كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي

بأنه مبذر لماله لا يحسن التصرف فيه ويسقط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً كما مر أول الباب عن المدونة فيستحق بذلك الضرب على يده ويمنع من التصرف فيه في المستقبل وترد أفعاله الماضية على المعمول به من اعتبار الحال لا على مقابله فإنه لا يرد الماضي من أفعاله ( والترشيد ) أي الشهادة بأنه حافظ لماله حسن النظر فيه فيجب بها مضي أفعاله وإن لم يطلقه وليه ولا الحاكم على المعمول به أيضاً .
وَلَيْسَ يَكْفِي فيهما العَدْلانِ
وَفِي مَرَدِّ الرُّشْدِ يَكْفِيَانِ
( وليس يكفي فيهما العدلان ) بل الثلاثة والأربعة من العدول ومن اللفيف الستة عشر إلى العشرين كما لناظم العمل في شرحه عند قوله :
وقدره في الغالب اثنا عشرا
وزد لكالرشد وضد أكثرا
ونقل عن الكلالي أن الستة من اللفيف تقوم مقام العدل الواحد ، وظاهره أنه لا يكفي ذلك ولو عجز السفيه عن أكثر من شاهدين ، والذي في المتيطية قال أصبغ في الموازية : لا تجوز شهادة رجلين في ترشيد حتى يكون ذلك فاشياً قال في الواضحة : فإن لم يكن فاشياً لم يدفع إليه ماله غير أن شهادتهما في تجويز ما فعله من عتق وغيره ماضية ، ثم بعد كلام نقل عن أصبغ أن السفيه إن عجز عن أكثر من شاهدين لم يمنع من أخذ ماله اه . ونحوه في أقضية البرزلي قائلاً : إذا لم يمكنه الاستكثار يكفيه العدلان الخ . يعني وما يقوم مقامها من اللفيف وهو الاثنا عشر كما مر . قال ابن فرحون آخر الباب الأول من القسم الثاني ما نصه : الشهادة في الترشيد والتسفيه . قال ابن الماجشون وغيره من أصحاب مالك : يشترط فيهم الكثرة وأقلهم أربعة والمشهور أنه يجزىء في ذلك اثنان اه .
قلت : وهذا المشهور لا أقل أن يصار إليه عند العجز عن الاستكثار فيجب أن يكلف بالاستكثار ابتداء فإن عجز فيكفيه اثنان لأنهما النصاب الذي شرطه الحق سبحانه في سائر الحقوق فلا تغتر بما يفعله القضاة اليوم من عدم الاكتفاء بالاثنين مع العجز مع أن المشهور من القول كما ترى ، فقول الناظم : وليس يكفي فيهما العدلان يعني مع إمكان أكثر وإلا اكتفى بهما ، ثم إذا شهد بالرشد أربعة عدول فأكثر وشهد عدلان بالسفه فإن شهادة السفه أعمل كما قال : ( وفي مرد الرشد يكفيان ) وقد تقدم ذلك في تعارض الشهادات .تنبيه : لا خصوصية للترشيد والتسفيه بالاستكثار المذكور بل قال في الفائق : كذلك ينبغي الاستكثار في كل موضع تكون الشهادة فيه على الظن الغالب مما لا سبيل فيه إلى القطع كالتفليس وحصر الورثة والاستلحاق والاستحقاق وانتقال الملك للوارث والشهادة للمرأة بغيبة زوجها ، وعدم رجوعه إليها وتركها بغير نفقة والشهادة بالسماع إلى غير ذلك اه . وبالجملة ؛ فوثائق الاسترعاء كلها ينبغي فيها الاستكثار مع الإمكان كما مر والله أعلم .
وَجَازَ لِلْوَصِيِّ فيمَنْ حَجَرا
إعْطَاءُ بَعْضِ مَالِهِ مُخْتَبِرَا له به بشرطين أن يعلم منه خيراً وإن يكون المال يسيراً كالخمسين والستين ديناراً كما لأبي الحسن ، وظاهر النظم أنه يجوز للوصي ذلك ولو قبل بلوغ المحجور ، وقيل لا يجوز إلا بعد البلوغ ، اللهم إلا أن يجعل الوصي على الصبي من يرقبه أو كان متطلعاً عليه وهو الظاهر ، لأن الاختبار السابق على البلوغ لا يوجب خروجه من الحجر ولا يعتمد عليه الوصي في إطلاقة منه كما مر ، وكذا يجوز ذلك للمقدم بإذن القاضي فإن تلف المال المدفوع للاختبار فلا ضمان على الدافع إلا أن يرى أنه لا يصلح مثله للاختبار لشدة سفهه فيكون عليه الضمان ، ولذلك يكتب الشهود في رسم الدفع أن اليتيم ممن يصح اختباره في علمهم . قال ابن سلمون : ونحوه في المتيطية .
فرعان . الأول : فإن لحقه دين فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة : لا يلزمه الدين لا فيما دفع إليه ولا في غيره ، وعليه اقتصر ابن سلمون و ( خ ) حيث قال : وإن أودع صبياً إلى آخر ما يأتي ، وقال أشهب وابن الماجشون : يكون ذلك الدين في المال الذي اختبره به . وقال القابسي : ينبغي أن يباع منه بالنقد فمن بايعه بالنقد فهذا الذي لا يكون له في المال المختبر به شيء على قول ابن القاسم إلا أن يكون في يده أكثر من الذي دفع إليه وليه فيكون حق الذي داينه في الزائد إذا كان الزائد من معاملته إياه . ووجه قول أشهب : إن أذن وليه له في التجارة يقتضي تعلق دين من داينه عليه فيها لأنه على ذلك داينه . ووجه قول مالك : إن الإذن لم يخرج به من الولاية وإنما هو لاختبار حاله فهو كالمولى عليه بعامل قاله ابن يونس .
قلت : أفتى ابن الحاج وابن رشد أنه إذا تصرف بمرأى من وليه وطال تصرفه فإن ما لحقه من الدين يلزمه وتصرفه ماض . قال البرزلي : وبه العمل ، وقال في موضع آخر ، ظاهر المدونة : أنه متى رآه وليه يتصرف وسكت فإنه ماض ويحمل على أنه قصد ذلك وبه جرى العمل اه . وهذا إذا كان تصرفه سداداً ومصلحة وإلاَّ فلا ، وتقدم عنه أيضاً نحوه في التنبيه الأول عند قوله : والابن ما دام صغيراً الخ . وذلك كله يقتضي أن الحكم والعمل بقول أشهب ، ثم محل قول ابن القاسم إذا لميثبت أنه أدخل ذلك الدين في مصالحه كما في المتيطية يعني أنه صرفه فيما لا بد له منه وإلاَّ فيلحقه في المال الذي كان بيده ولو لم يكن دفع للاختبار كما مر في الوديعة وكما يأتي .
الثاني : قال في فصل تقسيم المدعى عليهم من التبصرة ما نصه : وإذا فرعنا على القول بلحوق الدين لما بيده فإن شهدت البينة على بيعه أو إسلافه معاينة أنفذ ذلك وعمل به ، وإن شهدوا على إقراره لم يلزمه شيء إلا أن يشهدوا أن إقراره كان بحضرة المبايعة وبفورها وإن كانوا لم يحضروها لكنهم علموا أن ذلك كان في مجلس التبايع ، فتجوز حينئذ ويفدى رب الحق فيما بيد السفيه من المال بعد الإعذار إلى وليه فيما ثبت عليه من ذلك اه .
تنبيه : ذكر الزرقاني عند قول ( خ ) في الوديعة : وإن أودع صبياً أو سفيهاً أو أقرضه أو باعه فأتلف لم يضمن وإن بإذن أهله الخ . ما نصه . ثم عدم الضمان مقيد بما إذ لم ينصبه في حانوته فإن نصبه فيه ضمن ما أتلفه مما اشتراه أي : لأنه لما نصبه للبيع والشراء وقبول القرض والوديعة فقد أطلق له التصرف فيضمن كذا علله اللقاني ، والمراد يضمن وليه الناصب له لا الصبي اه . فتأمل قوله : والمراد يضمن وليه الناصب له الخ . فإنه يجب أن يحمل على ما إذا نصبه وهو يرى عدم صلاحيته للاختبار كما مر ، أو لم ينصبه بقصد الاختبار وإلاَّ فلا ضمان على الولي ولا سيما على القول بجواز اختبار الصبي ، بل ولا على القول بعدم جوازه لأن التفريط إنما جاء من قبل من عامله لا من قبل من نصبه والله أعلم . وبالجملة ، فلم يظهر وجه قوله : والمراد يضمن وليه الخ . وإن لم ينصبه بقصد الاختبار لأن التفريط إنما جاء من قبل عامله كما يأتي عن المدونة وما تقدم من أنه يضمن حيث علم أن مثله لا يصلح للاختبار إنما هو في ضمان مال المحجور لا في ضمان مال من عامله . وقول ( خ ) : وإن بإذن أهله خاص بالوديعة ، وأما بيعه وشراؤه بإذن وليه فهو ماض إن كان سداداً بل ولو لم يكن إذن وإنما كان هناك سكوت فإنه ماض أيضاً كما مر .
تنبيه آخر : ابن حبيب : وإذا دفع الوصي مالاً ليتيمه ليختبره فأنكر ذلك اليتيم فالوصي مصدق فيما دفع إليه إذا علم أن اليتيم كان يتجر اه . ثم تقدم من الخلاف في كون الدين اللاحق يكون في المال المختبر به أو لا إنما هو فيما إذا كان الدافع هو الولي كما مر ، وأما لو دفع أجنبي إلى محجور عليه من يتيم أو عبد ما لا يتجر به فقال في المدونة : ما لحقهما من دين فيه يكون في ذلك المال خاصة قال بخلاف الوصي فلا يلزم ذمتهما ولا ذمة الدافع بشيء . أبو الحسن : لأن الذي عامله فرط إذ لم يبحث ويتثبت لنفسه اه . تقدم أن أشهب وابن الماجشون خالفاه في الوصي .
تنبيه آخر : قال في أنكحة المعيار عن ابن لب : أن للوصي أن يشتري للمحجور عليه ويبيع عليه ولا يفتقر في ذلك إلى إثبات سداد وهو محمول عليه ، نعم إن كان عليه مشرف فلا بد من موافقته ، فإن امتنع منه أثبت حينئذ السداد فيما فعل بعد مدة .
تنبيه آخر : إذا اشترى عبد أو يتيم سلعة فأراد السيد أو الوصي فسخ ذلك فلهما ذلك فإن أراد المشتري منهما أو البائع أن يحلف السيد أو الوصي ما أذنا لهما في ذلك فليس لهما ذلك اه . قاله الرعيني في كتاب الدعوى والإنكار .وَكلُّ ما أتْلَفَهُ المحْجُورُ
فَغُرْمُهُ مِن مَالِهِ المشْهُورُ
( وكل ما أتلفه المحجور ) صغيراً كان أو كبيراً سفيهاً من مال غيره تعدياً ، بأكل أو حرق أو كسر ونحو ذلك ولم يكن قد أمن عليه ( فغرمه من ماله ) الذي بيده هو ( المشهور ) ظاهره سواء صرفه فيما لا بد منه أو لا ، وهو كذلك أي : وظاهره أيضاً ولو لم يكن بيده مال وقت إتلافه فإنه يتبع به في ذمته إن حصل له يسر في يوم ما وهو كذلك قال في المدونة : ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه فذلك في مال الابن فإن لم يكن له مال ففي ذمته ، وقال الرجراجي في كتاب المديان إن جناية الصغير على الأموال لازمة لماله وذمته اه . وظاهر النظم أيضاً ضمانه لما أتلفه ولو كان غير مميز كابن شهر ، والذي لابن عرفة أن الصبي الذي سنه فوق شهر يصح أن يتصف بما يوجب غرمه وهو جنايته على المال مطلقاً وعلى الدماء فيما قصر عن ثلث الدية بخلاف ابن شهر ، لأن فعله كالعجماء حسبما تقرر في أول كتاب الغصب اه . بل ذكر في الشامل وضيح في باب الغصب أي : فيمن لم يميز لجنون أو صغر كابن شهر أو ستة أشهر أو سنة أو سنتين أو أكثر ثلاثة أقوال . قيل ، هدر ، وقيل المال هدر دون الدم فهو على العاقلة إن بلغ الثلث وإلاَّ ففي ماله ، وثالثها المال في ماله والدم على عاقلته إن بلغ الثلث ، واستظهره ابن عبد السلام وضيح لأن الضمان من خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه تكليف ولا تمييز ، وهذه الطريقة أرجح مما تقدم عن ابن عرفة فالمميز لا خلاف في ضمانه وغيره فيه طرق والراجح الضمان فتعبير الناظم بالمشهور صحيح بالنسبة لغير المميز ، وهذا كله إذا لم يؤمن عليه كما قررنا ، وأما إن كان قد أمن عليه ففيه تفصيل أشار له بقوله :
إلاَّ إذَا طَوْعاً إلَيْهِ صَرَفَهْ
وَفِي سِوَى مَصْلَحَةٍ قَدْ أتْلَفَهْ
( إلا إذا طوعاً إليه صرفه ) : بأن أمنه عليه فيصدق بما إذا أقرضه إياه أو باعه أو ودعه أو أعاره إياه ونحو ذلك . ( و ) الحال أنه ( في سوى مصلحة ) لنفسه ( قد أتلفه ) الصبي أو السفيه فإنه لا ضمان عليه لا في المال الذي بيده ولا في غيره لأن ربه بتأمينه إياه قد سلطه عليه ، ولذا لو باع الوديعة أو العبد الذي بعثه للإتيان به وأتلف ثمنه في غير مصلحة فإن رب العبد أو الوديعةيأخذهما من مشتريهما والثمن قد ضاع على المشتري ، ومفهوم قوله في سوى مصلحة أنه إذا أتلفه في مصلحته بأن أكله أو لبسه أو صرف ثمنه فيما لا بد له منه فإنه يضمن الأقل منه ومما صونه كما مر في الوديعة ، وهو محمول مع جهل الحال على أنه صرفه في غير مصلحة حتى يثبت أنه صرفه فيها على المعتمد كما مر .
وَفِعْلُهُ بِعَوَضِ لاَ يُرْتَضَى
وَإنْ أَجَازَهُ وَصِيُّهُ مَضَى
( وفعله ) أي المحجور صبياً كان أو سفيهاً مولى عليه أم لا ( بعوض ) كبيعه لشيء من ماله أو إجارته ونحو ذلك ( لا يرتضى ) أي لا يمضي بل هو موقوف على إجازة وليه أو الحاكم إن لم يكن له ولي ( و ) لذلك ( إن أجازه وصيه ) ونحوه من أب أو مقدم أو الحاكم إن كان مهملاً ( مضى ) حيث كان فعله من بيع ونحوه سداداً أو عبطة أو محتاجاً إليه في نفقته وإلاَّ لم يمض ، ولو أمضاه من ذكر لأنهم معزولون عن غير المصلحة ، وتقدم قريباً لأنه لا يمين على الولي إن ادعى المشتري من المحجور أن وليه أذن له في البيع ونحوه ، وتقدم قريباً أيضاً أنه إذا تصرف بمحضر وليه وسكوته فإنه ماض لأن سكوته رضا بفعله ، وهذا إذا كان فعله سداداً ومصلحة وإلاَّ فلا ، فإن لم يكن له ولي أو كان ولم يعلم بفعله حتى رشد كان النظر إليه في الإجازة والرد ولو كان سداداً ، وهذا إذا لم يغير الحال فيما باعه بزيادة أو نقصان فيما اشتراه كما لابن رشد ، وانظر ما تقدم في اختلاف المتبايعين عند قوله : وعكس هذا لابن سحنون نمى الخ . وتعتبر المصلحة في رده وإمضائه يوم النظر فيه لا يوم عقده على المعتمد ، وهذا في عقد المميز . وأما غيره فبيعه باطل ( خ ) : وشرط عاقده تمييز الخ .
وفي التَّبرُّعاتِ قد جَرَى العَمَلْ
بِمَنْعِهِ وَلاَ يُجازُ إنْ فَعَلْ
( وفي التبرعات ) الصادرة من المحجور كعتق وهبة وصدقة أو حبس ( قد جرى العمل بمنعه ) منها ( ولا يجاز ) فعله لها ( إن ) هو ( فعل ) بل يتعين على الولي ردها ، فإن أجازها الولي أو سكت عنها حتى رشد وملك أمره كان النظر في الرد والإجازة ولا يخرج من ذلك إلا عتق أم ولده فإنه يمضي وكذا وصيته فإنها ماضية كما يأتي .وَظَاهِرُ السَّفَهِ جازَ الْحُلْمَا
مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ فِيهِ خُلْفٌ عُلِمَا
( وظاهر السفه ) ثابتة بالبينة من نعته وصفته ( جاز الحلما ) حال كونه ( من غير حجر ) عليه بل بقي مهملاً لم يول عليه ( فيه ) أي في جواز فعله وعدم جوازه ( خلف علما ) أي قولان . أحدهما .
جَوَازُ فَعْلِهِ بأَمْرٍ لازِمِ
لِمَالِكٍ والمَنْعُ لابنِ القَاسِمِ
( جواز فعله ) ولو بغير عوض كعتق ( بأمر لازم ) وهو ( لمالك ) وكبراء أصحابه لأنه يراعي في رد أفعاله وجود الولاية وهي مفقودة الآن . ( و ) ثانيهما ( المنع ) من جوازه ولو بعوض ووافق السداد ( لابن القاسم ) فيكون لمن يولي عليه بعد النظر في الرد والإجازة وإن لم يول عليه فالنظر له إن رشد وبهذا العمل كما مرّ ، لأن ابن القاسم يعتبر الحال وبه تعلم أن خلاف ابن القاسم ليس خاصاً بالمهمل بل هو حتى في المولى عليه فإنه يجوز فعله إذا ظهر رشده ولو لم يطلقه وليه كما مر عند قوله : والبالغ الموصوف بالإهمال الخ . فالبيتان تكرار معه .
وبالّذي على صَغيرٍ مُهْمَلِ
يُقْضَى إذا صحَّ بمُوجبٍ جَلي
( وبالذي ) ثبت بالبينة العادلة ( على صغير مهمل ) لا وصي له ولا مقدم ( يقضي ) أي يقضي القاضي بالذي ثبت على المهمل من الحقوق ديون أو غيرها من استحقاق أصول أو غيرها بعد يميني القضاء والاستحقاق ( إذا صح ) الذي ثبت عليه ( بموجب ) بكسر الجيم ( جلي ) بيِّن لا مطعن فيه ، ولا مفهوم لصغير بل غيره من سفيه مهمل أحرى .
وَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ كَالْغائِبِ
إلى بُلُوغِهِ بِحُكْمٍ وَاجِبِ
( وهو ) أي المهمل باق ( على حجته ) إذا وجد براءة من الحق أو جرح ببينته فإنه ينفع ( كالغائب ) المتقدم في فصله ( إلى بلوغه ) رشيداً حال كون بقائه على الحجة ( بحكم واجب ) فقوله : إلى بلوغه يتعلق بالاستقرار في الخبر الذي هو باق على حجته إلى بلوغه ورشده ، كما أن الغائب باق عليها إلى قدومه وإلى بمعنى ( عند ) ولا مفهوم لقوله مهمل بل ذو الولي كذلك في بقائه على حجته وإليه أشار بقوله في اللامية : بتعجيز ذي الإيصاء قولان حصلا الخ . وأصحهما كما في أقضية المعيار أنه باق على حجته لأن وليه يعرف حججه التي تبطل ما أثبته القائم .وَيَدْفَعُ الْوَصِيُّ كلَّ مَا يَجِبْ
مِنْ مَالِ مَنْ في حِجْرِهِ مَهْمَا طُلِبْ
( ويدفع الوصي كل ما يجب ) ويثبت على محجوره بعد عجزه عن الطعن فيما يثبت عليه ( من مال من في حجره ) لا من مال نفسه ( مهما طلب ) بذلك الدفع وحكم عليه الحاكم به ويبقى المحجور على حجته على أصح القولين كما مرّ .
وَنَظَرُ الوصِيِّ في المَشْهُورِ
مُنْسَحِبٌ عَلَى بَنِي المحْجُورِ
( ونظر الوصي في المشهور ) الذي به القضاء والعمل كما في ابن سلمون عن ابن عتاب وابن القطان ( منسحب على بني المحجور ) وبناته تبعاً له ، وظاهره كانوا موجودين وقت الإيصاء أو حدثوا بعده ، وخالف ابن زرب في ذلك وقال : لا نظر للوصي على بني محجوره إلا بتقديم من القاضي قال المكناسي في آخر مجالسه : وبه العمل والقضاء ، ونحوه في وثائق الغرناطي والخرشي والزرقاني عند قوله : والولي الأب الخ . فتبين أن كلاً من القولين عمل به ، ولكن الذي عول عليه ناظم عمل فاس هو ما للمكناسي ومن معه فقال :
ولا انسحاب الموصي على
أولاد محجور بموت حصلا
أي : بموت الوصي لا بموت المحجور ، وإن كان أبو العباس المقري قال : يظهر لي أن محل القولين في انسحاب نظر الوصي على أولاد محجوره إنما هو إذا كان المحجور حياً ، أما بعد موته فينبغي أن يتفق أن لا يبقى له نظر عليهم لأن النظر عليهم إنما كان بحسب التبع لأبيهم ، والقاعدة أنه إن عدم المتبوع عدم التابع اه . بنقل ( م ) لكن بحث في شرح العمل مع المقري المذكور وقال : إنه مخالف للمنصوص فانظره فوجب حمل ما لناظم فاس على موت الموصي كما مر عن المكناسي وغيره لا على ما قال المقري إذا لم يذكر أحد أن العمل عليه مع أنه مخالف للمنصوص ، وأما مقدم القاضي فالذي به العمل فيه كما في ابن سهل أنه لا نظر له على أولاد محجوره إلا بتقديم من القاضي ، وأما الأب فالمنصوص عن مالك أنه ينطر لأولاد ابنه السفيه كما ينظر له ويوصي عليهم كما يوصي على ابنه السفيه كما في ( ح ) عند قوله : وإنما يوصى على المحجور عليه أب الخ . نقل ذلك كله شارح العمل ، وعليه ففي مفهوم الوصي في النظم تفصيل ، وظاهر كلام الشامل أن العمل على أنه لا نظر للولي على أولاد محجوره وصياً كان أو أباً أو مقدماً لأنه قال : وفي نظر ولي السفيه على ابنه أو لا نظر له إلا بتقديم مستأنف وبه العمل قولان اه .
وَيَعْقِدُ النِّكَاحَ لِلإِمَاءِ
وَالنَّصُّ في عَقْدِ البناتِ جاءِ
( ويعقد ) الوصي ( النكاح للإماء ) اللاتي يملكهن محجوره بلا خلاف ( والنص في عقد )النكاح على ( البنات ) أي بنات محجوره ( جاء ) اسم فاعل أي مروي عن مالك فيعقد على الأبكار البالغات والثيبات اللاتي لم يملكن أمر أنفسهن ورآه وصياً عليهن بكونه وصياً على أبيهن وقيل لا يكون وصياً عليهن إلا بتقديم وهو ما تقدم عن ابن زرب ، وأما بناته اللاتي ملكن أمر أنفسهن فلا يعقد عليهن وكذا لا يعقد على أخوات محجوره وسائر قراباته فإن فعل مضى على ما ذهب إليه ابن الهندي قاله في المفيد . وفي وثائق ابن فتحون : أن للوصي أن يعقد على كل من كان يعقد عليه المحجور لو كان رشيداً فيدخل إماؤه وأخواته وسائر قراباته لأنه منزل في ذلك منزلة محجورة ، وهذا كله في الأبكار والثيبات البالغات .
وَعْقَدُهُ قَبْلَ البُلُوغِ جَارِ
بِجَعْلِهِ في البكْرِ كالإجْبَارِ
( و ) أما ( عقده ) على بنات محجوره ( قبل البلوغ ) فهو ( جار بجعله ) أي العقد ( في البكر ) من بنات صلبه أي : فإذا جعل له أن يعقد على بنات صلبه من غير جبر كان له أن يعقد على بنات ذكور محاجيره من غير جبر أيضاً ( كالإجبار ) أي كما أنه إذا جعل له إجبار على بنات صلبه كان له أن يجبر بنات ذكور محاجيره وإن جعله وصياً وأطلق ولم يقيد بجبر ولا عدمه فعلى القول بأنه يجبر بنات صلبه فإنه يجبر بنات محجوره كذلك ، وعلى القول بعدم جبر بنات صلبه فلا يجبر بنات محجوره ، وهذا كله هو الملائم لقوله : منسحب على بني المحجور . وقد قال ( خ ) : وجبره وصي أمره أب به أو عين الزوج وإلا فخلاف ، وسبك كلام الناظم وعقده على بنات محجوره قبل بلوغهن جار أي جائز نافذ بسبب جعله له في أبكار بناته كما أن إجبارهن كذلك جار على جعله له في أبكار بنات صلبه ، وهذا ظاهر إذا كان للموصي ذكور وإناث وجعل له الجبر وعدمه في الإناث ، فإن لم يكن له إلا الذكور وأوصى عليهم فيجري في جبر بناتهم الخلاف المذكور في بنات الصلب إن أوصى عليهن وأطلق والله أعلم .
وَالنَّقْلُ لِلإيصَاءِ غَيْرُ مَعْمَلٍ
إلاَّ لِعُذْرٍ أَوْ حُلُولِ أَجَلِ
( والنقل للإيصاء غير معمل ) يعني أن الحاكم إذا أراد أن ينقل الإيصاء عن الوصي إلى غيره ، أو أراد الوصي أن يتخلى عن الإيصاء بعد قبوله إياه وموت الموصي سواء قبل باللفظ أو بالتصرف له فإنه لا يعمل على ذلك ( إلا لعذر ) كاختلال عقل الوصي أو طرو فسقه أو سفره سفراً بعيداً ( أو حلول أجل ) موته فإن للحاكم أن ينقل الإيصاء حينئذ مع العذر المذكور ،وللوصي أن يوصي به إلى غيره عند وفاته أو سفره سفر انقطاع أو بعيداً ، وهذا إذا أراد أن يعزل نفسه بعد موت الموصي وقبوله الإيصاء كما قررنا ، وأما في حياة الموصي فله أن يعزل نفسه ( خ ) : وله عزل نفسه في حياة الموصي ولو قبل لا بعدهما أي بعد القبول وموت الموصي أي قبل ثم مات الموصي أو مات ثم قبل ، وهذا هو المشهور خلافاً لما في الطرر عن ابن زرب من أنه إذا قبل في حياة الموصي فلا يقبل منه عزل نفسه إلا لعذر ، وإن قبل بعد موته فللقاضي أن يعفيه لغير عذر الخ فإنه مقابل لا يعول عليه ، والمراد بالعذر في كلام الناظم العذر الشديد الذي تنتفي معه قدرة الموصي على القيام بمصالح المحجور بالكلية لا العذر الذي يشق معه القيام قاله في الطرر ونقله شارح العمل عند قوله :
ولا انحلال لوصي التزم
إلا لعذر بين لما التزم
وَلاَ يَرُدُّ العَقْدَ بَعْدَ أَنْ قَبِلْ
إنْ مَاتَ مُوصٍ وَلِعُذْرٍ يَنْعَزِلْ هذا البيت غير ضروري الذكر لأن ما قبله يغني عنه كما قررنا ، وقوله : إن قبل أي باللفظ أو بما يدل عليه كالتصرف بالبيع وقبض الدين ونحوهما ، وسواء قبل في حياة الموصي واستمر عليه إلى أن مات الموصي أو قبل موته ، وأما إن قبل في حياة الموصي ولم يستمر عليه بل رجع عنه فإن له ذلك وإن لم يقله الموصي كما مر عن ( خ ) خلافاً لما في المفيد من أنه إذا قاله الموصي جازت إقالته وإلا لزمه النظر اه .
وَلاَ رُجُوعَ إنْ أَبَى تَقَدُّمَه
مِنْ بَعْدِ أَنْ مَاتَ الَّذِي قَدْ قَدَّمَه ( ولا رجوع ) للوصي إلى قبول الإيصاء ( إن ) كان قد ( أبى تقدمه ) أي قبوله إياه ( من بعد أن مات الذي قد قدمه ) ( خ ) : وإن أبى القبول بعد الموت فلا قبول له بعده أي : لأن إبايته صيرته أجنبياً فقبوله بعد إبايته يحتاج لاستئناف إيصاء وهو مفقود بفقد محله ، ولا مفهوم للظرف بل كذلك إن أبى القبول قبل موت الموصي ، ثم أراد أن يقبل بعد موته فيما يظهر بدليل التعليل المتقدم ، وهذا على أن من بعد يتعلق بأبى ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : ولا رجوع أي لا رجوع له لقبول الإيصاء بعد موت الموصي إن كانت سبقت منه إباية في حياة الموصي أو بعد موته .وَكلُّ مَنْ قُدِّمَ مِنْ قاضٍ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ بَدَلاَ أي : فلا يوكل غيره على أمور محجوره ولا يوصى عليه عند حضور وفاته بخلاف الوصي ، فله أن يوكل ويوصي ، وما ذكره الناظم هو المشهور كما مر في الوكالة وتقدم هناك أن الذي به العمل جواز توكيله ولا زال العمل على ذلك إلى الآن .
تنبيه : كل من الوصي والمقدم إذا وكلا غيرهما ليس لهما أن يجعلا الإقرار للوكيل كما أنهما ليس لهما الإقرار على المحجور ، وقد وقعت نازلة في هذا الأوان وهي أن رجلاً ادعى على وصي أو مقدم أن أبا محاجيره كان تولى قبض متروك والده بوكالة منه وزمم له زمامات تركة أبيه أحدها باسكندرية وآخر بالجزائر وآخر بفاس وحاز الزمامات الثلاث وطلب الآن منه إحضار الزمامات المدعي بها على أبي محاجيره وإعمال الحساب فيها ، أو الجواب بما يظهر له حضر وصي المحاجير أو مقدمهم ، وأجاب : بأن أبا محاجيره كان وكيلاً للمدعي المذكور وقبض ما وجب من متروك والده بالزمامات الثلاث المذكورة ، وإن أراد الحساب يعطيه إياه والنظر للشرع المطاع عرفاً قدره الخ . وتقيد عقبه بعدل واحد ما نصه بعدما طلب المدعي أعلاه من المجيب إحضار زمام تركة الجزائر ، وزعم المجيب المذكور أن الزمام المذكور تلف له وطولب بإحضاره حضر أحمد بن عبد الله وأشهد أنه ضمن عنه ما يجب عليه شرعاً في إحضار الزمام المذكور ضماناً لازماً برضا المضمون له عرفاً قدره الخ . وقد كان القاضي سدده الله سجن الوصي المذكور حتى يحضر الزمام المذكور وطال سجنه ، وسئلت عن ذلك فأجبت بأن نائب المحاجير من وصي ومقدم ووكيل لا يؤمر واحد منهم بجواب المدعي على موروثهم إذ من شرط صحة الدعوى التي يكلف المطلوب بجوابها أن تكون بحيث لو أقر بها المطلوب لزمه إقراره احترازاً من الدعوى على المحجور أو موروثه ، فإن المحجور ونائبه لا يكلف واحد منهما بجوابها إذ إقرارهما بها لا يفيد كما في التبصرة و ( ح ) وشراح اللامية ، وقد قال ( خ ) : يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره لأهل ونائب المحجور كالمحجور فكما لا يؤاخذ المحجور بإقراره كذلك لا يؤاخذ نائبه فتكليف نائب المحجور بالجواب خطأ ممن فعله ، وكذا أخذ الضامن منه ، ولذا قال ابن عرضون وغيره : ولتحذر أبداً أن تبيح للوكيل المذكور الإقرار إذ ذاك لا يلزم المحجور وإن وكل الأب أو الوصي عن نفسه وعن محجوره . قلت : وكل فلان فلاناً عن نفسه وعن محجوره لينوب عنه في المحاكمة والمخاصمة والإقرار والإنكار في حق نفسه وعلى الإنكار دون الإقرار في حق محجوره اه . وقال في المتيطية : إن قام الطالب بدين على ميت فإن القاضي يأمره أن يثبت موت المطلوب وعدة ورثته من أجل ما يحتاج من الإعذار إليهم إن كانوا مالكين أمر أنفسهم ، وإن كانوا صغاراً وجعل عليهم وصي كلفه القاضي إثبات الإيصاء وقبول الوصي بالشهادة على عينه والإعذار فيها إليه بما ثبت عنده من ذلك وإثبات صغار الورثة ، فإذا أثبت الطالب جميع ذلك كانت الخصومة بينه وبين الوصي أو المالك أمر نفسه أن الوصي لا يكلف جواباً لأن إقراره لا يعمل ، وإنما يقال للمدعيأُثبت ما تدعيه على المحجور فإن أثبته مكن الوصي من الطعن فيه فإن عجز عن الطعن حكم على الميت بالدين بعد يمين القضاء اه . وقال في نظم عمل أهل فاس في باب الوصايا منه :
وما من الدين به الوصي قد
أقر في تركة الميت فسد
فهذه النصوص كلها صريحة في أن نائب المحجور لا يؤمر بالجواب ، وأن جوابه بأن موروثهم قد قبض جميع ما وجب له غير لازم للمحاجير ولا إشكال ، وكذا لا يلزمه هو لأنه لم يقر على نفسه بشيء ، وإنما أقر عن الغير وقد قال ابن عرفة في حد الإقرار : هو خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط الخ . فخرج بقوله على قائله كما للرصاع الشهادة إذ الخبر إن أوجب حكمه على غيره هو الشهادة والوصي أو المقدم أو الوكيل إذا شهد على منوبه بشيء وكان عدلاً واستمر عليها ولم يرجع عنها جازت شهادته ، وإلاَّ فلا . ونحوه في المدونة ونقله ( ح ) وغيره عند قوله في الشهادات : ولا من شهد له بكثير ولغيره بوصية الخ . هذا كله لو كان المدعي به معروف القدر والجنس وأما حيث كانت الدعوى في الزمامات من غير بيان قدر ما فيها ولا جنسه ولا صفته فلا يكلف المطلوب بجوابها ، ولو كان غير محجور فضلاً عن كونه محجوراً أو نائباً عنه لكونها من الدعوى بالمجهول ففي الجواهر لو قال : لي عليك شيء لم تسمع دعواه لأنها مجهولة ، والحكم بالمجهول متعذر إذ ليس بعضه أولى من بعض اه . فقوله في المقال قبض له متروك والده مجهول القدر والجنس كقوله : قبض له أشياء من متروك والده ولا يدري ما هي تلك الأشياء هل هي من ذوات القيم أو ذوات الأمثال ولا يدري عددها ولا وزنها . وقد قال ابن سهل : فإن كانت الدعوى في شيء في الذمة بين قدره أو في شيء من ذوات الأمثال بين الكيل والوزن والعدد أو فيما تضبطه الصفة فلا بد من بيان القيمة اه . وهو معنى قول اللامية : لكن إن كان مجملاً كلام يبين الخ . وهو معنى قول ( خ ) فيدعي بمعلوم محقق الخ . وإذا كان البالغ الرشيد لا يجب عليه أن يجيب عن الدعوى بالمجهول لأنه لو أقر وقال : نعم له علي ما يدعيه وأنكر وقامت البينة بذلك لم يحكم عليه بذلك الإقرار ولا بتلك البينة إذ الكل مجهول والحكم به متعذر كما مر ، فكيف يقضى به على المحجور أو نائبه ويلزم بضامن فيه ، وأما قوله بالعدل الواحد أن الزمام قد تلف له فقد ساقه هذا العدل مساق الحكاية فلا يفيد ، نعم استفسر عنه وقال : إنه أقر عندي بذلك أو أشهدني به فإنه حينئذ يسأل الوصي أو المقدم عن ذلك ، فإن قال : إنه تلف بعد وجوده في تركة أبي محاجيره وقبل دخوله ليده أو بعد دخوله ، ولكن بغير سببه ولا تفريطه فهو مصدق إذ الأصل عدم العداء وهو حينئذ مقر عن الغير إذ لا يضمن ما فيه حينئذ لعدم تسببه في تلفه ويجري حكمه على ما مر من كونه مقراً أو شاهداً ، وإن قال : تلف بسببه فهو ضامن لما فيه لقول ( خ ) في الزكاة عاطفاً على ما فيه الضمان أو بإمساك وثيقة أو تقطيعها ولكن يصدق بقدر ما فيه بيمينه حيث لم تقم عليه بينة بذلك لقوله أيضاً في الغصب والقول له أي للغاصب في قدره وتلفه وبالله التوفيق .
كذاكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْعَزِلا
إلاَّ لِعُذْرٍ بَيِّنٍ إنْ قَبِلاَ( كذاك لا يجوز ) للمقدم من قول القاضي ( أن ينعزلا ) أي يعزل نفسه أو يعزله القاضي عن التقديم ( إلا لعذر بين ) من طرو فسق أو اختلال عقل كما مر ( إن ) كان ( قبلا ) فإن كان لم يقبل فلا إشكال في أن له أن لا يقبل .
وَصَالِحٌ لَيْسَ يُجِيدُ النَّظَرَا
في المَالِ إنْ خِيفَ الضَّيَاعُ حُجرا
( و ) شخص ( صالح ) في دينه لا يشرب ولا يفسق ( ليس يجيد ) أي لا يحسن ( النظر في المال ) الذي بيده ( إن خيف الضياع ) على ماله لكونه لا يحسن إمساكه بل يبذره لكونه لا يعده شيئاً أو لكونه يخدع في تصرفاته مما لا يتغابن الناس بمثله ( حجرا ) عليه أي ولى الحاكم عليه من يتصرف له ويحفظ ماله وأحرى أن لا يطلق من الحجر إذا كان مولى عليه ، وهذا البيت مستغنى عنه بقوله أول الباب الرشد حفظ المال الخ . إذ مفهومه أنه إذا لم يكن حافظاً لماله لم يكن رشيداً ووجب تحجيره وإن كان صالحاً في دينه .
وَشَارِبُ الخَمْرِ إذا ما ثَمَّرَا
لمَا يَلي مِنْ مَالِهِ لَنْ يُحْجَرَا
( و ) شخص ( شارب الخمر ) فاسق في دينه ( إذا ما ) زائدة ( ثمرا ) أي أحسن النظر والتنمية ( لما يلي من ماله لن يحجرا ) عليه لأن التحجير إنما هو لضبط المال لا لفساد الأموال لأن فساد أموال الرجل لا تعدوه إلى غيره ، وإذا بذر ماله وأتلفه صار عالة على المسلمين ورجعت نفقته إلى بيت مالهم فوصل ضرره بتبذيره إلى جميع المسلمين ، فلهذا وجب تحجيره قاله في المتيطية . وهذا البيت مستغنى عنه أيضاً بمنطوق قوله : الرشد حفظ المال مع حسن النظر فيه الخ . إذ لا يشترط صلاح الدين على المشهور المعمول به خلافاً للمدنيين من اشتراط صلاح الدين أيضاً كما مر .
وَلِلْوَصِيِّ جائزٌ أَنْ يَتْجَرَا
لكنه يَضْمَنُ مَهْمَا غَرَّرَا
( وللوصي جائز أن يتجرا ) بأموال اليتامى على أن الربح لهم والخسارة عليهم ( خ ) : وله دفع ماله قراضاً أو بضاعة ولا يعمل هو به الخ . وإنما لم يجز أن يعمل هو به مخافة أن يحابي نفسه فإن عمل به بنفسه بقراض مثله جاز ولم يكن عليه فيه ضمان إن تلف وكان الربح بينهما على ما شرط ، وإن خسر لم يضمن وإن عمل به يجزء أكثر من قراض مثله فإنه يرد إلى جزء قراض مثله فإن خسر أو تلف فاختلف هل يضمن أم لا ؟ والمعتمد عدم الضمان قاله ابن رشد ، وظاهره أن له أن يدفعه قراضاً وبضاعة ولو براً وبحراً وهو كذلك مع الأمن كما يفيده قوله : ( لكنه يضمنمهما غررا ) في تجره هو به في وقت فتنة وبلد خوف لا تنالها الأحكام أو يدفعه لغير أمين يتجر به ، أو لمن يسافر به في البحر في وقت هوله ، أو يسلك به في طريق مخوف ونحو ذلك وأشعر قوله : وللوصي جائز أن يتجرا الخ . أنه لا يجب عليه ذلك وهو كذلك إذ لا يجب عليه تنمية مال محجوره على المشهور ، وقول عائشة رضي الله عنها : اتجروا بأموال اليتامى لئلا تأكلها الزكاة الخ . محمول على الندب كما لابن رشد ، ولا مفهوم لقوله ؛ أن يتجرا بل كذلك له أن يشتري لهم الرقيق والغنم للغلة ويبيع عليهم ولا يحتاج في ذلك إلى إثبات سداد كما تقدم عند قوله : وجاز للوصي فيمن حجرا الخ . لكن هذا كله على أن أموال اليتامى تبقى بيد الأوصياء على وجه الوديعة ولا تدخل في ذمتهم ، وأما على ما به العمل من إدخالها في ذمتهم كما تقدم عند قوله : ويجعل القاضي بكل حال الخ . فإن الوصي ونحوه إذا اتجر بها فإن الربح له والخسارة عليه بل لو بقيت بيده على وجه الإيداع ولم تدخل في ذمته واتجر بها لنفسه لا لهم لكان الربح له والخسارة عليه كما مرَّ عند قوله في الوديعة : واتجر بالمودع من أعمله الخ .
تنبيهات . الأول : لو قال الموصي : قبضت القراضات أو الديون ممن هي عليه فذلك براءة للغرماء ، وكذا الوكيل المفوض إليه بخلاف الوكيل المخصوص فإن ذلك لا يكون براءة إلا ببينة على الدافع ، ولو قال الوصي أو المفوض إليه : قبضت وتلف مني صدق أيضاً وكان براءة لهم فإن ادعى الغرماء أنهم دفعوا للوصي الدين أو القراض وأنكر ذلك حلف وإن نكل ضمن وإن قضى الوصي غرماء الميت بغير بينة فأنكر وأضمن قاله في المدونة . وإذا دفع ديناً على الميت بلا يمين القضاء فإنه ضامن قاله ( م ) في شرح اللامية عند قوله : يمين قضاء ذي وتلزم مطلقاً الخ . وتقدم في باب الصلح أن للوصي أن يصالح عن محجوره ولو في يمين القضاء إذا رأى غريمه الخصم عليها ونقله ( ح ) في الصلح والبرزلي في الوكالة .
الثاني : ذكر أبو الحسن عن ابن زرب أنه سئل عن الوصي يقول : دفعت عن اليتيم العشر والمغارم والجعائل لأهل الشرطة ونائب العمل فقال : إن كان ذلك معروفاً بالبلد وادعى ما يشبه أن يؤخذ به عنه صدق اه . وتأمله مع ما في وصايا المعيار من أن الوصي إذا زعم أنه كان يخرج زكاة يتيمه في حال صغره وخالفه اليتيم في ذلك فإن الوصي لا يصدق حتى يثبت ذلك اه . ومثله في نوازل السجستاني وفي ( ح ) عند قول ( خ ) : وإخراج فطرته وزكاته الخ . أن الوصي إذا لم يشهد على إخراج زكاته يصدق إن كان مأموناً قال : وانظر إذا لم يكن مأموناً هل يلزمه غرم المال أو يحلف لم أر فيه نصاً اه .
