كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي

الصيد والسباع قولان اه . إلا أنهم بحثوا مع الناظم في حكاية الاتفاق في بيعه أقوالاً : الجواز والكراهة والمنع وهو أشهرها .
قلت : لعله أراد بالاتفاق اتفاق المتأخرين لقول ابن أبي زيد : لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسداً ضارياً وكل ما يتخذ للانتفاع به انتفاعاً شرعياً تجوز المعاوضة عليه ، فكأنهم فهموا أن كلاب الحراسة لتأكد منفعتها لا ينبغي أن يدخلها الخلاف ، وأما ما قيل من أنه أراد بالاتفاق تقوية القول بالجواز إذ قال به ابن كنانة وسحنون وابن نافع ، وشهره بعضهم فهو بعيد من لفظه إذ لو كان مقصوده ذلك لقال : ورجحوا أو شهروا أن كلاب الماشية الخ . ثم إن الكلب إذا لم يؤذن في اتخاذه يضمن ربه ما أتلف مطلقاً ، وأما ما أتلفه المأذون في اتخاذه فإنه يضمن ربه ما مزقه أو أتلفه إذا علم منه العداء . وتقدم الكلام فيه عند السلطان .
وَعِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ في ابْتِياعِ
كِلابِ الاصْطِيادِ وَالسِّبَاعِ
( وعندهم قولان في ابتياع كلاب الاصطياد ) أى الكلاب التي يصطاد بها فالمنع لابن القاسم وروايته عن مالك والجواز لابن كنانة ومن معه ( و ) عندهم أيضاً قولان في ابتياع ( السباع ) التي يصطاد بها كالمسمى عند العامة اليوم بالنمس والفهد ونحو ذلك .
وَبَيْعُ ما كالشَّاةِ واستِثناءِ
ثُلُثِهِ فيهِ الجَوَازُ جاءِ
( وبيع ما ) أي حيوان مأكول ( كالشاة ) والبقرة ( واستثناء ) أي مع استثناء ( ثلثه ) أو نصفه أو ثلاثة أرباعه إذ متى كان المستثنى جزءاً شائعاً ( فيه الجواز جاء ) اتفاقاً . واعلم أن هذه المسألة على ثلاثة أوجه : هذا أحدها . ولا يجبر الآبي منهما على الذبح في هذا الوجه فإن تشاحا فيه بيعت عليهما وأخذ كل واحد من ثمنها ما وجب له . الثاني : أن يستثنى أرطالاً من لحمها وهو معنى قوله :
أَوْ قَدْرِ رَطْلَيْنِ مَعاً مِنْ شَاةِ
وَيُجْبَرُ الآبي عَلَى الذَّكَاةِ
( أو قدر ) بالجر عطف على ثلثه ( رطلين معاً ) أو ثلاثة أرطال أو أربعة قدر الثلث فدون ( من شاة ) ونحوها وفي البقرة والناقة يجوز استثناء نحو العشرة ، والثمانية الأرطال مما هو قدر الثلث أيضاً فدون لأن ثلث كل شيء بحسبه كما قاله أبو الحسن ، وارتضاه الشيخ الرهوني في حاشيتهخلافاً لما في الشيخ بناني ( و ) إذا أراد البائع الذبح ليتوصل للأرطال وامتنع المشتري أو بالعكس فإنه ( يجبر الآبي ) منهما ( على الذكاة ) إذ لا يتوصل كل منهما لما دخل عليه من اللحم إلا بها ، وأجرة الذبح والسلخ عليها في هذه وفي التي قبلها بحسب ما لكل ، فلو أراد المشتري أن يعطيه لحماً من غيرها لتبقى له الشاة حية لم يجز وهو معنى قوله :
ولَيسَ يُعْطَى فيه للتَّصْحِيحِ
من غيرِه لحْماً على الصَّحيحِ
( وليس ) للمشتري أن ( يعطى فيه ) أي في المستثنى الذي هو الأرطال ( للتصحيح ) أي لتصح له الشاة وتبقى له حية ( من غيره ) أي من غير المستثنى منه وهو الشاة ( لحماً ) بل ولا غير اللحم كثوب أو دراهم ونحوها ( على ) القول ( الصحيح ) وهو لأشهب لما فيه من بيع الطعام قبل قبضه بناء على أن المستثنى مشترى ، وأما على أنه مبقى فالعلة أنه من بيع اللحم المغيب وهو يمنع بلحم وغيره قاله ( ز ) ومقابل الصحيح رواه مطرف . الثالث : أن يستثنى الجلد والساقط وهما الرأس والأكارع وإليه أشار بقوله :
وَالخُلْفُ في الْجِلْدِ وَفي الرَّأْس صَدَرْ
مَشْهُورُها الْجَوَازُ في حَالِ السَّفْرْ
( والخلف في ) استثناء ( الجلد وفي ) استثناء ( الرأس ) والأكارع ( صدر ) أي : وقع بالمنع مطلقاً والجواز كذلك ثالثها ( مشهورها الجواز في حال السفر ) لخفة ثمنه فيه دون الحضر فيمنع فيه ، فإن وقع واستثنى في الحضر فظاهر ضيح الفسخ ، وفي الموازية أنه يكره ، وأبقى أبو الحسن الكراهة على بابها قاله ( ز ) ومفهوم الجلد والرأس أن استثناء الكرش والكبد ونحوهما حكمها حكم اللحوم فيجري حكمها عليه من كون المستثنى قدر الثلث فدون فيجوز وإلاَّ فلا . وأجرة الذبح والسلخ والحفظ وغير ذلك في هذا الوجه على المشتري لأنه يجبر على الذبح إذ لو شاء دفع جلداً وساقطاً من عنده فصارا كأنهما في ذمته كما في ابن محرز خلافاً لابن يونس من أن الأجر عليهما معاً على قدر قيمة الجلد واللحم ( خ ) عاطفاً على الجائز ما نصه : وجلد وساقط بسفر فقط وتولاه المشتري .
وفي الضَّمانِ إنْ تَفَانَى أَوْ سُلِبْ
ثَالِثُهَا في الْجِلْدِ وَالرَّأْسِ يَجِبْ( وفي الضمان إن تفانى ) أي مات الحيوان الذي استثنى أرطال منه أو جلد وساقطه ( أو سلب ) أي غصب أو سرق ثلاثة أقوال . الضمان من المشتري في الجميع وعدمه في الجميع ( ثالثها ) وهو مشهورها الضمان ( في الجلد والرأس ) والأكارع ( يجب ) عليه فقط لا في الأرطال فلا يضمنها كما لا يضمن في الجزء الشائع اتفاقاً ( خ ) ولو مات ما استثنى منه معين ضمن المشتري جلداً وساقطاً لا لحماً الخ . ومراده بالمعين الجلد والساقط والأرطال .
فصل في بيع الدين بالدين والمقاصة فيهأرادوا : اقتضائه والمقاصة فيه فحذف عاطفاً ومعطوفاً بقرينة ذكره بعد قاله ( ت ) وهو ظاهر .
مما يَجُوزُ البيعُ بَيْعُ الدَّيْنِ
مُسَوَّغٌ مِنْ عَرْضٍ أَوْ عَيْنِ
( مما يجوز البيع ) يتعلق بقوله مسوغ والعائد من الصلة محذوف ( بيع الدين ) مبتدأ ( مسوغ ) خبره ( من عرض أو من عين ) بيان لما والتقدير بيع الدين مسوغ أي جائز بالشيء الذي يجوز البيع به من عرض إن كان الدين عيناً أو طعاماً ، ومن عين إن كان عرضاً أو طعاماً إذ هو لا يباع إلا بغير جنسه كما يأتي في قوله : وبيعه بغير جنس مرعي وهذا في بيعه لغير من هو عليه ، وأما بيعه ممن هو عليه فسيأتي في قوله : والاقتضاء للديون الخ . ثم إن مراده بالعرض ما قابل العين فيشمل الطعام فلا دور في كلامه خلافاً لمن ادعاه كما لا يخفى .
وإنما يَجوزُ مَعْ حُضورِ مَنْ
أَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَتَعْجِيلِ الثَّمَنْ
( وإنما يجوز ) بيع الدين لغير من هو عليه بشروط أشار لأولها وثانيها بقوله : ( مع حضور من أقر بالدين ) أي مع حضور المدين وإقراره فلا يجوز مع غيبة المدين ولا مع إنكاره لأنه مع الغيبة لا يدري حاله من فقر أو غنى ، والثمن يختلف باختلاف حاله فيؤدي للجهل قاله المازريوغيره ، وعن ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية جواز شراء الدين على الغائب ، وبه قال أصبغ في نوازله . ورواه أبو زيد عن مالك وبه العمل في مسألة قلب الرهن كما يأتي ، وأما اشتراط الإقرار فلأنه وإن كان ثابتاً ببينة من شراء ما فيه خصومة وهو ممنوع على المشهور وهو معنى قول ( خ ) ومنع دين ميت وغائب ولو قربت غيبته وحاضر إلا أن يقر الخ . ولثالثها بقوله : ( و ) مع ( تعجيل الثمن ) لأنه إذا لم يعجل في الحين كان من بيع الدين بالدين ، ولا فرق بين أن يعجل حقيقة أو حكماً كبيعه بمنافع عين أو بمعين يتأخر قبضه إذ لا يمتنع ذلك في بيع الدين بخلاف فسخه . ولرابعها بقوله :
وكوْنِهِ لَيْسَ طَعَامَ بَيْعِ
وَبَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسٍ مَرْعِي
( و ) مع ( كونه ليس طعام بيع ) وإلا لم يجز لما تقدم من منع بيع طعام المعاوضة قبل قبضه . ولخامسها بقوله : ( وبيعه بغير جنس مرعي ) لأنه إذا بيع بجنسه كان سلفاً بزيادة لأن شأن الدين أن يباع بأقل .
وحاصله ؛ أنه إذا بيع بجنسه وكان الدين عيناً أو طعاماً امتنع مطلقاً ولو بعد حلوله لما فيه من ربا الفضل والنساء أو النساء فقط ، وإن كان الدين عرضاً فكذلك إن بيع بأقل قدراً أو صفة لأن الشيء في مثله قرض فهو سلف بمنفعة ، وإن بيع بأكثر قدراً أو صفة لأن الشيء في مثله قرض فهو سلف بمنفعة ، وإن بيع بأكثر قدراً أو صفة وكان العرض من سلف فكذلك أيضاً ، وإن كان من بيع ولم يحل فكذلك أيضاً لما فيه من حط الضمان وأزيدك ، وإن حل جاز كما يجوز بالمثل حل أو لا . لكنه ليس من شأن العقلاء دفع عاجل ليأخذ أقل منه أو مثله في البيع ، بل يفعلون ذلك في السلف فقط . وبقي على الناظم شرط سادس وهو أن لا يكون المشتري عدواًللمدين ، وسابع وهو أن لا يقصد بالشراء إعناته وضرره وإلاَّ رد بيعه ( خ ) في الضمان كأدائه رفقاً لا عنتاً فيرد كشرائه ، وهل إن علم بائعه وهو الأظهر تأويلان الخ : أي : وإذا رد الشراء فيرجع المشتري على البائع بما دفع له ، فإن فات بيده رد له عوضه وإن تعذر رده لغيبة البائع أقام الحاكم من يقبض من المدين ويدفع للمشتري قاله ( ز ) ونحوه ل ( ح ) وضيح عن اللخمي . قال أبو الحسن : وقصد الضرر من أفعال القلوب فلا يثبت إلا بإقرار المشتري أو بقرائن تدل الشهود على أنه قصد ذلك .
تنبيهات . الأول : إذا بيع الدين أو وهب وكان فيه رهن أو حميل لم يدخل واحد منهما إلا بشرط مع حضور الحميل وإقراره بالحمالة وإن لم يرض بالتحمل لمن ملكه للسلامة من شراء ما فيه خصومة لكن لرب الرهن أن يطلب وضعه عند أمين قاله ( ز ) .
الثاني : قال في الدر النثير : انظر مسألة من قال لرجل : بعني دينك الذي على فلان وأنا أعلم وجوبه لك عليه وإقراره به لك ، ففي نوازل أصبغ من كتاب جامع البيوع من البيان جواز البيع اتفاقاً وأنه إن أنكر بعده فمصيبة دخلت عليه اه .
الثالث : جرى العمل ببيع دين الغائب من غير حضوره ولا إقراره في المسألة الملقبة عند العامة اليوم بقلب الرهن وهي أن يكون بيد إنسان رهن في دين مؤجل فيحتاج إلى دينه قبل الأجل فيبيعه بما يباع به ولو مع غيبة راهنه ، ويحل المشتري للدين محل بائعة في حوز الرهن والمنفعة إن كانت المنفعة جعلت له والبيع للرهن بالتفويض الذي جعل للمرتهن البائع للدين وغير ذلك ويكتب بظهر الوثيقة أو طرتها : اشترى فلان جميع الدين أعلاه أو محوله بكذا وقبض البائع جميع الثمن معاينة أو باعترافه بعد التقليب والرضا كما يجب ، وأحل المشتري محله في الرهن والانتفاع به والحوز له والتفويض وتملك المشتري مشتراه إلى آخر الوثيقة قال ( م ) : وهذا مع التنصيص على دخول الرهن في البيع وهو المعمول به في وقتنا ، إذ هو المقصود بشراء الدين غالباً قال : وللراهن أن يجعل رهنه بيد المشتري أو يجعله بيد رجل غيره إذا لم تشترط منفعته وإلاَّ فلا خيار للراهن حيث باع المرتهن الدين والمنفعة معاً إلا لحقه ضرر بجعله بيد المشتري فيزال الضرر ويكرى ذلك لغير المشتري ، والكراء له لأن المنفعة لمشترطها قال : وإن بيع الدين وسكت عن الرهن لم يدخل ويبقى الرهن بيد من هو بيده ، وإذا اختلفا هل وقع البيع على شرط دخول الرهن حلفاً وفسخ انتهى باختصار . وإنما وجب التحالف لأن الرهن له حصة من الثمن فيرجع ذلك إلى الاختلاف في قدر الثمن .
وَفي طَعَامٍ إنْ يَكُنْ من قَرْضِ
يَجُوزُ الابْتِيَاعُ قَبْلَ القَبْضِ
( وفي طعام إن يكن من قرض ) يتعلق بقوله : ( يجوز الابتياع قبل القبض ) وهذا مفهوم قوله فيما مر :
والبيع للطعام قبل القبض
ممتنع ما لم يكن من قرضفلو استغنى عن هذا بمفهوم ما تقدم لكفاه ، وفي معنى القرض كل طعام وجب بغير عوض كطعام الهبة والصدقة كما مرّ .
وَالاِقْتِضَاءُ لِلدِّيُونِ مُخْتَلِفْ
وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لا يَخْتَلِفْ
( والاقتضاء للديون مختلف ) حكمه فمنه ما هو جائز بالجنس وبغيره ومنه ما هو ممنوع كذلك وحاصل الصور العقلية في القضاء بالجنس الذي الكلام الآن فيه أربع وعشرون صورة لأن الدين إما عين أو عرض ، وفي كل منهما إما من بيع أو قرض وكل من الأربعة إما حال أو مؤجل ، فهذه ثمانية مضروبة في أحوال القضاء لأنه إما بمثل الدين قدراً أو صفة وإما بأقل قدراً أو صفة وإما بأكثر قدراً أو صفة ثلاثة في ثمانية بأربعة وعشرين فصور المثل الثمانية جائزة كلها كما قال : ( والحكم قبل أجل لا يختلف ) في الجواز والحالة هذه .
وَالمِثْلُ مَطْلُوبٌ وذُو اعْتِبارِ
في الجَنْسِ وَالصِّفَةِ وَفِي المِقْدَارِ
( و ) هي أن ( المثل مطلوب ) أي موجود ( وذو اعتبار ) عطف تفسير لو حذفه ما ضره ( في الجنس والصفة والمقدار ) فالجملة حال مربوطة بالواو كما قررنا ومفهوم قبل الأجل أن القضاء بالمثل بعد الأجل يجوز بالأحرى ، فشمل كلامه الصور الثمانية الجائزة : أربعة منها بمنطوقه وأربعة منها بمفهومه ويشملها قول ( خ ) وقضاء قرض بمساوٍ ثم قال : وثمن المبيع من العين كذلك ومفهوم قوله : والمثل مطلوب الخ . أن المثل إذا لم يوجد بل قضاه بأقل قدراً أو صفة أو بأكثر فيهما لم يجز وهو كذلك على تفصيل وهو أن يقال : فإن كان القضاء بأقل قدراً أو صفة جاز صور حلول الأجل الأربع وهي عين أو عرض من بيع أو قرض ومنعت صور ما قبل الأجل كذلك لما فيه من ضع وتعجل لأن المعجل مسلف وقد انتفع على سلفه بأدائه أقل أو أردأ ، فهذه ثمانية في القضاء بأقل قدراً أو صفة كما ترى ويشملها أيضاً قول ( خ ) وإن حل الأجل بأقل صفة أو قدراً فمفهوم الشرط أنه لا يجوز ذلك قبل الحلول ، وأما إن كان القضاء بأكثر صفة أوقدراً فيمتنع في الأكثر قدراً في القرض مطلقاً عيناً كان أو عرضاً قبل الأجل أو بعده لقول ( خ ) لا أزيد عدداً أو وزناً ، وكذا يمتنع في العرض من بيع قبل الأجل لما فيه من حط الضمان وأزيدك : وجاز فيه ذلك بعد الأجل كما يجوز في العين من بيع مطلقاً قبل الأجل أو بعده لأن الحق في الأجل في العين لمن هو عليه فلا يدخله حط الضمان وأزيدك : وإن كان بأفضل صفة جاز في القرض مطلقاً وفي البيع بعد الأجل ، وكذا قبله وهو عين وإلاَّ منع لما فيه من حط الضمان وأزيدك . والناظم تكلم بمنطوقه ومفهومه على الصور الجائزة الثمانية كما مر وسكت عما عداها في القضاء بالجنس .
وأما القضاء بغير الجنس وهو بيع الدين ممن هو عليه فقد أشار له بقوله :
وَالعَيْنُ فيهِ مَعْ بُلُوغٍ أَجَلا
صَرْفٌ وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عُجِّلاَ
( والعين فيه ) الضمير للعين ، وفي بمعنى ( عن ) أي وقضاء العين عن العين ( مع بلوغ أجلا ) أي مع حلول أجل الدين كقضاء ذهب عن فضة حل أجلها كانت من بيع أو قرض وبالعكس ( صرف ) جائز إن عجل المأخوذ ولم يقع فيه تأخير فقوله : بعد أن عجل محذوف من هنا لدلالة ما بعده عليه ، وهذا هو المعبر عنه في الاصطلاح بصرف ما في الذمة وهو جائز على المشهور خلافاً لأشهب في منعه ( وما ) مبتدأ والخبر محذوف أو مفعول بفعل محذوف والتقدير ولك أخذ ما ( تشاؤه ) أي وخذ ما تشاؤه عن دين العين من عرض أو طعام أو حيوان أو عقار ( إن عجلا ) ذلك المأخوذ والا امتنع لما يلزم عليه من فسخ الدين في الدين إن كان المأخوذ غير معين ، وإن كان معيناً فهو التصيير وفي تأخير حوزه وقبضه خلاف يأتي في فصله إن شاء الله .
وغيرُ عينٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ
خُذْ فيهِ مِنْ مُعَجَّل ما تَصْطَفِي
( وغير عين ) مبتدأ على حذف مضاف والجملة الطلبية بعده خبره على وجه مرجوح أي ودين غير العين ( بعده ) أي بعد الأجل حال كونه ( من سلف خذ فيه من معجل ) من غير جنسه ( ما تصطفي ) وتختار من طعام أو عرض أو عقار أو حيوان كأخذك حيواناً عن ثوب في الذمة أو أخذك دراهم عن حيوان في الذمة ، وهكذا بشرط التعجيل كما في النظم وإلا امتنع لما فيه من فسخ الدين أو التصيير الغير المقبوض بالفور كما تقدم في الذي قبله ، وكلامه في القضاء بغير الجنس كما هو الموضوع ، وأما قضاؤه بالجنس الموافق فقد تقدم في الأربع والعشرين صورة .ومفهوم قوله : وغير عين الخ . تقدم في البيت قبله ، ومفهوم بعده أنه قبل الأجل لا يجوز وليس كذلك لأنه إذا اختلف الجنس كما هو الموضوع فلا عليك في الأجل والمقدار كما في شراح ( خ ) عند قوله : وبغير الجنس إن جاز بيعه قبل قبضه الخ . وحينئذ فلا مفهوم للظرف المذكور ، ومفهوم قوله : من سلف هو ما أشار له بقوله :
وَإنْ يكنْ مِنْ سَلَمٍ بَعْدَ الأَمَدْ
فالوَصْفُ فيهِ السَّمْحُ جائزٌ فَقَدْ
( وإن يكن ) الذي هو غير العين ترتب في الذمة ( من سلم ) أي بيع ( بعد الأمد ) أي الأجل يتعلق بقوله جائز ( فالوصف ) مبتدأ ( فيه ) يتعلق بقوله جائز أيضاً ( السمح ) مبتدأ ثان ( جائز ) خبره ( فقد ) أي فحسب راجع لقوله : بعد الأمد ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، والجملة من الأول وخبره جواب الشرط ، والتقدير ؛ وإن يكن الدين الغير العين ترتب في الذمة من بيع فالسمح في وصفه جائز بعد الأجل فقط بأن يأخذ رب الدين أقل من صفة دينه أو يدفع المدين أجود منه ، ويفهم منه أنه يجوز بأقل قدراً أو أكثر كذلك أيضاً لأن زيادة الوصف في قضاء دين البيع كزيادة القدر ونقصانه كنقصانه كما قال ( خ ) وجاز بأكثر وليس قوله : ( فقد ) راجعاً للوصف حتى يكون المعنى فالسمح جائز في الوصف فقط لا في القدر ، بل هو راجع لقوله : بعد الأمد كما قررنا . ومفهوم بعد الأمد أنه قبل الأمد لا يجوز وهو كذلك لما فيه من حط الضمان ، وأزيدك أو ضع وتعجل قال في النوادر : وإذا حل الدين وليس بذهب ولا فضة جاز أخذك أرفع أو أدنى أو أقل أو أكثر من صنفه أو من غير صنفه نقداً . وقال في المجموعة : ولو عجل عرضاً قبل أجله لم يجز إلا مع المساواة والانفراد فلو كان أجود أو أردأ وأضيف إليه شيء من أحد الجانبين ولو نفعاً بخطوة أو كلمة لم يجز لأنه منك وضيعة على تعجيل حق ، ومنه طرح ضمان بزيادة . ثم إن كلام الناظم ظاهر في القضاء بالجنس فهو داخل في التحصيل المتقدم في القضاء بالجنس ، وقد علمت أن الكلام في غيره ، فلو قدم هذا البيت قبل قوله : والعين فيه الخ . وقال مثلاً :
وإن يكن بأدنى منه يشترط
حلوله وقبله المنع فقط
ويكون أشار به للصور الثمانية الكائنة في القضاء بأقل قدراً أو صفة كما مر ثم يقول ههنا :وإن يكن من سلم فيشترط
بيعه بالمسلم فيه مرتبط
وإن يصح سلم رأس المال
والبيع قبل القبض في ذي الحال
لوفى بشروط قضاء السلم بغير جنسه المشار إليها بقول ( خ ) وبغير جنسه إن جاز بيعه قبل قبضه وبيعه بالمسلم فيه مناجزة ، وإن يسلم فيه رأس المال لا طعام ولحم بحيوان وذهب ورأس المال ورق وعكسه الخ . وقد تقدمت الإشارة إليها في فصل العروض عند قوله : وما لبيع قبل قبض مانع . وبهذا يكون الكلام مرتبطاً بعضه ببعض ولا يبقى عليه شيء من شروط القضاء بغير الجنس ، وأما بجنسه فقد دخل في التحصيل المتقدم وسلم من قولنا : وإن يصح سلم رأس المال يقرأ بسكون اللام للوزن ، والحاصل أن قضاء الدين بغير جنسه وهو بيعه ممن هو عليه إن كان عيناً فإما أن يأخذ عنه عيناً أخرى أو عرضاً فالأول صرف يشترط فيه حلول الدين وتعجيل المأخوذ ، والثاني يشترط تعجيله فقط وإن كان الدين غير عين فيشترط تعجيل المأخوذ أيضاً لا حلوله ، ويزاد فيه إن كان من بيع أن يجوز بيعه قبل قبضه ، وأن يسلم فيه رأس المال وأن يباع بالمسلم فيه مناجزة الخ والله أعلم .
ولما تكلم على بيع الدين واقتضائه شرع في الكلام على المقاصة فيه فقال :
قد مضى الدَّيْنُ من الدَّيْنِ وفي
عَيْنٍ وَعَرْضٍ وَطَعَامٍ قَدْ يَفِي
( قد مضى ) بالبناء للمفعول ( الدين من الدين ) أي يقتضي كل من ربي الدين دينه الذي له على صاحبه من نفسه ، ويحتمل أن يكون المراد ويقتضي رب الدين دينه الذي له على صاحبه من الدين الذي لصاحبه عليه . هذا مراده وإلاَّ فعبارته تشمل الحوالة مع أن المراد خصوص المقاصة فلو قال :
تطارح الدين لجانبين
بشرطه يجوز بين اثنين
فما يكونان الخ . لكان أحسن . وعرفها ابن عرفة بقوله : متاركة مطلوب بمماثل صنف ما عليه لمآله على طالبه فيما ذكر عليهما . فقوله : بمماثل متعلق بمطلوب وهو صفة لمحذوف أي بدين مماثل ، وقوله : صنف بالرفع فاعل بمماثل ، ويحتمل أن يقرأ بالإضافة من إضافة الصفة للموصوف أي مطلوب بصنف ما عليه المماثل لمآله على طالبه فيخرج به المختلفان نوعاً فيقتضي أن المقاصة فيهما لا تصح ، وفيه نظر كما يأتي . وقوله : لمآله على طالبه يتعلق بمماثل على كلا الاحتمالين ، واللام زائدة لتقوية العامل ، وما مفعول واقعة على الدين ، وعلى كون لفظ صنف فاعلاً لو حذف ما عليه وقال بمماثل صنفه لكان أحسن ، وقوله : فيما ذكر متعلق بمتاركة وما ذكر هو الصنفية . وقوله : عليهما حال مما ذكر أي حال كون ذلك المذكور عليهما احترازاً مما إذا تاركه في حق لهما على شخص آخر فإن كان لهذا عليه عرض وللآخر عليه مثله في الصنفية وأخذ كل منهما ما لصاحبه فليست مقاصة . وهذا الحد لا يخفى ما فيه من التعقيد مع كونه لا يشمل المقاصة في النوعين ، اللهم إلا أن يقال المراد بالصنف الجنس فيشمل المقاصة في الذهب والفضة لأنهما جنس واحد ، وإذا جازت في مقتفى الجنس فأحرى في مقتفى الصنف ، ومعناهحينئذ أن المقاصة هي أن يتارك المطلوب بدين مماثل جنسه ديناً له على طالبه في الجنسية المذكورة لا في القدر فقط حال كون المذكور عليهما وأسهل منه أن يقال هي تطارح المتداينين دينهما المتفق الجنس على أن يأخذ كل منهما ما في ذمته في مقابلة ما له في ذمة صاحبه والله أعلم . ( وفي . عين وعرض وطعام قد يفي ) أي : يأتي اقتضاء الدين من الدين على وجه المقاصة في العين وفي العرض وفي الطعام وفي كل منهما ست وثلاثون صورة فتنتهي إلى مائة وثمانية .
وبيانها : أن الدينين إذا كانا عينين إما أن يكونا من بيع أو من قرض ، أو أحدهما من بيع ، والآخر من قرض وفي كل من الثلاثة إما أن يتفق العينان جنساً وقدراً وصفة أو يختلفا جنساً أو صفة أو قدراً ، فهذه الأربع في ثلاث قبلها باثني عشر ، وفي كل إما أن يحل الدينان أو يحل أحدهما فقط أو لا يحل واحد منهما ثلاثة في اثني عشر بست وثلاثين ، ومثلها إذا كان الدينان عرضين فهما إما من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض ، وفي كل إما أن يتفقا جنساً وقدراً وصفة أو يختلفا جنساً أو صفة أو قدراً باثني عشر ، وفي كل إما أن يحل الدينان معاً أو أحدهما أو لا يحل واحد منهما بست وثلاثين أيضاً ، وكذا يقال فيما إذا كانا طعامين هكذا حاصل هذه الصور في تكميل التقييد . وقد تكلم الناظم على بعض صور كل من الثلاثة التي في النظم ، ولم يستوف جميعها وبدأ منها بالعين فقال :
فما يكونان بِهِ عَيْناً إلى
مُماثِلٍ وذي اخْتِلافٍ فُضِّلا
( فما ) أي فالوجه الذي ( يكونان ) أي الدينان ( به عيناً إلى مماثل ) في القدر والنوع والصفة وفيه ثلاث صور لأنهما حينئذ إما من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض ( و ) إلى ( ذي اختلاف ) في النوع وفيه ثلاث أيضاً ، أو في القدر وفيه ثلاث أيضاً ، أو في الصفة وفيه ثلاث كذلك ( فضلا ) بالبناء للمجهول خبر ما والمجرور بإلى متعلق به فالمجموع اثنتا عشرة صورة ، وفي كل منها إما أن يحلا أو أحدهما أو لا يحل واحد منهما بست وثلاثين ، وقد علمتأن صور المماثل منها تسعة وصور الاختلاف منها سبع وعشرون ، فأشار إلى صور المماثل بقوله فيما يأتي : وفي تأخر الذي يماثل الخ . وإلى بعض ما يجوز من صور الاختلاف بقوله :
فما اخِتلافٌ وَحُلُول عَمَّهْ
يَجُوزُ فيهِ صَرْفُ مَا في الذِّمَّهْ
( فما اختلاف ) أي فالوجه الذي عمه اختلاف يعني في النوع أو في الصفة ، وذلك كالذهب والفضة أو محمدية ويزيدية ( وحلول عمه ) أي عمه الاختلاف في النوع أو في الصفة لا في القدر وعمه الحلول بأن كان الدينان معاً حالين . ( ويجوز فيه صرف ما في الذمه ) أي مبادلة ما في الذمة وفي كل منهما ثلاث صور لأنهما في الاختلاف في النوع إما من بيع أو قرض أو أحدهما ، وفي الاختلاف في الصفة كذلك فالمجموع ست صور جائزة كلها إلا أنه في الاختلاف في النوع لا يراعى الاتحاد في القدر ، وفي الاختلاف في الصفة لا بد من اتحاده كعشرة دراهم محمدية عن عشرة يزيدية ، وتفهم صور الاختلاف في الصفة من صور الاختلاف في النوع بالأحرى لأنه إذا جاز ذلك مع الاختلاف في النوع بشرطه فلأن يجوز مع الاختلاف في الصفة بالأحرى ، فصور الاختلاف في الصفة داخلة في النظم كما ترى ، ومفهوم حلول الخ . اثنتا عشرة صورة : ست في الاختلاف في النوع وهي عدم حلولهما معاً أو عدم حلول أحدهما ، وفي كل إما من بيع أو قرض أو أحدهما ، وست في الاختلاف في الصفة كذلك وكلها غير جائزة للصرف أو البدل المؤخرين ويزاد على ذلك تسع صور التي في الاختلاف في القدر ، فظاهر النظم جواز ما حل منها لدخولها في عموم قوله : فما اختلاف مع أنها ممنوعة كلها لربا الفضل كدينار في مقابلة دينارين فإما من بيع أو قرض أو أحدهما ، وفي كل إما حالين أو مؤجلين أو أحدهما بتسع تضم للاثني عشر قبلها التي هي مفهوم النظم يكون المجموع إحدى وعشرين صورة كلها ممنوعة ، ويبقى من صور الاختلاف ست صور جائزة وهي منطوق النظم كما مر والله أعلم .
وفي تَأَخُّرِ الذِي يُمَاثِلُ
ما كان أَشْهَبُ بِمَنْعٍ قَائِلُ
ثم أشار إلى تسع صور المماثل فقال : ( وفي تأخر ) الدين ( الذي يماثل ) الدين المأخوذ عنه ( ما ) استفهامية أي كيف ما ( كان ) التأخير سواء كان في الدينين معاً أو في أحدهما . وفي كلِّ إما من بيع أو قرض أو أحدهما ( أشهب ) مبتدأ خبره ( بمنع قائل ) في هذه الست كلها والمجرورالأول والثاني يتعلقان بالخبر ، وفهم من نسبة المنع فيها لأشهب وحده أن ابن القاسم يقول بالجواز وهو المشهور ، ومفهوم قوله : وفي تأخر الخ . أنهما إذا حلا معاً وفيه ثلاث صور لأنهما إما من بيع أو قرض أو أحدهما جاز على كلا القولين وإليه أشار بقوله :
وفي اللَّذَيْنِ في الْحُلُولِ اتَّفَقَا
عَلَى جَوَازِ الانْتِصَافِ اتَّفَقَا
( وفي ) العينين ( اللذين بالحلول ) متعلق بقوله ( اتفقا ) صلة الموصول ( على جواز الانتصاف ) أي المقاصة لأن كل واحد ينصف من حقه بها ( اتفقا ) أي اتفق أشهب وابن القاسم على جواز المقاصة في العينين اللذين اتفقا في الحلول ، وقد تماثلا نوعاً وصفة وقدراً كعشرة محمدية عن مثلها أو يزيدية عن مثلها ، فهذه التسع التي هي صور التماثل تضم إلى سبعة وعشرين التي هي صور الاختلاف يكون المجموع ستاً وثلاثين ، وبها تمت صور العينين وإلى صور التماثل أشار ( خ ) بقوله : وتجوز المقاصة في ديني العين مطلقاً أي من بيع أو قرض أو أحدهما حلا أو أحدهما أو لا . وأشار إلى صور الاختلاف بقوله : وإن اختلفا صفة مع اتحاد النوع أو اختلافه فكذلك إن حلا وإلا فلا الخ .
ثم أشار الناظم إلى ما إذا كان الدينان عرضا فقال :
وذاك في العَرْضَيْنِ لا المِثْلَيْنِ حَلْ
بِحيْثُ حلاَّ أوْ توافَقَ الأجلْ
( وذاك ) الانتصاف الذي بمعنى المقاصة ( في العرضين لا ) أي غير ( المثلين ) كثوب وفرس وكساء وقميص والمجرور يتعلق بالخبر الذي هو ( حل ) أي جاز ( بحيث حلاَّ ) أي حل أجل العرضين معاً ( أو ) تأجلا و ( توافق الأجل ) فيهما ، والتقدير وذاك الانتصاف الذي هو المقاصة جائز في العرضين المختلفين جوازاً مقيداً بحلول الدينين معاً أو توافق أجلهما حين المقاصة ، ويدخل في العرضين غير المثلين سبع وعشرون صورة لأن الاختلاف إما في الجنس كثوب وفرس ، أو في الصفة كثوب كتان وثوب قطن ، ومن ذلك هروي ومروي أو في القدر كثوبين من كتان عن واحد من قطن ، وفي كل إما من بيع أو قرض أو أحدهما ، فهذه تسع . وفي كل منها إما حالين أو مؤجلين أو أحدهما ، فأخبر الناظم أن الجائز منها ست صور وثلاث فيما إذا اختلفا جنساً وحلا حقيقة أو حكماً لتوافق الأجل فإما من بيع أو قرض أو أحدهما . وثلاث فيما إذا اختلفا صفة كذلك ، ويفهم منه أن الأحد والعشرين الباقية كلها ممنوعة وهو كذلك في الستالباقية من الاختلاف في الجنس ، وهي ما إذا لم يحلا حقيقة ولا حكماً أو حل أحدهما ، وفي كل إما من بيع أو قرض أو أحدهما ، وكذا في الست الباقية من الاختلاف في الصفة لما في ذلك من بيع الدين بالدين في الجميع ، وأما التسع التي في الاختلاف في القدر وهي كونها من بيع أو قرض أو أحدهما حلا أو لم يحلا معاً أو أحدهما ففيها تفصيل ، فإن كانا من بيع وحلا جاز وإن كانا من قرض لم يجز لما فيه من قضاء القرض بأكثر خلافاً لظاهر النظم من جواز ذلك ولو في القرض وأما إن كانا مؤجلين أو أحدهما فيمنع كما هو مفهوم النظم لما فيه من ضع وتعجل مطلقاً أو حط الضمان وأزيدك حيث كانا من بيع .
فإن قيل : تقدم في العين أنها لا تجوز مع التأجيل ولو اتفق الأجل فلم جازت في العرض مع اتفاقه ؟ قلنا : لأن اللازم في العين صرف مؤخر وباب الصرف أضيق من بيع الدين اللازم في العرضين ، وإنما لم يعتبر بيع الدين في المتفقين أجلاً لأن ذلك حينئذ في معنى المبارأة لأنه لما كان لا يقدر أحدهما على طلب دينه إلا عند أجل الآخر كان ذلك بمنزلة الحالين والله أعلم . ومفهوم قوله : لا المثلين أن العرضين إذا كانا متفقين في الجنس والصفة والقدر جازت المقاصة في تسع صورها كانا من بيع أو قرض أو أحدهما حلا أو لم يحلا أو أحدهما لأن العرضين المتماثلين يبعد قصد المكايسة والمغالبة فيهما ، فيكون المقصود هو المعروف فلا تدخل في غير الحالين تهمة من تعجل ما أجل يعد مسلفاً ، وإلى المقاصة في العرضين المتماثلين أشار ( خ ) بقوله : وتجوز في العرضين مطلقاً أي اتحدا جنساً وصفة أي وقدراً ، وإلى جوازها في المختلفين بشرط الحلول أو اتفاق الأجل بقوله : كأن اختلفا جنساً واتفقا أجلاً وإن اختلفا أجلاً منعت إن لم يحلا أو أحدهما الخ .
قلت : لو قال أعني ( خ ) : وتجوز في العرضين مطلقاً إن اتفقا قدراً أو جنساً أو صفة لا إن اختلفا قدراً أو جنساً أو صفة ولم يحلا أو لم يتفق الأجل وإلاَّ جاز في الأخيرين كالأول إن وحلا هما من بيع لكفاه .
ثم أشار إلى ما إذا كان الدينان طعاماً وفيه ست وثلاثون أيضاً أشار إلى اثني عشر منها بقوله :
وفي تَوَافُقِ الطَّعَامَيْنِ اقُتُفِي
حَيْثُ يَكونان معاً مِنْ سَلَفِ( وفي توافق الطعامين ) يتعلق بقوله ( اقتفي ) بالبناء للمفعول ونائبه يعود على الانتصاف أي اقتفي واتبع الانتصاف الذي بمعنى المقاصة في الطعامين المتفقين في الجنس والقدر والصفة ( حيث يكونان معاً من سلف ) حلا أو أحدهما أم لا ، فهذه ثلاث من الاثني عشر المذكورة .
وفِي اختِلافٍ لا يَجوزُ إلاّ
إنْ كان كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ حَلاَ
( وفي اختلاف ) يتعلق بقوله ( لا يجوز ) أي : ولا يجوز الانتصاف في اختلافهما في الجنس كقمح وفول ، أو في الصفة كعشرة سمراء عن مثلها محمولة ، أو في القدر كخمسة محمولة عن سبعة محمولة ودخلا على إلغاء الزائد على خمسة في الذمة ( إلا إن كان كل منهما قد حلا ) لأنها حينئذ مبادلة يداً بيد : ( خ ) والطعامان من قرض كذلك أي فتجوز مع الاتفاق مطلقاً ومع الاختلاف بشرط الحلول فقد دخل في الاختلاف تسع صور لأنهما إذا اختلفا في الجنس وهما من سلف كما هو الموضوع فإما أن يحلا أو أحدهما أم لا ، فهذه ثلاث . ومثلها في الاختلاف في الصفة ومثلها في الاختلاف في القدر بتسع ، حكى الجواز فيما إذا حلا معاً وبقيت صور تأجيلهما معاً أو تأجيل أحدهما على حكم المنع لما فيه من بيع الطعام بالطعام نسيئة ، واحترزت بقولي : ودخلا على إلغاء الزائد في الذمة الخ . عما إذا لم يدخلا على ذلك فإنه لا يجوز ، ولو حلا لما فيه من ربا الفضل ، وكذا يقال في الاختلاف في الصفة لا بد أن يدخلا على إلغاء الزائد إن كان هناك زائد وإلا لم يجز لربا الفضل أيضاً ، ولا يشترك ذلك في الاختلاف في الجنس ، فصورتا الاختلاف في الصفة والقدر يزاد فيهما على شرط الحلول أن يدخلا على عدم إلغاء الزيادة .
ثم أشار إلى الاثنتي عشرة صورة التي في الطعامين من بيع فقال :
وَإنْ يَكونا مِنْ مَبيعٍ وَوَقَعْ
فيهِ بالإطْلاَقِ اخْتِلاَفٌ امْتَنَعْ
( وإن يكونا ) أي الطعامان ( من مبيع ) اسم مفعول بمعنى المصدر أي : من بيع ( ووقع فيه ) يتعلق بوقع ( بالإطلاق ) يتعلق بامتنع آخر البيت ( اختلاف ) فاعل وقع ( امتنع ) جواب الشرط والتقدير : وإن يكن الطعامان من بيع واختلفا في الجنس أو في الصفة أو في القدر امتنعت المقاصة بالإطلاق حلا أو أحدهما أم لا . فتدخل في الاختلاف تسع صور كما ترى .وأشار إلى الصور الثلاث الباقية لتمام الاثني عشر وهي : إذا اتحد الطعامان جنساً وصفة وقدراً فإما أن يحلا أو أحدهما أم لا بقوله :
وَفي اتِّفَاقِ أجَلَيْ مَا اتّفقَا
هُوَ لَدَى أَشْهَبَ غَيْرُ مُتَّقَى
( وفي اتفاق أجلي ما ) أي الطعامان اللذين ( اتفقا ) جنساً وصفة وقدراً ( هو ) مبتدأ عائد على الانتصاف المتقدم ( لدى أشهب غير متقى ) خبر عن المبتدأ والظرف والمجرور بفي يتعلقان به ، والتقدير : وهو أي الانتصاف غير ممنوع عند أشهب في الطعامين المنفقين أجلاً وجنساً وصفة وقدراً بناء على أنها إقالة ، وأحرى أن يجوز عنده ذلك إذا حلا معاً ، وفهم من تخصيصه الجواز بأشهب أن ابن القاسم يقول بالمنع ، وهو المشهور ( خ ) : ومنعا أي الطعامان من بيع ولو متفقين الخ . قال ( ز ) : لعلل ثلاث بيع الطعام قبل قبضه وهذه عامة ، وطعام بطعام ، ودين بدين نسيئة وهاتين في غير الحالين .
