبير الذي هو كتعريف ( خ ) المتقدم وقال : إنه حد تركيبي وهو وقف معرفة المعرف على معرفة حقيقة أخرى أجنبية عنه ليست أعم ولا أخص وهي هنا وصية ، فإن الوصية تفتقر إلى حدها أيضاً وهي مباينة للتدبير فلا يعرف حينئذ التدبير إلا بمعرفة الوصية ، والحد التركيبي يجتنب في الحدود . ويجاب عن ذلك بأن ابن الحاجب أراد الوصف اللازم للوصية فكأنه قال : التدبير تعليق على وجه اللزوم لا على وجه غير اللزوم .
( و ) ب ( الوصاة ) بفتح الواو أي الوصية كقوله : إن مت من مرضي أو سفري هذا فأنت حر أو مدبر أو حر بعد موتي ولم يرد به التدبير أو حر بعد موتي بيومٍ أو شهر ولم ينو به التدبير كما مرَّ . ( وبالكتابة ) وهي كما لابن عرفة عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه فيخرج ما على مال معجل ، ولذا قال فيها : لا تجوز كتابة أم الولد ويجوز عتقها على مال معجل ، ويخرج عتق العبد على مال مؤجل على أجنبي الخ . فقوله : على مال أخرج به العتق على غير مال سواء كان بتلا أو لأجل ، وقوله : مؤجل أخرج به القطاعة ، وقوله : موقوف على أدائه أخرج به العتق المعجل على أداء مال إلى أجل ، فإنه ليس بكتابة عرفاً ، ولكن العتق لازم للسيد معجلاً ولزم المال للعبد معجلاً إن كان موسراً ويتبع به ديناً في ذمته إن كان معسراً . قال ابن مرزوق : والصواب أن يقول عقد يوجب عتقاً الخ لأنها سبب في العتق لا نفسه . ( وبالبتات ) وهو العتق الناجز على غير مال كما مر .
وصيغته : إما صريحة وهي التي لا تنصرف عن العتق بالنية كقوله : أعتقتك أو حررتك أو أنت حر أو فككت رقبتك أو أنت مفكوك الرقبة ، فإنه لا يصدق أنه أراد بهذه الصيغ ونحوها غير العتق فإن كانت هناك قرينة لفظية كقوله : أنت حر اليوم من هذا العمل وقال : لم أرد عتقه صدق بيمينه ثم لا يستعمله في ذلك اليوم كما قال في المدونة ، وكذا لو قال : أنت حر اليومفقط وقال : لم أرد عتقاً وإنما أردت من عمل خاص فإنه يصدق بيمينه أو قرينة معنوية كما لو رآه صنع شيئاً فأعجبه فقال : ما أنت إلا حر ، أو قال له لما عصاه : تعال يا حر ، وقال : لم أرد بذلك عتقاً وإنما أردت في الأول أنه حر الفعل ، وفي الثاني أنه في معصيتي شبيه بالحر فإنه يصدق بيمينه في الفتوى والقضاء . وإما كناية وهي قسمان : ظاهرة كقوله : لا سبيل لي عليك أو لا ملك لي عليك ونحوها ، فإن ذلك ظاهر في العتق ولكن ينصرف عنه بالنية ونحوها ، فإذا قال السيد ذلك لعبده جواباً لكلام وقع من العبد لا يليق بالسيد ، وقال : لم أرد بذلك عتقاً صدق بيمينه فإن قال ذلك في غير جواب أصلاً أو جواباً لكلام يليق بالسيد ولم يعلم هل كان جواباً لكلام أم لا عتق عليه ، وإما كناية خفية كقوله له : اسقني ماء أو اذهب أو اغرب فإنه لا يلزمني شيء إلا إذا قال : نويت به العتق والعزب البعد فتبين أن القرينة يعمل بها في الصريح والكناية الظاهرة ، وأما في الخفية فإنه لا يلزمه شيء إلا بالنية .
وليْسَ في التّدْبير والتبْتِيل
إلى الرُّجُوع بَعْدُ مِنْ سبِيلِ
( وليس في التدبير و ) لا في ( التبتيل إلى الرجوع بعد ) أي بعد عقدهما بالصيغ المتقدمة فيهما ( من سبيل ) هو اسم ليس . ومن زائدة ، والتقدير : ليس هناك سبيل إلى الرجوع في التدبير والتبتيل بعد عقدهما كما له الرجوع في الوصية بعد عقدها ، بل هما نافذان لازمان لا يقبل من السيد رجوع فيهما . نعم يبطلان معاً بدين محيط سابق عليهما لأنهما من التبرع وهو باطل بالدين المحيط ( خ ) : للغريم منع من أحاط الدين بماله من تبرعه الخ . اللاحق فإنه لا يبطل التبتيل ويبطل التدبير إن مات السيد لا إن كان حياً كما قال الأجهوري :
ويبطل التدبير دين سبقا
إن سيد حي وإلا مطلقا
أي : وإلا يكن حياً أبطله مطلقاً سابقاً أو لاحقاً .
وَالعِتْقُ بالمالِ هو المُكاتَبَهْ
وما لَهُ بالجَبْرِ مِنْ مُطَالَبَهْ
( والعتق بالمال ) المؤجل ( هو المكاتبة ) فإن وقع العتق بالمال على السكت ولم يشترطا تنجيمه ولا تأجيله وجب تنجيمه على قد ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته ، وإن كره سيده لأن عرف الناس في الكتابة أنها منجمة فيحملان عليه عند السكت . قال في المدونة : فإن شرطا تعجيله فهي قطاعة كما مر في حد ابن عرفة . ( وما له بالجبر من مطالبة ) أي ليس للسيد أن يجبر عبدهعلى الكتابة ولا للعبد أن يجبر سيده عليها ، وإنما تصح برضاهما معاً على المشهور ، لكن إذا طلبها العبد من سيده ندب للسيد أن يجيبه إليها ، وإذا طلبها السيد جاز للعبد القبول وعدمه ( خ ) ندب مكاتبة أهل التبرع وحط جزء آخر ، ولم يجبر العبد عليها ، والمأخوذ منها الجبر الخ . فما نافية وضمير له لواحد منهما لتقدم ذكرهما باللزوم ، إذ العتق يستلزم معتقاً بالكسر ومعتقاً بالفتح ، و ( من ) زائدة لا تتعلق بشيء ، ومطالبة مبتدأ خبره له وبالجبر يتعلق بمطالبة أي ليس لواحد من السيد والعبد مطالبة الآخر بالجبر على الكتابة .
ولما كان الموجب للعتق أسباباً أربعة : أولها : العتق ، باللفظ وتقدم ، وثانيها : العتق بالقرابة ولم يتكلم الناظم عليه ، وأشار ( خ ) بقوله : وعتق بنفس الملك الأبوان وإن علوا والولد وإن سفل كبنت وأخ وأخت مطلقاً الخ . وثالثها : العتق بالمثلة وسيأتي في قوله : وعتق من سيده يمثل . الخ . ورابعها : العتق بالسراية وله وجهان أحدهما : أن يكون يملك جميع العبد ولو بشائبة كأم ولده فيعتق جزأ منه كثلثه أو ربعه أو يده أو رجله أو شعره أو ريقه وجماله فإنه يكمل عليه ويعتق جميعه كما قال :
وَمُعْتِقٌ بِالجُزْءِ مِنْ عَبْدٍ لَهْ
مُطَالَبٌ بالحُكْمِ أن يكْمِلَهْ
( ومعتق للجزء من عبد له ) ولو ذا شائبة كمدبره ( مطالب بالحكم أن يكمله ) لأنه كمن قال لزوجته : يدك طالق أو شعرك طالق فإنه يلزمه الطلاق في جميعها ، وظاهره كان المعتق موسراً أو معسراً وهو كذلك ، وظاهره كان المعتق مسلماً أو ذمياً وليس كذلك ، فإن الذمي إذا أعتق بعض عبده الذمي فإنه لا يكمل عليه . وكذا الزوجة والمريض في زائد الثلث وفهم من قوله بالحكم إنه لا يكمل عليه بنفس عتق الجزء بل لا بد من حكم الحاكم بالتكميل وهو كذلك على المشهور ، وعليه فأحكام الرق قبل الحكم جارية عليه فلا يحد قاذفه ولا يقتص من قاتله الحر المسلم ويرثه سيده دون ورثته وهكذا . والوجه الثاني : وهو أن يكون العبد مشتركاً بينه وبين غيره فيعتق منه حظه كله أو جزء من حظه ، فإنه يكمل عليه حظه ويقوم عليه حظ شريكه ويدفع قيمته للشريك ويعتق جميعه كما قال :
وحَظُّ مَنْ شَارَكَهُ يَقُوْمُ
عليه في اليُسْرِ وعِتْقاً يَلْزَمُ
( وحظ من شاركه يقوم عليه في ) حال ( اليسر وعتقا يلزم ) ولتقويمه شروط :
أولها : أن يكون المعتق لجزئه موسراً كما نبه عليه الناظم بقوله : في اليسر أي بأن يكونموسراً يوم الحكم بقيمة حظ شريكه بما يباع على المفلس ، فإن كان موسراً ببعضها عتق منه بقدر ذلك البعض ، فإن لم يكن موسراً بكلها ولا ببعضها لم يقوم عليه شيء ويعلم عسره بأن لا يكون له مال ظاهر ، ويسئل عنه جيرانه ومن يعرفه فإن لم يعلموا له مالاً حلف ولا يسجن ، فإن لم يحكم عليه بالتقويم وهو مليء حتى مات أو فلس لم يعتق منه إلا ما كان أعتقه ولا يقوم عليه حظ شريكه كما رواه أشهب .