قلت : والظاهر أن ما في وصايا المعيار إنما هو إذا لم يكن مأموناً وهو الموافق لما تقدم عن اللخمي وابن عطية عند قوله : ويكتفي الوصي بالإشهاد الخ . من قلة أمانة أوصياء الزمان ، وتقدم أيضاً أن ذلك هو الموجب لإدخال مال المحاجير في ذمتهم ، وعليه فإذا أخذ نائب الشرطة الوصي بمال المحجور فهل يغرمه الوصي للمحجور بناء على أن ما في الذمة يتعين أو لا يغرمه بناء على أنه لا يتعين ؟ وعلى الأول اقتصر ناظم العمل حيث قال :
وما من الدين لها رب دفع
لغاصب غريمه لم يتبع
وفي وصايا المعيار أن المحجور إذا جنى جناية فأخذ وصيه في جنايته فإن ثبت أن الوصيأخذ بسبب محجوره وأنه امتنع حتى أكره بالتهديد فإنه يكون ما التزمه من المال متعلقاً بمال المحجور ، وأما القريب إذا أخذ بجناية قريبه فقد بينا حكمه في أسئلة محيي الدين .
الثالث : على القاضي أن يفرض للوصي أجرة على نظره بقدر شغله بالنظر في مال اليتيم من تصرف في غلات أصوله وشراء نفقته إذا طلب الوصي أو المقدم ذلك فإن تورعا عن ذلك فهو خير لهما وللوصي والكافل والحاضن والمقدم أن يؤاجروا محجورهم صبياً كان أو سفيهاً ويجوز دفع الأجرة له ما لم يكن لها بال ويكون الدفع بمعاينة الشهود قاله في المتيطية . وانظر ابن سلمون وأوائل الإجارة من شرح الشامل .
الرابع : قال في المدونة : ويصدق الوصي في الإنفاق على اليتيم إن كان في حجره ما لم يأت بسرف وإن ولي النفقة عليهم غيرهم ممن يحضنهم من أم أو غيرها لم يصدق في دفع النفقة إلى من يليهم إلا ببينة اه . فقولها في الإنفاق أي في أصله وقدره والحاضن والمقدم والكافل مثل الوصي في ذلك ، وظاهر قولها لم يصدق في دفع النفقة الخ . أنه لا يصدق ولو علم فقر الحاضن من أم ونحوها ، وللخمي في ذلك تفصيل ( خ ) والقول له في قدر النفقة الخ .
الخامس : قال مالك في رجل أوصى لزوجته فتزوجت فخيف على المال فإنها تكشف عما قبلها اه . وفي الطرر : إذا علم أنها صالحة الحال وافرة المال ظاهرة السداد حسنة النظر أقرت بعد أن يحصى المال عندها بالإشهاد عليه فإن جهل حالها شورك في النظر معها غيرها ويكون المال عنده ولا يترك عندها ولا تعزل عن الإيصاء إلا أن يثبت ما يوجبه ، ولابن رشد إن جهل حالها جعل القاضي عليها مشرفاً اه . وهو الذي اقتصر عليه الزرقاني عند قوله : وطرو الفسق يعزله ، وفي ابن سلمون إذا قام قريب المحجور يريد كشف وصيه عما بيده لم يكن له ذلك إلا أن يكون الوصي لا مال له أو يكون عليه ديون فإن القاضي ينظر في ذلك حينئذ . أنظر بقيته فيه وانظر المعيار في الوصايا .
وَعِنْدَمَا يأْنَسُ رشْدَ منْ حَجَرْ
يُطْلِقُهُ ومالَه لَه يَذَرْ
( وعندما يأنس ) يبصر الولي أباً كان أو غيره والظرف مضمن معنى الشرط معمول لجوابه وما مصدرية ( رشد ) مفعول به ( من ) مضاف إليه واقع على المحجور ( حجر ) صلة من والتقدير وعند إيناس الولي رشد محجوره ( يطلقه ) أي يجب عليه أن يطلقه من ثقاف الحجر ( وماله ) مفعول بقوله . ( له يذر ) أي يترك له ماله ويدفعه إليه لقوله تعالى : فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهمأموالهم } إلى قوله : فأشهدوا عليهم } ( النساء : 6 ) أي لئلا تغرموا لأن القول للمحجور في عدم الدفع على المشهور .
وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَصَدَّى
أَنْ يَضْمَنَ المَالَ لأنْ تَعَدَّى
( وحيث ) علم الولي رشده ووجب عليه إطلاقه ودفع ماله إليه و ( لم يفعل فقد تصدى ) أي تهيأ ( أن يضمن المال ) إذا تلف سواء تلف ببينة أو بغيرها كان مما يغاب عليه أم لا . ( لأن تعدى ) أي لأنه قد تعدى بعدم إطلاقه ودفع ماله إليه فهو كغاصب حينئذ والغاصب يضمن مطلقاً ، وظاهره لا فرق بين أن يعلم الوصي وحده برشده ولم تقم بينة به أو لم يعلمه وقامت به بينة لم يجد مطعناً فيها فإنه يضمن في ذلك كله ، وهذا ظاهر على ما درج عليه الناظم في قوله : ويكتفي الوصي بالإشهاد الخ . وأما على ما تقدم هناك عن اللخمي وابن عطية من عدم قبول قوله في ترشيده فإنه لا ضمان عليه فيما إذا علم هو فقط ، وإنما يضمن مع بينة الرشد .
فصل في الوصيةوهي كما لابن عرفة عقد يوجب حقاً في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعده فقوله : يوجب حقاً الخ . أخرج به ما يوجب حقاً في رأس ماله مما عقده على نفسه من دين ونحوه ولو بإقرار في صحته أو مرضه لمن لا يتهم عليه أو هبة ونحوها في صحته لا في مرضه ، فإنها في ثلثه . وقوله : يلزم بموته أخرج به المرأة إذا وهبت أو التزمت ثلث مالها ولها زوج ، أو من التزم ثلث ماله لشخص فإنه يلزم بعقده لا بموته ، وكذا يخرج به التدبير أيضاً لأنه يلزم بعقده ، وقوله : أو نيابة عنه بعده عطف على حقاً ، والتقدير أو يوجب نيابة عن عاقده بعد موته فيدخل الإيصاء بالنظر الذي تضمنه الكلام على الأوصياء في الباب قبله .
( وما يجري مجراها ) : من عدم محاسبة الأولاد بما أنفقة الأب عليهم إذا أوصى بذلك أو كان مالهم عيناً ، . وهي أي الوصية بالمال مندوبة من خصائص هذه الأمة تكثيراً للزاد وأهبة للمعاد ، وفي صحيح مسلم : ( ما من حق امرىء مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلاووصيته مكتوبة عند رأسه ) اه . أي : ليس من حقه أن يبيت ليلتين دون أن يكتب وصيته وقد تجب كدين لا يتوصل له إلا بها وتحرم بمحرم كنياحه وتكره بمكروه كوصية بإطعام كافر من أضحيته المذبوحة في حياته ، أو يوصي بجز صوفها قبل الذبح ثم تذبح وتباح بمباح كبيع كذا وتنفيذ الواجب والمندوب واجب وغيرهما حكمه حكم أصله .
في ثُلُثِ المالِ فأَدْنَى في المرَضْ
أَوْ صِحَّةٍ وَصِيَّةٌ لا تُعْتَرَضْ ( في ثلث المال فأدنى ) كالربع والخمس ، وقد استحب بعض العلماء أن لا تبلغ الثلث لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والثلث كثير ) . ( في المرض ) الذي مات منه ( أو صحة وصية ) مبتدأ ( لا تعترض ) خبره وفي ثلث الخ . يتعلق به ، والتقدير : والوصية لا تعترض في ثلث المال فأدنى سواء كانت في المرض أو في الصحة بل هي صحيحة .
حتى مِن السَّفِيهِ والصَّغِيرِ
إنْ عَقَلَ القُرْبَةَ في الأُمُورِ ( حتى من السفيه والصغير ) بشرط وهو ( إن عقل القربة في الأمور ) فإن لم يعقل القربة فلا تصح وصيته ، وأما إصابته وجه الوصية بأن لا يكون فيها تناقض ولا تخليط فإنه شرط في صحة كل وصية كانت من صغير أو غيره كما يشترط أن يكون الموصى له غير وارث وإلاَّ بطلب كما يأتي في قوله : وامتنعت لوارث الخ . وظاهره أن الوصية بالثلث فدون نافذة ، ولو قصد الموصي بها الضرر بالورثة وهو كذلك على الصحيح ، وبه الحكم كما في ابن ناجي على المدونة .
وَالْعَبْدُ لا تَصِحُّ مِنْهُ مُطْلقا
وَهْي مِنَ الكُفَّارِ لَيْسَتْ تُتَّقى ( والعبد لا تصح ) الوصية ( منه مطلقا ) كان خالص الرق أو ذا شائبة ، وكذا لا تصح من المجنون إلا أن يوصي حال إفاقته التي يعقل فيها ما يوصي به فإن شهدوا بأنه أوصى حالة إفاقته وشهد آخرون أنه كان ذاهب العقل فشهادة الإفاقة أولى .
( وهي من الكافر ليست تتقى ) بل تمضي وإن لمسلم إلا بكخمر ( خ ) صح إيصاء حر مميز وإن سفيهاً وصغيراً وكافراً إلا بكخمر لمسلم . ولها أركان : أولها : الموصي وقد تقدم ، وثانيها : الموصى له وإليه أشار بقوله :
وَهْيَ لِمَنْ تَمَلُّكٌ مِنْهُ يَصِحْ
حتى لِحَمْلِ وَاضِحٍ أَوْ لم يَضِحْ ( وهي ) تصح ( لمن تملك منه يصح ) حقيقة كآدمي أو حكماً كقنطرة ومسجد بل تصح أيضاً( حتى لحمل واضح ) أي ظاهر ( أو لم يضح ) أي لم يظهر كقوله : أوصيت لمن سيوجد من ولد فلان أو فلانة أو لمن يولدهما ( خ ) صح إيصاء لمن يصح تملكه كمن سيكون إن استهل .
لكنَّهَا تَبْطُل إنْ لم يَسْتَهلْ
وَللعبيدِ دونَ إذْنٍ تَسْتَقِلْ ( لكنها تبطل إن لم يستهل ) صارخاً ولا تحققت حياته بكثرة رضاع ونحوها لأن الميت لا يملك ( وللعبيد ) ولو ( دون إذن ) من السيد في قبولها ( تستقل ) وتصح وتكون للعبد حتى ينتزعها منه السيد ( خ ) ولم يحتج رق لإذن في قبول كإيصائه بعتقه الخ . أي بل يقبلها وإن بغير إذن سيده وتنفذ وصيته بالعتق وإن لم يقبل ، وإذا بطلت حيث لم يستهل فترجع ميراثاً ثم إذا أوصى لمن سيوجد من ولد فلان فإنه يختص بها ما يتكون من حمل زوجته أو أمته ولا يدخل الحمل الموجود إلا أن يعلم أنه قصد دخوله بقرينة خارجة عن اللفظ فإن قال : أوصيت لمن يولد له فالظاهر شمول اللفظ للحمل الموجود بوقت الإيصاء ، وأما لو قال : أوصيت لولده والحال أنه لا ولد له حين الوصية ولا حمل فلا يخلو فإما أن يعلم الموصى بذلك أم لا . فإن لم يعلم فالوصية باطلة كما في الزرقاني ، وإن تنازعا في العلم وعدمه فالقول للورثة كما في ( ح ) وإن علم فهي صحيحة وتكون لكل من يولد له ، وإذا صحت في هذه الصور وولد له ولد واستهل فيكون جميع الوصية بيده على معنى الانتفاع على الراجح وكل من ولد بعد ذلك يدخل فيها والذكر والأنثى في ذلك سواء إلا أن ينص على التفضيل ، ومن مات منهم لم يمكن ورثته من الدخول في حقه حتى ينقرضوا جيمعاً ثم يكون لورثتهم أجمعين ، وإذا أخذ المال من وجد من الأولاد فإنه يشتري به أصل لتبقى عينه وينتفع بغلته ، وقيل يتجر له بذلك المال ثم كذلك كلما ولد ولد يتجر له مع الأول ، ومن بلغ التجر تجر لنفسه فإن خسر فيه أو ضاع منه شيء في حين التجر للصغير لم يضمن لأن الصغير لا تعمر ذمته بذلك وقد رضي الموصى بالوصية له على ما توجبه الأحكام في الضمان وإن بلغ وتجر لنفسه فإن خسر فيه أو ضاع منه شيء ضمن الخسارة والتلف قاله الرجراجي واختلف إذا قال : أوصيت لولد فلان والحال أن له ولداً موجوداً وحملاً ثابتاً هل يختص بها الموجود من الحمل والولد أو تعم الموجود ومن لم يوجد وهو الراجح كما في تكميل المنهج قال :
والخلف في ولده ولم يزد
هل يدخل الوجود قط أو يشتمل
جميعهم وذا ارتضى إذ ينتقل
خلافاً لما في الزرقاني ، وعليه فيجري على حكم الأقسام قبله في التجر وغيره ، وأما إنقال : أوصيت لأولاد فلان وهم عشرة مثلاً ولا ترجى لفلان ولادة بعد ، فإن من مات منهم قبل القسم فورثته يقومون مقامه سواء سماهم أو عينهم بإشارة كهؤلاء النفر أو لم يسمهم ولم يعينهم بإشارة ولا غيرها اتفاقاً في الأول وعلى المشهور في الثاني ، وكذا إذا كان له أولاد وترجى له ولادة فإنه إذا سماهم أو عينهم بإشارة فإن الوصية مقصورة عليهم ، ومن مات منهم فوارثه قائم مقامه ولم يدخل معهم من يوجد بعد وإن لم يسمهم ولا عينهم بإشارة فتقدم أن الراجح دخول من يوجد بعد .
تنبيهات . الأول : مسألة التنزيل وهي أن ينزل الإنسان أولاد ولده الميت منزلة أبيهم جارية مجرى الوصية وتقسم بين المنزلين للذكر مثل حظ الأثنين ، كما أفتى به أبو عبد الله المنصوري والشيخ ( ت ) وغيرهما .
الثاني : اختلف في الغلة الحاصلة قبل الوضع والاستهلال هل هي لورثة الموصي لأن الموصى له لا يكمل إلا بعد استهلاله وتحقق الحياة فيه أو هي للموصى له أو لورثته إلى أن يستهل فتوقف إلى وضعه والمعتمد الأول قال ناظم العمل :
وغلة قبل وجود الموصى
له لوارث أنل تخصيصا
الثالث : إذا تعلقت الوصية بمن يولد له مستقبلاً ومات قبل أن يولد له أو أيس من ولادته رجعت الوصية ميراثاً ، وكذا إذا مات الموصى له قبل موت الموصي وهو معنى قوله : على ما يوجد في بعض النسخ .
وَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ لِمَنْ يُوصَى لَهُ
إلاَّ إذا الْمُوصِي يَمُوتُ قَبْلَهُ
وظاهره أنه لا شيء له إذا مات قبل موت الموصي ولو كان قبلها وهو كذلك ثم أشار إلى الركن الثالث وهو الموصى به فقال :
وَهْيَ بِمَا يُمْلَكُ حتى الثَّمَرْ
وَالدَّيْنِ وَالحَمْلِ وَإنْ لَم يَظْهَرْ
( وهي ) تصح ( بما يملك ) أي بكل ما يصح ملكه وإن مجهولاً ( حتى الثمر ) الموجود في رؤوس الشجر أو قبل وجودها كغلة هذا العام ( والدين ) ولو على غائب أو معدم ( والحمل ) الظاهر في جاريته أو ناقته بل ( وإن لم يظهر ) كقوله : ما تلده أمتي أو ناقتي في هذه السنة أو إلى عشر سنين فهو لفلان وتصح أيضاً بآبق وبعير شارد ولا تصح بما لا يملك كخمر وخنزير .
تنبيهان . الأول : قبول الوصية شرط في لزومها ( خ ) : وقبول المعين شرط بعد الموت فالملك له بالموت وقوم بغلة حصلت بعده أي بعد الموت وقبل القبول ويكون له ما حمله الثلث من ذلك ، فإذا أوصى له بحائط يساوي ألفاً وهي ثلث الميت وحصل فيه بعد الموت وقبل القبولغلة تساوي مائتين فإنه يكون له خمسة أسداس الحائط وثلث سدسه كما في طفي .
قلت : وهذا في الوصية ، وأما ما بتله المريض من حبس أو صدقة أو نحوهما ، فهو وإن كان يجري على حكم الوصية في كونه يصح في الثلث أو فيما حمل منه لكن الغلة إذا حدثت بعد التبتيل فإنها تكون للمعطى له حيث حمل الثلث قاله أبو الحسن في كتاب الحبس . قال : والفرق أن له الرجوع في الوصية ولا رجوع له في التبتيل قال : فلا يخلو إما أن يلفظ بلفظ البتل أو بلفظ الوصية أو بلفظ يصلح لهما ، فإن لفظ بالبتل كان بتلاً ، وبالوصية كان وصية ، وبالمحتمل ينظر للقرائن فإن لم تكن قرينة فإن كان في الصحة حمل على البتل لأنه الغالب في الصحيح ، وإن كان في المرض حمل على الوصية لأنه الغالب فيه اه .
الثاني : إذا مات الموصى له في حياة الموصي بطلت الوصية كما مر ، وإن مات بعده من قبل العلم بالوصية أو علم ولم يقبل كان ورثته مكانه قاله اللخمي ونحوه في المدونة . ابن رحال : وهذا هو الراجح وأن الوارث يتنزل منزلة الموصى له علم بذلك أم لا . قبل ذلك الموصى له قبل موته أم لا . فإذا قبل بعضهم ورد البعض الآخر فحظ من رد ولم يقبل يرجع ميراثاً ، وإذا رد الموصى له الوصية في حياة الموصي فله قبولها بعد موته كما لابن الحاج عن مالك قائلاً : لأنه ردها في وقت لم تجب له لأنها إنما تجب بالموت .
وَامْتَنَعَتْ لِوَارِثٍ إلاّ مَتَى
إنْفَاذُ باقي الْوَارِثِين ثَبتا
( وامتنعت لوارث ) لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) ( إلا متى إنفاذ باقي الوارثين ثبتا ) أي إلا أن يجيزها بقية الورثة فهو ابتداء عطية منهم على المشهور فتفتقر للحوز بمعاينة البينة كسائر العطايا ، وقد تقدم في الحبس أن الحوز أقوى في الدلالة على القبول فلا وجه لاعتراض الشيخ الرهوني على مصطفى بأن القبول العاري عن الحوز والقبض لا أثر له ، فإن لم تحز حتى حصل المانع من استحداث دين ونحوه بطلت ولو كان قد قبلها لأن الدين الحادث للمجيز من موانع الحيازة . ( خ ) : وبطلت إن تأخر لدين محيط ، وقوله في التوضيح : إذا أجاز الوارث الوصية ولا دين عليه ولم يقبل ذلك الموصى له حتى استدان الوارث أو مات الخ . صوابه ولم يقبض من القبض الذي هو الحوز كما في نقل ( ح ) والمتيطي وكما في مصطفى وشارح العمل ، واعتراض الرهوني على مصطفى ساقط لا وجه له كما مر .
تنبيهان . الأول : ظاهر النظم أن إجازة الوارث لازمة له ولو أجاز في مرض الموصي الذي مات منه وهو كذلك لكن بشروط أشار لها ( خ ) بقوله : ولزوم إجازة الوارث بمرض لم يصح بعده إلا لتبين عذر ككونه في نفقته الخ .الثاني : قال الباجي : تجوز الوصية لابن وارثه أو لأحد من قرابته ممن يظن أنه يردها للوارث . روى ذلك يحيى عن ابن القاسم وقاله مالك في المجموعة ، ووجهه أنه وصية لغير وارث وما يظن به من صرف ذلك للوارث لا يمنع الوصية لأن مقتضى ملكه لمن أوصى له به أنه يعطيه لمن شاء ، فإن قصد ذلك الموصي فهو آثم قال : ولا يمين على الموصى له أن الوصية على وجه التوليج لأنها يمين تهمة فيما لا يمكن الاحتراز منه ولا المنع ثم قال : وإذا صرفه الموصى له إلى الوارث جاز ذلك وكان للوارث أخذه أو تركه اه . وما ذكره من عدم اليمين نحوه في ابن سلمون عن أصبغ ، لكن قال ابن رشد : هو جار على الخلاف في يمين التهمة يعني : والمشهور توجيهها . قال : وإن قطع الوارث بأن ذلك كان توليجاً ووجه الدعوى بذلك فاليمين واجبة باتفاق اه . ونقل ( م ) عن أوائل وصايا المعيار إنه إذا اتهم أن يكون اتفق مع الموصى له أن يردها على الوارث وأن ذلك تحيل على الوصية للوارث فإن الموصى له يحلف للتهمة المذكورة ، فإن لم يحلف لم يعط الوصية اه . فهو جار على توجه يمين التهمة . وفي المنتخب وصيته لأم ولده ومعها ولد جائزة ولا ترد الوصايا بالمظنة إذ الأمة غير وارثة ، وفيه أن الزوجة لا توصي لأم ولد زوجها إلا باليسير قال : وأما لأقارب زوجها كأبويه وصديقه الملاطف وكل ما يخشى أن يكون أرادت أن يرد ذلك على زوجها فهو ماض ، ولو كان الإيصاء بالمهر الذي على زوجها اه . وهذا كله إذا لم يثبت أنه أراد صرفها لبعض الورثة . قال في المعيار عن ابن لب : إن قامت شهادة في العهد بالثلث أنه كان من المعاهد على وجه الصرف على بعض الورثة دون بعض فسد العهد وصار المعهود به ميراثاً ، والشهادة تكون بالسماع أي الفاشي أو باشتراط من العاهد أو باعتراف المعهود له بذلك وإن لم تقم بينة بذلك حلف المعهود له أن العهد لم يكن من العاهد على وجه الصرف وكان له ملكاً اه .
وَلِلَّذِي أَوْصَى ارْتجَاعُ ما يَرَى
مِنْ غَيْرِ مَا بَتَّلَ أَوْ مَا دَبَّرَا
( وللذي أوصى ) في صحة أو مرض بعتق أو غيره ( ارتجاع ما يرى ) من وصيته كلها أو بعضها أو تغيرها لأنها لا تلزم إلا بالموت كما مر ( من غير ما بتل ) في مرضه من صدقة وعتق وأحرى في صحته ( أو ما دبرا ) فيهما أيضاً فإنه لا رجوع فيما بتل أو دبر . قال في المعونة : الوصية في الصحة والمرض سواء لأنها تنفذ بعد الموت وليست بلازمة وله الرجوع فيها متى شاء إلا التدبير فلا رجوع فيه لأنه إيجاب في الحياة ، وإن كان له حكم الوصية من بعض الوجوه وهو خروجه من الثلث ، وكذلك العتق المبتل في المرض اه . والصدقة ونحوها في المرض مثل العتق فيه فإنها تخرج من الثلث إن مات منه ولا رجوع له فيها . انظر ما تقدم في التدبير ، وظاهر قوله : ارتجاع ما يرى الخ . سواء كان الارتجاع في الصحة أو في المرض كان بالقول كرجعت عنها أوأبطلتها أو لا تنفذوها أو بالفعل كبيعها أو عتقها ( خ ) : وبطلت برجوع فيها وإن بمرض بقول أو بيع أو عتق وكتابة وإيلاد الخ .
تنبيه : ظاهر النظم أن له أن يرجع وإن التزم فيها عدم الرجوع وهو أحد قولين ، وذكر ابن ناجي في الرهون وكتاب التخيير والتمليك أن به العمل ، وصرح بعضهم بمشهوريته والقول الآخر إنه لا رجوع له . قال ابن عرفة : إنه الأصح ، وقال ( ح ) في التزاماته : أنه الراجح ، وذكر القوري عن العبدوسي أن به العمل والقضاء وهو الأقوى من جهة النقل إذ به أفتى أكثر الشيوخ ، وقد علمت أن عمل فاس لا يتبع عمل تونس ، وإنما يتبع عمل الأندلس كما مر ، وعليه فلا وجه لما ذكر ناظم عمل فاس من جريان العمل بالصلح فيها حيث قال :
والصلح في الوصية التي التزم
أنه لا يرجع فيها قد حكم
وإن قال إنه قد حكم به سيدي علي بن هارون وسيدي عبد الواحد الونشريسي لأن العمل لا يثبت بحكم قاض أو قاضيين ، وأيضاً فإن ذاك العمل لا يوافق قولاً من أقوال المسألة فلا ينبغي أن يلتفت إليه لأن العمل لا بد أن يستند فيه إلى قول ، وإنما ينبغي التعويل على قول الأكثر المعمول به في هذا القطر من لزوم عدم الرجوع ومحل الخلاف ما لم يقل في التزامه كلما رجعت عنها فرجوعي تأكيد لها . أو مهما وجد رسم برجوعي عنها فهو كذب فإن ذلك لازم له خارج عن محل الخلاف كما في أجوبة الفاسي .
وفي الذي عَلِمَ موصٍ تَجْعَلُ
وَدَيْنِ مَنْ عنِ اليَمِينِ يَنْكُلُ
( و ) الوصية ( في الذي علم موص ) به قبل موته ( تجعل ) ولو أفاده بعد الوصية ولو عمرى كان مرجعها إليه بعد انقضاء مدتها أو بعيراً شارداً أو آبقا رجعا بعد موته أو هبة أو صدقة لم تقع فيهما حيازة حتى مات على ما رجحه ابن منظور ولأن ذلك كله معلوم له لا فيما جهله قبل موته ولم يعلم به فإنها لا تكون فيه ( خ ) : وهي ومدبر إن كان بمرض فيما علم الخ . أي لا فيما أقر به في مرضه لمن يتهم عليه ، وهو يظن أن إقراره عامل في ذلك أو أقرَّ به في صحته وكذبه المقر له ولم يعلم بتكذيبه حتى مات ولا فيما ورثه ولم يعلم به ولا فيما أوصى به لوارث ولم تجزه الورثة ، وإنما تجعل فيما علمه قبل موته كما مر ونحوه ( و ) في ( دين من عن اليمين ينكل ) قال ابن سلمون : ولا تدخل الوصايا إلا فيما علمه الموصي دون ما لم يعلمه من إرث ونحوه ، ثم قال : فإن أقر بدين لمن يجب إقراره له فنكل عن يمين القضاء فإن الوصية تدخل في ذلك اه .وكذا إذا نكل عن يمين النصاب حيث لم يكن له إلا شاهد واحد فيجمع ذلك الدين لبقية ماله وتخرج الوصية من المجموع . قال ابن زرب : لو قال الورثة بعض المال لم يعلم به الموصي ، وقال الموصى له : بل علمه فعلى الموصى له إثبات أنه علمه وإلاَّ فليس له إلا ما أقر الوارث بعلمه .
وَصُحِّحَتْ لِوَلَدِ الأوْلاَدِ
والأَبُ لِلميراثِ بالمِرْصَادِ
( وصححت ) الوصية ( لولد الأولاد و ) الحال أن ( الأب ) وهو أب الموصى له ( للميراث بالمرصاد ) خبر عن قوله الأب وللميراث يتعلق به أي يرصد ميراث أبيه الموصى ويرتقيه . قال تعالى : إن ربك لبالمرصاد } ( الفجر : 14 ) أي يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها يقال : رصدته أي ارتقبته ، وإنما صحت لولد الولد لأنه غير وارث ، ولذا صار وارثاً كما لو مات أبوه قبل موت الموصي لم تصح ( خ ) : والوارث يصير غير وارث وعكسه المعتبر مآله الخ . وظاهر النظم كان الولد الموصي لولده موجوداً وقت الإيصاء أم لا . وهو كذلك كما تقدم عند قوله :
حتى لحمل واضح أو لم يضح
لكنها تبطل إن لم يستهل . . . الخ
وهذا البيت ربما يستغنى عنه بذلك وبمفهوم قوله : وامتنعت لوارث ولعله إنما ذكره دفعاً لما يتوهم من أن الوصية لولد الولد وصية للولد ، وأنها تبطل بالتهمة . وقد تقدم أنها لا تبطل ، وتقدم أيضاً أن ما حصل من الغلة قبل وجود الأحفاد هو للورثة على المعمول به ، وأنها إذا لم يكن فيها لفظ حبس فهي محمولة على التمليك وتقسم رقبتها على الأحفاد بالسوية بعد انقطاع ولادة الأب بيأس منها أو موته ، وتقدم أيضاً أن من وجد من الأحفاد يختص بالغلة وتقسم بينه وبين من وجد معه بالسوية إلا أن ينص الموصي على التفضيل وينتقض القسم كلما وجد ولد أو مات إلى أن ينتهوا بموت الأب ، أو اليأس من ولادته فيقسم الأصل على الموجودين من الأحفاد ولا يحيى الميت بالذكر ، ومن مات منهم فيكون نصيبه لباقي الأحفاد فإن ماتوا كلهم قسم الأصل على ورثة من تقدم في الموت ، ومن تأخر فيحيى الميت بالذكر ويكون نصيبه لورثته فإن قال : ثلث مالي لأولاد أولادي فلان وفلان وفلان فمات أحدهم بعد موت الموصي وقبل أن يولد به رجع حظه لأولاد أخويه ولا يرجع لورثة الموصي ، وإذا عقبوا وولد لكل منهم فإنه يقسم الثلث على عدد من حضر من الأحفاد يوم القسم دون من مات قبله ، وهذا إذا أجمل فيالوصية ، وأما إذا عين لأولاد كل قدراً من ذلك كما لو قال : ثلث مالي لأولاد زيد وأولاد عمرو وأولاد بكر لأولاد كل واحد ثلثه ، فإن حظ من مات منهم قبل أن يولد له يكون للورثة وتبطل الوصية فيه ولا تدخل الوصايا فيما بطل من ذلك وتقسم الغلة أثلاثاً لأولاد كل فريق ثلثاً قلوا أو كثروا ، ومحل بطلان حظ من مات إذا لم يقل من مات عن غير عقب يرجع نصيبه لأولاد أخويه فإن قال ذلك فلا تبطل ويرجع لأولادهما ، وهل يقسم هذا الراجع على عدد الرؤوس أو لا يجري فيه ما تقدم في الحبس عند قوله : وكل ما يشترط المحبس الخ .
فرع : قال في المتيطية في باب الصدقة : من تصدق على ابنه الصغير وعلى من يولد للمتصدق جاز ، فإن مات الابن المتصدق عليه في حياة أبيه وقفت الصدقة بيد الأب حتى ينظر أيولد له شيء أم لا . ولا يجوز له بيعها فإن مات الأب عن زوجة في حياة الابن فلا يجوز للابن أن يحدث فيها شيئاً إلا بعد أربع سنين أو خمس على الاختلاف في أقصى أو بالحمل ، وذلك إذا لم تتزوج المرأة بعده فإن لم يترك الأب زوجة انطلقت يد الابن في الصدقة ، وقد قيل أنه إذا تصدق على ابنه وعلى من يولد للأب من مجهول من يأتي فذلك حبس لا سيما إذا أدخل فيه أعقابهم اه . وتقدم في الصدقة أن القول بأنها حبس هو قول مالك ، وانظر التزامات ( ح ) في الكلام على الشروط في الهبة .
فرع : لو قال الموصي الذي كتب وصيته بخطه : فليشهد على خطي من وقف عليه فإنها تنفذ ولو لم يشهد عليها قاله اللخمي . ونقله في المجالس ومثله لعياض قائلاً : وأما لو كتبها بخطه وقال : إذا مت فلينفذ ما كتب بخطي فإنها تنفذ إذا عرف أنه خطه اه . فقوله : وقال الخ . يعني كتب لذلك ليوافق كلام اللخمي لا أنه قال ذلك للناس لأنه في معنى الإشهاد عليها ، ولا خلاف حينئذ في تنفيذها وهو معنى قول ( خ ) : وإن ثبت أن عنده خطه أو قرأها ولم يشهد أو يقل أنفذوها لم تنفذ الخ . فمفهومه أنه لو كتب بخطه أنفذوها فإنها تنفذ ونحوه قول صاحب العمل :وكاتب بخطه لم يشهد
عليه أو يقل تنفذ أردد
وَإنْ أبٌ مِنْ مالِهِ قَدْ أنْفَقَا
عَلَى ابْنِهِ في حَجْرِهِ تَرَفَّقَا
( وإن أب من ماله قد أنفقا على ابنه ) الصغير وله مال وقت الإنفاق حال كون الابن ( في حجره ترفقا ) أي على وجه الترفق فهو راجع لقوله في حجره لا للإنفاق لأنه لو أنفق عليه ترفقاً لم يكن له عليه رجوع . .
فَجَائِزٌ رُجُوعُهُ في الحَالِ
عَلَيْهِ مِنْ حِينِ اكْتِسَابِ المَالِ
( فجائز رجوعه في الحال ) أي حال قيامه ( عليه من حين اكتساب المال ) بإرث أو هبة أو وصية ، ومفهومه أن ما أنفقه عليه قبل كسبه المال لا رجوع له به عليه وهو كذلك لأن نفقته حينئذ واجبة على أبيه قال في المدونة : يلزم الأب نفقة أولاده الذكور حتى يحتلموا والإناث حتى يدخل بهن أزواجهن إلا أن يكون للصبي كسب أي عمل يد يستغني به أو مال ينفق عليه منه اه . ومحل رجوع الأب على ولده إذا كانت عادة الآباء الرجوع بالنفقة على أولادهم كما تقدم عن السيوري في النفقة ، وظاهره أنه لا يمين على الأب أنه أنفق ليرجع وهو كذلك كما قال ( خ ) في الفلس كاليمين المتوجهة على أحد أبويه فإنهما لا يحلفان وأما إذا مات الابن وطلب الأب النفقة فأراد ورثة الابن إحلافه فسيأتي آخر الباب ، هذا حكم رجوع الأب بنفسه فإن مات الأب وأراد الورثة أن يحاسبوا الابن بما أنفقه عليه أبوه من وقت اكتسابه للمال فقال ابن رشد : لا يخلو مال الولد من أربعة أوجه . أحدها : أن يكون عيناً قائماً في يد الأب . والثاني : أن يكون عرضاً قائماً في يده أيضاً . والثالث : أن يكون الأب قد استهلك مال ابنه العين وحصل في ذمته . والرابع : أن يكون مال الابن لم يصل إلى يده . فأشار الناظم إلى الوجه الأول بقوله :
وَإنْ يَمُتْ وَالمالُ عَيْنٌ باقِي
وَطَالَبَ الوَارِثُ بالإنْفَاقِ
( وإن يمت ) الأب ( و ) الحال أن ( المال ) أي مال الابن ( عين باقي ) في تركة الأب معروف بالكتابة عليه أو الشهادة عليه أنه ماله ( وطالب الوارث ) الرجوع على الابن ( بالانفاق ) مصدر بمعنى المفعول أي بالمال المنفق عليه .
فمَا لَهم إليه مِن سَبِيلِ
وَهُوَ لِلابْن دُونَ ما تَعْلِيل
( فما لهم ) أي الورثة ( إليه ) أي الرجوع ( من سبيل وهو ) أي المال المنفق ( للابن دون ما )زائدة ( تعليل ) لأن ترك الأب الإنفاق منه عليه مع تيسره دليل على تبرعه .
إلاَّ إذَا أوْصَى عَلَى الحِسَاب
وَقَيَّدَ الإنْفَاقَ بالْكِتابِ
( إلا إذا أوصى ) الأب ( على الحساب و ) كان قد ( قيد الانفاق بالكتاب ) بأن كتبها بخطه وأحرى إن أشهد عليه عدلين أنه يحاسب ، فحينئذ يمكن الوارث من الرجوع في المال العين ، ومفهومه أنه إذا أوصى ولم يكتبها أو كتبها ولم يوص لم يكن للوارث رجوع على الولد وهو كذلك كما صرح به ابن رشد ، ووجهه في الأول أنها وصية لوارث ، وفي الثاني أنه قد يكتبها متروياً كما يأتي عند قوله : وترك الكتب فلن يطالبوا . ثم أشار إلى الوجه الثاني وهو ما إذا كان مال الابن عرضاً فقال :
وإنْ يَكُنْ عَرْضاً وَكانَ عِنْدَهُ
فَلَهُمْ الرَّجُوع فيهِ بَعْدَهُ
( وإن يكن عرضاً ) كأثاث ولباس وفراش وأصول ورثها من أمه أو تصدق بها عليه ( وكان ) ذلك ( عنده ) أي عند الابن موجوداً بعينه في تركته ( فلهما الرجوع ) على الابن كتبها عليه الأب أم لا ( فيه ) أي في ذلك المال بعينه ( بعده ) أي بعد الأب فإن زاد الإنفاق على ذلك المال فلا تباعة على الابن بالزائد .
إلاّ إذَا ما قَال لا تُحَاسِبُوا
وَتَرَكَ الكَتْبَ فَلَنْ يُطَالِبُوا
( إلا إذا ما ) زائدة ( قال لا تحاسبوا و ) كان قد ( ترك الكتب فلن يطالبوا ) الابن بشيء ، ومفهومه أنه إذا لم يقل لا تحاسبوا فإنه يحاسب ولو كتبها لأنه قد يكتبها متروياً غير عازم عليها ، ومفهوم وترك الكتب أنه إذا كتب فإنه يحاسب وإن أوصى أن لا يحاسب لأنه لما كتب تقوى جانب عدم التبرع فكانت وصيته بعدم المحاسبة وصية لوارث .
وكالْعُرُوضِ الحَيوانُ مُطْلَقَا
فيه الرُّجوعُ بالذي قدْ أَنْفَقَا
( وكالعروض الحيوان مطلقا ) عاقلاً كان كالرقيق أو غير عاقل كالدواب والأنعام ( فيهالرجوع ) للوارث على الابن ( بالذي قد أنفقا ) عليه أبوه إلا أن يقول : لا تحاسبوه ويترك الكتب كما مر في العرض . ثم أشار للوجه الثالث ، وهو ما إذا كان الأب قد استهلك مال الابن العين فقال :
وَإنْ يَكُنْ عَيْناً وَرَسْماً أصْدَرَا
بأنَّهُ ذمَّتَهُ قدْ عَمَّرَا
( وإن يكن عيناً ) سواء كان عيناً بالأصالة أو كان عرضاً واستهلكه الأب وترتبت قيمته في ذمته أو باعه واستهلك ثمنه ( ورسماً أصدرا ) أي أشهد الأب عدلين في رسم ( بأنه ) أي المال العين أدخله في ( ذمته ) وأنه ( قد عمرا ) ذمته به .
فَمَا تَحَاسُبٌ لِمُسْتَحِقِّ
وَهُو كالحَاضِرِ دونَ فَرْقِ
( فما تحاسب لمستحق وهو ) أي المال المشهود به في الذمة ( كالحاضر ) عيناً ( دون فرق ) بين هذا الوجه والوجه الأول فكما لا يحاسب في الوجه الأول إلا إذا أوصى وقيد بالكتاب فكذلك الحكم ههنا . وقد سئل ابن رشد عن وصي أشهد عند موته أن ليتيمة عنده عشرين ديناراً ، فلما طالبت بها قال لها الورثة : إنه كان ينفق عليك وأثبتوا ذلك فقال إشهاد الوصي لها عند موته بالعشرين ديناراً يوجبها لها وتبطل حينئذ دعوى الورثة عليها ولا يحاسبونها بشيء اه . وأشار لمفهوم قوله : ورسماً أصدرا والموضوع بحاله فقال :
وَإنْ يَكُنْ في مالِهِ قَدْ أَدْخَلَهْ
مِنْ غَيْرِ إشْهَادِ بِذَاكَ أَعْمَلَهْ
( وإن يكن ) المال العين ( في ماله قد أدخله ) بأن لم يوجد بعينه في تركة الأب ولا أشهد بأنه أدخله في ذمته كما قال : ( من غير إشهاد بذاك أعمله .
مَعْ عِلْمِ أَصْلهِ فَهَاهُنَا يَجِبْ
رَجُوعُ وَارِثٍ بِإنْفَاقٍ طُلِبْ
مع علم أصله ) أي علم أصل مال الابن ببينة شهدت أنه كان ورث من أمه مائة مثلاً أو تصدق عليه بها ولم توجد بعينها في تركة الأب ، ولا أشهد أنه أدخلها في ذمته فالفرق بين هذا الوجه والذي قبله يليه هو الإشهاد وعدمه والمال عين على كل حال ( فههنا ) أي في عدم الإشهاد ( يجب رجوع وارث بإنفاق طلب ) صفة لإنفاق أي طلب من الابن ، ولو قدم الناظم قوله : وإن يكن عيناً ورسماً أصدرا إلى قوله : طلب . إثر قوله : وقيد الإنفاق بالكتاب ، لكان أحسن لأن المال العين فيه ثلاثة أقسام : إما أن يوجد في التركة بعينه فلا حساب إلا إذا أوصى وقيد في الكتاب ، وإما أن لا يوجد في التركة فإن أشهد أنه في ذمته فلا حساب أيضاً كالأول ، وإن لم يشهد حوسب .
تنبيه : لم يذكر الناظم حكم ما إذا لم يوجد العرض في تركة الأب ولم يشهد بعمارة ذمتهبثمنه ، والحكم أن الابن يحاسب بالنفقة بالأحرى مما إذا وجد قاله ( م ) : ثم أشار إلى الوجه الرابع وهو ما إذا لم يدخل مال الابن بيد الأب فقال :
وَغَيْرُ مَقْبُوضٍ عَلَى الإطْلاَقِ
كالْعَرْضِ في الرُّجُوعِ باتِّفَاقِ
( وغير مقبوض ) من مال الابن ( على الإطلاق ) عيناً كان أو عرضاً ( كالعرض في الرجوع ) إلا أن يقول : لا تحاسبوا وترك الكتب فلا رجوع ( باتفاق ) . ثم أشار إلى حكم موت الابن قبل الأب وطلب الأب محاسبته فقال :
وَمَوْتُ الابْنِ حُكْمُهُ كَمَوْتِ الأَبِ
وَقيلَ في يُسْرِ أبٍ حَلْفٌ وَجَبْ
( وموت الابن ) في حياة أبيه إذا أراد الرجوع عليه ( حكمه كموت الأب ) في جميع التفصيل المتقدم من كون المال عيناً أو عرضاً الخ . ولا يمين على الأب إذا أراد الورثة إحلافه أنه أنفق ليرجع لأنهم قائمون مقام الابن ولا يرثون عنه إلا ما كان له وليس للابن أن يحلف أباه . ( وقيل ) وهو لمالك في سماع ابن القاسم يفرق ففي عدم الأب وأمانته لا يمين عليه و ( في يسر أب ) وعدم أمانته ( حلف وجب ) عليه ، قال في المقرب : سئل مالك عن الرجل يموت ولده وقد كان للولد مال فتقوم جدته أو أمه تطلب ميراثها فيقول الأب : قد أنفقته عليه أترى عليه يميناً ؟ فقال : إن كان رجلاً مقلاً مأموناً فلا أرى ذلك عليه ، وإن كان موسراً غير مأمون أرى أن يحلف لأن جل الأباء ينفقون على أبنائهم وإن كان لهم مال اه . وقوله : لأن جل الآباء الخ . يقتضي أن الغالب هو إنفاقهم بعدم قصد الرجوع ، ولذ قال السيوري كما مر في النفقات ينظر للعادة .