ثم أشار إلى الاثني عشر التي في الطعامين من بيع وقرض وهي كمال ست وثلاثين صورة التي في الطعامين فقال :
وَشَرْطُ ما من سَلَفٍ وَبَيْع
حُلُول كُلَ وَاتِّفَاقُ النَّوْعِ
( وشرط ما ) أي الطعامين اللذين أحدهما ( من سلف و ) الآخر من ( بيع حلول كل ) منهما ( واتفاق النوع ) أي : أو القدر كمحمولة عن مثلها قدراً وصفة ، فالمراد بالنوع الصفة إذ لا يكفي الاتفاق في النوع مع الاختلاف في الصفة ، وبالجملة فالطعامان من بيع وسلف إذا اتفقا جنساً وصفة وقدراً ففي ذلك ثلاث صور لأنهما إما أن يحلا أو أحدهما أو لا . حكى الجواز في صورة وهي حلولهما معاً وبقيت صورتا تأجيلهما أو أحدهما . حكى في جواز المقاصة فيهما خلافاً بقوله :
والْخُلْفُ في تَأَخُّرِ مَا كَانَا
ثَالِثُهُمَا مَعْ سَلَمٍ قَدْ حَانَا
( والخلف في تأخر ما كانا ) أي كيف كان التأخير في طعام البيع أو طعام القرض أو فيهماأي : والموضوع بحاله من اتفاق الجنس والصفة والقدر ، فمنع ذلك ابن القاسم مطلقاً تأخرا معاً أو القرض أو السلم وهو المشهور ، وأجاز ذلك أشهب مطلقاً ( ثالثهما ) لغيرهما تجوز ( مع سلم ) من نعته وصفته ( قد حانا ) أي : وصل حينه والفرق على هذا الثالث أن طعام السلف لما كان المدين قادراً على تعجيله جبراً على ربه ، وقد حل دين السلم أي البيع صار الدينان حالين معاً في المعنى بخلاف العكس ، وعلة المنع عند ابن القاسم أن الأغراض تختلف باختلاف الأجل فيترجح جانب بيع الطعام قبل قبضه بالنسبة لطعام البيع ، ولأن المعجل لما في الذمة مسلف ، وعلة الجواز عند أشهب تغليب المعروف ، وإنما لم ينظر في صورة حلولهما معاً لبيع الطعام قبل قبضه بالنسبة لطعام البيع تغليباً لجانب القرض لأنه معروف وانضم لذلك أن المقاصة معروف أيضاً فجازت هذه الصورة على كل قول ، فقول الناظم : واتفاق النوع إما أن يريد بالنوع الجنس فيكون قد حذف الواو ومعطوفيها أي والصفة والقدر ، وإما أن يكون أراد بالنوع الصفة فيكون قد حذف الواو ومعطوفاً واحداً كما قررناه إذ الاتفاق في الجنس والقدر لا بد منه لأنهما لو اختلفا قدراً ودخلا على إلغاء الزائد لم يجز ، ولو حلا لربا الفضل كما لا يجوز إذا اختلفا جنساً أو صفة ، ولو حلا واتفقا قدراً ، وقد علمت من هذا أن منطوق الناظم شامل لثلاث صور : حكى الجواز في واحدة منها اتفاقاً ، وحكى الخلاف في الصورتين الباقيتين كما مر ، ومفهوم قوله : واتفاق النوع أي الجنس أنهما إذا اختلفا فيه أو في الصفة أو في القدر ودخلا على إلغاء الزائد لم تجز ولو حلا وذلك شامل لتسع صور لأنهما في اختلاف الجنس إما أن يحلا أو أحدهما أم لا . ومثلها في اختلاف الصفة ، ومثلها في اختلاف القدر حيث دخلا على إلغاء الزائد وكلها ممنوعة ، ولو حلا كما أشار لذلك ( خ ) بقوله : ومن قرض وبيع تجوز إن اتفقا وحلاّ لا إن لم يحلا أو أحدهما الخ . . . فتحصل أن الاثنتي عشرة صورة الجارية في طعامي البيع والقرض تجوز منها صورة واحدة وما عداها ممنوع إما اتفاقاً أو على المشهور .
فصل في الحوالةمأخوذة من التحول عن الشيء لأن الطالب تحول من طلبه لغريمه إلى غريم غريمه قاله عياض ، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام : ( مطل الغني ظلم ، ومن أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) . عياض : الصواب تسكين التاء يعني في اللفظتين قال : وبعض المحدثين والرواة يشددها . يقال : تبعت فلاناً بحقي وأنا أتبعه ساكنة التاء ، ولا يقال أتبعه بفتحها وتشديدها إلا من المشي خلفه . قال : والأمر فيها للندب عند أكثر شيوخنا ، وحملها بعضهم على الإباحة لما أشبهت بيع الدين بالدين . قال : وهي عند أكثر شيوخنا مستثناة من الدين بالدين وبيع العينبالعين غير يد بيد كما خصت الشركة والتولية والإقالة في بيع الطعام قبل قبضه ، وكما خصت العرية من بيع الطعام بالطعام نسيئة لما كان سبيل هذه التخصيصات المعروف ، وذهب الباجي إلى أنها ليس حكمها حكم البيع ولا هي من هذا الباب ، بل هي عندهم من باب النقد لبراءة المحيل بنفس الإحالة اه . وعرفها ابن عرفة بقوله : طرح الدين عن ذمة بمثله في أخرى . قال : ولا ترد المقاصة إذ ليست طرحاً بمثله في أخرى لامتناع تعلق الدين بذمة من هو له اه . والطرح فعل الفاعل أي طرح المحال للدين عن ذمة المحيل الخ . واعترض بأنه غير جامع لخروج من تصدق على رجل بشيء ثم أحاله به على من له عليه مثله ولخروج الحوالة بالمنافع ، ولذا عرفها في التلقين بأنها تحويل الحق من ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى قال في ضيح : لفظ حق أفضل من لفظ الدين الذي عبر به ابن الحاجب ، لأن المتبادر من الدين ما قابل المنافع بخلاف لفظ الحق فإنه يشمل المنافع وغيرها اه . ولعل ابن عرفة أطلق الدين على دين المنافع وغيرها فلا يرد عليه الاعتراض الثاني .
وامْنَعْ حَوَالَةً بِشَيْءٍ لم يَحِلْ
وبالَّذِي حَلَّ بالإطلاَقِ أَجلْ ( وامنع حوالة بشيء ) عين أو عرض أو غيرهما ( لم يحل ) أجله لأنه حينئذ من بيع ذمة بذمة فيدخله ما نهي عنه من بيع الدين بالدين ، ومن بيع العين بالعين غير يد بيد قاله ابن رشد . قال : إلا أن يكون الدين الذي انتقل إليه حالاً ويقبضه قبل أن يعترفا مثل الصرف فيجوز ذلك أي : لأنها إذا خرجت عن محل الرخصة فتجري على حكم أصلها الذي هو البيع كما يأتي ( وبالذي حل بالإطلاق ) يتعلقان بقوله : ( أحل ) أي أجزأ لحوالة بما حل مطلقاً كان الدين المحال عليه حالاً أيضاً أم لا لأنه إن حل فظاهر وإن لم يحل فزيادة معروف لأنه قبل الحوالة والتأخير .
والرِّضا والعِلْمِ مِنْ مُحَالِ
عَلَيْهِ في المَشْهُورِ لاَ تُبَالِللاتفاق على أن لصاحب الحق أن يوكل من شاء على قبض دينه ، وحكى ابن شعبان قولاً باشتراط رضاه ومحل عدم اشتراط رضا المحال عليه على المشهور إذا لم تكن هناك عداوة بين المحال والمحال عليه ، وإلاَّ فلا بد من رضاه وإلاَّ لم تصح كما في الشامل وغيره ، ومفهوم النظم أن المحيل والمحال لا بد من رضاهما وبه صرح ( خ ) حيث قال : شرط الحوالة رضا المحيل والمحال فقط الخ . وظاهر النظم و ( خ ) أنه لا يشترط حضور المحال عليه ولا إقراره بالدين وهو الذي شهره ابن سلمون ، وقيل : لا بد من حضوره وإقراره وصدر به في الشامل وعزاه لابن القاسم فقال : وفي اشتراط حضوره وإقراره كانتفاء عداوة بينهما . قولان لابن القاسم وعبد الملك اه . قال ابن عبد السلام : ولعل الخلاف مبني على الخلاف هل الحوالة تستثنى من بيع الدين بالدين أو هي أصل مستقل بنفسه ؟ فعلى الأول يسلك بها مسلك البيوع إلا الذي وردت الرخصة فيه ، وعلى الثاني لا يشترط الحضور ويبقى حديث الحوالة على عمومه إذ لا معارض له من مخالفة أصل بيع الدين بالدين اه . وعلى قول ابن القاسم اقتصر في الاستغناء قائلاً : لا تجوز الحوالة على الغائب وإن وقع ذلك فسخ حتى يحضر إذ قد يكون للغائب من ذلك براءة اه . ونحوه في الإرشاد والكافي والمتيطي وابن فتوح وقبله ابن عرفة وجزم به أبو الحسن في شرح المدونة ، والمشذالي في حاشيته عليها كما في ( ح ) وهذا يفيد أن قول ابن القاسم باشتراط الحضور والإقرار هو المعتمد ، وصرح ابن رحال في حاشيته هنا وشرحه لخليل بأن تشهير ابن سلمون خلاف الراجح ، وتبعه على ذلك الشيخ بناني وغيره ، ورد ذلك الشيخ الرهوني في حاشيته قائلاً ، بعد نقله ما لابن رحال وغيره ما نصه : وفي ذلك كله نظر ، والظاهر ما قاله ابن سلمون نقلاً ومعنى ، أما معنى فلأنهم عللوا اشتراط حضوره بأنه قد يكون للغائب براءة من ذلك ، وهذا التعليل يقتضي أن علة المنع إذا لم يحضر ويقل الغرر ، وقد علمت أن الحوالة من ناحية المعروف والمعروف لا يؤثر فيه الغرر ، وكونها من المعروف مصرح به في كلام غير واحد ويسلمه هؤلاء المعترضون ، ثم نقل عن التونسي والمازري وغيرهما ما يشهد لاعتراضه على زعمه وأطال في ذلك .
قلت : ما ذكره كله للنظر فيه مجال أما أولاً فلأنها وإن كانت معروفاً فإنما يغتفر فيها على قول ابن القاسم ما اغتفره الشارع صلوات الله عليها لأنها عنده بيع فما وردت الرخصة به فيها كعدم المناجزة في العين اغتفر ، وما لم ترد به فهي على أصل البيع فيه ، وعدم اشتراط المناجزة مصرح به في الحديث الكريم حيث قال : ( ومن اتبع منكم ) الخ . إذ الاتباع لا مناجزة فيه ، وكذا يفهم منه أنه لا يشترط الكشف عن ذمة المحال عليه إذ المطلق على إطلاقه فلا يقيد إلا بنص صريح ، وإنما خص المليء بالذكر لأن الغالب في الناس الملاء كما أن الغالب فيهم جحد الديون من أصلها وإرادة الطعن في رسومها أو إثبات البراءة منها ، وإن لم يكن هذا غالباً فلا أقل أن يستويا كما هو مشاهد ، ولذا أمر الله تعالى بالإشهاد فقال : وأشهدوا إذا تبايعتم } ( البقرة : 282 ) وأياً ما كان فهو غرر كثير وليست هي متمحضة للمعروف كالهبة حتى يغتفر فيها الجهل بحصول العوض ، بل هي معاوضة حقيقة روعي فيها جانب المعروف بعدم اعتبار بعض شروط البيع فيها ، ولو كان كل ما روعي فيه جانب المعروف يغتفر فيه الجهل بحصول العوض لم يشترطوا في العرية أن تباع بخرصها أي بكيلها ، إذ لا حاجة له حينئذ ولأجل هذا قال ابن رشد : إذا خرجتالحوالة عن محل الرخصة أي بعدم الحلول يعني أو بعدم الحضور والإقرار على قول ابن القاسم فأجروها على قواعد البيع فإن أدت لممنوع وإلا فأجز اه . وأما ثانياً فإن ما ذكره من أنها معروف فإنما ذلك على إحدى الطريقتين كما نقله هو بنفسه عن المازري قائلاً : والحوالة ليست ببيع على إحدى الطريقتين عندنا بل طريقتها المعروف اه . ونحوه تقدم عن ابن عبد السلام في سر الخلاف بين ابن القاسم والغير ، وغالب النقول التي احتج بها على جواز الغرر بعدم الإقرار كلها في عدم اشتراط الكشف عن ذمة المحال عليه ، ولا يلزم من تشهيرهم عدم الكشف عن ذمته عدم اشتراط حضوره وإقراره ، إذ قد يحضر ويقر ولا يدري هل مليء أو معسر ، وإنما اغتفروا الكشف عنه على المشهور لأن غالب الناس الملاء والحكم للغالب وكونه عديماً نادر ، والغرر النادر مغتفر في البياعات إذ لو اعتبر الغرر النادر فيها ما جاز بيع بحال إذ ما من مبيع إلا ويجوز استحقاقه أو ظهور عيب به فلا يدري هل يتم فيه البيع أم لا ؟ ولكون غالب الناس الملاء علق في الحديث الكريم الاتباع على الملىء كما مر والله أعلم .
ولا يَجُوزُ أَنْ يُحالَ إلاّ
فِيمَا يُجَانِسُ لِدَيْنٍ حَلاَّ
( ولا يجوز أن يحال إلا فيما يجانس لدين حلا ) ( خ ) عاطفاً على شروطها وتساوي الدينين قدراً وصفة أي : لا تجوز الحوالة إلا إذا كان الدين المحال به مجانساً أي مماثلاً للدين المحال عليه في الجنس والقدر والصفة كذهب وذهب أو فضة وفضة أو عرض على مثله قدراً وصفة فلا يحال بعين على عرض أو على منافع عين لما فيه من فسخ الدين ولا بذهب على فضة ولا بدينار على دينارين لما فيه من ربا الفضل اللهم إلا أن يحيله على أحدهما فقط ويبقى الآخر لصاحبه أو يقبض العوض المحال عليه مكانه ، وأما المنافع فلا يجوز لأن قبض الأوائل ليس كقبض الأواخر ولا بالأدنى صفة على الأعلى كإحالته بيزيدية على محمدية ، وفي العكس وهو أن يحيله بالمحمدية على اليزيدية أو بالأكثر قدراً على الأقل منه كإحالته بدينارين على دينار تردد ( خ ) وفي تحوله على الأدنى أو الأقل تردد أي بالجواز . اللخمي والمازري : لأنه زيادة معروف والمنع لابن رشد وعياض وهو ظاهر العتبية والموازية لأنه يؤدي للتفاضل بين العينين ، وظاهر النظم أنه درج على ما لابن رشد لاقتصاره على التجانس أي في القدر والصفة ، فيفهم منه أنه الراجح عنده قاله ابن رشد . الثاني من شروط الحوالة : أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة لا أقل ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل ؛ لأنه إن كان أقل أو أكثر أو مخالفاً له في الصفة لم تكن حوالة وكان بيعاً على وجه المكايسة فيدخلها ما نهى عنه من الدين بالدين اه . ثم محل المنع في التحول على الأعلى صفة إذا لم يقبضه قبل الافتراق وإلاَّ جاز إن حلا معاً إذ ذاك حينئذ مبادلة وشرط جوازها الحلول والقبض ، وكذا محل المنع في المختلفين جنساً إذا لم يحلا ويقبضا في الحين كما قال :ولا تُحِلْ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فِي
ثانِيهِمَا إلاَّ إن القَبْضُ اقْتُفِي
( ولا تحل بأحد النقدين ) الحالين ( في ) أي على ( ثانيهما إلا أن القبض اقتفي ) أي اتبع بحضرة الثلاثة في مجلس لم يطل ، وقولي الحالين احترازاً مما إذا لم يحل المحال عليه ، فلا يجوز إذ صرف ما في الذمة شرطه الحلول ، وأما حلول المحال به فهو الموضوع .
وفي الطّعامِ ما إحَالَةٌ تَفِي
إلاّ إذَا كَانَا مَعاً مِنْ سَلَفِ
( وفي الطعام ما ) نافية ( إحالة ) مبتدأ خبره ( تفي ) أي تجيء والمجرور يتعلق به أي لا تجيء الحوالة في الطعام ولا تجوز فيه أنفق الطعامان أم لا . استوت رؤوس أموالهما أم لا . حلا أو احدهما أو لا . خلافاً لأشهب في إجازته إياها إذا اتفق الطعامان ورؤوس أموالهما على أنها من معنى الإقالة أو التولية إذ أخذ المثل عن مثله إقالة أو تولية ( إلا إذا كانا ) أي الطعامان ( معاً من سلف ) فتجوز حينئذ ، وإن لم يحل الدين المحال عليه لأن طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه بخلاف ما إذا كانا معاً من بيع فإنها لا تجوز ، ولو حلا ولو قبضه المحال بحضرة المحيل والمحال عليه لما فيه من بيع الطعام قبل قبضه إذ طعام البيع لا يقبضه إلا ربه ، فإذا قبضه المحال كان بيعاً له قبل قبضه قال ابن المواز .
وفي اجْتِمَاعِ سَلَفٍ وَقَرْضِ
يُشْتَرَطُ الحُلُولُ في ذَا الْقَبْضِ
( وفي اجتماع ) طعام ( سلف و ) طعام ( قرض يشترط ) في جواز الحوالة بأحدهما على الآخر ( الحلول ) أي في المحال به كما هو الموضوع و ( في ) الطعام ( ذا القبض ) أي المقبوض حساً وهو الدين المحال عليه كان هو السلم أو القرض ، فلا بد من حلولهما معاً وإلاَّ لم تجز على مذهب ابن القاسم وقال مالك وجميع أصحابه إلا ابن القاسم : تجوز وإن لم يحل المحال عليه بمنزلة ما إذا كانا معاً من سلف . ابن يونس : وقولهم أصوب ووجهه أن العلة التي هي البيع قبل القبض ضعفت عندهم لما كان أحدهما من بيع والآخر من سلم قاله أبو الحسن ، وأيضاً فإن العلة جارية ولو مع حلولهما معاً كما قاله ( ت ) وعلى قولهم عول ( خ ) حيث قال في تعداد شروطها : وأن لا يكوناطعامين من بيع الخ . أي بل كانا من سلف أو أحدهما ، فعلم من هذا أن مذهب ابن القاسم الذي درج عليه الناظم ضعيف ، فهذه أربعة شروط في كلام الناظم : حلول المحال به ، ورضا المحيل والمحال ، وتساوي الدينين وأن لا يكونا طعامين من بيع وبقي عليه شرط خامس وهو الصيغة . قال في الشامل : وشرطها صيغة بلفظها أي الخاص بها كأحلتك بحقك على فلان أو أنت محال به عليه ، ومثله في ( خ ) ابن ناجي : واشتراط الصيغة هو ظاهر الكتاب قال : وعليه لو قال خذ حقك من هذا أو يأمره بالدفع ليس بحوالة لأنه يقول ليس هذا احتيال بالحق ، وإنما أردت أن أكفيك التقاضي ، وإنما الحوالة أن تقول : أحيلك بالحق على هذا وهو نص سماع يحيى عن ابن القاسم اه . وعلى اشتراط الصيغة اقتصر ابن يونس واللخمي وأبو الحسن والفشتالي وفي وثائقه وأبو محمد صالح في شرح الرسالة وابن الفاكهاني ، ووقع لابن رشد في البيان أنها تكون بلفظها أو ما يقوم مقامه كخذ من هذا حقك وأنا بريء من دينك واستظهره ( ح ) وهو ظاهر قول ابن عرفة : الصيغة ما دل على ترك المحال دينه من ذمة المحيل بمثله في ذمة المحال عليه اه . وشرط سادس وهو وجود دين للمحيل في ذمة المحال عليه ، وكذا للمحال على المحيل فإن لم يكن دين للمحال على المحيل فهي وكالة لا حوالة وإن لم يكن دين للمحيل على المحال عليه فهي حمالة يشترط فيها رضا المحال عليه ، ولذا قالوا : لا يشترط رضا المحال عليه إلا في صورتين إحداهما هذه ، والثانية أن تكون بين المحال والمحال عليه عداوة ، وإذا كانت حمالة فإذا أعدم المحال عليه رجع المحال بدينه على المحيل ، وإذا أدى المحال عليه فإنه يرجع على المحيل بما أدى ولو مقوماً كما تقدم في باب الضمان ، وقولي : وجود دين أي كان ثابتاً ببينة أو إقرار أو تصديق المحال ( خ ) في تعداد شروطها وثبوت دين لازم فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة صح ، ثم فرع على توفر شروط الحوالة قوله : ويتحول حق المحال على المحال عليه وإن أفلس أو جحد إلا أن يعلم المحيل فقط بإفلاسه وحلف على نفيه إن ظن به العلم قال في المدونة : وإذا أحالك غريمك على من له عليه دين فرضيت باتباعه برئت ذمة غريمك ولا ترجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه اه . قال المغيرة : إلا أن يشترط المحال على المحيل الرجوع عليه إن أفلس فله شرطه ويرجع على المحيل ، ونقله الباجي كأنه المذهب ابن رشد ، وهذا صحيح لا أعلم فيه خلافاً . ابن عرفة : وفيه نظر لأن شرطه مناقض لعقد الحوالة وأصل المذهب في الشرط المناقض أنه يفسده اه . وقد ذكر ابن رحال ما يسقط اعتراض ابن عرفة فانظره ولا أقل أن يرد اعتراضه بأنها مع الشرط المذكور حوالة إذن وهي توكيل فلا يرد حينئذ ما قاله ثم مثل العلم بالإفلاس العلم باللدد فيفصل فيه بين أن يعلم به المحيل فقط فيرجع عليه وإلاَّ فلا . وأما علمه بأنه مسيءالقضاء ففيه قولان . أحدهما أنه كاللدد والآخر أنه لا يضر ، وأما علمه بأنه يجحد فإن كان معناه أنه علم من حاله أنه بعد تمام الحوالة يجحد إقراره الحاصل حين الحوالة ، فهذا لا يوجب رجوعه على المحيل فيما يظهر قاله ( ز ) وإن كان معناه أنه لم يوجد الدين في ذمته لا ببينة ولا بتصديق المحال فإنه لا حوالة حينئذ لاختلال شرطها .
فصل في بيع الخيارأي : الشرطي وهو كما لابن عرفة بيع وقف بته أولاً على إمضاء يتوقع الخ . فقوله : أولاً متعلق بوقف وخرج به الخيار الحكمي أي خيار النقيصة فإن بته لم يوقف أولاً بل آخراً . فيقال : فيه بيع آيل إلى خيار فهو متأخر عن العقد ، وسببه متقدم عليه بخلاف الخيار الشرطي فموجبه الذي هو الشرط مقارن للعقد . ( والثنيا ) أي وبيع الثنيا وهي خيار في الحقيقة إلا أنه شرط النقد فيه فالخيار إذا لم يشترط فيه نقد الثمن ليس بثنيا ، وإن اشترط فيه ذلك وشرط معه أنه إن أتاه بالثمن فمبيعه مردود عليه فهو الثنيا قال فيها : من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد له الثمن فالسلعة له لا يجوز بيعه لأنه سلف جر نفعاً اه . وهذا المعنى هو الذي خصه الأكثر بالثنيا وهو المعروف اليوم بذلك وإن كان ابن رشد : عممه في جميع الشروط المنافية للمقصود .
بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزُ الْوُقُوعِ
لأَجَلٍ يَلِيقُ بِالْمَبِيعِ
( بيع الخيار ) الذي يشترطه أحد المتبايعين على الآخر أو كل منهما على صاحبه أو جرت العادة باشتراطه لأنها كالشرط صراحة كما في ( ز ) ( جائز الوقوع ) حيث كان الخيار مضروباً ( لأجل ) معلوم ( يليق بالمبيع
كَالشَّهْرِ في الأَصْلِ وَبالأَيَّامِ
في غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ وَالطّعَامِ
كالشهر في الأصل ) من دار ونحوها وأدخلت الكاف ما زاد على الشهر بالشيء اليسير كالخمسة الأيام والستة ( و ) يؤجل ( بالأيام ) القلائل ( في غيره ) أي الأصل ( كالعبد ) فيؤجل الخيار فيه بالجمعة ونحوها ، وفي الدابة والثوب يؤجل الثلاثة الأيام ونحوها . ( والطعام ) الذي لا يفسد ويحتاج فيه الناس للمشورة يكون أجل الخيار فيه بقدر حاجة الناس مما لا يقع فيه تغيير ولا فسادقاله في المدونة . فقوله : لأجل أي معلوم كما في الأمثلة احترازاً من المجهول ككونه بالخيار إلى قدوم زيد أو إلى أن ينفق سوق السلعة الفلانية ولا وقت يعلم قدومه فيه أو نفاق سوق تلك السلعة فيه ، فإن البيع فاسد يرد مع القيام ويمضي بالقيمة مع الفوات ، ومفهوم قوله لأجل إنه إذا وقع بالخيار ولم يضربا له أجلاً معلوماً ولا مجهولاً يكون فاسداً وليس كذلك ففيها من ابتاع شيئاً بالخيار ولم يضربا له أجلاً جاز البيع وجعل له من الأمد ما ينبغي في تلك السلعة اه . فكتب عليه أبو الحسن ما نصه معناه : إذا عثر عليه قبل مضي أمد الخيار ، وأما إن لم يعثر عليه حتى مضى القدر الذي يضرب لتلك السلعة فإن الإمام يوقفه فأما أن يختار أو يرد اه .
قلت : هذا ظاهر إذا عثر عليه عند انقضاء الأمد المذكور ، وأما إن لم يعثر عليه حتى زاد على أمده بكثير فيظهر فساد البيع فتأمله والله أعلم . وإذا علمت هذا وجب أن يعلق قوله لأجل ببيع أو بالخيار لا بمحذوف شرط في الجواز كما هو ظاهره وقررناه عليه ، والتقدير بيع الخيار لأجل معلوم يليق بالمبيع جائز الوقوع ، فهو حينئذ ساكت عن بيع الخيار الذي لم يضرب له أجل فيستظهر عليه من خارج .
وهُوَ بِالاشْتِرَاطِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ النَّقْدِ
( وهو ) أي الخيار ( بالاشتراط عند العقد ) كما تقدم في حد ابن عرفة فإن لم يشترط فلا خيار ولو بالمجلس على مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وهو قول الفقهاء السبعة المجموعين في قول القائل :
ألا كل من لا يقتدي بأئمه
فقسمته ضيرى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وخالف الشافعي في ذلك متمسكاً بما ورد في الصحح من قوله عليه الصلاة والسلام : ( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ) . ووافقه على ذلك ابن حبيب وعبد الحميد الصائغ ولما ذكر أبو الحسن الحديث الكريم قال : حمل الشافعي الافتراق في الحديث على الافتراق بالأبدان ، وحمله مالك على الافتراق باللفظ اه . ولما ذكر مالك الحديث في موطئه قال : والعمل عندنا على خلافه أي عمل أهل المدينة على خلافه ، وإلى رد مذهب الشافعي ومن وافقه أشار ( خ ) بقوله : إنما الخيار بشرط كشهر في دار ولا تسكن وكجمعة في رقيق واستخدمه وكثلاثة في دابة الخ . ( ولا يجوز فيه ) أي في بيع الخيار ( شرط النقد ) وظاهره أنه يفسد البيع باشتراطه لأن الأصل فيما لايجوز الفساد وهو كذلك ، وإن لم يحصل النقد بالفعل على المعتمد لتردده مع حصوله بشرط بين السلفية والثمينة ولكون الغالب مع شرطه فقط حصوله فنزل الغالب ، وإن لم ينقد فيه حتى مضى زمن الخيار منزلة النقد بالفعل قاله ( ز ) وظاهره أيضاً أنه لا يصح البيع ولو حذف الشرط وهو كذلك بخلاف مسألة البيع بشرط السلف فإن البيع يصح إذا حذف الشرط كما قال ( خ ) : وصح أن حذف الخ . والفرق أن الغرر في شرط النقد أقوى إذ لا يدري هل المقبوض كله ثمن أو سلف بخلاف البيع بشرط السلف فثمن السلعة مقبوض ، والسلف وإن أثر في الثمن زيادة أو نقصاً فتأثيره موهوم غير محقق إذ يجوز أن يكون الثمن المجعول للسلعة هو ثمنها المعتاد لرغبة المشتري في السلعة يدفع ثمنها المعتاد ويزيده السلف ، أو لرغبة البائع في معاملة المشتري لاتصافه ونحو ذلك يبيعها بالمعتاد ويزيده السلف فغرر البيع ، والسلف أضعف من الأول كما هو ظاهر ، وهذا مراده في ضيح بأن الفساد في مسألة البيع موهوم خارج عن الماهية أي موجب الفساد موهوم لا محقق بخلاف مسألة النقد بشرط ، وأما قوله : خارج عن الماهية فلعل الصواب حذفه إلا أن يقال إنه تأكيد لما قبله لأنه إذا لم يتحقق وجوده في الماهية فهو خارج عنها فتأمله والله أعلم . ومفهوم شرط أنه إذا تطوع له بالنقد لم يمنع وهو كذلك ، وفهم منه أنه يجوز النقد بعد العقد تطوعاً وهو كذلك ، وفهم من تحديده أجل الخيار بما مر من الشهر والأيام أنه إذا زاد أجل الخيار على ذلك وعلى ما قرب منه يكون البيع فاسداً وهو كذلك ( خ ) وفسد بشرط مشاورة بعيد عن أمد الخيار ، أو مدة زائدة أو مجهولة أو غيبة أحدهما على ما لا يعرف بعينه أو لبس ثوب ورد أجرته ويلزم بانقضائه ورد في كالغد وبشرط نقد الخ . ثم إذا فسد بواحد من هذه الأمور فضمانه من بائعه إن هلك ولو بيد المشتري على الراجح ، وقيل : من المشتري إن قبضه انظر ( ح ) ولا بد ، وقول ( خ ) : ويلزم بانقضائه الخ أي بانقضاء أمده المشترط وانقضاء ما ألحق به من اليوم واليومين . وقوله : وورد في كالغد إنما هو في الزمن الملحق فلا تدافع في كلامه . قال في المدونة : وإن كان أي الرد بعد غروب الشمس من آخر أيام الخيار أو كالغد أو قرب ذلك فذلك له . قال أبو الحسن : يعني بالقرب اليوم واليومين والبعد ثلاثة أيام اه . وتقدم أن الخمسة أيام ملحقة بالشهر يعني في الدار يجوز أن يشترط في أجل خيارها شهر أو خمسة أيام مثلاً ، والكلام هنا فيما قرب من زمن الانقضاء يعني أنه إذا رد بعد انقضاء الأجل المشترط بيوم أو يومين فله ذلك فلا معارضة والله أعلم . وقد قال أبو الحسن عند قولها في الضمان إن قال للطالب فإن لم أوافك غداً فالذي تدعيه حق ، فهذه مخاطرة ولا شيء عليه ما نصه . وانظر ما قاله في بيع الخيار إذا كان الخيار للمبتاع فشرط عليه البائع أنه إن لم يأت بالثوب في آخر أيام الخيار لزمه البيع لم يجز هذا البيع . أرأيت إن مرض أو حبسه سلطان اه .
والْبَيْعُ بِالثُّنْيَا لِفَسْخِ دَاعِ
والخَرْجُ بِالضَّمَانِ لُلْمُبْتَاعِ
( والبيع بالثنيا ) أي بشرطها بأن يقول له في صلب العقد : أبيعك هذه السلعة على شرط أني إن أتيتك بثمنها وقت كذا أو مهما أتيتك بثمنها فهي مردودة علي ( لفسخ داع ) لفساده واختلففي علته فعلله في بيوع الآجال منها بالبيع والسلف . أبو الحسن : معناه تارة يكون بيعاً وتارة يكون سلفاً أي لأنه خيار بشرط النقد وجعلا مدته أكثر من مدة الخيار إن حداه بأجل أو لمدة مجهولة إن لم يحداه ، وعلله سحنون وابن الماجشون وغيرهما بأنه سلف جر نفعاً ، وبه عللت المدونة أيضاً في نصها الأول عند قوله : والثنيا الخ . وعلى الأول فهو بيع فاسد يفسخ ولو أسقط الشرط على المذهب كما مر ما لم يفت فيمضي بالقيمة وفوات الأصول بالهدم والبناء والغرس لا بحوالة الأسواق ، وهل يفوت بطول الزمان كالعشرين سنة ؟ قولان . أرجحهما على ما قاله ( ت ) في تحفة الإخوان فواته بذلك ، وقال في المهذب الرائق : ولا يفيت الأصول حوالة الأسواق ولا طول الزمان وبه القضاء . قال ابن أبي زمنين : إلا ما كان مثل عشرين عاماً ونحوها اه . وعلى الثاني فهو رهن يفسخ أبداً ولا يفوت بشيء بهدم ولا غيره ويرد المشتري فيه الغلة ولو طال الزمان ، والناظم درج على الأول لأنه المشهور المعمول به في وقته ولذا قال : ( والخرج ) بسكون الراء لغة في الخراج اجتمعتا في قوله تعالى : أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير } ( المؤمنون : 72 ) ( بالضمان للمبتاع ) ظاهره كان لأجل أم لا . أي الغلة فيه للمشتري لأنه بيع فاسد ينتقل ضمانه بالقبض ، ومن عليه الضمان فله الغلة إلا ثمرة مأبورة يوم الشراء فإنها ليست بغلة لأن لها حصة من الثمن فيجب ردها معه إن كانت قائمة ورد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت أو جذت رطباً .
ولا كِرَاءَ فِيهِ هَبْهُ لأَجَلْ
أوْ لاَ وَذَا الَّذِي به جَرَى العَمَلْ
( ولا كراء ) ولا غلة ( فيه ) أي في بيع الثنيا ويفوز المشتري بالثمرة بالزهو وهو ظهور الحلاوة وإن ظهر في نخلة واحدة من نخيل كثير على المعروف من المذهب في فوز المشتري بالغلة في البيع الفاسد بذلك ، وأما إن طابت فهو أحرى ( هبه ) أي بيعها ( لأجل أو لا وذا ) أي كونه لا كراء ولا غلة فيه للبائع على المشتري مطلقاً هو المشهور ( الذي به جرى العمل ) عند القضاة كمافي مختصر المتيطية ، وهو قول مالك وابن القاسم وعليه الأكثر ، ومقابله أنه رهن لأنه سلف بمنفعة فالغلة للبائع لا للمبتاع قاله الشيخ أحمد زروق وهو المشهور . قال عبد الباقي : وهو ظاهر من جهة المعنى وهو توافقه مع المشتري على أن يرد له المبيع ، وعلل أيضاً بأنها ثمن السلف وهو حرام محرم ، وفي وثائق ابن مغيث عن القابسي أن حكمه قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح فالغلة فيه للبائع لأنه بمنزلة الرهن وهو بعد انقضاء الأجل بمنزلة البيوع الفاسدة اه . أي : فالغلة فيه للمشتري وليس في هذا البيت زيادة على ما أفاده الشطر الذي قبله إلا ما أفاده من الخلاف والتعميم في نفي الغلة نصاً وجريان العمل .
تنبيهات . الأول : يجب أن يقيد الخلاف المذكور بما إذا لم يجر العرف بالرهنية كما عندنا اليوم ، ولذا يقع البيع بأقل من الثمن المعتاد بكثير ويسمونه بيعاً وإقالة فيبيع الرجل بالإقالة ما يساوي الألف بخمسمائة أو ما يساوي المائة بستين أو بثلاثين ونحو ذلك . فلا يختلفون أنها رهن حيث اشترطت الإقالة في العقد إذ لم يسمح البائع بسلعته إلا على ذلك وتجد البائع إذا سئل عن سلعته أو أرضه يقول : إنها مرهونة ويطلب زيادة الثمن فيها ويعرضها للبيع وهي بيد مشتريها ، وإذا سئل المشتري عنها أيضاً قال : إنها مرهونة عندي أو عندي فيها بيع وإقالة وأن البائع لم يكمل البيع فيها ونحو ذلك فالبيع والإقالة عندهم مرادف للرهن يعبر بأحدهما عن الآخر ، فعرف الناس اليوم ومقصودهم في هذا البيع إنما هو الرهنية كما هو مشاهد بالعيان ، وإذا كان العرف فيها الرهنية فيتفق على رد الغلة وعدم الفوات لأن الأحكام تدور مع الأعراف ومقاصد الناس ومن أدل دليل على الرهنية كونه بأقل من الثمن المعتاد بكثير إلى غير ذلك وقد قالوا كما للقرافي وغيره : إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور ، ولهذا لما سئل الإمام قاضي القضاة سيدي عيسى السجستاني حسبما في نوازله عن بيع الثنيا في هذا الزمان هل تفوت بأنواع التفويت لأنها بيع فاسد ، وكيف إذا جهل قصد المفوت ؟ فقال : الذي أفتي به في بياعات نواحي سوس وجبال درن أنها رهون لأنهم يعتقدون أنها على ملك بائعها ويطلبون فيها زيادة الأثمان والمبيع بيد مشتريه ، وإذا كان هكذا فلا يفوت بشيء بل هي على ملك الأول إلا أن يرضى بإمضاء البيع فيها والسلام اه . بلفظه . ولا يخفى أنها في نواحي فاس وجبالها كذلك ولا يشك منصف فيه والله أعلم . وفي نوازل الزياتي أيضاً ما نص الغرض منه : سئل بعض الفقهاء عن الغلة في بيع الثنيا وكيف الحكم إن كان عرف البلد الرهنية إلا أنهما تحيلا بكتب البيع مخافة الغلة ؟ فأجاب : في المسألة قولان . قيل : الغلة للمشتري ، وقيل : للبائع . وأما إن كان عرف البلد أنهم يعتقدون الثنيا في بيوتهم ويتحرفون بكتب البيع مخافة الغلة فإن الغلة لازمة للمشتري قولاً واحداً معيمين الراهن أنه كان رهناً في نفس الأمر ، وبهذا صدرت الفتوى من أهلها اه . بلفظه ، وفيه أيضاً عن سيدي علي بن هارون ما نصه : اختلف في بيع الثنيا فقيل إنه من باب البيع الفاسد ، وقيل إنه سلف جر منفعة وهو الذي يترجح في هذا البيع لأن مقصود الناس أن يأكلوا الغلة في مقابلة السلف الذي سموه ثمناً ثم قال : فعلى قول ابن القاسم لا يرد الغلة وعلى قول غيره يردها ، ويترجح هذا القول كما قدرناه ليعرف الناس والله أعلم . وكتبه علي بن هارون اه . باختصار . وهذا مما لا يمكن أن يختلف فيه اثنان في هذه الأزمان لأن العرف كالشرط بلا نزاع ، وانظر ما يأتي قريباً عند قوله : فالقول قول مدع للطوع الخ . فإن فيه تأييداً لما قلناه والله أعلم .
الثاني : يفهم من قول الناظم وغيره : والخرج بالضمان الخ . أن الغلة إنما تكون للمشتري على القول بأنها بيع فاسد إذا قبض ذلك المبيع لأن الضمان إنما ينتقل للمشتري في الفاسد بالقبض كما في ( خ ) وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ورد ولا غلة تصحبه الخ . وأما إذا لم يقبض المشتري ذلك المبيع بل تركه بيد البائع بإجارة أو اشترى منه البستان ونحوه بالثنيا وتركه بيده بمساقاة ونحوها ليأتيه بغلته ، فإنه لا غلة للمشتري قولاً واحداً لأنه لم ينتقل ضمانه إليه ، وسواء كان الشراء بالثمن المعتاد أو بأقل بكثير أو قليل بدليل التعليل بل لو قبضه ثم رده إليه بعقد إجارة أو مساقاة أو نحوهما لم تكن له غلة لأن ما خرج من اليد عاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال قاله ( ح ) .
الثالث : على القول بأنه بيع فاسد إذا وقع الإمضاء فيه قبل فسخ العقد الفاسد فإنه لا يصح لأنه تتميم للفساد . قال أبو الحسن : المنصوص في كل موضع أن البيع الفاسد لا يصح إمضاء البيع فيه إلا بعد فسخ العقدة الفاسدة ، وإذا لم يتعرض لفسخها فسخت الثانية وبقيت الأولى على فسادها اه .
وَالشَّرْحُ لِلثُنْيَا رُجُوعُ ملْكِ مَنْ
بَاعَ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الثَّمَنْ
( والشرح للثنيا ) أي لحقيقتها وماهيتها هو ( رجوع ملك من باع إليه ) أي إلى البائع ( عند إحضار ) البائع ( الثمن ) ودفعه للمشتري كما تقدم في نص المدونة ، وعليه الأكثر خلافاً لابن رشدحيث عممها في بياعات الشروط كما مرّ . وفي كلام الناظم مخالفة للترتيب الطبيعي إذ هو يقتضي تقديم هذا البيت على قوله : والبيع بالثنيا لفسخ داع الخ . لأن التصور مقدم على الحكم طبعاً فينبغي تقديمه وضعاً كما قال في السلم :
إدراك مفرد تصوراً علم
ودرك نسبة بتصديق وسم
وقدم الأول عند الوضع
لأنه مقدم بالطبع
وتقديمه إنما هو على جهة الأولوية لا على جهة الوجوب ، لأنه وارد في العربية ، ولا يلزم عليه دور ولا غيره حتى يمنع فهو كقول ( خ ) : يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وكقوله في الدماء : واقتص من موضحة أوضحت عظم الرأس الخ . وكقوله في الحديث : ( لها كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ) : فلو قالوا لا لأراهم إياها وصورها لهم ، وإذا علمت هذا فالجواب عما ورد من ذلك بأنه من باب تقديم الحكم على التصوير لا على التصور ، والممنوع إنما هو الثاني كما قالوه عند قول ( خ ) : يرفع الحدث . الخ . كله غير سديد ، لأن ذلك إن كان بالنسبة للمخاطب كما هو المتبادر من كلامهم فالحكم واحد لما علمت من أن التصوير فعل الفاعل وهو أيضاً حد للصورة وشرحه إياها ، والتصور حصول صورة الشيء في الذهن بسبب ذلك التصوير أو بغيره فيلزم من التصوير حصول الصورة ، والمقدم على الأصل مقدم على الفرع ، فيلزم من تقديمه على التصوير تقديمه على التصور ، وإنما الجواب الحق أن يقال : تقديم الحكم على التصور بالنسبة للمخاطب غير ممنوع لأن المخاطب قد يكون تصور الشيء من جهة أخرى ، وإذا لم يتصوره صوره له المتكلم بعد إن شاء أو إن سأله المخاطب عنه كما فعل الناظم و ( خ ) وإذا لم يسئل عنه لكونه مصوراً عنده لم يصوره له كما في الحديث ، وليس هذا من باب إدخال الحكم في الحد حتى يكون ممنوعاً كما قال في السلم :
وعندهم من جملة المردود
أن تدخل الأحكام في الحدود
لأن الناظم لم يدخل الحكم في الحد كما ترى ، وإنما قدمه عليه والله أعلم . وإن كان ذلك بالنسبة للمتكلم فمن أين لنا بأن الناظم ونحوه لم يتصوره بل تصوره عند الحكم بالفسخ ثم صوره للغير بعد ذلك ، وعليه فلا حاجة لهذا الإيراد بالكلية إذ لا يحكم أحد على غيره بأنه لم يتصور كذا وهو لم يطلع على ما في ضميره حتى يحتاج للجواب عنه ، وحينئذ فقولهم لأن الحكم على الشيء فرع تصوره هذا صحيح بالنسبة للمتكلم إذا اطلعنا على ما في ضميره وأنه حكم قبل أن يتصور حقيقة الشيء المحكوم عليه فيقال له حينئذ : كان ينبغي لك أن لا تحكم على شيء حتى تتصوره ، وأما بالنسبة للمخاطب فلا لأنه قد يحكم له على الشيء ، ثم بعد ذلك يصور له ذلك الشيء إن لم يكن عرفه ، وقد لا يصور له بالكلية لكونه قد عرفه من جهة أخرى أو يسأل عن حقيقته شخصاً آخر كقولهم : صحت الإجارة ، وكقولهم صح وقف مملوك ونحو ذلك مما هو كثير فقد حكموا بالصحة قبل أن يصوروا المحكوم عليه للمخاطب لكونه معروفاً عنده ، أو لكونه يسأل عنه الغير .