ثانيها : أن يدفع القيمة بالفعل فإن قوم عليه ولم يدفعها حتى مات العبد ورثه سيده دون ورثته فدفع القيمة بالفعل شرط في نفوذ العتق وتمامه لا في وجوب الحكم بالتقويم ، فإذا توفرت شروط التقويم وجب الحكم بتقويمه وعتقه ، وإذا حكم فلا ينفذ العتق ويتم إلا بدفعها ، فإن أبى شريكه من قبضها قبضها الحاكم . ابن الحاجب : ولا يعتق إلا بعد التقويم ودفع القيمة على أظهر الروايتين .
ثالثها : أن يعتق الجزء باختياره لا إن أعتق عليه بغير اختياره كما لو ورث جزءاً من أبيه مثلاً فإنه لا يقوم عليه ما لم يرثه ، ولو وهب له جزء من أبيه أو اشتراه قوّم عليه حصة شريكه لأنه متسبب بقبول الهبة والشراء .
رابعها : أن يكون السيد مسلماً أو العبد لا إن كان الاثنين كافرين .
خامسها : أن يبتدأ العتق لا إن كان العبد حراً لبعض وقد أفاد ( خ ) هذه الشروط بقوله : وبالحكم جميعه إن أعتق جزءاً والباقي له كان بقي لغيره إن دفع القيمة حال كونها معتبرة يوم الحكم والمعتق مسلماً أو العبد وأيسر بها أو ببعضها فمقابلها وفضلت عن متروك مفلس وحصل عتقه باختياره لا بإرث ، وابتدأ العتق لا إن كان حر البعض الخ . والشروط راجعة لما بعد الكاف من قوله كان بقي الخ .
ثم أشار إلى العتق بالمثلة فقال :
وَعِتْقُ مَنْ سَيِّدُهُ يُمثِّلُ
بهِ إذَا ما شَانَهُ يُبَتَّلُ
( وعتق من ) أي العبد الذي ( سيده يمثل به ) عمداً ( إذا ما ) زائدة ( شانه ) أي عابه ذلك التمثيل المفهوم من قوله يمثل ( يبتل ) أي ينجز عتقه عليه بالحكم لا بنفس التمثيل ( خ ) : وبالحكم إن عمد السيد لشين برقيقه ولو ذا شائبة كأم ولده ومدبر مدبره أو رقيق رقيقه أو رقيق ولده الصغير وهو غير سفيه ولا عبد ولا ذمي ولا مدين ولا زوجة ولا مريض في زائد الثلث ، وإلاَّ فلا يعتق كما إذا لم يتعمدها والمثلة كخصاء وقلع ظفر وقطع بعض أذن أو جسد أو سن أو سحلها أي بردها بالمبرد أو خرم أنف أو حلق شعر أمة رفيعة أو لحية تاجر الخ . والمعتمد أنحلق الشعر ولحية التاجر ليسا بمثلة لأن الشعر يعود كما في الزرقاني ونحوه في الشامل قائلاً : ولا مثلة بحلق لحية عبد وإن تاجراً أو رأس أمة وإن رفيعة عند مالك لا عند المدنيين كابن الماجشون فهو مثلة . واختار اللخمي القول الأول إن عاد الشعر ، والثاني إن لم يعد الخ . وبه يسقط اعتراض الشيخ بناني والوسم بالنار ليس بمثلة إلا أن يكتب بها في جبهته آبق ونحوه .
تنبيه : إذا مثل الزوج بزوجته فلها التطليق كما مرّ في ضرر الزوجين .
وَمَنْ بِمَالٍ عِتْقُهُ مُنَجَّمِ
يَكُونُ عَبْداً مَعْ بَقَاءِ دِرْهَمِ
( ومن ) مبتدأ ( بمال عتقه ) مبتدأ ثان والمجرور قبله خبره ( منجم ) أي مؤجل يدفعه شيئاً فشيئاً فهو بالخفض نعت لمال ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره صلة من وهي واقعة على العبد المكاتب ( يكون عبداً مع بقاء درهم ) عليه من كتابته ، والجملة خبر الموصول ولا مفهوم لقوله : منجم بل كذلك إذا قاطعه على مال حال وعجز عن أداء بعضه ولو درهماً فإنه يرق ، وهذا إن اتفق السيد والعبد على التعجيز ولم يكن للعبد مال ظاهر وإلاَّ فليس له العجز على المشهور ، ولو اتفقا عليه فإن اختلفا فقال السيد : أردت التعجيز وامتنع العبد أو بالعكس فلا بد من نظر الحاكم في ذلك قاله في التوضيح .
والقوْلُ للسَّيِّدِ في مالٍ حَصَلْ
وَالخُلْفُ في قَدْرٍ وَجَنسٍ وَأجَلْ
( والقول للسيد ) بيمين كما في ابن عرفة : إذا اختلف مع عبده ( في ) نفي أداء ( مال حصل ) في ذمة العبد بسبب الكتابة فقال العبد : أديته كله أو بعضه ، وأنكر السيد ذلك فإن نكل حلف المكاتب وعتق ومحل اليمين ما لم يشترط السيد في صلب عقد الكتابة التصديق بلا يمين ، وإلاَّ فيعمل بشرطه كما في الزرقاني عن الجزيري ، وتقدم نحوه في القرض . وكذا القول للسيد أيضاً في نفي الكتابة إذا ادعاها العبد وأنكرها السيد ، لكن بلا يمين لأنها من دعوى العتق ( خ ) : والقول للسيد في نفي الكتابة والأداء . ( والخلف ) أي الخلاف ثابت في اختلافهما ( في قدر ) فقال السيد : بمائة ، وقال العبد : بخمسين ، فإن القول للعبد بيمين على المشهور إن أشبه وحده أو مع السيد ،فإن أشبه السيد وحده فقوله بيمين فإن لم يشبها حلفا ووجبت كتابة المثل كاختلاف المتبايعين بعد الفوت والكتابة هنا فوت ونكولهما كحلفهما ويقضي للحالف على الناكل . ( وجنس ) فقال السيد : كاتبتك بثياب من نعتها كذا . وقال العبد : بل كاتبتني بحيوان من نعته كذا ، والمشهور وهو الذي عليه اللخمي والمازري أنهما يتحالفان وعلى العبد كتابة مثله في العين . ( وأجل ) هو شامل لاختلافهما في وجوده وعدمه أو في قدره أو في حلوله ، أما الأول فالقول قول المكاتب أنها منجمة ما لم يأت من كثرة النجوم بما لا يشبه ، وكذا يصدق المكاتب أيضاً إذا اختلفا في قدره أو حلوله ( ح ) : لا اختلافهما في القدر والأجل والجنس يعني فإن القول لا يكون للسيد في هذه الثلاث ، وإنما القول للعبد في الأولين في كلامه على التفصيل المذكور ، وفي الثالث يتحالفان كما مرَّ فإن أقام كل البينة على ما يدعيه قضى بأعدلهما ، فإن تكافأتا سقطتا وجرى ذلك على ما مرَّ إلا إن شهدت إحداهما أن الكتابة بمائة وشهدت الأخرى أنها بتسعين قضى ببينة السيد لأنها زادت كما في المدونة .