فرع : سئل ابن لب عن الذي يلتزم لزوجته النفقة على أولادها على أن يستغل ما يكون لأولادها من المال مدة الزوجية ؟ فقال : الأصل في المنع لوجوه لا تخفى إلا أن المتأخرين من الموثقين جرت عادتهم بالتخفيف في ذلك إذا كان فائد المال المستغل يسيراً بحيث أن الغرض المقصود إنما هو التبرع بالنفقة ، ويكون فائد المال لا يبلغ إلا بعض النفقة .
فصل في الإقرار
وهو لغة الاعتراف . قال في الذخيرة : الإقرار والدعوى والشهادة كلها إخبارات ، والفرق بينها أن الإخبار إن كان يقتصر حكمه على قائله فهو الإقرار ، وإن لم يقتصر فإما أن لا يكون للمخبر فيه نفع فهو الشهادة أو يكون وهو الدعوى اه . وقال ابن عرفة : هو خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه أو بلفظ نائبه الخ . فقوله : خبر أخرج به الإنشاآت كبعت وطلقت ، وقوله : يوجب حكم صدقه على قائله أخرج به الرواية والشهادة لأن القائل إذا قال : الصلاة واجبة مثلاً فذلك خبر أوجب حكم صدقه على مخبره وغيره ، وإذا شهد على رجل بحق فإنه خبر أوجب حكم صدقه على غيره ، وإذا قال : في ذمتي دينار فهو خبر أوجب حكم صدقه على المخبر وحده وهو معنى قوله : فقط . وأخرج به أيضاً قول القائل : زيد زان لأنه وإن أوجب حكماً على قائله فقط وهو حد القذف ، لكن ذلك ليس هو ما اقتضاه الصدق لأن الذي اقتضاه الصدق هو جلد غيره مائة أو رجمه إن كان محصناً ، وزاد قوله : أو بلفظ نائبه ليدخل قول الرجل لآخر أقر عني بألف فإنه إقرار لا وكالة يحتاج فيها إلى إقرار الوكيل كما مّر في الوكالة ، وليدخل إقرار الوكيل عن موكله .
وَمَالِكٌ لأَمْرِهِ أقَرَّ في
صِحَّتِهِ لأَجْنَبِيَ اقتُفِي
( ومالك لأمره ) أي بالغ رشيد غير مكره لأن المكره لا يملك أمره ولا يلزمه إقرار كما لا يلزم المحجور من صبي وسفيه وعبد وسكران ومرتد ( خ ) : يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره لأهل لم يكذبه الخ . لأن فائدة الحجر على من ذكر هي رد تصرفاتهم التي من جملتها الإقرار بالدين إلا أن يجيزه السيد من العبد والسكران ومحجور عليه فيما يتعلق بالأموال والمعاوضات بخلاف الطلاق والعتق والجناية فإنها تلزمه كما قال :
لا يلزم السكران إقرار عقود
بل ما جنى عتق طلاق وحدود
والمرتد محجور عليه بعد إيقافه للاستتابة ولا إشكال في ذلك إن قتل ، وأما إن رجع إلى الإسلام فهو مؤاخذ بإقراره ، وكذا المفلس فهو مؤاخذ بإقراره ، وإنما الخلاف هل يحاصص المقرله الغرماء أم لا ( خ ) : وقبل إقراره بالمجلس إن ثبت دينه بإقرار لا ببينة وهو في ذمته الخ . ودخل في كلامه الزوجة لأنها لا حجر عليها في الإقرار ولو في زائد الثلث ، إذ ليس هو من التبرع ، وكذا المريض فإن إقراره ماض لمن لا يتهم عليه ولو في الزائد على الثلث ، وقول ( خ ) لم يكذبه يعني فإن كذبه بطل سواء كذبه قبل الإقرار أو بعده ولا يقبل رجوعه لتصديقه إلا بإقرار ثان ، ونظيره من قال لامرأة : تزوجتك فأنكرت ثم قالت : نعم فأنكر فإن ذلك ليس بإقرار لأن من شرط صحة الإقرار أن يتفق المقر والمقر له في تصديق كل واحد منهما صاحبه في وقت واحد ، وهذا إذا لم يكن هناك عذر وإلاَّ فرجوع المقر له لتصديق المقر بعد تكذيبه مقبول مثل أن يقر أحد الورثة أن ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشريعة ثم جاءه شهود أخبروه أن أباه أشهدهم أنه تصدق عليه في صغره بهذه الدار وحازها له ، فإنه إذا رجع عن إقراره فإن التركة كلها موروثة لا هذه الدار المشهود له بها دون الورثة . واعتذر بأخبار البينة وأنه لم يكن عالماً بذلك حين أقر بناه على العادة فإنه تسمع دعواه وعذره ولا يكون إقراره السابق مكذباً للبينة قادحاً فيها قاله القرافي في فروقه . قال أبو العباس الملوي : اعتمد ما للقرافي غير واحد من الحفاظ المتأخرين وتلقوه بالقبول منهم : أبو سالم إبراهيم اليزناسي اه . وبه تعلم ضعف ما في ( خ ) عن سحنون من أن إقراره الأول مكذب للبينة فلا ينتفع بها . نقله في باب الإقرار والقسمة بعد ان نقل عن المازري أنه أفتى بمثل ما للقرافي ، وبالجملة فالمعتمد ما للقرافي وبه كنت أفتيت . انظر شرحنا للشامل ، ويؤيده ما مر أول الاستحقاق .
ثم اعلم إن المالك لأمره تارة يقر في صحته وتارة في مرضه ، وفي كل منهما إما أن يكون المقر له وارثاً أو أجنبياً فأخبر هنا أن المالك لأمره إذا ( أقرَّ في صحته لأجنبي اقتفي ) إقراره واتبع ولزم فقوله : اقتفى خبر عن قوله ومالك لأمره ، والجملة بعده صفة له ومفهوم لأجنبي هو قوله :
وَمَا لِوَارِثٍ ففيهِ اخْتُلِفَا
وَمُنْفِذٌ له لِتُهمْةٍ نَفَى
( وما ) أقر به في صحته أيضاً ( لوارث ففيه اختلفا ) فمنهم من أبطله للتهمة وهم المدنيون في روايتهم عن مالك ، ومنهم من أجازه وهم المصريون في روايتهم عن الإمام أيضاً وهو المشهور وعليه عول الناظم فقال : ( ومنفذ له ) أي لإقراره ( لتهمة نفى ) عنه لكونه في حال الصحة فلا تلحقه فيه تهمة ولا توليج .
وَرَأْس مَتروكٍ المُقِرِّ أَلزَمَا
وَهْوَ بهِ فِي فَلَسٍ كالغُرَمَا( و ) إذا لم يلحقه ذلك ف ( رأس متروك المقر ) بنصب رأس مفعول بقوله : ( ألزما ) بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المنفذ وهم المصريون ( و ) إذا كان يؤخذ من رأس ماله ومتروكه فإن وفى به فلا كلام ، وإن لم يوف به لاستغراق الديون تركته ف ( هو ) أي المقر له يحاصص ( به في فلس كالغرما ) يحاصص بعضهم بعضاً ، ولكن إنما ذلك في الدين الحادث بعد الإقرار ، وأما القديم قبل الإقرار فمقدم اتفاقاً كما في ( ح ) ثم إن ما درج عليه الناظم من نفوذ إقرار الصحيح لوارثه هو المشهور . قال المتيطي : وعليه العمل ، واقتصر عليه ابن حارث ، وكذا صاحب الكافي حيث قال : وكل من أقر لوارث أو غير وارث في صحته بشيء من المال أو الدين أو البراءة أو قبض أثمان المبيعات فإقراره عليه جائز لا تلحقه فيه تهمة ولا توليج ، والأجنبي والوارث في ذلك سواء ، وكذا القريب والبعيد والعدو والصديق في الإقرار في الصحة سواء اه . ثم محل الخلاف في إقرار الصحيح للوارث إن كان لا يعرف وجه ما أقر به ولا سببه ، وأما إن عرف ذلك ككون أم المقر له ماتت وتركت مالاً وأقر أبوه له به ، أو أقر لزوجته بقدر كالىء صداقها ، أو أقر لابنته بعدد يعلم منه أنه كان يلابسها ويبيع لها ما اكتسبته بيدها ، فهو جائز نافذ باتفاق المصريين والمدنيين ، وإقرار المريض للوارث مع علم السبب كذلك يجوز اتفاقاً أيضاً كما يأتي في قوله : وحينما الإقرار فيه للولد الخ . وهذا كله إذا كان المقر له ممن يشبه أن يملك مثل المقَّر به لكونه معروفاً بالتكسب والإرث من أمه ونحو ذلك فإن كان ممن لا يشبه أن يكون تكسب أو ورث مثل هذا المال المقّر به بل ما أقرّ به أكثر مما يشبه تكسبه أو إرثه أو كان لا يعرف بتكسب ولا إرث أصلاً فلا يعمل بذلك الإقرار . قال أبو الفضل البرزلي في مسائل البيوع من ديوانه ما نصه : إقرار الأم بدين للابنة في صحتها نافذاً لا أن تكون الابنة غير معروفة بتكسب ولا فائد من ميراث أو غيره فإقرارها حينئذ بما لا يشبه أن يكون لها محض توليج اه .
قلت : ولذلك قالوا : إذا ادعت المرأة من متاع البيت الذي شأنه أن يكون للنساء ما لا يشبه أن تملكه لضعف حالها وقلة صداقها وعدم معرفتها بالتكسب لا يكون لها منه إلا قدر صداقها كما مر ، فكذلك هذا لا يكون له منه إلا قدر تكسبه أو إرثه ، وظاهر النظم أن إقراره نافذ ولو لم يتقدم من المقر له طلب في صحة المقر ، وهو كذلك على المشهور . ولكن في نظم العمل أن المقر له لا ينتفع بالإقرار إلا مع قيام البينة أنه كان يطلب المقر بما أقر به في حياته وصحته ونصه :
والسر في الإقرار للوارث ما
ينفع دون طلب قد علما
ومحل الخلاف أيضاً في الإقرار بالدين ونحوه مما لا يعرف أصل ملكه للمقر يعني بعينه وأما إقرار الرجل في صحته أو مرضه بما يعرف ملكه له من شيء بعينه أنه لفلان وفلان وارثأو غير وارث فإنه يجري مجرى الهبة والصدقة ويحل محلها إن حاز ذلك المقر له به في صحة المقر جاز له ، وإلاَّ لم يجز بلا خلاف قاله ابن رشد ونقله ( ح ) وغيره . وفي نوازل الهبات من المعيار ما نصه : قال ابن دحون لابن زرب : فلو أن رجلاً أقر بدار لابن له صغير فقال : يحل هذا الإقرار محل الهبة إن كانت الدار معروفة للأب وسكنه فإن خرج منها وحازها لابنه بعد الإقرار وإلاَّ بطل ، وإن كانت غير دار سكناه نفذ إقراره يعني لأن الأب يحوز لابنه الصغير غير دار السكنى كما قال ( خ ) إلا لمحجوره إذ أشهد وصرف الغلة له ولم تكن دار سكناه الخ . قال ابن زرب : وإن لم يعلم في دار السكنى أو في غيرها أنها ملك للمقر جاز وإن لم يحزها اه . وبالجملة ؛ فما لم يعلم أصله للمقر وصح فيه إقرار الصحيح لوارثه وما علم أصله له من المعينات من أصول وأثاث وحيوان أن يجري إقراره فيه مجرى الهبة إن حيز في صحته صح وإلا فلا . ويعرف أصله للمقر بأن كان يحوزه ويتصرف فيه ستة أشهر أو عشرة كما للوانشريسي إثر جواب ابن رشد ، وأما إن أقر بأملاك لابنته عند عقد نكاحها فإنها نافذة ولو لو تحز كما تقدم في النكاح .
تنبيه : وعلى المقر له بالدين في الصحة اليمين أنه ترتب له ذلك المقر له كما في المعيار عن ابن لب ، ونقله شارح العمل في البيت المتقدم ونحوه في ( ح ) ونظم العمل المطلق خلافاً لما في التبصرة في الباب التاسع والعشرين من القسم الثاني . ثم أشار إلى إقرار المريض بقسميه لأنه إما لأجنبي أو قريب فقال :
وَإنْ تَكُنْ لأجْنَبِيَ في المَرَضْ
غَيْرِ صَدِيقٍ فَهْوَ نَافِذُ الغَرَضْ
( وإن يكن ) الإقرار ( لأجنبي في المرض ) المخوف ( غير صديق ) صفة لأجنبي ( فهو ) أي الإقرار ( نافذ الغرض ) معمول به ورث كلالة أم لا . ومفهوم لأجنبي أنه إذا كان في المرض لقريب أو لصديق ملاطف فهو قوله :
وَلِصَدِيقٍ أوْ قَرِيبٍ لا يَرِثْ
يَبْطُلُ مِمن بِكلالةٍ وَرِثْ
( ولصديق ) ملاطف ( أو قريب لا يرث ) كالخال والعمة والخالة ( يبطل ) الإقرار حيث وقع( ممن بكلالة ورث ) . ومفهومه أنه إذا ورث بغير كلالة فإن إقراره صحيح وهو كذلك على المشهور كما لابن رشد ، ونقله ابن سلمون وغيره . وهذا حيث لا دين محيط عليه وإلاَّ فلا يقبل إقراره لقريب ولا لملاطف ، والمراد بالكلالة هنا الفريضة التي لا ولد فيها ذكراً أو أنثى وإن سفل بأن كان فيها أبوان أو زوجة أو عصبة ، وأما الكلالة في باب الميراث فهي الفريضة التي لا ولد فيها ولا والد وفيها يقول القائل :
ويسألونك عن الكلالة
هي انقطاع النسل لا محالة
ولا والد يبقى ولا مولود
فانقطع الأبناء والجدود
وقِيل بلْ يَمْضِي بكلِّ حَالٍ
وَعِنْدَ ما يُؤْخَذُ بالإِبْطَالِ
( وقيل بل يمضي ) إقرار المريض لمن ذكر ( بكل حال ) ورث كلالة أو لا . والقولان قائمان من المدونة ومشهورهما ما تقدم . ( وعند ما يؤخذ ) بالقول ( بالإبطال ) لكونه ورث كلالة وهو القول الأول .
قيل بإطْلاقٍ ولابنِ القَاسِمِ
يمْضِي مِنَ الثُّلْثِ بِحُكْمٍ جازِمِ
( قيل ) يبطل ( بالإطلاق ) ولا يكون للمقر له شيء لا من ثلث ولا رأس مال وهو المعتمد ( و ) قيل وهو ( لابن القاسم يمضي ) إقراره ( من الثلث ) إن حمله أو ما حمله منه ( بحكم جازم ) وعليه فتوى ابن سراج في رجل كفل يتيماً فأشهد له في صحته بعشرة دنانير وفي مرضه بخمسين ديناراً عن أجرة له فمات ونازعه الورثة ؟ فأجاب : أما العشرة فتجب له ، وأما الخمسون فإن كانت قدر أجرته الواجبة له فتجب من رأس ماله وإن كانت أكثر مما يجب له في إجارته كان قدر الإجارة من رأس ماله والزائد من ثلثه اه .
وبيانه أن الكافل يلاطف مكفوله ، لكن ما أقر له به في الصحة يمضي له على ما مر من رواية المصريين ، وما أقر به له في المرض يمضي حيث كان للإقرار سبب اتفاقاً كما هنا لأنه علم أنه كان يؤاجره ، نعم قوله الزائد على قدر الإجارة يكون في الثلث إنما يتمشى على قول ابن القاسم وهو ضعيف . ثم أشار لمفهوم قوله : لا يرث الخ . وهو إقراره لولد أو زوجة أو غيرهما كأخ مع ظهور سبب الإقرار أو عدم ظهوره فقال :وَحَيْثُما الإقْرَارُ فيه لِلْوَلَدْ
مَعْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ فيهِ مِنْ مَرَدْ
( وحيثما الإقرار فيه ) أي المرض ( للولد مع ) وجود ( غيره ) من الورثة بنين أيضاً أو غيرهم ( فليس فيه ) أي في ذلك الإقرار ( من مرد ) بل هو صحيح لازم .
مَعَ ظُهُورِ سَبَبِ الإقْرَارِ
فإنْ يَكُنْ ذَاكَ عن اخْتِيَارِ
( مع ظهور سبب الإقرار ) اتفاقاً كأن تشهد بينة بأن الأب قد قبض للولد أموالاً ورثها من أمه ، أو باع له أسباباً وقبض أثمانها ، أو أوصى له بوصية وقبضها أبوه ، وإن لم يبينوا قدر المقبوض لأن ظهور السبب ينفي التهمة بشرط أن يكون المقر له ممن يشبه أن يملك مثل المال المقرّ به ، وإلاَّ فلا كما مر قريباً في الإقرار في الصحة . ( فإن يكن ذاك ) الإقرار ( عن اختيار ) بأن لم يظهر سبب صحته .
فَذُو عُقوقٍ وَانْحِرَافٍ يُحْكَمُ
له به وَذُو البُرُورِ يُحْرَمُ
( ف ) ولد ( ذو عقوق ) لأبيه ( وانحراف ) عن طاعته ( يحكم له به ) لأنه لا يتهم على أن يعطيه ويحرم البار ( و ) الولد ( ذو البرور يحرم ) من إقرار الأب له للتهمة ، وظاهره أنه يفصل فيه التفصيل المذكور سواء أقرّ له وحده أو مع أجنبي وهو كذلك فنصيب الولد يفصل فيه بين ظهور السبب فيصح وبين عدمه فذو عقوق يصح أيضاً وذو برور يحرم ، وما ذكره الناظم هو أحد قولين متساويين في ( خ ) حيث قال تشبيهاً في القولين : كإقراره للولد العاق الخ . فيستفاد من الناظم أن القول بالصحة هو الراجح ، ومفهومه أنه إذا أقرّ لأحد المتساويين في العقوق أو البرور أو أقر للأقرب مع وجود الأبعد كإقراره لابنته أو لأمه مع وجود العصبة فإنه يبطل اتفاقاً فيهما ( خ ) : لا المساوي والأقرب الخ . وأما إن أقر للأبعد مع وجود الأقرب كإقراره للعصبة مع وجود الأم أو البنت فإقراره صحيح .
وَإنْ يَكن لِزَوْجَةٍ بِهَا شُغِفْ
فَالمَنْعُ وَالْعَكْسُ بعكْسٍ يتَّصِفْ
( وإن يكن ) إقرار المريض ( لزوجة بها شغف ) حباً فإن ظهر لإقراره سبب ككونه قبض لها مالاً أو عرف أنه باع لها أسباباً فلإقرار صحيح اتفاقاً كما مر ، وكذا لو أقرّ لها بقدر كالىء صداقها لأنه لو لم يقرّ به لأخذته من تركته إذ العادة بقاؤه كما مر في النكاح عند قوله : وأجلالكوالىء المعينة الخ . وإن لم يظهر لإقراره لها سبب ولا كان بكالىء صداقها . ( فالمنع ) من صحة الإقرار لها واجب إلا أن يجيزه الورثة ( والعكس ) وهو أن لا يكون مشغوفاً بحبها بل كان يعرف ببغضها ( بعكس يتصف ) فيلزم الإقرار ويصح ورثه ولد أم لا . انفردت بالصغير أم لا . على المعتمد ، وانظر الإقرار بالمجمل للزوجة أو غيرها في ( ح ) وما فيه من الخلاف أول باب الإقرار ، وقد أفتى هو بصحته عند قوله : كزوج علم بغضه لها فيستفاد من فتواه أن الراجح صحته .
وَإنْ جَهِلْنَا عِنْدَ ذَاكَ حَالَهْ
فَالمَنْعُ مِمَّنْ إرْثُهُ كَلاَلَهْ ( وإن جهلنا عند ذاك ) الإقرار ( حاله ) معها من محبتها والميل إليها أو بغضه إياها فإن ورث كلالة لم يصح إقراره كما قال :
( فالمنع ممن إرثه كلالة ) وإن لم يورث كلالة بأن ورثه ابن واحد ذكر صغير أو كبير منها أو من غيرها صح إقراره كما قال :
وَمَعَ وَاحِدٍ مِنَ الذُّكُورِ
في كلِّ حَالٍ لَيْسَ بالمَخظُورِ
( ومع واحد من الذكور في كل حال ليس بالمحظور ) وإن ورثه بنون ذكور فقط أو ذكور وإناث فالإقرار صحيح أيضاً كما قال :
1413 كَذَاكَ مَعْ تَعَدُّدٍ فِيهِمْ ذَكَرْ
مَا مِنْهُمُ ذُو صِغَرٍ وَذُو كِبَرْ ( كذاك مع تعدد ) الأولاد حال كونهم ( فيهم ذكر ) واحد أو متعدد كانوا كلهم منها ، أو بعضهم منها وبعضهم من غيرها كباراً كانوا أو صغاراً أو مختلفين كما قال : ( ما منهم ذو صغر و ) لا ( ذو كبر ) يختص بصحة الإقرار معه بل هو صحيح لها مع وجود كل من الفريقين أو أحدهما ، لكن إن كان فيهم صغار فيشترط أن يكون الصغار من غيرها فقط أو بعضهم منها وبعضهم من غيرها ، أما إذا كان الصغار منها فقط ولو إناثاً وبقية الورثة كباراً منها ومن غيرها أو منها فقط ، فإن الإقرار لا يصح اتفاقاً ، ولذا قال الشارح : كان حقه أن يزيد بيتاً فيقول :
إلا إذا ما كان منها الأصغر
وكان من أم سواها الأكبرولو قال : وكان من غير ومنها الأكبر وتكون الواو في قوله : ومنها بمعنى ( أو ) لوفي بما تقدم .
وَإنْ يَكُنْ بِغَيْرِ ذَاكَ مَطْلقَا
قِيلَ مُسَوَّغٌ وقيلَ مُتَّقى
( وإن يكن ) أي إقرار المريض للمجهول حاله معها متلبساً ( بغير ذاك ) أي بغير ما ذكر من الكلالة ومن وجود الابن أو البنتين ، بل كان الإقرار لها مع وجود بنت أو بنات ( مطلقاً ) صغاراً كن من غيرها أو كباراً منها فقط أو منها ومن غيرها فقولان ( قيل ) الإقرار ( مسوغ ) لها نظراً إلى أنها أبعد من البنت ( وقيل متقى ) نظراً إلى أنها أقرب من العصبة فإن ورثه مع العصبة صغيرة أو أكثر منها لم يصح إقراره لها اتفاقاً ، ولذا قال ولده : كان حقه أن يزيد بيتاً أيضاً فيقول :
إلا إذا كن صغاراً أجمعا
منها فحكم ذاك أن يمتنعا
والمراد بالعصبة ما عدا الابن وإلاَّ فهو ما تقدم ( خ ) : كزوج علم بغضه لها أو جهل وورثه ابن أو بنون إلا أن تنفرد بالصغير ومع الإناث والعصبة قولان الخ . ولم أقف على من رجح واحداً منهما إلا ما يظهر من كلام الشامل من رجحان الأول ، وكذا الناظم حيث صدر به هذا حكم الإقرار للولد والزوجة .
وَإنْ يَكُنْ لِوَارِثٍ غَيْرِهما
مَعْ وَلدٍ فَفي الأَصَحِّ لَزِما
( وإن يكن ) إقرار المريض ( لوارث غيرهما ) بالجر نعت لوارث حال كون الوارث ( مع ) وجود ( ولد ) للمقر ولو أنثى كإقراره لأم مع وجود ولد أو لأخت مع وجود بنت أو بنات ( ففي الأصح ) وهو قول ابن القاسم ، ورواه ابن عبد الحكم عن مالك ( لزما ) ومقابله نقله ابن سهل عن ابن زرب فيما إذا كان الولد بنتاً .
وَدونَهُ لمالِكٍ قولانِ
بالمَنْعِ وَالجَوَازِ مَرْوِيَّانِ
( ودونه ) أي الولد أي وإقراره لوارث غيرهما دون وجود ولد له ( لمالك ) فيه ( قولان ) أحدهما ( بالمنع و ) الآخر ب ( الجواز مرويان ) عنه ، ومحلهما إن كان المقر له مساوياً كإقراره لأحدإخوته المتساويين في الدرجة أو بني عمه كذلك ، أو كان أقرب كإقراره لأم مع وجود أخ أو عم والراجح منهما المنع كما تقدم في مفهوم قوله : فذو عقوق وانحراف يحكم له به الخ . وأما إذا أقر لوارث أبعد مع وجود الأقرب كإقراره للعصبة مع وجود أم أو أقرَّ لأخ لأب أو لأم مع وجود شقيق فإن إقراره صحيح اتفاقاً كما في ( ق ) عن ابن رشد ، وعليه عول ( خ ) إذ قال : ومريض إن ورثه ولد لأبعد الخ . وصوابه ومريض لوارث أبعد كما لشراحه . ثم أشار إلى إقرار الزوجة لزوجها في المرض هو كإقراره لها في التفصيل المتقدم فقال :
وَحَالة الزَّوْجَةِ والزَّوْجُ سَوا
وَالْقَبْضُ للدَّيْنِ مع الدَّيْنِ اسْتَوَى
( وحالة ) إقرار ( الزوجة ) لزوجها ( و ) إقرار ( الزوج ) لزوجته ( سوا ) ء بفتح السين فيفصل فيه بين حبها له أو بغضها أو جهل حالها على ما مر ( و ) إقرار أحدهما للآخر ب ( القبض للدين مع ) إقراره ب ( الدين استوى ) ابن رشد . إقرار الزوجة لزوجها في المرض كإقراره هو لها فيه ، ولا فرق بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين في ذمته أو بأنه قبض ماله عليه اه . وإطلاقه يشمل الأصدقة وغيرها ، فإذا قالت في مرضها : قبضت ديني أو مؤخر صداقي فإن عرف بغضها له صح ، وكذا إن جهل وورثها ابن أو بنون إلا أن ينفرد بالصغير منها ، وأما إقراره بأن كالىء صداقها باق في ذمته فهو عاطل مطلقاً وإنما يفصل في غيره كما مرّ في قوله : وإن يكن لزوجة بها شغف الخ . ثم أشار إلى تعدد الإقرار فقال :
وَمُشْهِدٌ في مَوْطِنَيْنِ بِعَدَدْ
لِطَالِبٍ يُنْكِرُ أنَّه اتَّحَدْ
( ومشهد ) على نفسه ( في موطنين ) أي زمنين مثلاً ( بعدد ) واحد مثل أن يقر لرجل بمائة درهم ويشهد بذلك شاهدان ، ثم يقر له في موطن آخر بمائة درهم أيضاً ، ويشهد بذلك شاهدان آخران ولم يأمرهم بالكتب ولا ذكر السبب الذي من أجله ترتب عليه ذلك فالإقراران معاً ( لطالب ) واحد ( ينكر أنه ) أي المشهود به في الموطنين ( اتحد ) ويدعي أنهما مائتان وقال المطلوب : هي مائة واحدة أشهد له بها مرتين .
لَهُمْ به قَوْلان وَالْيَمِينُ
عَلَى كلَيْهِمَا لَهُ تَعْيينُ
( لهم به ) أي بهذا الفرع ( قولان ) لمالك فقال مرة : القول للطالب بيمينه ، وقال مرة : القولللمطلوب بيمينه وهو معنى قوله : ( واليمين على كليهما له تعيين ) والذي رجع إليه وهو الراجح أن القول للمطلوب ، وكذا لو ادعى على رجل بمائة فأقر لربها وادعى القضاء وأقام شاهدين أنه أقر أنه قبض منه خمسين وآخرين أنه أقر أنه قبض منه خمسين فقال رب الحق هي خمسون واحدة من المائة أشهدت لك بها قوماً بعد قوم فهي خمسون واحدة إلا أن يكون أشهدهم في كتابين كما في ابن سلمون ، وقولي : ولا ذكر السبب احترازاً مما إذا ذكره فإنه إن اتحد فهي مائة واحدة ، وإن تعدد ككونها من بيع والأخرى من سلف فمائتان ، وقولي : ولم يأمرهم بالكتب احترازاً مما إذا أمرهما به أولاً وثانياً فهو قوله :
ما لَمْ يَكُنْ ذاك بِرَسميْنِ ثَبَتْ
فما ادَّعَاهُ مُشْهِدٌ لا يُلْتَفَتْ
( ما لم يكن ذاك ) الإشهاد ( برسمين ثبت ) في محل الخلاف مدة كون الإشهاد لم يثبت في رسمين بل كان في رسم واحد أو بغير رسم أصلاً أو برسمين بأمر المقر له ، أما إذا كانا في رسمين بأمر المقر ( فما ادعاه مشهد ) من أنها مائة واحدة ( لا يلتفت ) إليه ويجب عليه المائتان . ابن رشد : لا خلاف في أنه إن كان في كتاب واحد أنه حق واحد ، وكذا الإخلاف في أنه إن أشهد قوماً في كتاب ثم أشهد آخرين في كتاب آخر أنه يقضي عليه بالمائتين ، وإنما مسألة الخلاف وإذا أشهد شهوداً بعد شهود بغير كتاب وبينهما مدة من الزمان ، وإن كتب صاحب الحق بما شهد عليه كل جماعة كتاباً على حدة لم يخرج بذلك عن الخلاف اه .
وحاصله أن الصور الثلاث : أن يشهد المقر جماعة بعد أخرى ولم يكتبا أصلاً أو كتبا في كتاب واحد ، فالقول للمقر بيمينه أنه حق واحد على الراجح من القولين ، فإن نكل حلف الطالب وأخذ المائتين . والثانية : أن يشهدهما المقر ويأمرهما بكتابة ما أشهدهما به فكتباه في ذكرين فيلزمه المائتان كما في النظم . الثالثة : أن يأمرهما بالكتابة المقر له فيقول ، لكل جماعة : اكتبا لي ما سمعتما من فلان فإن المقر لا يلزمه إلا مائة على الراجح أيضاً ، وهذه هي التي أشار لها ابن رشد بقوله : وإن كتب صاحب الحق بما أشهد عليه الخ . ومفهوم قوله : مشهد الخ . أنه لو شهد اثنان أنه قبض مائة بمحضرهما يوم الأحد ، وشهد آخران أنه قبضها بمحضرهما يوم الاثنين فعليه مائتان أيضاً انظر الشيخ ( م ) ولا بد .وَمَنْ أَقَرَّ مَثَلاَ بِتِسْعَه
وَصَحَّ أنْ دَفَعَ مِنْها السَّبْعَه
( ومن أقر ) لزيد ( مثلاً بتسعة ) دنانير ( وصح ) بإقرار زيد ( إن ) قد ( دفع ) المقر ( منها السبعة ) مثلاً .
ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِ ذا بِبَيِّنَه
بِقَبْضِ دِينارَيْنِ منْهُ مُعْلنَه
( ثم ) لما طالبه زيد بالاثنين الباقيين ( أتى ) المقر ( من بعد ذا ) أي إقرار زيد ( ببينة ) شاهدة له ( بقبض دينارين منه معلنة ) بذلك وبرىء على زعمه ، فادعى زيد المقرّ له أن الدينارين المشهود بهما داخلان في السبعة .
فالْقَوْلُ قَوْلُه إنِ الخَصْمُ ادَّعَى
دُخولَ دينَارَيْنِ فيما انْدَفَعَا
( فالقول قوله ) أي المقر أنهما داخلان في السبعة ( إن ) بكسر الهمزة ( الخصم ) وهو زيد ( ادعى دخول دينارين فيما اندفعا ) ولا شيء عليه ، وأشار به لقول ابن سلمون . وعن ابن القاسم وأصبغ : لو أقر لك باثني عشر ديناراً فثبت قبضك تسعة منها ببينة أو إقرار وله بينة بأداء ثلاثة ، فزعمت أنها من التسعة فالقول قوله بأنها سواها وبرىء من الجميع ، ونحوه في ( ح ) آخر الإقرار فانظره إن شئت ، وتأمل قول ابن سلمون ببينة أو إقرار ، فإن الصواب حذف قول ببينة لأنه إذا ثبت لها قبض تسعة وبينة أخرى ثلاثة بالمعاينة فيهما فإنه يبرأ اتفاقاً ، وكذا لو شهدت واحدة أنه قبض منه تسعة بمحضرها ثم ثلاثة بمحضرها أيضاً .
وَبيْعُ مَن حَابَى من المُرْدُودِ
إنْ ثَبَتَ التَّوْلِيجُ بالشُّهُودِ
( وبيع من حابى من المردود ) تقدم بيع المحاباة وتفصيله في فصل مصائلم من أحكام البيع ،أنهما قولان درج الناظم هناك على أحدهما وهنا على الآخر ، والمحاباة هي البيع بأقل من القيمة بكثير لقصد نفع المشتري أو بأكثر لقصد نفع البائع ، فإن لم يقصد نفع من ذكر بل وقع للجهل بقدر الثمن فهو غبن ، وتقدم الكلام عليه في فصله . وأما قوله : ( إنْ ثبت التوليج بالشهود ) فهو بأو العاطفة على حابى أي : وبيع من حابى أو ثبت توليجه بالشهود فهو من المردود ، وهذه النسخة هي الصواب لأن التوليج والمحاباة متباينان ، لأن التوليج هو العطية في صورة البيع ، والمحاباة هي البيع بأقل من القيمة أو بأكثر كما مر ، وأما نسخة إن ثبت الخ . بأن الشرطية فلا تصح إلا على تأويل حابى بولج ، فيكون المعنى وبيع توليج من المردود وإن ثبت التوليج بالشهود الخ . وهي حينئذ على هذه النسخة مسألة واحدة بخلافه على النسخة الأخرى فهما مسألتان . أما مسألة المحاباة على ما درج عليه الناظم ههنا فلا فرق فيها بين الوارث وغيره ، فإذا باع من أجنبي أو ابنه أو زوجته أو أم ولد له ما يساوي مائة بعشرة ويشهد بذلك أرباب البصر ولم يخرجه من يده ولا حيز عنه حتى حصل المانع فبيعه مردود ، وليس للمشتري إلا ثمنه على أحد قولين وهو ما للناظم ههنا كما مرّ والاتفاق الذي في ابن سلمون لا يتم بدليل ما تقدم في فصل أحكام البيع ، وأما مسألة التوليج فلا يرد البيع فيها إلا بأحد أمرين .
إما بِالإقْرَارِ أَوْ الإشْهَادِ
لهم بهِ في وَقْتٍ الانْعِقَادِ
( إما ) بأن يشهد الشهود ( بالإقرار ) من المشتري بعد البيع وحصول المانع للبائع من موت أو فلس أو مرض أن البيع إنما كان صورة وإنما هي عطية ( أو الإشهاد لهم ) أي للشهود أي أشهدهم المشتري والبائع ( به ) أي بالتوليج ( بوقت الانعقاد ) للبيع فيقولان لهم وقت العقد : اشهدوا علينا بأن هذا البيع لا حقيقة له ، وبمنزلة الإشهاد ما إذا حضروا معهما على وجه الاتفاق وسمعوا منهما ذلك من غير إشهادهما إياهم . قال ابن سلمون : وكيفية ثبوت التوليج أن يقول الشهود : توسطنا العقد بينهما واتفقا معاً على أن ما عقداه من البيع والتصيير سمعة لا حقيقة له ، أو يقولوا أقر لنا بذلك المشتري بعد البيع اه . زاد الشارح : أو يقولوا أشهدنا فلاناً وفلاناً على شهادتهما بأحد هذين الوجهين اه . وما زاده إنما هو من باب النقل للشهادة فليس خارجاً عمافي النظم وقولي : وحصول المانع الخ . احترازاً مما إذا لم يحصل للبائع مانع فإن ذلك لا يبطل بل هو للمشتري إن حازه كان وارثاً أم لا . فإن ثبت التوليج بأحد الأمرين فلا إشكال ، وإن لم يثبت بما ذكر فإن لم يثبت ميل البائع للمشتري فلا يمين والبيع صحيح .
وَمَعْ ثُبُوتِ مَيلِ بائعٍ لِمَنْ
مِنْه اشْتَرَى يَحْلِفُ في دَفع الثَّمَنْ
( ومع ثبوت ميل بائع لمن ) وقع ( منه اشترى يحلف ) المشتري ( في دفع الثمن ) أي أنه دفعه وأنه اشترى شراء صحيحاً ويصح البيع ، فإن نكل بطل البيع بمجرد نكوله لأنها يمين تهمة لا ترد ، وظاهره أنه لا فرق بين وارث وغيره وهو كذلك ، وما في ابن سلمون عن فقهاء قرطبة خلاف المعتمد لأن التوليج لم يثبت بأحد أمرين كما في مصطفى ، وظاهره أيضاً أنه يحلف ولو عاينت البينة دفعه وهو الظاهر لأنه مع الميل قد يدفع إليه الثمن ليرده إليه وينتفي اليمين عنه ، وقد عقد في لامية الزقاق للتوليج فصلاً أطال فيه ، وذكرنا في حاشيتنا عليه ما يشفي الغليل إن شاء الله ، فعليك به . وانظر الكراس الحادي عشر من معاوضات المعيار في مسألة الوصايا اختلف فيها فقهاء بجاية إن أردت زيادة التوسيع في هذا المعنى .
فصل في حكم المديانالصيغة للمبالغة ، والمراد المدين . وقسمه الناظم إلى أقسام : أولها الغني الموسر بالدين وهو معنى قوله :
وَمَن عليه الدَّيْنُ إما مُوسِرُ
فَمَطْلِ
ظُلْمٌ ولا يُؤَخَّرُ
( ومن عليه الدين إما موسر ) في ظاهر الحال يتهم بمال أخفاه كما لابن سهل وهو يلبس الثياب الفاخرة وله خدم ولا يعلم بأصول ولا عروض ( فمطله ظلم ) لقوله عليه السلام : ( مطل الغني ظلم ) ( ولا يؤخر ) إن لم يعد بالقضاء ولم يسأل التأجيل لثبوت عسره بل يسجن حتى يؤدي فإن وعد بالقضاء وسأل التأجيل كاليومين والثلاثة أعطى حميلاً بالمال لأنه لما وعد بالقضاء ظهرت قدرته على المال فلم يقبل منه إلا حميل به وإلاَّ سجن ، وإن سأل التأجيل لثبوت عسره فإنه يؤجلبحميل بوجهه عند ابن القاسم وهو الراجح . وقال سحنون : بالمال ووفق بينهما بأن قول سحنون في الملد وقول ابن القاسم في غيره ، وقوله فيما يأتي والحبس للملد والمتهم الخ . هو في ظاهر الملاء أيضاً فالأولى حذفه والاستغناء عنه بما هنا .
تنبيه : إذا سجن ظاهر الملاء وطلب الخروج من السجن لطلب ما ينفعه بحميل بوجهه ثم يعود إليه إن عجز عن إثبات ما ينفعه ، فإنه يمكن من ذلك قاله عياض وثاني الأقسام قوله :
أوْ مُعْسِرٌ قَضاؤُهُ إضْرارُ
فَينْبَغِي في شَأْنِهِ الإنْظَارُ
( أو معسر ) لا يعرف بناض و لكن له عروض وأصول يحتاج في بيعها إلى فسحة وتوسعة فإنه يؤخر بالاجتهاد على قدر كثرة المال وقلته إذ ( قضاؤه ) أي القاضي ببيعها عليه عاجلاً من غير تأخير فيه ( إضرار ) به ( فينبغي ) أي يجب ( في شأنه الإنظار ) والتأخير بقدر قلة المال وكثرته كما يأتي في قوله : وسلعة المديان رهناً تجعل الخ . إذ هو من تتمة ما هنا وظاهره أنه يؤخر بدون حميل لأن الرهن كالحميل كما يأتي عن ناظم عمل فاس إذ حيث جعلت السلعة رهناً للأجل المضروب فلا سبيل لربها إلى تفويتها ، وإن فعل لم يمض تفويته إياها إلا بعد أداء ما عليه ، وسيأتي ما في ذلك ثم هذا القسم داخل في معلوم الملاء ( خ ) : وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلاً بالمال .
تنبيه : فإن ادعى رب الدين أن له مالاً ناضاً وطلب تحليفه فيجري ذلك على الاختلاف في يمين التهمة والمعمول به توجيهها كما مّر في باب اليمين ، ومقابله لأبي عمر الأشبيلي أنه لا يمين عليه محتجاً بقول مالك : جل الناس ليس لهم ناض أي : والحمل على هذا الغالب واجب وإلى هذا الخلاف أشار ( خ ) بقوله : ففي حلفه على عدم الناض تردد ومحله إذا لم يحقق الدعوى عليه وإلاَّ توجهت اتفاقاً ، فإن نكل حلف الطالب وأجبر المطلوب على الأداء ولا يؤخر قليلاً ولا كثيراً كما في ابن سلمون ، وثالث الأقسام قوله :
أوْ مُعْدِمٌ وَقَدْ أَبَانَ مَعْذِرَه
فواجِبٌ إنظارُهُ لميْسِرَه
( أو معدم و ) الحال أنه ( قد أبان ) أي أثبت ( معذرة ) بأن شهدت بينة لا مطعن فيها بعدمه وحلف معها وأخرجها أول جلوسه عند الحاكم ( فواجب إنظاره لميسرة ) لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } الآية ( البقرة : 280 ) ومفهوم قوله : وقد أبان معذرة الخ . إنه إذا لم يثبت عدمه أول جلوسه عند الحاكم فإنه حينئذ إما ظاهر الملاء ، وقد تقدم أو مجهول الحال ويحبس لثبوت عسره إن لم يأت بحميل بوجهه كما يأتي في قوله : وحيثما يجهل حال من طلب الخ :
تنبيه : ظاهره أنه لا يلزم بالتكسب وهو كذلك ما لم يداينه الناس ليقضيهم من صنعته فقد قال اللخمي : إن المفلس الصانع يداين ليعمل ويقضي من عمله ، ثم عطل أجبر على العمل فإنلد استؤجر في صنعته تلك . قال ابن عرفة : فيلزم مثله في الزوج في النفقة إذا ترك صنعته ، وأما نفقة الأولاد فلا خلاف أنه لا يجبر على الصنعة قاله البرزلي في النكاح . ورابع الأقسام قوله :
ومَنْ عَلَى الأَمْوَالِ قد تَقَعَّدَا
فالضَّرْبُ والسِّجْنُ عليه سَرْمَدَا
( ومن ) كان معلوم الملاء و ( على الأموال قد تقعدا ) ويشمل المعسر الذي له عروض المتقدم في القسم الثاني كما مر . قال في التوضيح : ومثلوا معلوم الملاء بمن أخذ أموال الناس ويقعد للتجارة ، ثم يدعي ذهابها ولم يثبت ما يصدقه من احتراق منزله أو سرقته أو نحوهما ، ( فالضرب والسجن عليه سرمدا ) عياض : ولا يؤخذ منه حميل لأنه ملد ظالم إلا أن يلتزم الحميل دفع المال في الحال إن عرف أنه من أهل الناض . ابن عبد السلام : وليس للإمام أن يبيع عروضه كما يبيعها على المفلس لأن المفلس قد ضرب على يده ومنع من ماله .