وَجَازَ إنْ وَقَعَ بَعْدَ العَقْدِ
طَوْعاً بِحْدَ وَبِغَيْرِ حَدِّ( وجاز ) أي البيع بالثنيا ( إن وقع ) بين البائع والمشتري ( بعد ) انبرام ( العقد ) وتمامه ( طوعاً ) منهما ( بحد ) كقول المشتري للبائع : إن جئتني بالثمن لسنة أو عشرين سنة مثلاً فالمبيع مردود عليك ( أو بغير حد ) كقوله : متى جئتني بالثمن فالمبيع لك قال الفقيه راشد في جواب له نقله في المعيار : وهذه الإقالة يعني التطوع بها بعد العقد قد أجازوها إلى غير غاية وإلى غير حد مؤجل ، وأجازوها أيضاً إلى أجل قريب أو بعيد اه
ثم إنه في المطلقة متى أتاه بالثمن لزمه رد المبيع إليه ، ويجوز للمشتري فيه التفويت بالبيع أو غيره ، ويفوت به على البائع المقال إلا أن يفيته بالفور مما يرى أنه أراد قطع ما أوجبه على نفسه كما لابن رشد ، ونقله ابن عرفة وغيره وهو قول ( خ ) لا إن قصد بالبيع الإفاتة . قال ابن رشد القفصي : فإن قام عليه حين أراد التفويت فعلى السلطان منعه من تفويته إذا أحضره البائع الثمن فإن باعه بعد أن منعه السلطان رد وإن باعه قبل القضاء عليه بذلك نفذ البيع اه . وأما في المقيدة فلا يجوز له تفويته فإن فوته رد على ما للموثقين ، وقيده الباجي بما إذا لم يبعد أجلها كالعشرين سنة فيكون حكمها حكم المبهمة في فواتها على البائع وعدم ردها ، وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه بيوم ونحوه لا أكثر لزمه قبوله ورد المبيع على بائعه ، ولا كلام له في أنه لا يقبض الثمن إلا بعد الأجل كما صرح به المتيطي والقفصي في وثائقهما ، وصرح به أيضاً العبدوسي في جواب له ، وانظر إذا لم يأت بالثمن حتى انقضى الأجل بأيام فلم يقبل منه وأراد القيام بالغبن هل تعتبر السنة من يوم البيع أو يوم الانقضاء وهو الظاهر لأنه اليوم الذي تم فيه البيع والله أعلم . ثم ما قررناه به من أن كلامه في الثنيا وهو ظاهر سياقه وبه يرتبط الكلام بعضه ببعض ، ويحتمل على بعد أنه أشار إلى مسألة الخيار بعد البت المشار إليها بقول ( خ ) : وصح بيع بت الخ . ويكون المعنى وجاز الخيار إن وقع بعد العقد بأجل وبغير أجل ، لكن إن وقع بغير أجل لا بد أن يضربا له من الأجل ما يليق بذلك المبيع كما كر أول الفصل فقوله حينئذ : وبغير حد أي وقع الخيار بعد العقد ولم يتعرضا لأجل ، لكن يضرب له من الأجل ما يليق بالمبيع كما مر ففيها من اشترى سلعة من رجل ثم جعل أحدهما لصاحبه الخيار بعد تمام البيع ، فذلك جائز وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها من غير البائع الخ .تنبيهات . الأول : قال ابن عرفة : لا أعلم مستنداً لأقوال الشيوخ بصحة الطوع بالثنيا بعد العقد لأن التزامها إن عد من جهة المبتاع عقداً بتاً فهو من جهة البائع خيار فيجب تأجيله لقولها : من اشترى من رجل سلعة إلى آخر ما مرّ قريباً مع قولها من ابتاع سلعة بالخيار ولم يضربا أجلاً جاز وضرب له من الأجل ما ينبغي في مثل تلك السلعة اه . ونقله ( ح ) في التزاماته وقال عقبه . قلت : الظاهر أنه ليس هنا عقد بيع ، وإنما هو معروف أوجبه على نفسه والله أعلم اه .
قلت : مستندهم في ذلك ظاهر ، وهو أن المشتري إنما أوجب على نفسه البيع عند الإتيان بالثمن كما قاله أبو الفضل راشد في جواب له طويل . ومحصله أنه لا يقع الإيجاب في الإقالة بنفس القول ، وإنما يقع الإيجاب بعد المجيء بالثمن وأنه ليس في الحالة الراهنة إلا التزام وتعليق على وجه المعروف ، وإنما يوجد البيع في ثاني حال حيث يوجد المعلق عليه .
الثاني : الثمرة المؤبرة الحادثة في الثنيا المتطوع بها بعد العقد كما هو موضوعنا للمشتري المقيل عملاً بقول ( خ ) : ولا الشجر المؤبر الخ . وأحرى إذا أزهت أو طابت ، وقول ابن هلال في نوازله : والثمرة للبائع المقال مطلقاً أبرت أم لا . لأن المبتاع ألزم نفسه متبرعاً بأن البائع متى أتاه بالثمن فالمبيع مردود عليه ، وقد فرقوا بين ما توجبه الأحكام وما يوجبه المرء على نفسه اه . تعقبه بعض بأنه كلام غير صحيح لأن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها ، فإذا جاء المقال بالثمن فحينئذ يقع البيع كما مر عن أبي الفضل راشد فتكون الثمرة المأبورة للمقيل الذي هو المبتاع إلا أن يشترطها البائع الذي هو المقال اه .
الثالث : إذا مات المتطوع بالثنيا قبل الأخذ بها بطلت كانت لأجل أو لغير أجل كما هو ظاهر إطلاقاتهم لأنها هبة لم تقبض قاله أبو الفضل راشد واختاره أبو الحسن . قال القوري حسبما في نوازل الزياتي وبه القضاء والفتوى ، وقال أبو إبراهيم الأعرج . لا تبطل بناء على أنها بيع ، وأما إذا مات البائع فوارثه بمنزلته اتفاقاً .
الرابع : إذا وقعت الإقالة مطلقة ولم يقل إن أتيتني بالثمن فأفتى فيها بعض بأنها إقالة لازمة للمشتري ولورثته قال : لأن القاعدة المذهبية أن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها وعقود المعاوضات لا تفتقر إلى حيازة وليست هذه من ناحية من أوجب على نفسه الإقالة إذا أتى بالثمن الذي اختلف فيه أبو الفضل راشد وأبو إبراهيم للفرق الظاهر بين المطلقة والمقيدة من وجوه لا تخفى منها : أن الإقالة المختلف فيها بين من ذكر هبة لأنها تجوز لغير أجل بإجماع ولو كانت بيعاً لما جازت لغير أجل ، والإقالة المطلقة بخلاف ذلك لأنها بيع يشترط فيها شروطه ، ومنها : أن المقيدة إذا تصرف فيها المتطوع ببيع أو نحوه قبل أن يأتيه بالثمن مضى تصرفه حتى قال اللخمي : إن ذلك يجوز له ابتداء إذا وقعت لغير أجل ولو كانت بيعاً محضاً جاز له ذلك لأنه تصرف في ملك الغير ، ومنها : أن المقيدة الغلة فيها للمشتري وعليه الضمان ما دام البائع لم يأته بالثمن وذلك دليل على أنها على ملكه بخلاف المطلقة فضمانها من المقال والغلة له من يوم العقد ،وهذا أمر لا يختلف فيه . ومنها : أن المقيدة لم تقع فيها إقالة أصلاً وإنما وقع فيها تعليق إنشاء الإقالة عند الإتيان بالثمن ، فإذا مات المشتري قبل الإتيان به فقد مات قبل وقوعها وقبل أن يخاطب بها فهي عند موته على ملكه وتنتقل إلى ورثته ففاتت كما تفوت إذا باعها المشتري المقيل ، ولا كذلك المطلقة فإنها بيع قد تم بالإيجاب والقبول اه . باختصار من خط أبي العباس الملوي رحمه الله .
الخامس : أن المبتاع إذا بنى في الدار أو غرس في الأرض بعد أن طاع بذلك للبائع وقبل انقضاء الأجل فقال ابن رشد : له قيمته منقوضاً لتعديه كما إذا بنى البائع في دار باعها على أن المبتاع بالخيار قبل انقضاء أمد الخيار أو بنى المبتاع قبل انقضاء أمد الخيار وكان الخيار للبائع اه .
قلت : هذا إذا كانت مؤجلة بأجل ، وأما إذا كانت غير مؤجلة فيفهم منه أن البناء والغرس فوت على المقال فلا سبيل له إليها بمنزلة البيع كما مر .
السادس : الشفعة ثابتة في هذا البيع الذي تطوع فيه بالإقالة ، ولو حصلت الإقالة بالفعل ما لم يجر العرف بشرطية ذلك في العقد كما يأتي قريباً وإلاَّ فهو بيع فاسد لا شفعة فيه أصلاً إلا بعد فواته إن قلنا إنها رهن كما مر .
السابع : إذا أحضر البائع الثمن قبل انقضاء الأجل أو عنده أو أحضره في حياة المتطوع في المطلقة فلم يقبله المتطوع المذكور حتى مات أو انقضى الأجل بأيام فقال سيدي يحيى : المتقدم ذكره إذا أثبت البائع أو ورثته ذلك فإنه ينفعهم ويرد إليهم الأصل بذلك ولا يفوت عليهم بموته ولا بانقضاء الأجل .
الثامن : اختلف إذا باعه شيئاً عقاراً أو غيره وطلب البائع الإقالة فقال له : أخاف أن تبيعه لغيري فقال : إن أو إذا بعته لغيرك فهو لك بالثمن الأول وبالذي أبيعه به فأقاله المشتري ، فإذا باعه البائع لغيره ، فهو له ، إن باعه بالقرب على ما في سماع ابن خالد لابن القاسم وابن كنانة لا إن باعها بعد بُعد ، والقرب أن يبيعها في زمن تلحقه فيه التهمة ، والبعد أن يبيعها بعد زمان تنقطع فيه التهمة عن البائع ويظهر منه حدوث رغبة في البيع كما في المتيطية ، هذا إذا عبّر بأن أو إذا كما مرّ ، وأما إذا عبر بمتى فهو له ولو باعه بعد بُعد لأن متى لا تقتضي قرب الزمان كما قاله ابن رشد قال : وإنما جاز هذا الشرط في الإقالة لأنها معروف ، ولمحمد بن خالد أن الإقالة على هذا الشرط لا تجوز كالبيع اه . البرزلي أوائل البيوع من ديوانه عن المازري ، والمشهور من المذهب فساد هذه الإقالة لما في ذلك من التحجير وهي بيع من البيوع ، فإذا نزلت فسخت الإقالة وإن طال ذلك وفاتت الأرض ونحوها بالبيع مضى البيع وفاتت الإقالة به لأنه بيع صحيح اه . ثم ما تقدم من الفرق بين إن ومتى هو ما فهمه ابن رشد وفهم صاحب ضيح أنه لا فرق بينهما لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والبعد . وفي الالتزامات لابن رشد قول ثالث وهو أنه إن استقاله فقال : أخشى أنك إنما سألتني الإقالة أو البيع لربح ظهر لك لا لرغبة في المبيع فقال : بل لرغبتي فيه فأقاله أو باعه على أنه أحق به إن باعه فهو أحق به بالقرب وإن لم يقل له شيء من ذلك ، وإنما أقاله أو باعه على أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن لم يجز ذلك في البيع ، ويختلف في الإقالة لأن بابها المعروف لا المكايسة اه . وقد تحصل أن في المسألة أقوالاً مشهورها الفساد ،والثاني اختيار ابن رشد ، والثالث صحة الإقالة ويفرق بين القرب والبعد ، وهل يشترط أن يعبر بإن أو إذا لا بمتى وإلا لزمه الشرط ، وإن باع بعد طول . وهو فهم ابن رشد أو مطلقاً وهو ظاهر كلام ضيح لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والعبد ، وعلى القول بصحة الإقالة هنا تستثنى هذه المسألة ومسألة التطوع بها بعد العقد من قولهم : لا يقبل البيع تعليقاً كما قيل :
لا يقبل التعليق بيع ونكاح
فلا يصح بعت ذا إن جا فلاح والفرق بين هذه وبين التطوع بالإقالة حتى جرى في هذه خلاف ، وجاز التطوع بإجماع ظاهر لأنه في التطوع التزم بعد العقد أن ينشىء المبيع عند الإتيان بالثمن كما مر . وهذه التزم في صلب عقد الإقالة إنه إن باعها فهو أحق بها والله أعلم . وعلى القول بصحة الإقالة فهل تبطل بموت المقال لأنها معروف كما مرّ عن ابن رشد وبه أفتى بعضهم . قال أبو العباس الملوي : ويظهر لي أنها لا تبطل بموته بل هي لازمة لورثته لأن الظاهر في المسألة أنها من باب الالتزام المعلق على فعل الملتزم له ، وذلك لأن المقال التزم للمقيل أنه إن باعها فهو أحق بها على شرط أن يقبله فليست المسألة من باب التبرع المحض ، وإنما هي من باب هبة الثواب . وقد ذكره في الالتزامات في التنبيه الثالث قبل الكلام على بيع الثنيا أن الالتزام على الفعل المعلق على فعل الملتزم له لا يبطل بالموت لأنه معاوضة ، وتقدم قبل التنبيه المذكور : من التزم لغيره مالاً على أن يطلق زوجته لا يفتقر لحيازة وتقدم صدر الالتزامات قول ابن رشد : من التزم نفقة زوجة ولده في صلب العقد فإنها لا تسقط بموته ، وتأمل قولهم : لا تفتقر النحلة إلى حيازة فالجاري على قواعد المذهب لزوم ذلك لورثته إن لم يحصل طول لأنه ليس بمعروف صرف حتى يبطل بالموت ، وإنما هي معاوضة لأنه ما أقاله إلا ليلتزم ، وأما ما ذكروه في الطوع بالثنيا من النزاع بين الفقيه راشد وغيره ، فليس من هذا الباب لأن ذلك طوع بالإقالة لا شرط فيه اه . باختصار من خطه رحمه الله ، وإنما أطلت في هذه المسألة لكثرة وقوعها . ومن الفقهاء المهرة من يقول بصحة الإقالة فيها ، ولا سيما وهو قول مالك وابن القاسم قال في الالتزامات بعد نقل قولي مالك وابن القاسم بالجواز ، ونقل كلام ابن رشد واختياره ما نصه : الحاصل أن هذا الشرط لا يجوز في البيع ويفسده وليس في ذلك خلاف ، وأما في الإقالة فاختلف قول مالك وابن القاسم بجوازه ، ولذلك اقتصر عليه أي على جوازه الشيخ خليل في كلامه السابق في شروط النكاح ، واقتصر عليه أيضاً غير واحد من الموثقين ، والخلاف جار ولو كان في أمة فإن المسألة مفروضة في سماع محمد بن خالد فيمن يبيعه أرضه أو جاريته ثم يستقيله ، ومقتضى كلامهم أن ذلك لا يوجب منع البائع من وطئها بعد الإقالة وهو ظاهر والله أعلم اه . فكلامه هذا يفيد أن المعتمد في المسألة هو الجواز ، ولذلك اقتصر عليه في ضيح كما قال : ولا سيما وقد ذكره في ضيح في معرض الاحتجاج على أن المرأة إذا وضعت شيئاً من صداقها خوف طلاقها فإن طلقها بالقرب رجعت بما وضعت وإلاَّ فلا . قال : كما قالوا إذا سأل البائع المشتري الإقالة فقال له المشتري : إنما مرادك البيع لغيري ، فيقول له البائع : متى بعتها فهي لك بالثمن الأول أنه إن باع عقب الإقالة أو قريباً منها فللبائع شرطه وإن باع بعد طول أو لحدوث سبب فالبيع ماض اه . ومثله لابن عبد السلام . ومعلوم أنه لا يحتج بمختلف فيه فقد نزلا القائل بالمنع منزلة العدم ولو كان القول بالمنع مشهوراً كما قال المازري ما صح لهما الاحتجاج ، وقد علمت أنه في سماعمحمد بن خالد ومثله لسحنون في سماعه عن ابن القاسم أيضاً وأنه قول مالك في سماع أشهب وابن القاسم أيضاً مستدلاً على جواز الإقالة المذكورة بمسألة الوضيعة للطلاق ، وصحح استدلاله ابن رشد كما في الالتزامات وذلك كله من أدل دليل على أرجحيته . ولذا اقتصر عليه الناظم في فصل الإقالة ، وكذا اقتصر عليه غير واحد من الموثقين ، والاقتصار من علامات التشهير وعليه فاعتراض ( ت ) والشيخ بناني في حاشيتهما على ( ز ) الذي اعتمد الجواز في المسألة تبعاً للأجهوري بتشهير المازري ، وبقول ابن رشد الذي يوجبه القياس ، والنظر عندي أنه لا فرق بين الإقالة والبيع في هذا الخ . لا يتم ولا يحسن لما علمت من قوة القول بالجواز وتحصيل ( ح ) يفيد أنه المعتمد ، ولأن ابن رشد لم يقتصر على هذا ، بل زاد واختار التفصيل الذي تقدم عنه ، فاختياره قول ثالث كما مر ، ولأنه لما تكلم على ما في سماع سحنون صحح الجواز وعضده ، ولأن التحجير الذي في كلام المازري ينتفي بالطول الذي تنتفي معه التهمة فيمضي تصرفه أو لأنه مغتفر لجانب المعروف ، ولأن ( ح ) لم يعرج على تشهير المازري في الالتزامات أصلاً ، وكذا لم يذكره ابن عرفة ولا غيره ، ولما نقل ( ح ) كلام المازري عند قول المصنف والإقالة بيع قال : والمسألة مذكورة في ابن عبد السلام وضيح وبهرام الكبير في فصل الصداق إشارة منه إلى أن الجماعة على خلاف تشهيره ، وكذا المواق فإنه قال عند قول ( خ ) : كان لا يبيع ما نصه الإقالة بيع فإن أقاله على أن لا يبيع فبينها وبين البيع على هذا الشرط فرق كالزوجة تضع مهرها على شرط أن لا يطلقها الخ . فلم يعرج على تشهير المازري الذي نقله البرزلي مع أنه كثيراً ما ينقل كلامه ، بل اعتمد في ذلك نص الرواية ولأنهم قالوا كما للشيخ طفي وغيره : إذا اتفق قول سحنون وابن القاسم لا يعدل عنه فكيف إذا وافقهما قول الإمام ؟ ذكر ذلك في باب الزكاة ، وبما لمالك في سماع أشهب أفتى سيدي أحمد بن عبد الوهاب الشريف حسبما في نوازل العلمي ، وما كان يخفى على مثله ولا على غيره تشهير المازري والله أعلم .
وَحَيْثُمَا شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ
فَالأَحْسَنُ الكَتْبِ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلْ
( وحيثما شرط على الطوع جعل ) لو قال وحيثما الثنيا لسلم من التدافع الذي بين شرط وطوع قاله ( ت ) ( فالأحسن الكتب ) لذلك الطوع ( بعقد مستقل ) عن رسم البيع قاله ابن مغيث ، والذي مضى عليه العمل أن يكتب في عقد الطوع بالثنيا على انفراده لأنه أبعد من المظنة وإن وقع ذلك في عقد الابتياع أي قبل تقييد الإشهاد وبعد وصف البيع بأنه لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار جاز ذلك اه . ونحوه في المتيطية وابن سلمون . ثم إذا كتب ذلك الطوع في عقد مستقل أو في آخر رسم الابتياع وادعى أحدهما أن ذلك إنما كان شرطاً مدخولاً عليه والآخر أنه طوع حقيقي .وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعٍ لِلطّوْعِ
لا مُدَّعِيَ الشَّرْطِ بِنَفْسِ البَيْعِ
( فالقول قول مدع للطوع ) بيمين وقيل بلا يمين للبينة التي قامت له وثالثها يحلف المتهم فقط ( لا ) قول ( مدعي الشرط بنفس البيع ) وأنهما دخلا على الثنيا في أصل العقد . هذا قول ابن العطار قائلاً لأن الأصل في العقود الصحة ، وفي طرر ابن عات عن المشاور إن القول لمدعي الشرطية فيحلف ويفسخ البيع لما جرى من عرف الناس قال : وبذلك الفتوى عندنا اه . ولذا اعترض الشارح هذا البيت على أبيه قائلاً : إن ابن العطار وقف مع قولهم أن القول لمدعي الصحة دون ما قيد من قولهم إلا حيث يغلب الفساد يعني وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد فيجب أن يكون القول فيها لمدعيه كما قال ابن الفخار اه . ومما يرجحه قول ابن فرحون في تبصرته إذا اختلف المتبايعان في صحة العقد وفساده فالقول لمدعي الصحة إلا أن يكون جل أهل ذلك البلد أن معاملتهم على المكروه والحرام فالقول قول مدعي ذلك مع يمينه لأن استفاضة ذلك وشهرته في البلد صار كالبينة القاطعة والشهادة التامة وعلى مدعي الحلال البينة اه . هو قول ( خ ) والقول لمدعي الصحة إلا أن يغلب الفساد اه . وظاهر هذا أن الخلاف جار ولو نص في الوثيقة أن البيع وقع دون شرط ولا ثنيا ولا خيار وهو كذلك كما في البرزلي ، ونقله العلمي أيضاً . وفي المعيار سئل ابن رشد عما يكتب من الشروط على الطوع والعرف يقتضي شرطيتها فقال : إذا اقتضى العرف شرطيتها فهي محمولة على ذلك ولا ينظر لكتبها على الطوع لأن الكتاب يتساهلون فيها وهو خطأ ممن فعله . وأجاب ابن الحاج بأن الحكم للمكتوب لا للعرف اه . وعلى ما لابن رشد عول في اللامية حيث قال :
وشرط نكاح إن نزاع بطوعه
جرى مطلقاً فاعمل على الشرط واعدلا
ولا مفهوم لنكاح ، وبهذا كله يعلم ما في قول المتيطية إنه إذا قال في الوثيقة : دون شرطولا ثنيا ولا خيار فمحل اتفاق أن القول لمدعي الطوع الخ . بل الخلاف موجود كما ترى ، وفي نوازل المجاصي أنه سئل عن هذه المسألة فأجاب : بأنه قد تكرر مني جواب بعد جواب غير مرة ولا أدري ما هذا ، ورأيي فيها تابع لرأي بعض شيوخنا رحمهم الله ، وأنه متى ثبت رسم الإقالة ولو بصورة التطوع فهو محمول على أنه شرط في نفس العقد ، وقول المتيطي : ما لم يقل ولا ثنيا ولا خيار الخ . ذلك عرف وقته إذ لا تعرف عامة زمننا الثنيا بل يسمونه بيعاً وإقالة ، والشهود يجرون المساطير من غير تحقيق لمعنى ما يكتبون اه . ونحوه في ( م ) و ( ت ) قالا : ويدل عليه أن البيع يقع بأقل من القيمة بكثير ، فلولا أن البائع يعتقد أن ذلك بيد المشتري كالرهن ما رضي بذلك الثمن ولا بما يقرب منه اه .
قلت : كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير مما يدل على أنه رهن ، وأنه شرط في صلب العقد كما يأتي لا على أنه شرط في العقد فقط ، ويؤيد ما نحن بصدده من أن القول لمدعي العرف ما يأتي للناظم في اختلاف المتبايعين :
فالقول قول مدع للأصل
أو صحة في كل فعل فعل
ما لم يكن في ذاك عرف جار
على خلاف ذاك ذو استقرار
ويؤيده أيضاً ما مر عن ابن سلمون عند قوله في بيع الأصول : وجاز في الدار أن يستثنى الخ . أن المشتري إذا التزم أن لا يبيع حتى ينصف من الثمن فإن كان في صلب العقد فهو فاسد وإلاَّ صح فإن اختلفا في كونه في العقد أو بعده فالقول لمدعي الشرط لأنه العرف اه . وظاهره ولو كتب على الطوع فهذا كله يدل على صحة اعتراض الشارح ومن تبعه على الناظم ، ولذا قال ابن رحال في حاشيته ههنا ما قال يعني ( م ) كله صحيح ، وعليه المعول في هذه المسائل ولا محيد عنه أصلاً فإنه موافق لكلام المحققين اه . ونحوه له في شرح المختصر .
قلت : هذا كله يؤيد ما مر في التنبيه الأول عند قوله : والبيع بالثنيا لفسخ داع الخ . لأنه إذا كان العرف يجب اتباعه في هذه ، وإن خالفه المكتوب فكذلك في تلك يجب اتباعه ، وإن كتبوا أنها بيع لأن العرف أنهم يتحيلون بكتب البيع على إسقاط الغلة كما مر ، وذلك كله إذا كانت الإقالة شرطاً في صلب عقد البيع كما مر ، وكذا يقال : إذا كتبت طوعاً بعد العقد وادعى البائع شرطيتها فيه وأنها رهن كتبت بصورة البيع تحيلاً لإسقاط الغلة أو الحيازة فإنه يصدق حيث ثبت العرف بالشرطية والارتهان كما مر ، ففي البرزلي ما نصه في أحكام ابن حديد : إذا ادعى البائع أن البيع كان في أصله رهناً فالذي نقول به إن المبتاع إن كان من أهل العينة والعمل بمثل هذا وشبهه ، فالقول قول البائع مع يمينه أنه رهن ولا يخفى أن الناس اليوم على ذلك العمل من كونهم لا يتورعون عن اكتساب الأشرية بمكان الارتهان كما هو مشاهد بالعيان .
وفي المعيار عن أبي يوسف الزغبي ما نص : الغرض منه أن بينة البيع هي المعمول بها إلا أن تقوم بينة أن عرف البلد في البيع الذي يقع الحوز فيه بالمعاينة على الرهن ، ثم تقع الثنيا بعده أنه رهن في كل ما يقع من ذلك ولا يشذ عن ذلك شيء فحينئذ يحمل الأمر على الرهن اه . لكن قوله : ولا يشذ عن ذلك شيء الخ . فيه شيء بل كذلك إذا غلب ذلك لأن الحمل على الغالب واجب ، وفي نوازل السجتاني بعد ما مر عنه عند قوله : لفسخ داع الخ . بأوراق أنه سئلعما يفعله أهل الجبال من ارتكابهم البيع الذي تعقبه الإقالة تحيلاً على إسقاط الغلة لو عقدوه بلفظ الرهن ، وقصدهم في ذلك ، إنما هو الرهن بهذا تقرر عرفهم فقال : حمل أمرهم على ما جرى به عرفهم واجب محتم في القضاء والفتوى لا مندوحة عن ذلك قال تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف } ( الأعراف : 199 ) وإذا وجب حمل ما يعقدونه من الثنيا الطوعي على الرهن جرى في بيع ذلك على سائر بياعات الرهان من جواز بيعه بيد المرتهن بشرطه ، والسكوت عنه السنين الطويلة لا يضر اه . فتبين بهذا أن المدار على العرف فإذا جرى بالرهنية فالعمل عليها كانت الثنيا شرطاً في العقد أو طوعاً بعده ويدل على الرهنية المذكورة كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير ، وأنهم يبيعونه وهو بيد مشتريه ويقولون : وضع ملكه بيد فلان إلى غير ذلك مما مر عن السجستاني و ( م ) وكفى به دليلاً على الارتهان المذكور . وتقدم أن ابن رحال صحح جميع ما في ( م ) .
تنبيه : ما تقدم من أن القول لمدعي الشرط والفساد محله إذا لم يكن قد أشهد في عقد الطواعية بإسقاط دعوى الفساد ، وإلاَّ فلا يلتفت لدعواه ولو أثبتها ببينة لأنه قد كذبها قاله في أواخر بيوع المعيار ، وأشار له ( خ ) ومحله أيضاً والله أعلم إذا لم يبعد ما بين التطوع بها والبيع كالأربعة أشهر ونحوها ، وإلاَّ فينبغي أن تحمل على التطوع حقيقة حيث كان الثمن هو قيمة المبيع أو ما يقرب منها . وانظر ما تقدم عند قوله في النكاح : ويفسد النكاح بالإمتاع في عقدته الخ .
فصل في بيع الفضوليوهو الذي يبيع مال غيره بغير توكيل ولا إيصاء عليه . ( وما يماثله ) كهبة واستفادة الزوج مال زوجته وقسمة تركة المديان قبل أداء الدين .
وَحَاضِرٌ بِيعَ عَلَيَهِ مَالُهُ
بِمَجْلِسٍ فِيهِ السُّكُوتُ حَالُهُ
( وحاضر ) ولو امرأة ( بيع عليه ماله بمجلس فيه السكوت حاله ) فلم ينكر ولم يغير وهو عالم بأنه ملكه ساكت بلا عذر ، فإن كان له عذر فسيذكره . وقد اختلف في السكوت هل هو إذن وإقرار أم لا ؟ وأظهر القولين إنه ليس بإذن ولا بإقرار إلا فيما يعلم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه فيكون إذناً وإقراراً كما ذكره ( ح ) عن ابن رشد في باب الإقرار .
يَلزَمُ ذَا البَيْعُ وَإنْ أَقَرَّ مَنْ
بَاعَ لَهُ بِالْمَلِكِ أُعْطِيَ الثَّمَنْ
( يلزم ذا ) فاعل يلزم ( البيع ) نعت له أو بدل ، والجملة خبر عن قوله : وحاضر الخ . وسواء كان البائع أجنبياً أو شريكاً باع الجميع وانظر آخر الشفعة من ابن سلمون . وقولي : ولو امرأة أعني أجنبية أو زوجة أو أختاً للبائع ، ولا مقال للأخت في أنها إنما لم تغير خشية قطيعة أخيها . قال أبو الحسن الصغير : وأما إذا باع الأخ نصيبه ونصيب أخته وعلمت به فالشأن أنهنيقمن على المشتري ولا يسكتن عنه ، فيعد سكوتهن رضا إن لم يمنعهن مانع أي بخلاف استغلاله ملك أخته وهي ساكتة عالمة ، فلها الرجوع بالغلة لأن عادة نساء البادية والحاضرة أن يطلبن ميراثهن من قرابتهن ولا يطلبن الغلة خوفاً من قطيعة رحمهن اه . باختصار . وانظر الاستحقاق من المعيار فيمن بيع عليها حظها ، وقال الشهود : ولا يعلمونها قامت عليه في شيء من ذلك أن قولهم ذلك لا يفيد لاحتمال أن تكون في دارها لا تتصرف ، ولا نعلم حتى يقولوا إنها كانت ترى ذلك وتشاهده وتمر عليه ولا تنكره اه . فانظر ذلك فيه وراجعه فإن فيه كلاماً حسناً ، وظاهر النظم أن الساكت المذكور لا يعذر بالجهل إذا ادعى أنه جهل لزوم البيع بسكوته وهو كذلك كما في التوضيح ونقله ( ح ) ولها نظائر ذكرها ( تت ) في باب الطلاق من شرحه على الرسالة ، وذكرها في ضيح في النكاح ، وسيأتي آخر الفصل ما يخالفه فانظره . وظاهره أيضاً أنه لا كلام للمشتري في حال العقد عن نفسه لانتقال عقدته ، وفيه أقوال انظرها في المتيطية في ترجمة عهدة الوصي والوكيل ( و ) إذا لزم البيع للساكت المذكورة ف ( إن أقر من باع ) فاعل بأقر ( له بالملك ) يتعلقان بأقر ( أعطي ) المقر له ( الثمن ) مؤاخذة له بإقراره سواء أقر بالمجلس أو بعده بطول أو قرب قام المالك يطلب الثمن في الحين أو بعد سنين ، إذ طول السنين لا يبطل حقه المقر له به .
وأشار إلى مفهوم قوله : وان أقر الخ فقال :
وإنْ يَكُنْ وَقْتَ المبِيعِ بائِعُهْ
لِنَفْسِهِ ادَّعَاهُ وَهْوَ سَامِعُهْ
( وإن يكن وقت المبيع ) هو اسم مفعول بمعنى المصدر كقوله تعالى : بأيكم المفتون } ( القلم : 6 ) أي الفتنة . أي : وإن يكن وقت البيع . ( بائعه ) اسم يكن ( لنفسه ادعاه ) ولم يقرّ به للمالك بل قال : أنا أبيع ما لي وملكي ( وهو ) أي المالك ( سامعه ) حين كان يقول ذلك ، ومع ذلك سكت فلم يغير ولم ينكر حتى انقضى المجلس ، وتم البيع ، فإن قام قبل السنة وأثبت أنه ملكه والبائع لا زال على إنكاره ولكنه لم يجد مطعناً فيما أثبته المالك فيقضي على البائع بدفع الثمن للمالك ولا ينقض البيع لأنه بسكوته لزمه ، وأما إن قام بعد السنة من يوم البيع فهو قوله :
فما لَهُ إنْ قَامَ أيَّ حِينِ
في ثَمنٍ حَقّ وَلاَ مَثْمُونِ
( فما له إن قام أي حين ) أي بعد حين وهو السنة ( في ثمن حق ولا مثمون ) هذا ما يفيده كلام ابن رشد المنقول في ( ح ) ونصه قال ابن رشد : إن كان حاضر الصفقة فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع وكان له الثمن ، وإن سكت بعد انقضاء المجلس حتى مضى العام ونحوه استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه اه . زاد ( ق ) عنه في آخر الشهادات مع يمينه أنه انفرد به بالوجه الذي يذكره من ابتياع أو مقاسمة وما أشبه ذلك اه . ومعنى كلامه أنه كان ينكره ، ولكنأثبت المالك بعد سكوته أنه ملكه ولم يجد البائع مطعناً فيه ، ولكن ادعى أنه صار له بابتياع أو مقاسمة أو هبة ونحوه ، فالبيع لازم بسكوته وله الثمن إن قام قبل السنة لا بعدها ، وبه يسقط إشكال ( ت ) الذي أشار له في حاشيته على ( ز ) من أنه إذا كان البائع يدعي ملكه فلا وجه للتقييد بالسنة إذ القول قوله ولو داخلها لحوزه وتصرفه ، وإن كان مقراً بأنه ملك لغيره فالثمن له ولو بعد سنين اه . جوابه هو ما تقدم من أنه كان ينكره لكنه لما اتصل سكوته من ابتداء البيع إلى تمام السنة تقوي جانب البائع وصدق في الوجه الذي يذكره ، ولم تعتبر بينة المالك بخلاف ما إذا لم يتصل سكوته وقام بالفور ، فلو أبدل الناظم أي : ببعد لكن أحسن .
ثم أشار إلى ما إذا لم يحضر للبيع فقال :
وَغَائِبٌ يَبْلُغهُ مَا عَمِلَهْ
وَقَامَ بَعْدَ مُدّةٍ لاَ شَيْءَ لَهْ ( وغائب ) عن مجلس عقد البيع ( يبلغه ما عمله ) الفضولي في ماله من بيعه وادعائه لنفسه فلم يقم حينئذ ( و ) إنما ( قام بعد ) انقضاء ( مدة ) الحيازة وأثبت ملكية ذلك وعجز الفضولي عن الطعن فيها فإنه ( لا شيء له ) أي المالك لا من ثمن ولا غيره لأن سكوته بعد العلم المدة الطويلة دليل على صدق البائع فيما يذكره من الوجه الذي صار به إليه كما مر . ومفهوم قوله بعد مدة إنه إذا قام قبلها كان له مقال وهو كذلك . قال ابن رشد إثر ما مر عنه : وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين أعلم أخذ حقه وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه لم يكن له إلا الثمن وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء ويستحقه الحائز بما ادعاه بدليل حيازته إياه اه . بنقل ( ح ) و ( ق ) وهكذا نقله أبو الحسن والمتيطي والبرزلي وغيرهم وسلموه ، وقوله حين علم أي بفور علمه قبل مضي مدة تدل على رضاه بالبيع وإلاَّ فليس له الثمن ، ولو قام قبل السنة على ما يأتي عن أحمد بن عبد الملك في البيت بعده وهو المعتمد ، وقوله : أخذ حقه الخ . يعني إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه وأخذ الثمن وهو قول ( خ ) : ووقف ملك غيره على رضاه الخ . وانظر ما مراده بمدة الحيازة ، والظاهر أن المراد بهما ما زاد على العام ونحوه زيادة لها بال تدل على صدق البائع وكذبه هو في دعواه لا أنها العشر سنين وإلاَّ حصل التدافع والتعارض في كلامه كما لا يخفى ، لأنه إذا كان المراد بها العشر فلا معنى لتحديد كون الثمن له بالعام ونحوه .
وَغَيْرُ مَنْ فِي عُقْدَةِ الْبَيْعِ حَضَرْ
وبالمبيع بَائِعٌ لَهُ أَقَرْ ( وغير من في عقدة البيع حضر ) هذا مستغنى عنه لأنه هو قوله : وغائب الخ . وعليه فلو أسقط هذا البيت وقال بدله ما نصه :
إن بائع باع وملكه ذكر
وإن بملك بائع له أقروقام بالفور الخ . ( وبالمبيع بائع له أقر ) بأن قال : أبيع متاع فلان عند العقد أو بعده بقرب أو بعد وصدقه المشتري .
وَقَامَ بالْفَوْرِ فذا التَّخْيَيرُ فِي
إمْضائِهِ البَيْعَ أوِ الْفَسْخَ اقْتُفِي
( وقام ) فلان ( بالفور ) أي بفور علمه ( فذا ) مبتدأ ( التخيير ) مبتدأ ثان ( في إمضائه البيع أو الفسخ ) بالجر عطفاً على إمضائه وأو بمعنى الواو والمجرور متعلق بالتخيير ( اقتفي ) خبر أي : فهذا الذي قام بالفور التخيير في الإمضاء والفسخ اقتفى له ، وظاهره أن البيع جائز ولو علم المشتري بتعدي البائع وهو كذلك على أحد قولين مشهورين وعليه عول ( خ ) إذ قال : وملك غيره على رضاه ولو علم المشتري الخ . ابن عرفة قال المازري : لو علم المشتري بتعديه ففي إمضائه بإمضاء مستحقه قولان مشهوران ، وينبغي حمله على أنهما دخلا على بت البيع مطلقاً وعدم تمكين مستحقة من فسخه ، ولو دخلا على تمكينه من فسخه لم ينبغ أن يختلف في فساده اه . وعليه فبيع ملك الغير على ثلاثة أقسام : تارة يجهله المبتاع ولا يعلم بتعديه إلا بعد العقد فالبيع لازم للمشتري إن أمضاه ربه ، وتارة يعلم المبتاع بتعديه فهو بيع خيار وإن دخلا على عدم تمكين ربه من رده ، فالذي عول عليه ( خ ) هو أحد قولين مشهورين جوازه وهو خيار أيضاً ، ولربه إمضاؤه أو فسخه . وكلام الناظم شامل لذلك كله فقوله : وقام بالفور يعني في الأقسام الثلاثة . قال ابن بطال : قال لي أحمد بن عبد الملك : والمراد به أبو عمر الإشبيلي المعروف بابن المكوي في الرجل الذي لم يحضر البيع إذا علم وسكت يوماً أو يومين أو ما قرب فإن له القيام ويفسخ البيع ما لم تكثر الأيام فيلزمه اه . وهذا هو المعتمد عند الناظم خلافاً لما لابن زرب من أن له القيام في السنة والسنتين من يوم العلم الخ . وانظر ابن سلمون في فصل بيع الحاضن ، وانظر شارح نظم العمل للإمام الرباطي عند قول ناظمه في الصفقة والزم البيع ولا كلاماً الخ . ثم لا بد حيث علم المشتري بالتعدي أن لا تبعد غيبة المالك وأن لا يشترط البائع على المشتري النقد حينئذ . وأن يكتبا إليه في القريبة وإلا فسد البيع كما مر في الخيار ، وهذا والله أعلم هو معنى قول ابن عرفة : ولو دخلا على تمكين المالك من فسخ البيع لم ينبغ أن يختلف في فساد البيع أي لأنه حينئذ بيع خيار بمشورة بعيد أو بشرط النقد أو لمدة مجهولة حيث لم يدخلا على الكتابة إليه في القريبة ،وكل ذلك موجب للفساد وفيه مخالفة حينئذ لما مر عن ابن بطال الذي درج عليه الناظم لأنّ ظاهره أن البيع لازم إذا كثرت الأيام ، ولو علم المشتري بتعديه لكن ما لابن عرفة هو الذي عليه قولها في الخيار إذا دخلا على الخيار ولم يضربا له أجلاً فإنه يضرب له من الأجل ما يليق بتلك السلعة اه . فمفهومه أنه إذا غفلا ولم يضربا لها ما يليق بها كان البيع فاسداً كما مر ، وهنا حيث علم المشتري بالتعدي دخلا على خيار المالك وغفلا عن ضرب ما يليق بالمبيع فتأمله . وأما إذا لم يعلم المشتري بالتعدي حين العقد بل بعده أو دخلا على عدم تمكين المالك من فسخه فالشراء لازم له في القريبة ويكتب لمالك كما قاله أبو الحسن ، وفي البعيدة : لا يلزمه . وله أن يحل عن نفسه لما يلحقه بسبب الصبر من الضرر كما قاله اللخمي وغيره قال في المتيطية : فإن لم يعلم المشتري حتى قدم الغائب فأمضى البيع فهو ماض ولا مقال للمشتري اه .
قلت : ويبقى النظر إذا علم المشتري والغائب البعيد الغيبة ورضي المشتري بالصبر لقدومه فظاهر كلامهم أن البيع صحيح ولو طالت الغيبة أكثر من زمن الخيار في تلك السلعة فتأمله . ولكن ظاهر ما تقدم عن أبي الحسن في الخيار أن البيع يفسد فانظره . وقولي : وصدقه المشتري احترازاً مما إذا أكذبه فإنه لا يمضي قوله عليه كما قال ( خ ) في الإجارة لا بإقرار المالك أي : لا تنفسخ الإجارة عقدها بإقرار مالك الدابة أو الدار أنهما لغيره والبيع كذلك لا يقبل فيه قول البائع إن المبيع لغيره إلا إذا أقام الغير بينة أنه له فيثبت له الخيار حينئذ وإلاَّ فليس له إلا الثمن أو الأجرة .
تنبيه : حيث نقض المالك بيع الفضولي فللمشتري الغلة في جميع الأحوال لأن الضمان منه إلا إذا علم بالتعدي حين العقد ، ولم تكن للبائع شبهة من كونه من ناحية المالك أو يتعاطى أموره ونحو ذلك كما في شراح ( خ ) .
ثم أشار إلى مفهوم وقام بالفور فقال :
وإنْ يَقُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ مَضى زَمَنْ
فالبَيْعُ مَاضٍ وَلَهُ أَخْذُ الثَّمَنْ
( وإن ) لم ( يقم ) بالفور وإنما قام ( من بعد أن مضى زمن ) زاد على الخمسة أيام والستة على ما يظهر من النص السابق ( فالبيع ماض وله ) أي للمالك ( أخذ الثمن ) منه لأنه أقر بأنه لا يستحقه ولا يسقطه عنه سكوت المالك ولو طال الزمان كما مرّ أول البيوع . ثم أشار إلى محل لزوم البيع في حق الحاضر والغائب فيما تقدم إذا سكت لغير عذر فقال :
إنْ كَانَ عَالِماً بِفَعْلِ البَائِعِ
وَسَاكِتاً لغيرِ عُذْرٍ مَانِعِ
( إن كان ) المبيع عليه ماله الحاضر أو الغائب ( عالماً ) حين العقد في الحاضر أو بعده في الغائب ( بفعل البائع وساكتاً ) حتى انقضى المجلس في الحاضر أو حتى مضت مدة تدل على رضاه في الغائب ( من غير عذر مانع ) له من التغيير والإنكار ، ومفهومه أنه إن لم يعلم بفعل البائع أوعلم وسكت لعذر من سطوة البائع أو كان ذلك في بلاد السائبة ونحو ذلك فله القيام وهو كذلك إذا أشهد العدول بأنه غير راض بما فعله البائع وقام بفور زوال العذر والله أعلم .
وحاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ
وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأى مِن حَالِهِ
( و ) مالك ( حاضر لواهب ) فضولي ( من ماله ) شيئاً كدار أو دابة ونحوهما ( ولم يغير ما رأى من حاله ) أي حال الواهب ولم ينكره بل هو عالم ساكت بلا عذر .
الحُكْمُ مَنْعُهُ القِيَامَ بِانْقِضَا
مَجْلِسهِ إذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَا
( الحكم منعه القيام ) في نقض تلك الهبة وفسخها ( بانقضا مجلسه ) أي العقد ( إذ صمته ) وسكوته حتى انقضى المجلس ( عين الرضا ) بعقد الهبة في ماله وظاهره سواء وهبه الفضولي وهو يدعيه لنفسه أو يدعيه للمالك ، وهو كذلك ولا شيء له عليه من قيمة الموهوب ولا غيرها .
وَالْعِتْقُ مُطْلقاً عَلى السَّوَاءِ
معْ هِبَةٍ وَالْوَطْءِ للإمَاءِ
( والعتق ) أي عتق الفضولي لرقيق الغير والمالك حاضر ساكت بلا عذر ( مطلقاً ) ناجزاً كان أو لأجل أو تدبير أو كتابة ( على السواء مع هبة ) في اللزوم ( والوطء للإماء ) كذلك مسقط الحق المالك فيهن حيث كان الواطىء يدعي الملكية للموطوءة ، وأن سيدها كان وهبها له أو اشتراها منه ونحو ذلك وسيدها حاضر ساكت بلا عذر ولم يغير ولم ينكر ، ثم قام ينازع فلا حق له ، وإن قصرت المدة وأثبت الملكية . وأما إذا كان الواطىء لا يدعي شيئاً من ذلك فهو زانٍ وسكوت المالك لا يسقط الحد عنه ، ومفهوم قوله : حاضر إنه إذا لم يحضر مجلس عقد الهبة أو العتق أو الوطء ولكن بلغه ذلك فإن قام بفور علمه كاليوم واليومين فله الفسخ والإمضاء وإلا لزمه ذلك كما مر في البيع إلا أنه هنا لا شيء له ، لأنه فوته بغير عوض . قال ابن رشد في كتاب الاستحقاق من بيانه إثر ما مر عنه : وأما إذا فوته أي الفضولي بالصدقة أو الهبة أو التدبير أو العتق فإن كان حاضراً فسكت حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء ، وإن لم يكن حاضراً فقام حين علم كان على حقه ، وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه كان القول قول الحائز ولم يكن له هوشيء ، وأما إذا فوته بالكتابة فيتخرج ذلك على الاختلاف فيها هل تحمل محمل البيع أو العتق . وكذا إذا حاز الكل بالوطء فهي حيازة ، وإن لم تطل المدة اه باختصار . وقولي : حين علم الخ . يجري فيه من البحث ما تقدم عند قوله : يبلغه ما عمله الخ . وما ذكره الناظم في الوطء سيأتي له مثله في الحوز حيث قال :
والوطء للإماء باتفاق
مع علمه حوز على الإطلاق
وما تقدم عن ابن رشد هو الذي اقتصر عليه أبو الحسن والبرزلي وغيرهما وهو الموافق للنظم دون ما لمطرف من أنه إذا كان حاضراً حتى انقضى المجلس وقام بحدثانه فإنه يرجع على حقه ويرد ما وقع فيه من بيع ونحوه الخ . فإنه لا يوافق النظم ولا يتنزل عليه ، بل قال الرجراجي في منهاجه على قول مطرف ما نصه : لا يخلو إما أن يبادروا بالإنكار حين علمهم أو يتراخوا عنه فإن بادروا في الحال فلهم رد البيع والعتق والصدقة ، وإن لم يبادروا بالإنكار في الحال إلا أنهم قاموا بالقرب فلهم الثمن في البيع والقيمة في الإيلاد والعتق بعد أن يحلفوا أنهم ما سوغوه ذلك ولا تركوه ليأخذوا الثمن والقيمة ويردون الهبة والصدقة والإصداق بعد أيمانهم أنهم ما تراخوا عن القيام بنفس العلم إلا للتدبير والتمري في إقامة الحجة وهذا تفسير ما وقع لمطرف في الواضحة فإن تراخوا عن الإنكار مدة طويلة يفهم منها إسقاط الحجة وتسليم الشيء لحائزه وتسويغ فعله فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك يدل على مالك الحائز اه . فأين هذا من كلام الناظم حتى يشرح به ؟
تنبيه : إذا فوت الكل فلا إشكال أن حكمه ما مر للناظم ، وإن فوت الأكثر فالأقل تابع له على قول ابن القاسم ، وقيل : لا يكون تبعاً وهو ظاهر سماع سحنون وإن فوت الأقل فقيل : لا يكون تبعاً وإن فوت النصف وما قاربه فلا يكون أحدهما تبعاً للآخر بلا خلاف قاله ابن رشد ، وهذا الذي ذكره إنما هو فيما إذا كان يدعيه لنفسه لأن الشيء الباقي بلا تفويت يبقى حينئذ للحائز البائع والواهب ولا تسمع دعوى القائم فيه ، وأما إن كان يقر به للمالك ، فلا يكون شيء من ذاك تبعاً بل الباقي يبقى للمالك والله أعلم .
وَالزَّوْجَةُ اسْتَفَادَ زَوْجٌ مَا لهَا
وَسَكَتَتْ عَنْ طَلَبٍ لِمَا لهَا
( والزوجة استفاد زوج ما لها ) فاستغل حائطها أو حرث أرضها أو تولى كراء رباعها للغير وقبض أكريتها أو قبض لها ديوناً أو أثمان المبيعات ( وسكتت عن طلب لما ) استقر ( لها ) في ذلك كله أو في شيء منه فلم تغير ولم تنكر حتى مضى زمان ، ثم أرادت أن تقوم عليه .
لها القِيَامُ بَعْدُ في المَنْصُوصِ
وَالخُلْفُ في السُّكْنَى عَلَى الْخُصُوصِ
( لها القيام بعد ) سكوتها ولو طال ( في المنصوص ) لمالك من رواية أشهب وابن نافع قالبعضهم : ولم يختلف قول مالك في ذلك قاله في كتاب الشروط من أنكحة المتيطية قال : وكذلك إذا أنفقت عليه من مالها ثم طلبته بذلك أن ذلك لها وإن كان عديماً في حال النفقة بعد يمينها أنها لم تنفق عليه ولا تركته يأكل مالها إلا لترجع عليه اه . وفي فصل المتعة أوائل النكاح من ابن سلمون ما نصه : فإن استغل الزوج مال زوجته وازدرعه وانتفع به وهي تحته من غير متعة ، ثم قامت تطلبه بالكراء كان ذلك لها ، وإن ازدرعه بأمرها وأكله ولا يعلم هل كان عن طيب نفس منها أم لا . ثم طلبته بالكراء كان لها ذلك بعد يمينها أنها لم تهب ذلك ولا خرجت عنه ، وسئل بعضهم عن المرأة تعطي زوجها طعاماً أو ذهباً أو ثياباً عن طيب نفس منها إلى أعوام ثم يقع بينهما كلام فتطلب ذلك وتزعم أنه كان سلفاً فقال : القول قولها مع يمينها ولها أخذ ذلك اه .
قلت : ما في النظم ظاهر إذا لم يدع أنه كان يدفع لها غلتها وما قبضه من أكرية أراضيها وأثمان ما باعه لها وإلا فإن ادعى هو أو ورثته أن موروثهم دفع ذلك قبل موته فيجري على ما تقدم في قوله في الوكالة :
والزوج للزوجة كالموكل
فيما من القبض لما باعت يلي
فراجع ذلك هناك ، ومحله أيضاً إذا لم تكن بينهما مودة ورحمة وقامت بالقرب وإلاَّ فهو محمول على الصلة والمعروف فلا قيام لها ، ففي أقضية البرزلي سئل ابن رشد عمن استغل ربع زوجته ثم قامت تطلب ما استغل لها من تركته ؟ فأجاب : إن علم أنه كان يستغل ذلك على سبيل الصلة والمعروف فلا شيء لها ، وإن علم استغلاله لذلك ولم يعلم هل كان يصرف ذلك في منافعه أو منافعها ؟ فالقول قولها مع يمينها فيما قرب من المدة أنه لم يدفع ذلك ويكون ذلك لها في ماله اه . فأنت تراه قيد ذلك بما إذا لم يكن ذلك على وجه الصلة . ومما إذا قامت بالقرب ، وبمثله أجاب أبو القاسم عبد الرحمن التازغددي حسبما في الكراس الثالث من معاوضات المعيار قائلاً : إن كان الزوج ممن يسطو عليها ويقهرها فتأخذ جميع ما أكل لها على هذه الصفة وإن كان بينهما من المودة والرحمة ما جرت العادة به بين الزوجين فيكون ما أكله من مالها وفوته بعلمها وعلى عينها ساقط عنه إلا أن يبيع بالثمن الكثير الذي له خطر وتدعي أنها لم تترك ذلك إلا على وجه الأمانة فتحلف على ذلك وتستحقه اه . وهو صريح في أنه إذا كانت بينهما مودة لا شيء لها فتأمله مع ما مر عن ابن سلمون ، وكل ما لا يطلب إلا عند الشنآن والخصام فهو محمول على الصلة كما في ظني أني وقفت عليه كذلك ، ولم أذكر الآن محله ، ثم بعد كتبي هذا وقفت عليه نصاً للخمي ونقلته في باب العارية ، وانظر ما تقدم عن المعيار في آخر فصل ما تهديه الزوجة لزوجها بعد العقد ولا يخفى أن عادة البوادي أن ذلك للصلة والقضاء بما به العادة واجب كما مرّ في الثنيا ، وعليه فما يقع بينهم من النزاع عند الشنآن في رعاية ماشية الزوجة فيطلبها الزوج بأجرة رعايته ، وتطلبه هي بما أكل من لبنها وباعه من صوفها وكراء حرثه على بقرها لا يقضي لأحدهما على الآخر بشيء لأن ذلك كله كان على وجه الصلة على ما تقررت به عوائدهم وما يوجد من فتاوى المتأخرين من أنها تحاسبه بالغلة ويحاسبها هو بالرعاية ومن له فضل أخذه إنما هو إذا علم تسوره عليها وقهره لها ولم تعلم مودة بينهما كما ترى ، ولا سيما وقد تقدم أن السكوت ليس بإذن ولا رضا إلا فيما علم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضاه واللهأعلم . ثم لا خصوصية للزوجة بهذا المعنى بل غيرها مما علم أنه للصلة كذلك وتذكر قول ( خ ) في النفقات : إلا لصلة الخ . وفي الاستحقاق من العلمي عن الونشريسي أن لورثة الزوجة طلب الزوج بما اغتله من مال زوجته وله استحلافهم إن ادعى عليهم إذنها بأكله بغير عوض وهي من دعوى يمين المعروف ومعروف المذهب توجيهها ، وكذا يرجع على بعض الورثة إن استبد باغتلال موروثهم ما لم يكن سكوتهم عنه على وجه الهبة اه .
وفي المعيار إثر ما مر عنه بنحو الورقتين عن أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم الأغصاوي أنه سئل عن رجل له ابن بالغ متزوج بائن عنه ، فكان الابن يحرث أرضاً لوالده ويستغلها لنفسه بمحضر والده وعلمه ، وربما حرثها ببقر والده ثم مات الأب والابن فقام وورثة الأب على ورثة الابن يطلبونهم بغلة الأرض المذكورة ، ولا يدري بما استغلها الابن هل بإذن والده أم لا ؟ فأجاب : لا شيء لورثة الأب على ورثة الإبن من الغلة التي استغل في حياة أبيه اه . وانظر شارح نظم العمل عند قوله :
وخدمة النساء في البوادي الخ . ففيه أن المرأة لا أجرة لها على زوجها فيما جرت العادة بخدمتها من نسج وغزل ورعاية ونحو ذلك والله أعلم . وانظر نوازل الغصب والتعدي من العلمي إن شئت ، وانظر أيضاً ما يأتي في الإجارة عن العبدوسي .
( والخلف ) في استغلاله ( بالسكنى ) معها في دارها ( على الخصوص ) ففي كتاب العدة منها أن لها الكراء إن كان الزوج معسراً حين السكنى معها وإلاَّ فلا شيء عليه . وفي كتاب كراء الدور منها لا كراء لها عليه ، وإن كانت تسكن بالكراء إلا إن تبين له ذلك وعليه عول ( خ ) إذ قال : وإن تزوج ذات بيت وإن بكراً فلا كراء إلا أن تبين الخ . وهذا إذا كانت رشيدة وإلاَّ فلها الكراء ، وظاهر القول بالسقوط الذي عول عليه ( خ ) أنه لا كراء حيث لم تبين ولو كانت العادة جارية بأن لا يسكن في دارها إلا بالكراء وهو ما عليه ابن لب كما في المعيار قائلاً : لأن القائل بالسقوط أطلق وما فصل ولا قيد وفيما قاله شيء لقول القرافي : الأحكام مبنية على العوائدتدور معها حيث دارت بإجماع . انظر شرحنا للشامل ، ومثل دارها دار أمها أو أبيها وأما دار أخيها أو عمها فإن طالت المدة فلا شيء لهما عليه ، وإذا قصرت المدة حلفا أنهما إنما أسكناه بالأجر قاله اللخمي .
كَذَاكَ مَا اسْتَغَلَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ
مُتِّعَ إنْ مَاتَ كَمثْلِ مَا سَكَنْ
( كذاك ما استغله ) الزوج ( من غير أن متع ) أي من غير أن تبيح له ذلك الاستغلال وتسقط رجوعها به عليه نصاً أو عادة وهي رشيدة فالحكم فيه ( إن مات ) الزوج فما من قوله ما استغله مبتدأ صلته ما بعده وخبره ( كمثل ما سكن ) وقوله .
فِيهِ خِلافٌ وَالَّذِي بِهِ الْعَمَلْ
فِي المَوْتِ أَخْذُهَا كِرَاء مَا اسْتَغَلْ
( فيه خلاف ) مبتدأ وخبر . وقوله : كذاك حال منه أي ما استغله من غير تمتيع إن مات الزوج كائن كمثل ما سكن فيه خلاف حال كونه كالخلاف في السكنى ، فعلى ما في المدونة في كتاب العدة لها ذلك ، وعلى ما في كتاب كراء الدور لا شيء لها . هكذا أجرى بعضهم الخلاف فيه كما في المتيطية ، وحكاية الخلاف ههنا توجب جريانه في قوله لها القيام بعد في المنصوص إذ لا فرق بين ما هنا وما هناك إلا كون الزوج قد مات هنا وهناك لا زال حياً ، وليست حياته موجبة اختصاصه بحكم لا يثبت له في موته لأن وارثه قائم مقامه فكأنه حي ، فلو استغنى الناظم بما مر عما هنا لكفاه . ( والذي به العمل في الموت أخذها كراء ما استغل ) وحاصله ؛ أن قول مالك لم يختلف في رجوعها بما أكله من مالها كما مر عن المتيطية ، لكن خرج الخلاف فيه من اختلاف قوله في السكنى كان حياً أو ميتاً ، ويقيد هذا العمل بما تقدم عن ابن رشد وغيره والله أعلم . ومفهوم قوله : من غير أن متع أنها إن متعته بذلك لا رجوع لها وهو كذلك ، إلا أن التمتيع إذا كان في عقد النكاح فإن النكاح فاسد كما مرّ .
فرع : قال في الباب الخامس والعشرين من التبصرة : إذا بنى الرجل في دار امرأته وأنفق في ذلك نفقة ثم قام يطلب ذلك وقالت هي : إن النفقة كانت من مالي ، فإن أقر أن البناء لها كان القول قولها مع يمينها على الأظهر من الأقوال ، وإن قال : إنما بنيت لنفسي بأمرها وبمالي فالقول قوله إن النفقة من ماله من غير خلاف اه .
وَحَاضِرٌ لِقَسْمِ مَتْرُوكٍ لَهُ
عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ أَهْمَلَهُ
( وحاضر ) عالم بدينه ساكت بلا عذر ( لقسم ) مال ( متروك ) عن ميت ( له ) أي لذلك الحاضر ( عليه ) أي على الميت الذي ترك المال ( دين لم يكن أهمله ) أي أسقطه بوجه .
لا يُمْنَعُ الْقِيَامَ بَعْدَ أَنْ بَقِي
لِلْقَسْم قَدْرُ دَيْنِهِ المُحَقَّقِ
( لا يمنع ) بالبناء للمفعول ( القيام ) بدينه ( بعد ) صدور ذلك القسم ( إن بقي للقسم ) أيلأجل القسم في المستقبل ( قدر دينه المحقق ) لأنه يقول : إنما سكت لكون الباقي بلا قسم فيه وفاه بديني .
وَيَقْتَضِي مِنْ ذَاكَ حَقًّا مَلَكَهْ
بَعْدَ الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا تَرَكَهْ
( ويقتضي من ذاك ) الباقي بلا قسم ( حقاً ) أي ديناً ( ملكه ) وثبت له ( بعد اليمين ) يتعلق بيقتضي أي يقتضي حقه من ذلك الباقي بعد حلفه ( أنه ما تركه ) ولا أسقطه بسكوته حال القسم ، ثم بعد هذه اليمين يحلف يمين القضاء فعليه يمينان . الأولى لرفع احتمال أن يكون أسقط دينه بسكوته حال القسم ، والثانية لرفع احتمال أن يكون اقتضى حقه من الميت في حياته أو أحاله به ونحو ذلك ، ومفهوم إن بقي قدر ديته أنه إن بقي أقل فإنه لا يأخذ إلا ذلك الأقل بعد يمينه أيضاً وأنه إن لم يبق شيء فلا شيء له ، وظاهره وسواء قسم ذلك الغرماء أو الورثة وهو كذلك ولا مفهوم لدين بل كذلك لو كانت له عنده وديعة ونحوها ، أو كان شريكاً معه في دار ونحوها فقسمها الورثة أو الغرماء أو باعوها وهو حاضر ينظر فلا قيام له ، بل ذكر في المدونة أن رب الدين إذا حضر تفليس الغريم فلم يقم بطل حقه ، وإن لم يحضر القسمة قال فيها : ومن كان من الغرماء حاضراً عالماً بتفليسه فلم يقم مع من قام فلا رجوع له على الغرماء ، وذلك رضا منه ببقاء دينه في ذمة الغريم ، ابن يونس ، قال بعض الفقهاء : اختلف ابن القاسم وغيره إذا كانوا حضوراً حال التفليس ولم يحضروا حال القسمة ، فأما إن حضروا حال القسمة وسكتوا فلا رجوع لهم على الغرماء بلا خلاف ، وقولي : عالماً بدينه احترازاً مما إذا قال ما علمت بالدين إلا حين وجدت الوثيقة فإنه يحلف ويكون له القيام اتفاقاً فقد قال ابن حارث : اتفقوا على أن من أخذ من رجل مالاً يجب له بقضاء أو بغير قضاء ثم ثبت الحقيقة فإنه يرد ما أخذه اه . بل في ( ح ) أوائل الاستحقاق : أن من اشترى شيئاً وهو يرى أن لا بينة له ثم وجد بينته فله القيام وأخذ الثمن من البائع ، والقول قوله إنه إنما اشتراه لما ذكر اه . قال ابن رحال : وأحرى لو اشتراه وهو غير عالم أنه له اه . وقولي : بلا عذر احترازاً مما إذا كان له عذر كسلطان يتمنعون به أو لم يعرف شهوده أو كانوا غيباً أو لم يجد ذكر حقه إلا عند قيامه ونحو ذلك مما يعذر به فإنه يحلف ما كان تركه القيام إلا للوجه الذي ذكره ، ثم يكون على حقه وإن طال زمانه قاله في التبصرة . وقوله : أو لم يجد ذكر حقه الخ . نحوه لابن سلمون في فصل الإقرار وهو صريح في أنه لو قال : كنت أعلمديني ولكن كنت أنتظر الوثيقة وخفت إن قمت عجزني القاضي ، أو قال : لم أجد الوثيقة التي نقوم بها فلذلك سكت حين القسم ، والآن وجدتها لكان ذلك من العذر الذي لا يبطل به حقه ، وهو الذي رجحه الونشريسي في شرح ابن الحاجب ، ونقله العلمي في الاستحقاق والغصب من نوازله ، ورجحه أيضاً الرهوني في حاشيته فما في ( ح ) عن الجزولي والشيخ يوسف بن عمر من أن ذلك ليس بعذر لا يعول عليه كما يأتي ذلك إن شاء الله في فصل الحوز .
فإن قلت : قد قال ( خ ) في باب الصلح : لا إن علم بينة ولم يشهد الخ . والجاري عليه أنه لا يعذر بقوله : إنما لم أقم لعدم وجودي للوثيقة أو لكون الشهود غيباً لعدم إشهاده بذلك .
قلنا : قد يفرق بينهما بأنه في الصلح وجد منه عقد فلا يصدق في ذلك مع عدم الإشهاد ، وهذا إنما وجد منه سكوت وهو ليس برضا كما اقتصر عليه ابن رشد ، وإنما الخلاف هل هو إذن أم لا ؟ وأظهر القولين إنه ليس بإذن إلا فيما علم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضا كما في بيع الفضولي وهبته قاله ابن رشد أيضاً ، ونقل ( ح ) بعضه في باب الإقرار فالساكت أضعف من العاقد للصلح والله أعلم .
تنبيهان . الأول : قال في نوازل الاستحقاق من المعيار : سئل ابن الفخار عن إخوة ورثوا عن أبيهم أملاكاً فاعتمروها زماناً واقتسموها فيما بينهم ، ولهم أخوات في بيوتهن ساكنات معهم في القرية أو في قرية بائنة بالقرب منهم ، ثم يقوم الأخوات على الإخوة بعد القسمة ويحتج الإخوة عليهن بالقسمة ويدعين الجهل وأنهن لم يعلمن أن القسم يقطع حقوقهن . فأجاب : بأنهن يحلفن على ذلك ويأخذن حقوقهن اه .
قلت : هذا مخالف لما مر أول الفصل من أن الساكت لا يعذر بجهله ، وأن السكوت يقطع حقه ، وما لابن الفخار كأنه اعتمد فيه أن من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه صدق ، ونحوه لأبي الحسن ونقله عنه في وصايا المعيار في بكر تصدقت بميراثها على إخوتها فتزوجت ، واقتسم الأخوة ذلك وباعوا وبعد عشر سنين قامت زاعمة أنها إنما سكتت لجهلها بأن البكر المهملة لا تلزمها صدقتها فقال : القول قولها لأن ما ادعت الجهل فيه مما يجهله العوام غالباً ولا يعرفه إلا أهل الفقه ، وقاعدتهم أن من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه غالباً فالقول قوله في جهله والنصوص في ذلك كثيرة اه . ومثله في البرزلي في مواضع من ديوانه ، فانظره بعد الكلام على بعث الحكمين بأوراق ، ولكن لما نقل في المعيار ما مر عن أبي الحسن قال منكتاً عليه ما نصه ، قال ابن رشد : الأصل في هذا أن كل ما يتعلق به حق الغير لا يعذر الجاهل فيه بجهله ، وما لا يتعلق به حق الغير فإن كان مما يسعه ترك تعلمه عذر بجهله وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه لم يعذر بجهله ، فهذه جملة كافية يرد إليها ما شذ عنها اه . قال : فتأمله مع ضابط الشيخ يعني أبا الحسن اه . وقد أشار في المنهج إلى هذه القاعدة وصدر بما لابن رشد فانظره وقد قال المقري في قواعده : الجهل بالسبب عذر كتمكين المعتقة جاهلة بالعتق وبالحكم قولان للمالكية كتمكينها جاهلة أن لها الخيار ، والصحيح أن الفرق بين ما لا يخفى غالباً كالزنا والسرقة وما قد يخفى مثل تمكينها بأن لها الخيار اه . وقد جرى على هذا التصحيح ( خ ) في قوله في العيوب : وخير مشتر ظنه غيرهما ، وبالجملة فالجهل بالسبب عذر اتفاقاً ، والجهل بالحكم غير مؤثر على المشهوركتمكينها جاهلة أن لها الخيار وكإسقاط الشفعة جاهلاً بالبيع عالماً وجوبها ، والصحيح الفرق بين ما لا يخفى كجهل الحكم في الزنا والشرب والسرقة وبين ما قد يخفى كجهل المعتقة أن لها الخيار ، ولذلك علل ابن العطار المشهور بما إذا اشتهر ثبوت الخيار لها بحيث لا يخفى على أمة وأما إن أمكن جهلها فلا اه . قال في ضيح : الأقرب بأن قول ابن العطار تقييد وظاهر ابن الحاجب وغيره أنه مقابل اه . وقد جرى على هذا التقييد والتصحيح شراح المتن عند قوله في الشهادات : وليجب عن القصاص العبد ، وعن الأرش السيد ، وعند قوله : وليبين الحاكم حكمه . وجرى عليه ( ح ) في الوكالة حيث نقل عن الرعيني أن العامي إذا أنكر أصل المعاملة لا يضره ، وأهل التوثيق قاطبة على خلافة وقد أطلقوا وما فصلوا ولا قيدوا ، وكذا ما ذكره ابن عبد السلام من أن الشاهد إذا شهد وحلف لا تسقط شهادته وهو خلاف إطلاق ( خ ) وغيره . انظر العمري من شرح الشامل ، وانظر ما ذكره شراح المتن في الراهن لا يقضى عليه بالتعجيل إذا وهب الرهن ظاناً أنه لا يقضى عليه بفكه عند قوله في الهبة ورهناً لم يقبض ، ومنها ما قالوه فيمن اشترى شقصاً جاهلاً بأن شريك بائعه متحد مدخله مع بائعه فهو عيب يرد به كما نقلناه في الصفقة من اللامية إلى غير ذلك مما يدخل تحت القاعدة ، وقد وقع النزاع في النازلة وقت ولايتنا خطة القضاء بفاس ، فكتبت في النازلة ما يعلم بالوقوف عليه في نوازل الحجر من نوازلنا والله أعلم .
الثاني : كثيراً ما يقع في البوادي يقسم الإخوة ونحوهم وتعلم الأخت ونحوها أن حظها خرج مع شقيقها مثلاً وهي ساكتة ثم يبيع الأخ الكل أو البعض ، ثم تقوم الأخت وتريد نقض القسمة لأنها لم ترض فلا كلام لها على ما مر عن ضيح وغيره ، ولها ذلك على ما لابن الفخار إن جهلت أن السكوت يقطع حقها .
فصل في بيع المضغوطوهو من أكره على البيع أو على سببه قال في القاموس : الضغطة بالضم الضيق والإكراه والشدة ، ( وما أشبهه ) من بيع المغصوب منه للشيء المغصوب .
وَمَنْ يَبِعْ فِي غَيْرِ حَقَ شَرْعِي
بالْقَهْرِ مَا لاَ تَحْتَ ضَغْطٍ مَرْعِي
( ومن يبع في غير حق شرعي بالقهر ) متعلق بقوله يبع ( ما لا ) مفعول كان ذلك المال أصلاً أو غيره ( تحت ضغط ) أي ضيق وشدة ( مرعي ) أي معتبر بأن يكون كما في ( خ ) بخوف مؤلم منقتل أو ضرب أو سجن أو قيد أو صفع لذي مروءة بملأ أو قتل ولده أو أخذ ماله ، وهل إن كثر تردد اه . ؟ فإذا خاف نزول شيء به من هذه الأمور حالاً أو مآلاً فباع ، وأحرى لو نزل به بعضها بالفعل فإن بيعه غير لازم لعدم تكليفه لأنه مكره والمكره غير مكلف . قال الشارح : والإهانة الملزمة لمن لا تليق به إكراه قال في نوازل الكفالة من البرزلي في قوم تضامنوا لعداوة كانت بينهم : إن ما ذهب لأحدهم ضمنه الآخران الكفالة غير لازمة لوجود الإكراه بالخوف من رجوع العداوة ، وسواء استمر التخويف بما تقدم حتى وقع عقد البيع أو لم يستمر بل وقع الإكراه على نفس البيع أو على سببه ، ثم تراخى البيع إلى نحو الشهر والشهرين مثلاً كما قاله ولد الناظم ، وهو المعتمد خلافاً لما لابن لب من أنه لا ضغط حيث تأخر العقد عنه واحترز بقوله : مرعي مما بيع حياء أو رغبة أو على مال تافه ، وأما الخوف على أجنبي فصصح ابن بشير قول أشهب : بأنه لا إكراه ، وقال ابن بزيزة : إنه المشهور وأحرى خوفه على قتل أبيه أو عمه ، بل صرح ابن فرحون بأن المعرة إكراه ولا يخفى أن قتل الأجنبي عند المؤمن أعظم من صفع قفاه ومفهوم قوله في غير حق شرعي : إن ما إكراه على بيعه لحق شرعي ليس بأكراه كقضاء دين أو لتوسيع مسجد ونحوهما من النظائر التي ذكرها الشارح عند قول ( خ ) : لا إن أجبر عليه جبراً حراماً الخ . وانظر الباب الثاني من التبصرة و ( ح ) أول الغصب وسائر الشروح عند قوله : ولو عين السرقة أو أخرج القتيل .
فَالْبَيْعُ إنْ وَقَعَ مَرْدُودٌ وَمَنْ
بَاعَ يَجُوزُ المُشْتَرَى دُونَ ثَمَنْ
( فالبيع إن وقع ) على وجه الضغط المذكور سواء باع المضغوط بنفسه أو وكل عليه ( مردود ) على بائعه بإجماع فيما إذا أكره على نفس البيع ويرد الثمن للمشتري إلا أن تقوم البينة على تلفه عند البائع بغير سببه ، فإن تقم البينة بذلك بل ادعاه البائع فقط ففي تصديقه قولان لسحنون ، ويظهر رجحان الأول لأن الثمن لم يقبضه البائع لحق نفسه إذ هو غير راض به فهو عنده كالأمانة فيصدق في تلفها بغير سببه ، وأما إن أكره على سبب البيع كما إذا أكره على إعطاء مال ظلماً فباع أمتعته لذلك ، فالمشهور أنه مردود أيضاً ويأخذ البائع شيئه بلا ثمن كما قال : ( ومن باع يجوز ) الشيء ( المشتري ) منه ( دون ثمن ) يدفعه للمشتري ، وظاهره أنه يأخذه بلا ثمن ولو لم يعلم المشتري بالضغط وهو الذي لابن رشد في البيان ، واقتصر عليه ابن سلمون و ( ح ) وغير واحد من شراح ( خ ) قال في الشامل : إلا أن العالم آثم كالغاصب وعليه الضمان مطلقاً ولا غلة لهولغيره الغلة ولا يضمن العقار ويضمن ما أكل أو لبس ويبطل عتقه ووقفه اه . خلافاً لما لابن رشد في نوازله من أنه إنما يأخذه دون ثمن إن علم المشتري بالضغط وإلاَّ فلا يأخذه إلا بالثمن ، وظاهره أيضاً أنه يأخذه دون ثمن علم أن الظالم أو وكيله قبضه من المضغوط أو من المشتري أو جهل هل دفعه المشتري للظالم أو لوكيله أو لرب المتاع أو هل دفعه المضغوط للظالم أو بقي عنده ، وهل صرفه في مصالحه أو لا ؟ وهو كذلك في الجميع ووجهه أنه لما ثبت أصل الضغط حمل على أخذ الظالم له عند الجهل اللهم إلا أن علم ببينة أو إقرار أنه صرفه في مصالح نفسه أو أتلفه عمداً أو خطأ فإنه يأخذه بالثمن حينئذ .
تنبيهان . الأول : ما درج عليه الناظم من أن المبيع مردود عليه بلا ثمن فيما إذا أكره على سبب البيع هو المشهور ، وقال ابن كنانة : البيع لازم نافذ والمشتري منه مأجور لأنه أنقذه من العذاب ، وبه أفتى السيوري واللخمي ، وعليه العمل بفاس ونواحيها قال ناظمه : وبيع مضغوط له نفوذ الخ . وعليه فإذا أسلم للمضغوط في زيتون ونحوه فالسلم لازم له ، وإذا تسلف مالاً لفكاك نفسه أو أعطى حميلاً فغرم الحميل عنه فإن المسلف والحميل يرجعان عليه ولا مقال له ، وهذا إذا كانت الحمالة والسلف بسؤال من المضغوط وإلاَّ فلا إذا كان يرجى فكاكه بدون مال ، وإذا لزمه البيع على ما به العمل فأحرى أن يلزم أباه أو أخاه أو عمه أو أجنبياً إذا باعوا متاع أنفسهم لفكاكه ويرجعون عليه بما غرموا عنه إذ غايته أنهم مسلفون ، بل لو أكره الظالم يتيماً مراهقاً أو سفيهاً على إعطاء مال فباع كافله شيئاً من أمتعته لفكاكه وكان البيع على وجه السداد لكان ماضياً عليه كما قاله اللخمي ونقله اليزناسني وغيره ، وكذا لو أكره رجلاً على أن يغرم عن أخيه الغائب مالاً فباع الرجل شيئاً من متاع أخيه فالبيع نافذ كما قاله في الاستحقاق من المعيار في رجل أكرهه السلطان على أن يغرم مالاً عن أخيه فباع متاعه ومتاع أخيه أن البيع نافذ ويرجع على أخيه بما غرمه اه . وكذا وقفت عليه لبعض فقهاء الفاسيين في امرأة أكرهها الحاكم على أن تؤدي عن ولدها الغائب ثمناً فباعت شيئاً من متاع الولد أن البيع لازم ، واحتج بما عن المعيار .قلت : وعليه فلو أخذ السلطان رجلاً بمال ظلماً أو في جناية اتهم بها فهرب فأخذت جماعة بسببه فباعوا أملاكه على وجه السداد لأداء ما أخذوا به ، فالبيع لازم له فتأمله ، وما مر عن المعيار نحوه له في الوصايا منه أيضاً في وصي أخذ بسبب محجوره حتى أدى مالاً فإن ذلك يكون في مال المحجور ، ومثله في الأقضية منه . وانظر ما كتبناه في أجوبتنا لحاج عبد القادر محيي الدين على الحديث الكريم الذي رواه مسلم ، ونقله ابن فرحون وغيره في أحكام السياسة في كون الرجل يؤاخذ بجريرة قومه ، وهي أجوبة نفيسة مشتملة على نحو الخمس كراريس تعينك على ضبط هذا الباب وتفيدك عدم معارضة الحديث الكريم لقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( الأنعام : 164 ) أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها ، وفيها الكلام على حكم الفكاك الواقع بين القبائل والله أعلم .
الثاني : الضغط على الشراء كالضغط على البيع ، ففي المعيار عن القلشاني أن من اشترى سلعة معينة يدفعها في مظلمة والبائع يعلم بضغطه هو بمنزلة بيع المضغوط ويرجع بائعها بالثمن أو بأعيانها إن وجدت على الضاغط اه . وعلى ما به العمل يكون الشراء لازماً للمشتري المضغوط على شرائها .
قلت : ويبقى النظر إذا أكرها معاً هذا أكره على البيع والآخر أكره على الشراء والثمن يأخذه الضاغط ، وذلك لأن الضاغط أراد أن يغرم البائع مالاً فلم يجد البائع من يشتري منه فضغط المشتري أيضاً على الشراء ليدفع الثمن للبائع فيأخذه الضاغط والمشتري عالم بالضغط أو يكون الضاغط إنما أراد أخذ مال المشتري فيكرهه على شراء دار فلان مثلاً ، فعلى المشهور لا شك أن البائع لا يلزمه البيع ويرجع المشتري بثمنه على الضاغط فإن تلف المبيع بيده فلا يضمنه البائع ، وأما على ما به العمل فانظر هل يكون البيع لازماً له ههنا أيضاً نظراً للسبب أو لا يكون لازماً نظراً إلى كون المشتري مكرهاً ، فهو قد دفع الثمن لينقذ نفسه من العذاب فهو المكره في الحقيقة وإكراه الآخر صوري فقط وهو الظاهر ، ووقعت هذه المسألة أيام الفتنة سنة ست وثلاثين من هذا القرن فبيعت على الوجه المذكور دور وحوانيت لا تحصى حتى إنهم باعوا حوانيت الأحباس ودور الأيتام ولا يخفى أن المكره في حوانيت الأحباس والأيتام هو المشتري فقط لعدم تعلق الإكراه بالأحباس والأيتام الصغار ، وانظر حاشيتنا على ( ز ) : وإذا زال الإكراه فعلى المشهور لا بد من القيام بفور زواله ، كما مر في بيع الفضولي إذ زال عذر مالكه والله أعلم . وانظر أواخر الكراس الأول من بيوع البرزلي فإنه ذكر أنه لا يتعرض لنقض معاملة الملوك لقيام الفتنة بذلك ، وإن كان الوالي جائراً وذلك راجع إلى كون المضغوط ينفذ بيعه وشراؤه الخ .
وَالخُلْفُ في الْبَيْعِ لِشَيْءٍ مُغْتَصَبْ
ثَالِثُهَا جَوَازُهُ مِمَّنْ غَصَبْ
( والخلف في البيع لشيء مغتصب ) على ثلاثة أقوال جوازه مطلقاً ومنعه مطلقاً ( ثالثها ) وهو المشهور ( جوازه ممن غصب ) ( خ ) ومغصوب أي لا يجوز بيعه إلا من غاصبه زاد : وهل إن ردلربه مدة تردد ، واقتصر في باب الغصب على الجواز بدون الشرط المذكور حيث قال : وملكه إن اشتراه ولو غاب الخ . فيستروح منه عدم اشتراط الشرط المذكور وهو الذي ارتضاه ابن رحال أي : لا يشترط الرد ولا الغرم عليه ، ومفهوم قوله ممن غصب أنه لا يجوز بيعه من غير الغاصب قبل قبضه من الغاصب على هذا القول المشهور وهو كذلك ، ولو كانت عليه بينة بالغصب وهو ممن تأخذه الأحكام لأنه شراء ما فيه خصومة والمشهور منعه .
فصل في مسائل من أحكام البيعلو قال في أحكام مسائل من البيع قاله ( ت ) .
أَبٌ عَلَى بَنِيهِ فِي وِثَاقِ
حجْرٍ لهُ يَبِيعُ بِالإطْلاَقِ
( أب ) مبتدأ سوغه قصد الجنس ( على بنيه في وثاق حجر له يبيع ) خبر المبتدأ وعلى بنيه متعلق به ، وفي وثاق حال من بنيه ( بالإطلاق ) ذكر السبب الذي وقع البيع لأجله أم لا . كان السبب أحد الأسباب التي يبيع لها الوصي أم لا كبيعه ليتجر له بثمنه ونحو ذلك ، وشمل قوله : يبيع الخ . هبة الثواب لأنها بيع بخلاف الوصي فليس له أن يهب للثواب ، وليس المراد بالإطلاق أنه يبيع لسبب ولغير سبب أصلاً كما قد يتبادر ، إذ لا يجوز فيما بينه وبين الله أن يبيع لغير سبب أصلاً .
وَفِعْلُهُ عَلى السَّدَادِ يُحْمَلُ
وَحَيْثُ لا رَدَّ ابْنُهُ مَا يَفْعَلُ
( وفعله على السداد يحمل ) حتى يثبت خلافه إلا أن يكون هو المشتري لمال ابنه أو يشتري لولده من نفسه أن يبيع لأجنبي ليصرف الثمن في مصالح نفسه أو لينفق منه على نفسه لفقره في زعمه فإنه يحمل حينئذ على غير السداد ويرد كان الأب موسراً أو معدماً وليس له بيعه للإنفاق منه على نفسه إلا بعد إثبات العدم ، وظاهره أنه يحمل على ما ذكر من السداد وأنه باع لمصلحة الولد ، ولو باع باسمنفسه ولم يذكر أنه باع عن ولده وهو كذلك كما في ابن سلمون وضيح عن ابن القاسم وأحرى إذا ذكر أنه يبيعه عن ولده ولا يدري هل باعه لمصلحة نفسه أو لولده كما في المفيد ، وظاهر هذا أنه يمضي بيعه ويمكن من قبض ثمنه ولو كان فقيراً ، والذي لابن عرفة في نكاح التحكيم ونقله أواسط الكراس الثالث من أنكحة المعيار ونحوه في الفائق عنه ، وبه حكم ابن عبد الرفيع أنه لا يمكن من قبض مال ولده حيث كان فقيراً وعليه عول في لامية الزقاق حيث قال :
هكذا منع والد
فقير من أخذ المال للولد اعملا
وحينئذ فيقيد ما مر عن ضيح والمفيد بما إذا كان الأب موسراً لأنه إذا كان فقيراً فالغالب أنه يبيعه لمصلحة نفسه فلا يحمل على السداد وعلى فرض وجود السداد فلا يمكن من قبضه ، وهذا شاهد لنزع الوصي الفقير من التقديم كما هو ظاهر ولا يشمل قوله وفعله الخ . الصدقة بمال ولده ، وفي معناها البيع بالمحاباة فإن ذلك يرد ابن رشد حكم ما باعه الأب من مال ولده الصغير لمصلحة نفسه أو حابى به حكم ما وهبه أو تصدق به يفسخ في القيام كان الأب موسراً أو معدماً ، وحكمه في الفوات ما ذكرته في الهبة والصدقة غير أنه إذا غرم يرجع على الأب بالثمن اه . وقال قبل هذا : فرق ابن القاسم بين أن يعتق الرجل عبد ابنه الصغير أو يتصدق به أو يتزوج به فقال : إن العتق ينفذ إذا كان موسراً ويغرم القيمة ويرد إن كان معدماً إلا أن يطول الأمد . قال أصبغ : لاحتمال أن يكون حدث له أثناء ذلك يسر لم يعلم به ، وأما إن علم أنه لم يزل عديماً في ذلك الطول فإنه يرد وقال : إن الصدقة ترد كان موسراً أو معدماً فإن تلفت الصدقة بيد المتصدق عليه بأمر من السماء لم يلزمه شيء وغرم الأب القيمة وإن فاتت بيده باستهلاك أو أكل والأب عديم لزمه غرم قيمتها ولم يكن له على الأب رجوع . وقال في التزويج : إن المرأة أحق به دخل بها أم لا معسراً كان الأب أو موسراً ويتبع الابن أباه بقيمته اه . من طفي ، ثم قال : فالحاصل على مذهب ابن القاسم لا فرق بين يسر الأب وعسره في رد البيع والهبة وعدم رد ما يتزوج به ، وإنما الفرق بين اليسر والعسر في العتق وهذا هو مراد ( خ ) بقوله : كأبيه إن أيسر الخ . قال : وأطال ( ح ) بجلب كلام الأخوين وترك مذهب ابن القاسم الذي هو المعتمد وما كان ينبغي له ذلك ، ثم إذا وقع البيع بالمحاباة والأب عديم وفات فإن المشتري يضمن المحاباة هذا ما يظهر من كلام ابن رشد المتقدم . وإذا غرمها فلا يرجع على الأب كما هو ظاهر والله أعلم . قال في وكالات المعيار : إذا باع الأب بالمحاباة بالأمر البين وظهر سوء نظره لم يجز بيعه ونقض ولم يمكنه القاضي بعد من النظر في مال ولده اه . باختصار .
( وحيث لا ) سداد بأن باع لمصلحة نفسه أو بمحاباة وغبن أو جهل ، هل باع لمصلحة نفسه أو لولده وهو فقير على ما تقدم عن ابن عرفة ( رد ابنه ) إن رشد أو القاضي إذا اطلع عليه وكان الابن لم يرشد ( ما يفعل ) إن كان المبيع قائماً وإن فات فيجري على ما تقدم .تنبيهان . الأول : إذا شهدت بينة أن البيع عليه سداد وشهدت أخرى أنه غير سداد فإن بينة السداد تقدم حيث نودي عليه المدة المعتبرة في بيع الأصل . قاله في شهادات المعيار ونحوه في البرزلي .