وَحُكْمُهُ كَالحُرِّ في التَّصَرُّفِ
ومَنْعُ رَهْنٍ وَضَمانٍ اقْتُفِي
( وحكمه ) أي المكاتب ( كالحر في التصرف ) فله البيع والشراء وغير ذلك من المعاوضات بلا إذن من سيده لا إن تصرف بغير معاوضة فلا يمضي كالعتق والهبة والصدقة وغير ذلك من التبرعات . ( خ ) : وللمكاتب بلا إذن بيع واشتراء ومشاركة ومقارضة ومكاتبة عبده واستخلاف عاقد لأمته وإسلامها أو فداؤها إن جنت بالنظر وسفر لا يحل فيه نجم وإقرار في رقبته أي في ذمته بدين ونحوه ، وأحرى إقراره بما يوجب حداً عليه ، وله إسقاط شفعته لا عتق وإن قريباً وهبة وصدقة وتزويج وإقرار بجناية خطأ وسفر بعد إلا بإذن من سيده ( ومنع رهن وضمان اقتفي ) في الكتابة . فلا يجوز أن يكاتبه على أن يأخذ رهناً من غير مكاتبه ليستوفي منه الكتابة إن عجز العبد عنها أو مات لأن الرهن كالحمالة ، والحمالة في الكتابة لا تجوز لأن الكتابة منجمة ، والضامن يؤدي ما حل منها وقد يعجز العبد عن أداء باقيها فيأخذ السيد ما كان أخذه من الضامن باطلاً ولهذا إذا أعطاه الضامن على أن يعجل عتقه من الآن أو كانت الكتابة نجماً واحداً . وقال الضامن : هو علي إن عجز صح ذلك وجاز كما في الشامل وغيره ، فإن وقع ونزل وأعطاه ضامناً أو رهناً في حالة عدم الجواز صحت الكتابة وبطل الرهن والحميل كما في ابن ناجي . ( خ ) : صح الضمان في دين لازم أو آيل إلى اللزوم لا كتابة الخ . أي : فإنها ليست بدينلازم ولا آيل إليه . ألا ترى إن مات المكاتب وعليه دين لم يحاصص السيد مع الغرماء ، وإن عجز كانت الديون في ذمته يتبع بها إن عتق يوماً إن لم يبطلها عنه سيد أو سلطان ولا يدخلون مع السيد في رقبته ، وقد قالوا يلحق بالكتابة سبعة أشياء وهي : الصرف والقصاص والحدود والتعازير ومبيع بعينه وعمل أجير يعمل بنفقته وحمولة دابة بعينها ، فوجه المنع في الصرف هو أن يؤدي للتأخير ، ووجهه في القصاص والحدود والتعازير أنه لا يمكن استيفاؤها من الضامن عند هروب المضمون ، ووجهه في المبيع بعينه أنه إن كان المعنى أن الضامن يأتي به عند تعذره بهلاك ونحوه ، فهذا غير ممكن . وإن كان المعنى أنه يضمن قيمته عند تعذره فذلك جائز ، لكنه لم يصدق عليه أنه تحمل بعينه بل يقيمته ووجهه في الأجير يعمل بنفقته أي أكله أنه إن كان المعنى أن الضامن يقوم مقام الأجير في العمل ، والأكل عند تعذره بمرض ونحوه ، فهذا الضامن قد يقل عمله ويكثر ، وكذا أكله قد يقل ويكثر ففيه خطر مع أنه دخل على استيفاء العمل من شخص معين ، وإن كان المعنى أن الضامن يأتي به ولو هلك أو تروغ ، فهذا لا يمكن وهو وجه المنع في حمولة دابة بعينها ، وبالجملة فالضمان شغل ذمة أخرى كما مرَّ ، والمعينات لا تقبلها الذمم ، وكذا الحدود ونحوها لأنها متعلقة بالأبدان وعن هذه الأمور احترز ( خ ) بقوله : إن أمكن استيفاؤه من ضامنه الخ . وبقوله شغل ذمة أخرى الخ .
باب في الرشد والأوصياء والحجر والوصية والإقرار والدين والفلسذكر في هذه الترجمة سبعة أبواب ، ثم ميز بعضها من بعض بالفصول وبدأ ببيان الرشد فقال :
الرُّشْدُ حِفْظُ المَالِ مَعْ حُسْن النَّظَرْ
وَبَعْضُهُمْ له الصَّلاَحُ مُعْتَبَرْ
( الرشد ) الذي يخرج به السفيه من الولاية هو ( حفظ المال مع حسن النظر ) في تنميته والتجر فيه ولا يشترط في ذلك صلاح الدين ، فهو إذا كان فاسقاً متمرداً في المعاصي ، وكان مع ذلك ضابطاً لماله يحسن تنميته والتجر فيه فقد استحق الإطلاق والخروج من الولاية ، وأحرى أن لا يحجر عليه إن لم يكن مولى عليه كما يأتي في قوله : وشارب الخمر إذا ما ثمرا الخ . وما ذكره الناظم من اشتراط حسن النظر مع حفظ المال هو ظاهر المدونة قال فيها : وصفة من يحجر عليه من الأحرار أن يكون يبذر ماله سرفاً في لذاته من الشراب والفسق ويسقط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً ، وأما من أخذ ماله وأنماه وهو فاسق في حاله غير مبذر لماله فلا يحجز عليه ، وإن كانله مال عند وصي قبضه اه . فانظر إلى قولها : وأنماه الخ . هو ظاهر في اشتراط التنمية كما في ( ح ) وعلى اشتراطها درج في الشامل حيث قال : وزال السفه برشد وهو حفظ المال وحسن تنميته وإن من غير جائز الشهادة على المشهور الخ . فيكون قد درج على ظاهر المدونة من اشتراط التنمية ، وعلى ظاهرها أيضاً عول ابن سلمون قائلاً : وبه الحكم ، ونحوه لابن مغيث قائلاً : وعليه العمل ، وقد علمت أن الناظم يتبع ما عليه عمل الحكام ، وإن كان مخالفاً للمشهور ، لأن العمل مقدم عليه فلا يعترض عليه بأن المشهور في الرشد إنما هو حفظ المال فقط ، ولا يشترط معه حسن تنميته ولا صلاح دين كما هو ظاهر ( خ ) حيث قال : إلى حفظ مال ذي الأب الخ . واحترزت بقولي : الذي يخرج به السفيه من الولاية الخ . من الرشد الذي لا يحجر معه على صاحبه فإن اللخمي قد حكى الاتفاق على أن من لا يحسن التجر ويحسن الإمساك لا يحجر عليه الخ . وعليه فالرشد رشدان رشد يخرج به من الولاية ، وهو محل الخلاف المتقدم ورشد لا يستحق التحجير معه إن لم يكن مولى عليه وهو متفق عليه كذا في ( ح ) وضيح ( و ) قال ( بعضهم ) وهم المدنيون من أصحاب مالك ( له ) أي معه ( الصلاح ) في الدين ( معتبر ) زيادة على ما ذكر من حفظ المال وحسن التصرف فيه ، فاللام في له بمعنى ( مع ) وقد حكاه في المغني عن بعضهم ، والضمير لما ذكر كما قررنا ، والجملة معمولة للقول المقدر ، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى ( عند ) والضمير للبعض وعليه فبعضهم مبتدأ ، والصلاح مبتدأ ثان . وله يتعلق بمعتبر ، ولا بد في هذا الوجه من تقدير كلام أي : وبعضهم الصلاح معتبر عنده مع ما ذكر من حفظ المال وحسن النظر فيه ، فالوجه الأول أحسن إذ لا يحتاج معه إلى تقدير ، إذ الضمير في ( له ) عائد على ما ذكر من حفظ المال وحسن النظر فيه ووجه هذا القول إنه إذا لم يكن صالحاً في دينه بل كان فاسقاً شريباً مثلاً أدى إطلاقه من الحجر إلى فناء ماله ، ولكن المعمول به ما تقدم من اعتبار حفظ المال وحسن النظر فيه ولا زال العمل عليه إلى الآن ، وأما حسن الدين فلا وسيأتي قول الناظم :
وشارب الخمر إذا ما ثمرا
لما يلي من ماله لن يحجرا
والتثمير التنمية .
وَالابْنُ ما دامَ صغيراً للأَبِ
إلى بُلُوغٍ حَجْرُهُ فيما اجْتُبي( والابن ما دام صغيراً ) ذكراً كان أو أنثى ( للأب إلى البلوغ حجره ) مبتدأ ثان وخبره للأب و ( فيما اجتبى ) يتعلق بالاستقرار في الخبر أي : فيما اجتبى عند جميع أهل العلم ، ولا مفهوم للأب بل والوصي والمهمل كذلك ، وظاهره أنه لا يخرج من الحجر ولو ظهر رشده وحسن تصرفه وهو كذلك اتفاقاً كما في ضيح وعليه فإذا تصرف بغير معاوضة من هبة وعتق فإن ذلك لا يمضي ولو بإذن وليه كما في المقدمات وإن تصرف بمعاوضة من بيع وشراء ونحوهما ، فذلك موقوف على نظر وليه إن رآه مصلحة أمضاه وإلاَّ ، رده فإن لم يكن له ولي وغفل عن ذلك حتى احتلم ورشد كان النظر إليه في إنفاذ ذلك أو رده ، ولو وافق فعله السداد والمصلحة على المشهور ( خ ) : وللولي رد تصرف مميز وله إن رشد ولو حلف بحرية عبده في صغره وحنث بعد بلوغه أو وقع الموقع الخ .