ولا الْتِفَاتَ عِنْدَ ذَا لبيِّنه
لما ادَّعَى مِن عَدَمِ مُبيِّنه
( ولا التفات عند ذا ) أي عند تقعده على أموال الناس وادعائه العدم ( لبينة لما ادعى من عدم مبينة ) صفة لقوله لبينة ، ولما ادعى متعلق به أي : لا يلتفت للبينة الشاهدة بعدمه دون أن يشهدوا أنه احترق منزله ، أو أنه ذهب ما بيده بسرقة أو غصب أو نزول الأسواق به ونحو ذلك كما للخمي ونصه : وإن شهدت بينة بالفقر سئلت كيف علمت ذلك فإن كان من قول الغريم وشكواه ذهب ما في يدي وخسرت وما أشبه ذلك لم تكن شهادة ، وإن قالوا : كنا نرى تصرفه في بيعه وشرائه وقدر أرباحه ونزول الأسواق عليه ونفقته على عياله ونقص رأس ماله شيئاً بعد شيء كانت شهادة تامة اه . ونحوه للمازني ، ودرج عليه في الشامل فقال : ولا تقبل بينة من علم ملاؤه إلا بذهاب ماله بأن تقول : كنا نرى بيعه وشراءه ونفقته ونقص ماله اه .
وإنْ أَي بِضَامِنِ فبالأَدَا
حتى يُؤَدِّي ما عليه قَعَدَا
( وإن أتى ) معلوم الملاء ( بضامن ف ) إنه يقبل منه الضامن ( بالأدا ) ء كما مّر عن عياض ( حتى يؤدي ما عليه قعدا ) ، وظاهره : أن معلوم الملاء إذا أراد أن يؤدي بعض الحق وأبى ربه من قبوله إلا بأداء الجميع فإن القول لربه وهو كذلك على المعتمد ( خ ) : وإن علم بالناض لم يؤخر وضرب مرة بعد مرة الخ . والظاهر أن ظاهر الملاء إذا سجن وتخلد في السجن يجري فيه قولهفالضرب الخ . وكذا المعسر الذي له أصول وأجل لبيعها فلم يفعل بعد السجن فإنه يضرب أيضاً إذ كل من لم يفد فيه السجن يضيق عليه بالضرب .
تنبيه : بمنزلة معلوم الملاء من أقر بالملاء ثم ادعى العدم ففي ابن فتوح كتب الموثقين أن المدين مليء بالحق الذي ثبت عليه حسن فإن ادعى العدم لم يصدق وإن قامت له به بينة لأنه قد كذبها إلا أن تشهد بينة بعطب حل به بعد إقراره ، وفي وثائق الفشتالي والمعيار : أن عدم قبول البينة بالعدم ممن اعترف بالملاء هو المشهور المعمول به ، ويسجن أبداً حتى يؤدي دينه أو تبيض عيناه ما لم تقم بينة بطروء آفة أذهبت ماله بنهب أو سرقة أو احتراق اه . وانظر ما قدمناه في التنبيه السابع عند قوله : والخلع سائغ الخ . وخامس الأقسام قوله :
وَحَيْثُما يُجْهَلُ حَالُ مَنْ طُلِبْ
وَقصَدَ اخْتبارُهُ بما يَجِبْ
( وحيثما يجهل حال من طلب ) بدين هل هو مليء أو معدم فإنه يسجن إلى ثبوت فقره ما لم يأت بحميل بوجهه فإن أتى به لم يسجن وأخر لإثبات عسره فإن أنقضى الأجل ولم يثبته أو لم يأت بحميل أول الأمر فلا بد من اختباره بالسجن والتضييق عليه كما قال : ( وقصد اختباره بما يجب ) من السجن المذكور ، ولعل له مالاً أخفاه ولكن حبسه يختلف بقلة المال وكثرته كما قال :
فَحَبْسُهُ مِقْدَارَ نِصْفِ شَهْرِ
إنْ يَكُنْ الدَّيْنُ يَسِير القَدْرِ
( فحسبه مقدار نصف شهر إن يكن الدين يسير القدر ) كالدريهمات كما في المقدمات .
والحَبْسُ في تَوَسُّطِ شَهْرَان
وضعفُ ذين في الخَطِير الشّانِ
( والحَبْسُ في توسط ) أي في المال المتوسط بين القلة والكثرة ( شهران وضعف دين ) وهو أربعة أشهر فيحبس ( في ) المال ( الخطير الشان ) ووجه ذلك أنه يحبس لاختبار حاله ، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي عليه ولم يذكروا للخطير حداً ، ولعله يختلف باختلاف الناس قاله ( ت ) فإذا انقضى نصف الشهر أو الشهران في المتوسط أو الأربعة في الكثير سرح من السجن وخلي سبيله ( خ ) : وأخرج المجهول إن طال حبسه بقدر الدين والشخص .
وَحَيْثُ جاءَ قبلُ بالْحميلِ
بِالْوَجْهِ مَا لِلسِّجْنِ منْ سَبِيلِ
( وحيث جاء ) المجهول ومثله ظاهر الملاء ( قبل ) أي قبل حبسه ( بالحميل بالوجه ) وطلب التأجيل ليثبت عدمه ف ( ما للسجن من سبيل ) بل يؤجل ، فإذا انقضى الأجل ولم يثبت ما ادعاه حبس حينئذ للاختبار كما أشرنا إليه أول التقرير ( خ ) : وحبس لثبوت عسره إن جهل حاله ولميسئل الصبر له بحميل بوجهه الخ . وإنما يحبس في مجرد الدعوى بعد حلف المدعي أن ما ادعاه حق كما مر . عند قوله :
وضامن الوجه على من انكرا
دعوى امرىء خشية ان لا يحضرا الخ
وَسِلعةُ المِدْيان رهناً تُجْعَلُ
وَبَيْعُهَا عليه لا يُعَجَّلُ ( وسلعة المديان ) يريد رب الدين تعجيل بيعها عليه وطلب ربها أن لا تفوت عليه وتوضع رهناً ويؤجل أياماً فينظر في الدين فإن ربها يجاب إلى ذلك ، و ( رهناً تجعل وبيعها عليه لا يعجل ) لما في التعجيل من الضرر به .
وَحَقُّهُ مَعْ ذَاكَ أنْ يُؤَخَّرَا
بِحَسَب المالِ لِما القاضِي يَرَا ( وحقه مع ذاك ) أي مع جعلها رهناً ( أن يؤخرا ) أجلاً ( بحسب المال ) قلة أو كثرة ( لما القاضي يرى ) باجتهاده . هذا الذي جرى به الحكم ومضى به العمل ، وتدل عليه الروايات عن مالك وأصحابه قاله ابن رشد . وتقدم أن هذه المسألة من تتمة القسم الثاني ، بل لو استغنى به عنها لكفاه لأنه إذا كان يؤجل من غير رضاه بجعلها رهناً فأحرى مع رضاه بذلك .
تنبيه : في نوازل البرزلي ما نصه : كتب إلى شيوخ قرطبة فيمن عليه دين وله أصول مأمونة فسأل تأخيره حتى يبيع الأصول هل يعطى حميلاً بالوجه على ما يفتي به أهل طليطلة ؟ فأجاب ابن عتاب : يلزمه حميل بالمال كان له أصول أو لم يكن ، وبه جرى العمل . قال : ويلزم الحميل ولو كان بيد الطالب رهن حتى ينصفه وهو مذهب الشيوخ ، وأفتى ابن مالك إن كان المطلوب معروف العين ظاهر الملاء فلا أرى الحميل بالأمر اللازم اه . وإلى الأول أشار ( خ ) بقوله : وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلاً بالمال كما مر ، وإنما نقلناه لما فيه من زيادة الفائدة وهي أنه يلزمه الضامن بالمال ولو كان بيد الطالب رهن وتأمله مع قوله بعد . سئل سحنون عمن وجب عليه غرم مال ؟ فقال : هذا ربعي لم أجد من يشتريه فطلب منه الطالب حميلاً بالوجه فقال : لا حميل عليه إذا بذل من نفسه ذلك ولم يتهم ، فإن زعم الطالب أنه يقول للمشتري : لا تشتريفإن الحاكم يشيده ثم يبيعه بالخيار رجاء الزيادة اه . ولكن ما أفتى به ابن مالك وقاله سحنون هو الذي عليه عمل فاس قال ناظمه :
ومن بدين قد أقر بسجن
إن لم يجىء برهن أو من يضمن
وإذا جعله رهناً وأشاده الحاكم للبيع بعد انقضاء ما أجله إليه فإنه يجري على قول ( خ ) : وعجل بيع الحيوان واستوفى بعقاره كالشهرين الخ . وقد تقدم أنه إذا انقضى الشهران يباع ولو لم يبلغ القيمة لأنه غاية المقدور ، وكذا قال ابن رشد في بيع ربع اليتيم للنفقة عليه اه .
وَالحَبْسِ لِلْمُلِدِّ وَالمُتَّهَمْ
إلى الأداءِ أَوْ ثُبُوتِ العَدَمْ
( والحبس للملد والمتهم ) يستمر ( إلى الأداء أو ثبوت العدم .
ولَيْسَ يُنْجِيه مِن اعتقالِ
إلاَّ حميلٌ غارمٌ للمالِ
و ) إن وعد بقضاء ف ( ليس ينجيه من اعتقال . إلا حميل غارم للمال )
هذا هو ظاهر الملاء المتقدم ، وظاهره أنه لا بد له من حميل بالمال وعد بالقضاء أو سأل التأجيل لثبوت عسره ، وهذا قول سحنون . واقتصر عليه في المقدمات وابن سلمون ، وتبعهما الناظم . ولكن المشهور التفصيل بين أن يعد بالقضاء فيؤجل بالحميل بالمال اتفاقاً كما قال ( خ ) : وإن وعد بالقضاء وسأل تأخيراً كاليوم أعطى حميلاً بالمال وبين أن يسأل التأجيل لثبوت عسره فبحميل بالوجه عند ابن القاسم وهو الراجح . وقال سحنون بالمال أيضاً . قال ابن سهل : وأما من ظاهره الملاء ولم يعلم ملاؤه ولكن يتهم على إخفاء المال فقال سحنون وغيره : يسجن حتى يتبين أمره . قال سحنون : ولا يؤخذ منه حميل بالوجه ولكن بالمال . قال ابن القاسم : يؤخذ منه الحميل ، وفهموه على أنه يريد حميل الوجه ، واختلف في قول ابن القاسم وسحنون فقيل خلاف ، وقيل وفاق . فيحمل قول سحنون على إنه كان ملداً ظاهر الملاء . وقول ابن القاسم على غيره اه . ونقله في التوضيح ودرج عليه في الشامل فقال : ومن تفالس وظاهره الملاء سجن أيضاً ولو شهدت بينة بفقره إن لم تزك وحيث يقبل منه الحميل فهل بمال أو وجه ؟ ورجح قولان وهل القولان على ظاهرهما أو الأول للملد والثاني لغيره ؟ خلاف اه . ابن رحال : الراجح فيما يظهر لنا أنه وفاق بدليل اقتصار العبدوسي عليه اه . وقد علمت من هذا أن الراجح قول ابن القاسم وإن كان في المقدمات اقتصر على قول سحنون وتبعه ابن سلمون والناظم وقرره ( م ) ومن تبعه على ظاهره ، وقد علمت أيضاً أن هذا ليس قسماً زائداً على الأقسام المتقدمة ، وأن جعلهم المجهول ينقسم إلى متهم وغيره غير سديد إذ لم يقله أحد لأن الملد المتهم غير المجهول إذ لا يحكم عليه باللدد والتهمة حتى يكون ظاهره يخالف دعواه وهو ظاهر الملاء حينئذ والله أعلم .وبالجملة : فالأقسام ثلاثة : مجهول الحال ، وظاهر الملاء وعنه عبر ابن رشد بالملد والمتهم ، ومعلوم الملاء ويدخل فيه المعسر الذي له عروض كما مر التنبيه عليه ، فإن كان ثابت العدم من أول الأمر كانت الأقسام أربعة ، ولهذا كان الأولى للناظم حذف الأول من هذين البيتين ويذكر ثانيهما عقب قوله : ولا يؤخر ، ويحذف أيضاً قوله : أو معسر لأنه داخل في قوله : ومن على الأموال قد تقعدا الخ . كما يحذف أيضاً قوله :
وَحَبْسُ مَنْ غَابَ عَلى المَالِ إلى
أدَائِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُعْتَقِلا
( وحبس من غاب على المال ) مستمر ( إلى أدائه أو موته معتقلا ) إذ هو معلوم الملاء . وقد تقدم له حكمه ، وبالجملة فقد وقع للناظم رحمه الله في هذه الأبيات الخمسة عشر مع الأبيات الثلاثة بعدها من التداخل والإطناب وعدم الترتيب والإخلال ببعض القيود ما لا يخفى ، وقد كنت أصلحتها في هذه الأبيات ونصها :
ومن عليه الدين إما ظاهر
أو مبهم في حاله أو موسر
فأول يسجن للأداء
ما لم يكن وعد بالقضاء
فبحميل الوجه جاء ينظر
عنهم بغير ذاك لا يؤخر
وإن يكن سأل للعدم الاجل
فبحميل الوجه في القول الأجل
وحيث جاء الثاني بالحميل
بالوجه ما للسجن من سبيل
وإن يكن عن الحميل عجزه
فواجب بالسنة اختباره
فالدين إن كان يسير القدر
فسجنه مقدار نصف شهر
والحبس في توسيطه شهران
وضعف ذين في الخطير الشان
وثالث بالضرب والسجن حكم
وعسره الثابت بعد كالعدم
إلا إذا أشهد بالذهاب
للمال بالحرق والاغتصاب
وإن أتى بضامن فبالأدا
حتى يؤدي ما عليه قعدا
وكل من سأل تأجيلا لما
يبيع من عروضه ملتزما
فبحميل المال قد يؤجل
بقدر دينه يكون الأجل
وقولنا : وكل من سأل الخ . يشمل معلوم الملاء وظاهره ومجهوله إذ بطلبه التأجيل للبيع علم ملاؤه .
وَغَيْرُ أهْلِ الوَفْرِ مَهْمَا قَصَدا
تأْخِيرَهُ وَبالقَضَاءِ وَعَدا( وغير أهل الوفر ) وهو في اللغة المال الكثير ، والمراد به هنا مطلق المال وغير أهله هو ظاهر الملاء ومجهوله ( مهما قصدا ) أي طلب ( تأخيره وبالقضاء وعدا .
مُكِّنَ مِنْ ذَاكَ بِضَامِنِ وإنْ
لم يأتِ بالضَّامِنِ لِلْمَالِ سُجِنْ
مكن من ذاك بضامن ) بالمال ( وإن لم يأت بالضامن بالمال سجن ) كما مر في قول ( خ ) وإن وعد بقضاء وسأل تأخيراً كاليومين أعطى حميلاً بالمال وإلا سجن الخ . وإنما أدخلنا في كلامه المجهول لأنه بوعده بالقضاء انتفى جهله .
وَمَنْ له وَفْرٌ فَلَيْسَ يُضْمَنُ
فَإنْ قَضَى الْحَقَّ وَإلاَّ يُسْجَنُ
( ومن له وفر ) وهو معلوم الملاء المعروف بالناض ( فليس يضمن ) ولا يؤخر ( فإن قضى الحق ) الذي عليه بذلك الناض فذاك ( وإلا ) يقضه ( يسجن ) ( خ ) : وإن عرف بالناض لم يؤخر وضرب المرة بعد المرة .
وَأَوْجَبَ ابْنُ زَرْبٍ أَنْ يُحَلّفَا
مَنْ كَانَ باكْتِسَابِ عَيْنٍ عُرفا
( وأوجب ) القاضي أبو بكر ( ابن زرب أن يحلفا من كان باكتساب عين عرفا ) وهم التجار لأن الغالب على أحوالهم حضور الناض ، وتقدم عند قوله : أو معسر الخ . أن هذه اليمين جارية على إيمان التهم والمعروف توجهها من غير فرق بين تجار وغيرهم ، وابن زرب توسط في ذلك فأوجبها على التجار دون غيرهم .
ومُحْمِلُ النَّاسِ عَلَى حال المَلاَ
عَلَى الأَصَحِّ وَبِهِ الحُكْمُ خَلا
( ومحمل الناس على حال الملا ) ء فمن ادعى العدم فعليه إثباته ( على الأصح ) قاله ابن الحاج ( وبه الحكم ) والعمل ( خلا ) ومضى . وهذا مما قدم فيه الغالب على الأصل لأن الإنسان يولد ولا شيء له لكن الغالب عليه التكسب وصفة الشهادة بالعدم أن يقولوا : نعرف فلاناً المعرفة التامة ونشهد بأنه فقير عديم لا نعلم له مالاً ظاهراً ولا باطناً ، فإن قطع الشهود وقالوا : لا مال له ظاهراً ولا باطناً فقيل : لا تجوز لأنها تحمل على ظاهرها من البت ، وقيل تجوز وتحمل على العلم ، فإن صرحوا بالبت والقطع لم تجز قولاً واحداً قاله ابن رشد . وقد يغتفر للعوام التصريح بالقطع فيها قياساً على ما قيدوا به قول ( خ ) : أو شهد وحلف .وَيَشْهَدُ الناسُ بِضْعَفٍ أَوْ عَدَمْ
وَلا غِنَى فِي الحَالَتيْنِ مِنْ قَسَمْ
( و ) يجوز أن ( يشهد الناس ) للمدين ( بضعف ) لحاله وقلة ذات يده لضعف صنعته أو تجارته ، وصفتها أن يقولوا : يعرف شهوده فلاناً ويعلمونه ضعيف الحال بادي الإقلال قليل ذات اليد مقدوراً عليه في رزقه وحاله متصلة على ذلك إلى الآن في علمهم ، فإذا ثبت هذا الرسم أخذ منه القليل الذي في يده ودفع للغرماء بعد أن يحلف أن لا شيء له غيره ( أو عدم ) أي كما يجوز أن يشهد الناس للمدين بالعدم المحض وأنه لا شيء له في علمهم كما مر قريباً فإن شهدت إحداهما بالضعف أو العدم وشهدت أخرى لرب الحق بالملاء فإن بينة الملاء تقدم على المعمول به بينت أم لا . كما في الأجهوري خلافاً لما في ( خ ) من أنها لا تقدم إلا إذا بينت أنه أخفى مالاً أو عينت له داراً مثلاً كما يأتي عند قوله : ومن بماله أحاط الدين الخ . وتقدمت هذه المسألة آخر الشهادات عند الكلام على تعارض البينات فانظرها هناك مع نظائرها .
( ولا غنى في الحالتين ) وهما شهادتهم بالضعف وشهادتهم بالعدم ( من ) أي عن ( قسم ) من المدين لأنه إنما شهدوا له بظاهر الحال ، فلا بد من حلفه على الباطن واختلف هل يحلف .
بمَا اقْتَضاه الرَّسْمُ لا اليقينِ
إذْ لاَ يَصِحُّ بَتُّ ذِي اليَمِينِ
( بما ) أي على وفاق ما ( اقتضاه الرسم ) فيقسم أنه لا يعلم لنفسه مالاً ظاهراً ولا باطناً على طبق ما شهدوا له به في الرسم و ( لا ) يكلف الحلف على ( اليقين ) والبت بأن يقول : لا مال لي وهو الذي اعتمده ( خ ) والناظم وعلله بقوله : ( إذ لا يصح بت ذي اليمين ) لإمكان إرثه مالاً لم يعلم به أو يحلف على البت والقطع فيقول : لا مال له ظاهراً ولا باطناً وإن وجده ليقضينه وهو المذهب ، فإذا حلف أخر المعدم وأخذ من الضعيف ما بيده ودفع للغرماء ( خ ) : وترك له قوته والنفقة الواجبة عليه لظن يسرته ، ثم إذا ادعى الطالب عليه بعد هذه اليمين أنه أفاد مالاً لم يحلف المدين لرد هذه الدعوى لأنه قد حلف على ذلك حيث قال : وإن وجده ليقضينه إذ لا فائدة لتلك الزيادة إلا ذاك .
وَمَنْ نُكُولُهُ عن الحَلْفِ بَدَا
فَإنَّهُ يُسْجَنُ بَعْدُ أَبَدَا
( ومن نكوله عن الحلف بدا فإنه يسجن بعد أبدا ) ولا يسرح حتى يؤدي دينه لأن نكوله تهمة .وَحَيْثُ تَمَّ رَسْمُهُ وَعُدَّمَا
كانَ عَدِيماً لأولاءِ الغُرَمَا
( وحيث تم رسمه ) وحلف معه ( وعدما ) بتشديد الدال أي حكم الحاكم بعدمه أو ضعفه ( كان عديماً لأولاء الغرما ) فلا مطالبة لهم عليه ولو طال الزمان .
إلاَّ إذَا اسْتَفَادَ مِنْ بعدِ العَدَمْ
مالاً فَيَطْلُبُونَهُ بالمُلْتَزَمْ
( إلا أن ) يعلم أنه ( استفاد من بعد العدم ) الثابت بالبينة ( مالاً ) بإرث أو هبة أو تجارة ( ف ) إنهم حينئذ ( يطلبونه بالملتزم ) من الدين الباقي في ذمته ولو داين غيرهم من بعد ثبوت عدمه فقام عليه غير الأولين فلا دخول للأولين معهم إلا فيما يحصل له من الربح ، وإذا مضت مدة من العدم الأول فإنه يكلف تجديد عدم للآخرين ، وإن عدمه الأول متصل إلى الآن ولا يعلمون أنه استفاد مالاً إلى قيام هؤلاء الآخرين عليه ، لأن الآخرين لم يحكم عليهم ولا عذر لهم في شهود العدم الأول فيجب أن يجدد البينة باتصال عدمه ويعذر إليهم فيها قاله في الطرر وابن سلمون . ومفهوم قوله : إلا إن استفاد مالاً أنه إذا لم يعلم أنه استفاد شيئاً فهو على عدمه وإن طال الزمان كما قررنا . قال ابن ناجي : وبه العمل ، وفي المعيار وابن سلمون عن ابن الحاج : إنما ينتفع ببينة عدمه إلى ستة أشهر فإن زادت المدة عليها فلا بد من استئناف عدم آخر . قال ابن عاشر في طرره : وبقول ابن الحاج رأيت العمل بفاس اه . ونظمه في العمل المطلق .
وَيَنْبَغِي إعْلانُ حَالِ المُعْدَمِ
في كلِّ مَشْهَدٍ بِأَمْرِ الحَاكِمِ
( و ) إذا ثبت العدم بالبينة التي لا مطعن فيها ف ( ينبغي إعلان حال المعدم ) وإشهار عدمه ( في كل مشهد ) فيطاف به في المجالس والأسواق ( بأمر الحاكم ) ليعلم الناس عدمه فلا يغتر به أحد ولا يعامله أحد إلا على بصيرة من أمره قال الشارح : ما ذكره الناظم من إعلان حاله وهو الذي جرى به العمل من قضاة العدل .
والأصل في ذلك فعل عمر رضي الله عنه اه . وهذا الإشهار نظير إشهار من حجر عليه القاضي وقدم عليه ( خ ) : ونادى بمنع معاملة يتيم وسفيه ، وفي المعيار عن العبدوسي في امرأة مسنة باعت حظها من دار ثم ثبت حجرها قال : وأما النداء عليها فليس من حق المشتري خاصة بل من حقوق المسلمين كافة ينادى عليها في المحافل مكشوفة الوجه لتعرف هذه فلانة الساكنةبموضع كذا ثبت عند القاضي حجرها فكونوا على حذر من معاملتها الخ . ويقام كل من المفلس والمحجر عليه من السوق قال في الشامل : ويقام المفلس من السوق على الأصح كسفيه حجر عليه اه . وذكر ابن ناجي أن العمل على عدم إشهار المعدم وعدم إطاقته قال : وكذا العمل أنه لا يقام من السوق ونظمه في العمل المطلق أيضاً ، ولكن تقدم في غير ما موضع أن عمل فاس تابع لعمل الأندلس لا لعمل تونس فلا يعول على ما لابن ناجي لما فيه من غرر المسلمين ، ولأن الرجل إذا علم إشهاره عند عدمه لم يتجرأ على أخذ الدين وإذا أخذه حمله ذلك على القضاء ولأنه الوارد عن السلف فلا ينبغي للقاضي إهمال هذا الفصل بحال ، وإلاَّ فقد تعرض لتضييع حقوق المسلمين وهو واجب عليه حفظها والله أعلم .
وَمُثْبِتٌ لِلضَّعف حالُ دَفْعهِ
لغُرَمَائِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ
( ومثبت ) مبتدأ سوغه تعلق ( للضعف ) به ( حال دفعه ) مبتدأ ثان ( لغرمائه ) يتعلق بدفع ( بقدر وسعه ) خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول ، وتقدم أنه يدفع لغرماء ما بيده بعد حلفه وهو مراده بقدر وسعه وطاقته ، وكان الأنسب تقديم هذا البيت هناك .
وَطَالِبٌ تَفْتِيشَ دَارِ المُعْسِرِ
ممتَنِعٌ إسْعَافُهُ في الأَكْثَرِ
( وطالب تفتيش دار ) المدين ( المعسر ) أي مدعي العسر وقبل ثبوته وحلفه نازعه رب الدين وادعى أن له أموالاً وأمتعة بداره وسأل تفتيشها ( ممتنع إسعافه ) أي فلا يجاب إلى تفتيشها ( في ) قول ( الأكثر ) ابن عتاب وابن مالك ومن وافقهما . قال ابن ناجي : وبه العمل ومقابله لفقهاء طليطلة ، وقاله ابن شعبان وابن القطان ورجحه ابن رشد . وقال ابن سهل : أنا أراه حسناً فيمن ظاهره اللدد والمطل اه . قال بعض : وهو اللائق بهذا الزمان لكثرة اللدد والمطل .
قلت : وهو الذي يجب اعتماده وعليه فما ألفى في داره من متاع النساء فادعته زوجته فهو لها ، وما ألفى فيها من متاع الرجال بيع وقضى منه دينه وهو محمول على أنه له كما يأتي عند قولالناظم : وهو مصدق إذا ما عينا الخ . من أنه لا يصدق في دعواه أنه عارية أو وديعة حتى يثبت ذلك بل يعين ربها ويشهد لهما الناس بذلك كما قال ( خ ) : وقبل تعيينه القراض والوديعة إن قامت بينة بأصله أي : بأن عنده قراضاً أو وديعة وإن لم تشهد بعينها ، ومفهوم دار أنه إذا سأل تفتيش جيبه أو كمه أو كيسه فإنه يجاب إلى ذلك وهو كذلك لأنه أخف من الدار . قال ابن ناجي : وبه حكمت .
فصل في الفلسمشتق من الفلوس عياض : لأن المفلس صار ذا فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة الخ . والمراد أنه صار وضيعاً بعد أن كان ذا عز وشرف ، وفي الخبر الصحيح : ( إن نفس المؤمن مرهونة بدينه ) أي محبوسة عن مقامها الكريم في البرزخ فلا تكون منبسطة فيه مع الأرواح المنبسطة فيه ، ومحبوسة أيضاً بمعنى معوقة عن دخول الجنة حتى يرضيه الله من عنده ، أو يعوضه بقدر دينه من حسناته إن وجدت فإن لم توجد طرح عليه من سيئاته انظر ( ز ) . واعلم أن لمن أحاط الدين بماله ثلاثة أحوال :
الأولى : قبل قيام الغرماء فلا يجوز له تصرف في شيء من ماله بغير عوض كالهبة والصدقة والعتق والإقرار لمن يتهم عليه ، وإلى هذه الحالة أشار الناظم بقوله :
وَمَنْ بِمَالِهِ أَحَاطَ الدَّيْنُ لا
يَمْضي له تَبَرُّعٌ إنْ فَعَلا
( ومن بماله أحاط الدين لا يمضي له تبرع ) من عتق وما ذكر معه ولهم رده إن لم يعلموا به إلا حين قيامهم ( إن ) هو ( فعلا ) ومعنى أحاط زاد أو ساوى لأن العلة وهي إتلاف مال الغرماء داخلة في المساوى ، وهذا إذا ثبتت الإحاطة فإن لم تثبت فتبرعه ماض حتى تثبت فيرد ، ومفهوم تبرع أن تصرفه بالبيع والشراء ماض وهو كذلك إن لم يحاب ، وإلا فالدين أحق بالمحاباة لأنه هبة وكذا تمضي نفقته على أبيه وابنه ونفقة عيدين وأضيحة لأنها ليست من التبرع ولو أسرف في ذلك وفات بذهاب عينه تبعه بالسرف فإن كانت عينه قائمة فيرد السرف ودخل في قوله : ومن بماله أحاط الدين الخ : الحميل إذا تحمل بما يحيط بماله فإنه لا يجوز له التبرع قاله أبو الحسن . ومفهومأحاط إن من لم يحط الدين بماله إذا قام عليه ربه ، فأما ان يكون معلوم الملاء أو ظاهره أو مجهول الحال فيجري على ما تقدم في الفصل قبله ، فإن ادعى العدم وأثبت ربه ملكاً معيناً له ، فإن أقر بذلك أمره الحاكم ببيعه فإن أبى حكم عليه بالضرب والسجن حتى يبيعه ولا يبيعه الحاكم عليه كبيعه على المفلس كما مر ، لأن هذا لم يفلس وإن أنكر أنه ملكه باعه الحاكم حينئذ نقله ( ح ) .
تنبيه : وكما للغريم منعه من تبرعه كذلك له أن يمنعه من سفره إن كان الدين يحل بغيبته ولم يوكل من يقضيه ولا ضمنه موسر ، وإلاَّ فلا يمنعه فإن خشي سفره حلف أنه ما يريد سفراً فإن نكل كلف حميلاً ثقة يغرم المال ومحل تحليفه إذا علم وقوفه عند اليمين ، فإن علم أو ظن عدم وقوفه عندها كلف حميلاً ثقة يغرم المال لأن اليمين إنما شرعت لحفظ المال ، فإن علم أو ظن عدم الحفظ لم تشرع ويكون المشروع ما يحصل به الحفظ اه . انظر شرحنا للشامل ، وانظر ما تقدم عند قوله في الضمان : وهو بوجه أو بمال جار الخ . من أن الإنسان إذ باع سلعة إلى أجل فظهر من المشتري إخلال وأنه لا يوجد له عند الأجل شيء فإنه يكلف بحميل أو رهن أو يضرب على يده فيما بيده .
والحالة الثانية بعد قيام الغرماء وقبل حكم الحاكم بخلع ماله فلا يجوز له تصرف ببيع ولا بغيره كما قال :
وَإنْ يَكُنْ لِلْغُرَمَا في أمْرِهِ
تَشَاوُراً فَلاَ غِنًى عنْ حجْرِهِ
( وإن يكن للغرما في أمره تشاوراً ) بأن قاموا عليه وأرادوا تفليسه ولو لم يرفعوه للحاكم ( فلا غنى عن حجره ) لهم بأن لا يمضي له بيع وقع بعد قيامهم ولا شراء ولا قضاء بعض غرمائه دون بعض ، ولا إقراره إلا إذا أقر لمن لا يتهم عليه بمجلس القيام أو قربه ، والحال أن جميع دينه ثابت بإقرار لا إن ثبت جميع دينه ببينة لأنه أدخل نقصاً على من ثبت دينه بالبينة بمجرد قوله بأن كان بعضه بإقرار وبعضه ببينة ، فإنه يدخل مع من ثبت دينه بإقرار لا ببينة ، ولو تداين في هذه الحالة دخل الأولون مع الآخرين فيما بيده وما ذكره الناظم من أن التشاور هو حد التفليس هو قول ابن القاسم ، وقيل التفليس هو حكم الحاكم ، وقيل هو سجن المدين .
والحالة الثالثة : أن يقوموا ويرفعوه للحاكم ويحكم بخلع ماله لهم ، وفائدتها أنه إذا تداين بعد الحكم المذكور فلا دخول للأولين فيما بيده إلا أن يكون فيه فضل ربح كما أنه إذا مكنهم قبل الرفع من ماله فباعوا واقتسموا ، ثم داين غيرهم فلا دخول للأولين مع الآخرين إلا إذا بقي بيده فضل ربح أيضاً وأشار ( خ ) إلى الحالة الأولى بقوله : للغريم منع من أحاط الدين بماله من تبرعه وسفره إن حل بغيبته ، وإلى الحالة الثانية بقوله : وفلس حضر أو غاب إن لم يعلم ملاؤهبطلبه ديناً حل فمنع من تصرف مالي الخ . فقوله : فلس أي حجر ، والضمير المجرور بالمصدر في قوله : بطلبه يعود على رب الدين لا على التفليس كما لشراحه أي : بطلب رب الدين دينه الحال زاد على ماله أو بقي ما لا يفي بالمؤجل وطلبه هو قيامه عليه به فيستتر المدين عنه أو يواعده للمحاسبة ونحو ذلك ، فيبيع أو يشتري في ذلك الوقت فإن ذلك يرد لأنه بقيامه حكم الشرع بحجره له ، وإلى الثالثة بقوله : ولو مكنهم الغريم فباعوا واقتسموا ثم داين غيرهم فلا دخول للأولين مع الآخرين كتفليس الحاكم الخ . وكل حالة من هذه الأحوال تمنع بما تمنعه التي قبلها ولا عكس .
ولما كانت الحالة الثانية حجراً شرعياً كالثالثة قسم ابن عرفة التفليس إلى أعم وأخص فقال في الأعم : قيام ذي دين على مدينه ليس له ما يفي به موجبه أي ثمرته منع دخول إقرار المدين على متقدم دينه ، وقال في الأخص : حكم الحاكم بخلع كل مال المدين لغرمائه لعجزه عن قضاء ما لزمه موجبه منع دخول دين سابق عليه على لاحق بمعاملة بعده اه . واعترض بأن من شأن الأعم صدقه على الأخص ، وهو هنا ليس كذلك إذ الأعم قيام الغرماء . والأخص حكم الحاكم وهما متباينان ، وتقدم مثل هذا الاعتراض عليه في الشركة حيث قسمها إلى أعم وأخص ، وما أجيب به عنه هنا من الأعمية باعتبار الأحكام لا باعتبار الصدق ، ولا شك أن الأخص إذا ثبت منع من كل ما منعه الأعم وزيادة دون العكس فغير ظاهر لأنه يقتضي أن يكون حكم الحاكم هو الأعم ، وقيام الغرماء هو الأخص ، والواقع في كلام ابن عرفة خلافه ، وإنما الجواب الحق أن يقال إنه لا مباينة بين الرسمين لأنه اعتبر في الأخص قيدين . أحدهما : حكم الحاكم ، وثانيهما : قوله لغرمائه إذ اللام فيه يتعين أن تكون بمعنى ( عند ) كقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس } ( الإسراء : 78 ) وهو على حذف مضاف دل عليه المعنى أي : هو حكم الحاكم عند قيام الغرماء فكأنه قال هو قيام الغرماء مع حكم الحاكم ولم يعتبر في الأعم حكماً والشيء مهما ازداد قيداً ازداد خصوصاً نظيره الحيوان مع الحيوان الناطق ، فالأول أعم من الثاني قطعاً لصدقه بالناطق وبغيره ، وكذا قيام الغرماء في كلام ابن عرفة هو مقيد في الأخص بالحكم ، ولم يقيد به في الأعم . فالأحكام المترتبة على الأعم في كلام ابن عرفة توجد بوجوده وجد مع ذلك الأعم حكم حاكم أم لا . والأحكام المترتبة على الأخص لا توجد إلا مع حكم الحاكم . لا يقال : إذا مكنهم الغريم فباعوا واقتسموا فقد وجد الحكم المرتب على الأخص وهو عدم دخول الأولين مع الآخرين مع أنه لا حكم هنا لأنا نقول : تمكينه من البيع والقسمة بمنزلة حكم الحاكم ، إذ لو رفع الأمر إليه لم يفعل غير ذلك ، وإذا علمت صحة تقسيم التفليس بمعنى التحجير إلى أعم وأخص وأن كلاً منهما يترتب عليه حكم لم يترتب على الآخر سقط بحث مصطفى رحمه الله مع ابن عرفة بأن ابن رشد لم يعبر بالأعم والأخص ، وبأن حدّه للأخص غير مطابق لابن رشد لأن ابن رشد لم يجعله حكم الحاكم بخلع كل ماله بل جعله التمكين من البيع واقتسام المال إنما هو المانع من دخول الأولين الخ . ووجه سقوط بحثه أن ابن رشد جعل كلاً من التمكين وحكم الحاكم مانعاً من دخول الأولين ، لأنه قال : إذا مكنهم فباعوا واقتسموا فذلك مانع من دخول الأولين كتفليس السلطان الخ . وتفليس السلطان هو حكمه بخلع كل المال الخ . وإذا صحت الأعمية والأخصية معنى صح التعبير بهما وإن لم يعبر بهما ابن رشد ولا غيره ، والله أعلم .فرع : قال في المدونة : وإذا كان لشخصين دين منجم فأذن أحدهما للآخر بقبض نجم من نجومه على أن يقبض هو النجم الذي بعده ، فلما قبضه الأول فلس المدين فليرجع هذا على صاحبه لأنه سلف منه اه .
وَحَلَّ مَا عليهِ مِنْ دُيُونِ
إذْ ذاك كالحُلُول بالمَنُونِ
( و ) إذا قام عليه الغرماء فمكنهم من ماله فأرادوا البيع والقسمة أو حكم الحاكم بخلع كل ماله ( حل ) بواحد من الأمرين ( ما عليه من ديون إذ ذاك ) ولو دين كراء ولو لم تستوف منفعته كدار مثلاً اكتراها وجيبة وفلس قبل مضي المدة ، فإن المكري يحاصص بكرائه ( كالحلول ) أي كحلول الدين ولو كراء لم تستوف منفعته أيضاً ( بالمنون ) أي بالموت ( خ ) : وحل به وبالموت ما أجل ولو دين كراء ، ثم إذا حل غير المستوفي منفعته ففي الموت يبقى الكراء لازماً للمكري والورثة ويحاصص المكرى به ولا خيار له ، وأما في الفلس فيخير المكري بين أن يسلم المنفعة للغرماء ويحاصص بالكراء ، وبين أن يرجع في عين شيئه كله إن لم يستوف شيئاً من المنفعة فإن استوفى بعضها حاصص بما يقابل ما استوفى منها ويخير فيما لم يستوف في الرجوع فيما بقي من المنفعة وفي إسلامه والمحاصصة بما ينوبه من الكراء .
تنبيهان . الأول : يباع ماله بالخيار ثلاثاً إذ بيع الحاكم إنما يكون بما ذكر فإن باع بغير خيار فللغرماء أو للمفلس رده كما في ( ز ) . وأما بيعهم حيث مكنهم منه بغير حكم فهو بغير خيار ويترك له قوته والنفقة الواجبة عليه لظن يسرته ، ويقسم ما حصل من ثمن ماله بنسبة الديون الخ كما في ( خ ) .
الثاني : ما قررناه به من إدخال صورة تمكين الغريم من البيع والقسمة في كلامه هو المتعين كما هو ظاهر إطلاقه واطلاق غيره خلافاً لما في الزرقاني من أنه لا يحل الدين في تلك الصورة قائلاً ، وإنما يحل بالحكم فقط أو الموت الخ . لما علمت من أنه إذا مكنهم من بيع كل ماله لم يبق شيء للمؤجل دينه فيكون مخالفاً لما مّر عن ( خ ) أو بقي ما لا يفي المؤجل الخ . وقد قال اللخمي : الديون المؤجلة لا حجر بسببها إلا أن تتغير حاله أو يظهر منه إتلاف يخشى معه أن لا يوجد عنده عند الأجل شيء فيحجر عليه ، ويحل دينه إلا أن يضمن له أو يجد ثقة يتجر له به ويحال بينه وبينه اه . ومخالف أيضاً لما مر عن ابن رشد من أن اقتسامهم للمال بمنزلة تفليس السلطان سواء ، وبعد كتبي هذا وجدت للشيخ بناني اعتراضاً عليه بمثل ما ذكر .
والاعِتصارُ لَيْسَ بالمُكَلِّف
لَهُ وَلا قُبُولُ غَيْرِ السَّلَفِ
( و ) إذا كان المدين قد وهب لولده شيئاً قبل إحاطة الدين بماله فالهبة صحيحة فإذا فلس بعد ذلك ف ( الاعتصار ) للهبة المذكورة ( ليس بالمكلف ) أي اللازم ( له ) فإن اعتصر كان للغرماءأخذها ( ولا ) يكلف عليه أيضاً ( قبول غير السلف ) من هبة أو صدقة أو مداينة وكل ما تلحقه فيه منة ، وأما السلف كما لو طاع شخص بأداء الدين عن المدين وبقائه فإذا حصل له يسر ما رجع به عليه فإنه لا كلام للمدين حاضراً كان أو غائباً أذن في الأداء عنه أم لا ( خ ) : تشبيهاً في اللزوم كأدائه رفقاً لا عنتاً الخ . وتقدم قول الناظم : إذ قد يؤدي الدين من لا أذنا الخ . فإن قال المسلف : أنا لا أسلفه إلا إذا رضي المدين بقبوله أو طلبه مني فإن المدين لا يلزمه القبول حينئذ ولا الطلب ، فمفهوم النظم فيه تفصيل . وهذا الثاني هو المشار له بقوله ( خ ) : ولا يلزم بتكسب وتسلف واستشفاع وعفو للدية وانتزاع مال رقيقه وما وهبه لولده الخ . فلا معارضة بين مفهوم النظم ، وما لخليل من عدم لزوم تسلفه ، وقوله : ولا يلزم بتكسب الخ . تقدم أن محل هذا إذا لم يداين ليقضيهم من صنعته وإلاَّ أجبر عليها كما مّر عند قوله : أو معدم وقد أبان معذره الخ .