الثاني : ما تقدم من أن الأب إذا اشترى مال ولده لنفسه محمول على غير السداد هو الذي في المتيطية وضيح ، واقتصر عليه في الشامل ، والذي لابن سهل في أحكامه أن العمل جرى عندهم على أن الأب إذا باع من ابنه أو ابتاع من ماله لنفسه لم يعترض ويحمل أمره على التمام إلا أن يثبت الغبن الذي لا يتغابن الناس بمثله ، بخلاف الوصي إذا باع من اليتيم أو ابتاع من ماله لنفسه فالبيع مفسوخ إلا أن يثبت السداد اه . ونحوه في الفشتالي قائلاً : وإن عاوض الأب ولده الصغير من نفسه جاز ذلك كالبيع ، وبه مضى العمل اه . ونحوه لابن مغيث . ونقل ذلك كله ناظم العمل المطلق في شرحه فتأمل ذلك ، والذي ينبغي أن يحمل ما في المتيطية وضيح على ما إذا كان الأب ممن يتهم لكونه غير متسع المال ، وما في ابن سهل ومن معه على ما إذا كان متسع المال والله أعلم .
وَبَيْعُ مَنْ وصِّيَ لِلْمَحْجُورِ
إلاّ لِمُقْتَضِ مِنَ المَحْظُورِ
( وبيع من وصي ) مبتدأ ( للمحجور ) يتعلق ببيع واللام بمعنى ( على ) ( إلا ) استثناء ( لمقتض ) يتعلق ببيع مقدر ( من المحظور ) خبر المبتدأ ، والتقدير : وبيع الوصي على محجوره ممنوع إلا أن ببيع لمقتض وموجب أي حاجة لنفقة أو كسوة فيجوز كان المبيع عقاراً أو غيره ، ولا يحتاج إلىإثبات الحاجة للنفقة والكسوة إذ لا يعلم ذلك إلا من قوله : وأما إن باع لغيرها من غبطة كما في ( خ ) أي كثرة في الثمن أو لكونه موظفاً ليوظفه بما لا توظيف عليه ، أو لكونه حصة ليبدله بكامل أو لقلة غلته ليبدله مما كثرت غلته ، أو لكونه بين ذميين أو جيران سوء وهو للسكنى لا للغلة أو لإرادة شريكه بيعاً ولا مال له يضم به صفقة البيع أو لخشية انتقال العمارة أو لخوف الخراب ولا مال له أو له ، والبيع أولى فهل لا بد من إثباته الوجه الذي يبيع له من هذه الوجوه كما هو ظاهر النظم . ولا يكفي مجرد ذكره باللسان كما في ( ق ) عن ابن رشد وهو قول أبي عمران وغيره ، ومعناه في المدونة كما لأبي الحسن ، وعليه فلا يتم البيع حتى يضمن الشهود في الوثيقة معرفة الغبطة والتوظيف ونحو ذلك ، وإلا كان على المشتري إثبات ذلك وإلا نقض البيع ولا يحتاج إلى إثبات الوجه الذي يبيع له ، بل يكفي ذكره له بلسانه ، وإن لم يذكره كان البيع ماضياً لأنه كالأب فيتم بيعه ، وإن لم يذكر السبب وعلى المحجور إثبات أنه باع لغير سبب وهو قول الأندلسيين . الجزيري : وهو المشهور . ابن عاث : وهو قول الشيوخ قديماً وبه العمل ، ونحوه لأبي الحسن والبرزلي وغيرهم فهما قولان شهر كل منهما ( خ ) : ثم وصيه وهل كالأب أو إلا الربع فببيان السبب خلاف ، ورجح ابن رحال في الحاشية ههنا أنه كالأب فمحل هذا الخلاف إذا باع عقار اليتيم كما ترى ، وإلاَّ فلا يحتاج لبيان السبب اتفاقاً ، ولكن الذي يجب اعتماده في زماننا هذا هو قول أبي عمران لقلة ديانة الأوصياء وهو ظاهر النظم كما مر . ولذلك قال البرزلي : وقع في أحكام ابن زياد أنه إذا أقيم فيما باعه الوصي كان على المشتري إثبات أنه ابتاع بيعاً صحيحاً ، وأنه باع لغبطة أو فاقة أو حاجة ويتم الشراء اه .
قلت : ولقلة ديانتهم جرى العمل بإدخال مال الأيتام في ذمتهم فيقولون في زمام التركة وما صار للمحجور فلان هو في ذمة حاجره فلان إلى أن يبرأ منه بموجب شرعي ، وقد نصوا على أنهم إنما أدخلوها في ذمتهم خشية ادعاء ضياعها لقلة ديانتهم والله أعلم . وفي الدر النثير عن أبي الحسن : أن الوصي إذا باع لغير حاجة بل لتزليج الدار فإن بيعه ينقض ، وانظر إذا باع المحجور بمحضر وليه في آخر اختلاف المتبايعين عند قوله : وعكس هذا لابن سحنون نمي الخ .
تنبيهات . الأول : قال في الوصايا من المتيطية عن بعض الموثقين ما نصه : الذي جرى به العمل أن حكم مقدم القاضي حكم الوصي في جميع أموره اه . وكذا قال ابن رحال في الحاشية : أنه كالوصي ، ويظهر منه أنه يجري فيه الخلاف الذي في الوصي هل لا بد من إثباتالسبب أم لا ؟ وفيه شيء إذ الذي عول عليه ( خ ) أنه ليس كالوصي لأنه جعل مرتبته بعد مرتبته وشرط فيه شروطاً لم يشترطها في الوصي حيث قال : ثم حاكم وباع بثبوت يتمه وإهماله وملكه لما بيع وأنه الأولى وحيازة الشهود له والتسوق وعدم إلغاء زائد والسداد في الثمن ، وفي تصريحه بأسماء الشهود قولان الخ . فعلم منه أن هذه الأمور شروط صحة في بيعه وأن القاضي أو نائبه يبيع لواحد من الأسباب المتقدمة بعد ثبوته اتفاقاً أو على المشهور ، إذ حيث كان يجب عليه أن يثبت أنه أولى ما يباع عليه مثلاً ونحوه ولا يصدق في ذلك ، فأحرى أنه يجب عليه إثبات السبب الذي وقع البيع لأجله من كونه قد قلت غلته أو بين ذميين ونحو ذلك ، ويبعد كل البعد أن يقال يصدق في كون الربع قد قلت غلته على ما للأندلسيين في الوصي حيث قلنا إنه كهو ولا يصدق في التسوق وأنه أولى ما يباع عليه مثلاً على أن الشيخ طفي قال : إنما يبيع للأسباب المتقدمة الوصي ، وأما القاضي أو نائبه فإنما يبيعان للحاجة وهو معترض بما ل ( ت ) في شرح اللامية وبما في الدر النثير حسبما نقله الشيخ الرهوني في حاشيته والله أعلم . ثم إن المراد بالسداد في الثمن الخ . أن لا يباع بالمحاباة وأن يكون الثمن عيناً لا عرضاً ، ولا يشترط بلوغه القيمة كما يأتي في البيع على الغائب ، والظاهر أن المراد بإثبات ملكه إثبات أنه محوز بيده لأن الأصل فيمن حاز شيئاً يدعي ملكيته له أنه له كما يأتي في بيع الغائب .
الثاني : يفهم من كون الأمور المذكورة شروط صحة في بيع الحاكم أنه إذا باع تركة لقضاء الديون أو لحاجة الأيتام ونحو ذلك قبل إثبات الموجبات فإنه ينقض البيع ، وإن فات لزمه المثل في المثلى والقيمة في المقوم يوم تعدي ، وكذا إذا باع وفرط في قبض الثمن حتى غاب المشترون اه . قال السيوري : فظاهره أنه محمول على غير وجودها وهو الصواب خلاف ما في الكراس الأول من معاوضات المعيار ونوازل ابن رشد من أن بيع القاضي محمول على استيفاء الموجبات وعلى من ادعى انخرامها إثباته الخ . ولما نقل بعضهم ما في المعيار أعقب ذلك بقوله : ولكن ما ذكر في غير قضاة الوقت أما هم فيحمل أمره على عدم إثبات الموجبات لأن قصارى أمر بيعهم أن يكون بمنزلة تصريح القاضي بأنه ثبت عندي ما يوجب البيع ، وقد ذكروا أن القاضي لا يصدق في قوله ثبت عندي على المعمول به ، وإن كان في المتيطية ذكر أنه يصدق ، لكن قال الجلاب وابن القصار : لا يصدق ومال إليه المازري وقال اللخمي : أنه الأشبه بقضاة الوقت . قال النالي وابن حجوا : هو المعمول به ، ثم قال المتعقب المذكور ثم اطلعت على أوائل مسائل الصلح من المازونية فوجدته ذكر أجوبة متعددة عن سؤال مضمنها أنه يجب على المشتري من القضاة إثبات موجبات البيع فإن لم يثبت ذلك رد البيع اه . والأجوبة في المازونية لسيدي علي بن عثمان وسيدي سعيد العقباني وأبي الفضل العقباني . زاد أبو الفضل : إذا علم المشتري بأن القاضي باع منه قبل إثبات الموجبات فإنه يرد الغلة اه . من خط أبي العباس الملوي رحمه الله ، وينبغي أن يقيد بغير إثبات ملكه لأن الأصل فيمن حاز شيئاً أنه يملكه كما يأتي في البيع على الغائب ، وفي باب القسمة أيضاً وأن يقيد أيضاً بغير البيع للحاجة للإنفاق وإلاَّ فهو مصدق إذ لا يعلم ذلك إلا من قوله كما مر ، لكن لا بد من ثبوت التسوق وعدم إلغاء زائد الخ .
قلت : ولا بد في بيعه للملوك الذي غاب سيده أن يكلفه إثبات كون سيده لم يترك لهنفقة ، وأنه ليس له صنعة تقوم بنفقته كما يأتي في أواخر فصل البيع على الغائب ، وقوله : ينقض البيع الخ . محله إذا لم يثبت المشتري الموجبات من كونه باع لحاجة أو غبطة وإلاَّ صح البيع كما في ضيح ، وسيأتي نحوه في بيع الحاضن ، وإذا صح ذلك في بيع الحاضن فأحرى أن يصح في الحاكم لأنه أقوى منه ، وقوله لزمه المثل في المثلى والقيمة في المقوم الخ . يعني إذا كانت القيمة أكثر من الثمن يضمن الزائد ، والظاهر أن محل ضمانه حيث كان من قضاة العدل وأهل العلم إذا تحقق تعديه كما لو تبين أنه باع ما ليس أولى بالبيع مثلاً وإلاَّ بأن بقي الأمر محتملاً فلا ، كما بيناه في حاشية اللامية .
الثالث : مقدم القاضي كهو في كونه لا يبيع إلا بعد إثبات الموجبات المتقدمة ، ويزاد أنه لا يبيع ربع الأيتام إلا بمشورة القاضي لأنه كوكيل مخصوص على شيء بعينه وهو قول القاضي إسماعيل ، وبه العمل اليوم قال ناظم العمل المطلق :
وليس كالوصي ذا التقديم
فلا يبع ربعاً على اليتيم
إلا إذا ما أذن القاضي له
فيه وإلا فيرد فعله
وقيده ابن كوثر بما إذا أمكنه الرفع إلى القاضي ولم يفعل ، وقيده ابن الحاج بما إذا لم يثبت عند القاضي ما يوجب البيع وإلاَّ فلا يرد بيعه كما في المعيار في نوازل الصلح منه .
الرابع : إذا زعم الوصي أو مقدم القاضي أنه دفع عن اليتيم العشر والمغارم والجعائل للمخزن فإنهما يصدقان إذا كان ذلك معروفاً بالبلد وادعيا ما يشبه قاله ابن زرب ، ونقله العلمي في البيوع .
وَجَازَ بَيْعُ حَاضِنٍ بِشَرْطِ أَنْ
أُهْمِلَ مَحْضُونٌ وَلا يَعْلُو الثَّمَنْ
( وجاز بيع حاضن ) أو حاضنة عقار يتيمه كان الحاضن قريباً أو أجنبياً في بدو أو حضر ( بشرط أن ) بفتح الهمزة ( أهمل ) بالبناء للمفعول ( محضون ) أي بأن لا يكون له ولي من وصي أو مقدم ( و ) أن ( لا يعلو الثمن ) بل لا بد أن يكون يسيراً مثل .
عِشْرِينَ دِينَاراً مِنَ الشَّرْعِيِّ
فِضَيَّةً وَذَا عَلَى المَرْضِيِّ
( عشرين ديناراً ) فدون عند ابن العطار وعليه الأكثر ، ولابن زرب ثلاثون ، ولابن الهندي عشرة وأن يثبت السداد في الثمن ، وأنه أولى ما يباع عليه ، وأنه محتاج إلى بيعه لكونه لا يمكنه التوصل إلى معيشته بصناعة ولا بتصرف ما فلا بد أن تشهد بينة معتبرة بهذه الشروط كلها ، فحينئذ يصح البيع ويتم للمشتري ملكه ، وإذا اختل شرط منها فلا يتم للمشتري ملكه إلا بإثباته ، وإلاَّ فللمحضون إذا كبر الخيار في رد البيع أو إمضائه قاله أبو الحسن وابن رشد وغيرهما . زاد في المفيد وأصله لابن رشد عن ابن العطار : إن من الشروط أن تشهد البينة أن الحاضن أنفق الثمن على اليتيم وأدخله في مصالحه وإلاَّ فللمحجور القيام وهو شرط غريبأسقطه كثير من المحققين فلم يذكره في الوثائق المجموعة ، ولا أبو الحسن ولا ابن هلال ولا إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق ، وإنما ذكروا ما عداه من الشروط المتقدمة ، وذلك يدل على ضعفه قاله أبو العباس الملوي رحمه الله .
قلت : وصدق رحمه الله في كونه شرطاً ضعيفاً وإن نقله في ضيح والشامل والتبصرة وسلموه ، إذ لا وجه لاشتراطه مع عسر الشهادة به ، وغايته أنه حيث جاز بيعه فهو كالمقوم ولا يشترط في المقوم إلا ما مر عن ( خ ) من ثبوت يتمه وإهماله الخ . وظاهر النظم أن بيع الحاضن بالشروط المذكورة جائز ولو كان القاضي بالبلد ولا يحتاج إلى أن يرفع الأمر إليه ولا إلى ثبوت ملكه لما بيع ولا إلى التسوق وعدم إلغاء زائد وهو كذلك . ابن رشد : لما رأى الفقهاء أن اليتيم ربما ضاع قبل إثبات ذلك عند القاضي أجازوا للحاضن البيع دون مطالعته إذ لو طولع بذلك لم يكن له بد من ثبوت تلك الموجبات التي تشترط في بيع القاضي ( من ) الدينار ( الشرعي ) عند أهل قرطبة وصرفه عندهم ثمانية دراهم وزنة الدرهم الواحد وقت حكمهم في المسألة ست وثلاثون حبة . قال في المتيطية : ولذا قال ( غ ) : المراد بالدينار هنا هو ثمانية دراهم من دراهم دخل أربعين ، ومعناه أن مائة وأربعين منها تعدل مائة كيلاً أي شرعية وزنة الدرهم الواحد منها ست وثلاثون حبة وهو خمسة أسباع درهم الكيل ودرهم الكيل منها مثل وخمسا المثل ، وهو معنى قوله : ( فضية ) أي فالدينار هنا أقل منه في باب الزكاة لأن صرفه هناك عشرة دراهم وهنا ثمانية فينقص الخمس ، ثم وزن الدرهم هناك خمسون وخمسا حبة وهنا ست وثلاثون بنقص سبعيه ، فصارت العشرون ديناراً قرطبية أحد عشر ديناراً شرعية وثلاثة أسباع الدينار ، وبيانها أن صرف العشرين ديناراً شرعية في الزكاة مائة درهم شرعي ، وصرف العشرين ديناراً قرطبية في الحضانة مائة وستون درهماً لأن صرفه هناك عشرة وصرفه هنا ثمانية فقد نقصت الخمس عن صرفها في الزكاة ، ثم هذه المائة والستون يحط سبعاها لأن كل درهم منها ينقص سبعين عن الدرهم الشرعي وسبعاها ستة وأربعون درهماً يبقى بعد حط ما ذكر مائة درهم وأربعة عشر درهماً فمائة وعشرة بأحد عشر ديناراً ، والأربعة دراهم الباقية هي ثلاثة أسباع الدينار والله أعلم . ( وذا ) أي ما ذكر من جواميع الحاضن بالشروط المذكورة ( على ) القول ( المرضي ) من أقوال أربعة : الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والجواز في بلد لا سلطان فيه والجواز في اليسير الذي قدره عشرون ديناراً وهو المرضي المعمول به .
تنبيه : القول بالجواز مطلقاً رجحه ابن سهل في أحكامه الكبرى كما في ( ق ) آخرالقسمة ، وبه أفتى أبو الحسن في آخر مسألة من نوازله ، ثم نقل رواية ابن غانم عن مالك أن الكافل بمنزلة الوصي ، ونقل عن شيخه أبي الفضل راشد أن أبا محمد صالحاً قال : هذه الرواية جيدة لأهل البادية لإهمالهم الإيصاء والتقديم اه . وقال ابن هلال : وبذلك أقول وأتقلد الفتوى به في بلدنا اليوم لأنه كالبادية ، فالصواب الآن العمل بقول من أنزل الكافل بمنزلة الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك اه . انظر شرح الشامل .
وَمَا اشْتَرَى المَرِيضُ أَوْ مَا بَاعَا
إنْ هُوَ مَاتَ يَأْبَى الامْتِنَاعَا
( وما اشترى المريض ) في مرضه ولو مخوفاً ، وتقدم بيانه في الخلع وسيأتي أيضاً في فصل الصدقة والهبة إن شاء الله ( أو ما باعا ) في مرضه ( إن هو مات ) منه ، وأحرى إذا مات بعد أن صح منه ( يأبى ) ذلك البيع ( الامتناعا ) والفسخ ، بل يجب نفوذه ومضيه بالثمن الذي وقع به إن لم يكن فيه محاباة إذ لا حجر على المريض في المعاوضات كما أفاده ( خ ) بمفهوم قوله : وحجر على مريض في غير مؤنته وتداويه ومعاوضة مالية الخ .
فَإنْ يَكُنْ حَابَى بِهِ فَالأَجْنَبي
مِنْ ثُلْثِهِ يَأْخُذُ مَا بِهِ حُبِي
( فإن يكن حابى به ) أي فيه بأن باع أقل من القيمة بكثير بقصد نفع المشتري أو يشتري بأكثر من ذلك بقصد نفع البائع فما نقص عن القيمة أو زاد عليها أو هبة يجري على حكمها فإن لم يكن ذلك بقصد نفع من ذكر بل للجهل بالقيمة فهو الغبن الآتي قاله ميارة ، فإن كانت المحاباة المذكورة لأجنبي ( فالأجنبي من ثلثه ) أي الميت ( يأخذ ما به حُبي ) لأن المحاباة عطية والعطية في المرض المخوف حكمها حكم الوصية تجري على حكمها ، وأما في غير المخوف فحكمها حكم العطية في الصحة تفتقر للحيازة قبل حصول المانع وإلاَّ بطلت ، وعليه فإذا زادت المحاباة في المخوف على الثلث فإنه ينفذ منها ما حمله الثلث ويبطل الزائد ، ولو حازه الأجنبي قبل الموت إذ لا حكم لحيازة العطية في المخوف ، فإن أجاز الورثة له ذلك الزائد فهو ابتداء عطية تفتقر للحوز على المشهور . 4
وَمَا بِهِ الْوَارِثَ حَابَى مُنِعَا
وَإنْ يُجزْهُ الوَارِثُونَ اتُّبِعَا
( وما به الوارث ) مفعول بقوله ( حابى ) زاد ما حابى به على الثلث أو نقص ( منعا ) أيمنعت المحاباة فقط ، ويصح ما عداها فإذا باعه بمائة ما يساوي مائتين مثلاً فيكون للوارث نصف المبيع فقط ويبطل النصف الآخر ، وأما في الأجنبي فإنه لا يبطل النصف الآخر بل يكون له منه ما حمله الثلث ، وإنما بطلت في الوارث لأنها وصية له وهي ممنوعة . ( وإن يجزه الوارثون اتبعا ) فعلهم في الوارث والأجنبي وهو ابتداء عطية منهم يعتبر فيها الحوز .
تنبيهات . الأول : ظاهر قوله : يأخذ ما به حُبي الخ . بل صريحه أنه لا يبطل البيع وهو معارض لما يأتي في الإقرار حيث قال :
وبيع من حابى من المردود
أو ثبت التوليج بالشهود فصرح هناك بأنه يبطل ، وظاهره لو كان لوارث أو غيره في الصحة أو في المرض ، فإذا باعه بمائة ما يساوي مائتين ولم يجزه حتى مات ، فإنه يبطل الجميع ويرد إلى المشتري ما دفع من الثمن ، وهو الذي في الفائق عن ابن القاسم قائلاً : إن للورثة نقض البيع كله لأنه أراد به التوليج ، ولو أتم هو بقية الثمن ما كان ذلك له لأن أصل البيع على التوليج إليه اه . ونحوه لأبي الحسن وابن هلال في الدر النثير ، ومثله في المعاوضات من المعيار في الكراس الحادي عشر من مسألة الوصايا اختلف فيها أهل بجاية ، والذي لابن عرفة وابن ناجي عن ابن القاسم أيضاً أنه يكون له من المبيع بقدر ما دفع من الثمن ويبطل الزائد في الوارث ، ويكون للأجنبي منه ما حمله الثلث . هذا كله إذا لم يجزه حتى مات كما مر ، وأما إن حازه المشتري في الصحة حوزاً تاماً فيختص به على الراجح لا أن حازه في المرض فكأنه لم يجزه حتى مات ، ثم ما للناظم هنا هو الموافق لما لابن عرفة وابن ناجي كما ترى ، وهو الذي عول عليه ( خ ) وشراحه وغيرهم ، فتحصل أنهما قولان بالبطلان مطلقاً وبالصحة مطلقاً درج الناظم هنا على الثاني ، وفي باب الإقرار على الأول ، وللشيخ الرهوني في حاشيته بعد نقول تحرير عجيب ملخصه ما ذكرنا ، إلا أنه رجح في المحاباة في الصحة ما تضمنه الناظم في باب الإقرار وهو ما للفائق ومن معه ، ورجح في المحاباة في المرض للوارث ، والأجنبي ما للناظم هنا وهو ما لابن عرفة ومن معه ، ولكن يلزم من رجح البطلان في الصحة أن يرجح البطلان في المرض بالمساواة أو بالأحرى فالأولى التمسك بما عليه ابن عرفة و ( خ ) وشراحه .
الثاني : ما تقدم للناظم إنما هو في المحاباة في ثمن المبيع كما مرّ في التقرير ، وأما إن كانت المحاباة في عين المبيع مثل أن يقصد إلى خيار دوره أو عبيده فيبيعه من ولده بمثل الثمن أو أكثر فللورثة نقض البيع في ذلك قاله اللخمي والتونسي ، ومثله في سماع أبي زيد قال محمد : وهذا أحسن نقله في الفائق وغيره مسلماً .الثالث : محاباة المريض للأجنبي وتبرعه لا ينفذ إلا بعد موته ( خ ) : ووقف تبرعه له إلا لمال مأمون وهو العقار فإن مات فمن الثلث وإلا مضى الخ .
وَكُلُّ مَا الْقَاضِي يَبِيعُ مُطْلَقَا
بَيْعُ بَرَاءَةٍ بِهِ تَحَقَّقَا
( وكل ما القاضي يبيع ) من حيوان أو عقار أو غيرهما ( مطلقا ) باعه على مفلس أو يتيم أو غائب ( بيع براءة به تحققا ) فليس للمشتري رده بعيب يجده قديماً فيه وأما بالاستحقاق فإنه يرجع بثمنه ولا إشكال ، وظاهره أنه لا رد للمشتري ولو أتى العيب على جل ثمنه وهو كذلك قاله في المتيطية ، وما ذكره الناظم من أنه بيع براءة في كل شيء هو أحد روايتين عن مالك ، والمشهور أنها خاصة بالرقيق ، فعلى الناظم الدرك في اعتماده غير رواية ابن القاسم ، قال في النهاية : وأما ما باعه السلطان على مفلس أو في مغنم أو لقضاء دين أو ورثة أو على صغير فهو بيع براءة وإن لم يشترطه وليس للمبتاع رده بعيب قديم ولا في ذلك عهدة ثلاث ولا سنة . هذا قول مالك المشهور المعمول به في المدونة وغيرها ، ثم قال : فإن قلنا بالقول المشهور المعمول به فهل يكون بيع السلطان بيع براءة في كل شيء أو في بيع الرقيق خاصة ؟ عن مالك في ذلك روايتان . أحدهما : أنها في كل شيء رواها ابن حبيب عن مالك وهو قول ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وغيرهم ، والأخرى أنها لا تكون إلا في الرقيق خاصة رواها ابن القاسم وأشهب عنه وهو قول ابن القاسم اه . فوجب صرف التشهير والعمل لرواية ابن القاسم لأنها مقدمة على رواية غيره ، ولذا عول عليها ( خ ) حيث قال : ومنع منه أي من الرد بالعيب بيع حاكم ووارث رقيقاً فقط بين أنه إرث الخ . ومحل كون بيع القاضي بيع براءة إذا لم يعلم هو أو المفلس بالعيب وإلاَّ فللمشتري الرد ، وعن اللخمي أنه لا يكون من الحاكم بيع براءة حتى يسأل المبيع عليه هل علم عيباً أم لا اه . وإذا ثبت علمه بالعيب بعد البيع فهل يرجع المشتري بجميع الثمن على الغرماء أو بقيمة العيب ؟ روايتان . ففي الموازية يرجع بالثمن ، وفي المدونة بقيمة العيب فقط ويرجعون هم به على المفلس ، وقاله ابن القاسم وابن نافع في المتيطية .
وَالخُلْفُ فِيما باعَهُ الوَصِيُّ
أَوْ وَارثٌ وَمَنْعُهُ المَرْضِيُّ
( والخلف فيما باعه الوصي ) للإنفاق على اليتيم أو لقضاء دين أو تنفيذ وصية لا أن باع مال نفسه ( أو وارث ) باع لما ذكر أيضاً لا أن باعوه للانفصال من شركة بعضهم بعضاً ونحو ذلك فإنه لا يكون بيع براءة إلا أن تشترط كما مر في بيع الرقيق ( ومنعه ) أي منع كون بيع من ذكر بيع براءة هو ( المرضي ) المعمول به في كل شيء .إلاَّ بِمَا الْبَيْعُ بِهِ يَكُونُ
برَسْمِ أَنْ تُقْضَى بِهِ الدُّيُونُ
( إلا بما البيع به ) الباء الأولى والثانية ظرفيتان أي : إلا في الشيء الذي البيع فيه ( يكون برسم أن تقضى به ) أي بثمنه ( الديون ) هذا محل الخلاف ، فلو حذف هذا البيت وأبدل البيت الأول بقوله ما نصه :
كذلك الوارث والوصي
جوازه أن بينا المرضي
لأجاد وأفاد شرط كون بيع الوصي والوارث بيع براءة إذا بينا أن المبيع إرث بخلاف الحاكم فإنه لا يشترط ذلك فيه ، ومفهوم قولنا للإنفاق أو لقضاء دين أو تنفيذ وصية الخ . أنه إذا باع للتجارة لليتيم فإن العهدة عليه إذا لم يكن لليتيم مال . قال في المتيطية : فإن تجر الوصي ليتيمه أتبعت ذمته كالوكيل المفوض إليه وهذا بخلاف ما يبيعه للإنفاق على اليتيم لأن ذلك ضرورة اه . وأشار الناظم بقوله : ومنعه المرضي الخ . إلى قوله في المتيطية أيضاً . وأما ما باعه الوصي لأيتامه أو الورثة الكبار لقضاء دين الميت أو وصاياه فلا يكون بيع براءة إلا أن يشترطها الوصي ، أو يصرح بأنها ميراث ، أو يعلم بذلك المبتاع فيكون بيع براءة ، وإن لم يعلم المبتاع بأنه بيع ميراث أو سلطان فهو مخير في الرد والإمساك اه . وهو معنى قول ( خ ) وخير مشتر ظنه غيرهما اه . قال ابن شاس : وإنما حمل بيع الوارث والحاكم والوصي على البراءة لكون الديون والوصايا يجب تعجيلها لأهلها إن طلبوها فهم مطالبون باستعجال الحق لأهله غير عالمين بأحوال المبيع ، فلذلك حمل بيعهم على البراءة بخلاف بيع الإنسان مال نفسه .
تنبيهان . الأول : ظاهر النظم و ( خ ) أنه لا يعذر إن جهل كون بيع الحاكم أو الوارث بيع براءة . وقال اللخمي : وأرى إن علم المشتري أنه بيع سلطان أو ميراث وجهل أن ذلك بيع براءة أن تكون له العهدة اه . ونقله في المتيطية مسلماً .
قلت : وهو جار على القاعدة المتقدمة آخر بيع الفضولي ، وإذا ادعى المشتري على الوارث أو الوصي أنهما عالمان بالعيب فعليهما اليمين لأنهما المتوليان للمعاملة إلا أن يشترطا سقوط اليمين عنهما في العقد كما مرّ في فصل بيع الرقيق عند قوله :
والبيع مع براءة إن نصت
على الأصح بالرقيق اختصت
الثاني : قال في المتيطية . إثر ما مر عنه : وأما الوصي إذا باع لمن يلي لنفقته أو لغير ذلك من مؤنة وبين ذلك فلا تباعة عليه ويرجع المبتاع في عين ذلك الثمن إن كان قائماً فإن أنفقه على الأيتام لم يكن عليه شيء وبيع القاضي كبيع الوصي في أن لا تباعة عليه . قال اللخمي : ويفترقالجواب فيمن أصرف إليه الثمن فإن كان البيع للإنفاق على الأيتام أو الصدقة رجع على من قبض الثمن إن كان قائماً في الاستحقاق والعيب وإن أنفقه لم يرجع عليه بشيء ولو اشترى به رقبة فأعتقت ففي رد العتق قولان . ففي المدونة يرد العتق ولا شيء على الوصي ، وفي الموازية لا يرد ويغرم الوصي قال : والأول أحسن وإن كان البيع لإنفاذ ديون على مفلس رجع على قابض المال كان المال قائماً أو استهلكوه أو ضاع منهم اه . ونقل بعضه ( م ) : وفي فصل بيع الوصي من ابن سلمون ما نصه : فإن استنفد الثمن في نفقات المحجور ثم استحق المبيع فإنه لا يرجع على الوصي بشيء ويرجع بذلك في مال المحجور إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فلا شيء على الوصي فقوله أي المتيطي لا تباعة على الوصي يعني : وإنما التباعة في مال الأيتام . وقوله في الاستحقاق : والعيب يعني في غير عيب الرقيق أو فيه ، ولكنه علم بعيبه وكتم وإلاَّ فلا رجوع له على الوصي ولا على الأيتام لأنه بيع براءة كما مر . وانظر هذا كله مع قول ناظم العمل :
ومال ميت إذ ما باعه
وصيه بين كي ينفعه
فإنه جار على المشهور مع أنه بصدد نظم ما به العمل المخالف للمشهور ، اللهم إلا أن يكون مراده أنه ينفعه ذلك في الرقيق وغيره ، وفي الاستحقاق والعيب فيكون العمل برواية ابن حبيب المتقدمة لأن تعليل ابن شاس المتقدم يدل على جريانها في الوصي والوارث أيضاً أي : فيكون بيع براءة في الرقيق وغيره ، وفي الاستحقاق والعيب وإنما العهدة في مال الأيتام إن كان وإلاَّ فلا تباعة على الوصي والوارث حيث بينا وكان البيع للإنفاق أو الدين لا للتجارة كما مرّ .
فصل
وَمِنْ أصَمَّ أبْكَمَ الْعُقُودُ
جَائِزَةٌ وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ
( ومن أصم أبكم العقود ) من نكاح وغيره من المعاوضات والتبرعات ( جائزة ) لأنه يدرك الأشياء ببصره ، ويفهم عنه ما أراد بإشارته كما قال : ( ويشهد الشهود ) عليه بالإيجاب والقبول .
بِمُقْتَضَى إشارةٍ قد أَفْهَمَتْ
مقْصُودَهُ وبرضاهُ أَعْلَمَتْ
بحيث لا يشكون في مراده من ذلك .
فَإنْ يَكُنْ مَعْ ذَاكَ أَعْمَى امْتَنَعَا
لِفَقْدِهِ الإفْهَامَ وَالْفَهْمَ مَعَا
( فإن يكن مع ذاك ) الصمم والبكم ( أعمى امتنعا ) أي العقد معه والشهادة عليه ( لفقده الأفهام ) لغيره ( والفهم ) منه ( معا ) وإنما يعقد عليه النكاح ونحوه وليه ومثله في منع معاملتهبنفسه إذا كان أصم أعمى لوجود العلة المذكورة ، وفهم منه أنه إذا كان أبكم أعمى وهو يسمع تجوز معاملته لأن الإشارة منه ممكنة .
كَذَاكَ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ
يُمْنَعُ وَالسَّكْرَانِ لِلْجُمْهُورِ
( كذاك للمجنون والصغير يمنع ) أي يمنع العقد من الصغير والمجنون اللذين لا تمييز معهما بحيث إذا بشيء من مقاصد العقلاء لا يفهمانه ولا يحسنان الجواب عنه ، كامتناعه للأصم الأبكم الأعمى ( و ) كذا يمنع العقد من ( السكران ) الطافح الذي لا تمييز معه بسبب سكر حرام أدخله على نفسه وتسبب فيه أي لا ينعقد بيعه ولا غيره على ما ( للجمهور ) بعد أن يحلف بالله أنه ما عقل حين فعل ، وهذه طريقة ابن شاس وابن الحاجب وابن شعبان ، ومقابل الجمهور قول ابن نافع أنه يصح عقده ، وطريقة ابن رشد والباجي أنه لا يصح عقده اتفاقاً . وقولي الذي لا تمييز معه احترازاً مما إذا كان معه ضرب من التمييز فإنه لا خلاف في صحة عقده ، وإنما الخلاف في لزومه والمعتمد عدمه قاله ( ز ) . وقولي بسبب سكر حرام احترازاً مما إذا سكر بحلال كشرب خمر يظنه غيره أو لغصة فإن بيعه لا يصح اتفاقاً ، وهذا كله بالنسبة لعقوده وإقراره وأما جنايته وعتقه وطلاقه وحدوده فإنها لازمة له ، وعليه عول ابن عاشر بقوله :
لا يلزم السكران إقرار عقود
بل ما جنى عتق طلاق وحدود
وَذو العَمىيَجُوزُ الابْتِياعَ لَهْ
وَبَيْعُهُ وَكُلُّ عَقْدٍ أَعْمَلَهْ
( وذو العمى ) فقط ( يجوز الابتياع له ) أي منه ( وبيعه ) من غيره ( و ) يجوز منه أيضاً ( كل عقد عمله ) من نكاح وهبة وإجارة وغير ذلك ، والأعمى هو من تقدم له إبصار ، وأما من ولد أعمى فيسمى أكمه والحكم فيهما سواء على المشهور .
وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ وُلِدْ
أَعْمَى وَمَنْ عَمَاهُ مِنْ بَعْدُ وُجِدْ( وبعضهم ) وهو جعفر الأبهري ( فرق بين من ولد أعمى ) فلا يصح بيعه ، وفي معناه من عمي صغيراً بحيث لا يتخيل الألوان كأبي العلاء المعري ( و ) بين ( من عماه بعد ) أي بعد ولادته وتخيله الألوان ( قد وجد ) فيصح بعه وابتياعه ، ومحل الخلاف فيما يتوقف على الرؤية لا فيما يتوقف على شم أو ذوق كمسك وسكر فيجوز مطلقاً قاله ( ز ) .
فصل في اختلاف المتبايعينلذات أو منفعة تثنية متبايع بالياء المثناة تحت دون همز وهو إما في قدر الثمن أو في جنسه أو في الأجل أو في انقضائه أو في قبض الثمن أو السلعة أو في الصحة والفساد أو في تابع المبيع ، وتكلم على هذه الأنواع كلها وبقي عليه اختلافهما في البت أو الخيار واختلافهما في العقد ، أما اختلافهما في وقوعه على البت أو الخيار فالقول لمدعي البت لأنه الغالب إلا أن يغلب البيع بالخيار فالقول لمدعيه ، وأما اختلافهما في العقد فالقول لمنكره إجماعاً ، ولكن يبقى النظر فيما إذا ادعى أحدهما البيع والآخر القرض أو العارية فقال ابن رشد كما في البرزلي : القول لمدعي القرض قولاً واحداً ، وسيأتي شيء من ذلك آخر القراض ، وكذا القول لمدعي العارية كما في ابن فرحون في الباب الخامس والعشرين ، وأما إن قال رب المال هو قرض وقال الذي هو بيده : بل هو قراض أو وديعة وتلف ، فإن القول لرب المال . قال ابن القاسم : لأنه قال : أخذت المال مني على الضمان ، وقال الآخر : أخذته على غير الضمان فهو قد أقر بالمال ويدعي نفي الضمان عنه فلا يصدق ، وكذا إن ادعى أحدهما البيع والآخر الرهن فإن القول لمدعي الرهنية إلا أن تفوت الأرض بيد مدعي الشراء بالهدم والبناء والغرس قاله في نوازل الدعاوى من المعيار ، وكذا إن قال المالك : بعت السلعة الفلانية منك فادفع لي ثمنها ، فقال الآخر : لم تبعها مني وإنما أمرتني ببيعها وقد تلفت ، ففي سماع عيسى من ابن القاسم وعليه اقتصر في كتاب القراض من المتيطية أن القول لرب السلعة ويحلف أنه باعها منه يريد لينفي دعواه الوكالة فإن نكل حلف الآخر وبرىء .
قلت : فإن حلف صاحب الثوب أنه باعه منه واختلفا في الصفة ، قال : يصف المشتري الثوب ويحلف على صفته ثم يقومه أهل البصر .
قلت : فإن نكل ؟ قال : يصفه صاحب الثوب وتقوم تلك الصفة ويغرم المشتري . قال : فإن أتيا جميعاً بما يستنكر في الصفة ونكلا صدق المشتري ؟
قلت : فإن كان قيمته أدنى من الثمن الذي باع به ؟ قال : يقال للذي باع الثوب اتق الله إنكان أمرك ببيعه كما زعمت فادفع إليه بقية ثمن ثوبه ولا تبخسه ولا يقضى عليه بذلك ، لأن صاحب الثوب يدعي أنه باعه منه اه . وبه أفتى العقباني ونقله صاحب شرح المغارسة ونحوه في المقرب قائلاً : لو قال رجل لآخر : أعطني ثمن الثوب الذي بعتك . فقال : إنما أمرتني ببيعه حلف أنه باعه وأخذ ثمنه ، فإن نكل حلف الآخر وبرىء . وفي الدرر المكنونة فيمن قال لرجل : خلصني في ثمن السلعة التي أخذت مني فإني عاملتك فيها بيعاً وشراء وكنت بعتكها بالذهب ، وقال الرجل : إنما كنت تعطيني السلع وتقومها علي بالدراهم لا بالذهب فأبيعها وأعطيك ما كنت قومتها به علي والباقي نقسمه بيننا فهل القول لمدعي البيع ؟ وهل يقبل قوله إنها مبيعة بالذهب ؟ فقال : قال ابن القاسم في مسألة رجل قال لآخر : أعطني ثمن الثوب الذي بعته منك . فقال : ما بعته مني إنما أمرتني ببيعه القول لرب الثوب مع يمينه والمسألة المسؤول عنها ترجع إلى هذه ، فإذا قبل قوله بيمينه يصير الخلاف بينهما في جنس الثمن ، وقد علمت أن المنصوص لأهل المذهب التحالف والتفاسخ فيرجع في السلعة إن كانت قائمة ، وفي القيمة مع الفوات اه . وانظر الكراس الثاني من بيوع البرزلي فإنه ذكر المسألة أيضاً وقال : إن القول لربها بعد أن يحلف أنه ما وكله على بيعها ويأخذ سلعته إن كانت قائمة بيده أو بيد من باعها إليه أو قيمتها إن فاتت .
قلت : وتلخيصه أن المالك إذا حلف أنه باعها منه فإن صدقه الآخر على قدر الثمن فإنه يأخذه منه وهو معنى قوله في المقرب : وأخذ ثمنه وإن كذبه وادعى أقل فإنهما يتحالفان ويتفاسخان ويأخذ المالك حينئذ سلعته إن كانت قائمة وهو معنى قول البرزلي . ويأخذ سلعته إن كانت قائمة فإن فاتت فالقيمة على وصف المشتري كما مر في النص ، وإنما ترد مع القيام فيما إذا كان المأمور باعها إذا صدقهما المشتري أنها للمالك أو قامت بذلك بينة وإلاَّ فلا ترد ، ويغرم المأمور القيمة ما لم تكن أكثر من الثمن الذي ادعاه ربها انظر البرزلي . وإنما أطلت في هذه المسألة لكثرة وقوعها وقد وقعت في هذا الأوان فادعى القابض للسلعة وكانت عقداً من جوهر أنه قبضه ليبيعه له ، وقد تلف وادعى آخر أنه قبضه ليقلبه وقد تلف قبل إمضاء البيع فيه ، فلم يتفطن الحاكم لتلك النصوص ، وقد قال ( ز ) عند قول ( خ ) أول البيوع وعدم دفع رديء أو ناقص ما نصه : فإن اختلفا في صفة القبض هل ليزنها أو على المفاصلة ؟ فالقول للدافع اه .
وَحَيْثُمَا اخْتَلَفَ بَائِعٌ وَمَنْ
مِنْهُ اشْتَرَى إنْ كَانَ فِي قَدْرِ الثَّمَنْ
( وحيثما اختلف بائع ومن منه اشترى إن كان ) الاختلاف ( في قدر الثمن ) كقوله بعشرة وقال المشتري بثمانية ، أو كان الاختلاف في قدر المبيع كقوله : هذا الثوب بعشرة . وقال المشتري : بل هو وهذه الشاة بعشرة ، فاكتفى الناظم بالثمن عن المثمن لأن كلاًّ من العوضين ثمن للآخر .وَلَمْ يَفُتْ مَا بِيعَ فَالْفَسْخُ إذَا
مَا حَلَفَا أَوْ نَكَلاَ قَدْ أُنْفِذَا
( ولم يفت ما بيع ) بحوالة سوق فأعلى ، وسواء كانت قائمة بيد البائع أو قبضها المشتري ، وسواء انتقد البائع الثمن أم لا انتقد كله أو بعضه ، ولا يكون انتقاده مرجحاً لقوله فيه ابن رشد لأن ابن القاسم في المدونة لم ير قبض السلعة فوتاً كما أنه لم ير قبض الثمن قوتاً ( ف ) الواجب في ذلك كله ( الفسخ إذا ما ) زائدة ( حلفا ) معاً ( أو نكلا ) معاً ( قد أنفذا ) فإن حلف أحدهما فقط قضى له .
وَالْبَدْءُ بِالْبَائِع ثُمَّ المُشْتَرِي
في الأَخْذِ وَالْيَمِينُ ذُو تَخَيُّرِ
( والبدء ) في اليمين ( بالبائع ) على المشهور ( ثم المشتري في الأخذ واليمين ذو تخير ) أي : ثم إذا حلف البائع فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ المبيع بما حلف عليه البائع وهو عشرة ، وإن شاء حلف أن البيع بثمانية .
ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعْدُ الرِّضَا
وقِيلَ إنْ تَحَالَفَا الْفَسْخُ مَضَى
( ثم ) إذا حلفا معاً ( لكل واحد ) منهما ( بعد ) أي بعد حلفهما ( الرضا ) بما قال صاحبه على الراجح ، وهو قول ابن القاسم لأن الفسخ عنده إنما يقع إذا حكم الحاكم به ، وعليه عول ( خ ) حيث قال : حلفا وفسخ إن حكم به . ( وقيل ) لا يتوقف الفسخ على الحكم به بل ( إن تحالفا ) أو نكلا معاً وقع ( الفسخ ) بينهما ( ومضى ) إنما كان الفسخ يقع بمجرد ذلك التحالف أو النكول لأنه قد .
وَقِيلَ لاَ يُحْتَاجُ في الْفَسْخِ إلى
حُكْمٍ وَسَحْنُونٌ لَهُ قَدْ نَقَلاَ
( قيل لا يحتاج في الفسخ إلى حكم ) كاللعان ( وسحنون له ) أي عنه ( قد نقلا ) فالواو في قوله : وقيل للتعليل ، ولو حذف الناظم هذا البيت لكان أحسن ، ومثل اختلافهما في القدراختلافهما في الرهن والحميل فيجري على التفصيل المذكور ، وإذا فسخ فإنه يفسخ ظاهراً وباطناً ، فإذا كان المبيع أمة فيحل للبائع وطؤها فيما بينه وبين الله ، ويحل له استخدامها ، وهكذا . وقيل : يفسخ في الظاهر دون الباطن فلا يحل له وطؤها إذ القضاء لا يحل حراماً ، وفي المسألة نزاع شهير انظره في الشامل وغيره ، وفي أقضية المعيار عن ابن أبي زيد أن المشتري إذا حلف فإنه يعد ذلك منه تسليماً للجارية بالثمن فيحل حينئذ للبائع وطؤها إن رضي بقبولها في الثمن ، وإن لم يقبلها فليبعها ويشهد عدلين أنه إنما باعها على ذلك ويقبض ثمنها الذي باع به أولاً ، ويوقف ما زاد عليه فمتى أقر المشتري الأول فهو له اه . وهذا التفصيل الذي لابن أبي زيد هو الذي ينبغي اعتماده ، ثم أشار إلى مفهوم قوله ولم يفت ما بيع فقال :
وَإنْ يَفُتْ فَالْقَوْلُ لِلَّذِي اشْتَرَى
وَذَا الَّذِي بِهِ الْقَضَاءَ قَدْ جَرَى
( وإن يفت ) المبيع بيد المشتري أو بيد البائع كما هو ظاهره وهو أحد قولين حكاهما في الشامل ( فالقول للذي اشترى ) بيمينه إذا أشبه وإلاَّ فالقول للبائع إذا أشبه فإن لم يشبها فعلى المبتاع القيمة ويصدق في الصفة ، وإن قال عبداً أعمى مقعداً إلا أن تقوم بينة بخلافه كما في المتيطية ، وقد تقدم مثله عن ابن القاسم ، وقد أخل الناظم بقيد الشبه اتكالاً على أن الغالب عدم الخروج عنه ( خ ) : وصدق مشتر ادعى الأشبه وحلف إن فات . ( وذا ) القول الذي يقول يصدق المشتري إن أشبه مع الفوات هو أحد روايتين عن مالك وهو : ( الذي به القضاء قد جرى ) كما في المتيطية وغيرها ، ثم أشار إلى ما إذا وقع الخلاف في الجنس فقال :
وإنْ يَكُنْ فِي جِنْسِهِ الخُلْفُ بَدَا
تَفَاسَخَا بَعْدَ اليَمِينِ أَبَدَا
( وإن يكن في جنسه الخلف بدا ) فقال أحدهما : المبيع هذا الثوب بدينار ، وقال الآخر : بل هذا الفرس بدينار أو يقول : اشتريت الثوب بدينار ، ويقول الآخر : بل بقفيز من شعير مثلاً أو ادعى أحدهما أن البيع بذهب والآخر بفضة . ( تفاسخا بعد اليمين أبدا ) كان المبيع قائماً أو فائتاًأشبه أحدهما أم لا . إذ لا ينظر لشبه مع الاختلاف في الجنس إذ ليس قول أحدهما بأولى من قول الآخر . ابن عرفة : إن اختلفا في جنس أحد العوضين كتمر وبر تحالفا وتفاسخا . ابن حارث : اتفاقاً اه . واختلافهما في الصنف السمراء والمحمولة كاختلافهما في الجنس كما مر في الشامل ، وكذا اختلافهما في ذكران الخيل وإناثها فقال أحدهما : وقع العقد على الذكر ، وقال الآخر : على الأنثى فما يكون من المبيع قائماً في ذلك كله ردّ بعينه .
وَمَا يَفُوتُ وَاقْتَضَى الرُّجُوعَا
بِقِيمَةٍ فَذَاكَ يَوْمَ بِيعَا
( وما يفوت ) منه ( واقتضى الرجوعا ) في مثلي فبمثله أو ( بقيمة فذاك ) أي فيعتبر قيمته ( يوم بيعا ) لا يوم الفوات ، وأما الاختلاف في الصفة كالجودة والرداءة فيجري على الاختلاف في القدر على المعتمد ابن عرفة عن اللخمي : اختلافهما في الجودة كاختلافهما في الكيل اه . فإن اختلفا في السكة فقال أحدهما بيزيدية وقال الآخر بمحمدية ، فقد تقدم تفصيل ذلك في صدر البيوع . ثم أشار إلى الاختلاف في الأجل وهو إما في أصله أو في انقضائه أو في قدره فقال :
وَحَيْثُمَا المبيعُ باقٍ واخْتُلِفْ
في أَجَلٍ تَفَاسَخَا بَعْدَ الحَلِفْ
( وحيثما المبيع باق ) قائماً لم يفت ( واختلف في ) أصل ( أجل ) فادعى أحدهما البيع بالنقد والآخر بالنسيئة لشهر مثلاً ( تفاسخا بعد الحلف ) وهذا قول مالك وابن القاسم .
وَقِيلَ ذَا إنِ ادَّعَى المُبْتَاعُ مَا
يَبْعُدُ وَالْعُرْفَ بهِ قَدْ عُدِمَا
( وقيل ) وهو لابن القاسم أيضاً ( ذا ) أي ما ذكر من التحالف والتفاسخ ( إن ادعى المبتاع ما يبعد ) من الأجل ( و ) الحال أن ( العرف به قد عدما ) أي لم يجر عرف عند الناس في مثل تلك السلعة بالأجل فقط ، بل هو جار بالأجل تارة وبعدمه أخرى ، أو هو جار في مثلها بالأجل فقط ، ولكن لم يجر بذلك الأجل البعيد الذي ادعاه ، ومفهومه أنه إن ادعى اجلاً بتبايع الناس إلى مثله فالقول قوله . هذا وجعل في الشامل وغيره القولين فيما إذا لم يكن عرف أصلاً فقال : ولو اختلفا في تعجيله وتأجيله صدق مدعي العرف بيمين ، وإن فقد العرف فقيل يتحالفان ويتفاسخان ، وقيل القول للبائع الخ . وحينئذ فيجب أن يكون قوله : والعرف به الخ . هو موضوع القولين في هذه وفي التي بعدها وبالجملة إذا كان هناك عرف في مثل تلك السلعة من كونها تباع بالنقد أو بالنسيئة لمثل ذلك الأجل فالقول لمدعيه ، وإن لم يكن عرف بالنقد ولا بالنسيئة بل كان التبايع بهما معاً أو كان العرف النسيئة ، ولكن ادعى أجلاً بعيداً لا بتبايع الناس إلى مثلهفقيل يتحالفان ، وقيل القول للبائع والمعتمد منهما أنهما يتحالفان فيما إذا كان التبايع بهما معاً ، وأن القول للبائع في العرف بالنسيئة إذا ادعى المبتاع أجلاً بعيداً وادعى هو ما يشبه .
تنبيه : قولهم الأصل في الثمن الحلول كما أشار إليه شراح ( خ ) عند قوله أول الإجارة بعاقد وأجر كالبيع إنما يتمشى على ما إذا كان العرف جارياً به فقط كما هو الغالب عندنا اليوم فقولهم : الأصل فيه الحلول أي الغالب فيه الحلول ، وأشار إلى مفهوم قوله المبيع باق فقال :
وَإنْ يَفُتْ فَالْقَوْلُ عِنْدَ مَالِكِ
لِبَائِعٍ نَهْجَ الْيَمِينِ سَالِكِ
( وإن يفت ) بوجه من وجوه الفوت كتغير ذات أو حوالة سوق أو خروج عن يد ( فالقول عند مالك ) من رواية ابن وهب ( لبائع نهج اليمين ) مفعول بقوله ( سالك ) أي حال كونه سالكاً نهج اليمين .
وَقِيلَ لِلْمُبْتَاعِ وَالقَوْلانِ
لِحافِظِ المَذْهَبِ مَنْقُولاَنِ
( وقيل ) وهو لابن القاسم القول ( للمبتاع والقولان لحافظ المذهب ) وهو ابن رشد ( منقولان ) . وظاهر النظم أنه مع الفوات لا ينظر لعرف وليس كذلك ، بل إن كان هناك عرف فيتبع ويرجح قول مدعيه كالتي قبلها ، وإن لم يكن عرف فيأتي القولان حينئذ ، والمعتمد منهما أن القول للمبتاع إن كان ادعى أمداً قريباً لا يتهم فيه فإن ادعى أمداً بعيداً فالقول للبائع ، وأشار إلى الاختلاف في انقضائه فقال :
وفي انْقِضَاءِ أَجَلٍ بِذَا قُضِي
حَتَّى يَقُولَ إنَّهُ لَمْ يَنْقَضِ
( و ) إن اختلفا ( في انقضاء أجل ) بسبب اختلافهما في مبدئه بعد اتفاقهما على أصله وقدره كشهر مثلاً أي ولا بينة لواحد منهما وفاتت السلعة ( بذا ) أي يكون القول للمبتاع بيمينه لأن الإشارة لأقرب مذكور وهو المبتاع في البيت قبله ( قضي متى يقول إنه لم ينقض ) ( خ ) : وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي الخ . وشمل المبتاع مبتاع الذات والمنافع فالقول للمكتري في عدم انقضاء أجل الكراء ، وظاهره سواء أشبه أم لا . فاتت أم لا . وليس كذلك بل محله إذا أشبه سواء أشبه الآخر أم لا ، فإن أشبه البائع وحده فقوله بيمينه ، فإن لم يشبه واحد منهما حلفا وغرم القيمة ، وهذا كله مع الفوات فإن لم تفت حلفا وفسخ ، ولا ينظر لشبه ، فإنأقام البينة عمل ببينة البائع لكونها أقدم تاريخاً . وسكت الناظم عن اختلافهما في قدر الأجل بعد اتفاقهما على أصله ومبدئه الذي هو أول رجب مثلاً فقال أحدهما لشعبان ، وقال الآخر بل لرمضان ، فالمشهور الحلف والفسخ إن لم تفت السلعة فإن فاتت صدق المشتري إن أشبه فالاختلاف في قدر الأجل كالاختلاف في قدر الثمن ، ثم أشار إلى الاختلاف في قبض الثمن أو السلعة فقال :
وَالقَوْلُ قَوْلُ مُشْتَرٍ بَعْدَ الحَلِفْ
في القَبْضِ فِيما بَيْعُهُ نَقْداً عُرِفْ
( فالقول قول مشتر بعد الحلف في القبض ) للثمن ( فيما ) أي مبيع ( بيعه نقداً عرف ) كالخبز والفاكهة واللحم والخضر والحنطة ونحو ذلك ، وظاهره أن القول للمشتري في دفع الثمن فيما عرف بيعه بالنقد سواء كان الاختلاف قبل الافتراق والبينونة أو بعدهما كثر ذلك المبيع أو قل ادعى الدفع قبل قبض اللحم ونحوه أو بعده ، وهو كذلك على ما في المنتخب عن مالك ونحوه في اللباب كما في ( ح ) عن ابن القاسم وهو المعتمد خلافاً لما في الجواهر و ( خ ) وغيرهما أن محل تصديقه إذا وقع الاختلاف بعد الافتراق وإلاَّ فلا يقبل قوله إن ادعى دفعه بعد قبض اللحم ونحوه فإن ادعى دفعه قبله فأقوال . والحاصل على ما في الجواهر و ( خ ) وغيرهما أنه إذا وقع الاختلاف بعد الافتراق والبينونة فالقول للمشتري ، وإن وقع قبل ذلك فتارة يدعي الدفع بعد قبض اللحم وشبهه فلا يقبل قوله اتفاقاً كما لابن رشد ، وحكى غيره في ذلك قولين ، وتارة لا يكون قد قبض اللحم ونحوه ويدعي أنه دفع الثمن فلا يقبل قوله اتفاقاً أيضاً ، وتارة يدعي الدفع قبل قبض اللحم وشبهه أي : وهو قابض له ففي ذلك أقوال ثلاثة حكاها ابن رشد .
قلت : ومبنى الخلاف في هذا والله أعلم اختلاف عرف الناس في تلك الأزمان ، فما للناظم وصاحب المنتخب من تصديق المشتري مطلقاً مبني على أن عرف الناس في ذلك الوقت هو دفع الثمن عند قبض اللحم ونحوه وهو الموافق لوقتنا اليوم فيجب اعتماده ، والحكم به في هذه الأزمان وما للجواهر وغيرها مبني على أن العرف التفصيل بين البينونة وعدمها وادعاء الدفع بعد قبض المبيع أو قبله ، ولذا قال في المفيد عن بعضهم : الأصل في هذا أن يرجع إلى عرف البلد في بيع ذلك الشيء فيحملان عليه ، ثم قال : قال عبد الحق : والصواب في هذا كله مراعاة عرف الناس في انتقاد الثمن وتأخيره فقد تتفق الأقوال على مراعاة هذا وهو من أصل مذهب مالك اه . وقال القرافي : اتباع العرف أمر مجمع عليه لا اختلاف فيه ، وإنما يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا ؟ قال : والوقوف على المنقولات أي من غير اعتبار عرف فيما يراعى فيه العرف ضلال ، وهذا عام في أبواب كثيرة اه . وهذا كله فيما الشأن فيه الانتقاد عند القبض كالأمثلة المذكورة ، وأما غير ذلك فالقول فيه للبائع كما قال :وهو كذا لِبَائِعٍ فِيما عَدَا
مُسْتَصْحَبِ النقَّدِ وَلَوْ بَعْدَ مَدَا فالضمير في قوله : وهو راجع للقول أي كما أن القول للمشتري في المبيع الذي عرف بيعه بالنقد كالأمثلة المتقدمة ، كذلك القول للبائع في عدم قبض ثمن المبيع الذي لم يعرف بيعه بالنقد ، ولا باستصحاب تعجيله عند قبضه ، بل كان تارة يباع بالنقد وتارة بالتأخير ، وأحرى إن كان يعرف بيعه بالتأخير فقط هذا إذا قام البائع يطلبه في الحين ، بل ولو قام يطلبه بعد مدة وحين وذلك .
كَالدُّورِ وَالرَّقِيقِ وَالرِّبَاعِ
مَا لَمْ يُجَاوِزْ حَد الابْتِيَاعِ ( كالدور والرقيق والرباع ) والبز ونحو ذلك مما يعرف بيعه بالوجهين أو بالتأخير فقط كما مرّ ، فإن القول للبائع ( ما لم يجاوز حدّ الابتياع ) الذي لا يمكن الصبر إليه عادة كالعام والعامين عند ابن حبيب والعشرين سنة عند ابن القاسم ، فالقول للمشتري حينئذ . ابن بشير : وذلك راجع إلى العوائد ، وصرح غير واحد من شراح ( خ ) عند قوله في العيوب ، ثم قضى إن أثبت عهدة مؤرخة الخ . بأن قول ابن القاسم ضعيف ، والمعتمد ما ذهب إليه ابن حبيب وهو ظاهر إذ لا تجد أحداً يبيع سلعته بتأخير ثمنها إلى عشر سنين فضلاً عن العشرين ، وبالجملة فذلك راجع للعرف الذي يتبايع الناس إلى مثله في ذلك البلد كما مرّ ، ولذا قال في الشامل : وإن كان المبيع كدار أو عرض صدق مشتر وافقه عرف إن طال الزمان طولاً يقضي العرف به أي بالانتقاد ودفع الثمن ، فإنما أناط ذلك بالعرف ولم يقيد بسنة ولا غيرها ، ولما ذكر اللخمي مذهب مالك في الثياب والعروض قال : يريد ما لم يقم دليل على أن المشتري لا يسلم إليه المبيع إلا بعد دفع الثمن ككونه بدوياً أو عربياً لا يعرف ، أو كونه فقيراً أو من لا يؤمن إليه ، وهذا يعرف عند النزول اه . وهو مراد الشامل بقوله : وافقه عرف الخ . وقد أصلح ( ز ) وغيره قول ( خ ) وفي قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما إلا لعرف كلحم وبقل الخ . فقال : لو قال عقب قوله إلا لعرف فيعمل بدعوى موافقة لجرى على ما به الفتوى .
وَالْقَبْضُ لِلسَّلْعَةِ فِيهِ اخُتُلِفَا
جَازَ كَقَبْضٍ حُكْمُهُ قَدْ سَلَفَا
( والقبض للسلعة في اختلفا ) بأن قال المشتري : لم أقبض المبيع ، وقال البائع : بل قبضته ( جار ك ) الاختلاف في ( قبض ) الثمن الذي ( حكمه قد سلفا ) وتقدم فما كان العرف فيه قبض المبيع عند قبض الثمن كاللحم والفاكهة وشبههما ، فالقول فيه للبائع وما لم يكن فيه عرف أصلاًبل كان يقع بالوجهين ، أو كان العرف تأخير قبض المبيع فالقول فيه للمشتري أنه لم يقبضه .
تنبيهات . الأول : إذا أشهد المشتري بتقرر الثمن في ذمته فذلك مقتض لقبض مثمنه فلا يصدق في عدم قبضه ، وإنما له اليمين على البائع إن بادر وقام في نحو العشرة الأيام من وقت الإشهاد كما في ( خ ) وغيره . وكذا إذا أشهد المشتري أيضاً بدفع الثمن للبائع ، ثم قام يطلب المبيع فالقول للبائع أيضاً أنه دفعه إليه ، وكذا إذا أشهد المشتري أيضاً بأنه قبض المبيع ثم قام يطلبه وقال : إنما أشهدت على نفسي بقبضه ثقة مني للبائع فإنه لا يصدق ، وإنما له اليمين إن بادر ، فهذه ثلاث صور في إشهاد المشتري ، وأما إن أشهد البائع بأن المبيع في ذمته على وجه السلم فذلك مقتض لقبض ثمنه أيضاً كما قاله ( ز ) . وكذا إن أشهد البائع أيضاً بدفع المبيع للمشتري ثم قام يطلب الثمن فالقول للمشتري أنه دفعه إليه ، وكذا إن أشهد بقبض الثمن ثم قام يطلبه وقال : إنما أشهدت على نفسي به ثقة مني بالمشتري فإنه لا يصدق ، وإنما له اليمين على المشتري إن بادر ، فهذه ثلاث صور أيضاً في البائع فالمجموع ست صور ، وانظر المسألة في الكراس الثاني من بيوع البرزلي .
الثاني : مفهوم أشهد أنه إذا شهدت بينة على رجل من غير إشهاده إياها أن لفلان عليه مائة دينار من ثمن سلعة اشتراها منه لم يلزمه الثمن حتى يقولا وقبض السلعة ، وكذا لو أشهد أنه باعه سلعة بكذا لم يقض عليه بالثمن إذ ليس في شهادتهما ما يوجب قبض السلعة اه . أي : لأنه إشهاد بوقوع العقد فقط قاله اللخمي عن ابن عبد الحكم . ونقله ابن عرفة وابن فرحون في تبصرته و ( ح ) في باب القضاء . زاد في المتيطية في باب الرهن : وكذا إن شهدت أنه خاط لفلان ثوباً بدرهم لم يجب للخياط شيء حتى يقولا إنه رد الثوب مخيطاً ، وكذلك جميع الصناع اه . فإطباقهم على نقله مسلماً يدل على أنه لازم اه . وبه تعلم بطلان ما في ( ز ) من أن الشهادة بمنزلة الإشهاد ، لكن قال البرزلي بعد نقله ما مر عن ابن عبد الحكم ما نصه : ووقعت فأفتى شيخنا الفقيه بالعمل بها مطلقاً ، وظاهرها أي المدونة أن التوجه في الطلب الإجمالي صحيح خلاف ما حكاه اللخمي عن ابن عبد الحكم أن الطلب لا يقبل إلا مفصلاً اه . قيل : وعلى ما لابن عبد الحكم الذي اعتمدوه كذلك لو شهدت أنه قرض لفلان كذا لم يجب للمقرض شيء حتى يقولا إن المفترض أقبضه لأن القرض يلزم بالقول .
الثالث : جرت العادة بمصر ، وكذا بفاس بكتب الوصول قبل القبض ، فإذا ادعى المشهد على نفسه أنه لم يقبض فله أن يحلف مدعي الدفع ولو طال الأمد قاله الناصر اللقاني ، وانظر الفرع الرابع والأربعين من الفائق فإنه ذكر جريان هذه العادة في السلم والقرض والقراض قال : فإذا ادعى المعترف بالقبض أنه لم يقبض وتمسك الدافع بظاهر الوثيقة فالقول قول المعترف ، ولا ينبغي أن يختلف فيه ، وإنما يختلف هل بيمين أم لا ؟ ونحوه في المعيار ، ونقله ابن رحال في الشرح فتأمله مع ما للناصر .
قلت : ولكن الواجب أن ما في الفائق والمعيار إنما هو إذا فرضنا أن العرف هو كتب الوصول قبل القبض في جميع الافتراضات والبياعات أو غلب ذلك كما مرّ عن أبي يوسف الزغبي آخر الثنيا ، فحينئذ يعمل بهذا العرف فيما جرى فيه بعد النظر في كون الكاتب قبلالوصول قام بالقرب فيصدق أو بالبعد فلا يصدق ، أما إذا كان العرف جارياً بالكتب قبل الوصول تارة وبعد الوصول أخرى كما هو مشاهد اليوم فلا يشهد العرف لواحد منهما وغاية ما يوجبه هذا العرف اليمين ، ولو طال الأمد فما قاله الناصر يحمل على ما إذا كان العرف جارياً بالوجهين ، وما في الفائق والمعيار يحمل على ما إذا تمحض العرف لأحدهما أو غلب فيه كما مر فلا تعارض والله أعلم .
الرابع : لو شهد شاهد بقبض الثمن وزكى وحكم بشهادته ثم استفسر وقال : لم أعاين القبض فإنه لا تبطل شهادته إذ لا تناقض في ذلك مع ما شهد به في الوثيقة وما حكم به القاضي ماض قاله في شهادات المعيار ، ويفهم منه أنه إذا استفسر قبل الحكم فلا يعمل بشهادته حتى يذكر مستند علمه على الإقرار أو المعاينة والله أعلم . ثم أشار إلى اختلافهما في الصحة والفساد أو في الشرط وعدمه فقال :
القَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِ لِلأَصْلِ
أَوْ صِحْةٍ في كُلِّ فِعْلٍ فِعْلِ
( والقول قول مدع للأصل ) كدعوى أحدهما أن البيع وقع بشرط الثنيا ، أو شرط أن لا يبيع مثلاً ، أو بشرط رهن أو حميل أو النكاح وقع بشرط أن يؤثر عليها ، أو بشرط إن أخرجها من بلدها فأمرها بيدها وادعى الآخر عدم الاشتراط في ذلك كله ، فإن القول له لأن الأصل عدم الشرط ، وكذا إذا اختلف الوكيل وموكله فادعى الوكيل أنه أمره بشراء هذه السلعة وأنكره الموكل وقال : لم آمره بشيء ، أو ادعى الموكل أنه أمره بشراء حنطة وقال الوكيل : بل بشعير وقد اشتريته فإن القول للموكل في الأولى لأن الأصل عدم الأمر ، وللوكيل في الثانية لأن الأصل عدم العداء كما قال ( خ ) في الوكالة : والقول لك يا موكل إن ادعى الإذن أو صفة له إلا أن يشترى بالثمن فزعمت أنك أمرته بغيره الخ . ولا يحسن شرحه بدعوى أحدهما أن البيع وقع بتاً وادعى الآخر أنه وقع بخيار ، فإنه إنما كان القول لمدعي البت كما مرّ أول الفصل لأنه الغالب في بياعات الناس لا لأجل أنه الأصل كما قيل : والغالب والأصل قد يتعارضان وقد تفرد أحدهما كما مر بيانه عند قول الناظم :
وقيل من يقول قد كان ادعى
ولم يكن لمن عليه يدعى
( أو ) اختلافهما في ( صحة ) وفساد فادعى أحدهما فساد العقد لاختلال ركن لدخولهما على عدم علم قدر الثمن مثلاً ، أو شرط لدخولهما على عدم المناجزة في الصرف ، أو على عدم ضرب الأجل في السلم ونحو ذلك ، وادعى الآخر علمهما بقدر الثمن ودخولهما على المناجزةوضرب الأجل ، فإن القول لمدعي الصحة لأنها الأصل أي الغالب في عقود المسلمين فقولهم : الأصل في عقود المسلمين الصحة الخ . مرادهم بالأصل الغالب ، وذلك ظاهر لأن الأصل عدم علم قدر الثمن وعدم ضرب الأجل ، لكن ذلك الأصل عارضه الغالب وهو علم قدر الثمن في البيع . ووجود ضرب الأجل في السلم والمناجزة في الصرف ، فصار الحكم له فصدق مدعيه بمنزلة اختلافهما في العسر واليسر ، فالأصل العسر ، لكن غلب على الناس الملاء فكأنهم يقولون القول لمدعي الأصل إن لم يعارضه غالب إلاَّ فالقول لمدعي الغالب ( في كل فعل فعل ) أي عند كل عقد عقد بيعاً كان أو غيره كما مرّ ، وظاهره اختلف الثمن بهما أم لا ؟ فات البيع أم لا ؟ والذي عليه الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وحذاق أهل المذهب كما في المتيطية ، والمفيد أن محل كون القول لمدعي الصحة إذا فات المبيع وإلاَّ فيتحالفان ويتفاسخان .
مَا لَمْ يَكُنْ في ذَاكَ عُرْفٌ جاري
عَلَى خِلاَفِ ذَاكَ ذُو اسْتِقْرَارِ
( ما لم يكن في ذاك ) المبيع ( عرف جار ) فيه ( على خلاف ذاك ) الأصل أو الصحة ( ذو استقرار ) نعت لعرف بعد نعته بجار فإنه يتبع حينئذ ذلك العرف المخالف للأصل كالبيع بشرط الثنيا لأن الأصل هو عدم الشرط أو المخالف للغالب كالصرف لعدم المناجزة ، لأن الغالب كان فيه وقوعه على الصحة وهو المناجزة ، فإذا غلب في بلد أو وقت وقوعه على عدمها فإنه يتبع ويترجح بذلك قول مدعي عدمها وكذا الجعل مثلاً فإن الغالب كان فيه وقوعه على الصحة بتوفر شروطه وأركانه فكان القول لمدعي صحته ، فإذا غلب في بلد أو وقت وقوعه على الفساد باختلال شرط أو ركن كشرط النقد فيه أو عدم علم عوضه ، أو ضرب الأجل لعمله ، فإنه يترجح قول مدعيه ، وهكذا وقد غلب في هذا الأوان وقبله بزمان أن الجعل والمزارعة والمغارسة والشركة والرهن والثنيا وبيع الثمار لا يقع إلا على الوجه الفاسد كما في اللامية وغيرها ، ويلحق بها ما عداها . فإذا جرى العرف في السلم مثلاً بتأخير رأس ماله أكثر من ثلاثة أيام فإنه يترجح بذلك قول مدعي تأخيره ، وهكذا في سائر العقود ، ولا بد من ثبوت ذلك العرف بعدلين فأكثر ، وظاهرهم أن القول لمدعي الفساد إذا غلب وثبتت أغلبيته في عقد ، ولو لم يبين وجه فساده . والصواب أنه يسأل عن وجه الفساد فإذا ذكر وجهاً معتبراً كأن يقول : باع لي ثمر جميع الحائط المشتمل على أنواع قبل بدو صلاح بعض أنواع بزهو حبة منه أو ظهور حلاوتها فإنه يتبع قوله وإلاَّ فلا . ثم أشار إلى اختلافهما في تابع المبيع فقال :
وَتَابِعُ الْمبيع كَالسَّرْجِ اخْتُلِفْ
فيهِ يُرَدُّ بَيْعُهُ بَعْدَ الحَلِفْ
( وتابع المبيع كالسرج ) والإكاف أي البرذعة واللجام للدابة والثمرة المؤبرة ومال العبدوخلفة القصيل ، ونحو ذلك مما لا يتناوله العقد إلا بشرط ( اختلف فيه ) فادعى المشتري أن البيع وقع على الدابة بلجامها وإكافها ، وعلى الأصول بثمرها ، وعلى العبد بماله والقصيل بخلفته وادعى البائع أن البيع وقع على الدابة أو الأصول أو العبد أو القصيل فقط ( يرد بيعه ) ويفسخ ( بعد الحلف ) أي بعد حلفهما معاً لأن هذا راجع إلى الاختلاف في قدر المثمن ، وهو كالاختلاف في قدر الثمن كما مر أول الباب فيجري على حكمه ، ولو استغنى عن هذا بما مر لكفاه .
وذاك إنْ لَمْ يَفُتِ الْمبيعُ
وَيَبْدأُ الْيَمِينَ مَنْ يَبِيعُ
( وذاك ) الرد والفسخ ( إن لم يفت المبيع ) بحوالة سوق فأعلى في غير العقار وبالهدم والبناء والغرس فيه ( ويبدأ اليمين من يبيع ) كما مر في الاختلاف في الثمن .
وَذَا الذِي قَالَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ
وَإنْ يَفُتْ فَلاِجْتِهَادِ الْحَاكِمِ
( وذا الذي قال به ابن القاسم ) وهو المشهور ( وإن يفت ) المبيع بشيء مما مر ( فلاجتهاد الحاكم ) أي فإن الحاكم يجتهد ويتثبت فيمن أشبه منهما ، فإن ظهر له أن الشبه للمشتري عمل على قوله مع يمينه سواء أشبه البائع أيضاً أم لا . وكذا إن ظهر له أن الشبه للبائع وحده فإنه يقضي له بيمينه فإن لم يشبها معاً تحالفا ومضى بالقيمة في المقوم والمثل في المثلى إلا السلم فيسلم وسطه كما قال ( خ ) : وإن ادعيا ما لا يشبه في السلم فسلم وسط الخ .
وَبَيْعُ مَنْ رُشِّدَ كَالدَّارِ ادَّعَى
بِأَنَّهُ فِي سَفَهٍ قَدْ وَقَعَا
( وبيع من رشد كالدار ) أي مثل الدار ونحوها فالكاف بمعنى مثل مفعول بقوله بيع ثم بعد بيعه لدارك قام و ( ادعى بأنه ) أي البيع ( في سفه قد وقعا ) وأنه لم يحصل له الرشد الذي هو متصف به الآن إلا بعد وقوع ذلك البيع ، وإنما ادعى ذلك ليتمكن من رد سلعته إن وجدت أو أخذ قيمتها إن فاتت ويضيع الثمن على المشتري حيث لم يصن به البائع ماله لأنه سفيه على دعواه . وقال المشتري : بل وقع البيع بعد الرشد ولا تاريخ للشراء يدل على تقدمه على تاريخ الترشيد أو تأخره ، فإن البينة على البائع أنه باع قبل رشده فإن لم تكن له بينة .
لِلْمُشْتَرِي القَوْلُ بِهِ مَعْ قَسَمِ
وَعَكْسُ هَذَا لابْنِ سُحْنُونٍ نَمِي
ف ( للمشتري القول به ) أي في هذا البيع ( مع قسم ) أنه باع وهو رشيد فإن نكل حلف البائع وأخذ المبيع بعد رده الثمن إن كان صون به ماله هذا ظاهره ، وهو الذي ينبغي اعتمادهخلافاً لما في الفرع السابع من فروع النكاح من الفائق عن ابن زرب أنه لا يمين على المشتري قائلاً : لا أرى اليمين على المبتاع والبيع لازم للبائع ولا تنفعه دعواه . قال : أرأيت لو نكل المبتاع عن اليمين أيكون البائع مولى عليه ويكون بذلك سفيهاً ؟ ما أرى اليمين في مثل هذا ولا يفسخ بيعه اه . ( وعكس هذا ) وهو القول للبائع ( لابن سحنون نمي ) أي نسب قال ولد الناظم : وكأنه رأى أن السفه سابق للبائع والمشتري يسلمه له ، فحمل الحال على الاستصحاب اه . وما صدر به الناظم هو المعتمد لأن الأصل في العقود الصحة والبائع يدعي عدمها ، ومن هذا المعنى ما أجاب به أبو الضياء مصباح في وصي باع على أيتامه أرضهم ، وكان فيهم غائب لم يشمله التقديم ، فلما بلغ الأيتام قاموا على المبتاع بحق الغائب وأرادوا إيقافه والشفعة ، فادعى المبتاع أن الغائب توفي وأقام بينة بذلك ، غير أن البينة لم تحقق وقت الموت هل قبل البيع أو بعده ؟ فقال : القول قول المبتاع إنه مات قبل البيع وقد باع نصيبهم جميعه الوصي اه .
تنبيهات . الأول : لو باع المحجور وصرفه فيما لا غنى له عنه بحيث لو رفع إلى الحاكم لكان يفعله مضى بيعه قاله في الاستغناء . ونقله اليزناسني هنا مقتصراً عليه . قلت : وهذا مخالف لقول ( خ ) في الحجر : ولو حنث بعد بلوغه أو وقع الموقع الخ . إذ لا يكون قد وقع الموقع إلا إذا باع للحاجة وصرف الثمن فيما لا غنى له عنه أي : وقع الموقع في سبب البيع وصرف الثمن وإن كان الأول هو الموافق لقولهم : كل من فعل فعلاً لو رفع إلى الحاكم لم يفعل غيره ففعله ماض كما نقله ( ق ) عن البرزلي في باب الخلع .
الثاني : إذا فعل المحجور ما ليس بمصلحة من بيع ونكاح وغيرهما بمحضر وليه ، فإن الولي يضمنه لأنه أمين عليه ، وكل أمين إذا ضيع أمانته أو غرر بها أو تعدى عليه بوجه فهو ضامن لها قاله في الطرر .
الثالث : إذا تصرف المحجور بمرأى من وصيه ولم يظهر في تصرفه محاباة ووليه ساكت فإن تصرفه ماض ويلزمه ما لحقه من الدين ويحمل الأمر على أن وليه قصد بسكوته إجازة ذلك . قال البرزلي : وبه العمل . انظر شرح الشامل عند قوله : فإن باع المميز بلا إذن .
وَمَنْ يَكُنْ بِمَالِ غَيْرِهِ اشْتَرَى
وَالْمُشْتَرَى لَهُ لِلأَمْرِ أَنْكَرَا
( ومن يكن بمال غيره اشترى ) شيئاً وادعى أن رب المال أمره بذلك الشراء ( والمشترى له ) وهو رب المال ( للأمر أنكرا ) وقال : لم آمره بشراء ذلك بل بحفظ ذلك المال فقط ، فإن المشهورأن القول للآمر إذا حلف كما مر عن ( خ ) عند قوله : والقول قول مدع للأصل الخ . لأن هذا من أفراده وإنما أعاده ليرتب عليه قوله :
وَحَلَفَ الآمِرُ فَالْمَأْمُورُ
مِنْهُ ارْتِجاعُ مَالِهِ مَأثُورُ
( و ) إذا ( حلف الآمر ) على أنه لم يأمره بما قال ( فالمأمور ) وهو المشتري وسماه مأموراً باعتبار دعواه ( منه ) أي المأمور ( ارتجاع ماله ) أي الآمر ( مأثور ) مروي عن أصبغ يعني أنه إذا حلف الآمر فإنه يرتجع ماله ويأخذه من المأمور .
وَمَا لَهُ شَيْءٌ عَلَى مَنْ بَاعا
مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَّقَ المُبْتاعا
( وما له شيء على من باعا ) أي : ولا يرجع على البائع بشيء ( ما لم يكن ) البائع ( قد صدق المبتاعا ) في أن المال للآمر فإن صدقه فإن الآمر يأخد ماله من البائع حينئذ هذا قول أصبغ كما مرّ .
وَقِيلَ بَلْ يَكُونُ ذَا تَخَيُّرِ
في أَخْذِهِ مِنْ بَائِعٍ أوْ مُشْتَرِي
( وقيل ) وهو لابن الماجشون إذا حلف الآمر فلا يتعين رجوعه على المأمور ( بل يكون ذا تخير في أخذه ) ماله ( من بائع أو ) من ( مشتر ) فإن أخذه من المشتري فلا إشكال وإن أخذه من البائع فإنه يرجع به على المشتري .
وَالبَيْعُ في القَوْلَيْنِ لَنْ يَنْتَقِضَا
وَالْمُشْتَرِي لَهُ المبيعُ مُقْتضَى
( والبيع في ) كل من ( القولين لن ينتقضا ) بل هو لازم للمتبايعين ، سواء قلنا بقول أصبغ أو بقول ابن الماجشون ( و ) إذا كان لازماً ف ( المشتري ) يكون ( له المبيع ) حال كونه ( مقتضى ) ومفهوم قوله : والمشتري له للآمر أنكرا الخ . أنه إذا لم ينكر فإن الشيء المشترى يكون له ولا إشكال ، وكذا لو ادعى المأمور أنه إنما اشترى بذلك المال لنفسه لا لموكله لأنه مأذون له في التصرف وكل من أذن له في التصرف كالوكيل والمقارض والمبضع معه إذا ادعى الشراء لنفسه لا يمكن من أخذ الشيء المشترى لأنه لا يربح على تعديه بالشراء لنفسه كما قال ( خ ) في القراض : ككل آخذ مالاً للتنمية فتعدى ، بخلاف من لم يؤذن له في التصرف كالمودع والوصي والغاصبإذا ادعوا الشراء لأنفسهم فإن الشيء المشترى يكون لهم والربح لهم والخسارة عليهم ، وكذا الوكيل إذا أتجر بالثمن الذي باع به أو أخذ مالاً لشراء سلعة فتجر به قبل شرائها فإن الربح له في الصورتين ، لأنه كالمودع عنده ما لم يقل الوكيل ونحوه : اشتريته بمالي وكان له مال من غير مال موكله فإنه يصدق قاله ( ز ) آخر باب الوكالة ، وانظر قبل ثمانية أوراق من أواخر الوكالة من ابن عرفة ، وانظر ما تقدم في الوكالة عند قوله : ومن خصومة معينة الخ .
فصل في حكم البيع على الغائبقال ( م ) : الأولى والله أعلم أن يقول : فصل في الحكم على الغائب ليشمل الطلاق عليه والعتق ، وقد ذكرهما هنا . وأجاب عن ذلك : بأن الفصل إنما هو للبيع والطلاق والعتق إنما ذكرا استطراداً . واعلم أنه إذا حضر الطالب وحده عند القاضي فلا يخلو المطلوب إما أن يكون تحت إيالته أو خارجاً عنها ، فإن كان تحت إيالته فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال ، لأنه إما أن يكون حاضراً معه في البلد فيرسل إليه أحد أعوانه ، وإما أن يكون خارجاً عن البلد بيسير الأميال مع أمن الطريق فإنه يكتب إليه بأن يحضر أو يوكل ، وإما أن يكون بعيداً حساً أو معنى كالخوف ، فالحكم أن يكتب القاضي لأمثل أمين هناك أن يفعل ما يجب من إنصاف أو إصلاح أو إزعاج المطلوب للخصام كما تقدم ذلك في فصل رفع المدعى عليه ، وأما إن كان خارجاً عن إيالته فله حالتان : إما أن يكون خارجاً عنها لكون ذلك هو وطنه ومحل قراره فهو قوله فيما مر : والحكم في المشهور حيث المدعى عليه الخ . وإما أن يكون خارجاً عنها لزيارة أو تجارة أو نحوهما ، وهو متوطن بمحل ولاية القاضي أو له مال بها أو وكيل أو حميل ، فهذه محل الأقسام الثلاثة الآتية في النظم ، وإلاَّ لم يحكم عليه بل تنقل الشهادة فقط من غير حكم كما في الشامل وغيره .
لِطَالِبِ الحُكْمِ عَلَى الغُيَّابِ
يُنْظَرُ في بُعْدٍ وَفِي اقْتِرَاب
( لطالب الحكم على الغياب ) جمع غائب كعذال جمع عاذل ( ينظر في بُعد ) جداً كإفريقيه من مكة أو المدينة أو لا جداً كالعشرة الأيام مع الأمن أو اليومين مع الخوف ( وفي اقتراب ) كثلاثة أيام مع الأمن .فَمَنْ عَلَى ثَلاَثَةِ الأَيَّامِ
وَنَحْوِهَا يُدْعَى إلى الأَحْكامِ
( فمن ) كان ( على ثلاثة الأيام ونحوها ) فهو كالحاضر ( يدعى إلى الأحكام ) فتسمع البينة وتزكيتها ثم يعلم بها ويعذر إليه في وصولها والطعن فيها ، فإن أبدى مطعناً ووكل من يخاصم أو قدم بنفسه فذاك وإلا حكم عليه حتى في استحقاق العقار والطلاق والعتق وبيع عليه ماله من أصول وغيرها لقضاء ديونه أو نفقة زوجته ، ولا ترجى له حجة في شيء كما لابن رشد وغيره وهو معنى قوله :
وَيُعْذِرُ الحَاكِمُ في وَصُولِهِ
بِنَفْسِهِ لِلحُكْم أَوْ وَكيلِهِ
( ويعذر الحاكم ) أي يقطع عذره بضرب أجل يسعه ( في وصوله بنفسه للحكم أو وكيله ) ويسعه للطعن في بينته .
فإنْ تَمَادى وَالمَغِيبُ حَالُهُ
بِيعَ بِإطْلاَقٍ عَلَيْهِ مَالُهُ
( فإن تمادى والمغيب حاله ) أي تمادى على غيبته ولم يوكل ولم يقدم ولم يطعن ( بيع ) بالخيار ثلاثاً إذ كل ما يبيعه الحاكم فهو على الخيار ثلاثاً ، وإن لم يشترطه إلا أن يجهل المشتري كونه بالخيار فله الرد والإمضاء ، فإن باع بغير خيار فلكل من الغائب والغرماء الرد لتضررهم بذلك كذا ينبغي قاله ( ز ) . وانظر حاشيتنا على اللامية عند قولها : ومن غاب عن قرب كمن هو حاضر الخ . ( بإطلاق عليه ماله ) أصلاً كان أو غيره ، ولكن إنما يباع .