تنبيهات . الأول : قال البرزلي في أوائل النكاح : إذا كان المحجور يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي برضا حاجره وسكوته ، فيحمل على أنه هو الذي فعله بذلك أفتى شيخنا الإمام ووقع الحكم به قال : ولا يبعد أن يجري على حكم ما إذا أعطي مالاً لاختبار حاله وفيه قولان في المدونة اه . وسيأتي ذلك عند قول الناظم : وجاز للوصي فيمن حجرا الخ . وما تقدم عن البرزلي نقله ( ح ) صدر البيوع عند قوله : ولزومه تكليف الخ . قائلاً : وبه أفتيت ، ومقابله للأبهري أن سكوته ليس برضا يعني : ولا بإذن ، وحينئذ فلا يلزمه ذلك ، وعلى الأول فإن كان صواباً ومصلحة لزم ، وإن كان غير مصلحة نقض ما دام البيع قائماً بيد المشتري ، فإن فات بيده ببيع أو غيره لم ينقض ورجع على المشتري بكمال القيمة على ما أفتى به ابن رشد فإن تعذر الرجوع على المشتري بكل وجه وكان الوصي عالماً بأنه غير مصلحة فالظاهر أنه يضمن اه .
الثاني : ليس معنى قولهم : إذا كان المحجور يبيع ويشتري بحضرة وليه وسكوته الخ أنه يكون مطلق اليد ويخرج بذلك من الحجر حتى يمضي ما فعله بغير حضرة وليه كما توهمه عبارة المواق وتمسك بها بعضهم اليوم فأفتى بذلك ، وإنما مرادهم أن ما فعله بحضرته وسكوته من بيع ونحوه يحمل على أنه أجاز خصوص ذلك البيع ، ونحوه الواقع بحضرته لأن سكوته عنه إذن فيه حكماً ، وأما ما عداه مما لم يكن بحضرته فلا يمضي إلا بإمضائه وقد قال في المدونة . ليس الإذن للسفيه في البيع مزيلاً للسفه اه . وإذا كان الإذن بالصراحة ليس مزيلاً للسفه فأحرى السكوت الذي هو منزل منزلته ، بل ذكر ( ح ) في الإقرار عند قوله : لا أقر الخ . خلافاً في السكوت هل هو إذن أو ليس بإذن ؟ قال عن ابن رشد : وأظهر القولين إنه ليس بإذن الخ . وعليه فما تقدم عن الأبهري هو الأظهر لولا أن الحكم والفتوى وقعت بخلافه في خصوص النازلة كما مر فيجب اتباعه .
الثالث : إذا باع المحجور شيئاً من عقاره ونحوه بغير إذن وليه فللولي الرد والإمضاء كما مرَّ ، ثم المبتاع إن وجد الثمن بيد المحجور وشهدت بينة لم تفارقه أنه الثمن المدفوع أو كان ممايعرف بعينه أخذه ، وكذا إن شهدت بينة بأنه صرفه في مصالحه مما ليس له منه بد قاله ابن سلمون . ونقله في المواق صدر البيوع ونحوه في المتيطية ، ونظمه في العمل المطلق ، وحكي عن العبدوسي أن العمل عليه .
إنْ ظَهَرَ الرُّشْدُ ولا قوْلَ لأَبْ
وَبالغٌ بِالعَكْسِ حَجْرُهُ وَجَبْ
( إن ظهر الرشد ) : شرط فيما قلبه ، والمعنى أن الصبي إما أن يبلغ ظاهر الرشد متحققه فيرتفع الحجر عنه حينئذ ( ولا قول لأب ) في رد شيء من أفعاله ولو لم يشهد على إطلاقه من الولاية لخروجه منها ببلوغه وظهور رشده ، وإما أن يبلغ ظاهر السفه متحققه وهو معنى قوله : ( وبالغ بالعكس حجره وجب ) فلا يمضي شيء من أفعاله ولو لم يحجر عليه على ما عليه العمل اليوم حتى يثبت رشده ، وإما أن يبلغ مجهول الحال مشكوكاً فيه ، فإن جدد عليه أبوه الحجر بفور البلوغ كان مردود الأفعال أيضاً كما قال :
كَذَاكَ مَنْ أبُوهُ حَجْراً جَدَّدَا
عليه في فَوْرِ البُلُوغِ مُشْهِدَا
( كذك ) يستمر ( من أبوه حجراً جددا عليه ) الحجر ( في فور البلوغ ) حال كونه ( مشهداً ) بذلك بأن يشهد الشهود أنه جدد الحجر عليه بحيث لا يمضي له فعل إلا بعد تبين رشده وإطلاقه من ثقاف الحجر الخ . فيكون قوله : كذاك حجر الخ . هو في مجهول الحال قبل مضي العام والعامين أي في معلوم السفه ، وفائدته في معلوم السفه أنه لا يخرج من الحجر إلا بالإطلاق على القول باعتبار الولاية وهو قول مالك لا على القول باعتبار الحال المعمول به كما يأتي ، ولا يصح أن يكون كلامه هنا فيمن بلغ معلوم الرشد لأن هذا لا يصح تحجيره ولو بفور البلوغ كما في النقل ، وكما قدمه الناظم في قوله : ولا قول لأب الخ . وهو صريح قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } ( النساء : 6 ) إذ لا يجوز إمساك ماله حينئذ عنه ، ومن أمسكه فهو ضامن كما يأتي للناظم آخر الباب خلافاً لما في الشيخ بناني عن ابن عاشر من أنه يجوز التجديد مع كونه حافظاً لماله الخ . وظاهر قوله : بفور البلوغ أن تجديده عليه قبله لا يصح لأنه من تحصيل الحاصل كما لا يصح تجديد الحجر على البنت البكر قبل البناء قاله ابن رشد ، ونحوه في المعيار عن العبدوسي قائلاً : وبه القضاء والعمل . ثم لا بد أن يضمنوا بلوغه في رسم التجديد وإلاَّ بطل لاحتمال أن يكون جدد قبل البلوغ فلم يصادف محلاً كما أنه لا بد أن يضمنوا في البنت وقت الدخول وإلاَّ بطل للعلة المذكورة قاله في دعاوى المعيار . ثم ما ذكره الناظم من جواز التجديد المذكور . قال المتيطي عليه انعقدت الأحكام ، وقال ابن مغيث : به مضى العمل من شيوخنا قال : ولا يجوز حينئذ من أفعاله شيء . قال : وكذا لا يلزمه ما أقر به بعد التحجير بمدة ، وأما ما أقر به بالقرب من تحجيره فيلزمه ونظمه في العمل المطلق قال : وماذكره من التفصيل في إقراره مبني على قول مالك أن فعل السفيه قبل الحجر محمول على الإجازة وهو قول مالك ، فيلزمه ما أقر به بالقرب من تحجيره لئلا يضيع مال من عامله بخلافه بعد الطول من حجره لبعد وقت التعامل اه . ومفهوم قوله : بفور البلوغ أنه إذا تأخر تجديد الحجر عن البلوغ بكثير ، والمراد بذلك ما زاد على العام والعامين كما في التوضيح وغيره لم يجز تجديده ولم يلزم ، وعليه يحمل ما في وصايا المعيار عن سيدي موسى العبدوسي من أن شهود التجديد إن لم يضمنوا علمهم بسفه الولد فلا أثر للتجديد ولا عمل عليه اه . وقال في المقصد المحمود : ولا يجدد الأب الحجر على ابنه الذكر إلا في فور بلوغه فإن تراخى قليلاً لم يجز إلا بالشهادة باتصال سفهه ، وإن لم تقم بينة به خرج من ولايته ولا يدخل تحتها إلا أن يثبت عند القاضي سفهه ويعذر إليه ، فإن لم يكن له مدفع ولى عليه أباه أو غيره اه . ونحوه في الاستغناء . وقال في المتيطية : إن جدد تسفيه ابنه البالغ عند حداثة بلوغه جاز ذلك . قال ابن العطار إلى عام ، وقال الباجي : هو على السفه إلى عامين حتى يثبت رشده ، وإن تباعد فهو على الرشد حتى يثبت سفهه عند القاضي ويعذر إليه ، يقدم عليه ناظراً أباه أو غيره اه .