وهو مُصَدَّقٌ إذَا مَا عَيَّنا
مالاً له وَما عليه أُمِّنَا
( وهو ) أي المفلس ( مصدق إذ ما قد عينا مالاً له وما ) أي ومالاً ( عليه أمنا ) بأن قال : هذا مالي وهذا أمانة عندي قراض أو وديعة أو عارية أو بضاعة فلا تقربوه ويكون للمقر له بيمينه كما في الطرر ، وقيل لا يصدق ، وثالثها المشهور يصدق إن قامت بأصله بينة تشهد أنهم يعلمون أن عنده سلعة وديعة أو قراضاً وإن لم يعينوها ولا سموا ربها ويكون ربها الذي أقر به المقر أحق بها ولو ممن يتهم عليه كأخيه وابنه لأن قيام البينة ينفي تهمته فإن لم يعينه المقر ولا البينة ولم يدع تلك السلعة أحد فتوضع في بيت المال على قاعدة المال الذي ضل صاحبه ( خ ) : وقبل تعيينه القراض والوديعة إن قامت بينة بأصله الخ . وظاهره أنه يأخذه ذو البينة بغير يمين وهو كذلك ، ومثل البينة بأصله ما إذا شهدت أنه أقر قبل التفليس أن بيده للمقر له قراضاً أو وديعة كما في ابن يونس : ومن اكترى أرضاً بثمن إلى أجل فزرعها ثم فلس أو مات فإن المكري يقدم في أخذ كراء أرضه من زرعها على سائر الغرماء ، بل وعلى ساقي الزرع ومرتهنه فلا شيء لهم من زرعها حتى يستوفي المكري كراءه كما قال :وَرَبُّ الأرْضِ المكْتَرَاةِ إنْ طَرَقْ
تَفْلِيسٌ أَوْ مَوْتٌ بِزَرْعِها أَحَقْ
( ورب الأرض المكتراة إن طرق تفليس أو موت بزرعها حق ) . لأن الزرع كرهن بيده في كرائها فيباع ويؤخذ الكراء من ثمنه وحوز الأرض للزرع كحوزه هو له فيقدم على حوز مرتهنه وساقيه لأن حوزها أشد من حوزهما لأنه نشأ عنها ، وليس المراد أنه يأخذ الزرع في الكراء لئلا يؤدي إلى كراء الأرض بما يخرج منها ، ثم ما ذكره من أنه أحق في الموت والفلس خلاف المشهور ، ومذهب المدونة من أنه يكون أحق به في الفلس لا في الموت فلا يكون أحق به بل هو إسوة الغرماء فيه ( خ ) : وقدم في زرعها في الفلس ثم ساقيه ثم مرتهنه أي ما فضل عن المكري يقدم فيه الساقي ، وما فضل عنه يقدم فيه المرتهن ، ثم ما فضل يكون للغرماء .
وَاحْكُمْ بِذَا لِبَائِعٍ أَوْ صَانِعٍ
فيما بِأَيْدِيهِمْ فمَا من مانِعِ
( واحكم بذا ) أي بكونه أحق في الموت والفلس ( لبائع ) سلعة مثلاً ( أو صانع ) كنساج وخياط فلس المشتري قبل قبض السلعة والمستأجر قبل أخذ الثوب من الصانع ، فإن البائع أو الصانع أحق ( فيما ) أي في السلعة والثوب اللذين ( بأيديهم ) حتى يباع ويستوفي الأول ثمنه والثاني أجرته . ( فما من مانع ) لهم من ذلك ( خ ) : والصانع أحق ولو بموت ما في يده الخ . ومفهوم بأيديهم أما بالنسبة للصانع فإنه إذا سلم المصنوع لربه فهو إسوة الغرماء كما لو لم يحزه أصلاً كالبناء فإن رد لربه البعض وبقي البعض الآخر ففيه تفصيل ، فإن كانا بعقد واحد ولم يسم لكل واحد قدراً فله حبس الباقي في أجرته وأجرة المردود ، وإن تعدد عقدهما أو اتحد ولكن سمى لكل واحد قدراً فليس له أن يحبس الباقي في أجرة المردود قاله ابن يونس . وأما بالنسبة للبائع فهو قوله :
ومَا حَوَاهُ مُشْترٍ ويحْضُرُ
فَرَبُّهُ في فَلَسٍ مُخَيَّرُ
( وما ) بيع من السلع و ( حواه ) أي حازه ( مشتر ) من بائعه وقبل أن يدفع ثمنه فلس ( و )الحال أن المبيع ( محضر ) بعينه قائم بذاته ثابت أنه له ببينة أو اعتراف المفلس قبل التفليس ( فربه ) البائع له أو القائم مقامه بإرث أو هبة الثمن أو صدقته ( في فلس مخير ) إن شاء تركه وحاص بثمنه وإن شاء أخذه ولا شيء له وظاهره أن التخيير المذكور ثابت ولو زادت في سوقها أو بدنها أو نقصت فيهما وهو كذلك .
إلا إذَا ما الغُرَمَاءُ دفَعُوا
ثمنَهُ فأَخْذهُ مُمْتنِعُ
( إلا إذا ما الغرماء دفعوا ) له ( ثمنه ) ولو من مالهم ( فأخذه ) له ( ممتنع ) حينئذ . فهذا أحد شروط التخيير ، وثانيهما : أن يمكن أخذه لا إن لم يمكن كبضع ، وثالثها : أن لا يتغير عن حالته لا إن تغير كما لو طحنت الحنطة أو فصل الثوب ونحو ذلك . ورابعها : أن يكون المبيع مما يعرف بعينه لا إن كان مما لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه كالمكيل والموزون والمعدود ، ومفهوم في فلس أنه في الموت إسوة الغرماء ( ح ) : وللغريم أخذ عين ماله المحاز عنه في الفلس لا الموت ولو مسكوكاً أو آبقاً ولزمه أي الآبق خلافاً لمن قال : لا يلزمه لأن أخذ الآبق ابتداء شراء فيكون فاسداً ثم قال : إن لم يفده غرماؤه وأمكن لا بضع وعصمة وقصاص ولم ينتقل لا إن طحنت الحنطة أو خلط بغير مثلي الخ . ومحضر اسم مفعول خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حالية كما قررنا ، وفي بعض النسخ ويحضر بالمضارع المبني للمفعول فإعرابه كالأول ، ومن اشترى شيئاً فوجد عيباً به فرده على بائعه ففلس البائع بعد رده عليه ، وقبل أن يرد الثمن للمشتري فإن الراد لا يكون أحق به بل إسوة الغرماء كما قال :
وَلَيْسَ مَنْ رَدَّ بِعَيْبٍ مَا اشْتَرَى
أَوْلَى بِهِ في فَلَسٍ إنْ اعْتُرَى
( وليس من رد بعيب ما اشترى ) بالبناء للفاعل ( أولى به ) من الغرماء ( في فلس إن اعترى ) وغشي بل هو إسوتهم كما مر بناء على أن الرد بالعيب نقض للبيع ، وأما على أنه ابتداء بيع فيكون أحق به كما في المقدمات ، وظاهره أنه لا يكون أحق به ولو أخذ عن دين وهو كذلك ( خ ) عاطفاً على ما لا يكون أحق به ما نصه : ورد السلعة بعيب وإن أخذت بدين واحترزت بقولي بفلس بعد ردها مما لو ردها عليه بعد فلسه فإنه لا يكون أحق بها مطلقاً سواء بنينا على أن الرد بالعيب نقض للبيع أو ابتداء بيع لأن ابتداء البيع بعد الفلس يمنع من أخذ البائععين شيئه كما قال ( خ ) كبيعه ولم يعلم بفلسه ، وأما لو أراد الرد وأقر بذلك على نفسه فوجد البائع قد فلس ففي كونه أحق بها وتباع في الثمن ، أو لا يكون أحق بها وهو بمنزلة من ردها قبل الفلس ، وصوبه ابن عاشر ومصطفى قولان .
وَالْخُلْفُ في سِلْعَةِ بَيْعٍ فاسِدِ
ثَالِثُهَا اخْتِصَاصُهَا بالناقِدِ
( والخلف في سلعة بيع فاسد ) كما لو ابتاعها بشرط الثنيا أو بشرط الحمل أو وقت نداء الجمعة بثمن نقده فيها أو صيرت له في دين في ذمة بائعها ، واطلع على الفساد بعد تفليس البائع أو موته وفسخ البيع والسلعة لم تفت بيد المشتري وفات ثمنها ، أو كان لا يعرف بعينه فقال سحنون : المشتري أحق بها مطلقاً وهو المعتمد ، وقال ابن المواز : لا يكون أحق بها مطلقاً ( ثالثها ) لابن الماجشون ( اختصاصها بالناقد ) فيكون أحق بها فيه دون الآخذ لها عن دين فلا يكون أحق بها بل هو إسوة الغرماء ( خ ) وفي كون المشتري أحق بالسلعة تفسخ لفساد البيع أو لا أو في النقد أقوال الخ . وقد علمت أن محل الخلاف إذا اطلع على الفساد بعد الفلس وأما لو اطلع عليه قبله فهو أحق بها باتفاق كذا في الرزقاني ، والذي في الرجراجي أن من اشترى شراء فاسداً ففلس البائع بعد أن رد المشتري السلعة فلا سبيل له إليها قولاً واحداً ، وإنما حقه في عين ثمنه إن وجده فإن فلس بعد أن فسخ البيع وقبل أن يرد المشتري السلعة فهل يكون أحق بالسلعة أم لا ؟ فذكر الأقوال المتقدمة . وقولي : والسلعة لم تفت احترازاً مما إذا فاتت فإنه يمضي بالقيمة ويحاصص بباقي الثمن إن كانت أقل ، وقولي : وفات ثمنها احترازاً مما إذا لم يفت وكان يعرف به فإنه يكون أحق به اتفاقاً .
وَزَوْجَةٌ في مَهْرِها كالغُرَما
في فَلَسٍ لا في المَمَاتِ فاعْلَمَا
( وزوجة ) ولو لم يدخل بها الزوج حيث لم يكن دفع لها الصداق . ( في مهرها كالغرما . في فلس لا في الممات فاعلما ) كذا في الجلاب . قال اللخمي : ولا وجه لهذه التفرقة وقيل لا تحاصص فيهما . وثالثها المشهور تحاصص فيهما ( خ ) : وحاصت الزوجة بما أنفقت وبصداقها كالموت الخ . وظاهره أنها تحاصص بجميعه ولو فلس قبل البناء وهو كذلك لأنه دين في ذمته حل بموته أو تفليسه ، وإذا حاصت بجميعه ثم طلقها قبل البناء فإنها ترد ما زاد على تقدير المحاصة بنصفه وقوله : بما أنفقت أي على نفسها أو على الزوج حال يسره في غيبته أو حضرته ، لكن في الغيبة إنما تحاصص بما أنفقت على نفسها من يوم الرفع للحاكم ، وسواء تقدم إنفاقها على دين الغرماء أو تأخر ولو بعد تفليسه لكنه يترك له النفقة الواجبة عليه ومنه نفقة الزوجة إلاأن أنفقت عليه حال عسره ، فإنها لا تحاصص بها ولو غاب لسقوطها عنه بالعسر .
وَحَارِسُ المَتَاعِ والزَّرْعِ وَمَا
أشْبَهَهُ مَعَهُمْ قد قَسَما
( وحارس المتاع والزرع وما أشبهه ) كأجير رعي أو علف ونحوه ( معهم ) أي الغرماء ( قد قسما ) أي حاصص بأجرته في الموت والفلس ولا يكون أحق بما يحرسه ويرعاه إلا أن يكون الراعي لا يبيت بالماشية عند ربها بل يبيت بها بداره فيكون أحق بها ، ومثل الحارس في عدم الاختصاص صاحب الحانوت يحمل كراؤه على مكتريه حتى فلس أو مات فإنه لا يكون أحق بما في الحانوت ( خ ) : تشبيهاً فيما لا اختصاص فيه كأجير رعي ونحوه وذي حانوت فيما به الخ . وأما مكتري الدابة يفلس مكريه أو يموت فإنه أحق بالمعينة أو بمنفعتها قبضت أم لا حيث نقد كراءها حتى يستوفي ما نقده ، وأما غير المعينة وهي المضمونة فإنه أحق بها إن قبضت ( خ ) : والمكتري بالمعينة وبغيرها إن قبضت ولو أديرت الخ .
تتمة : قال المازري : لا يختلف أن الورثة منهيون عن البيع قبل وفاء الدين فإن فعلوا فللغرماء فسخه هذا إن لم يقدروا على أداء الدين إلا بالفسخ ، وأما إن قضاه الورثة من أموالهم أو أسقط الغرماء حقوقهم فالأشهر من المذهب أن البيع لا يفسخ لأن النهي عن البيع لحق المخلوقين ، وقد سقط اه . ابن عبد السلام : وخرج بعضهم على رواية أشهب عن مالك أن الورثة إذا عزلوا للدين أضعافه وباعوا ليرثوا أن البيع باطل ويفسخ فيكون لجميع الغرماء إذا لم يحضروا البيع أخذ السلع من أيدي المشترين إلا أن يشاء المشترون أن يدفعوا قيمة ما في أيديهم أو ثمنه أو بعضه إن كان قائماً اه . وقد تقدم في القسمة والصلح أن الورثة إذا باعوا التركة قبل القسم أو بعده فبيعهم ماض لا ينقض للدين كان فيه محاباة أم لا وإنما كررناها في هذه الأبواب لكثرة وقوعها وكثرة التنازع فيها .
باب في الضرر وسائر الجناياتوَمُحْدِثٌ ما فِيهِ لِلْجَارِ ضَرَرْ
محَقَّقٌ يُمْنَعُ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ
( ومحدث ) بكسر الدال ( ما ) أي شيئاً ( فيه للجار ضرر محقق ) بالبينة كونه ضرراً كالأمثلة الآتية لا محتمل كونه ضرراً أو كان غير ضرر كصوت الصبيان في المكتب وصوت الرحى ونحوهما مما يأتي في الثاني عند قوله : فإن يكن يضر بالمنافع ( يمنع ) من إحداثه ويزال ما أحدثه( من غير نظر ) ولا توقف لقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا ضرر ولا ضرار ) أبو الحسن : اختلف في معناه فقيل معناه لا تدخل على أحد ضرراً فالضرار تأكيد للأول ، وقيل الضرر الذي لك فيه منفعة ، والضرار ما ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة ، وهذا وجه حسن في الحديث قاله ابن عبد البر اه . فاحترز الناظم بالمحقق من المحتمل كما قررنا ، والمحقق شامل لمحقق الوقوع في الحال أو في المستقبل وعبارة ( م ) : واحترز بوصف الضرر بالمحقق من الضرر الذي يكون متوقعاً غير واقع ولا محقق يعني الوقوع في المستقبل ، وذكر الناظم للمحقق أمثلة فقال :
كالفُرْنِ والبَابِ وَمِثْلِ الأَنْدَرِ
أوْ ما لهُ مَضَرَّةٌ بالجُدُرِ
( كالفرن ) يحدث قرب من يتضرر بدخانه أو ناره ومثله الحمام ( خ ) : وقضى بمنع دخان ورائحة كدباغ الخ . وأما دخان المطابخ ونحوها مما لا يستغنى عنه في المعاش ويكون في بعض الأوقات فقط ولا يستدام أمره فلا يمنع منه ، ولو أراد صاحب الدخان القديم إحداث آخر ويضيفه للقديم يمنع من ذلك لزيادة الضرر ، وفيها لو اتخذ مكتري الدار تنوراً يجوز له عمله فيها فاحترقت منه الدار وبيوت الجيران لم يضمن ولو شرط ربها عليه أن لا يوقد فيها ناراً ففعل ضمن ( والباب ) يعني في السكة الغير النافذة أي : فلا يجوز لواحد من سكانها إحداث باب يقابل باب جاره ويشرف عليه منه ، وظاهره ولو نكب أي حرف الباب المحدث عن باب جاره بحيث لا يشرف منه على ما في دار جاره ولا يقطع عنه مرفقاً من إنزال أصحابه ومربط دابته ، وإليه ذهب ابن زرب وابن رشد ، وبه العمل بقرطبة . ابن ناجي : وبه العمل عندنا اه . وقال في التبصرة : إنه الصحيح في المذهب اه . ومقابله أنه إن نكب عن باب جاره بحيث لا يشرف عليه منه ولا يقطع عنه مرفقاً لم يمنع من إحداثه ، وبه أفتى ( خ ) إذ قال : إلا باباً إن نكب الخ . ومفهوم الباب أن الروشن أو الساباط لمن له الجانبان يجوز له إحداثه بغير النافذة ولو بغير إذن ممن يمر تحتهما وهو كذلك على المشهور كما في الزرقاني ، وقيل يمنع إلا بإذن من يمر تحته ، ابن ناجي : وبه العمل . وفي نوازل الدعاوى من المعيار : أن من أراد أن يحدث ساقية أو قادوساً من الماء الحلو أو غيره في غير النافذة ويغطي ذلك بالحجر بحيث لا يضر أحداً فإنه لا يمنع من ذلك ولو بغير إذنهم ، وبنحوه أفتى السراج حسبما نقلناه في نوازلنا ، وأما السكة النافذة فقال في المدونة : لك أن تفتح فيها ما شئت وتحول بابك حيث شئت منها . ابن ناجي : ظاهرها وإن كان مقابلاً لباب غيره وبه العمل اه . ونحوه للمعلم محمد بن الرامي قائلاً : الذي به العمل أن لا يمنع من فتح باب وإن قابل باب رجل آخر إذا كانت الطريق بينهما نافذة اه . ومفهومه أن إنشاء الحانوت قبالة باب آخر يمنع منه ولو في النافذة ، وهو كذلك لأنه أشد ضرراً لتكرر الوارد عليه قالهالبرزلي : ابن ناجي : وبه العمل ، وقيل لا يمنع منه كالباب . قال ابن رشد : وهو مذهب ابن القاسم في المدونة . قال ابن رحال في شرحه المذهب في الحانوت قبالة الباب المنع مطلقاً بسكة نافذة أم لا . ولفق ذلك في بيتين نصهما :
إحداث حانوت لباب غيره
يمنع مطلقاً لدى المنتبه
في نافذ وغيره لما يرى
من علة قد فهمت بلا مرا
ومفهوم قبالة الباب أنه إذا نكبه عن الباب جاز . قال المتيطي : إن الحانوت لا تتخذ للتجارة قبالة باب دار جاره إلا مع التنكيب وإلاَّ منع . ( ومثل الأندر ) فإنه يمنع من إحداثه قبالة دار وبستان لأن ربهما يتضرر بتبنه عند الذرو قاله ابن رشد ( خ ) عاطفاً على ما يمنع منه وأندر قبل بيت الخ . ومثله نفض الحصير على باب داره لتضرر المارة أو الجار بغباره ( أو ) إحداث ( ما له مضرة بالجدر ) جمع جدار كحفر مرحاض بقرب جدار جاره أو بناء رحى تضر به أو حفر بئر كذلك ، فإنه يمنع من ذلك اتفاقاً ( خ ) : عاطفاً على المنع ومضر بجدار كاصطبل الخ . قال في المتيطية : ومن بنى ما يضر بجاره من حمام أو فرن أو لتشبيب ذهب أو فضة أو كير لعمل حديد أو رحى مما يضر بجاره فقال في المجموعة : يمنع من ذلك ، وقاله مالك . قال ابن حبيب : وجوه الضرر كثيرة ، وإنما تتبين عند نزول الحكم فيها فمن ذلك دخان الحمامات والأفران وغبار الأندر ونتن الدباغ . الخ . ومنه إحداث إصطبل فإنه يمنع من إحداثه ملاصقاً لدار جاره مطلقاً كان قبالة باب جاره أم لا لما فيه من الضرر ببول الدواب وزبلها وحركتها كما في شرح ابن حال لأنها لا تسكن أصلاً بخلاف البقر اه . ففي البرزلي سئل اللخمي عمن يدق النوى في بيته لبقره ويبيتها في بيته فقال : يمنع من ذلك لأنه يضر بالبناء ، وأما تبييت البقر فلا ضرر على الجار فيه اه . البرزلي : ظاهره ولو كان يقع منه الندا ، ويحتمل أن لا يكون فيه إلا حركة البقر خاصة ، وأما لو كان معه نداً وضرر للحائط لوجب منعه كما تمنع الأروية المعدة للبهائم اه .
تنبيهان . الأول : تقدم أن حفر البئر إذا كان يضر بجدار جاره فإنه يمنع منه ، وأما إذا كان لا يضر بالجدار وإنما يضر ببئر جاره في تقليل مائها أو إعدائه بالكلية ففيه أقوال . صدر في الشامل في باب الموات بعدم منعه وهو قول أشهب ، وروايته عن مالك قال : لأنه قد أضر به تركه كما أضر بجاره حفره فهو أحق أن يمنع جاره من أن يضر به في منعه الحفر ، وعليه اقتصر ابن شاس وابن الحاجب وهو ظاهر النظم هنا حيث خصص المنع بضرر الجدار لا بماء بئر جاره ، واستظهره ابن بعد السلام أيضاً قائلاً : لأن ضررهما متقابل ويترجح جانب من أراد الإحداث بأنه تصرف في ملكه ، وأما إن وجد عنه مندوحة ولم يتضرر بترك حفره فلا يمكن من حفره لتمحص إضراره بجاره حينئذ ، ومقابله لابن القاسم في المدونة إنه يمنع من حفره وإن اضطر إلى ذلك . اللخمي : ووجهه أن الماء في يد الذي حفر أولاً مع احتمال أن يكون هو الذياختط تلك الأرض أولاً أو آباؤه أو الذي ابتاع منه فلا ينتزع الماء من يده بالشك ، وثالثها يمكن من حفره ما لم يضر ببئر جاره ضرراً بيناً ، وقد علمت أن الأول هو أقواها نقلاً وعلة ، وإن قال في التبصرة : ليس عليه عمل لأنه أي الأول مروي عن مالك ، ورجحه ابن عبد السلام واقتصر عليه الفحول فلا يعدل عنه بحال .
الثاني : ذكر في المعيار عن ابن الرامي أن ضرر الرحى والإصطبل يرتفع عن الجدار ببعدهما عنه بثمانية أشبار أو يشغل ذلك بالبنيان بين دوران البهيمة وحائط الجار انظر كلامه في ( م ) .
فإنْ يكن يَضُرُّ بالمنافِعِ
كالفُرْنِ بالْفُرْنِ فمَا مِنْ مَانِعِ
( فإن يكن ) الشيء المحدث ( يضر بالمنافع ) فقط ( كالفرن ) يحدثه ( ب ) قرب ( الفرن ) أو الرحى يحدثها بقرب أخرى أو حمام كذلك فتقل غلة الأول أو تنقطع بالكلية ( فما من مانع ) من ذلك اتفاقاً حيث كان المحدث لا يضر بالقديم بشيء من وجوه الضرر ، بل في نقصان الغلة أو انقطاعها فقط قاله ابن سهل . ولا مفهوم للمنافع بل كذلك إذا كان ينقص الثمن لا غير كما أفتى به ابن عتاب وصوبه ابن سهل خلافاً لأبي المطرف ، ونقله المتيطي وابن عرفة ونصه : في كون إحداث حمام أو فرن قرب دار تجاوره لا يضرها بدخان ولا غيره إلا أنه يحط من ثمنها ضرراً يمنع أم لا . نقل المتيطي مع ابن سهل عن أبي المطرف مع بعض شيوخ ابن عتاب وله مع بعض شيوخه اه . فلو قال الناظم :
فإن يكن يضر بالمنافع
أو ثمن فما له من مانع
لشملهما . واستدل ابن عتاب لفتواه بعدم اعتبار نقص الأثمان باتفاقهم على عدم اعتبارهم نقص المنافع إذ من لازمها نقص الأثمان ، لكن قال ( ت ) : أفتى ابن منظور بمقابل ما في النظم وإن ضرر المنافع يمنع منه وفي البيان أنه المشهور ذكره في كتاب السداد والأنهار في رجل أحدث رحى قرب أخرى اه .
قلت : فانظره مع ما نقله الشارح و ( ح ) عن ابن رشد أوائل فصل مسقط القيام بالضرر من أنه قسم الضرر إلى ثلاثة أقسام : منه ما يمنع عنه باتفاق كالحمام والفرن ومنه ما لا يمنع منه باتفاق كإحداث فرن قرب فرن آخر يضر به في غلته فقط ، ومنه ما يختلف فيه كأن يحدث في أرضه بناء قرب أندر جاره يمنعه به الريح فقال ابن القاسم : يمنع ، واختلف فيه قول سحنون . قال ابن رشد : والأظهر أنه لا يمنع اه . فأنت ترى ابن رشد بنفسه حكى في مسألة النظم الاتفاق على عدم المنع كما ذكره ابن سهل أيضاً محتجاً به على عدم اعتبار نقص الأثمان ، وراجع ما أشار له ( ت ) عن البيان فلم يسعني الآن مراجعته ، والذي في المعيار عن العبدوسي مثل ما للناظم ولم يحك فيه خلافاً ، وكذا البرزلي ونحوه في مفيد الحكام والتبصرة ، فما للناظم هوالمعتمد الذي عليه الجادة ولا يعدل عنه إلى سواه وإن صح تشهيره والله أعلم . ثم بعد كتبي هذا وقفت على رجوع ( ت ) عما حكاه عن البيان من التشهير انظر نصه في نوازل الضرر من نوازلنا .
تنبيهان . الأول : هل يمنع أرباب النحل أو الحمام أو الدجاج من اتخاذه حيث أضرت بالناس في زروعها وبساتينها ، وهو رواية مطرف عن مالك وعدم منعهم وعلى أرباب الزرع والشجر حفظها وهو قول لابن القاسم وابن كنانة . قال ابن حبيب : ولا يعجبني قول ابن القاسم ، بل قول مطرف أحب إلي ، وبه أقول وهو الحق إن شاء الله ابن عرفة : هذه النازلة تقع كثيراً والصواب أن يحكم فيها بقول مطرف وابن حبيب ، وإن كان خلاف قول ابن القاسم لأن منع أرباب الحيوان أخف ضرراً من ضرر أرباب الزرع والثمار لأنه لا يتأتى لهم حفظها ولا يمكنهم نقل زرعهم ولا أشجارهم ، وإذ التقى ضرران ارتكب أخفهما قال : وبعضهم يذكر ارتكاب أخف الضررين حديثاً ، وبعضهم يذكره أثراً ، وبعضهم يذكره حكماً مجمعاً عليه اه . وما ذكره ابن عرفة من تصويبه لقول مطرف نحوه لعيسى حسبما في نوازل الضرر من المعيار قائلاً : هذه الأشياء لا يستطاع الاحتراز منها ، وقد قيل فيمن له كوى في حائطه تجتمع فيها البراطيل فتؤذي الناس في زروعهم أنه يؤمر بسدها . وقال مالك أيضاً في الدابة الضارية بإفساد الزرع تغرب أو تباع على صاحبها لأنه لا يستطاع الاحتراز منها . وانظر ما مر آخر فصل الإجارة في الدواب تتلف الزرع ونحوه .
الثاني : ظاهر النظم أن ضرر الأصوات غير معتبر ، وحكى ابن ناجي فيه أربعة أقوال . قيل بلغوه مطلقاً قال : وبه العمل عندنا ، وقيل يمنع مطلقاً قاله ابن عتاب ، وبه أفتى شيوخ طليطلة ، وقيل إن عمل بالنهار فالأول وبالليل فالثاني ، وقيل : يجوز إن خف ولم يكن فيه كبير مضرة اه . وما حكى به العمل هو المشهور قال في المعيار عن ابن رشد : والمشهور عدم منع الأصوات مثل الحداد والكماد والنداف اه . وظاهره ولو اشتد ودام وهو ظاهر ( خ ) أيضاً حيث قال عاطفاً على ما لا يمنع منه وصوت ككمد الخ . وقال ابن رحال في شرحه بعد : نقول قد تبين من هذا أن الصوت إذا كان قوياً مستداماً في الليل فإنه يمنع على ما يظهر رجحانه من النقول اه . فانظره .
وَهُوَ عَلَى الحُدُوثِ حتى يَثْبُتَا
خِلافُهُ بِذَا القَضَاءُ ثَبَتَا
( وهو ) أي الضرر إذا تنازعا في قدمه وحدوثه محمول ( على الحدوث حتى يثبتا خلافه بذا ) أي بهذا القول ( القضاء ) والعمل ( ثبتا ) عند الموثقين كابن سلمون وابن فرحون وصاحب المفيد والمتيطي وغيرهم وهذا على أن الضرر يحاز بما تحاز به الأملاك كما يأتي في فصل مسقط القيام بالضرر . وأما على القول بأنه لا يحاز بما تحاز به الأملاك فلا يحتاج إلى النظر في كونه قديماً أو حادثاً بل يجب رفعه وإزالته ولو طالت حيازته .
وَإنْ يكن تَكَشّفاً فَلاَ يُقَرْ
بحيث الأشْخاصُ تَبِينُ والصُّوَرْ( وإن يكن ) الضرر الحادث ( تكشفاً ) كما لو فتح كوة أو باباً في غرفة يشرف منها على ما في دار جاره أو اسطوانه أو بستانه الذي جرت العادة بالترداد إليه بالأهل ولو في بعض الأوقات كزمن الصيف كما في ( ح ) وابن سلمون عن ابن الحاج ( فلا يقر ) ذلك التكشف بل يزال وتغلق الكوة والباب بالبناء وتقلع عتبتهما لئلا يحتج بها إذا طال الزمان ، ويقول : إنما أغلقتها لأعيدها ( خ ) وقضى بسد كوة فتحت أريد سد خلفهما الخ . ومحل إزالته إذا كان قريباً ( بحيث الأشخاص تبين و ) تتميز ( الصور ) فيعرف زيد من عمرو والذكر من الأنثى والحسن من القبيح ، وإلا فلا يقضي بإزالته وظاهره ولو كانت الكوة عالية بحيث لا يمكن الاطلاع منها إلا بسرير ونحوه وهو كذلك على المعمول به كما في المدونة عن مالك . قال ابن فتوح وغيره : وبه العمل خلافاً لما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه يوضع السرير من جهة المحدث للكوة وأن يقف عليه واقف ، فإن أطلعه على دار جاره منع من ذلك وإلاَّ فلا . وجعله ( ح ) تقييداً لقول ( خ ) وقضى بسد كوة الخ . وقد علمت أن المعمول به هو قول مالك أنه يمنع مهما يشهد به أنه ضرر من غير تقييد بسرير ولا غيره كما لأرباب الوثائق ابن فتوح وابن فرحون وابن سلمون وغيرهم فلا يعول على تقييد ( ح ) وما في المعيار والتبصرة من أن الكوة التي لا يمكن الاطلاع منها إلا بسلم وشبهه لا يقضي بسدها كله خلاف المعمول به من قول مالك فيما يظهر كما مر . وقولي في الحادث احترازاً من القديم فإنه لا يقضي بإزالته على المشهور ولو لم تكن فيه منفعة . قال في المدونة : فأما كوة قديمة أو باب قديم لا منفعة له فيه ولا مضرة على جاره فلا يمنع منه اه . ويستثنى من القديم المنار فإنه يمنع المؤذن من الصعود إليه ولو قديماً حتى يجعل به سائراً يمنع من الاطلاع على الجيران من كل جهة حتى لا تتبين أشخاص ولا هيئات ولا أثاث قربت الدار أو بعدت كما في ( ح ) في فصل الآذان .
تنبيهات . الأول : من أحدث كوة يطلع منها على ما يطلع عليه غيره فإنه يمنع من ذلك ولا حجة له في اطلاع غيره لأن هذا زيادة ضرر بمنزلة ما تقدم في زيادة الدخان وسواء كان الزقاق نافذاً أو غير نافذ .
الثاني : من أحدث كوة تقابل أخرى فطلب سد المحدثة فقال له الآخر : سد أنت القديمة فإني إنما سكت عنها نحو خمس سنين أو أربع على حسن الجوار ، ففي كتاب ابن سحنون يحلف صاحب الكوة المحدثة أنه ما ترك القديمة إلى هذه المدة إلا على حسن الجوار غير تارك لحقه ثم تسدان معاً . قاله ابن الرامي قال : ونزلت نازلة في رجل فتح كوة في داره لا يتكشف منها على جاره غير أنه يسمع كلامه فرأى بعضهم أنه ضرر ولم يعتبره آخرون وحكم بقول من لم يعتبره قال : ونزلت أيضاً نازلة وهي أن رجلاً كان له مطلع إلى سطح داره بسترة فسقطت السترة وصاركل من يطلع إلى السطح ينظر لما في دار الجار فطلب منه إعادة السترة فحكم بعدم إعادتها ولكن ينذرهم إذ صعد إلى سطحه قال : وسألت القاضي ابن عبد الرفيع عمن أحدث كوة يرى منها سطوح جيرانه وبعض الجيران يتصرف في سطحه بالنشر ونحوه . فقال : لا يمنع اه .
قلت : تأمل قوله : لا يمنع فإنه مخالف ما قالوه من أن البستان الذي يتردد ربه إليه بالأهل ولو في بعض الأوقات على المعمول به كان به بناء أم لا . كما قاله ابن زيتون فإنه يمنع من إحداث المتكشف عليه والسطوح أكثر تردداً وأقوى فما قالوه من عدم المنع مقابل والله أعلم .
الثالث : من بنى عرصة وفتح فيها أبواباً أو كوة يطلع منها على قاعة غيره فأراد صاحب القاعة منعه وقال : هذا يضرني إذا بنيت أنا قاعتي داراً ، فقال ابن القاسم : وهو الأصح كما في الشامل إنما يمنعه إذا بنى فيقضي عليه حينئذ بسدها ولا يمنعه قبل البناء ، وقال مطرف : يمنعه مطلقاً . وقال ابن الماجشون : لا يمنعه مطلقاً .
وَمَا بِنَتْنِ الرِّيح يُؤْذِي يُمْنَعُ
فَاعِلُهُ كَالدَّبْغِ مَهْمَا يَقَعُ
( وما بنتن الريح يؤذي ) جاره ( يمنع ) منه ( فاعله ) ومحدثه وذلك ( كالدبغ ) والمجزرة والمرحاض الذي لا يغطيه ( مهما يقع ) لأن الرائحة المنتنة تخرق الخياشيم وتصل إلى الأمعاء فتؤذي الإنسان والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام حسبما في الموطأ : ( من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يقرب مسجدنا يؤذينا ) . وتقدم قول ( خ ) ورائحة كدباغ .
وقول مَنْ يُثْبِتْهُ مُقَدَّمُ
عَلَى مَقالِ مَنْ بِنَفْيٍ يَحْكُمُ
( وقول من ) أي شاهد ( يثبته ) أي الضرر ( مقدم ) عند التعارض ( على مقال من ) أي شاهد ( بنفي ) له ( يحكم ) أي يشهد قاله في المتيطية . قال في التبصرة : وبه القضاء وعليه العمل أي لأن المثبت مقدم على من نفى كما مر آخر الشهادات خلافاً لما في المعيار من أنه ينظر إلى أعدل البينتين ، وإذا شهد بنفي الضرر وحكم بمقتضاه ثم تبين خلافه نقض الحكم قاله في الوثائق المجموعة يعني : وكذلك إذا شهد بالضرر ثم تبين خلافه .
وَإن جِدَارٌ ساتِرٌ تَهَدَّمَا
أَوْ كَانَ خَشْيَةَ السُّقُوطِ هُدِّمَا
( وإن جدار ساتر ) بين دارين مملوك لأحدهما فقط وليس بمشترك ( تهدما ) وحده بأمر سماوي ( أو كان ) لم يتهدم وحده بل ( خشية السقوط هدما ) أي هدمه مالكه لميلانه وتلاشيه وخشية سقوطه ولو بقضاء الحاكم عليه بذلك لخشية سقوطه على المارة أو على الجار .فَمَنْ أَبَى بِنَاءَهُ لَنْ يُجْبَرَا
وَقيلَ لِلطَّالِبِ إنْ شِئْتَ اسْتُرَا
( فمن أبى بناءه ) أي الساتر المتهدم وحده أو خشية السقوط ( لن يجبرا ) عليه إذا طلبه صاحبه على الأصح وهو قول ابن القاسم ( وقيل ) أي والحكم إذا لم يجبر أن يقال ( للطالب إن شئت استرا ) على نفسك أو اترك وظاهره أنه لا يجبر ، وإن كان قادراً على بنائه وهو كذلك على المشهور فلو قال المالك : إني محتاج إلى هدمه فقال مطرف وابن الماجشون : ينظر الحاكم في ذلك فإن ظهر صدقه ترك يصلح على نفسه وأمر بإعادته للسترة التي قد لزمته . وقال أصبغ : لا تلزمه إعادته . ابن حبيب : وبقول مطرف أقول نقله في ضيح ، فلو قال الجار للمالك : أعطني أرض حائطك بترابه وعلي الطوب والنفقة فإذا تم حملنا عليه معاً فقال سحنون : لا يجوز لأنه عقد لغير أجل معلوم ولا سمى كل واحد منهما ما يحمل عليه ، وحينئذ فعلى رب القاعة والتراب أن يعطي لرب الطوب والعمل قيمة طوبه وعمله ويكون الجدار له ولو سأل من ذي الجدار المائل أن يأذن له في هدمه وبنائه له على أن يحمل عليه ففعل فقال ابن دينار : سبيل هذا سبيل الشراء فليس لرب الحائط أن يرفع خشب الباني عنه وإن احتاج إليه . ثم أشار إلى مفهوم ما مرّ وهو ما إذا تعمد الهدم فقال :
وعامِدٌ لِلْهَدْمِ دون مُقْتَضِ
عليْهِ بالبِنَاء وحدَهُ قُضِي
( وعامد للهدم ) للجدار الساتر بينه وبين جاره ( دون ) منفعة له في الهدم ولا ( مقتض ) لذلك بل إنما قصد به الضرر لجاره أو العنت ( عليه بالبناء وحده ) حال والمجروران متعلقان بقوله : ( قضي ) والجملة خبر عامد أي قضى عليه بإعادته كما كان اتفاقاً لأنه مضار بجاره ( خ ) : وقضى بإعادة الساتر لغيره أن هدمه ضرراً لا لإصلاح أو انهدم الخ . وظاهر كلام ( خ ) هذا كغيره أنه يجبر على إعادته ولو لم يكن له مال يعني ويباع ممن يبنيه وهو الذي لابن رشد عن سماع يحيى وعيسى وهو المعتمد كما يدل عليه ابن عرفة ، وقيل إنما يجبر على إعادته إذا كان له مال وإلا أدب ولا شيء عليه ، وعليه عول الناظم فقال :
إنْ كانَ ذَا وَجْهٍ وَكانَ مَالَهُ
وَالْعَجْزُ عَنْهُ أدباً أنَالهُ
( إن كان ذا وجه ) أي محل القضاء عليه بإعادته كما كان إذا كان الهادم ذا مال ( وكان ) الجدار ( ماله ) أي ملكه وحده ، وهذا قيد في أصل المسألة أي وإن جدار ساتر تهدما وكان ماله أي غير مشترك ( والعجز عنه ) أي عن بنائه حيث هدمه ضرراً ( أدبا ) مفعول بقوله ( أناله ) والجملة خبر العجز ، ومفهوم قوله : ماله أنه إذا كان لغيره فعليه قيمته إلا أن يكون وقفاً فعليه إعادته على خلاف فيه كما مر في باب الحبس ، وأما إن كان مشتركاً فهو قوله :
وإنْ يكن مُشْتَركاً فَمَنْ هَدَمْ
دُونَ ضَرُورَةٍ بنَاءَهُ التَزَمْ( وإن يكن ) الجدار الساتر ( مشتركاً فمن هدم . دون ضرورة ) توجب هدمه من تلاشيه وخشية سقوطه ( بناءه ) مفعول بقوله ( التزم ) أي لزمه أن يبنيه كما كان لأنه أتلف مال غيره بغير موجب .
وإنْ يكن لمقْتَضٍ فَالحُكْمُ أَنْ
يَبْنِيَ مَعْ شَرِيكِهِ وَهُوَ السِّنَنْ
( وإن يكن ) هدمه ( لمقتض ) كخشية سقوطه ، وأثبت ذلك بأرباب البصر وبعد الإثبات هدمه أو انهدم الحائط وحده . ( فالحكم أن يبني ) . ذلك الحائط الساتر ( مع شريكه وهو السنن ) أي الطريق المشروع .
مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ فإنْ أَبى قُسِمْ
مَوْضِعُهُ بَيْنَهُمَا إذَا حُكِمْ
( من غير إجبار ) له على البناء معه يعني بل يؤمر أن يبني مع شريكه من غير قضاء عليه ابتداء على السنن المشروع ( فإن ) أمر بالبناء معه ف ( أبى ) وامتنع ( قسم موضعه بينهما ) عرضاً ويأخذ كل واحد منهما نصفه مما يليه وبنى في نصيبه ( إذا حكم ) أي أمكن قسمه فعبر بالحكم عن الإمكان لأنه لازمه إذ من لازم الحكم بالقسم إمكانه فإن لم يمكن قسمه لكونه لا يصير لكل منهما ما ينتفع به ببناء معتاد فيه فأما بنى معه أو باع لمن يبنيه . فالحاصل أنه يؤمر أولاً بالبناء معه من غير إجبار فإن أبى قسم بينهما إن أمكن فإن لم يمكن أجبر على البناء أو البيع على المعتمد كما في ( ح ) قائلاً : هذا هو الذي رجحه صاحب الكافي وابن عبد السلام وغيرهما ، ويكون حين لم يمكن قسمه من إفراد قول ( خ ) : وقضى على شريك فيما لا ينقسم أن يعمر أو يبيع الخ . وقولي : وبعد الإثبات هدمه الخ . احترازاً مما لو هدمه قبل الإثبات ونازعه شريكه في خشية سقوطه وافتقاره للهدم فإن الهادم حينئذ لا يصدق ويلزمه بناؤه وحده .
تنبيهان . الأول : لو كانت دابة أو معصرة أو سفينة بين رجلين ولأحدهما ما يطحن أو يحمل عليها وليس للآخر شيء يطحنه أو يحمله وضع صاحبه من الحمل والطحن إلا بكراء وقال الآخر : إنما أطحن وأحمل في نصيبي ، فالحكم أنه يمنع من الحمل والطحن حتى يتراضيا على كراء أو غيره وإلا بيع المشترك عليها كما في ( ح ) .