بَعْدَ ثُبُوتِ المُوجِبَات الأُوَّلِ
كالدَّيْنِ وَالْغَيْبَةِ والتَمَوُّلِ
( بعد ثبوت الموجبات الأول ) أي السابقة على البيع المشترطة في بيع الحاكم المشار إليها في قول ( خ ) : وباع بثبوت يتمه وإهماله وملكه لما بيع الخ . فيبدل اليتم والإهمال هنا بالدين والغيبة كما قال : ( كالدين والغيبة والتمول ) أي كون ذلك المال للغائب فيصير المعنى هكذا : وبيع ماله بعد ثبوت موجبات البيع من الدين أو النفقة والغيبة وقربها أو بعدها ، وأنه أعذر له في القريبة فلم يقدم وأن هذا المبيع ملكه وأنه أولى ما يباع عليه وحيازة الشهود له والتسوق وعدم إلغاء زائد والسداد في الثمن وفي تصريحه بأسماء الشهود قولان الخ . والعمل على تصريحه بهما كما مرّفإن باع بغير ثبوت هذه الموجبات فهو ضامن كما مرّ في فصل مسائل من أحكام البيع ، والمراد بالسداد أن لا تكون فيه محاباة وأن يكون عيناً لا عرضاً ، وليس المراد بلوغه القيمة فأكثر كما يتوهم ، ففي البرزلي عن السيوري أنه سئل عن بيع القاضي على غائب أو محجور بما أعطى فيه بعد النداء عليه ولم يلف زيادة من غير شهادة أنه بيع مغالاة واستقصاء ، هل يجوز هذا البيع ؟ فأجاب : إن ثبت أنه لم يوجد فيه إلا ما بيع به ولم تقع محاباة ولا عجلة في البيع ولا تقصير ، فهو نافذ بكل حال اه . البرزلي ومثله لابن رشد في بيع ربع اليتيم أو غلاته في نفقة المحجور فقال : يستقصى ويباع ولا ينتظر به بلوغ القيمة ، لأنه غاية المقدور اه . وكذا قال ابن محرز فيمن بيع عليه ربعه للدين ، فإنه يضرب له أجل شهرين ، فإذا انقضى الأجل فإنه يباع ، ولو لم يبلغ القيمة وجهل من قال ينتظر به بلوغ القيمة اه . ثم إذا شهدت بينة بأن الثمن سداد والأخرى أنه على غير سداد فلا يلتفت إلى بينة غير السداد حيث لم يوجد فيه إلا ما بيع به بعد النداء عليه ، كما في المعيار عن ابن رشد .
قلت : يفهم من هذا أنه لا قيام بالغبن في هذا البيع إذ الغبن هو أن يباع بأقل مما يساويه وقت البيع ، ولا شك أنه وقت البيع لم يساو غير ما وقف عليه فكان ذلك قيمته وقولهم : لا ينتظر به بلوغ القيمة الخ . يعنون القيمة التي كان يعتادها قبل ذلك ، ولا شك أن القيمة التي كان يساويها قبل ذلك لا ينظر إليها ، ولذلك جهل ابن محرز من قال : ينتظر به بلوغها ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قول الناظم :
وبيع ملك لقضاء دين
قد أجلوا فيه إلى شهرين
وما تقدم من أنه لا بد من ثبوت ملكه لما بيع هو الذي عول عليه غير واحد ، وصدر في الشامل بأنه لا يحتاج إلى إثبات ملكه . ابن عبد السلام : وهو ظاهر المذهب بل قال أهل طليطلة : إنه يهجم عليه ويؤخذ له ما يعرف للرجال أو للرجال والنساء اه .
قلت : وهو اللائق بزماننا ويدل لرجحانه أن الأصل فيمن حاز شيئاً يدعي ملكيته يصدق في دعواه ويحمل على أنه ملكه ، وكونه بيده وديعة أو من غصب أو سرقة على خلاف الأصل ، وقاله ابن رحال في ارتفاقه .
وَمَا مِنَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ قُضِيَا
وكالطَّلاقِ والعِتَاقِ أُمْضِيَا
( و ) إذا قبض الثمن فإن ( ما ) ثبت ( من الدين عليه قضيا ) بذلك الثمن بعد الإعذار للغرماء في بعضهم بعضاً حيث ضاق ماله عن ديونه وبعد يمين القضاء ، لأن هذا الغائب وإن كان كالحاضر فيحلف كل واحد من الغرماء لحق غيره لا لحق الغائب المذكور خشية كون الغائب أو المفلس حاباه بعدم طلبه يمينه ، وإذا حلفوا فهل يستأني بقسم المال عليهم ؟ فإن لم يعرف بالدين فلا استيناء وإن عرف به فالمشهور أنه يستأني به في الموت فقط ( خ ) : واستؤني به أي بالقسم إن عرف بالدين في الموت فقط . ( وكالطلاق ) الكاف اسم بمعنى مثل مبتدأ ( والعتاق ) تقوم البينةبهما أو بأحدهما على الغائب المذكور فيعذر إليه ويستمر على غيبته ( أمضيا ) عليه بحكم الحاكم بعد ثبوت الموجبات أيضاً من كون هذه المرأة زوجة له وثبوت شرطها عليه الطلاق بغيبته إن كان الطلاق به ، أو ثبوت الإعسار بالنفقة إن كان الطلاق به واليمين على نصه كما مرّ في الطلاق بالإعسار ، ومن ثبوت غيبة السيد في العتق وثبوت ملكه لهذا المملوك ، وثبوت حرية هذا المملوك بالإصالة أو الشهادة على السيد بعتقه أو عدم النفقة لأم ولده التي لا صنعة لها أو لها صنعة لا تقوم بنفقتها .
وَمَا لَهُ لِحُجَّةٍ إرْجاءُ
فِي شَأْنِ ما جَرَى بِهِ القَضَاءُ
( و ) إذا بيع ماله وقضيت ديونهم وقدم ف ( ما له ) أي الغائب المذكور ( بحجة ) متعلق بقوله ( إرجاء في شأن ما جرى به القضاء ) والطلاق أو العتق عليه ماض وكذا البيع . ولو أثبت البراءة من الدين أو النفقة أو جرح شهود الطلاق أو العتق ونحو ذلك .
إلاّ مع اعْتِقَالِهِ مِنْ عُذْرِ
مِثْلِ العَدْوِّ وَارْتِجَاجِ البَحْرِ
( إلا مع اعتقاله ) عن القدوم والتوكيل ( من ) أجل ( عذر ) حصل له وقت الإعذار له ( مثل ) الإغماء والجنون والمرض الفادح أو ( العدو ) الكافر أو اللصوص أ ( و ارتجاج البحر ) بأن يكون الوقت لا يركب فيه لكثرة هوله ، ونحو ذلك من الإعذار فإنه ترجى له الحجة حينئذ لما تقدم من أن اليومين مع الخوف بمنزلة البعد ، ويرد الطلاق والعتق ويرجع بالثمن على من قبضه من المشتري في البيع كما يأتي قريباً . ثم أشار إلى الغيبة البعيدة لا جداً فقال :
والحُكْمُ مِثْل الحَالَةِ المُقَرَّرَه
فِيمَنْ عَلَى مَسَافَةٍ كَالْعَشَرَهْ
( والحكم ) مبتدأ خبره ( مثل الحالة المقررة ) لقريب الغيبة وقوله ( فيمن ) متعلق بالحكم أي والحكم فيمن غاب غيبة متوسطة وهو ما كان ( على مسافة كالعشرة ) الأيام مع الأمن أو اليومين مع الخوف مماثل للحالة المقررة في قريب الغيبة إلا أن الأول يحكم عليه في كل شيء كما مر .
وفي سِوَى اسْتِحْقَاقِ أَصْلٍ أُعْمِلاَ
والخُلْفُ في التَّفْلِيسِ مح عِلْمِ المَلاَ
( و ) هذا ( في سوى استحقاق أصل أعملا ) الحكم عليه ( خ ) : والقريب كالحاضر ثم قال : والعشرة أيام أو اليومان مع الخوف يقضي عليه مع يمين القضاء في غير استحقاق العقار الخ . أي : وأما استحقاق العقار فلا يقضي عليه فيه لكثرة المشاحة فيه ، بل تسمع بينة القائم وليشهد بما ثبت عنده ، ثم يصبر حتى يقدم الغائب ، وأشعر قوله في غير استحقاق العقار أنه يقضيعليه ببيع العقار لقضاء دين أو دفع نفقة زوجة كما يحكم بذلك على حاضر ملد بالحق قاله ( ز ) . ( والخلف في التفليس ) لهذا الغائب غيبة متوسطة ( مع علم الملا ) حين خروجه للسفر فقيل : يفلس فتحل ديونه المؤجلة ، ومن وجد سلعته قائمة فهو أحق بها . وقيل : لا يفلس حتى يكتب إليه ويكشف عن حاله وهو المعتمد في موضع النظم الذي هو علم الملاء كما أن قريب الغيبة لا يفلس حتى يكشف عن حاله كان معلوم الملاء حين خروجه أم لا . ومفهوم علم الملاء أنه في المتوسطة إذا علم عدمه حين خروجه أو جهل حاله يفلس من غير خلاف ، وأما بعيد الغيبة كمن على شهر أو أكثر فيفلس ولو علم ملاؤه اتفاقاً عند ابن رشد ، وعند اللخمي : إنما يفلس إذا لم يعلم ملاؤه حين خروجه أيضاً كالمتوسطة ، وبالجملة فيتفق الشيخان في القريبة على أنه لا يفلس حتى يكشف عن حاله ، وأن المتوسطة مقيدة بما إذا لم يعلم ملاؤه ، وأما إن علم فلا يفلس على المشهور ويختلفان في البعيدة ، فاللخمي يقيدها كالمتوسطة ، وابن رشد لا يقيدها ، وعلى ما للخمي درج ابن الحاجب وابن شاس وهو ظاهر قول ( خ ) وفلس حضر أو غاب إن لم يعلم ملاؤه الخ .
وذا لهُ الْحُجَّةُ تُرْجى والذِي
بِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ مِنْ مُنْقِذِ
( وذا ) أي الذي على مسافة كالعشرة ( له الحجة ترجى ) فيرد عتقه وطلاقه إن أبطل البينة الشاهدة عليه بهما ( و ) أما ( الذي بيع عليه ) من أصل أو غيره لقضاء دينه أو نفقة زوجته وفات بيد مشتريه بتغير ذات ونحوه لا بحوالة سوق ف ( ما له من منقذ ) أي مخلص ، وإنما له الرجوع بالثمن حيث أثبت البراءة أو أبطل الشهادة على من قبضه من رب زوجة أو رب دين كما قال :
وَيَقْتَضِي بِمُوجِبِ الرُّجُوعِ
مِنَ الغَرِيمِ ثَمَنُ المَبِيعِ
( ويقتضي ) هو أي الغائب ( بموجب الرجوع من الغريم ) وهو رب الدين هنا أو الزوجة ( ثمن المبيع ) مفعول يقتضي والمجروران يتعلقان به ، وقولي : وفات الخ . احترازاً مما إذا لم يفت المبيع بل كان قائماً بيد المشتري فإنه ينقض البيع ويرد إلى الغائب بعد أن يرد الثمن للمشتري على المعتمد كما في ابن رحال وغيره وقاله ( ز ) أيضاً عند قول ( خ ) في النفقات : وبيعت داره بعد ثبوت ملكه الخ . وهو المأخوذ من قول ( خ ) في الاستحقاق : وإن أنفذت وصية مستحق برق لم يضمن وصي وحاج إن عرفا بالحرية ، وأخذ السيد ما بيع عليه إلى قوله : وما فات فالثمن الخ . وهذا خلاف إطلاق الناظم ، وإن كان الإطلاق هو الذي لابن الحاج وغيره ، وكان وجه الإطلاق أنه لو رد البيع مع حكم الحاكم به ما اشترى أحد مبيعه لتوقع فسخه ولا يخفى ما فيذلك لأن توقع الفسخ بإثبات البراءة أو تجريح البينة نادر كتوقعه بثبوت الاستحقاق والعيب النادر لا حكم له . ثم أشار إلى البعيدة جداً فقال .
وَغَائِبُ مِنْ مِثْلِ قُطْرِ المَغْرِبِ
لِمِثْلِ مَكَّةَ وَمِثْلِ يَثْرِبِ
( وغائب ) غيبة بعيدة ( من مثل قطر المغرب لمثل مكة ومثل يثرب ) على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
ما الحُكْمُ في شيءٍ عَلَيْه يَمْتَنِعْ
وهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ ما تَنْقَطِعْ
( ما ) نافية أي ليس ( الحكم في شيء ) من الأشياء حتى استحقاق العقار ( عليه يمتنع ) بعد ثبوت الموجبات المتقدمة ويمين القضاء ، ومثل الغائب المذكور المحجور ولو كان له وصي أو مقدم ( وهو ) أي الغائب ومن هو في حكمه ( على حجته ) إذا قدم ( ما تنقطع ) له بطول الغيبة . وظاهره أنه يحكم عليه في هذه وفي التي قبلها ، ولا يقيم له وكيلاً يخاصم عنه ، وهو كذلك على المشهور . ومذهب المدونة لأن الوكيل وكذا الوصي والمقدم لا يعرفون الحجج التي يقام بها . وقال سحنون وابن الماجشون : يقيم لهم وكيلاً ولا ترجى لهم حجة . قال ابن ناجي : والعمل عندنا بالقيروان على الجمع بين القولين فيقيم لهم وكيلاً على قول سحنون وترجى لهم الحجة على مذهب المدونة اه .
قلت : وبهذا شاهدنا العمل بفاس ويسمى عندهم وكيل الغياب والمحاجير .
والحُكْمُ مَاضٍ أَبَدَاً لا يُنْقَضُ
وَمَا بِهِ أُفِيتَ لا يَنْتَقِضُ
( والحكم ) بالبيع لمتاع هذا الغائب ( ماض ) عليه ( أبداً لا ينقض ) يعني إذا فات المبيع بيد مشتريه بتغير ذات وإلاَّ فينقض كما مر في التي قبلها ( وما به ) أي الحكم ( أفيت لا ينتقض ) هذا الشطر تأكيد للشطر الذي قبله وليس فيه معنى زائد عليه .
لَكِنَّ مَعْ برَاءَةٍ يُقْضَى لَهُ
بِأَخْذِهِ مِنَ الغَرِيمِ ما لَهُ
( لكن مع ) إثبات ( براءة ) ذمة الغائب من الدين أو النفقة اللذين بيع ما له فيهما وأبطل الشهادة عليه بتجريح شهودها ( يقضى له بأخذه من الغريم ماله ) وقولي بالبيع احترازاً من حكمه باستحقاق العقار أو غير فإنه ينقض فات بالهدم والغرس أم لا . وقولي : هذا الغائب احترازاً من حكمه ببيع متاع المحجور لقضاء دين ونحوه ، ثم ظهرت البراءة منه فإن للمحجور إذا رشد أنينقض البيع ولو فات كما يؤخذ من قول ( خ ) وغيره في الحجر ، وله إن رشد ولو حنث بعد بلوغه أو وقع الموقع الخ فتأمله . والله أعلم . وإلى هذا القسم الثالث من أقسام الغائب أشار ( خ ) بقوله : والبعيد جداً كإفريقية قضى عليه بيمين القضاء وسمى الشهود وإلاَّ نقض الخ . وهل يمين القضاء واجبة أي لا يصح الحكم بدونها وهو المعتمد أو هي استظهار واحتياط فيتم الحكم بدونها ؟ قيل : وبه العمل لأنه يقول : لا تحلفني إذ لعله يقر بأن حقي باق عليه .
تنبيه : إذا صير الحاكم دار المدين الغائب لرب الدين في دينه ، فلما قدم الغائب أثبت البراءة من دينه أو جرح شهوده ، فإن الدار ترد إلى ربها ما لم تفت بهدم أو بناء فيمضي بالقيمة كما يفهم من كلام الشارح لأنه جعلها من قبيل مسألة الجارية الواقعة لشيخه قاضي الجماعة أبي القاسم بن سراج وصورتها : تاجر تسرى جارية بغرناطة وغاب بناحية تونس وادعت الضيعة فكفلها بعض حاشية السلطان ممن له وجاهه ، وكتب على سيدها النفقة إلى أن تجمل له قريب من ثمنها فرفع أمره إلى القاضي وأثبت دينه ذلك وغيبة المالك وملكه للجارية ، وحلف على المتجمل له وقومت الجارية وصيرت في النفقة لكافلها فأعتقها وتزوجها ، ثم قدم مالكها فتظلم من بيعها على الوجه المذكور وادعى أنه ترك لها ما يقوم بنفقتها لأكثر من مدة مغيبه وأن لها صنعة تقوم بها أو يمكنها إتمام نفقتها منها ، وتعلق من الدولة بجهة لا تقصر عن جهة خصمه ، فكان هذا الخصام مكافئاً في الاستظهار بالوجاهة بين هذين الخصمين اللذين بغى بعضهما على بعض ، وثبت القاضي المذكور على حكمه من تصيير الجارية وخالفه غيره قال : ولم يلم القاضي المذكور بإثبات عجزها عن النفقة من صنعة يدها ولا إثبات كون مالكها لم يترك لها نفقة ، وقد قال ابن عبد الرفيع في معينه : إذا قامت مملوكة عند القاضي وذكرت غيبة مالكها وأنه لم يترك لها نفقة كلفها إثبات غيبته وبعدها وملكه لها ، وأنه لم يخلف لها نفقة ولا بعث لها بشيء ، ثم يأمر ببيعها وإيقاف ثمنها للغائب . وزاد غيره أنه يكفلها أيضاً إثبات كونها عاجزة عن استعمالها فيمايستعمل فيه مثلها لتنفق منه على نفسها قاله ابن عتاب في أم الولد . فالمملوكة أحرى وأولى بهذا الحكم اه . .
قلت : قد فقد من تصيير القاضي المذكور أيضاً التسوق وعدم إلغاء الزائد ، إذ لا يلزم ربها بيعها بقيمتها من غير تسويق ، وفقد منه أيضاً أنها أولى ما يباع عليه أو ليس له غيرها ، لكن هذا الثاني قد لا يتجه لأنه لو كان له غيرها لكان قد ترك لها نفقة فهو داخل في قوله : وإنه لم يترك لها نفقة ، ثم قال الشارح : حكم الحاكم إذا لم يصادف محلاً لكونه مبنياً على أمور مظنونة ، ثم ينجلي الأمر بخلاف ذلك كمسألة المفقود تعتد بعد ضرب الأجل وتتزوج ثم يقدم الزوج الأول ، وكمسألة الحكم بالنفقة للحامل ثم ينفش ، وكمسألة البيع على الغائب ثم تظهر البراءة وكمسألة الخارص يخرص أربعة أوسق ثم يظهر أكثر ، وكمسألة مثبت العيب في العبد الذي اشتراه وقد مرض العبد أو كاتبه فغرم قيمته ، ثم صح العبد أو عجز عن الكتابة فرق وذهب عنه البيع ، فلا رجوع للبائع في القيمة لأنه حكم نفذ . وكمسألة الرحى تحدث بحكم الحاكم لعدم ضررها بالتي فوقها بشهادة أهل المعرفة ، ثم يتبين ضررها بالتي قبلها وقطعت الماء عنها فإنها لا تنقض . وكمسألة من نزل الماء في عينه بسبب ضربة فأخذ ديتها ثم برئت ورجعت لحالها ، فإن الدية ترد . وكمسألة المشهود بموته فتقسم تركته وتباع عروضه وتتزوج زوجته ولم تعذر البينة ، بل ظهر تعمدها للزور فإنه يرد له جميع ذلك كما في ( خ ) . وكمسألة اختلاف المتبايعين في موت العبد في عهدة الثلاث فيرد ثمنه ، ثم يأتي حياً فإن رد الثمن بحكم فهو للمبتاع وإلاَّ فللبائع على ما قاله ابن رشد . وكمسألة من ادعى نكاح امرأة فأنكرته فادعى بينة بعيدة لا تؤمر المرأة بانتظارها ، فحكم القاضي بسقوط دعواه ، ثم قدمت البينة فإنها ترد إليه تزوجت أم لا . ونحو ذلك لا يخلو حكمه المذكور من كونه مبنياً على موجب قطعي أو ظني ، فإن كان الأول فإما أن يعارضه قطعي أو ظني فالأول محال وجوده لأنه لا يمكن أن يقع التعارض بين قطعيين ، وأما الثاني فلا ينقض بموجب ظني ما ثبت أو لا بموجب قطعي ، وليس في هذه المسائل مثال لواحد من هذين القسمين ، وأما الثاني من القسم الأول ، وهو ما ثبت بموجب ظني فلا يخلو إما أن يعارضه قطعي أو ظني وأيّاً ما كان فإما أن يتعلق به حق الغير أو يطرأ فوت أو يعتبر خوف تفويت مصلحة نصب الإمام ، فالأول وهو ما إذا عارض القطعي الظني ولم يتعلق به حق الغير ، ولا طرأ فوت ولا غيره فينقض الحكم وذلك كمسألة المفقود تعتد زوجته بعد الأجل وقبل أن تتزوج أو بعد العقد ، وقبل دخول الثاني قدم الأول فإنها ترد للأول لأنه تبين للعيان خلاف الظني الذي بنى عليه الحكم ، وكذا انفشاش حمل المطلقة وكون العبد للمتاع في مسألة عهدة الثلاث ، وكذا خارص الأربعة أوسق لأنه انكشف خطؤه اه .
قلت : وكذا مسألة نزول الماء في العين ، وأما إذا عارض القطعي الظني وتعلق به حق الغير أو طرأ الفوت فذلك كمسألة المفقود بعد دخول الثاني بها فإن الحكم لا ينقض .
قلت : وعليه تنزل مسألة الرحى أيضاً ، ومسألة مثبت العيب في العبد وقد مرض أو كاتبه ، وكذلك مسألة الغسال يتلف بيده الثوب فيغرم قيمته ثم يجده ، فإن الثوب يكون له ، وكذا من فرط في أمانة فيغرم قيمتها ثم وجدت . وأما القسم الثالث : وهو ما إذا عارض الظني الظنيولم يتعلق به حق الغير ، ولا طرأ الفوت ، ولا اعتبر خوف تفويت مصلحة نصب الإمام ، فذلك كتصيير دار الغائب لرد الدين ثم يقدم ويثبت البراءة فلا إشكال في نقض البيع ، وكمسألة الجارية المتقدمة إذا فرضنا أن مالكها ترك لها نفقة أو لها صنعة تقوم بها فلا إشكال في النقض حيث لم يحدث فيها عتق أو تزويج ، وإلاَّ فهي من القسم الذي بعده ، ومن هذا القسم مسألة الزوجة تطلق بعدم النفقة ثم يظهر إسقاطها فإنها ترد إليه ، وأما القسم الرابع : وهو ما إذا عارض الظني الظني وتعلق به حق الغير أو طرأ الفوت أو اعتبر خوف تفويت مصلحة نصب الإمام ، فذلك كمسألة دار الغائب إذا بيعت لغير رب الدين فإنها لا ترد لربها إذا أثبت البراءة على أحد قولين تقدما ، ولو لم تفت لتعلق حق الغير بها ولخوف تفويت مصلحة نصب الإمام على هذا القول ، وهو ظاهر النظم كما مرّ . قال الشارح : ولا يخلو هذا القول من استحسان ، والقول بنقض البيع أقيس ، ولا سيما مع تزوير بينة أصل الدين . وكمسألة الجارية المتقدمة لأنه طرأ فوتها بالعتق والتزويج اه . ما للشارح ههنا باختصار . وزيادة للإيضاح إلا أنه أورد على مسألة المفقود بعد دخول الثاني من قال : عائشة طالق . وقال : أردت زوجة لي غائبة اسمها عائشة فطلقت عليه الحاضرة لعدم تصديقه ، ثم ظهر صدقه فيما قال ، فإن التي طلقت عليه ترد إليه ولو تزوجت ودخل بها ، فإن قلنا بالرد في هذه ؟ فيقال : بالرد في مسألة المفقود بالأحرى لاحتمال أن يكون طلق عائشة الحاضرة ثم ندم ، بخلاف مسألة المفقود فلا احتمال فيها أصلاً ، ثم ظاهر ما مر عن ابن سراج والشارح ومن وافقهما أنهم حملوا بيع القاضي على استيفاء الموجبات ، وإن على من ادعى انخرامها إثبات ذلك ، وهو خلاف ما مر عن السيوري في فصل مسائل من أحكام البيع من أنه محمول على عدم استيفائها ، وعليه فيغرم ما زاده ثمنها على قيمتها بتقدير تسويقها ولا يكلف ربها إثبات أنها لها صنعة تقوم بها فتأمل ذلك والله أعلم .
فصل في العيوبأي عيوب غير الحيوان ، وأما عيوب الحيوان من رقيق وغيره ، فقد تقدم الكلام عليها في فصل بيع الرقيق وغيره من سائر الحيوان ، فمراده هنا عيوب الأصول والعروض لا غير ، ثم إن الناظم كغير واحد من أهل المذهب قسم عيوب الأصول إلى ثلاثة أقسام : قليل فهو كالعدم ، وكثير يثبت له به الرد ، ومتوسط يتعين فيه الرجوع بالأرش فقال :
وَمَا مِنَ الأَصُولِ بِيعَ وَظَهَرْ
لِلْمُشْتَرِي عَيْبٌ بِهِ كانَ اسْتَترْ
( وما من الأصول بيع وظهر للمشتري ) بعد عقد الشراء ( عيب به كان استتر ) ويخفى عندالتقليب ومثل المشتري من لا يعرف ذلك العيب وإلاَّ فلا قيام له به كما مر تفصيله في عيوب الرقيق ، وإذا ادعى البائع أن المشتري أحاط بالدار معرفة وعلماً ، وقد كتب في الوثيقة مثل ذلك فإن ذلك لا ينفعه إذا كان العيب مما يخفى قاله البرزلي عن المازري قائلاً : ولا حجة في قول الموثق إنه أحاط بها علماً إذ ذاك من تلفيقهم ، والعادة تقتضي عدم قصده بالإشهاد اه .
قلت : وكذا قول الموثق قلب ورضى هو من التلفيق أيضاً ، إذ هو من معنى قولهم : أحاط بها علماً قاله أبو العباس الملوي .
فإنْ يَكُنْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرُ
في ثَمَنٍ فَخَطْبُهُ يَسِيرُ ( فإن يكن ) ذاك العيب الذي اطلع عليه المشتري ( ليس له تأثير في ثمن ) كسقوط شرافات أو شق يسير أو نحوهما ( فخطبه ) قال في القاموس : الخطب الشأن والأمر ( يسير ) لا يعتبر لأنه كالعدم .
وَمَا لِمَنْ صَارَ لَهُ الْمَبِيعُ
رَدٌّ وَلاَ بِقَيمَةٍ رُجُوعُ
( وما لمن صار له المبيع ) وهو المشتري ( رد ) بذلك العيب ( ولا ) له ( بقيمة رجوع ) على بائعه .
وَإنْ يَكُنْ يَنْقُصُ بَعْضُ الثَّمَنِ
كالعَيْبِ عَنْ صَدْعِ جِدَارٍ بَيِّنِ
( وإن يكن ) ذلك العيب ( ينقص بعض الثمن كالعيب ) الناشىء ( عن صدع ) شق ( جدار بين ) ظاهر إذا لم تبلغ قيمته ثلث الثمن وليس هو وجاهة الدار ولا خيف عليها منها السقوط ، فحينئذ يكون من المتوسط المشار إلى حكمه بقوله :
فالمُشْتري لَهُ الرجُوعُ هاهنا
بقيمةِ العَيْبِ الّذي تَعَيَّنا
( فالمشتري ) يتعين ( له ) أي عليه ( الرجوع ههنا بقيمة العيب الذي تعينا ) فيقوم سالماً بعشرة مثلاً ومعيباً بثمانية ، ويرجع بما نقصه العيب وهو خمس الثمن في المثال كان الثمن عشرة أو أكثر أو أقل ، وقولي : إذا لم تبلغ قيمته ثلث الثمن الخ . احترازاً مما إذا بلغت ثلثه فهو حينئذ من الكثيرعلى ما لأبي بكر بن عبد الرحمن وهو المذهب كما يأتي بعد ، وكذا إن كان وجاهة الدار أي في مهماتها أو خيف عليها منه كما قال ( خ ) عاطفاً على ما لا رد به وعيب قل بدار ورجع بقيمته كصدع جدار لم يخف عليها منه الخ . وظاهره كالنظم أنه يجبر الآبي على أخذ الأرش في العيب المتوسط كان الآبي هو البائع أو المشتري ، وهو كذلك على المشهور ، والذي لابن الحاج في نوازله أن البائع لا يجبر على أخذ قيمة العيب ، وإنما هو بالخيار إن شاء رد القيمة وإن شاء قال للمشتري : اصرف على المبيع وخذ جميع ثمنك إلا أن يفوت المبيع فيتعين الرجوع بالأرش اه . قال ( ق ) : وهذا هو الذي أتحمل عهدته لكثرة الحيل يكون المشتري مغتبطاً بالمبيع ويطلب مع ذلك عيوباً ليحط عنه شيء من الثمن . قال ( م ) : وبفتوى ابن الحاج هذه جرى العمل عندنا بفاس اه . ونقله عنه في شرح العمليات ثم قال : وقال شيخنا ابن سودة : الذي به العمل هو الرد بالمتوسط كالكثير فلا يغتفر إلا القليل كالشرافات . قال ابن رحال : وما قاله ابن سودة صحيح وهو قول في المذهب حكاه الباجي وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم . وقال المازري : إنه مقتضى القياس وعلى ما لابن سودة اقتصر في نظم العمل فقال :
وبالكثير المتوسط لحق
فيما من العيب الأصول قد لحق
قلت : ولا زال العمل على ما لابن سودة إلى الآن والفرق بين ما لابن الحاج وما لابن سودة أن المشتري على الأول لا يمكن من الرد ، وإنما يمكن من الرجوع بقيمة العيب ، لكن إنما يمكن منه إذا لم يقل له البائع إما أن تتمسك بالمبيع أو ترده وتأخذ ثمنك ، وإلاَّ فلا رجوع له بشيء ، وإنما يتمسك أو يرد ويأخذ ثمنه بخلافه على الثاني فهو بالخيار بين الرد والتماسك ابتداء .
وَإنْ يَكُنْ لِنَقْصِ ثُلْثِهِ اقْتَضَى
فما عَلاَ فَالرَّدُّ حَتْمٌ بالقَضَا
( وإن يكن ) العيب ( لنقص ثلثه ) أي الثمن ( اقتضى فما علا ) عطف على ثلثه مدخول لنقص واللام فيه زائدة أي : وإن يكن العيب اقتضى نقص ثلث الثمن فأعلى ( فالرد حتم ) واجب للمشتري ( بالقضا ) ء وما اقتصر عليه الناظم في حد الكثير بالثلث فأعلى هو قول أبي بكر بن عبد الرحمن كما مر ، وهو أحد أقوال خمسة ذكرها ابن عرفة وغيره ، وانظر الكراس الخامس من بيوع البرزلي فإنه ذكر للدور عيوباً ، وربما ننقل بعضها عند قوله : والبق عيب الخ . وظاهر النظم كغيره أن له الرد بالكثير ، ولو اطلع عليه بعد سنة أو أكثر من يوم الشراء ، وهو كذلك وتقدم عن الأبار عند قوله : والبيع من براءة إن نصت الخ . أن العمل على عدم الرد بعد سنة في الدور وفي الرقيق بعد ستة أشهر .وَكُلُّ عَيْبٍ يَنْقُصُ الأَثْمَانَا
في غَيْرِهَا رُدَّ بِهِ مَا كَانَا
( وكل عيب ينقص الأثمانا في غيرها ) أي في غير الأصول من العروض والحيوان والمثليات ( رد ) ذلك المبيع ( به ما كانا ) نقص عن العشر مثلاً أو زاد عليه إذا كان يخفى عند التقليب كما مر ، وقام بفور اطلاعه عليه كما يقوله ، فعيوب غير الأصول قسمان قليل لا قيمة له فلا شيء فيه وكثير وهو ما نقص من الثمن نقصاً له بال فيرد به . ابن سلمون : كل عيب ينقص الثمن فالرد به واجب اه . ونحوه في المتيطية والمقرب عن ابن القاسم وانظر ما يأتي عند قوله : والبق عيب الخ .
وَبَعْضُهُمْ بِالأصْلِ عَرْضاً ألْحَقَا
في أَخْذِ قِيمَةٍ عَلى مَا سَبَقَا
( وبعضهم بالأصل عرضاً ألحقا في أخذ قيمة ) للمعيب إن كان متوسطاً ، وفي الرد به إن كثيراً والكثير الثلث فأكثر ( على ما سبقا ) في عيب الأصول ففي المفيد روى زياد عن مالك فيمن باع ثوباً فإذا فيه خرق يسير يخرج في القطع لم يرد به ، ووضع عنه قدر العيب اه . وهو خلاف المعتمد الذي صدر به الناظم ، والفرق على المشهور بين الأصول وغيرها ، حتى كان الرد في غيرها بكل ما نقص الثمن بخلافها ، فإنما يرد فيها بالثلث فأكثر أن الأصول لا تنفك عن عيب غالباً ، ولأن عيبها المتوسط يزول بالإصلاح ، فلو ردت به لأضر ذلك بالبائع قاله ( ح ) .
ثُمَّ العُيوبُ كُلُّهَا لاَ تُعْتَبَرْ
إلاَّ بِقَوْلِ مَنْ لَهُ بِهَا بَصَرْ
( ثم العيوب ) التي من شأنها أن تخفى عند التقليب لا ما كان ظاهراً لا يخفى كما مر في فصل بيع الرقيق ( كلها لا تعتبر إلا بقول من له بها بصر ) ولو كانوا غير عدول حيث تعذر العدول كما مر في قوله :
ويثبت العيوب أهل المعرفه
بها ولا ينظر فيهم لصفه
ثم إنه يقدح في غير العدول بجرحة الكذب اتفاقاً كما في ابن عرفة ، وكذا يعذر فيهمليأتي المطلوب بمن هو أتقى منهم أو أثبت ومحل قبول غير العدول من أرباب البصر إذا كان الحيوان المشهود بعيبه حياً حاضراً فإن كان ميتاً أو غائباً فلا يقبل غير العدول كما قاله في الطرر وشراح ( خ ) وابن فرحون وغيرهم . ونقله شارح نظم عمل فاس عند قوله : ويتساهل بأرباب البصر . فانظره هناك وانظره أيضاً عند قوله : كذاك في محتمل الشهادة وعند قوله :
واختص عدل بالشهادة على
أرباب الأبصار كما قد انجلى
وذلك كله في باب القضاء من العمل المذكور ، ثم محل كون الميت كالغائب في أنه لا بد فيه من عدلين من أهل المعرفة إذا دفن أو تغير حاله بحيث يخفى العيب معها ، أو كان العيب يخفى بموته ، وإن لم يتغير حاله فإن لم يدفن ولا تغير حاله ولا كان العيب يخفى بموته فإنه حينئذ كالحي فيكفي فيه ولو الواحد الموجه من قبل القاضي لا إن أوقفه المبتاع من ذات نفسه ، فإنه لا يكفي كما قاله غير واحد ، وإذا كان كالحي فلا تقبل الشهادة بعيبه حتى يقولوا وقفنا عليه بفور الموت قبل تغيره وطول موته اليوم ونحوه ، وأنه بذلك العيب مات ، وأنه أقدم من أمد التبايع لأن الحيوان سريع التغير في الحياة ، فكيف بعد الممات فلا تقبل فيه الشهادة من البياطرة مجملة ، ولما قال في نظم العمل :
وبعد شهر الدواب بالخصوص
بالعيب لا ترد فافهم النصوص
قال ابن رحال : يستثنى من ذلك عيب الذباب فإن الدواب ترد به ولو بعد شهر ذكر ذلك أواخر تأليفه في تضمين الضياع ، وانتقد عليه ذلك بعض المتأخرين بأن كل من أفتى من المتأخرين بأن الدواب لا ترد بعد شهر كالعبدوسي والمكناسي والشيخ عبد القادر الفاسي وأبي عبد الله القوري وسيدي علي بن هارون وغيرهم لم يفرقوا بين عيب الذباب وغيره ، وتعليلهم ذلك بأن الحيوان لا يكاد يبقى على حال مع قول مالك في الذي يشتري ، فإن وجد ربحاً وإلاَّ خاصم مع جهل البياطرة وكثرة جرأتهم وقلة صدقهم وكثرة احتيال النخاسين واستهاناتهم للدواب بالخدمة ، مع ما قاله ابن هارون من كون الرجل يشتري الدابة ويسخرها وينهكها ويقضي بها وطره ، ثم يلطم بها وجه صاحبها دليل على استواء العيوب كلها ذبابها وغيره انتهى باختصار . وما قاله هذا المنتقد ظاهر من حال العامة فإنهم لما تفطنوا لما قاله ابن رحال صاروا لا يقومون بعد موت الحيوان إلا بعيب الذباب ويبقرون على الدابة بعد موتها ، ويشهد البياطرة بأن في مجنتها دوداً هوالمسمى بالذباب ، ولا تجد أحداً ماتت له دابة إلا وقام بذلك ، وربما لا يبقرونها إلا بعد يوم أو يومين من موتها ، وربما كان ذلك الدود متولداً أي شيئاً يشبه الدود كما يوجد ذلك بخياشم الشاة الصحيحة ، وربما يكون أيضاً حدث بعد الموت لسرعة تغيره وهكذا . وقولي : وإنه من ذلك العيب مات أعني : ويرجع بجميع ثمنه إن كان البائع مدلساً وإلاَّ فلا يرجع إلا بأرش العيب كما قال ( خ ) : وفرق بين مدلس وغيره أن نقص كهلاكه بعيب التدليس الخ .
تنبيهات . الأول : قال ابن عرفة : إنكار البائع ما رد عليه أنه مبيعه مقبول . ابن عات : إن قال أشك أنه المبيع رد عليه اه . .
الثاني : هذا التفصيل الذي في الحيوان بين حياته وموته يجري في غيره من الدور وشبهها ، فإذا تهدمت الدار مثلاً فلا يقبل في أنها كانت معينة إلا اثنان عدلان ، وإن كان شارح العمل توقف في ذلك لكن لا وجه للتوقف كما لا يخفى ، إذ المدار على فوات المبيع وعدم قيام عينه فيفرق فيها حينئذ بين المدلس وغيره والله أعلم .
الثالث : قال في الأقضية من البرزلي : إذا شهدت بينة بأن العيب قديم وشهدت الأخرى بأنه حادث فأجاب ابن عات : بأن الأصل السلامة إذا شهد عدلان بأنه لم يكن به شيء يوم البيع . وأجاب ابن القطان : لأصحابنا في ذلك مذهبان ، وظاهر المدونة أن بينة القدم أعمل . وأجاب ابن مالك : بأن بينة القدم أعمل إذا شهد كل واحد منهما عن علمه لمعرفته بالدابة ، أو شهدت كل بينة بالدليل ، وأما إن شهدت بينة بالدليل والأخرى بالقطع ، فبينة القطع أولى ، البرزلي : يريد ابن القطان من مسائل المدونة أن من أثبت أولى ممن نفى قال : ولو قالت هذه يجب به الرد ، وقالت الأخرى هو عيب لا يجب به الرد ، فهو تكاذب ولا يرد حتى يثبت ، ونحوه في المتيطية والباب الثامن والخمسين من التبصرة قال : وكذا لو شهد شاهدان بأن الدرهم جيد وآخران بأنه رديء لم يلزم القابض قبوله حتى يتفقا على جودته ، وكذا لو قبضه ورده لم يلزم المردود عليه قبوله حتى يتفقا على رداءته ، ثم قال : ولو شهد شاهد بعيب قديم وشهد آخر بعيب غير الأول ، فلا توجب شهادتهما حكماً حتى يشهدا على عيب واحد ، وقال في باب التدليس بالعيوب عن الغرناطي : لا يفتي الفقيه في الرد بالعيب في الأمة إلا بشروط أن ينظر إلى العيب امرأتان ويشهدان عند القاضي على عين الأمة بصفة عيبها ، ويشهد طبيبان أن هذه الصفة تدل على أن العيب أقدم من زمن البيع ، وأن يشهد تجار الرقيق أنه يسقط من الثمن فيفتي حينئذ بوجوب الرد بعد الإعذار اه . فهو صريح في وجوب الإعذار في أرباب البصر ، وسيأتي آخر الفصل .
ولما كان للرد بالعيب موانع أحدها : البراءة وقد تقدمت ، وأنها خاصة بالرقيق ولا تصح في غيره إلا إذا تطوع بها بعد العقد كما مر . الثاني : زوال العيب كنزول الماء في العين ثم يبرأ بعد الرد برأ لا يحتمل معه رجوع ونحو ذلك . الثالث : فوت المبيع حساً قبل الاطلاع كالهدم في الدار والموت في الحيوان فيتعين الرجوع بالأرش فقط كما مرّ أو حكماً كالعتق والاستيلاء ، فيرجع بالأرش أيضاً . الرابع : ما يدل على الرضا . ولم يتعرض الناظم للثاني والثالث ، وأشار إلى الرابع بقوله :وَالْمُشْتَرِي الشَّيْءَ وبَعْدُ يَطَّلِعْ
فِيهِ عَلَى عَيْبٍ قِيَامُهُ مُنِعْ ( والمشتري الشيء ) أي شيء كان ( وبعد يطلع فيه على عيب ) قديم ( قيامه ) مبتدأ ثان ( منع ) خبره والثاني وخبره خبر الأول والرابط الضمير في قيامه ، وإنما يمنع قيامه بذلك العيب إذا تصرف أو سكت مدة تدل على الرضا كاليومين ونحوهما من غير عذر ، ولذا قال :
إلاَّ مَعَ الفَوْرِ وَمَهْمَا اسْتَعْمَلا
بَعْدَ اطِّلاَعِهِ المعِيبَ بَطَلاَ ( إلا مع ) قيامه ب ( الفور ومهما استعملا ) استعمالاً منقصاً ( بعد اطلاعه المعيب ) مفعول باستعملا أي : متى استعمل المعيب الاستعمال المنقص بعد اطلاعه على عيبه سواء استعمله زمن الخصام أو قبله ( بطلا ) الرد بالعيب لأن الاستعمال أو السكوت من غير عذر دليل على الرضا بالعيب ومثل للاستعمال المنقص بقوله :
كاللُّلْبسِ وَالرُّكُوبِ وَالبِنَاءِ
وَالهَدْمِ وَالجِمَاعِ لِلإِمَاءِ ( كاللبس ) للثوب ( والركوب ) للدابة في الحضر اختياراً وكذا لو تسوق أو سافر بعد الاطلاع ، ومفهوم اختياراً أنه لو اضطر لركوب الدابة أو الحمل عليها لاطلاعه على عيبها في سفره أو لتعذر قودها في الحضر ، فإنه لا يمنع من الرد وهو كذلك على رواية ابن القاسم ، ومفهوم كاللبس أن الاستعمال الذي لا ينقص المبيع كسكنى الدار واقتطاف الثمرة ولبن الشاة ومناظرة في كتب لا يمنع الرد ، وهو كذلك إن كان في زمن الخصام ، فإن كان قبله منع ( خ ) عاطفاً على ما يمنع الرد ما نصه : وما يدل على الرضا إلا ما لا ينقص كسكنى الدار وحلف إن سكت بلا عذر في كاليومين لا كمسافر اضطر لها أو تعذر قودها لحاضر الخ . والحاصل أن الاستعمال قبل الاطلاع لا يمنع الرد مطلقاً وبعده فيه تفصيل ، فإن كان منقصاً كاستخدام العبد والدابة ولبس الثوب منع مطلقاً طال أم لا ، كان زمن الخصام أو قبله إلا لعذر كسفر ، وإن كان غير منقص كحلب الشاة وسكنى الدار بنفسه أو كرائها لغيره ، فإن كان زمن الخصام فله الرد ، وإن كان قبله مع السكوت يومين فأكثر فلا رد ، وإن كان اليوم فدون فله الرد بعد يمينه كما أنه له الرد إذا سكت أكثر لعذر من خوف ونحوه وثبت عذره وما مر من أن الاضطرار في السفر لا يمنع الرد ظاهراً ، ولو كان ذلك الاضطرار في الذهاب وهو كذلك قال في الشامل : وعذر مسافر ولا يلزمه ردها إلا فيما قرب وخفت مؤنته ، ويستحب له أن يشهد أن ذلك ليس رضاً منه اه . ولكن إذا رجعت لحالها ردها ولا شيء عليه ، وإن عجفت ردها وما نقصها أو يأخذ قيمة العيب قالهابن القاسم . ( والبناء والهدم والجماع للإماء ) يعني التصرف بهذه الأمور بعد الاطلاع ، ولو زمن الخصام مما يدل على الرضا ويمنع الرد بالعيب ، ولا شيء له من أرش ولا غيره ، وكذا العتق بعد الاطلاع .