وَبالغٌ وَحَالُهُ قدْ جُهِلاَ
عَلَى الرَّشَادِ حَمْلُهُ وَقِيلَ لا
( وبالغ وحاله قد جهلا على الرشاد حمله ) حتى يثبت سفهه ، وهي رواية ابن زياد عن مالك ، وهو ظاهر ما في نكاح المدونة إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء إلا أن يتأول أنه أراد نفسه لا بماله كما تأوله ابن أبي زيد ( وقيل لا ) يحمل على الرشد بل على السفه وهو المشهور كما في ( ح ) عن ابن رشد والتوضيح ، وهو الذي عول عليه ( خ ) حيث قال : إلى حفظ مال ذي الأب الخ . أي إلى وجوده ، وفي الجهل لم يوجد له حفظ ، ولذلك كان للأب أن يحجر عليه بفور بلوغه كما مرّ . وفي الشامل : وللأب تسفيه ولده بعد بلوغه ما لم يعلم رشده الخ . لكن هذا القول المشهور ظاهر في أنه محمول على السفه حيث يثبت رشده ولو طال ، وتقدم أنه إذا طال حتى زاد على العامين فإنه يحمل على الرشد وليس للأب تسفيهه حينئذ إلا بالرفع وإثبات سفهه كما مرَّ وهو قول ثالث . وكان الناظم لما قدم القول بالتجديد إثر البلوغ حسن منه أن يشير إلى القولين الباقيين في المسألة وإلاَّ فهذا البيت لا حاجة إليه ، وربما يكون ذكره مشوشاً ومعارضاً لما قدمه والله أعلم .
وَإنْ يَمُتْ أبٌ وقَدْ وَصَّى عَلَى
مُستَوْجِبٍ حَجْراً مَضَى مَا فَعَلا( وإن يمت أب و ) الحال أنه ( قد وصى على مستوجب ) بكسر الجيم اسم فاعل ( حجراً ) مفعوله من صغير أو سفيه يثبت سفهه ببينة وقت الإيصاء أو مجهول حال لم يمض عليه العام والعامين من بلوغه ، لأن الإيصاء عليه حينئذ كتجديد الحجر عليه ( مضى ما فعلا ) من تحجيره ، والإيصاء عليه ولا يخرج حينئذ من الولاية إلا بإطلاق من وصي أو سلطان وأفعاله كلها مردودة قبل الإطلاق ، وإن علم رشده أو مات وصيه ولم يقدم عليه وهو معنى قوله ( خ ) : إلى فك وصي أو مقدم الخ . ولكن الذي به العمل الآن هو مذهب ابن القاسم أنه إذا علم رشده وثبت فلا ترد أفعاله ، وإن كان وصيه أو أبوه موجوداً فضلاً عن موتهما وإن ثبت سفهه فأفعاله مردودة وإن لم يكن مولى عليه قال ناظم العمل :
وينتفي الحجر إذا بدا الرشاد
فمن تصرف مضى ولا فساد
وهذا العمل مطرد في الذكر والأنثى وذي الأب والوصي والمهمل .
تنبيه : ظاهر قول الناظم مضى ما فعلا الخ . أن الأب إذا شرط في إيصائه أن ولده يكون مطلق التصرف بعد بلوغه أنه يعمل بشرطه وهو كذلك على ما صدر به في المتيطية : والمعين ما لم يثبت سفهه فتستمر عليه الولاية وترد أفعاله ، وقال ابن عرفة : إن شرط الأب في إيصائه بابنه إطلاقه بعد بلوغه عشرين سنة فمات وصيه وبلع اليتيم المدة وتصرف وهو مجهول الحال ففي وقف تصرفه على ثبوت رشده وإطلاقه بشرطه قولان .
قلت : وبالأول عمل القضاة من ذوي العلم ببلدنا اه . باختصار . ونقله ابن غازي في التكميل .
وَيَكْتَفِي الوَصِيُّ بالإِشْهَادِ
إذَا رَأَى مَخَايلَ الرَّشَادِ
( ويكتفي الوصي ) من قبل الأب ووصيه ( بالإشهاد ) على نفسه أنه أطلق محجوره من ثقاف الحجر ، وإن لم تشهد بينة برشده وحسن تصرفه ( إذا رأى مخايل ) دلائل ( الرشاد ) وهو مصدق فيما يذكره من رشده وحسن تصرفه ، وإن لم يعرف إلا من قوله وسواء كان محجوره ذكراً أو أنثى ، قال في الشامل : وزوال الحجر ببلوغ ورشد بينهما اختبار ثم قال : واختباره يكون بدخول الأسواق ومخالطة الناس في البيع والشراء فينكر على المغبون ويغبط الرابح وهل يختبر بدفع شيءيسير من ماله قولان . وسيأتي أن الراجح من القولين جواز اختباره بالشيء اليسير في قول الناظم : وجاز للوصي فيمن حجرا الخ . وإنما كان لا يجوز الترشيد إلا بعد الاختبار لقوله تعالى : وابتلوا اليتامى } إلى قوله : فإن آنستم منهم رشداً } الآية ( النساء : 6 ) ابن دبوس : اختلف في إطلاق الوصي محجوره فقال مالك : إطلاقه جائز والوصي مصدق فيما يذكر من حاله ، وقيل لا يجوز إطلاقه إلا أن يعلم رشده ببينة وهي رواية أصبغ ، وعلى الأول العمل اه . باختصار . ومفهوم مخايل الرشاد أنه إذا لم يرها لم يجز له أن يطلقه إلا أن يثبت رشده بالبينة ويحكم القاضي عليه به ، وكذا مقدم القاضي الذي هو مفهوم الوصي ليس له أن يطلقه بما يعرفه من حاله بل لا بد من إذن القاضي وشهادة البينة برشده كما قال :
وفي ارْتِفَاعِ الحَجْرِ مُطْلقاً يَجِبْ
إثْبَاتُ مُوجِبٍ لترشِيدٍ طُلِب
( وفي ارتفاع الحجر مطلقاً ) كان من مقدم القاضي أو الوصي حيث لم ير مخايل الرشاد وإلاَّ فهو ما قبله ( يجب إثبات موجب لترشيد طلب ) أي : طلبه المحجور فلا يجاب إليه بعد إثبات موجبة من البينة برشده وحسن حاله ، وأنه ممن لا يخدع في بيع ولا ابتياع ويعذر القاضي للوصي والمقدم في تلك البينة فإذا لم يجد مطعناً حكم بإطلاق حينئذ وما ذكره الناظم في مقدم القاضي من أنه لا يرشده إلا بالبينة ، ولو عمل رشده هو الذي به العمل كما في الشامل ونظمه في العمل المطلق وهو اختيار اللخمي قائلاً : لفساد حال الناس اليوم إذ كثيراً ما يقدم غير المأمون فيتهم أن يقول رشيد فيمن ليس برشيد ليسامحه المولى عليه ويشهد له بالبراءة فلا يؤتمن أحد اليوم إلا أن يثبت رشده اه . ونحو ذلك لابن عطية في قوله تعالى : وابتلوا اليتامى } ( النساء : 6 ) قائلاً : الصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن الرفع للسلطان وثبوت الرشد عنده لما حفظ من تواطىء الأوصياء على ترشيد محاجيرهم ويبرئهم المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت اه . ونقل ذلك ابن رحال في شرحه ، وعليه فالعمل الذي في مقدم القاضي يجري في الوصي لاتحاد العلة بفساد الزمان لأن ذلك إذا كان في زمان ابن عطية فكيف به في زماننا الذي هو بعده بقرون كثيرة ؟ ولذا قال الشيخ الرهوني : العمل بذلك متعين في زماننا .
تنبيه : علم من هذا أن مقدم القاضي إذا دفع المال للمحجور بما يعرفه من حال رشده دون بينة ودون حكم القاضي عليه به فهو ضامن له كما أن الوصي إذا دفعه له قبل مخايل الرشاد ضمن أيضاً وكذا بعد مخايله على ما تقدم عن ابن عطية .