الثاني : سئل اللخمي عن حائط فاصل بين جنتين يعمل عليه السدرة والشوك لدفع الضرر فدعا أحد الرجلين للبناء وأبى الآخر وقال : من شكا الضرر فليبن . فأجاب : إن كان بقاؤه مهدوماً يضرهما فمن دعا إلى البناء فالقول قوله ، وإن كان الضرر ينال أحدهما فبناؤه على من يناله الضرر دون صاحبه ، وإن لم يكن هناك حائط فليس على من أبى أن يحدث حائطاً جبراً إلا أن يدخل ضرر على أصحاب الجنات بعضهم من بعض ، فالقول لمن دعا إلى التصوين والبناء .وإنْ تَدَاعَيَاه فالقَضَاءُ
لمن لهُ العُقُودُ والبِنَاءُ
( وإن تداعياه ) أي الجدار فادعاه كل لنفسه ولا بينة لواحد منهما ( فالقضاء ) يكون ( لمن ) شهد ( له ) به العرف وهو ستة ( العقود والبناء ) عليه والباب والغرز والكوة ووجه البناء فالعقود والقمط مترادفان وهما عبارة عن معاقد الأركان وهي إدخال الحائط في الآخر كاشتباك الأصابع ، ومنه تقميط الصبي وهو إدخاله وستره في الخرق ، وإنما قضى به لذي القمط والعقود لأن الحيطان المعقود بعضها ببعض كحائط واحد بني في وقت واحد لمالك واحد ، وقيل : العقود عبارة عن تداخل الأركان ، والقمط عبارة عما يشد به وجه الحائط ويمنعه من الانتثار من جير وجص ونحوهما ، وقيل : القمط الفرج غير النافذة ، وقيل : توجيه الآجر ، وقيل : السواري تبنى في الحائط ، فهما على هذه التفاسير متباينان وكل من هذه الوجوه يشهد لمن هي إلى جهته بلا إشكال ، وأما البناء فمعناه أن الحائط إذا كان عليه بناء لأحدهما دون الآخر فهو لمن له عليه البناء كسترة ونحوها ، وكذا إذا كانت بابه لجهة أحدهما دون الآخر ، أو كانت جذوع أحدهما محمولة عليه دون الآخر ، أو كانت الكوة الغير النافذة لجهة أحدهما وهي التي تتخذ لرفع الحوائج ، ولا بد أن تكون مبنية مع بناء الحائط ، وأما المنقوبة فلا دليل فيها كما أن النافذة كذلك ، أو كان وجه البناء إلى جهة أحدهما دون صاحبه ، فمن وجدت هذه الأشياء أو بعضها إلى ناحيته قضى له به إذا لم تقم بينة للآخر ، وإلاَّ فالاعتماد على البينة . ولو وجدت هذه الأشياء جميعها فلو اشتركا في هذه العلامات حلفا واشتركا فيه كما لو كانت جذوع كل منهما محمولة عليه أو وجه آجر البناءلجهة كل منهما أو عقوده لكل منهما ، فإن كان أحدهما انفرد بالقمط والآخر بالخشب فهو لذي القمط لأنها أقوى دلالة والخشب لم يرها . ابن الماشجون حجة قال : لأنها تغرز بالهبة والسرقة . قال المعلم محمد : ما كان منهما موصلاً وضع بغير حفر أوجب الملك لربها وما وضع بالنقب فلا يوجب ملكاً ولو كان لأحدهما باب وللآخر حمل الخشب ، فقال سحنون : هو لرب الباب وللآخر حمل الخشب ، وتقدم عند قوله : وواحد يجزىء في باب الخبر الخ . أن القاضي يجب عليه أن يشترط على أرباب البصر أن لا يحكموا في شيء ويضعونه بما يزيل الإشكال وينظر هو فيه .
فصل في ضرر الأشجاروما يثمر منه وما لا .
وَكلُّ ما كَانَ مِنَ الأَشْجَارِ
جَنْبَ جِدَارٍ مُبْدِيَ انتِشَارِ
( وكل ما كان من الأشجار جنب جدار ) أي حذوه حال كونه أي الأشجار ( مبدي انتشار ) أي آخذاً فيه فهو على قسمين : إما أن يكون الجدار سابقاً على الأشجار أو العكس .
فإنْ يَكن بَعْدَ الْجِدَارِ وُجِدا
قُطِعَ ما يُؤْذِي الجِدَارَ أَبَدَا
( فإن يكن ) الشجر ( بعد ) بناء ( الجدار وجدا ) أي غرس ( قطع ما يؤذي الجدار ) منه ( أبدا ) من غير خلاف .
وَحَيْثُ كَانَ قَبْلَهُ يُشَمَّرُ
وَتَرْكُه وَإنْ أضَرَّ الأشْهَرُ
( وحيث كان ) الشجر موجوداً ( قبله ) أي قبل الجدار ( يشمر ) يقطع أغصانه التي انتشرت على الجدار وأضرت به وهو قول مطرف وعيسى وأصبغ وابن حبيب ، واستظهره في البيان وهو المعتمد والمذهب ، ووجهه أن الجدار بناه ربه في ملكه فأغصان الشجر الممتدة عليه قد خرجت عن ملك ربها فيجب قطعها لأنها ضرر على من خرجت إليه ، ومقابله لابن الماجشون أنها لا تشمر لأن الباني قرب شجرة قد أخذ من حريمها وهو يعلم أن شأن الشجر الانتشار ولم يرجح ( خ ) واحداً منهما بل قال : ويقطع ما أضر من شجره بجدران تجددت وإلاَّ فقولان . وأما الناظم فشهر الثاني حيث قال : ( وتركه ) أي التشمير ( وإن أضر ) الشجر بالجدار هو ( الأشهر ) وفيه نظر فإن الأشهر هو الأول كما مر لظهور علته وكثرة قائله ، ولذا كان لا خصوصية للجدار بماذكر بل كذلك إذا امتدت أغصانها على أرض جاره فإنه يقطع منها ما أضر بأرضه كما يأتي في قوله : وكل ما خرج عن هواء صاحبه الخ .
ومَنْ تكُنُ لَهُ بِمِلْكٍ شَجَرَهْ
أَغْصَانُهَا عاليَةٌ مُنْتَشِرَهْ
( ومن تكن له بملك ) أي في ملكه وأرضه ( شجرة ) من نعتها ( أغصانها عالية منتشرة ) في هواء ملك ربها لم تخرج عن هوائه محال .
فلاَ كلاَمَ عِنْدَ ذَا لِجَارِها
لا في ارْتِفَاعِهَا وَلا انْتِشَارِهَا
( فلا كلام عند ذا لجارها لا في ارتفاعها ولا ) في ( انتشارها ) وإن منعته الشمس والريح فلا حجة له كالبنيان يرفعه الرجل في ملكه فيمنع جاره الشمس والريح كما يأتي آخر الفصل بعده .
وَكُلُّ ما خَرَجَ عن هَوَاءِ
صَاحِبهَا يُقْطَعُ باسْتِوَاءِ
( وكل ما خرج ) من أغصانها ( عن هواء ) أرض ( صاحبها ) وامتد على أرض جاره فإنه ( يقطع ) ذلك الخارج فقط ( باستواء ) وظاهره أنه لا حجة له في قوله : أخاف أن يطرقني أو يتكشف علي منها وهو كذلك ، ولكن إذا صعد عليها أنذره بطلوعه ليستتر منه حريمه ( خ ) عاطفاً على ما لم يمنع فيه وصعود نخلة وأنذر بطلوعه ، وهذا إذا كانت نابتة في أرضه فامتدت أغصانها لأرض جاره ، وأما لو كانت لك شجرة نابتة في أرضه باعها لك أو خرجت لك بقسمة ونحوها فليس له أن يقطع ما طال وانبسط منها كما قال :
وَإنْ تكن بِمِلْكِ مَنْ لَيْسَتَ لَه
وَانْتَشَرَتْ حتى أَظَلَّتْ جُلَّهُ
( وإن تكن ) شجرة ( بملك من ليست له ) أي في أرض غيره ملكها بشراء أو هبة ( وانتشرت ) وعظمت ( حتى أظلت جله ) أي جل ملك الغير .
فما لربِّ الْمِلْكِ قَطْعُ مَا انْتَشَرْ
لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَا شَأَنُ الشَّجرْ
( فما لرب الأرض قطع ما انتشر ) منها وإن أضر بأرضه ( لعلمه بأن ذا شأن الشجر ) قاله ابنالقاسم وغيره . وهذا كله في الأغصان ، وأما لو كانت له في أرضه شجرة فخرجت عروقها لأرض جاره فنبتت وصارت شجراً مثمراً فإن من نبتت في أرضه مخير بين أن يقلعها أو يعطيه قيمتها مقلوعة إلا أن يكون لصاحب الشجرة منفعة لو قلعها وغرسها بموضع آخر لنبتت فله قلعها وأخذها وإن كانت لا منفعة له فيها ولا مضرة عليه فيها فهي لرب الأرض انظر المواق .
وَالحُكْمُ في الطّريقِ حُكْمُ الجَارِ
في قَطْعِ ما يُؤْذِي مِنَ الأَشْجَارِ
( والحكم في الطريق ) تمتد أغصان الأشجار عليها ( حكم الجار في قطع ما يؤذي ) المارين في الطريق ( من الأشجار ) لأن الطريق حبس على سائر المسلمين وذلك يوجب استواء الحكم بينهم وبين الجار ، ومفهوم الأشجار أن البناء بالطريق يهدم وإن لم يؤذ المارين ولا ضيقها عليهم ( خ ) : ويهدم بناء بطريق ولو لم يضر الخ . نعم لا بأس بالروشن والساباط فوق الطريق النافذة لمن له الجانبان حيث رفع على رؤوس الراكبين ولم يظلماها كما قال ( خ ) أيضاً : وروشن وساباط لمن له الجانبان بسكة نفذت ، وتقدم ما في ذلك عند قول الناظم : كالفرن والباب وكذا من ملك جانبي النهر فله أن يبني ساباطاً فوقه وليس للسطان منعه ولا حجة له في أن الوادي له نقله ( م ) .
فصل في مُسْقط القيام بالضرر
على المشهور بأنه يحاز بما تحاز به الأملاك .
وَعَشْرَةُ الأَعْوَامِ لامْرِىءٍ حَضَرْ
تَمْنَعُ إنْ قَامَ بِمُحْدِثِ الضَّرَرْ
( وعشرة الأعوام ) مضت ( لامرىء ) رشيد ( حضر ) إحداث ضرر عليه عالماً به ساكناً بلا عذر ( تمنع ) الحاضر المذكور ( إن قام ) بعدها ( بمحدث ) بفتح الدال ( الضرر ) من إضافة الصفة للموصوف أي الضرر المحدث ، وفهم منه أنه إذا كان غائباً أو مضت عليه أقل من عشرة أو كان محجوراً مولى عليه أو صغيراً أي غير عالم أو غير ساكت أو كان له عذر له في سكوته من سطوة ونحوها فهو على حقه ، ولو طالت المدة حتى تمضي عشر سنين من قدومه من الغيبة وزوال الحجر وحصول العلم ونحو ذلك .وَذَا بهِ الْحُكْمُ وبالْقِيَامِ
قدْ قِيل بالزائِدِ في الأَيَّامِ
( وذا ) القول الذي قال يسقط حقه بمضي العشرة وهو قول ابن القاسم وأشهب وابن نافع و ( به الحكم ) وعليه العمل كما في المعيار عن ابن رشد ، ومثله في التبصرة وغيرها ، ومقابله لأصبغ أنه لا يسقط حقه إلا بالعشرين سنة ونحوها وهو معنى قوله : ( وبالقيام قد قيل بالزائد ) على العشرة ( في الأيام ) الكثيرة إلى عشرين سنة ونحوها ، فيسقط حقه حينئذ وغايته أنه أطلق جمع القلة على جمع الكثرة وهو كثير في العربية كما في الخلاصة هذا هو الظاهر ، فيكون قد أشار إلى قول أصبغ ، ويحتمل أن يكون أراد بالأيام اليسيرة كالعشرة أيام بدليل جمع القلة ، ويكون أشار إلى قول من قال : إن العشر سنين لا تكفي بل لا بد من مطلق الزيادة عليها حسبما حكاه ابن عرفة في جملة الأقوال الثمانية التي نقلها فيما يسقط به الضرر ، وظاهر النظم أن العشرة أعوام قاطعة لحقه ، سواء كان الحائز قريباً للمحوز عنه أو أجنبياً وهو كذلك كما في الطرر وغيرها فليست حيازة الضرر كحيازة الأملاك التي يفرق فيها بين الأقارب والأجانب ، وظاهره أيضاً أنها قاطعة لحقه كان الضرر مما لا يتزايد كالكوة والباب أو مما يتزايد ضرره كالكنيف والمدبغ والحفر التي يستنقع الماء فيها وهو كذلك ، وقيل : الضرر المتزايد لا يحاز بالعشرة ولا بغيرها لأن الدباغ والكنيف يحدثان بطول الزمان وهناً على وهن وضعفاً في جدار الجدار فله القيام بما زاد عليه من الضرر ولو طال ، وقيل : لا يحاز الضرر أصلاً كان مما يتزايد أم لا . وهو قول ابن حبيب ، وعليه ففي حوز الضرر وعدمه . ثالثها إن كان مما لا يتزايد وعلى الحوز ففي كونه بالعشر أو بالعشرين ثالثها بالعشر وزيادة الأيام اليسيرة .
وَمن رأى بُنْيَانَ مَا فِيهِ ضَرَرْ
وَلَمْ يقُمْ مِنْ حِينِهِ بِمَا ظَهَرْ
( ومن رأى بنيان ما فيه ضرر ) عليه وسكت ( ولم يقم من حينه بما ظهر .
حَتَى رَأى الْفَرَاغَ مِنْ إتْمَامِهِ
مُكِّنَ بالْيَمِينِ مِن قِيامِهِ
حتى رأى الفراغ من إتمامه ) أي البنيان وفتح الباب ونحوهما فقام بحقه بعد الفراغ بالقربوأحرى بعد طول وقبل مضي مدة الحيازة ( مكن باليمين من قيامه ) أي : فيحلف أن سكوته حتى كمل البنيان وفتح الباب مثلاً ما كان عن رضا بإسقاط حقه ويهدم البناء ويسد الباب حينئذ قاله في التبصرة والوثائق المجموعة وابن سلمون وغيرهم ، وفهم من قوله : ولم يقم أنه إذا قام حين رآه يبني وأراد منعه من البناء فإنه لا يمنع من بنائه وإتمام عمله حتى يثبت الضرر ويعذر للباني فيه ولم يجد فيه مطعناً فيهدم البناء عليه حينئذ ، ولو كمل كما في التبصرة ، والفرق بين هذه المسألة ومسألة الناظم أنه في هذه أراد أن يمنعه بمجرد الدعوى حين شروعه في البناء أو بعد أن أثبت البينة المحتاجة للتزكية والاعذار فإن الباني لا يمنع من إتمام عمله حتى يعجز عن الدفع كما مر إذ لا يحكم على أحد بالمنع من التصرف في ملكه مع قيام احتمال صحة الدعوى والبينة وعدم صحتها وبه تعلم أن ما للشيخ الرهوني من استشكال هذه المسألة غير سديد كما أن ما قاله من عدم وجوب اليمين في مسألة الناظم إن قام بالقرب غير سديد أيضاً إذ هذه اليمين يمين تهمة والمعمول به توجهها في القرب والبعد كما مر في باب اليمين .
فإنْ يَبِعْ بَعْدُ بلا نِزَاعِ
فلا قيامَ فِيهِ لِلْمُبْتَاعِ
( فإن يبع ) المحدث عليه الضرر ( بعد ) أي بعد حدوثه عليه وعلمه به حال كونه ( بلا نزاع ) فيه أي باع بعد الإحداث والعلم به وقبل النزاع فيه ( فلا قيام ) ولا خصام ( فيه للمبتاع ) اتفاقاً كما في ( خ ) عن ابن عرفة لأنه اشترى على تلك الحالة ، وظاهره ولو لم يعلم به ، وقيل : إذا لم يعلم به المشتري فله رده على البائع لأن الضرر عيب لم يطلع عليه ، فإذا رده فللبائع حينئذ القيام به قاله في المتيطية عن حبيب بن نصر ، وينبغي حمله على التفسير لما درج عليه الناظم :
وإنْ يكُنْ حينَ الخِصَام بَاعَا
فالْمُشْترِي يَخْصِمُ مَا اسْتَطَاعَا
( وإن يكن ) البائع لم يعلم بالإحداث أو علم وتكلم فيه وخاصم و ( حين الخصام ) أو عدم العلم ( باعا فالمشتري يخصم ) في ذلك الضرر ( ما استطاعا ) لقيامه مقام البائع حينئذ وحلوله محله إذ البائع حينئذ باع ما يملكه من الدار ورفع الضرر ، والمشتري اشترى ذلك فقام فيه مقام البائع ، وظاهره أن هذا البيع جائز وليس هو من بيع ما فيه خصومة . وقال ابن بطال معناه : إن الحاكم قضى بإزالة الضرر وأعذر وبقي التسجيل والإشهاد يعني على الحكم ، وأما لو باع وقد بقي شيء من المدافع والحجج لم يجز البيع لأنه بيع ما فيه خصومة يعني : والمشهور منعه ، وقد أطال ( خ ) من ذكر الخلاف في هذه المسألة والمعول عليه ما للناظم والله أعلم .وَمَانِعُ الشَّمْسِ أَوْ الرِّيحِ مَعا
لِجَارِهِ بِمَا بَنَى لَنْ يُمْنَعَا
( ومانع الريح أو الشمس ) أو هما ( معاً لجاره ) مفعول بمانع واللام زائدة لا تتعلق بشيء ( بما بنى لن يمنعا ) من ذلك على المشهور ابن ناجي وبه العمل ، وهو مذهب المدونة قال فيها : ومن رفع بنيانه فتجاوز به بنيان جاره وأفسد عليه كواه فأظلمت . أبواب غرفه وكواها ومنعه الشمس لم يمنع من هذا البنيان اه . وهذا إذا كان للباني في رفع بنائه منفعة قصدها ، وأما إذا لم يكن له في البناء منفعة وثبت ذلك فإنه يمنع كما قاله ابن عتاب ، إذ لا ضرر أكثر من أن يمنع الإنسان جاره الضوء والريح من غير نفع يعود عليه في ذلك ، وظاهره أنه لا يمنع من رفع بنيانه ولو منع الشمس والريح عن الأندر السابقة على بنائه وهو ما استظهره ابن رشد كما مّر عند قوله : فإن يكن يضر بالمنافع الخ . ولكن المشهور خلافه ( خ ) : لا مانع شمس وريح إلا الأندر أي فإنه يمنع من بناء ما يمنع الشمس والريح ، وظاهره ولو احتاج للبنيان وكانت له فيه منفعة ومثل الأندر مرج القصار ومنشر المعاصر وجرين التمر والفرق بين الأندر وغيرها عند ابن القاسم فيما يظهر أن الدار لا يمكن منع الضوء منها جملة إذ ما يقابلها من السماء يضيئها قطعاً ، وكذا الشمس ، وأما الريح فالمقصود منها اتقاؤه بها والكوة يمكنه فتحها لوسط داره بخلاف الأندر وما معه فإن منفعته تبطل كلها بمنع الشمس والريح ، وأما البئر إذا أراد حفرها في أرضه وهي تنقص ماء بئر جاره أو تقطعه فقد يتقدم الكلام عليها عند قوله : أو ما له مضرة بالجدر .
فصل في الغصب والتعدي
قال ( خ ) : الغصب : هو أخذ مال قهراً تعدياً بلا حرابة الخ . فقوله : أخذ مال كالجنس يشمل أخذ الإنسان مال نفسه من تحت يد المودع وغيره ، وخرج بقوله مال أخذ امرأة اغتصاباً كما يأتي ، وخرج به أيضاً أخذ رقبة الحر والخنزير ونحوهما مما لا يملكه المسلم ، وقوله قهراً مخرج للسرقة لأنها أخذ مال خفية وللغيلة لأنه لا قهر فيها لأنها بموت المالك ، ومخرج أيضاً لما أخذه اختياراً كالسلف والعارية والقراض والصدقة ونحوها . وقوله : تعدياً مخرج لما أخذه من محارب ونحوه ، ولما إذا أخذ الشيء المغصوب من يد غاصبه ولآخذ الزكاة كرهاً من ممتنع من دفعها ولأخذ الجزية ولأخذ السيد مال عبده ولأخذ الأب والجد الغنيين مال ولدهما لأن لهما فيه شبهة ، ولذا لم يقطعا فيه فإن ذلك كله مأخوذ بالقهر ، ولكن لا عداء فيه . وقوله : بلا حرابة مخرج لما أخذه المحارب فإن الأوصاف السابقة تصدق عليه والحرابة غير الغصب لاختلاف أحكامهما . قال في المدونة : وليس كل غاصب محارباً لأن السلطان يغصب ولا يعد محارباً اه . واعترض قوله : بلا حرابة بأنه يوجب في الحد التركيب الذي هو توقف المحدود على معرفة حقيقة أخرى ليست أعم منه ولا أخص من أعمه ، وبأنه غير مانع لدخول المنافع فيه كأخذه سكنى دار وحرث عقار ونحوهما . وليس غصباً بل تعدياً فلو زاد بعد قوله : مال غير منفعة ، وأبدل قوله بلا حرابة بقوله بلا خوف فقال كما فعل ابن عرفة لسلم من الاعتراض ، والمراد بالأخذ الاستيلاء على المال وإن لم يحزه لنفسه بالفعل ، فإذا استولى الظالم على مال شخص وحال بينه وبين ماله وقد أبقاه بموضعه الذي وضعه ربه كان غاصباً ضامناً له إن تلف .
وأما التعدي : فهو كما قال ابن عرفة التصرف في الشيء بغير إذن ربه دون قصد تملكه فقوله : التصرف كالجنس يشمل التصرف بالانتفاع والتصرف بالاستهلاك والإتلاف كلاً أو بعضاً ، فالأول كقتل الدابة وحرق الثوب ، والثاني كخرق بخاء معجمة لثوب وكسر بعصى صحفة أو عصى ، وقوله بغير إذن ربه مخرج للإجارة والعارية ونحوهما . وقوله : دون قصد تملكه مخرج للغصب لأن الغاصب يقصد تملك المغصوب ، وقد فهم منه أن الفرق بين الغصب والتعدي هو قصد التملك وعدمه ، وأنه إذا أقر بقصد التملك أو دلت عليه قرينة واضحة فهو غاصب تجري عليه أحكامه ، وإن أقر بقصد المنفعة أو قامت قرينة عليها فهو متعد فتجري عليه أيضاً أحكامه ، فإن لم يكن إقرار ولا قرينة فالقول قوله فيما يدعيه من غصب المنفعة أو الذات إذ لا يعلم ذلك إلا من قوله . والقاعدة أن كل ما لا يعلم من الأمور القلبية إلا بقول مدعيه يصدق فيه ويتصور التعدي أيضاً بأن يكون بعد تقدم إذن من مالكه كتعديه في العارية أو في الكراء أو زيادة المسافة أو الحمل فمن أحكام الغصب قوله :وَغَاصِبٌ يَغْرَمُ مَا اسْتَغَلَّهُ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَرُدُّ أصْلَهُ
( وغاصب ) سوغ الابتداء به قصد الجنس ( يغرم ما استغله من كل شيء ) غصبه كان المغصوب حيواناً أو عقاراً وسواء استغل بنفسه فركب الدابة أو سكن الدار مثلاً أو أكراها لغيره ( خ ) : وضمن غلة مستعمل الخ . أي فيرد قيمة المنفعة والصوف والثمرة واللبن ( ويرد ) أيضاً ( أصله ) وهو المغصوب أي فيرد ما ذكر مع الغلة من رد عين الشيء المغصوب .
حَيْثُ يُرَى بِحَالِهِ فإنْ تَلِفْ
قُوِّمَ والمِثْلُ بِذِي مِثْلِ أُلِفْ
( حيث يرى ) كل منهما باقياً ( بحاله ) لم يتغير ولم يتلف ( فإن ) تلف الصوف أو الثمرة ولم تقم على التلف بينة فيغرم مكيلة الثمرة ووزن الصوف إن علما أو قيمتهما إن جهلا مع رد عين المغصوب لربه ، وإن قامت بينة على تلفهما بغير سببه فيرد المغصوب فقط ولا ضمان عليه فيهما اتفاقاً قاله ابن رشد . وأما إن ( تلف ) الشيء المغصوب بسماوي أو بسبب عداء الغاصب عليه ( قوّم ) على الغاصب وغرم قيمته يوم غصبه لا يوم عدائه عليه ولا يوم التلف بسماوي ، وأما إن تلف بعداء أجنبي عليه عند الغاصب فإن ربه مخير بين أن يتبع الغاصب بقيمته يوم غصبه فيتبع الغاصب حينئذ الأجنبي بقيمته يوم الجناية ولو زادت على قيمته يوم الغصب وتكون له الزيادة ، وبين أن يتبع الجاني بقيمته يوم الجناية ولو زادت على قيمته يوم الغصب ، فإن كانت أقل من قيمته يوم الغصب أخذها ورجع على الغاصب بما بقي له لتمام قيمته يوم الغصب ( خ ) : فيغرم قيمته يوم غصبه ، ولو قتله الغاصب تعدياً وخير في قتل الأجنبي فإن تبعه تبع هو الجاني فإن أخذ ربه أقل فله الزائد من الغاصب فقط الخ ( والمثل ) أي : وأما إن كان المغصوب التالف مثلياً فإنه يضمن ( بذي المثل ألف ) سواء تلف بسماوي أو بسبب الغاصب فيرجع المغصوب منه عليه بمثله ، أو تلف بسبب أجنبي فيخير ربه بين أن يرجع عليه أو على الغاصب بمثله . وقوله : استغله يعني مع بقاء عينه أما الدنانير يتجر بها والزرع يحرثه فالربح له اتفاقاً في طريقة . ابن رشد : ومفهوم قوله استغله وقول ( خ ) مستعمل أنه إذا عطل كما إذا لو ربط الدابة فلم يستعملها ولا أكراها ، أو بور الأرض فلم يحرثها ، أو أغلق الدار فلم يسكنها بنفسه ولا بغيره فإنه لا يغرمشيئاً ، وهو كذلك على المشهور أيضاً بخلاف غاصب المنفعة فإنه يضمن الغلة مطلقاً سواء استعمل أو عطل كما يأتي مع بقية الفروق بينهما عند قوله : كالمتعدي غاصب المنافع الخ . وظاهر قوله : يغرم ما استغله الخ . أنه يضمن الغلة ، ولو فات المغصوب بذهاب عينه ولزمت قيمته فيرد الغلة ويغرم القيمة ، وهو قول مالك ولكنه خلاف المشهور ، ومذهب المدونة من أنه مخير في أخذ قيمته يوم الغصب ولا شيء له من الغلة والولد أو أخذ الثمرة والولد والغلة ولا شيء له من القيمة ونصها وما أثمر عند الغاصب من نخل أو شجر أو نسل من الحيوان أو جز من الصوف أو حلب من اللبن فإنه يرد ذلك كله مع المغصوب لربه ، وما أكل رد المثل فيما له مثل والقيمة فيما له قيمة وإن ماتت الأمهات وبقي الأولاد وما جزّ منها أو حلب خير ربها فأما أخذ قيمة الأمهات يوم الغصب ولا شيء له فيما بقي من ولد أو صوف أو لبن ولا في ثمنه إن بيع وإن شاء أخذ الولدان كان ولد وثمن ما بيع من صوف أو لبن ونحوه ، وما أكل الغاصب أو انتفع به من ذلك فعليه المثل في المثلى والقيمة في المقوم ولا شيء عليه من قبل الأمهات . ألا ترى أن من غصب أمة ثم باعها فولدت عند المبتاع ثم ماتت فليس لربها إلا أخذ الثمن من الغاصب أو قيمتها يوم الغصب ، أو يأخذ الولد من المبتاع ولا شيء عليه ولا على الغاصب في قيمة الأم ، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن ولا يجتمع على الغاصب غرم ثمنها وقيمتها اه . فقوله : فأما أخذ قيمة الأمهات الخ . قال ابن رشد : لأنه إذا ضمنه قيمة الأم يوم الغصب كانت الغلة إنما حدثت فيما قد ضمن بالقيمة . ابن ناجي : ما ذكره في الكتاب هو المشهور ، وقال أشهب : يأخذ قيمتها مع عين الولد اه . وقول أشهب هذا هو ظاهر النظم ، ولكن المشهور خلافه كما رأيت وعلى المشهور ، فإن ماتت الأم والولد معاً فليس لربها إلا قيمة الألم خلافاً لأشهب وإن وجدهما حيين أخذهما معاً اتفاقاً وإن ماتت الأم وحدها فله أن يأخذ الولد ولا شيء له من قيمة الأم أو يأخذ قيمة الأم ولا شيء له في الولد ويحد الغاصب الواطىء ، وكذا المشتري منه والموهوب له العالمان بالغصب . وقولي : لم يتغير احترازاً مما تعيب ولم تفت عينه فأما أن يتعيب بسماوي ولو قلّ عيبه فيخير ربه بين أخذه قيمته معيباً ولا شيء له في النقص ، أو يأخذ قيمته يوم الغصب ولا شيء له غيرها ، وأما أن يتعيب بجناية من الغاصب فيخير بين أخذه قيمته يوم الغصب أو أخذ المغصوب مع أرش العيب وأما أن يتعيب بجناية من أجنبي فيخير في أخذ قيمته من الغاصب يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني بأرش الجناية ، وفي أخذ الشيء المغصوب مع أخذ الأرش من الجاني لا من الغاصب ( خ ) : وان تعيب وإن قل ككسر نهديها أو جنى هو أو أجنبي خير فيه الخ . وكيفية التخيير هو ما تقدم . تنبيه : وعلى ما مر أن الغاصب يغرم الغلة فإنه يرجع على المغصوب منه بما أنفق على العبد والدابة وسقي شجر ورعي ماشية ونحو ذلك . ويسقط من الغلة على قول ابن القاسم وهو المشهور ( خ ) : وللغاصب ما أنفق الخ . وهو محصور في الغلة لا يتعداها إلى ذمة المغصوب منه حيث لم تف به الغلة .
وَالقَوْلُ لِلْغَاصِبِ في دَعْوَى التَّلَفْ
وَقَدْرِ مَغْصُوبٍ وما به اتَّصَفْ
( و ) إذا تنازع الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب وعدمه أو في قدره أو صفتهف ( القول للغاصب ) بيمينه ( في دعوى التلف ) للشيء المغصوب إذا ادعى ربه أنه باق عنده وأنه يريد أن يفوته عليه بغرم قيمته . ( و ) في ( قدر مغصوب ) من كيل أو وزن أو عدد لأنه غارم ( و ) في ( ما به اتصف ) من رداءة بحيث تكون قيمته على وصفه درهمين وعلى وصف ربه عشرة فيحلف الغاصب أنه يوم استيلائه عليه كان على الصفة التي ذكرها ويغرم درهمين ، وهذا إذا أشبه فإن وصفه بما لا يشبه فالقول للمغصوب منه بيمينه إن أشبه فإن لم يشبها فقال ابن ناجي : يقضي في ذلك بالوسط من القيم بعد أيمانهما بنفي كل منهما دعوى صاحبه وتحقيق دعواه اه . والسارق مثل الغاصب في التفصيل المذكور والتقييد بالشبه هو المشهور ، وقال أشهب : يصدق الغاصب مطلقاً ولو أتى بما لا يشبه كقوله : هي بكماء صماء عمياء . قال : ومن قال برعي الشبه فقط غلط ، وإنما ذلك في اختلاف المتبايعين في قلة الثمن وكثرته والسلعة قائمة اه . ( خ ) : والقول له أي للغاصب في تلفه ونعته وقدره الخ . وظاهر قوله : وما به اتصف الخ . أنه يصدق في وصفه ولو جحد الغصب أو لا . وقال اللخمي : إذا أنكر الغاصب الغصب وشهدت البينة باعترافه أو بمعاينة غصبه فالقول للمغصوب منه بيمينه أن صفته كانت كذا ، ويستحق قيمة وصفه . وقيل : ليس له بعد يمينه إلا الوسط والأول أصوب اه . وهو الذي يجب اعتماده لأن الغاصب لا يقبل وصفه بعد تبين كذبه بجحده .
تنبيهات . الأول : ما ذكره الناظم و ( خ ) من أن القول للغاصب في القدر والوصف هو المشهور ، ولكن عمل فاس على خلافه قال ناظمه :
لولد القتيل مع يمين
القول في الدعوى بلا تبيين
إذا ادعى دراهماً وأنكرا
القاتلون ما ادعاه وطرا
قال الناظم في شرحه لنظمه هذه المسألة مما جرى به العمل ، وهو أن والد القتيل إذا ادعى دراهم من جملة المنهوب وأنكرها القاتلون فالقول قول والد القتيل ، ثم قال ناقلاً عن قاضي الجماعة أبي القاسم بن النعيم ما نصه : الذي جرى به العمل عندنا في هذه النازلة ومثلها أن القول قول والد القتيل مع يمينه ، والظالم أحق أن يحمل عليه وإن كان المشهور خلافه ، وكم من مسألة جرى الحكم فيها بخلاف المشهور ورجحها العلماء للمصالح العامة اه . وقال سيدي العربي الفاسي ما ذكره ابن النعيم رحمه الله : شاهدنا الحكم به عام قدوم الخليفة أبي العباس المنصور حضرة فاس ، وقد انحشر الناس إلى الشكوى بالمظالم وكان يحضر مجلسه أي مجلس الخليفة للحكم فيها علماء فاس كشيخنا المذكور ، وشيخنا المفتي سيدي محمد القصار ، وشيخنا سيدي علي بن عمران ، وعلماء مراكش ، وقاضي مراكش ، وقاضي شفشاون سيدي محمد بن عرضون رحمهم الله ، فكان الحكم يصدر على الوجه المذكور قال : والعام المذكور عام أحد عشروألف اه . كلام الناظم بلفظه في شرحه للبيتين . وقال الرعيني في كتاب الغصب ما نصه قال مالك فيمن دخل عليه السراق فسرقوا متاعه وانتهبوا ماله وأرادوا قتله فنازعهم وحاربهم ثم ادعى أنه عرفهم أو لم يعرفهم أهو مصدق عليهم إذا كانوا معروفين بالسرقة مستحلين لها ؟ قال : هو مصدق وقد نزلت مثل هذه بالمدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجل دخل عليه السراق فانتهبوا ماله وجرحوه ، فلما أصبح حمل إلى عمر فقال : إنما فعل بي هذا فلان وفلان وقد انتهبوا مالي فأغرمهم عمر بقوله ، ونكلهم ولم يكلفه البينة عليهم اه . باللفظ . ونقله ابن فرحون ، وغيره ونحوه ورد عن يحيى بن يحيى ، وبمثله أفتى الحفار حسبما في نوازل البيوع من المعيار قائلاً قال الفقهاء : من عرف بالتعدي والظلم يغلب الحكم في حقه فمن ادعى على من بهذه الحالة فيحلف الطالب ويستحق ما طلب اه . ونحوه رواه أشهب عن مالك في المرأة تدعي على المشتهر بالفسق أنه اغتصبها وتأتي متعلقة به ، فإنه يجب لها عليه صداق مثلها ، وبه صدر في المقدمات والتصدير من علامات التشهير ، ولا سيما وهو قول الإمام الأعظم ، ومعلوم تقديمه على قول ابن القاسم وسيأتي ذلك عند قوله : وفي وجوب المهر خلف معتبر ولا فرق بين الفروج والأموال ، ولأن الفرج هنا آيل للمال وعليه فناظم العمل إنما عنى بنظمه هذا الفقه ، وأن المعروف بالظلم والتعدي يقضى عليه بمجرد دعوى المدعي أنه غصبه أو سرقه ، وأنه غصبه قدر كذا . وقد اعتمد المكناسي في مجالسه هذا الفقه ، وكذا القرافي كما مر في التنبيه الثالث عند قوله : فالمدعي من قوله مجرد الخ . فقوله : لوالد القتيل يعني ادعى عليهم أنهم قتلوه ونهبوه أمتعته ، ومن جملة المنهوب دراهم قدرها كذا ، ولا يريد خصوص أنهم أقروا بالقتل أو ثبت بالبينة كما هي مسألة الصرة الآتية عن العتبية ، وفهم من قوله : إذا ادعى دراهم الخ . أنه إذا ادعى ذلك تحقيقاً وأنه يعمل بدعواه في المال فقط لا في القتل ، فإن المدعى عليه لا يقتل بمجرد الدعوى لخطر الدماء والدعوى بما يؤول للمال كالمال لا يأتي في فصل الاغتصاب والمدعى عليه بالقتل ، وإن كان لا يقتل لكن يضرب ويطال سجنه حتى يأتي عليه السنون الكثيرة كما يأتي في الدماء ، وفهم من قوله في هذه النازلة ومثلها ، ومن وقوله : والظالم أحق أن يحمل عليه ، ومن قوله : رجحها العلماء للمصالح ، ومن قوله : وقد انحشر الناس للشكوى بالمظالم إلى غير ذلك أنه لا مفهوم لقتيل ولا لدراهم ، بل كذلك لو كانت الدعوى بالدراهم والقتل أو بالدراهم فقط أو بالحيوان أو العروض أو غير ذلك ، وإنما المدار على كون الدعوى على معروف بالتعدي والظلم كقبائل الزمان ، فإن جلهم وغالبهم معروف بالتهمة والفساد والحمل على الغالب واجب . وقد قال الشيخ ( م ) في بعض فتاويه : قد آل بنا الحال إلى أن يتبع المسافرين بعض مردة أهل البلد ونحوها مما قرب من البلد فيسفكون دماءهم وينهبون أموالهم ويرجعون إلى البلد بالأمتعة فلا ينتقم منهم ، ولا يستفتي عن حكمهم ، بل وإلى ما هو أعظم من هذا من القتل صبراً ونهب الأموال من الدور والحوانيت ثم يكتسب فاعل ذلك التعظيم والاحترام فضلاً عن عدم النكير عليه والضرب على يده مع كلامه ، وإذا كان مثل هذا يقع في حضرة فاس كما حكاه وكما هو مشاهد الآن في وقتنا هذا ، فكيف بالبوادي وقبائل الزمان ؟ حتى صار قاتل النفس لا يضرب فضلاً عن القصاص ، والسارق لا يسجن فضلاً عن قطعه ، بل كل منهما يعظم ويحترم ولا يشهد أحد عليه ، ولهذا جرى العمل بإغرامهم بمجرد الدعوى زجراً لهم ولأمثالهم ، وعليه فلا يحتاجلإثبات التلصص بإقرار ولا معاينة ، بل بمجرد كونهم ممن يشار إليهم بالتعدي ، والظلم يوجب إغرامهم للمصلحة المذكورة كما مر عن الرعيني وغيره . وكلام ابن رحال في شرحه صريح في أن العمل به وعليه ، فما قاله سيدي محمد بن قاسم في شرح العمل المذكور من أنه لا بد من ثبوت التلصص بالإقرار أو المعاينة كما في مسألة الصرة الآتية لا يعول عليه ولا يلتفت إلى شيء منه لمخالفته لما نقل عن الرعيني وغيره شاهداً لنظم العمل المذكور . وما نقله عن أبي الحسن الزرويلي وابن هلال من أن ما للرعيني خلاف الأصول الخ . لا يقدح في العمل المذكور لأن ما قاله من مخالفته للأصول إنما هو إذا روعي المشهور ، وهم قد قالوا : إن هذا العمل مخالف للمشهور فهم معترفون بمخالفته للأصول ، وإنما ارتكبوه للمصلحة من عدم ضياع الحقوق ، وذلك أن الأصل عدم التعدي والظلم ، لكن لما كثر كل منهما في هذا الزمان وغلب أجروا الأحكام على مقتضاه ، وحملوا الناس عليه لئلا تضيع الحقوق لأن الأصل والغالب إذا تعارضا فالحكم للغالب لقوله تعالى : وأمر بالعرف } ( الأعراف : 199 ) أي احكم به . ولذا قال أبو الحسن في أجوبته في مسألة من رفع شخصاً لحاكم جائر فأغرمه ما لا يجب عليه بعد أن حكى فيها قولين ما نصه : وهذا وقد كان الحاكم يحكم بحق تارة وبباطل أخرى ، وأما الآن فالحاكم لا يحكم إلا بالباطل ، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يغرم ما خسره اه . وسلمه ابن هلال في الدر النثير فأنت تراه حمل الحكام على الظلم والتعدي حيث غلب منهم ذلك ، وأوجب على الشاكي الغرامة بمجرد قول المدعي إن الحاكم قبض مني وقدر المقبوض كذا ، وإن كان الأصل عدم العداء ونحوه يأتي عن سيدي مصباح في التنبيه الرابع حيث قال : إذا تقرر العرف في ولاة الظلم وأجنادهم بغرم المال ممن أخذوه ظلماً كان القول للمأخوذ منه فيما غرم من المال لأن العرف شاهد لمدعيه ويقوم مقام الشاهد الناطق الخ . ويأتي نحوه في التنبيه الخامس الخ . وقبائل الزمان ومردة حواضرهم كذلك لما كثر منهم العداء وغلب كان القول للمنهوب والمغصوب أنه غصبه ، وإن قدر المغصوب كذا كما رأيته فيما يشبه أن يملكه فقط كما قالوه في منتهب الصرة الآتية . وإذا علمت هذا فما جرى به العمل له مستند صحيح لا يختلف فيه اثنان ، وله أصل أصيل في الشريعة ، وهذا العمل حدث بعد زمان أبي الحسن وابن هلال كما تقدم . ولو كانت القبائل والناس في زمانهما على ما هم عليه في وقت جريان العمل المذكور ما وسعهما أن يقولا بمخالفته للأصول لاعترافهما بأن الحكم للغالب كما رأيته ، وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأجل استبعاد كثير من الإخوان ما جرى به العمل لضعف مستنده عندهم ، وحملوه على خصوص مسألة الصرة المذكورة في العتبية وهي أن رجلاً اختطف صرة بمعاينة البينة وغاب عليها ولم يعرف قدر ما فيها ، فالمشهور أن القول للغاصب في قدرها وقال مالك ومطرف : إن القول للمنهوب في قدرها ، ولكن ليست مخصوصة بالعمل المتقدم خلافاً للرهوني في حاشيته ، وتخصيص العمل بها بعيد من الأنقال المتقدمة بدليل تعليلهم بالمصلحة العامة ، ولكن يجري العمل المذكور فيها بالأحرى .
الثاني : إذا ثبت التلصص أو علم من عادة القبائل كما هو موجود في قبائل الزمان الآن ، فإن اللص والسارق إذا ظفر الحاكم بهما أغرمهما كما مرّ ، وإذا لم يظفر بهما وإنما ظفر ببعض قرابتهما أو بعض من يحميهما من قبيلتهما ولو بجاهه فإنه يغرمه ما أخذه اللص أو السارق أواتهما به ( خ ) في الحرابة وبالقتل يجب قتله ولو بإعانة . قال الزرقاني : أي على القتل ولو بالتقوى بجاهه وإن لم يأمر بقتل ولا تسبب فيه لأن جاهه أعانه عليه حكماً ككونه من فئة ينحاز إليهم قطاع الطريق فيقتل الجميع لأنهم متمالئون اه . باختصار ، ونحوه في ابن الحاج والشامل ، وإذا كان المعين بجاهه والانحياز إليه مؤاخذاً بالقتل فهو مؤاخذ بما نهبوه من الأموال بالأحرى ، وقبائل الزمان معلوم ما هم عليه من حمايتهم لمتلصصيهم وغاصبهم بالفعل فضلاً عن حمايتهم لهم بالجاه والانحياز ، فلا إشكال أن غير المباشر منهم مؤاخذ بما فعله المباشر ولو لم يظهر منه تسبب لأنه لا أقل من أن يكون حامياً للمباشر بجاهه أو إيوائه إليه بل لو لم يكن هناك حماية أصلاً لا بالجاه ولا بالإيواء والانحياز ولا بغير ذلك لكان إغرامهم لما اتهم به سراقهم وغصابهم أمراً شرعياً كما قال ناظم العمل :
ولا يؤاخذ بذنب الغير
في كل شرع من قديم الدهر
إلا إذا سدت به الذريعة
أو خيف شرع شرعة أو شيعة
والشاهد في قوله : إلا إذا سدت به الذريعة ، الخ . لأنهم إذا غرموا حملهم ذلك على حفظ طرقاتهم وحفظ المارين بأرضهم وعدم كتمان غصابهم وسراقهم ، فضلاً عن التعصب عليهم . وقد بسطنا الكلام على ذلك بما يشفي الغليل إن شاء الله في الفصل الثالث والسادس من أجوبتنا لأسئلة الإمام محيي الدين .