تنبيه : فإن غاب بائع المعيب فالمشتري بالخيار إن شاء صبر إلى قدومه ويستحب له الإشهاد بأنه لم يرض ، وإن شاء رفع أمره للحاكم فيكتب لقريب الغيبة ويبيع المعيب على بعيدها ويقضي منه الثمن ، فإن فضلت فضلة بقيت بيد الحاكم كما في اللامية . قال أبو الحسن : يتم الحكم بالبيع في هذه المسألة بتسعة شروط ، وثلاثة أيمان . أحدها : أن يثبت أنه ابتاع . الثاني : مقدار الثمن ، الثالث : أنه نقده . الرابع : أمد التبايع . قلت : وهذه الأربعة يتضمنها عقد الشراء في الغالب ، والخامس : ثبوت العيب : السادس : أنه ينقص من الثمن . السابع : أن العيب أقدم من أمد التبايع . قلت : وهذه السبعة يشاركه فيها الحاضر . الثامن : ثبوت الغيبة . التاسع : كونها بعيدة أو بحيث لا يعلم ، وأما ثلاثة أيمان ؛ فإنه يحلف أنه ابتاع بيعاً صحيحاً وأنه لم يتبرأ إليه من العيب ولا بينة له ولا أراه إياه . والثالثة أنه ما رضي بالعيب حين علم به ، وله أن يجمعها في يمين واحدة انظر ضيح و ( ح ) .
قلت : ظاهره أنه يحلف أنه ما أراه إياه وأنه ما رضي به ، ولا تتوقف يمينه على دعوى المخبر ولا الإراءة ، وهو كذلك لأن هذا غائب فلا أقل لو حضر أن يدعي أنه أخبره برضاه مخبر ، أو أنه أراه إياه بخلاف الحاضر فليس له أن يحلفه على ذلك إلا بدعوى المخبر والإراءة كما قال ( خ ) : ولم يحلف مشتر ادعيت رؤيته بدعوى الإراءة ، ولا الرضا به إلا بدعوى مخبر الخ . وتقدم في عيوب الرقيق أن هذا إنما يجري على أن يمين التهمة لا تتوجه ، وظاهره أيضاً أنه لا يحتاج إلى ثبوت ملك البائع لما باع إلى وقت بيعه خلافاً لما في ضيح تبعاً لابن عبد السلام ، من أنه لا بد منه زيادة على التسعة المتقدمة ، وهو مما لا وجه له لأن الأصل فيمن باع شيئاً أنه إنما باع ما يملكه ، وكونه باع غير ملكه خلاف الأصل ، كما في الارتفاق . وتقدم ذلك في البيع على الغائب ، ولأن هذا يملك الرد عليه باع ملك نفسه أو ملك غيره بوكالة أو نحوها حيث لم يعلم المشتري بوكالته أو بأنه يبيع ملك غيره ، وقد يكون للإنسان السلعة أو الدار ويبيعها بفور شرائهما قبل أن يعرف الناس أنهما ملكه ويغيب بعد ذلك فيتعذر على القائم ثبوت ملك البائع ، فلعل ما لابن عبد السلام إنما هو إذا أبى أن يحلف أنه ما بين له أنه يبيع ملك الغير لتكون العهدة على ذلك الغير لا على الغائب والله أعلم .تنبيهان . الأول : قال البرزلي : ومن ابتاع ثياباً وسافر بها لمصر مثلاً فوجد ببعضها عيباً فإنه يشهد على المعيب منها ويبيعها على بائعها لا أنه رضي بها فإن رجع قام على البائع فإن دلس فعليه كراؤها . وإن لم يدلس فلا كراء عليه اه . يعني عليه كراؤها وما نقصه العيب انظر تمامه في الكراس السادس من بيوعه فإنه زاد إثر ما مر ما نصه : إن كان النقص يسيراً ردها ولا شيء عليه ، ونقلها على البائع وإن كان له مؤنة كثيرة فهو كالعيب الكثير يحدث فيخير بين الأخذ والإمساك والرجوع بقيمة العيب أو يردها ، وقيمة العيب وردها لموضعها هو قيمة العيب وسواء دلس أم لا اه .
الثاني : قال في نوازل الزياتي : سئل الفقيه أبو جعفر عمر الزويري عن السلعة المبيعة إذا ردت بعيب وضاعت في الطريق بسرقة أو لصوص أو غير ذلك فممن يكون الضمان ؟ فقال : إذا ردها المبتاع لم يفعل فعلاً يدل على رضاه فهي مصيبة نزلت للبائع اه .
وكامِنٌ يَبدُو مع التَّغْيِيرِ
كَالسُّوسِ لاَ يُرَدُّ فِي المَأْثُورِ
( و ) عيب ( كامن ) يستوي المتبايعان في الجهل به عند العقد و ( يبدو ) ويظهر ( مع التغيير كالسوس ) يظهر في الخشب بعد شقه والفساد يظهر في الجوز بعد كسره والقثاء تظهر مرارتها بعد كسرها ( لا يرد في المأثور ) من المذهب ، ومفهوم قوله يبدو مع التغيير أنه إذا كان يعرف فساده قبل التغيير كالبيض فإنه يرد ( خ ) عاطفاً على ما لا رد به ، وما لا يطلع عليه إلا بتغيير كسوس الخشب والجوز ومر قثاء ورد البيض الخ . وما مر من عدم الرد إنما هو إذا لم يشترط المشتري السلامة من ذلك ، وإلاَّ فله الرد والعادة كالشرط ، ولذا تجد الناس اليوم يردون القثاء بسبب مرارتها بل ذكر البرزلي عن ابن المواز ما نصه : إذا ابتاع قثاء فوجده كله مرّاً فإنه يرده بذلك لأن صاحبه يعرفه اه . ويدخل تحت الكاف أيضاً من اشترى شاة فوجدها عجفاء أو جوفها أخضر فإنه لا رد له كما في سماع أشهب قاله ( ق ) قال : وانظر اضطراب الشيوخ فيمن اشترى أضحية فوجدها عجفاء لا تجزىء أضحية في باب العيوب من ابن سهل اه .فرع : قال ( عج ) : من اشترى شعيراً بشرط أنه للزراعة أو في أبانها بثمن ما يراد لها فلم ينبت فإن كان البائع مدلساً رجع عليه المشتري بجميع الثمن وأجرة الأرض وما صرفه في زرعه ، وإن كان غير مدلس فإن كان المبيع لا ينتفع به في غيرها كزريعة الحناء والبرسيم رجع المشتري بثمنه ولا يدفع عوضاً للمبيع ، وإن كان ينتفع به في غيرها كأكله أو علفه ، فهل يرجع بثمن الجميع أيضاً ، ولكن يرجع البائع بمثل متاعه وهو قول ابن القاسم ، أو يرجع المبتاع بما بين قيمته نابتاً وغير نابت من الثمن وهو قول سحنون . قولان اه . وقال ابن عبد الرفيع : يقال لمن اشترى زريعة فلم تنبت أثبت أنك زرعت الزريعة التي اشتريتها من هذا بعينها ، وأنك زرعتها في الأبان ، وفي أرض ثرية ، وأنها لم تنبت ولك الرجوع اه . ونقله ( م ) عن القلشاني وأصله في الجزيرية كما في البرزلي قال فيمن ابتاع زريعة بصل ، وزعم المشتري أنها لم تنبت ما نصه : إن كانت البينة لم تفارقه حتى زرعها في أرض مذللة ناعمة ولم يضيع سقيها في وقت السقي رجع بالثمن على البائع ، ولم يكن عليه مثل زريعته إذ لا فائدة فيها ، وإن فارقته البينة ونظر العدول إلى الأرض ورأوها لم يصلح نباتها حلف البائع أنه لم يغره وأنه أعطاه زريعة جيدة في علمه ، وإن لم يكن هذا ولا هذا فلا يمين فيها اه . وهذا كله إذا لم يبق من الزرع شيء وإلاَّ فيجرب ليعلم صدق المشتري أو كذبه كما لابن رشد قال : فإن عرف كذبه فلا شيء له ، وإن عرف صدقه بالتجربة المذكورة رجع بقيمة العيب إن لم يدلس البائع وإن دلس رجع بجميع الثمن اه . ففيه إشارة إلى ترجيح قول سحنون المتقدم ، وقول ( عج ) أو في إبانها الخ . يعني لأنه إذا اشتراها في الإبان فكأنه اشترط زراعتها كمن اشترى ثوراً في إبان الحراثة فوجده لا يحرث فإن له رده ، وإن لم يشترط أنه للحراثة قاله ابن الحاج وغيره ، وزراعة دود الحرير يذكر بائعها أنها جيدة ثم يظهر نسجها فاسداً تجري على ما تقدم من زراعة الحناء ونحوها قاله ( ت ) .
قلت : بل ولو لم يذكر بائعها ذلك لأنها إنما تشترى في الأبان على أن نسجها صالح كمسألة الثور المتقدمة والله أعلم . وانظر العلمي في المحاباة والتوليج .وَالبَقُّ عَيْبٌ مِنْ عُيُوبِ الدُّورِ
وَيُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى المَشْهُورِ
( والبق ) والنمل ( عيب من عيوب الدور ويوجب الرد على المشهور ) ومراده بالمشهور ما وقع الحكم به لا المشهور المصطلح عليه من كونه الذي قوي دليله أو كثر قائله أو مذهب المدونة ، وظاهره أن البق عيب ولو قل ، والذي في الطرر ناقلاً عن الموازية هو ما نصه : وسوء الجار في الدار المكتراة عيب إذا لم يعلم به وقال غيره : ليس ذلك عيباً في المبيع وقد قال أبو صالح الجواني : سمعت مالكاً يقول : ترد الدار من سوء الجيران والحفرة ، والبئر والمرحاض بقرب حيطان الدار عيب ، وكذا جرى ماء غيرها عليها عيب فيها وكثرة البق عيب فيها ، ونزلت بقرطبة وحكم بردها . وأخبرني الثقات أن العمل بقرطبة أيضاً برد السرير المبقق وإن نحت وبيع ولم يبين رد أيضاً وحكم به فيها . وعن ابن عبد الغفور عن بعض أصحابنا أن كثرة القمل في الثياب ترد به بزاً كانت أو صوفاً أو كتاناً المشاور والغفائر الغسيلة المصبوغة بالسواد إن بين بائعها وإلاَّ وجب الرد لأنه عيب وغش قال : والصيبان في الثوب عيب لأنه ملازم كالقمل اه . بنقل البرزلي ، فظاهره أن قليل البق لا رد به ، ولذا أصلحه ولده بقوله :
وكثرة البق تعيب الدورا
وتوجب الرد لأهل الشورى
قلت : لعل الناظم فهم أن التعبير بالكثرة في النص غير مقصود ، ويدل له ما قاله في السرير وما ذاك إلا لكون البق لا ينضبط ولا يستقر على حال ، فهو وإن قل في وقت يكثر في الحين فما للناظم من الإطلاق أحسن وما ذكره في الجار السوء نحوه في العتبية . قال ابن رشد : المحنة بالجار السوء عظيمة ، وقد روي عن مالك أن الدار ترد من سوء الجار اه . باختصار . ثم قال البرزلي : وفي المجالس أن من ابتاع داراً بمدينة أو قرية بناحية واد فحمل الوادي في بعض الزمان ووصل إليها ، فإن ثبت أنه بلغ إليها فيما مضى ولو مرة كان له ردها ، وإن لم يعلم ذلك فهي مصيبة نزلت بالمبتاع . ولابن رشد فيمن ابتاع كرماً فظهر أنه شارف فقال : إنه من العيوب الظاهرة التي لا رد بها ، وفي الطرر أن الرحى المتربة ترد بكل حال علم المشتري بتتريبها أم لا . لأنه لا نفع بها إذ هي إنما تباع للطحن فإذا كانت متربة لم تسو إلا قيمة حجر ملقى ، فإن فاتت رجع بقدر العيب وهذا القول أولى وبه العمل اه . وفي الكراس الثاني من معاوضات المعيار أن الدار المعتادة لنزول الأجناد ترد لأن ذلك عيب ، وفي المعيار أيضاً أن الحديد إذا وجده مبتاعه أحرش فإن له رده على بائعه ، وهكذا حتى يرد على الذي أخرجه من المعدن ، وما مر من أن النمل ترد به كالبق هو ما أفتى به ابن لب قائلاً : إذا قال الجيران إن ذلك قديم بها يظهر من فصل الربيع إلى الخريف الخ . وهذا كله يدخل تحت قول الناظم فيما مر : وكل عيب ينقص الأثمانا الخ . لكن لا تجد أحداً عندنا اليوم يقوم بعيب البق والنمل ولعله لعدم نقصان ثمن الدار بذلك عادة عندهم ، وأما قتل الإنسان في دار أو بستان فإن ذلك ليس عيباً فلا حجة للمشتريفي أن الدار صارت بسبب القتل المذكور موحشة تنفر النفوس منها وتظهر للعيال بسبب ذلك خيالات ونحو ذلك كما في الشارح .
وَأُجْرَةُ السِّمْسَارِ تُسْتَرَدُّ
حَيْثُ يَكونُ لِلْمَبِيعِ رَدُّ
( وأجرة السمسار تسترد حيث يكون للمبيع رد ) وهذا إذا كانت الأجرة على وجه الجعالة ولم يدلس وكان الرد بالبيع بحكم حاكم فإن دلس البائع فلا يرد السمسار الجعل ما لم يتفق مع البائع على التدليس فإنه يرده قاله في المتيطية ، وكذا لا يرد الجعل إن كان على وجه الإجارة كما لو أجره بدرهم على سمسرة الدار عشرة أيام مثلاً وبيعت في آخرها ، ثم ردت بعيب فإن بيعت في أثنائها فله من الدرهم بحساب ذلك ، وكذا إن قبله البائع يغير حكم فإنه لا يرده كما لو أقاله أو استحق قاله في المتيطية أيضاً . قال فيها أيضاً : وللسمسار تحليف البائع أنه لم يدلس اه . قال ( ز ) : وأما ما دفعه المشتري حلاوة للسمسار على تحصيل المبيع فلا يرجع به إلا أن يعلم السمسار عيباً بالمبيع اه . أي : وللمشتري تحليفه على عدم علمه به أيضاً فإن نادى السمسار على السلعة فلم يجد فيها البيع وردها إلى ربها فباعها ربها بالذي وقعت عليه أو بأقل أو بأكثر ، فإن باعها في ذلك السوق بالقرب فللسمسار الجعل وإن باعها بعد بعُد أو في غير ذلك السوق فلا جعل له قاله في المعيار .
وَحَيْثُمَا عَيَّنَ قَاضٍ شُهِدَا
لِلْعَيْبِ فَالإعْذَارُ فِيهِمْ عُهِدَا
( وحيثما عين قاض شهدا للعيب ) أي لإثباته وشهدوا به ( فالإعذار ) والقدح ( فيهم ) من جهة المعرفة وبجرحة الكذب ( عهدا ) عند الأئمة لا من جهة العدالة لأنه مدخول فيهم على عدمها كما مر عند قوله : ثم العيوب كلها لا تعتبر الخ . فالإعذار المعهود فيهم ولو مشركين إنما هو من جهة المعرفة والكذب لا من جهة العدالة . قال في المتيطية : والإعذار فيهم من طريق العلم لا منطريق العدالة فإن أتى البائع ممن هو أعلم من هؤلاء الشهود سمع منه وإلاَّ فلا حجة له اه . وكلامه صريح في كونهم موجهين من قبل القاضي لأنهم إذا لم يكونوا موجهين من قبله ، بل أوقفهم المبتاع من ذات نفسه فلا يقبل غير العدول باتفاق من مالك وأصحابه كما صرح به هو نفسه ، والإعذار فيهم حينئذ من جهة العدالة والمعرفة فالتفصيل في الإعذار من طريق العلم لا من طريق العدالة إنما هو في شهود العيب الموجهين من قبل القاضي ، وإذا علمت هذا فما في ابن سلمون من أنهما إذا كان القاضي قد نصبهما إلى ذلك فشهدا عنده بالعيب ، وأراد البائع أن يعذر إليه في شهادتهما ويدعو غيرهما إلى الشهادة عند القاضي فليس له ذلك اه . مخالف لما مر عن المتيطية والناظم فيجب حمله على ما إذا أراد الإعذار فيهم من جهة العدالة ، فإذا قدح فيهما وأبطل شهادتهما دعا غيرهما إلى الشهادة بنقيض ما شهد به المقدوح فيهما ، وإلاَّ فهو مخالف للمذهب لأن أرباب البصر إنما يشهدان بما خلص لهما باجتهادهما وقد يخطئان هذا في المعروفين بالتقوى والدين ، فكيف بمن عرف بعدم العدالة أو كان مشركاً بخلاف الموجهين للحيازة والتحليف فيشهدان بأمر محسوس لا اجتهاد فيه والله أعلم .
تنبيه : إذا شهد أرباب البصر بأنه عيب وأنه ينقص من الثمن كثيراً جازت الشهادة ، وقيل إنما على الطبيب صفة الداء خاصة وأنه قديم وأما نقصان الثمن فيشهد به عدلان سواء بعد أن يصف لهما الداء لأن الضرورة قد ارتفعت في هذه الزيادة قال بعض الموثقين : والأول أحسن لأن من لا يدري الداء كيف يدري نقص الثمن بسببه قاله في النهاية . وانظر اعتراض ابن سهل فيها أيضاً وفي الباب الثامن والخمسين من التبصرة وبعضه في العمل المطلق . وقال ابن سلمون : إن كان الطبيبان لا يعرفان القيمة فيشهد الطبيبان بالعيب ويشهد عدلان من أهل المعرفة بالقيمة بنقص الثمن اه . فمفهومه أنهما إذا كانا يعرفان القيمة فتقبل شهادتهما في العيب والقيمة ، وهذا يبين كلام الغرناطي الذي قدمناه عند قوله : ثم العيوب كلها لا تعتبر الخ .
فصل في الغبنبفتح الغين وسكون الباء الموحدة وهو عبارة عن شراء السلعة بأكثر من القيمة بكثير فيغبن المشتري أو يبيع بأقل من القيمة بكثير فيغبن البائع قاله ( م ) وهو يقتضي أن لكل من البائعوالمشتري القيام بالغبن . ولا يقال الثمن يتبع الرغبات فقد يرغب المشتري في الشيء فيعطي فيه أكثر من قيمته بكثير ، فكيف يصدق في الغبن وأنه لم يكن له رغبة فيه ؟ لأنا نقول ثبوت كونه جاهلاً بالقيمة ينفي عنه إذ لا يقال زاد على القيمة للرغبة حتى يكون عارفاً بها ، وإذا قلنا إن كلاً من العوضين مبيع بالآخر كما مرّ أول البيوع فيكون هذا الحد شاملاً لما تقدم في فصل بيع العروض من قوله : وبيع ما يجهل ذاتاً بالرضا الخ . فإذا جرى العمل بالقيام بالغبن في الثمن فكذلك يجري به في المثمن كما مر التنبيه عليه والله أعلم . ثم المشهور عدم القيام بالغبن كما قال ( خ ) ولم يرد بغلط إن سمي باسمه ولا بغبن ولو خالف العادة الخ . وهذا كله إذا لم يستأمنه ويخبره بجهله بالقيمة فيقول له : إن قيمته كذا والأمر بخلافه ، وإلاَّ فله القيام باتفاق عند ابن رشد من غير شرط من الشروط الآتية فمحل الشروط إنما هو إذا درجنا على مقابل المشهور كما قال :
وَمَنْ بِغَبْنٍ في مَبِيعٍ قَامَا
فَشَرْطُهُ أنْ لاَ يَجُوزَ العَامَا
( ومن يغبن في مبيع ) عقاراً أو حيواناً أو غيرهما ( قاما ) وأراد الرد به ( فشرطه ) أي القيام به ( أن لا يجوز العاما /
وَأَنْ يَكُونَ جَاهِلاً بِمَا صَنعْ
وَاغَبْنُ بالثُلْثِ فَمَا زَادَ وَقَعْ
وأن يكون ) القائم ( جاهلاً بما صنع ) من بيعه بأقل من القيمة أو شرائه بأكثر منها ( و ) أن يكون ( الغبن بالثلث ) يتعلق بقوله وقع ( فما زاد وقع ) وقيل : لا قيام به إلا إذا زاد على الثلث ، وقيل يقام به مطلقاً وعلى ما للناظم فالثلث هنا كثير فيزاد على قول ابن غازي :
والثلث نزر في سوى المعاقله
وفي الجوائح وحمل العاقله
وكذا يزاد عليه ما مر في قول الناظم في عيب الأصول :وإن يكن لنقص ثلثه اقتضى
فما علا فالرد حتم بالقضا الخ
وظاهر النظم أنه إذا وجدت الشروط الثلاثة ثبت له القيام كان البيع بالمزايدة أو بالمساومة عرض البائع سلعته على أناس شتى أم لا . والذي في الكراس الثالث من معاوضات المعيار مسلماً ما نصه : سئل الفقيه بركات البازوي عن القيام بالغبن هل يعم جميع البيوع أو يختص بغير بيع المزايدة ، وهل يتنزل منزل بيع المزايدة تعويض صاحب السلعة ببيعها على أناس شتى وترغيبه إياهم فيها وهي أصل أو غيره ، وهل تنفع شهادة من عرضت عليه إن أنكر القائم ذلك ؟ فأجاب : أما بيع المزايدة فلا يتصور فيه غبن وكذلك غيره في معروف المذهب ولا بيع الاستئمان ، وفيه ورد الحديث : ومشهر سلعته لا غبن فيه ، وشهادة من عرضت عليه حائزة اه . فقوله : لا يتصور فيه غبن يعني اتفاقاً بدليل قوله : وكذلك غيره في معروف المذهب لأنه إنما حكى الخلاف في غيره وهو المساومة ، وقوله : ولا بيع الاستئمان الخ . إنما يتمشى على ما لابن عبد السلام من أن المشهور عدم القيام بالغبن ، وظاهره ولو استأمنه واسترسله ، وبالجملة فهذه الفتوى جارية في بيع المساومة على المشهور وفي الاستئمان على ظاهر ما لابن عبد السلام ، والمقصود منها أن بيع المزايدة لا يتصور فيه غبن وما ذاك إلا لكون قيمته هي ما وقفت عليه ، ولا سيما في الأصول بعد المناداة عليها الشهر والشهرين ، ويؤيده ما مر عن السيوري وابن رشد في البيع على الغائب والمحجور والمفلس بعد المناداة وعدم إلغاء زائد خلافاً لما في الكراس الثاني عشر من المعيار أيضاً عن ابن البراء من أن الغائب له القيام بالغبن إذا أثبته اللهم إلا أن يحمل ما لابن البراء على أن الغرماء باعوا بغير تسويق ولا مناداة إذ ليس في السؤال أنهم باعوا الدار بعد تسويقها فيكون حينئذ موافقاً لما قبله والله أعلم . وإذا علمت هذا بطل ما يفعله أرباب البصر من شهادتهم بالغبن في الدور والأجنات التي وقع النداء عليها الشهر والشهرين ونحو ذلك ، وقوله : ولا بيع الاستئمان الخ . تقدم أن هذا محل اتفاق عند ابن رشد ، وأنه لا يحتاج فيه لشرط ، والاستئمان والاسترسال والاستسلام بمعنى واحد خلافاً فالظاهر ( خ ) وقوله : وفيه ورد الحديث يعني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عين المسترسل ظلم ) الخ . والاسترسال أن يقول له : بعني كما تبيع الناس أو اشتر مني كما تشتري من الناس . فيقول : نشتري من الناس بكذا ونبيع منهم بكذا ، ويظهر الأمر بخلاف ذلك .
تنبيهات . الأول : كلام الناظم إنما هو في الغبن الواقع في بيع الرشيد متاع نفسه ، وأما بيع الوصي والوكيل فالغبن فيه ما نقص عن القيمة نقصاً بيناً ، وإن لم يبلغ الثلث . وتأمل قول ( خ ) في الوكالة : وتعين في المطلق نقد البلد ولائق به وثمن المثل الخ . وانظر ( ح ) وشراح نظم العمل قبل جامع مسائل من أبواب قال ( ق ) : وانظر قد نصوا أن بيت المال أولى ما يحتاط له ، فالبيع عليه كالبيع على المحجور قال : وانظر إذا لم يقم المحجور إلا بعد أعوام ، فقد سئل ابن لب عن دار مشتركة بين قوم منهم مالك أمر نفسه ، ومنهم محجور باعوها من الغير ثم قاموا عليه بعد أعوام ؟ فأجاب : بأن المالك أمر نفسه مرور العام قاطع لحكم قيامه ، وأما المحجور فينظر له ، لكن ترك الوصي النظر لمحجوره من غير عذر معلوم كأنه مشعر بتفريط حق المحجور بطول المدة وتصرف المشتري طول عمارته في ذلك ، فالصواب أن لا يتعرض للمشتري وأن تكون التباعة للمحجور بما نقصه على الناظر عليه اه . فظاهره أنه لا تباعة له على المشتري ولا ينقضالبيع ولو لم يفت وهو مخالف لما في نوازل العلمي عن المجاصي وغيره من أن طول المدة لا يضر ، يعني إذا قام قبل مضي العام من رشده قال : فإن فات المبيع فلا ينقض البيع فيه ، وإنما تكمل القيمة على المشتري فإن تعذر تكميلها فعلى الناظر على المحجور أيّاً كان أو غيره لتفريطه وليحتفظ القاضي على عدم نقض العقود ما استطاع فإنها لا تنتقض إلا بالأمر البين اه . فعلم منه أن طول المدة إنما يمنع القيام مع الفوات لا مع عدمه ، وعليه يحمل قول العلمي أواخر البيوع من نوازله ما نصه : وأما السفيه يبيع عنه وصيه فله القيام ولو بعد السنة إذا باع بما لا يتغابن الناس بمثله ولو لم يبلغ الثلث اه . وهذا كله إذا تحقق الغبن مع طول المدة ولم يقع فيه اشتباه ولا شك ، وإلاَّ ففيه أيضاً بعد هذا عن سيدي العربي يرد له في محجور قام بالغبن ما نصه : القيام بالغبن فيما باعه الإنسان من غيره معمول به ، لكن مع طول المدة وهو ضعيف من جهة عدم تحققه لأن الناس سيما العامة يغلب عليهم الميل إلى الحالة الراهنة ، ويشتبه عليهم حال المدة الماضية لا سيما مع طول المدة ، فإذا كان الشيء في الحال مغتبطاً به فربما توهموا أن الاغتباط فيه قديم ، ففتح القيام بالغبن مع طول المدة يتسع معه الخرق ، لكنني لم أقف على النص في عينها ، والله أعلم .
قلت : ولعمري أن هذا لهو الحق لأن الغبن إذا كان يعتبر يوم العقد ومضت المدة المديدة فكيف يمكنهم الجزم بوجود الغبن وقت العقد ولا سيما مع قلة ديانة أرباب البصر في هذا الوقت ، ولعل هذا المعنى هو الذي تلمحه ابن لب في فتواه المتقدمة حتى قال : إنه لا يتعرض للمشتري وإنما التباعة على الناظر ، وما ذاك إلا لعدم تحقق وجوده مع طول المدة المديدة ، وإلاَّ فيفسخ البيع إن لم يفت فإن فات فالتباعة على المشتري أو وجد ملياً وإلا فعلى الناظر كما مر فالناظر متأخر في الغرامة قطعاً لأنه كواهب لمال غيره والله أعلم .
الثاني : قال سيدي محمد بن عبد الصادق في شرحه على المختصر ما نصه : الغبن على القول به إنما يعتبر يوم البيع فلا يعتبر تغير الأسواق بعد ذلك ، وعليه فما وقع في عصرنا هذا في شراء الغلة الصيفية وكذلك شراؤهم ورق التوت ومن يشتري ذلك الغالب عليهم أنهم من أهل المعرفة بأثمان ذلك ، فحصل كساد كبير أذهب رؤوس الأموال لأربابها فقاموا بذلك فأفتوا بأنهم لا قيام لهم لأنه ليس بجائحة ، ولأن الغبن يعتبر فيه وقت العقد ، ولأن المشتري لذلك من أهل المعرفة اه .
الثالث : ما تقدم من أن الناظر يغرم هو أحد قولين . قال البرزلي عقب قول ابن رشد : والوصي قد أخطأ على مال الأيتام يعني حيث باعه بغبن ما نصه : يريد بعد اجتهاد فلا ضمان عليه ويغرم من حصل تحت يده مع الفوت كما إذا أنفق التركة على الأيتام ، ثم ظهر دين ويتخرج على ما في كتاب ابن المواز من كتاب الوصايا أن الوصي هنا يغرم ولا يغرم من حصل في يده لأنه جعل الوصي يغرم في الخطأ وهو يجري على الخلاف في المجتهد يخطىء هل يعزر بخطئه أم لا اه . فتأمله مع ما تقدم عن ابن لب والمجاصي وقال ( ز ) في باب الغصب : لا شيء على مجتهد أتلف شيئاً بفتواه ويضمن غيره إن انتصب وإلا فقولان . وانظر القسم الثالث من تبصرة ابن فرحون قال فيه ما يخالفه .وَعِنْدَ ذَا يُفْسَخُ بِالأَحْكَامِ
وَلَيْسَ لِلْعَارِفِ مِنْ قِيَامِ
( وعند ذا ) أي عند اجتماع الشروط المذكورة ( يفسخ ) البيع ( بالأحكام ) وظاهره ولو تمم المشتري القيمة وهو كذلك ومحل فسخه ما لم يفت بيد مشتريه بشيء من مفوتات البيع الفاسد ، وإلاَّ فيتعين الرجوع بتمام القيمة كما مرّ وقاله ابن رشد وصرح به ابن سلمون وغيره خلاف ما يوهمه ( ح ) في آخر كلامه حيث قال : وأما القيام بالغبن يفوت بالبيع الخ . فإنه يجب تأويله بأن المعنى والقيام بفسخ البيع بالغبن يفوت بالبيع الخ . لا الرجوع بتمام القيمة فإنه لا يفوته ، ثم إذا فسخ البيع حيث لم يفت فلا شفعة لمن رجعت له حصته فيما باع شريكه بعد الغبن وقبل نقضه ولا لشريكه شفعة أيضاً فيما رجع لمالكه قاله ابن رشد ، ( ح ) والبرزلي وابن عرفة وغيرهم . ( وليس للعارف ) بقيمة المبيع ( من قيام ) بالغبن إلا أن يستأمنه ويسترسله فله القيام ، ولو كان عارفاً كما مر ، وهذا مفهوم قوله : وأن يكون جاهلاً بما صنع .
فصل في الشفعةبضم فسكون من الشفع وهو ضد الوتر لأن الآخذ بها يضم حصة غيره إلى حصة نفسه فصارت شفعاً بعد أن كانت وتراً والشافع هو الجاعل الوتر شفعاً ، والشفيع فعيل بمعنى فاعل . ابن عرفة : هي استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه الخ . والمراد بالاستحقاق هنا ثبوت حالة للشريك استحق بها الأخذ بسبب البيع لا ما ذكره هو في حد الاستحقاق من قوله : رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله الخ .
وَفِي الأَصُولِ شُفْعَةٌ مِمَّا شُرعْ
في ذِي الشَّيَاعِ وَبِحَدَ تَمْتَنِعْ ( وفي الأصول ) الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر ( شفعة ) مبتدأ والمجرور قبله يتعلق به ( مما شرع ) خبر ( في ذي الشياع ) يتعلق به ، والمعنى أن الشفعة في الأصول مشروعة في ذيالشياع منها حين البيع لا أنها إنما تجب للشريك بجزء شائع لا بأذرع معينة أو غير معينة كما في ( ح ) أوائل الشفعة ، ومن ادعى الشياع فعليه إثباته ليشفع ، وإنما تجب أيضاً إذا استمر الشياع إلى حين البيع كما قال : ( وبحد تمتنع ) أي فلا شفعة فيما قسم وضربت حدوده وصرفت طرقه كما في الحديث لأن كل واحد صار جاراً للآخر ، ولا شفعة للجار كما يأتي . وظاهره أن ذا الشياع من الأصول فيه الشفعة كان يقبل القسمة أو لا يقبلها ، لكن إذا كان يقبلها ففيه الشفعة باتفاق ، وكذا إن كان لا يقبلها في نفسه إلا بفساد وهو تابع لما يقبلها فمحل اتفاق أيضاً كما قال :
وَمِثْلُ بِئْرٍ وَكَفَحْلِ النَّخْلِ
تَدْخُلُ فِيهَا تَبعَاً لِلأَصْلِ ( ومثل بئر وكفحل ) أي ذكار ( النخل ) وأدخلت الكاف ساحة الدار وطريق الدار والبستان ونحو ذلك مما هو تابع لما يقبلها ( تدخل ) الشفعة ( فيها ) أي المذكورات ( تبعاً للأصل ) الذي يقبل القسمة ، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه من البئر والأرض التي تزرع عليها أو من النخيل والفحل أو من الساحة والدار أو من الطريق والبستان ، فإن للشريك الشفعة في التابع والمتبوع اتفاقاً .
وَالمَاءُ تَابِعٌ لَهَا فِيهِ احْكُمْ
وَوَحْدُهُ إنْ أَرْضُهُ لَمْ تُقْسَمِ ( والماء ) الجاري كالعين والساقية من النهر ونحوهما حال كون ذلك الماء ( تابع لها ) أي للأصول التي تسقى به وتزرع عليه ( فيه ) أي في ذلك الماء ( احكم ) بالشفعة أيضاً إذا بيع مع متبوعه لأن هذا التابع المذكور ، وإن كان لا يقبل القسمة في نفسه لكنه حكم له بحكم متبوعه حيث بيع معه اتفاقاً ( و ) كذا يحكم له بحكمه اتفاقاً أيضاً إذا بيع ( وحده أن أرضه ) ونحوها من المتبوعات ( لم تقسم ) ماء كان ذلك التابع الذي لم يقسم متبوعه أو بئراً أو فحلاً أو ساحة أو طريقاً ، فإن بيع التابع بعد قسم متبوعه ففيه خلاف . اللخمي : فإن باع أحدهما حظه من الساحةخاصة بعد قسم البيوت كان لشريكه أن يرد بيعه إذا بقي البائع يتصرف إلى البيوت كما كان لأن ذلك ضرر ، وإن كان قد أسقط تصرفه من الساحة وتصرف إلى بيوته من دار أخرى ، فإن كان بيعه من أهل الدار جاز ولبقية إشراكه الشفعة على أحد قولين في وجوب الشفعة فيما لم ينقسم ، وإن كان بيعه من غير أهل الدار فلهم الأخذ بالشفعة أو فسخ بيعه اه . وفي الموازية إن قسمت الشجرة فلا شفعة في محل النخل الباقي ولا في ذكار الشجر ، وإن كانت مشاعة ففي الفحل والذكار الشفعة وهو كالبئر والعين لا شفعة فيهما إلا أن تكون الأرض مشاعة اه . وفي الموازية إنما هو على أنه لا شفعة فيما لا ينقسم الذي صدر به ( خ ) حيث قال ما نصه : إن انقسم وفيها الإطلاق وعمل به وإلى كون الشفعة جارية فيما لا ينقسم ويدخل في ذلك جميع التوابع المذكورة أشار الناظم بقوله :
وَالفُرْنُ وَالحَمَّامُ وَالرَّحى القَضَا
بالأَخْذِ بالشُّفْعَةِ فِيهَا قَدْ مَضَى لأنه قول مالك وأشهب وابن الماجشون ومقابله لابن القاسم وأنه لا شفعة وهو المشهور كما صدر به ( خ ) . الباجي : الخلاف في ذلك جار على الاختلاف في الشفعة فيما لا ينقسم كالنخلة والشجرة إذ لا تقسم العين والبئر كما لا تقسم النخلة والشجرة ، وقال الرجراجي : من هذا المعنى اختلافهم في الحمام والبيت الصغير والدكان في السوق مما لا ينقسم إلا على ضرر مثل الرحى والشجرة الواحدة والنخلة الواحدة والماجل والبئر الواحدة إذا لم يكن معها أصل ولا أرض ، وغير ذلك من الرباع والأصول التي لا تنقسم على قولين . وجوب الشفعة وسقوطها وسبب الخلاف اختلافهم هل شرعت الشفعة لرفع ضرر القسمة أو ضرر الشركة ؟ فمن قال بالثاني قال بالشفعة ، ومن قال بالأول قال لا شفعة اه . باختصار . ونحوه في الكافي قائلاً : والأشهر عن مالك وجوب الشفعة في الحمام ، وفي كل ما لا يحمل القسمة اه . وإذا تقرر هذا علمت أنه لا خصوصية للفرن والحمام والرحى ، بل المدار على كونه لا يقبل القسمة فيدخل فيذلك جميع التوابع المذكورة كما مر ، وسواء كانت البئر واحدة أو متعددة كان لها فناء أم لا . قال في العمل المطلق :
والأخذ بالشفعة في الحمام
ونحوه نسب للإمام
قال في الشرح : وقوله ونحوه يعني من الأرحية والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك اه . وكأن الناظم يقول : التابع إذا بيع مع أصله ففيه الشفعة ، وكذا إذا بيع وحده ولم يقسم متبوعه فإن قسم ففيه خلاف ، والذي به القضاء فيه وفي الفرن والحمام والرحى وما في معناها وجوب الشفعة ، وهذا العمل هو الذي نبه عليه ( خ ) بقوله : وفيها الإطلاق وعمل به الخ . وفي المعيار عن العقباني ما نصه في مسألة ما لا يقبل القسمة اضطراب ، ومذهب المدونة ثبوت الشفعة والعمل به أكثر وإن كان من الموثقين من أشار إلى أن عمل أهل قرطبة على القول الآخر ، لكن الناس اليوم على ما ذكرت لك أولاً اه . وبهذا كله تعلم ما في حاشية الرهوني من عدم الشفعة في الشجرة الواحدة ونحوها فإنه خلاف المعمول به .
تنبيه : قول الناظم : والرحى يعني إذا باع حظه من الأرض والحجر المبني فيها ، وأما إذا بيع الحجر وحده فلا شفعة فيه انظر المتيطية والعمل المطلق .
وفي الثِّمَارِ شُفْعَةٌ إنْ تَنْقَسِمْ
وَذَا إنِ المَشْهُورُ فِي ذَاكَ الْتُزِمْ
( وفي الثمار ) تباع مع الأصول مؤبرة يوم البيع أم لا ، مزهية أم لا . ( شفعة ) فيها وفي أشجارها ( إن تنقسم ) هي أي أشجارها أي قبلت القسمة ( وذا ) أي اشتراط القسم في أشجارها ( أن المشهور في ذاك التزم ) وهو ما صدر به ( خ ) في قول : إن انقسم الخ . ويدل على أن الضمير في تنقسم راجع لأصول الثمرة قوله : إن المشهور الخ . وقوله بعد : ومثله مشترك الخ . ولأن الثمار كلها قابلة للقسمة فلا وجه لاشتراط الانقسام فيها ، ثم إذا اشتراها مع أصولها وهي لم تؤبر فقام الشفيع قبل أبارها أيضاً فيأخذها مع الأصول اتفاقاً ، وكذا يأخذها معها إن قام بعد أبارها أو زهوها على المشهور ، لكن بعد أن يغرم السقي والعلاج ، وإن زاد على قيمتها والقول له فيما أنفق وإنما يأخذها من جهة الاستحقاق لا من جهة الاستشفاع إذ الثمرة لم تقع لها حصة من الثمن لأنها لم تكن مأبورة يوم البيع ، ومقابله لأشهب أنها للمبتاع لأن الشفعة بيع جديد ، وقد قال عليه السلام : ( من باع نخلاً وفيها ثمرة قد أبرت فثمرها للبائع ) اه . فإذا لم يقم الشفيع في هذه الحالة حتى فاتت باليبس فلا يحط للثمرة عنه شيء من الثمن لأنها يوم البيع لا ثمن لها .ابن رشد : المراد باليبس حصول وقت جذاذها للتيبيس إن كانت مما ييبس أو للأكل أخضر إن كانت مما لا ييبس إذ لا تيبس الثمرة في أصولها ، وأما إن اشتراها مع أصولها وهي مأبورة أو مزهية فإنه يأخذها بالشفعة أيضاً بعد أن يغرم السقي والعلاج ما لم تفت باليبس فإن فاتت به فيحط عن الشفيع حصتها من الثمن .
وَمِثْلُهُ مشْتَرَكٌ مِع الثَّمَرْ
لِلْيُبْس إنْ بَدْوِ الصَّلاَحِ قَدْ ظَهَرْ
( ومثله ) أي مثل ما ذكر من بيع الشريك حصته من الأصل والثمرة بيع ( مشترك من الثمر ) دون أصلها سواء كانت الشركة بسبب حبس أو هبة أو شراء أو مساقاة ، فإن الشفعة ثابتة للشريك الذي لم يبع حصته منها وتنتهي شفعته ( لليبس ) فإن يبست فلا شفعة فيها . ابن عرفة ظاهر الروايات أن المراد بيبسها ارتفاع منفعتها ببقائها في أصلها لا حضور وقت قطافها اه . أبو الحسن : كل ما بيع من سائر الثمار فلا شفعة فيه بعد يبسه كما لا جائحة فيه بعد ذلك بحيث يجب وضع الجائحة تحت الشفعة وحيث لا توضع تسقط الشفعة . قال في كتاب الجوائح منها لو اشترى ذلك حين الزهو ثم أجيح بعد إمكان جذاذه ويبسه فلا جائحة فيه اه . والظاهر أنه لا مخالفة بين ما لابن عرفة وما مر عن ابن رشد ، ثم ما اقتصر عليه الناظم من أن شفعته تنتهي لليبس هو مذهب المدونة ، وهو الذي صدر به ( خ ) وكلام ابن سلمون وغيره يفيد أنه المعتمد ، ووقع فيها أيضاً أن له أخذها ما لم تجذ وهل خلاف ؟ تأويلان . وقوله : ( إن بدو الصلاح ) فيه ( قد ظهر ) شرط في جواز بيع الثمرة حتى ترتب عليه الشفعة وإلاَّ فهو بيع فاسد لا شفعة فيه إلا بعد فواته بقيمته ، ويدخل في الثمار المقاثي كما يأتي له التنصيص عليه والباذنجان والقرع والزيتون والقطن وورق التوت ، ونحو ذلك من كل أصل ما له تجنى ثمرته ويبقى أصله فيخرج الزرع إلا الفول الذي يباع أخضر ، فإن فيه الشفعة والجائحة كما لأبي الحسن . قلت : وعمل فاس على عدم الشفعة فيه قال ناظمه :
وورق التوت به الشفعة لا
في الفول الأخضر على ما فصلا
تنبيهان . الأول : قال البرزلي : كان ابن مغيث لا يرى الشفعة في القليب ، وكان أبو المطرف يفتي بوجوب الشفعة فيه ، وأفتى به بعض أصحابنا لأنه مما يثبت بالأرض بالثمرة اه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13