وَيَسْقُطُ الإعْذَارُ في الترشِيدِ
حَيْثُ وَصِيُّه مِنَ الشُّهُودِ( ويسقط الإعذار في الترشيد حيث وصيه من الشهود ) إذ لا منازع له غيره . مفهومه أنه إذا لم يشهد بترشيده فلا بد من الإعذار إليه إن طلبه فإن أبدى مطعناً فذاك وإلاَّ لزمه ترشيده ، ومفهوم وصيه أنه لا يسقط الإعذار حيث كان المقدم من الشهود ، وهذا كله على ما تقدم من أن للوصي الترشد بما يعرف من حال محجوره بخلاف مقدم القاضي ، وأما على ما مر عن ابن عطية من مساواة الوصي للمقدم فلا يسقط الإعذار ويكلفهما القاضي بأن يبحثا عن أحوال الشهود ، فإن اتهمهما في التقصير عن البحث للعلة السابقة فيبحث هو بنفسه أو يأمر من يبحث له . ولما فرغ من الكلام على ذي الأب والوصي أشار إلى المهمل وذكر فيه أربعة أقوال فقال :
وَالبَالِغُ المَوْصُوف بالإهْمَالِ
مُعْتَبَرٌ بِوَصْفِهِ في الحَالِ
( والبالغ الموصوف بالإهمال ) أي ليس له أب ولا وصي ولا مقدم من قاض بل وكذلك إذا كان له أحد هؤلاء فلا مفهوم للإهمال على قول ابن القاسم هذا ( معتبر ) حكمه ( بوصفه في الحال ) أي : في حال تصرفه ببيع أو شراء وغيرهما ثم فسر ذلك بقوله :
فَظَاهِرُ الرُّشْدِ يَجُوزُ فِعْلُهُ
وفِعْلُ ذِي السَّفَهِ رُدَّ كُلُّهُ
( فظاهر الرشد ) حال تصرفه وشهدت به بينة معتبرة ( يجوز فعله ) وتصرفه ولو بهبة ونحوها ويمضي ذلك عليه ولا مقال لأبيه ولا لغيره في فسخه ما لم يكن في بيعه وابتياعه غبن فيجري على حكمه المتقدم في فصله . ( وفعل ذي السفه ) الظاهر الذي شهدت بينة أيضاً ( رد ) فعله ( كله ) كان فيه غبن أم لا كان له ولي أم لا لأنه محجور شرعاً وفي نفس الأمر فلا يمضي شيء من أفعاله ولو وافقت السداد .
وذَاك مُرْوِيٌّ عن ابن القَاسِمِ
مِنْ غير تَفْصِيلٍ له مُلاَئِمِ
( وذاك ) أي هذا القول ( مروي عن ابن القاسم ) مطلقاً ( من غير تفصيل ) بين أن يتصل سفهه أو لا بخلافه في القول الثالث فإنه يفصل فيه التفصيل المذكور ( له ) متعلق بقوله ( ملائم ) نعت لتفصيل ، وبهذا القول القضاء وعليه العمل إلى الآن ، ولذا صدر به الناظم خلافاً لما في ( خ ) من تصديره بقول مالك المشار له بقوله :
ومَالِكٌ يُجِيزُ كلَّ مَا صَدَرْ
بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْه من غَيْرِ نَظَرْ
( ومالك يجيز كل ما صدر بعد البلوغ عنه ) يتعلق بصدر ( من غير نظر ) إلى كونه رشيداً أوسفيهاً معلناً بالسفه أم لا اتصل سفهه بالبلوغ أم لا وظاهره ولو تصرف بغير عوض كعتق وهبة وصدقة وهو كذلك لأن العلة عنده في رد فعله وجود الولاية وهي لم توجد وبهذا صدر ( خ ) حيث قال : وتصرفه قبل الحجر محمول على الإجازة عند مالك لا ابن القاسم الخ .
وَعَن مُطَرَّفٍ أتى مَنِ اتَّصَلْ
سَفَهُهُ فَلاَ يَجُوزُ مَا فَعَلْ
( و ) القول الثالث ( عن مطرف ) وابن الماجشون ( أتى ) أن ( من ) شهدت فيه بينة بأنه ( اتصل سفهه ) من حين بلوغه إلى وقت تصرفه ببيع ونحوه ( فلا يجوز ما فعل ) ويرد بيعه وغيره .
وإنْ يَكُنْ سُفِّه بَعْدَ الرُّشْدِ
ففِعْلُهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ رَدِّ
( وإن يكن ) طرأ ( سفه بعد ) أن شهدت بينة ب ( الرشد ) وحفظ المال ( ففعله ) الذي فعله من حال طرو السفه ( ليس له من رد ) بل هو لازم له وهذا .
ما لم يَبِعْ مِنْ خَادعٍ فَيُمْنَعُ
وَبالّذِي أَفَاتَهُ لا يُتْبَعُ
( ما لم يبع من خادع ) أي ما لم يكن بيعه بيع غبن وخديعة ببينة كأن يبيع ما يساوي ألفاً بمائة أو يشتري كذلك ( فيمنع ) بيعه وابتياعه ويفسخان ويقضي عليه برد الثمن في الابتياع والثمن في البيع إن بقيا بيده ( و ) أما إن فات ( بالذي أفاته ) من ذلك ( لا يتبع ) حيث لم يصون به ماله وإلا ضمن الأقل منه ومما صونه كما مر عند قوله في الوديعة : ولا ضمان فيه للسفيه الخ إذ غايته أن المشتري هنا سلطه على الثمن والبائع سلطه على المثمن ، فهو أمين فيهما ولا ضمان عليه فيهما حيث لم يصن بهما ماله على قول مطرف ، وكذا على قول ابن القاسم حيث كان ظاهر السفه بخلافه على قول مالك ، ثم قول مطرف لم يفرق فيه بين معلن السفه وغيره بل بالاتصال وعدمه ، وفرق بينهما أصبغ وهو رابع الأقوال ، وإليه أشار بقوله :
وَمُعْلِنُ السَّفَهِ رَدَّ ابْنُ الْفَرَجْ
أفعالَهُ وَالْعَكْسُ في العَكْسِ انْدَرَجْ
( ومعلن ) أي ظاهر ( السفه ) لكل أحدلا يصيب السداد في شيء من أفعاله ( رد ) أصبغ ( ابن الفرج ) جميع ( أفعاله والعكس ) أي صاحب العكس وهو غير معلن السفه ولا ظاهره لكل أحد بل يصيب السداد في البعض دون البعض ( في العكس اندرج ) فتمضي أفعاله ولا يرد شيء منها وبقولي : لكل أحد الخ . تظهر المغايرة من قولي أصبغ ومطرف إذ مطرف لا يشترط ظهوره لكل أحد بل يكتفي ثبوته بالبينة وإن لم يظهر بغيرها ويعتبر الاتصال وعدمه ، وأصبغ يشترط ذلك ولا يعتبر الاتصال وعدمه والله أعلم . ثم أشار إلى البالغ المهمل المجهول الحال الذي لم تشهد بينة بظهور رشده ولا بضده فقال :
وَفِعْلُ مَنْ يُجْهِلُ بالإِطْلاَقِ
حَالَتهُ يَجوزُ باتِّفَاقِ
( وفعل من يجهل ) مبتدأ ( بالإطلاق ) يتعلق بقوله يجوز ( حالته ) نائب فاعل يجهل ( يجوز ) خبر المبتدأ ( باتفاق ) حال أي : وفعل من يجهل حاله يجوز بالإطلاق كان بعوض أو لا حال كون الجواز باتفاق الأقوال المتقدمة ، ويجوز أن يكون باتفاق يتعلق بيجوز وبالإطلاق حال . وقولي : المهمل احترازاً من المجهول ذي الأب أو الوصي أو المقدم فإنه لا يمضي شيء من أفعاله إلى ظهور رشده ، نعم ذو الأب إذ بلغ مجهول الحال ولم يجدد عليه الحجر حتى مضى العام ونحوه فهو على الرشد كما مر . وحاصل ما تقدم من أول الباب أن غير البالغ من الذكور أفعاله كلها مردودة ، ولو ظهر له شبه رشد فلا عبرة بذلك إلا أن يكون تصرفه برضا وليه وسكوته كما مر ، والبالغ منهم إن ثبتت له حالة رشد فأفعاله ماضية والعكس بالعكس ولا عبرة بحجر ولا فك كان له أب أو وصي أو مقدم أو لم يكن له شيء من ذلك على قول ابن القاسم المعمول به من مراعاة الحال مطلقاً كما مر ، وإن كان قد بلغ مجهول الحال ولم يثبت سفهه ولا رشده فإن كان ذا أب وجدد عليه الحجر بالفور كما مر مضى على حجره حتى يثبت رشده فيخرج ، ولو لم يطلقه أبوه ، وإن كان ذا وصي أو مقدم فهو على حجره حتى يثبت رشده فيخرج أيضاً ولا يحتاج إلى فكهما على المعمول به خلافاً لما في حاشية ابن رحال من اشتراط الفك وإن لم يكن له حاجر أصلاً فأفعاله جائزة . هذا هو المعمول به في الذكور ، وأما الإناث فسيأتي الكلام عليهن في النظم إن شاء الله .