الثالث : الحكم في الدعوى على المتهوم من وظيفة الولاة كما مر عن الخليفة أبي العباس المنصور إذ هو الذي تولى الحكم في ذلك بمحضر أولئك العلماء ، وقد قال القرافي : يمتاز نظر القاضي ونظر والي الجرائم بأمور . منها : أن والي الجرائم يسمع الدعوى على المتهوم ويبالغ في كشفه بخلاف القاضي ، ومنها أن يعجل بحبس المتهوم للاستبراء والكشف قال : وقد ورد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجد في بعض غزواته رجلاً فاتهمه بأنه جاسوس فعاقبه حتى أقر ، ومنها أنه يضرب المتهوم مع قوة التهمة ، ومنها أنه يتوعد المجرم بالقتل فيما لا يجب فيه قتل لأنه إرهاب لا تحقيق ، ويجوز له أن يحقق وعيده بالأدب دون القتل بخلاف القضاة فليس لهم ذلك اه . باختصار . ونقله ابن فرحون في تبصرته وزاد أن لقضاة المالكية فعل ذلك وسيأتي قول الناظم :
وإن يكن مطالباً من يتهم
فما لك بالضرب والسجن حكم
وقال في التبصرة أيضاً : كان مالك يقول في هؤلاء الذين عرفوا بالفساد والجرم أن الضرب قل ما ينكلهم ، ولكن أرى أن يحبسهم السلطان في السجون ويثقلهم بالحديد ولا يخرجهم منه أبداً فذلك خير لهم ولأهليهم وللمسلمين حتى تظهر توبة أحدهم ، ويثبت ذلك عند السلطان فإذا صلح وظهرت توبته أطلقه اه . من النوادر . فهذه النصوص متواترة بكشف المتهوم واحداً كان أو جماعة من القبائل أو غيرهم ، ومع ذلك يضمنون لما مر من المصلحة العامة أو سداً للذريعة كما مرّ ، وعليه فإرسال المتهوم للقاضي يحكم بينهم من زيادة الفساد قطعاً وإهمال سد الذرائع ليس بالأمر الهين إذ فيه إعانة الظالم على ظلمه لأن غاية ما يفعله القاضي أن يكلف المنهوب بالبينة ، وأين هذه البينة ؟ إذ لو حضرته البينة ما غصب وما سرق ، وعلى فرض وجودها فلا تكون إلا من أهل البلد وهم على ما هم عليه من الحمية والعصبية وقوة التهمة بالتعديوالفساد ، فكيف يشهدون مع كونه نهب بأرضهم بل من شهد منهم عاقبوه وخشي على نفسه لأنهم مكتسبون بغصبهم التعظيم والاحترام كما مرّ . ومن أجل إهمال هذا الباب غلب الظلم وكثر الفساد وسفكت دماء وغصبت أموال يعلمها الكبير المتعال ، حتى إن المسافر ينهب ماله أو يسفك دمه فيرسله العامل للقضاة فيستبشر المدعى عليه لعلمه أن القاضي يرده لليمين ، وكان الواجب عليه أن لا يرسله للقاضي بل يبالغ في كشفه بالضرب وطول السجن والإغرام على ما مرّ ، وقبائل الزمان كلهم متهمون إذ غالب أحوالهم النهب والغصب وسفك الدماء وغيرهم من مردة الحواضر تظهر تهمته بالقرائن ودلائل أحواله ، ولذا جرى العمل بالإغرام لأن الحمل على الغالب واجب ، والمراد إغرام لأربابه الطالبين له ، وأما ما يفعله جهال العمال من أخذهم أموالاً من السراق والغصاب ولا يدفعون للطالب شيئاً مما يدعيه فذلك خرق للكتاب والسنة والإجماع قال تعالى : لا تأكلون أموالكم بينكم بالباطل } إلى قوله : ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً } ( النساء : 30 ) الخ .
الرابع : إذا كان الإنسان معروفاً مشهوراً بعدم التعدي وعدم أكل أموال الناس فرفعه شخص لجائر يتجاوز الحد فيه ويغرمه ما لا يجب عليه فالذي به العمل أن الشاكي يغرم للمشكو به ما غرم كما في المواق عن ابن لب ونحوه في المعيار عن العبدوسي ، وعليه فإذا ثبت الرفع للظالم وقدر ما دفعه ببينة أو إقرار الشاكي فلا كلام ، وإن لم يثبت ذلك وادعى المشكو به أنه دفع كذا وخالفه الشاكي فالقول للمشكو به كما في معاوضات المعيار عن سيدي مصباح قائلاً : إذا تقرر العرف أن المشكو به لا يطلق إلا بمال كان القول قول المشكو به في أنه دفع مالاً للظالم وفي قدره بيمينه لأن العرف كشاهد لمدعيه ويجب رجوعه على الظالم إن قدر عليه ، وإن لم يقدر ففيه اختلاف ، والذي به الفتوى وعليه العمل رجوعه على الشاكي ، وبمثله أفتى الفقيه الجنوي وغيره ، وهذه المسألة حكى ( خ ) فيها أقوالاً حيث قال : وهل يضمن شاكيه لمغرم زائد الخ . وهذا إذا كان الشاكي ظالماً كما هو الموضوع ، وأما إن كان مظلوماً لا يصل إلى حقه إلا بالشكوى للظالم الجائر فلا شيء عليه ، والحكام اليوم محمولون على الجور كما مّر عن أبي الحسن .
الخامس : قيل لابن سحنون فبم يعرف السارق المشهور وغير المشهور ؟ فقال : اختلف فيه العلماء . فقيل : إذا كثر طلابه بالسرقة وقويت فيه التهمة فهو مشهور . قال : فكل من ادعى بالسرقة على السارق المشهور بها يحلف على شيئين أنه ضاع وتلف له ما ادعاه على السارق ، ويحلف أيضاً لقد اتهمه ويغرم السارق بغير بينة لأن إشهاره بالسرقة هو شاهد عرفي أقوى من البينة الناطقة . قال : ويقوّم عليه قيمة مغلظة لأنه أحق بالحمل عليه اه . من الدر المكنون . يعني : والغاصب المشهور بالغصب مثل السارق المذكور ، وسيأتي في فصل السرقة أن سراق الزمان كلهم لصوص تجري عليهم أحكام الحرابة ، ويثبت ذلك ولو بالسماع الفاشي وذكر في الدرر المكنونة في نوازل مازونة عن سحنون أنه قال : تجوز على السارق شهادة الصبيان والرعاة إذا عرفوه ، وقالوا : فلان رأيناه سرق دابة فلان وتجوز عليهم شهادة السيارة عدولاً كانوا أو غير عدول وليس قول من قال : لا يجوز عليهم إلا العدول بشيء عندنا ، وقد سئل مالك عن مثلهذا الأمر في لصوص أهل الحجاز وبرابر برقة فقال : تجوز عليهم شهادة من لقيهم من الناس ، فقيل له : إنهم غير عدول . قال : وأين يوجد العدول على مواضع السارق واللص ، وإنما يتبع اللص والسارق الخلوات التي ليس فيها العدول . وقاله محمد بن سحنون اه . ونحوه في تنبيه الغافل قائلاً : تقبل شهادة غير العدول على السارق سواء كان الشاهد رجلاً أو امرأة ولو لم يغرم السارق واللص إلا بشهادة العدول لم يغرم السارق أبداً ، ثم قال : لو شهد عليه واحد يحلف صاحب المتاع معه ويستحق قال : إن كان معروفاً بالسرقة فلا يمين عليه وكل موضع لا يمكن فيه حضور العدول فالشهادة على التوسم بظاهر الإسلام جائزة احتياطاً لأموال الناس ، وسيأتي قول الناظم :
ومالك فيما رواه أشهب
قسامة بغير عدل تجب الخ
فهو شاهد لذلك . وهذا كله شاهد لما تقدم من العمل المذكور إذ شهادة غير العدول كالعدم في نظر الشرع ، ولكن اعتبروها في هذا المحل احتياطاً للأموال ، وبه تعلم أن اعتراض الشيخ مصطفى في أوائل الشهادات من حاشيته على ما تقدم عن المازونية ، ونوازل ابن سحنون قائلاً ذلك كله خلاف المشهور لا يعول عليه لأن اعتراضه مبني على المشهور ، وكلامنا الآن في المعمول به وأيضاً فهو بنفسه نقل عن الذخيرة وغيرها أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول فإنا نجوز شهادة أقلهم فجوراً والأمثل فالأمثل لئلا تضيع المصالح والحقوق . وقال : وما أظن أحداً يخالفه فإن التكليف شرطه الإمكان الخ . ولا شك أن مواطن الخلوات التي يقصدها الغصاب والسراق لا يوجد فيها في الغالب إلا من ذكر من الرعاة ونحوهم فهم أمثل من وجد في تلك المواطن فتجوز شهادتهم للضرورة لئلا تضيع الحقوق كما جازت شهادة الأمثل غير العدول لذلك وعليه فما مر عن المازونية وغيرهما جار على المشهور ، وإنما يعتبر الأمثل إذا وجد مع غيره وإلاَّ لم يعتبر إذ التكليف شرطه الإمكان ، ومن قال ذلك إنما قاله لعدم إمكان العدول في تلك المواطن كما رأيته ومراعاة الاحتياط لأموال الناس كما تقدم عن تنبيه الغافل فلا يصح الاعتراض عليهم ، والقائلون بالعمل المذكور إنما بنوه على مراعاة تلك المصالح والضرورات ومراعاة العرف في زمنهم كما مّر ، ورأوا أن الشهرة بالفساد تنزل منزلة التحقيق وأن ارتكاب المشهور في الزمان الذي غلب على أهله الفساد يفضي إلى سفك الدماء وغصب الأموال كما هو مشاهد بالعيان ، وقول الشيخ عبد القادر الفاسي في بعض فتاويه : إن نوازل ابن سحنون مطعون فيها إن كان يريد في جميعها فلا سبيل إليه ، وإن كان يريد في بعضها فصحيح ، وكل كتاب لا يخلو من ارتكابه غير المشهور في بعض مسائله .
وَالْغُرْمُ والضَّمَانُ مَعْ عِلْمٍ يَجِبْ
عَلَى الَّذِي انْجرَّ إلَيْهِ مَا غُصِبْ
( والغرم والضمان مع علم يجب ) أي : وكما يجب الغرم والضمان على الغاصب كذلك يجبان ( على الذي انجر إليه ما غصب .بإرْثٍ أَوْ مِنْ وَاهِبٍ أَوْ بائِعِ
كالمُتَعَدِّي غَاصِبِ المنافِعِ
بإرث أو ) أنجر إليه ( من واهب ) وهبه له ( أو ) من ( بائع ) باعه له مع علمه في ذلك كله بالغصب ( خ ) : ووارثه وموهوبه إن علما كهو أي كالغاصب فيضمنون التلف ولو بسماوي ، ويردون الغلة حيث استعملوا ولم يفت المغصوب ، فإن فات لم يجمع للمغصوب منه بين القيمة والغلة كما مّر في الغاصب ، وتعتبر القيمة يوم قبضهم للمغصوب ، لأنه يوم الاستيلاء بالنسبة إليهم ويخير المالك في اتباع أيهم شاء ، وإذا رجع المالك على واحد منهم فلا رجوع له على الغاصب كما في المدونة إلا في المشتري إذا وجد المغصوب بيده وأخذه ربه فإنه يرجع بثمنه على الغاصب ولا يكون بعلمه بالغصب واهباً للثمن على الصحيح لأنه لو قصد الهبة لم يرتبها على هذا العقد قاله أبو الحسن . ومفهوم قوله مع علم أنهم إذا لم يعلموا فلا يضمنون السماوي حيث كان مما لا يغاب عليه أو يغاب عليه وقامت على تلفه بينة ، ومعنى عدم ضمانه أنهم لا يكونون غريماً ثانياً للمالك ، بل إنما يرجع بقيمته على الغاصب ويأخذ الغاصب الثمن من المشتري إن كان لم يقبضه ولا يضمن المشتري الغلة التي استغلها غير عالم ولا يضمنها الغاصب أيضاً على المشهور لأنه لم يستعمل ، واحترزت بالسماوي من العمد فإنهم يضمنون ، وكذا الخطأ على المعتمد فيخير المالك حينئذ في مسألة الشراء بين الرجوع على الغاصب فيأخذه بقيمته يوم الاستيلاء وبين الرجوع على المشتري فيأخذه بقيمته يوم التلف ، فإن كانت أقل من القيمة يوم الغصب رجع على الغاصب بتمامها ، ورجع المشتري على الغاصب بالثمن الذي دفع له . وفي مسألة الهبة لا يخير المالك بل يبتدىء بالرجوع على الغاصب فيأخذه بقيمة الموهوب يوم الاستيلاء أو بالغلة التي استغلها الموهوب له حيث اختار تضمينه الغلة دون قيمة الموهوب ، وإلاَّ فلا يجمع له بينهما كما مّر فإن أعسر الغاصب أو لم يوجد أو وجد ولم يقدر عليه فيرجع حينئذ على الموهوب له لأنه المستهلك ثم لا يرجع الموهوب له على الغاصب بشيء كما في المدونة خلافاً لما في التوضيح لأنه يقول له : وهبتك شيئاً لم يتم لك ، وفي مسألة الوارث يخير المالك كتخييره في مسألة الشراء حيث كانت تركة الغاصب موجودة ، وقولهم يرد الوارث الغلة يعني إن كان المغصوب قائماً علم بالغصب أم لا . وفات بسماوي ولم يعلم ، وأما إن فات بجنايته عمداً أو خطأ فالظاهر أنه لا يجمع له بين الغلة والقيمة فتأمله .
تنبيه : إذا تلف المغصوب فغرم الغاصب قيمته ثم وجده فإنه يكون له لا لربه وكذا الراعي والصانع والمستعير وغيرهم كما تقدم الكلام على ذلك مستوفى في باب الصلح . ثم أشار الناظم إلى تعريف المتعدي مشبهاً له بالغاصب في الضمان فقال :
( كالمتعدي ) وهو ( غاصب المنافع ) دون قصد تملك الرقبة كما مّر أول الفصل فإنه يضمن ماتعدى عليه إن هلك بغير سماوي ويضمن الغلة سواء استعمل أو عطل بخلاف الغاصب فلا يضمن إلا غلة ما استعمل ، ويفارقه أيضاً في كونه يضمن القيمة يوم تعديه ، ولا يضمن السماوي بخلاف الغاصب فإنه يضمن القيمة يوم الاستيلاء ويضمن السماوي ويفارقه أيضاً في أنه إذا تعدى على منافع الإبل ونحوها فحبسها عن أسواقها فإنه يضمن قيمتها إن شاء ربها ولو شاء ردها سالمة بخلاف الغاصب فإنه لا خيار لربها إن جاء بها سالمة ، ويفارقه أيضاً في أنه إذا جنى على السلعة فأتلف المقصود منها فإن ربها يخير في أخذها مع ما نقصها أو أخذ قيمتها بخلاف ما إذا لم يتلف المقصود منها بل عيبها عيباً قليلاً فلا خيار لربها ، وإنما له أخذها مع أرش العيب كما يأتي في قوله : ومتلف منفعة مقصوده الخ . بخلاف الغاصب فإن ربها يخير بالعيب القليل والكثير كما مّر عند قوله : فإن تلف قوم والمثل بذي مثل ألف . ثم أشار إلى أن مفهوم المتعدي والغاصب وهو من حاز شيئاً بشبهة من شراء أو غيره ثم استحق من يده بوجه من الوجوه الشرعية لا يرد الغلة فقال :
وَشُبْهَةٌ كالْمِلْكِ في ذا الشَّأْنِ
لِقَوْلِهِ الْخَرَاجُ بالضّمانِ
( وشبهة ) للملك كمشتر ومكتر من غاصب لم يعلما بغصبه وكمجهول حاله لا يدري هل هو غاصب أم لا . وهل واهبه غاصب أم لا . وكذا موهوب الغاصب إذا لم يعلم وكان الغاصب ملياً إذ لو كان معدماً لم تكن لموهوبه غلة كما مّر قريباً لا وارث الغاصب فلا غلة له مطلقاً كما مر . ( كالملك ) التام الذي لم يطرأ عليه استحقاق ( في ذا الشأن ) أي شأن الغلة فلا يردها واحد ممن تقدم حيث طرأ عليه استحقاق ( لقوله ) ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخراج ) أي الغلة ( بالضمان ) والمشتري الذي لم يعلم لو هلك ما اشتراه لكان ضمانه منه بمعنى أنه لا يرجع بثمنه على الغاصب ، فكانت الغلة له وهو معنى قول الفقهاء من عليه التوا فله النما والتوا بالمثناة والقصر أي ضمان الشيء إذا هلك ، والنما بالنون الزيادة والمراد به الغلة .
وَلاَ يَكُون الرَّدُّ في اسْتِحَقَاقِ
وَفَاسِدِ الْبَيْعِ عَلى الإطْلاَقِ
( و ) لكون الخراج بالضمان ( لا يكون الرد ) للغلة ( في ) طرو ( استحقاق ) على من له شبهة الملك كما مّر ولو فرعه بالفاء وقدمه على قوله : الخراج بالضمان لكان أحسن ( خ ) : والغلة لذي الشبهة أو المجهول الحكم كوارث وموهوب ومشتر لم يعلموا الخ . ومراده بالوارث وارث من جهلت حاله أو ظهرت شبهته لا وارث الغاصب لما مر أنه لا غلة له علم أو لم يعلم ، وكذا محيي أرضاً يظنها مواتاً لا غلة له كما مر في ابن يونس ، لكن الوارث ومحيي الأرض وإن كانا لا غلة لهما لا يهدم بناؤهما ولا يقلع زرعهما فذو الشبهة الذي له الغلة أخص من ذي الشبهة الذي لا يقلع غرسه ولا بناؤه بل يجري على قول ( خ ) في الاستحقاق : وإن غرس أو بنى قيل للمالكأعطه قيمته قائماً الخ . ودخل في النظم من باع ما يعرف لغيره زاعماً أن مالكه وكله على بيعه وهو من ناحيته وسببه فلم يثبت التوكيل وفسخ البيع فلا ترد الغلة كما للخمي ، وكذا إذا باع الحاضن ما ليس بيسير ثم فسخ بيعه فلا ترد الغلة أيضاً ، وكذلك إذا باع على الصغير قريبه كالأخ والعم بلا إيصاء ولا حضانة فكبر الصغير وأخذ شيئه ، فإن المشتري لا يرد الغلة ولو كان عالماً يوم البيع بتعدي البائع ، وهذا على أن القريب لا يتنزل منزلة الوصي ، وأما على أنه يتنزل منزلته وهو المعمول به كما مّر فلا إشكال أنه لا يردها بل ولا يفسخ البيع وأما من اشترى حبساً من المحبس عليه وهو عالم بالتحبيس فيردها كما مّر في قوله : ومن يبيع ما عليه حبساً الخ .
تنبيه : قال ابن زرب : من ادعى أنه ابتاع داراً من رجل وأنكر الرجل ذلك فلم تقم للمدعي بينة أنه يؤخذ بخرجها فقال له ابن دحون : أليس الغلة بالضمان ؟ فقال : أليس هذا مقراً بأن الدار كانت للقائم ويزعم أنه ابتاعها ولم يثبت له ذلك فرجع عليه بالغلة . ولو قال الدار ملكي ولم يدع ابتياعها من القائم ثم ثبتت للقائم لم يرجع عليه بالغلة اه . ونظمها في اللامية حيث قال :
وغرم خراج من على غيره ادعى
بملك به سكناه بيعاً تقبلا
الخ
وهذا إذا لم تمض الحيازة القاطعة كعشر سنين وإلاَّ فيصدق وإن لم يثبته كما مَّر في قوله :
في الحيازة واليمين له إن ادعى الشراء منه معمله .
وانظر ما يعارض ما قاله ابن زرب في فصل الاستحقاق من شرحنا للشامل ، ثم ذكر أربعة أمور لا ترد فيها الغلة لدخولها في الخراج بالضمان فقال : ( و ) لا ترد الغلة أيضاً في ( فاسد البيع على الإطلاق ) كان قائماً وفسخ البيع ورد المبيع أو فات بالثمن أو القيمة ( خ ) : وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ولا غلة تصحبه ، فإن فات مضى المختلف فيه بثمنه وإلاَّ ضمن قيمته الخ .
وَالرَّدِّ بالْعَيْبِ وَلا في السِّلْعَهْ
مَوجُودَةً في فَلَسٍ وَالشُّفْعَهْ
( و ) لا ترد أيضاً في ( الرد بالعيب ) يطلع عليه بعد أن استغل لكون الضمان منه أو هلك المبيع ( ولا ) ترد أيضاً ( في السلعة ) كسفينة ودابة مثلاً اشتراهما واستغلهما قبل أن يدفع الثمن وكانت كلتاهما ( موجودة ) بحالها ( في فلس ) المشتري فإن ربهما يكون أحق بهما في ثمنه ولا يرجع على المفلس بما استغله لكون الضمان منه لو هلكتا بيده . ( و ) لا ترد أيضاً في ( الشفعة ) يقوم بها الشريك بعد أن استغل المشتري لكون الضمان منه لو هلك الشقص ، وقدأشار ( خ ) لهذه الأمور في العيوب حيث قال : والغلة له أي للمشتري للفسخ بخلاف ولد وثمرة أبرت وصوف تم كشفعة واستحقاق وتفليس وفساد الخ . وقد استفيد من قوله : بخلاف ولد إلى قوله وصوف ، تم أن عدم رد الغلة في هذه الأمور الخمسة إنما هو فيما حدث منها بعد البيع ، لكن إن كان ثمرة غير مؤبرة يوم الشراء أو حدثت بعده ففي العيب والفساد يستحقها المشتري بمجرد الزهو وفي الشفعة والاستحقاق باليبس وفي التفليس بالجذاذ وهو القطع ، وإليه أشار ابن غازي بقوله :
الجذ في الثمار فيما انتقيا
يضبطه تجد عفزاً شسيا
ومعنى انتقيا اختير فالتاء في تجد للتفليس والجيم وحدها أو مع الدال للجذاذ والعين والفاء في عفزاً للعيب والفساد والزاي للزهو والشين والسين في شسيا للشفعة والاستحقاق ، والياء لليبس فإن كانت صوفاً غير تام وقت البيع أو حدث بعده فهو له إذا جزه قبل الاطلاع على العيب ، فإن اطلع عليه قبل جزه فهو تبع للغنم ولو تم ، وإن جزه بعد الاطلاع فهو رضا . قال في المقدمات : ولا يرجع المبتاع بشيء من نفقته عليها بخلاف النخل ، وفي الاستحقاق يأخذه المبتاع إذا جذت وكذا في الفساد والتفليس ولا تتصور الشفعة فيه هذا حكم الحادث من الغلة في الأمور المذكورة ، وأما ما كان موجوداً قبل البيع ففيه تفصيل أيضاً فالولد سواء كان مما لا يعقل أم لا ليس بغلة في الاستحقاق والرد بالعيب والتفليس فهو للبائع في الآخرين ، وللمستحق في الأول سواء اشتراها حاملاً الولد أو حدث الولد عنده ، وفي الفساد يفوته ويوجب الرجوع بالقيمة وفي الشفعة لا يتصور فيها ، وأما الثمرة المؤبرة حين البيع فهي للبائع ألا أن يشترطها المشتري فإن اشترطها واطلع على عيب فيردها إن كانت قائمة وإلاَّ رد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت أو ثمنها إن بيعت لأن لها وقت البيع حصة من الثمن ويرجع بسفيه وعلاجه ، وحكمها في البيع الفاسد كحكم الرد بالعيب ، وأما في التفليس فالبائع أحق بها ما لم تجذ فإن جذت كان أحق بالأصول بما ينوبها من الثمن ويحاصص بما ينوب الثمرة ، وأما في الاستحقاق والشفعة فإن طرأ أحدهما قبل طيب الثمرة فهو أحق بها بعد أن يؤدي أجرة السقي والعلاج وإن طرأ بعد طيب الثمرة قبل يبسها أو بعد يبسها ولم تجذ أو بعد جذها وهي قائمة أو فائتة فإن المستحق يأخذ الثمرة بعد أن يرفع أجرة السقي والعلاج على نحو ما تقدم في العيب ، والشفيع يأخذها مع الأصول مع أجرة السقي والعلاج ما لم تيبس وإلا فيأخذ الأصل ويحط عنه ما ينوب الثمرة من الثمن كما قال ( خ ) في الشفعة : وحط حصتها إن أزهت أو أبرت الخ . وأما الصوف التام وقت البيع ففي العيب يرده مع الغنم فإن جزه وفات رد مثله فإن لم يعلم وزنه ردالغنم بحصتها من الثمن . اللخمي : وإن وجد العيب بعد أن جزها وعاد إليها الصوف ردها ولا شيء عليه للصوف الأول اه . ولا يرجع المبتاع بشيء من نفقته عليها بخلاف النخل ، والفرق أن للغنم غلة تبتغي منها سوى الصوف وفي استحقاق الغنم يأخذه المستحق إن كان قائماً أو مثله إن استهلكه المبتاع وعلم وزنه ، وإلاَّ رد قيمته وإن كان قد باعه رد ثمنه . وفي التفليس يكون بائعه أحق به مدة كونه قائماً وإن جزه المفلس ، وإن فات خير البائع بين أخذ الغنم بما ينوبها من الثمن وحاص بما ينوب الصوف منه وبين تسليم الغنم وحاص بجميع ثمنها وفي البيع الفاسد قال ( ح ) لم أقف على نص فيه ، والظاهر أن حكمه حكم العيب ، وأما في الشفعة فلا تتصور في الصوف ثم أشار إلى بقية الكلام على المتعدي ، وتقدم أنه إذا أتلف الشيء ضمنه ، وإذا عيبه فيخير ربه بين المفيت للمقصود دون غيره فليس له إلا أرش العيب فقال :
وَمْتْلِفٌ مَنْفَعَةً مَقْصُودَهْ
مما له كيْفيَّةٌ مَعْهُودَهْ
( ومتلف منفعة مقصودة ) كقلع عيني عبد أو قطع يديه أو يد واحدة وهو صانع أو إذهاب لبن شاة هو معظم المقصود منها أو قطع رجل واحدة من أي حيوان كان أو قطع ذنب دابة ذي هيئة ومروءة كقاض وأمير وكاتب وشهيد أو قطع طيلسان من ذكر أو عمامته ونحو ذلك . ( مما له كيفية معهودة ) عند ربه لا يستعمله إلا على تلك الكيفية ، وإنما كان قطع الذنب وما بعده مفيتاً وإن كان عيباً يسيراً مراعاة لمالكها لأن ذا الهيبة لا يلبسها ولا يركبها على تلك الحال فصار قطعها كإتلافها عليه ، ولذا وجب له الخيار كما قال :
صَاحِبُهُ خُيِّرَ في الأَخْذِ لَهُ
مَعْ أَخْذِهِ لأَرْشِ عَيْبٍ حَلَّهُ
( صاحبه خير ) أي يخير ( في الأخذ له ) أي للشيء الذي فات المقصود منه ( مع أخذه لأرش عيب حله ) فيقوم سالماً بعشرة ومعيباً بخمسة مثلاً فيأخذه مع الخمسة .
أَوْ أَخْذِهِ لِقيمَةِ الْمَعِيبِ
يَوْمَ حُدُوثِ حَالَةِ التَّغْيِيب
( أو ) بمعنى الواو أي وفي ( أخذه لقيمة المعيب ) سالماً معتبرة ( يوم حدوث حالة التعييب ) وهي العشرة في المثال المذكور ويسلم المعيب للمتعدي . ثم أشار إلى مفهوم مقصوده فقال :
وَلَيْسَ إلا الأَرْشُ حَيْثُ المَنْفَعَهْ
يَسِيرَةٌ والشَّيْءُ مَعْهَا في سِعَه( وليس ) يجب لربه على المتعدي ( إلا الأرش حيث ) كانت ( المنفعة ) الذي أفسدها المتعدي ( يسيرة ) لا تفيت المقصود كإذهاب لبن بقرة أو ناقة لأن فيهما منافع غير اللبن ، ومن ذلك من قتل عجلاً فعليه قيمته وما نقصته أمه من حلابها ، وكذلك قطع لبن حمارة أو رمكة أو قلع عين واحدة لعبد لأن العين الباقية يتصرف معها كما يتصرف بالاثنين أو قطع يد واحدة وهو غير صانع أو خرق ثوب أو كسر قصعة خرقاً وكسراً لا يفيت المقصود فإن الشيء يقوم في ذلك كله سالماً بعشرة مثلاً ومعيباً بثمانية ويأخذه مع ما نقصه ولا خيار لربه . ( و ) إنما لم يخير لأن ( الشيء ) المجنى عليه لا زال ( معها ) أي الجناية ( في سعة ) لم يفت المقصود منه ( خ ) والمتعدي جان على بعض غالباً فإن أفات المقصود منه كقطع ذنب دابة ذي هيئة أو أذنها أو طيلسانه ولبن شاة هو المقصود ، أو قلع عيني عبد أو يديه فله أخذه ونقصه أو قيمته ، وإن لم يفته فنقصه الخ . لكن إنما يأخذه ربه مع نقصه في المفيت وغيره .
مِنْ بَعْدِ رَفْوِ الثوْبِ أَوْ إِصْلاحِ
ما كانَ مِنْهُ قَابِلَ الصَّلاحِ
( من بعد رفو الثوب ) الذي خرقه عمداً أو خطأ ( أو إصلاح ما كان منه قابل الصلاح ) كقصعة فيرقعها أو عصا فيجبرها أو حلى فيصيغه ، فإن رجع لحالته فلا شيء عليه والإغرام ما نقصه الثوب ونحوه بعد الرفو والترقيع لا قبل ذلك ، فإذا كان أرش النقص قبل الرفو درهمين وبعده درهماً واحداً وأجر الرفو نصف درهم فإنما يلزمه درهم ونصف وإنما يلزمه رفوه في المفيت إذا اختار ربه أخذه ونقصه إذ في حالة اختيار ربه القيمة ليس على المتعدي رفوه ، وما قررناه به من أنه يلزمه رفوه في المفيت وغيره هو المشهور . ( خ ) : ورفو الثوب مطلقاً الخ . وقيل إنما يلزمه الرفو في غير المفيت ، ورجحه ابن يونس ، ودرج عليه ابن سلمون وابن فرحون وغيرهما ، وهو ظاهر المدونة والناظم ، بل صرح ابن سلمون بأن القول بالرفو في المفيت ضعيف ، وذلك كله يفيد أن ما رجحه ابن يونس هو المعتمد ، ومفهوم رفو الثوب أن الدابة لا يلزمه أن يداويها ، وكذا أجرة الطبيب لا تلزمه ، وقيل يلزمانه ( خ ) : وفي أجرة الطبيب قولان . ورجح كل منهما فرجح ( تت ) في كبيره عدم اللزوم قال وقال بعضهم : إنه المشهور ورجح الأجهوري ومن تبعه الثاني ، وهو الذي استحسنه اللخمي وابن عرفة كما نقله الزرقاني في الدماء قائلاً : ثم الذي استحسنه ابن عرفة القول بأن على الجاني أجرة الطبيب وثمن الدواء سواء برىء على شين أم لا . مع الحكومة في الأول ، وأما ما فيه شين مقدر فليس فيه دواء ، ولو برىء على شين سوى موضحة الوجه والرأس فيه أجرة الطبيب وثمن الدواء اه . ونحوه في ابن سلمون قائلاً : والحيوان وغيره في ذلك سواء يعني يلزمه مداواة الدابة وغيرها كما يلزمه رفو الثوب ، وبهذا تعلم أن ما رجحه الأجهوري ومن تبعه أصح وأقوى ، وعليه فإن برئت الدابة أو غيرها على غير شين فلا شيء عليه إلا الأدب في العمد ، وإن برئا على شين غرم النقص في الدابةوالعبد وفي الحر حكومة بنسبة نقصان الجناية إذا برىء من قيمته عبداً فرضاً من الدية الخ . كما يأتي إن شاء الله . ومحل القولين في جرح خطأ ليس فيه مال مقدر أو عمداً لا قصاص فيه لإتلافه أو لعدم المساواة أو لعدم المثل وليس فيه مال مقدر أيضاً ، وأما إذا كان فيه مال مقدر فإنما عليه ذلك المال ولا يلزمه دواء ولا ثمنه ، ولو برىء على شين كما لابن عرفة ، وكذا العمد الذي فيه القصاص فإن الواجب فيه القصاص إلا أن يتصالحا على شيء يتفقان عليه .
تنبيه : قال ابن رحال : تنزل عندنا نازلة وهي أن الخماس مثلاً يخرج في وقت الحصاد أو الحرث فيمنع من العمل هل يلزم الجاني أن يعطيه أجيراً يخدم في محله لأنه عطله ولا عنده ما يعيش به غير ما ذكر قال : ويظهر من كلام اللخمي أنه يلزم الجاني ذلك لأنه ظالم أحق بالحمل عليه اه .
قلت : هذا الجرح إن كان عمداً فالواجب فيه القصاص فإن تصالحا على شيء فلا كلام ، وإن طلب القصاص فليس له أن يقتص ويأخذ أجيراً يخدم في محله لأن الشارع إنما حكم بالقصاص من غير زيادة عليه ولا حجة في كونه عطله لأن الجانب كذلك يعطل أيضاً عن حرفته وقت قصاصه منه ، وإن كان الجرح خطأ مما لا قصاص أو لكونه من المتالف أو لعدم المماثل فهذا الذي تقدم أنه يجب فيه أجرة المداواة وتجب فيه الحكومة إن برىء على شين ، وإن كان فيه مال مقدر فإنما عليه ذلك المقدر كما مرّ . فقوله يظهر من كلام اللخمي الخ . غير ظاهر وبهذا كنت اعترضته في شرحنا للشامل ثم بعد ذلك بسنين وقفت على الشيخ الرهوني اعترضه أيضاً بقول ( خ ) : وضمن منفعة البضع والحر بالتفويت وغيرهما بالفوات الخ قائلاً : فالمجروح إن كان حراً فلا شيء على من عطله إذا لم يستعمله كما لو عطله بشد يده أو غير ذلك من موانع العمل ، وإن كان عبداً وجب عليه غرم قيمة منفعته لا أنه يأتي بشخص آخر يعمل مكانه .
فصل في الاغتصابوهو وطء حرة أو أمة جبراً على غير وجه شرعي .
وَوَاطِىءٌ لِحُرَّةٍ مُغْتَصِبا
صَدَاقُ مِثْلِهَا عليه وَجَبَا
( و ) بالغ ( واطىء لحرة مغتصبا ) بكسر الصاد أي مكرهاً لها ( صداق مثلها ) يوم الوطء ( خ ) : ومهر المثل ما يرغب به مثله فيها باعتبار دين وجمال وحسب ومال وبلد الخ . أي وكونها بكراً أو ثيباً من جملة ما يرغب به فيها . ( عليه وجبا ) ويتعدد الصداق بتعدد الوطآت بخلاف وطء الشبهة ( خ ) واتحد المهران اتحدت الشبهة كالغالط بغير عالمة وإلاَّ تعدد كالزنا بها أو بالمكرهة الخ . والضمير في قوله بها يعود على غير العالمة ، ومفهوم قوله مغتصباً . وقول ( خ )بالمكرهة أن الزنا بالطائعة لا صداق فيه وهو كذلك لأنها أذنت في فساد بضعها ، وهذا ظاهر إذا كانت بالغة يعتبر إذنها ، وانظر لو كانت صغيرة يوطأ مثلها وطاوعته على الزنا بها هل عليه صداقها وهو الظاهر لأن إذنها غير معتبر ، وأما من لا يوطأ مثلها فإنما عليه ما شانها ونقصها عن صداق مثلها لأن وطأها جرح لا وطء ، واحترزت بقولي بالغ من الصغير يطأ السفيهة أو الصغيرة البكرين فعليه ما شانهما بدليل قوله : وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه ولا عبرة برضا الصغيرة وموافقتها له على الوطء ، وكذا السفيهة بخلاف الرشيدة ولا شيء عليه في الثيب ، انظر الشارح عند قوله في النكاح : ولولي صغير فسخ عقده الخ .
إنْ ثَبَتَ الوطءُ ولو بِبَيِّنَهْ
بأَنَّهُ غَابَ عَلَيْهَا مُعْلِنَه
( إن ثبت الوطء ) بالمعاينة أو بالإقرار من غير المحجور بل ( ولو ببينة بأنه غاب عليها معلنة ) صفة لقوله : بينة أي ولو ببينة معلنة أي شاهدة بأنه احتملها بمحضرهم وغاب عليها غيبة يمكن فيها الوطء وادعته المرأة ولو صغيرة يمكن وطؤها أو سفيهة ، فإنه يجب لها جميع الصداق فإن صدقت الغاصب في عدم الوطء فلا شيء لها ولو صغيرة كما يفهم من قول ( خ ) : وصدقت في خلوة الاهتداء في الوطء وفي نفيه وإن سفيهة وأمة الخ . وظاهره أن البكر لا ينظرها النساء والعمل على خلافه .
وَقيمَةُ النَّقص عليه في الأَمَهْ
هَبْهَا سِوَى بِكْرٍ وَغَيْرِ مُسْلِمَه
( وقيمة النقص عليه في الأمة ) أي وعليه في الأمة ما نقصها وطؤه علياً كانت أو وخشاً طائعة أو مكرهة ( هبها سوى ) أي غير ( بكر ) بأن تكون ثيباً ( وغير مسلمة ) بأن تكون يهودية أو نصرانية ، وهذا حيث أقر بوطئها أو قامت عليه بينة بمعاينة الوطء ، وأما إن شهدت بينة بغيبته عليها غيبة يمكن فيها الوطء فالمشهور لا شيء عليه ، وقيل يضمن قيمة النقص ، ويجب أن يكون العمل عليه لموافقته لما مرّ في الغاصب للصرة وغيرها . وثالثها إن كانت رائعة واختاره ابن رشد ، وإنما وجب عليه ما نقصها في الثيب لأنه بوطئه أحدث فيها عيباً وهو مؤالفتها للزنا لأنها وإن كانت مكرهة فقد ترضى به في ثاني حال فتقوم على أنها لم يطأها الغاصب بعشرة مثلاً وبوطئة بثمانية ويغرم ما بينهما .
وَالوَلَدُ اسْتُرِقَّ حَيْثُ عَلِمَا
وَالحَدُّ مَعْ ذَاكَ عليه فِيهما
( والولد ) من الأمة المذكورة ( استرق ) أي يحكم باسترقاقه ( حيث علما ) أنه من الزنا وذلك بأن لم يكن لها زوج ولا سيد أو كان لها سيد ونفاه بشرط اعتماده في نفيه على الاستبراء بحيضةوولدت لستة أشهر فأكثر من يوم الزنا ( خ ) : ولا يمين إن أنكره ونفاه وولدت لستة أشهر الخ . فإن لم ينفه وادعت هي أنه من الغصب فلا كلام لها ، وكذا إن قالت : هو من الزوج الأول وقد أتت به لستة أشهر فأكثر من تزوج الثاني فلا يقبل قولها ، بل هو للثاني حرة كانت أو أمة ، ولو صدقها الثاني في ذلك فلا ينتفي عنه إلا بلعان ( خ ) : ولو تصادقا على نفيه ( والحد مع ذاك ) الغرم للصداق أو قيمة النقص ( عليه فيهما ) أي الحرة والأمة ، وهذا إذا شهد أربعة بمعاينة الوطء أو أقر بذلك على نفسه ولم يرجع عنه ، وأما إن شهدوا بأنه احتملها وغاب عليها وادعت المرأة الوطء وأنكر هو فلا حد عليه ، وإنما عليه الصداق للحرة ولا شيء عليه في الأمة كما مر . وقوله في المقرب : ومن اغتصب امرأة ووطئها في دبرها يعني ادعت هي ذلك بعد غيبته عليها فلها الصداق دون الحد عليه ، إذ لا يجب الحد إلا بالبينة أو الإقرار كما مر ، وأما الاستبراء فواجب عليها ( خ ) عاطفاً على ما يوجب قدر العدة أو غاب غاصب أو ساب أو مشتر الخ . ثم أشار إلى مفهوم قوله : إن ثبت الوطء الخ . فقال :
وإنْ يَكُنْ ذَا الْغَصْبُ بالدَّعْوَى فَفِي
تَفْصِيلِهِ بَيَانُ حُكْمِهِ يَفي
( وإن يكن ذا الغصب بالدعوى ) فقط من غير ثبوته ببينة ولا إقرار ( ففي تفصيله ) يتعلق بيفي آخر البيت ( بيان حكمه ) مبتدأ خبره ( يفي ) والجملة جواب الشرط ، والتقدير فبيان حكمه يأتي مذكوراً في تفصيله وحاصل التفصيل أن المدعى عليه إما أن يكون معروفاً بالدين والخير ، وإما أن يكون مجهول الحال لا يعرف بخير ولا فسق ، وإما أن يكون معروفاً بالفساد والفسق ، وفي كل إما أن تأتي مستغيثة متعلقة به عند النازلة أو تدعي عليه ذلك بعد حين فالأقسام ستة فأشار إلى أولها بقوله :
فَحَيْثُمَا الدَّعْوَى عَلَى مَنْ قَدْ شُهِرْ
بالدِّيْنِ وَالصَّلاَحِ وَالفَضْلِ نُظِرْ
( فحيثما الدعوى على من قد شهر بالدين والصلاح والفضل نظر ) . في ذلك .فإنْ تَكُنْ بَعْدَ التَّرَاخِي زَمَنَا
حُدَّتْ لِقَذْفٍ وَبِحَمْلٍ للزِّنَا
( فإن تكن ) الدعوى ( بعد التراخي ) عن النازلة ( زمناً ) قريباً أو بعيداً ( حدت لقذف ) فتجلد ثمانين ( و ) حدت أيضاً ( ب ) سبب ( حمل ) ظهر بها ( للزنا ) إن كانت محصنة ولم ترجع عن قولها . وتجلد مائة إن كانت بكراً وإنما تعدد الحد لاختلاف موجبهما .
وَحَيْثُما رَحِمُهَا مِنْهُ بَرِي
فالحدُّ تَسْتَوْجِبُهُ في الأَظْهَرِ
( وحيثما رحمها منه ) أي من الحمل ( برى فالحد ) للزنا ( تستوجبه ) أيضاً ( في ) القول ( الأظهر ) هذا كله بالنسبة للمرأة ، وأما الرجل فلا يمين عليه ولا صداق كما يأتي في قوله : وما على المشهور بالعفاف مهر ولا حلف الخ . وأحرى لا حد عليه ، وظاهره أنه لا يفصل فيها التفصيل الآتي في مجهول الحال بين كونها معروفة بالصيانة أو لا بل الحكم ما ذكر في هذا القسم كيف ما كانت هي ، وهو ظاهر ابن رشد أيضاً حيث قال : فإن ادعت على من لا يليق به ذلك وهي غير متعلقة به فلا خلاف أنه لا شيء على الرجل وأنها تحد له حد القذف وحد الزنا إن ظهر بها حمل ، وإن لم يظهر بها فيتخرج وجوب حد الزنا عليها على الاختلاف فيمن أقر بوطء أمة رجل وادعى أنه اشتراها منه أو وطء امرأة وادعى أنه تزوجها ، فتحد على مذهب ابن القاسم إلا أن ترجع عن قولها ولا تحد على مذهب أشهب اه . ومفهوم بعد التراخي أنها إذا جاءت متعلقة به فحد القذف لازم لها ، وحد الزنا يسقط عنها مطلقاً كما يأتي في قوله :
وحيث دعوى صاحبت تعلقا
حد الزنا يسقط عنها مطلقا
الخ .