تنبيهان . الأول : تقدم في اختلاف المتبايعين أن المحجور إذا باع فيما لا غنى له عنه ووافق السداد أو باع ما ليس بمصلحة بحضرة وليه أو تصرف بغير محاباة بمحضر وليه وسكوته ، فإن ذلك ماض انظره هناك ، وانظر أيضاً ما تقدم أول هذا الباب وتقدم أيضاً عند قوله في الوديعة : ولا ضمان فيه للسفيه الخ . أن المحجور إذا أودع وديعة عند رشيد فإن الرشيد يضمنها ، وأن المحجور إذا أمن محجوراً أو عامله فأتلف الثمن فإن الضمان على المتلف بكسر اللام ، وإذا طلب المشتري من المحجور أو البائع منه تحليف الولي أنه ما أذن لمحجوره في البيع والشراء حيث لم يكن ذلك بمحضر وليه فلا يمين عليه كما يأتي عند قوله :
وجاز للوصي فيمن حجرا
أعطاه بعض ماله مختبراالثاني : قال في الكراس الثاني من معاوضات المعيار : أن الذي به العمل أن المحجور إذا مات وليه فالحجر منسحب عليه حتى يطلق اه . يعني بترشيد حاجره أو ثبوت رشده على ما به العمل من اعتبار الحال كما مر ، وسيأتي قول الناظم :
وليس للمحجور من تخلص
إلا بترشيد إذا مات الوصي
والله أعلم .
وَيَجْعلُ القَاضي بكلِّ حَالِ
عَلَى السَّفِيهِ حاجِراً في المَالِ
( ويجعل القاضي بكل حال على السفيه ) الثابت سفهه ( حاجراً في المال ) يحفظه له ويمنعه من التصرف فيه لئلا يضيعه والسفه خفة العقل ومنه ثوب سفيه أي خفيف قاله السوداني ، والمراد به هنا ما يشمل الصبي ، وانظر إذا أخبر القاضي بسفهه ولم يجعل عليه حاجراً حتى أتلف ماله ، والظاهر أنه يجري على قول ( خ ) كتخليص مستهلك من نفس أو مال فيضمن ، وكذا يضمن الشهود إذا علموا ولم يخبروا القاضي بذلك أيضاً . وانظر أيضاً في الرجل أو المرأة يضع يده على مال الأيتام من غير إيصاء ولا تقديم وأمكنه الرفع إلى الحاكم فلم يفعل أنه مصدق فيما يدعي تلفه ويده في ذلك يد أمانة كالملتقط وحافظ المال الذي لا حافظ له قاله في وصايا المعيار ، ثم إذا جعل عليه حاجراً فإنه ينفق على المحجور منه بالمعروف ولا يجب عليه أن يتجر بالمال ، وإنما يستحب ذلك فقط كالوصي ، وإذا تلف في حال التجارة أو قبلها أو بعدها فلا ضمان لأنه كالمودع ما لم يفرط ويشترى له به الرقيق للغلة والحيوان من الماشية كما في ( ح ) وأحرى إذا كان الحيوان من متروك أبيه فإنه يتركه له للغلة إن كان مصلحة وما يقوله العامة من الطلبة من أن المحجور لا يترك له الحيوان لسرعة تغيره خطأ لما علمت من أن ذلك بحسب المصلحة ، والمصلحة في البوادي هو ترك ذلك لهم وشراؤه لهم ، وفي الحواضر عدم الشراء والترك لعدم من يصونه في الغالب ، فإن وجد من يصونه ترك لهم ، وانظر ابن سلمون . ولا يجوز أن تدخل أموال اليتامى في ذمة الأوصياء بأن يكون لهم ربحها وعليهم ضمانها لأنه سلف بمنفعة نقله ( ح ) لكن ذكر الشيخ محمد العربي بردلة : أن العمل على خلافه وأنه جرى العمل بجعل المال في ذمة الوصي والمقدم قائلاً : ولم ندرك الأمر إلا على ذلك ، وفعلوا ذلك لكونه من المصالح العامة فلما قلت الأمانة وصار الأوصياء يأكلون أموال اليتامى ويزعمون تلفها جعل العلماء ذلك في ذمتهم احتياطاً للمحجور كما جعلوا أجرة الدلال جعلاً إن باع قبضا وإلاّ فلا لقلة الأمانة في السماسرة اه .
قلت : ولا زال العمل على ما قاله إلى الآن فيقول الموثق في وثيقة زمام التركة بعد إخراج صوائرها ما نصه : وما بقي من المتروك بعد الصوائر المذكورة وقدره كذا هو للمحجور في ذمة الوصي أو المقدم لا يبرأ منه إلا بموجب الخ . وإلاَّ فكان الواجب على ما مر عن ( ح ) أن يقول :وما بقي فهو أمانة تحت يد الوصي وحفظه إلى رشد محجوره ودفعه له بموجب ، فإذا ادعى التلف صدق على هذا لا على ما به العمل .
ولما فرغ من الكلام على ما يخرج به الذكر من الحجر شرع في الكلام على ما تخرج به الأنثى وأنها أربعة أقسام : ذات أب أو وصي أو مقدم أو مهملة فقال :
وَإنْ تَكُنْ بِنْتٌ وَحَاضَتْ وَالأَبُ
حَيٌّ فَلَيْسَ الْحَجْرُ عنها يَذْهَبُ
( وإن تكن ) أي توجد ( بنت ) فاعل ( و ) الحال أنها ( حاضت و ) أن ( الأب حي ) احترز بالأول مما إذا لم تحض فإنها داخلة في قوله فيما مر : والابن ما دام صغيراً الخ . وبالثاني مما إذا مات الأب فإنه إما أن يوصي عليها غيره أو يتركها مهملة ، وسيأتي ذلك قريباً ( فليس الحجر عنها ) أي عن التي حاضت ولها أب حي ( يذهب ) بل تستمر في حجره ولا تخرج منه .
إلاّ إذَا ما نَكَحَتْ ثمَّ مَضَى
سَبْعَةُ أَعْوامٍ وذَا بهِ القَضَا
( إلا ) بأحد أمرين أولهما ( إذا ما ) زائدة ( نكحت ) أي إلا إذا تزوجت ووطئها الزوج ( ثم مضى سبعة أعوام ) من يوم وطئه إياها فإنها تخرج حيئذ بمضيها حيث جهل حالها ، فإن عرفت بالسفه فلا تخرج ولو مضى لها أكثر من عشرة أعوام ( وذا ) القول ( به القضا ) ء والعمل كما لابن رشد ومحل خروجها بمضي المدة المذكورة مع جهل الحال .
ما لم يُحَدِّدْ حَجْرِهَا إثْرَ البِنا
أَوْ سَلَّمَ الرُّشْدَ الذي تَبَيّنا
( ما لم يحدد ) أبوها ( حجرها إثر البنا ) ء بها ووطئه إياها بأن يقول للشهود : اشهدوا علي بأني جددت الحجر على بنتي فلانة المذكورة في رسم النكاح أعلاه بحيث لا تفعل فعلاً إلا بإذني ومهما فعلت بغير إذني فهو رد ، ولا بد أن ينصوا في هذا الرسم على أنه قال لهم ذلك بعد البناء والوطء ، فإن لم ينصوا على ذلك بطل التجديد لاحتمال أن يكون التجديد قبل الوطء ، إذ لا يلزم من الدخول والبناء الوطء بالفعل إذ كلاهما عبارة عن إرخاء الستر عليها ، نعم إذا كان عرفهم أن البناء والدخول لا يطلقان إلا على الوطء بالفعل فيكفي أن يقولوا : وذلك بعد البناء والدخول الخ . فإذا ثبت هذا الرسم فإنها لا تخرج حينئذ إلا بترشيده إياها ولو لم يعرف إلا من قوله : أو بثبوت رشدها ولو لم يرشدها على ما به العمل من اعتبار الحال كما مر . وهذا يقتضي أن الأب إذا مات قبل السبعة أعوام وقبل التجديد أن القاضي يقدم عليها كما يقدم على الصغار وهو كذلك كما لابن الحاج ، ومراده بالإثر أن يكون التجديد داخل المدة التي تخرج بها وهي سبعة أعوام ، فإذا خرجت لم يصح التجديد كما لا يصح قبل الدخول أيضاً لأنها محجورة ، فالتجديد من تحصيل الحاصل كما مر عن العبدوسي ، ثم ما ذكره الناظم تبعاً لابن رشد وغيره من أنالعمل على أنها لا تخرج من الحجر إلا بمضي سبعة أعوام هو أحد أقوال سبعة ذكرها ( ح ) وقيل إنها تخرج من الحجر بانقضاء عامين إلا أن يجدد الأب الحجر قبل هذه المدة ، وهي رواية ابن نافع عن مالك ، قال ابن رشد : وهي رواية غراء أغفلها الشيوخ المتقدمون وحكموا برواية شاذة منسوبة لابن القاسم لا يعلم لها موضع ، أنها لا تخرج إلا بمضي سبعة أعوام قال الوانشريسي في أنكحة المعيار : فإذا مات أبوها بعد مضي العامين من بناء زوجها فلا كلام في مضي أفعالها إن لم تعرف بسفه على هذه الراوية الغراء اه . وذكر ناظم عمل فاس أن عملهم على هذه الرواية فقال :
والبكر حجرها أب ما جدده
تخرج بالعامين من بعد الدخول
جائزة الأفعال للرشد تؤول
فيكون العمل الذي ذكره الناظم قد تبدل فتأمله وثاني الأمرين اللذين تخرج بهما من الحجر ما أشار له الناظم عاطفاً على نكحت بقوله : ( أو ) أي إلا إذا نكحت أو لم تنكح ولكن ثبت رشدها بالبينة و ( سلم الرشد الذي تبينا ) وثبت ولم يجد الأب فيه مطعناً فإنها تخرج من الحجر أيضاً ثم أشار إلى مفهوم قوله : والأب حي الخ . وهو ما إذا مات فإنه إما أن يكون قد أوصى عليها فهو قوله :
وَحَجْرُ مَنْ وَصَّى عليها يَنْسَحِبْ
حَتى يَزُولَ حُكْمُهُ بِما يَجِبْ
( وحجر من وصى عليها ) أبوها ( ينسحب ) ويستمر ولو دخل الزوج وبنى بها ومضت لها سبعة أعوام فأكثر من دخوله ولا يحتاج في استمرار وانسحابه إلى تجديد داخل السبعة ( حتى يزول حكمه ) أي الحجر ( بما يجب ) من ترشيده إياها ولو لم يعرف إلاَّ من قوله على ما مر في قول الناظم : ويكتفي الوصي بالإشهاد الخ . . . لا على ما لابن عطية هناك من ثبوت رشدها بالبينة ولم يجد الوصي مطعناً فيها .
والعَمَلُ اليَوْمَ عليه ماضِي
وَمِثْلهُ حَجْرُ وصِيِّ القَاضِي
( والعمل اليوم عليه ) أي على ما ذكر من ترشيده إياها أو ثبوت رشدها ( ماض ومثله ) أي مثل الوصي من قبل الأب ( حجر وصي القاضي ) أي مقدمه في كونه ينسحب ، ويستمر أيضاً حتى يزول حكمه بالبينة فقط ولا يكفي ترشيده إياها على ما قدمه في قوله : وفي ارتفاع الحجر مطلقاً يجب الخ . وإما أن يموت ولا يوصي عليها أحداً وهو قوله :وَإنْ تَكُنْ ظَاهِرَةَ الإهْمَالِ
فإنّها مَرْدُودَةُ الأفَعْالِ ( وإن تكن ) التي حاضت ( ظاهرة الإهمال ) بحيث لم يوص عليها أبوها ولا قدم القاضي عليها أحداً ( فإنها مردودة الأفعال ) كلها من تبرعات ومعاوضات ولا يمضي منها شيء ولها إن رشدت رد ذلك كله ولو طال .
إلا مَعَ الوُصُولِ لِلتَّعْنِيسِ
أَوْ مُكْثِ عَامٍ أَثَرَ التَّعْرِيسِ
( إلا مع الوصول للتعنيس ) وهو خمسون سنة كما يأتي ( أو ) مع ( مكث عام ) من دخول الزوج بها ( أثر ) بفتح الهمزة والثاء المثلثة ( التعريس ) وهذا هو الذي به العمل ولذا صدر به الناظم .
وقِيلَ بَلْ أفْعَالُها تُسَوَّغُ
إنْ هِيَ حَالَةَ المَحِيضِ تَبْلُغُ ( وقيل ) وهو لسحنون ( بل أفعالها تسوغ ) وتجوز ( إن هي حالة المحيض ) بالنصب مفعول مقدم بقوله ( تبلغ ) أي تمضي أفعالها بمجرد البلوغ لأنها عنده بمنزلة الذكر السفيه الذي لم يول عليه فتمضي أفعاله عند مالك لا ابن القاسم .
وَالسِّنُّ في التَّعْنِيسِ من خَمْسِينِ
فِيما بِهِ الْحُكْمُ إلى السِّتينِ
( والسن في التعنيس من خمسين ) سنة ( فيما به الحكم ) والقضاء ( إلى الستين ) سنة . وتحصيل ما به العمل في النسوة من قوله : وإن تكن بنت وحاضت إلى هنا أن من لم تبلغ المحيض منهن ففعلها مردود مطلقاً كما مر في قوله : والابن ما دام صغيراً الخ . ومن بلغت منهن إن ثبتت لها حالة رشد فأفعالها ماضية والعكس بالعكس ، ولا عبرة بحجر ولا فك كان لها أب أو وصي أو مقدم أو لم يكن لها شيء من ذلك على المعمول به من مراعاة الحال مطلقاً كما مر في الذكر ، وإن بلغت المحيض وهي مجهولة الحال فإن كانت ذات أب فلا يمضي فعلها إلا بعد مضي سبعة أعوام من دخولها على ما للناظم أو مضي عامين على ما لناظم عمل فاس حيث لم يجدد الأب عليها الحجر داخل السبعة أو العامين وإلا فلا يمضي فعلها أبداً إلا بثبوت رشدها أو ترشيده إياها ، وإن كانت ذات وصي أو مقدم والموضوع بحاله من جهل الحال فلا يمضي شيء من أفعالها أيضاً حتى يثبت رشدها ولا تحتاج إلى فك أو يرشدها الوصي بمجرد قوله على ما للناظم لا على ما لابن عطية كما مر ، وإن كانت مهملة والموضوع بحاله أيضاً ففعلها يمضي بالتعنيس أو مضي عام من دخولها .وَحَيْثُ رَشَّدَ الوصيّ مَنْ حَجَرْ
ولايَةُ النِّكاحِ تَبْقَى بالنَّظَرْ
( وحيث رشد الوصي من حجر ) أي رشد محجورته فولاية المال تذهب عنها وتزول و ( ولاية النكاح تبقى بالنظر ) فلا يعقد نكاحها غيره كما لو رشدها أبوها فإنه لا يعقد نكاحها غيره أيضاً إلا أن يكون هناك من يتقدم على الأب كالابن وابنه فيتقدم على الوصي أيضاً وهذا البيت تكرار مع قوله في النكاح :
وإن يرشدها الوصي ما أبى
فيها ولاية النكاح كالأب
وَلَيْسَ لِلْمَحْجُورِ مِنْ تَخَلُّصِ
إلاّ بترشيدٍ إذَا مَات الوَصِي
( وليس للمحجور ) ذكراً أو أنثى ( من تخلص ) من الحجر ( إلا بترشيد ) ثابت شهدت به بينة معتبرة وحكم الحاكم به ( إذا مات الوصي ) أو المقدم وبقي من كان في حجرهما مهملاً أي فإنه لا يمضي شيء من أفعاله حتى يثبت رشده ويحكم الحاكم بإطلاقه .
وَبَعْضُهُمْ قد قَالَ بالسَّرَاحِ
في حقّ مَنْ يُعْرَفُ بالصَّلاَحِ
( وبعضهم ) وهو ابن القاسم ( قد قال ) إذا مات وصيه وتركه مهملاً ( بالسراح ) من ثقاف الحجر ( في حق من يعرف بالصلاح ) في التصرف فتمضي أفعاله من حين حسن تصرفه ولو لم يحكم الحاكم بإطلاقه وهذا هو المعمول به كما مر لأن العبرة عنده بالحال لا الولاية والأول هو قول مالك يعتبر الولاية لا الحال وكان العمل به قديماً ثم تبدل ، ولذا نقل ( ح ) عن البرزلي أنه إذا تصرف بعد موت وصيه فالذي به العمل أن تصرفه حينئذ كتصرفه قبل موته إلا أن يعرف فيه وجه الصواب اه . فهذا العمل إنما هو على ما لابن القاسم .
وَالشَّأْنُ الإِكثارُ مِنَ الشُّهُودِ
في عَقْدَي التَّسْفِيهِ وَالتَّرْشِيدِ
( والشأن ) الذي به العمل عند الموثقين ( الإكثار من الشهود في عقدي التسفيه ) وهو الشهادة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13