وكان حقه التقدم ههنا . وأشار إلى الثاني بقوله :
وَذَاكَ في الْمَجْهُولِ حَالاً إنْ جُهِلْ
حالٌ لها أَوْ لَمْ تَحُزْ صَوْناً نُقِل
( وذاك ) مبتدأ خبره نقل آخر البيت و ( في المجهول ) يتعلق به ( حالاً ) تمييز محول عن النائب وقوله : ( إن جهل حال لها ) شرط حذف جوابه للدلالة عليه ( أو لم تحز صوناً ) معطوف على الشرط ( نقل ) والتقدير : وذاك الحكم المذكور في المعروف بالخير هو الحكم المنقول في المجهول حاله وإن كانت هي المجهولة الحال أيضاً أو معروفة بعدم الصيانة والعفاف ، وعليه فإن كانتالدعوى بعد التراخي زمناً حدت للقذف وللزنا إن ظهر بها حمل وكذا إن لم يظهر في القول الأظهر .
وَإنْ تَكُنْ مِمَّنْ لها صَوْنٌ فَفِي
وجُوبِهِ تَخْرِيجاً الخُلْفُ قُفي ( وإن تكن ممن لها صون ) والموضوع بحاله من دعواها على مجهول الحال ( ففي وجوبه ) أي حد القذف عليها ( تخريجاً الخلف ) مبتدأ خبره ( قفي ) وفي وجوبه متعلق به ، والجملة جواب الشرط وتخريجاً مصدر بمعنى المفعول حال من الضمير في قفي ، والتقدير : وإن تكن ممن لها صون فالخلف قفي في وجوب الحد عليها حال كونه مخرجاً لا نصاً ، وظاهره أن الخلاف في حد الزنا والقذف والذي في ابن رشد تخصيصه بحد القذف ويظهر منه أنها تحد للزنا إن ظهر بها حمل أو لم يظهر على ما مر ، وعلى القول بحدها له لا شيء عليه وعلى مقابله إنما عليه اليمين كما قال :
وَحَيْثُ قيل لا تُحَدُّ إنْ نَكَلْ
فالمَهْرُ مَعْ يَمِينِهَا لها حَصَلْ ( وحيث قيل لا تحد ) فاليمين عليه ( و ) إن ( نكل ) عنها ( فالمهر ) يلزمه بنكوله ( مع يمينها لها حصل ) ولا حد عليه لأنه لم يقر والظرف والمجرور يتعلقان بحصل . هذا حكم المجهول إذا لم تتعلق به ، وأما إن جاءت متعلقة به فلا حدّ عليها لا للزنا ولا للقذف حيث كانت من أهل العفاف وإلاَّ فقولان كما يأتي في قوله : وعدم الحد كذا للمنبهم حالاً الخ .
وَما عَلَى المَشْهُورِ بالعَفَافِ
مَهْرٌ وَلا حَلْفٌ بِلا خِلاَفِ
( وما على المشهور بالعفاف ) وهو القسم الأول ( مهر ولا حلف بلا خلاف ) وكان حقه التقديم إثر قوله : تستوجبه في الأظهر ويصل بذلك قوله :
وَحَيْثُ دَعْوَى صَاحَبَتْ تَعلُّقا
حَدَّ الزَّنَا يَسْقُطُ عنها مُطْلَقَا
( وحيث دعوى ) على المشهور بالخير والعفاف ( صاحبت تعلقاً ) به وقت النازلة جاءت مستغيثة تدمى إن كانت بكراً ف ( حد الزنا يسقط عنها مطلقاً ) ظهر بها حمل أم لا . لما بالغت من فضيحة نفسها ، ومعنى التعلق أن تذكر ذلك في الحين وتشتكي بذلك لأهلها ، وليس المراد أن تأتي ماسكة بيده أو بثوبه ، فهذا لا يتأتى لها فيمن لا قدرة لها عليه . قال في أوائل نوازلالدعاوى من المعيار : معنى قولهم تدمى أن تأتي صارخة مستغيثة ، ولو كانت ثيباً وليست كل معصوبة تقدر على التعلق .
وَالْقَذْفُ فيهِ الحَدُّ لابْنِ القَاسِمِ
وَخَلْفُهُ لَدَيْهِ غَيْرُ لازِمِ ( و ) أما ( القذف ) فكذلك لا حد عليها عند غير ابن القاسم ، و ( فيه الحد لابن القاسم وحلفه لديه ) أي ابن القاسم ( غير لازم ) . لأنه قد برأه ونزهه .
وَمَن نَفَى الحَدَّ فَعِنْدَهُ يَجِبْ
تَحْليفُهُ بأَنَّ دَعْوَاهَا كَذِبْ ( ومن نفى الحد ) عنها بقذفه وهو غير ابن القاسم ( فعنده يجب تحليفه ) لها ( بأن دعواها ) عليه ( كذب ) فإن حلف برىء .
ومَعْ نُكُولِهِ لَهَا اليمينُ
وتأْخُذُ الصَّداقَ ما يكُونُ ( ومع نكوله ) عن اليمين ( لها ) هي ( اليمين ) أن ما ادعته عليه لحق ( ونأخذ الصداق ) أي صداق مثلها ( ما ) أي شيء ( يكون ) قل أو جل ، ومحل الخلاف المتقدم في حدها للقذف إنما هو إذا كانت معروفة بالصيانة والعفاف .
وَحَدُّهَا لهُ اتَفَاقاً إنْ تَكُنْ
لَيْسَ لها صَونٌ وَلا حالٌ حَسَنْ ( و ) الأوجب ( حدها له اتفاقاً إن تكن ليس لها صون ولا حال حسن ) . وهذه الأبيات من قوله : وما على المشهور بالعفاف إلى هنا كلها حقها التقديم إثر قوله : يستوجبه في الأظهر كما مرت إليه . ثم أشار إلى الدعوى على مجهول الحال المصحوبة بتعلقها به فقال :
وَعَدَمُ الحَدِّ كَذَا لِلْمُنْبَهِم
حالا إذَا كانت تَوَقَّى مَا يَصِم ( وعدم الحد ) للقذف والزنا ( كذا ) أي واجب اتفاقاً في دعواها ( للمنبهم ) أي عليه فاللام بمعنى ( على ) ( وحالاً ) تمييز محول عن الفاعل وهذا ( إذا ) جاءت متعلقة به تدمى إن كانت بكراً و ( كانت ) معروفة بالعفاف والصيانة ( توقى ) أصله تتوقى فحذفت إحدى التاءين لقول صاحب الخلاصة وما بتاءين قد يقتصر فيه على تا الخ . ( يصم ) أي يعيب ويقبح .
وَإنْ تَكُنْ لاَ تَتَوَقَّى ذَلِكْ
فالخُلْفُ تَخْرِيجاً بَدَا هُنَالِكْ
( وإن تكن لا تتوقى ذلك ) الذي يصم ويعيب ( فالخلف ) في حدها له للقذف ( تخريجاً ) حالمن فاعل ( بدا هنالك ) وكان حقه أي يصل قوله : وعدم الحد الخ . بقوله مع يمينها لها حصل كما مرت الإشارة إليه ، ثم إذا قلنا : لا تحد هنا اتفاقاً في الصينة وعلى أحد القولين في غيرها ، فلا بد أن يحلف فإن نكل حلفت واستحقت عليه صداق مثلها كما قال بعد :
وإن يكن مجهول حال فيجب
تحليفه ومع نكول ينقلب
الخ .
فكان حقه أن يقدمه ههنا ثم أشار إلى الثالث بقسميه أي مع تعلق به أو بعد حين فقال :
وَفي ادِّعائِهَا عَلَى المَشْتَهَرِ
بالْفِسْقِ حَالتَانِ للمُعْتَبِرِ
( وفي ادعائها على المشتهر بالفسق حالتان للمعتبر ) أحداهما .
حالُ تَشبُّثٍ وَبِكْرٌ تُدْمَى
فذِي سُقُوطُ الحدِّ عنها عَمَّى
( حال تشبث ) أن تعلق به أي تذكر ذلك في الحين كما مر ( وبكر تدمى فذي سقوط الحد عنها عمى .
في القَذْفِ وَالزِّنَا وإنْ حَمْلٌ ظَهَرْ
وفي وُجُوب المَهْرِ خَلْفٌ مُعْتَبَرْ
في القذف والزنا ) إن لم يظهر بها حمل بل ( وإن حمل ظهر ) لما بالغت من فضيحة نفسها ولشبهة دعواها عليه ( وفي وجوب المهر ) لها عليه ( خلف معتبر ) فروى عيسى عن ابن القاسم : لا شيء عليه ، ولو كان أشر من عبد الله بن الأزرق في زمانه ، ولكن بعد يمينه لأنه إذا كان يحلف مجهول الحال لرد دعواها فأحرى هذا . وروى أشهب عن مالك : لها مهر مثلها إن كانت حرة أو ما نقصها إن كانت أمة ، وبه صدر في المقدمات ونحوه في الواضحة عن مطرف وغيره ، وهو الذي يجب العمل به لموافقته لما مر في الغصب عند قول الناظم : والقول للغاصب في دعوى التلف الخ . لأنه إذا كان المعمول به في الأموال أن المغصوب منه مصدق فأحرى في الفروج ولأنه راجع للمال ، ومن حمل الناس على خلاف المعمول به الذي قدمناه فإنه يريد زيادة الفساد وتضييع حقوق العباد . وثالثها لابن الماجشون لها الصداق إن كانت حرة ولا شيء لها إن كانت أمة .
وَحَيْثُ قِيلَ إنّهَا تَسْتَوْجِبُهْ
فَبَعْدَ حَلْفٍ في الأَصَحِّ تَطْلُبُهْ
( وحيث قيل إنها تستوجبه ) أي الصداق ( فبعد حلف في الأصح ) عند ابن رشد وهو قولابن القاسم ( تطلبه ) ومقابله لأشهب عن مالك أنها تأخذه بغير يمين ، وربما يفهم من هذا أن لابن القاسم قولين : أحدهما لا شيء عليه وهي رواية عيسى عنه ، والثاني يوافق عليه مالكاً ولكن يقول تأخذه بيمين .
وَإنْ يَكُن مَجْهُولُ حالٍ فَيجِبْ
تَحْلِيفُهُ وَمَعْ نُكُولٍ يَنْقَلِبْ
( وإن يكن مجهول حال فيجب تحليفه ومع نكول ينقلب ) . وتقدم أن حقه أن يذكر هذا البيت عقب قوله : فالخلف تخريجاً بدا هنالك . ثم أشار إلى مفهوم قوله : حال تشبث الخ . وهي الحالة الثانية بالنسبة للمشتهر بالفسق فقال :
وحالةٌ بَعْدَ زَمَانِ الفِعْلِ
فالحَدُّ سَاقِطٌ سِوَى مَعْ حَمْلِ
( وحالة ) تدعي فيها على المشتهر بالفسق ( بعد زمان الفعل فالحد ساقط ) عنها للقذف وكذا للزنا ( سوى مع حمل ) يظهر بها فتحد حينئذ .
ولا صَدَاقَ ثم إنْ لَمْ يَنْكَشِفْ
مِنْ أَمْرِهِ بالسِّجْنِ شَيْءٌ فالحَلِفْ
( ولا صداق ) لها في هذه الحالة ، وإنما ينظر الإمام في أمره فيسجنه ويتجسس على حاله ويفعل فيه ما ينكشف به أمره ( ثم إن ) فعل به ما ذكر و ( لم ينكشف من أمره ب ) طول ( السجن شيء فالحلف ) أنه ما اغتصبها واجب علي .
وَإنْ أَبَى مِنَ اليَمينِ حَلَفَتْ
وَلِصَدَاقِ الْمِثْلِ منه اسْتَوْجَبَتْ
( وإن أبى من اليمين ) أي امتنع منها ( حلفت ) هي ( ولصداق المثل منه استوجبت ) قاله ابن رشد وحاصله أنه لا صداق لها في مجرد الدعوى على الصالح ومجهول الحال مطلقاً وكذا في الفاسد إن حلف مع عدم تعلقها به فإن تعلقت فالمعمول به أن لها الصداق ، وأما الحد فهو منتف على الرجل مطلقاً ، وأما هي فتحد مع عدم التعلق في الصالح ومجهول الحال للقذف والزنا إن ظهر بها حمل أو لم يظهر في القول الأظهر ( خ ) : وإن ادعت استكراها على غير لائق بلا تعلق حدث الخ . وإن تعلقت فلا حد للزنا وإن ظهر بها حمل وحدت للقذف في الصالح على قول ابن القاسم لا على قول غيره ، ومحل الخلاف إن كانت صينة وإلا حدت اتفاقاً ولا تحد للقذف اتفاقاً مع الصون في المجهول الحال ومع عدمه قولان . ولا تحد في الدعوى على الفاسق مطلقاً مع التعلق ؛ وكذا مع عدمه إن لم يظهر بها حمل والله أعلم . وانظر أواخر فصل الصداق من ابن عرفة فإنه أطال في المسألة وفيه زيادة على ما في النظم .
فصل في دعوى السرقة
وهي كما في الشامل أخذ مال أو غيره من حرز خفية لم يؤتمن فقوله أو غيره يريد به الطفل الصغير الحر الذي لا يعقل فإن آخذه يعد سارقاً ويقطع به وليس بمال ، واحترز بقوله : من حرز مما لو أخذه من غير حرز فلا يعد سارقاً ، والحرز هو ما لا يعد الواضع فيه مضيعاً فلا قطع في المتروك في السوق ونحوه من الأماكن التي لا تعد صوناً للمال عرفاً لأنه في غير حرز وبقوله خفية ، مما لو أخذه جهاراً فإنه لا يسمى سارقاً بل مختطفاً أو محارباً أو غاصباً وبقوله : لم يؤتمن عليه مما لو أخذ ما في أمانته فإن هذا خائن لا سارق ، ولا بد أن يكون المال المأخوذ نصاباً لا شبهة له فيه ، ويكون أخذه بقصد واحد فلا قطع على من أخذ أقل من نصاب ، ولا على من له شبهة فيه كالأب يأخذ مال ولده والعبد يأخذ مال سيده والمضطر في المجاعة يأخذ ما يسد جوعته ، ولا على من أخذ نصاباً في مرات مع تعدد قصده ، ولا بد أن يكون الآخذ مكلفاً ، ولذا حدها ابن عرفة بقوله : أخذ مكلف حراً لا يعقل لصغره أو مالاً محترماً لغيره نصاباً أخرجه من حرزه بقصد واحد خفية لا شبهة فيه قال : فيخرج أخذ غير الأسير مال حربي وما اجتمع بتعدد إخراج وقصد والأب مال ولده والمضطر في المجاعة اه . فاحترز بالمكلف من المجنون والصبي فإن ما عليهما ضمان المال إن تلف لا القطع ، وبقوله محترماً من أخذ الأسير مال حربي أو سرقة خمر لمسلم ، لكن يرد عليه أخذ غير الأسير مال حربي فإنه لا قطع فيه ، وإن أمن عليه فلو حذف غير لكان أحسن ، وكذا يرد عليه خمر الذمي فإنه لا قطع فيه مع أنه محترم بالنسبة للذمي ، ولذا كان يجب عليه غرم قيمتها إن تلف ، وكذا يرد عليه أخذ ما في أمانته لأنه محترم أيضاً ، لكن هذا ربما يقال أخرجه بقوله من حرزه إذ الأمين ليس المكان حرزاً بالنسبة إليه لأنه مأذون له في الدخول إليه ، وبقوله نصاباً مما لو سرق أقل من ثلاثة دراهم أو من ربع دينار أو من مقوم بهما ، لكن يرد عليه من سرق ثوباً خلقاً فوجد فيه ثلاثة دراهم فإنه يقطع مع كونه إنما قصد الثوب الذي لا يساوي ثلاثة دراهم ، فإن أراد ما وجد فيه النصاب فيرد عليه ما إذا سرق خشبة فوجد فيها ثلاثة دراهم فإنه لا يقطع ويمكن الجواب بأن المراد نصاب موجود مقصود فيخرج بموجود الثوب المذكور وبمقصود الخشبة المذكورة ، وبقوله بقصد واحد مما لو أخرج النصاب في مرات لا بقصد واحد ، بل كانت نيته الاقتصار على ما أخرجه أولاً ثم بدا له فرجع وأخرج ما كمل به النصاب فإنه لا قطع عليه وهو مصدق في ذلك لأنه لا يعلم إلا من قوله : فإن أخرج أولاً بعضه بنية أن يرجع لما فيه تمام النصاب فأكثر فإنه يقطع لأنه صدق عليه أنه أخرجه بقصد واحد ويدخل في كلامه من سرق نصاباً ، ثم سرقه آخر من السارق فإنهما يقطعان معاً لأن المال محترم بالنسبة للثاني لأنه في ضمان الأول .فائدة : قال عياض : أخذ المال بغير حق على ضروب عشرة : حرابة وغيلة وغصب وقهر وخيانة وسرقة واختلاس وخديعة وتعد وجحد ، واسم الغصب يطلق على الجميع في اللغة كالحرابة كل ما أخذ مكابرة ومدافعة ، والغيلة ما أخذ بعد قتل صاحبه بحيلة ليأخذ ماله ، وحكمه حكم الحرابة . والغصب ما أخذه ذو القدرة والسلطان والقهر نحو منه إلا أن يكون من ذي القوة في جسمه للضعيف ومن الجماعة للواحد ، والخيانة كل ما كان لآخذه قبله أمانة أو يد ، والسرقة ما أخذ على وجه الاختفاء ، والاختلاس كل ما أخذ بحضرة صاحبه على غفلة وفر آخذه بسرعة ، والخديعة ما أخذه بحيلة كالتشبه بصاحب الحق ، وصاحب الوديعة أو المتزيي بزي الصلاح ليأخذ المال بذلك ، والجحد إنكار ما تقرر بذمة الجاحد وأمانته وهو نوع من الخيانة ، والتعدي ما أخذ بغير إذن بحضرته أو مغيبه اه .
وَمُدَّعٍ على امْرِىءٍ أَنْ سَرَقَهْ
وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بالمُحَقَّقَهْ
( ومدع على امرىء إن سرقه ولم تكن دعواه بالمحققة ) . أي البينة التي تحقق دعواه فيشمل ما إذا قال : اتهمته لأن دعوى الاتهام لا بينة فيها ، وما إذا حقق عليه الدعوى ولم تقم له بينة فالحكم في الصورتين واحد كما قال :
فإنْ يَكُن مُدَّعِياً ذَاكَ عَلَى
مَنْ حَالُهُ في النَّاسِ حالُ الفُضَلاَ
( فإن يكن مدعياً ذاك على من حاله في الناس حال الفضلا
فَلَيْس مِنْ كَشْفٍ لِحَالِهِ وَلا
يَبْلُغُ بالدَّعْوَى عليه أمَلاَ
فليس ) على المدعى عليه يمين ولا ( من ) زائدة ( كشف لحاله ) بالسجن ونحوه ( ولا يبلغ بالدعوى عليه أملا ) بل يلزم المدعي الأدب كما قال ( خ ) في الغصب : وأدب مميز كمدعيه على صالح الخ . وانظر ما تقدم في باب اليمين عند قوله : وتهمة إن قويت الخ .
وَإنْ يَكن مُطَالِباً مَنْ يُتَّهَمْ
فمالِكٌ بالضَّرْبِ وَالسِّجْن حَكَمْ( وإن يكن مطالباً ) بفتح اللام خبر يكن واسمها ( من يتهم ) ويجوز كسرها على أنه خبر يكن أيضاً واسمها ضمير يعود على رب المتاع ومن يتهم مفعول بالخبر المذكور ( فما لك بالضرب والسجن حكم ) كما مرّ عن القرافي وغيره عند قوله : والقول للغاصب في دعوى التلف وظاهره أنه أطلق المتهم على ما يشمل مجهول الحال لأنه جعله قسماً للمعروف بالفضل ونحوه في التبصرة قائلاً مجهول الحال عند الحاكم الذي لا يعرف ببر ولا فجور إذا ادعي عليه بتهمة فإنه يحبس حتى يكشف حاله . هذا حكمه عند عامة علماء الإسلام والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي أو الوالي وهو منصوص لمالك وأصحابه اه . وقال قبل ذلك : إن المتهم بالفجور كالسرقة وقطع الطريق والقتل والزنا لا بد أن يكشف ويستقصي بقدر تهمته بذلك وشهرته به ، وربما كان بالضرب قال : وليس تحليفه وإرساله مذهباً لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، ولو حلفنا كل واحد منهم وأطلقناه مع العلم باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته وقلنا : لا نأخذه إلا بشاهدي عدل كان ذلك مخالفاً للسياسة الشرعية ، ومن ظن أن الشرع تحليفه وإرساله فقد غلط غلطاً فاحشاً مخالفاً لنصوص رسول الله صلوات الله عليه ولإجماع الأئمة قال : وقد تقدم أول الباب من أفعال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يدل على عقوبة المتهم وحبسه .
واعلم أن هذا النوع من المتهمين يجوز ضربه وحبسه لما قام على ذلك من الدليل الشرعي قال : وفي أحكام ابن سهل إذا وجد عند المتهم بعض المتاع المسروق وادعى أنه اشتراه ولا بينة له لم يؤخذ منه غير ما بيده ، فإن كان مجهول الحال فعلى السلطان حبسه والكشف عنه ، وإن كان معروفاً بالسرقة حبس حتى يموت في السجن اه . ونحوه لابن يونس عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ ، وتقدم مثله عن مالك عند قوله : والقول للغاصب ، وقوله : لم يؤخذ منه غير ما بيده الخ . هذا إنما يتمشى على المشهور لا على ما مر في الغصب من أن العمل مؤاخذة المتهم بالغرامة بمجرد الدعوى فضلاً عن كون بعض المسروق قد وجد بيده ، وأن القول للمسروق منه في قدره ، وقوله : حتى يموت الخ . بمثله كتب عمر بن عبد العزيز قائلاً : يسجن حتى يموت . قال في التبصرة : يعني إذا لم يقرَّ به .
وَحَكَمُوا بِصِحَّةِ الإقْرَارِ
مِن ذَاعِرٍ يُحْبَسُ لاخْتِبَارِ
( وحكموا بصحة الإقرار ) بالنسبة لغرم المال لا للقطع فلا يقطع ( من ذاعر ) بالذل المعجمة يعني مفزع ومخيف أو بالمهملة وهو الزاني الفاسق السارق ( يحبس ) أو يضرب ( لاختبار ) فالمجهول إذا أقر في السجن عمل بإقراره وغرم المال ، والمتهم المعروف بالعداء إذا أقر ولو تحت العصاكذلك لأنه لما جاز ضربه وسجنه شرعاً كما مر جاز إقراره إذ لا فائدة له إلا ذاك والإكراه الشرعي طوع ولذا قال سحنون : وذلك خارج عن الإكراه ولا يعرف هذا الأمر إلا من ابتلي به يعني من القضاة ومن شابههم . قال في التبصرة : كأنه يقول إن ذلك الإكراه كان بوجه جائز شرعاً ، وإذا كان من الحق عقوبته وسجنه لما عرف من حاله كان من الحق أن يؤاخذه باعترافه اه . وقال ابن رحال : إن حبس القاضي المتهم الذي يجب حبسه أو تخويفه أو ضربه فأقر فإنه يؤاخذ بإقراره على قول سحنون ، فينبغي أن يعمل بهذا بالنسبة لغرم المال اه . وفي المتيطية : ويضرب السارق حتى يخرج الأعيان التي سرقها يعني إن كانت قائمة باقية فإن كانت مما لا يعرف بعينه أو مما يعرف بعينه ، ولكن فوتها فيكفيه إقراره بها ويؤاخذ به كما مرّ ، والخلاف في هذه المسألة كثير ولكن المعول عليه ما قدمناه في الغصب ، وما درج عليه الناظم ههنا . وقد تقدم من كلام التبصرة وغيرها ما يشهد له ويشهد له أيضاً قول القرافي ما نصه : اعلم أن التوسعة على الحكام في أحكام السياسة ليس مخالفاً للشرع بل تشهد له الأدلة المتقدمة وتشهد له أيضاً القواعد من وجوه . أحدها : أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول ، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام اه . وقال أيضاً : موضوع ولاية الوالي المنع من الفساد في الأرض وقمع أهل الشر ، وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالجرائم بخلاف ولاية القضاة ، وقد تقدم عنه أن هذا مما لا يتميز به نظر القاضي والوالي ، وإذا كان الفساد قد كثر في زمن القرافي فكيف بذلك في زماننا ؟ فلا يعترض على الناظم بأنه ارتكب في هذا خلاف المشهور الذي درج عليه ( خ ) حيث قال وثبت إقرار إن طاع وإلاَّ فلا . ولو عين السرقة أو أخرج القتيل الخ . لأن مقابل المشهور قد يجري به الحكم والعمل لكثرة الفساد ، وقد قال ابن رحال في حاشيته هنا : ولأن ( خ ) يتبع مذهب المدونة وهي إنما قالت ذلك في وقت عدم كثرة الفساد كما قد رأيته عن القرافي ، ولما زاد هذا الفساد وانتشر انتشار أبلغ الغاية قام مقام التحقيق ، ولذلك جرى العمل بإغرام المتهم بمجرد الدعوى على ما تقدم في فصل الغصب ، وما يروى عن مالك وغيره من اختلاف الأقوال في هذه المسألة لعله إنما هو باختلاف النوازل والبلدان ، فرب بلد غلب على أهلها الفساد ، ورب بلد لم يغلب ، ورب شخص علم منه الفساد ، ورب شخص وقع ذلك منه فلتة فلم يقل بخلوده في السجن والله أعلم .
وَيُقْطَعُ السَّارِقُ باعْتِرَافِ
أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ بلا خِلاَفِ
( ويقطع السارق باعتراف ) بالسرقة طائعاً لا إن اعترف في السجن أو تحت العصا فلا قطع ، وإنما عليه الغرم حيث كان متهماً أو مجهول الحال كما مر قريباً ، ولا بد في القطع من كونه مكلفاً وكون المسروق مالاً محترماً نصاباً لم يؤمن عليه لا شبهة له فيه مأخوذاً من حرز وهومما يصح بيعه كما مر . لا إن كان كخمر أو كلب ولو كلب الحراسة لوجود الخلاف في بيعه أو أضحية بعد ذبحها وجبت بالذبح ولا تباع على المفلس ، بخلاف ما إذا سرق لحمها من متصدق عليه أو طنبور لأنه لا يباع لأن منفعته غير شرعية إلا أن يساوي بعد كسره نصاباً ونحو ذلك مما هو مذكور في ( خ ) ( أو ) بشهادة ( شاهدي عدل ) من إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى ومسجد الجامع وعدل في الأصل مصدر يوصف به الواحد والمثنى والجمع ( بلا خلاف ) . وظاهره أنه لا يشترط في قبول شهادتهما بيان نوعها وصفتها ولا كونها أخذت في ليل أو نهار ، وهو كذلك إلا أنه يستحب للحاكم أن يسألهم عن ذلك فإن قالوا : لا نذكر اليوم ولا المكان قبلت عند ابن القاسم ، وإن ذكروا الموضع واليوم أو النوع واختلفوا في شيء من ذلك فقال : هذا يوم الجمعة ، وقال الآخر : يوم الخميس . أو قال : هذا سرقها من محل كذا وقال الآخر من غيره ، أو قال نوعها كذا وقال الآخر خلافه بطلت فالبطلان إنما هو إذا قالوا تذكر اليوم ونحوه واختلفوا ، وأما إن قالوا لا نذكر ذلك فلا تبطل كما لابن رشد ، وهذا على أن سؤالهم مستحب كما هو ظاهر قولها : ينبغي للقاضي أن يكشف الشهود بالزنا والسرقة فحملها ( خ ) وغيره على الاستحباب فقال : وندب سؤالهم أي شهود الزنا كالسرقة ما هي وكيف أخذت الخ . وقال أبو الحسن : إلا أن ينبغي في كلامها للوجوب واستظهره ( ح ) وابن رحال . وهذا في حد الزنا والسرقة لأن الحدود يطلب درؤها بالشبهات لا في غيرها من الحقوق فإذا شهد شاهد بأن لفلان في ذمة فلان مائة دينار مثلاً فلا يكشف عن سكتها هل هي يزيدية أو محمدية ، ولكن يقضي بالأغلب رواجاً في البلد كما مر في صدر البيوع ، وأحرى أن لا يكشف عن اليوم الذي ترتبت فيه في ذمته لأنه لو أرخ بالشهر أو ترك التاريخ أصلاً لم تبطل .
تنبيه : نقل البرزلي في نوازله : أن سراق المغرب اليوم كلهم لصوص تجري عليهم أحكام الحرابة من القتل أو القطع من خلاف أو النفي لا أحكام السرقة لأنهم يجعلون أحد السراق عند رأس صاحب المنزل في الحاضرة أو البادية متى رآه تحرك ضربه أو هدده ويجعلون واحداً يخرج الحيوان والمتاع والباقون واقفون بالسلاح يمنعونه ممن يقوم عليه قال : والحكم فيهم أنهم إذا أخذوا بعد أن قتل أحدهم رب المنزل قتلوا جميعاً ، وإن لم يقتل أحد أجريت عليهم أحكام المحارب ، وإذا أخذ أحدهم كان ضامناً لجميع ما أخذوه اه .
قلت : وما قاله صحيح وما ذكره من الحكم عليهم بما ذكر إنما هو إذا ثبت عليهم ذلك ولو بالسماع الفاشي لقول ( خ ) في الحرابة : ولو شهد اثنان أنه المشتهر بها ثبتت وإن لم يعايناها ، وأما إن لم يثبت ذلك لا بالسماع ولا بغيره وهو الغالب في هذا الوقت لعدم وجود من يشهد على من اكتسب التعظيم والاحترام بتلصصه كما مر في الغصب ، فإنه ينكل ويخلد في السجنولا أقل من أن ينفى من الأرض مؤاخذة له بالأيسر ردعاً له ولأمثاله .
وَمَنْ أَقَرَّ وَلشُبْهةٍ رَجَعْ
دُرِىءَ عَنْهُ الحَدُّ في الَّذي وَقَعْ
( ومن أقر ) بسرقة ( ولشبهة رجع ) عن إقراره كقوله : أخذت مالي المودع أو المغصوب مني أو المعار ، وظننت أن ذلك سرقة أو قال : أضافني فلان وأنزلني في بيته فأخذت منه كذا فظننت أنه سرقة ( درىء عنه الحد في الذي وقع ) منه لأنه في الثلاثة الأول إنما أخذ متاعه على زعمه وإن كان لا يقضي له بذلك بدون بينة ، وأنه ماله وفي الرابعة هو خائن على زعمه لا سارق فلا قطع عليه كما مر أول الفصل .
وَنَقَلُوا في فَقْدِهَا قَوْلَينِ
وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى الحَالَيْنِ
( ونقلوا في ) رجوعه عن إقراره مع ( فقدها ) أي الشبهة كأن يقول : كذبت في إقراري أو أنكر الإقرار من أصله ( قولين ) في قبول رجوعه وعدمه والمشهور الأول ( خ ) : وقبل رجوعه بلا شبهة ومحل القولين إذا لم يكن عين السرقة ، وأما إن عينها ثم أنكر الإقرار من أصله فإنه لا يقبل إنكاره ويقطع اتفاقاً كما لابن رشد ، ومثل السارق في قبول رجوعه لشبهة ولغيرها الزاني والشارب والمحارب وقد جمعت في قوله :
وسارق والزاني ثم الشارب
رجوعهم يقبل كالمحارب
ومثلهم من يشهد عليه بمعاينة زناه بالإحصان ثم رجع عنه ، فإنه يقبل رجوعه ويجلد مائة ولا يرجم ، وكذا من أقر بقتل الغيلة ثم رجع فإنه يقبل رجوعه ، وفائدته أنه إذا عفا عنه الولي لم يقتل لأنه لم يبق بعد عفوه إلا قتله لحق الله وهو يدرأ بالرجوع لشبهة وغيرها ، ومثله من أقر بالقتل عمداً لغير غيلة فرجع عن إقراره منكراً له ، أو قال كذبت فيه فإنه يسقط عنه ضرب مائة وسجنه سنة ، إذا عفا عنه الولي والضابط كل حد كان حقاً لله تعالى فإنه يسقط بالرجوع عن إقراره بموجبه فإن لم يرجع قاتل العمد وعفا عنه الولي فلا بد له من ذلك كما قال ( خ ) وعليه أي قاتل العمد مطلقاً كان مسلماً أو كافراً أو عبداً جلد مائة ثم حبس سنة وإن بقتل مجوسي أو عبده الخ . ( و ) إذا سقط القطع عن السارق برجوعه ف ( الغرم ) للمال ( واجب ) عليه ( على ) كلا ( الحالين ) الشبهة وعدمها على القول بأن رجوعه لغير شبهة معتبر ، وهذا إذا كان حراً . وأما العبد إذا أقر بالسرقة ورجع وقد فات المسروق بذهاب عينه فإنه لا غرم عليه لأن ما بيده لسيده فلا يمضي إقراره عليه كما أفاده ( خ ) في الإقرار بقوله : كالعبد في غير المال الخ . لكن يتبع به إذا أعتق يوماً ما فإن لم يرجع عنها فالقطع ولا غرم عليه إذا أعتق كما يأتي .وَكلُّ مَا سُرِقَ وَهُوَ بَاقِي
فإنَّهُ يُرَدُّ باتِّفَاقِ
( وكل ما سرق وهو باق ) بعينه بيد السارق أو غيره ( فإنه يرد ) لربه ( باتفاق ) أي إجماعاً ويرجع الغير على السارق إن كان أخذه منه بعوض ، ولو كان السارق عبداً فإنه يتبعه به إذا عتق يوماً ما ، وظاهره أنه يرد ولو قطع وهو كذلك ، ومفهوم قوله : وهو باق الخ . أنه إذا فات بذهاب عينه ففيه تفصيل فإن كان متصل اليسر بالمسروق كله أو بعضه من يوم سرق إلى اليوم إقامة الحد عليه فإنه يقطع ويغرم كما قال :
وَحيْثُما السَّارِقُ بالحُكْمِ قُطِعْ
فبالّذي سَرَقَ في اليُسْرِ اتُّبِعْ
( وحيثما السارق بالحكم قطع ) لعدم رجوعه عن إقراره بها أو لقيام البينة عليه ( فبالذي سرق في ) حال ( اليسر ) المستمر إلى وقت القطع ( اتبع ) وإن كان وقت السرقة معسراً أو أعسر في بعض المدة التي بين السرقة والقطع لم يلزمه غرم ولو أيسر بعد القطع لخبر إذا أقيم الحد على السارق فلا ضمان عليه أي : لا يتبع به في عسره وقت السرقة أو فيما بين السرقة والقطع لئلا يجتمع عليه عقوبتان قطع يده واتباع ذمته ، ومفهوم قطع أنه إذا لم يقطع لكونه سرقه من غير حرزة أو لقيام شاهد واحد عليه بها أو لكون المسروق أقل من نصاب أو لسقوط العضو الذي يجب قطعه بسماوي أو بجناية عليه أو لرجوعه عن الإقرار بها ، ونحو ذلك اتبع به مطلقاً موسراً أو معسراً أو يحاصص به ربه غرماء السارق إن كان عليه دين وهو كذلك ( خ ) : ووجب رد المال إن لم يقطع مطلقاً .
وَالحَدُّ لا الْغُرْمُ عَلَى الْعَبْدِ متى
أَقَرَّ بالسَّرِقَةِ شَرْعاً ثَبَتَا
( والحد ) أي القطع ( لازم على العبد ) لا الغرم فلا يلزمه ولو كان ذا شائبة ( متى أقر بالسرقة ) بسكون الراء للوزن أي ولم يرجع عنه ( شرعاً ثبتاً ) خبر ثان أي : والحد لازم ثابت شرعاًعلى العبد الخ . ومفهوم أقر أنه إذا لم يقر بل شهد عليه شاهد واحد أو أقر بها سيده دونه فإن العبد حينئذ في جنايته فيخير سيده في إسلامه أو فدائه ، لكن بعد يمين المسروق في الأولى ، وأما إن ثبت عليه بشاهدين فالقطع ولا غرم ، واحترزت بقولي ولم يرجع مما إذا رجع فإنه لا قطع ويتبع بها إذا عتق كما مر قريباً ، وإنما كان العبد في جنايته إذا أقر بها سيده دونه لأن العبد إذا ادعي عليه بما يوجب القصاص أو القطع أو الأدب فإنه الذي يجيب عن ذلك لأنه الذي يؤاخذ به في بدنه لو أقر به ، وأما إذا ادعي عليه بإتلاف زرع أو دابة عمداً أو خطأ أو قتل شخص أو قطعه خطأ أو سرقة شيء فأنكر ، فإن الذي يجيب عن ذلك هو السيد ، فإذا أقر لزمه أن يسلمه أو يفديه ( خ ) في آخر الشهادات وليجب عن القصاص العبد وعن الأرش السيد الخ .
فصل في أحكام الدماءوهو باب مهم بلا شك لأن حفظ النفوس إحدى الخمس التي اجتمعت الملل على وجوب حفظها فقد نقل الأصوليون إجماع الملل على حفظ الأديان والنفوس والعقول والأعراض والأموال ، وقد ذكر بعضهم الأنساب بدل الأموال . وفي الحديث الكريم : ( لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا كلها ) وفيه أيضاً : ( من أعان على قتل أمرىء مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى ) اه . ونقله ابن الحاج وغيره قال : وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو من قتل مؤمناً متعمداً ) وقد أخبر تعالى أن قتل النفس بغير حق كقتل جميع الناس في عظم الإثم فقال : من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ( المائدة : 32 ) قال مجاهد : جعل الله جزاء من قتل نفساً بغير حق جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ، فلو قتل جميع الخلق لم يزد من العذاب على ذلك ، وما سماه الله عظيماً لا يعلم قدره إلا هو عز وجل اه . واختلف في قبول توبته على قولين مأخوذين من قول مالك لأنه مرة قال : لا تجوز إمامته وإن تاب ، ويؤيده أن من شرط قبول التوبة رد التباعات ورد الحياة على المقتول متعذر إلا أن يحلله المقتول قبل موته ، ومرة قال : هو في المشيئة يكثر من العمل الصالح والصدقة والجهاد والحج فيؤخذ منه قبول توبته . ابن رشد : من قال إن القاتل مخلد في النار أبداً فقط أخطأ ، وخالف أهل السنة لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما اكتسب من صالح أعماله اه . وحكى ابن عطية الإجماع منا ومن المعتزلة على أن القصاص كفارة للقتل لحديث ( من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ) قال : والجمهور على قبول توبته اه . وما حكاه من الإجماع طريقة له ، بل حكى ابن رشد في ذلك قولين متساويين قيل كفارة ، وقيل ليس بكفارة لأن المقتول لا منفعة لهفي القصاص ، وإنما منفعته عائدة على الأحياء ليتناهى الناس عن القتل . قال تعالى : ولكم في القصاص حياة } ( البقرة : 179 ) أي لكم في مشروعية القصاص حياة لأن الشخص إذا علم أنه يقتص منه انكف عن القتل وهو ضربان قتل خطأ وسيأتي ، وقتل عمد ولا واسطة بينهما على المشهور إلا ما ثبت من شبه العمد عند مالك في رمي الأب ولده بحديدة على ما يأتي عند قوله : وغلظت فثلثت في الإبل الخ خلافاً لمن أثبت شبه العمد في غير الأب وإلى العمد المحض أشار الناظم بقوله :
وَالْقَتْلُ عَمْداً للقصَاصِ مُوجِبُ
بعد ثُبُوتِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ
( والقتل ) بفعل حال كونه ( عمداً ) عدواناً ( للقصاص موجب بعد ثبوته ) أي العمد ( بما يستوجب ) بكسر الجيم وفتح الياء مبنياً للفاعل والسين والتاء زائدتان أي القتل عمداً موجب للقصاص بعد ثبوته بما يجب ثبوته به ، والذي يثبت به أحد أشياء ثلاثة بينها بقوله :
مِن اعْتِرَافِ ذِي بُلُوغٍ عَاقِلِ
أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ بِقَتْلِ القَاتِلِ
( من اعتراف ) شخص ( ذي بلوغ عاقل ) طائع أنه قتل فلاناً عمداً عدواناً لا باعتراف صبي أو مجنون أو مكره ، فإن أقر أنه قتله خطأ وقال الأولياء : بل عمداً عدواناً فالظاهر أن القول للأولياء كما يأتي فيمن قامت بينة بضربه فقال : لم أقصد ضربه ، وقال الأولياء : بل قصدته فإن القول لهم . ( أو شاهدي عدل ) شهدا ( ب ) معاينتهما ل ( قتل ) هذا ( القاتل ) العاقل البالغ لهذا المقتول أو شهدا بمعاينتهما لضربه وإن بقضيب أو لطمة أو وكزة أو حجر أو عصا فمات عاجلاً أو مغموراً لم يتكلم ، فإن تكلم يوماً أو أياماً فالقصاص بقسامة أكل أو لم يأكل ما لم ينفذ مقتله فلا قسامة ولو أكل أو شرب وعاش أياماً كما في ابن الحاجب ولا يصدق أنه لم يقصد ضربه ولا أنه ضربه على وجه اللعب قال في الشامل : ولا يصدق في إرادة اللعب ولا أنه لم يرد قتله .
واعلم أن أركان القصاص ثلاثة . أولها : القتل أي الفعل عمداً وهو معنى ما في البيت الأول ، وقولي بفعل شامل للضرب والتخنيق والتثقيل ومنع الطعام وطرح غير محسن العوم فينهر ووضع مزلق بطريق ، واتخاذ كلب عقور ونحو ذلك . وإلى هذا الركن أشار ( خ ) بقوله : إن قصد أي تعمد ضرب الغضب أو عداوة وإن بقضيب لخنق ومنع طعام أو مثقل ولا قسامة إن أنفذ مقتله أو مات مغموراً ، ثم قال : وإن تصادما أو تجاذبا مطلقاً قصداً فماتا أو أحدهما فالقود وحملا عليه الخ . أي : على القصد وهو يوضح لك أن من وجد منه الضرب وإن بقضيب محمول على قصده فلا يقبل منه أنه لم يقصده أو أنه قصده على وجه اللعب . قال ابن فرحون : ويجوز للشهود أن يشهدوا بأنه قتله عمداً عدواناً ، والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها اكتفاه بالقرينة الظاهرة الخ . يعني لما رأوه من ضربه على وجه الغضب ، وظاهر قوله عمداً أنه يقتل به ولو تبين خلاف الذات التي قصد قتلها كما لو ضربه على أنه عمرو فتبين أنه زيداً وعلى أنه عمرو بن فلان فتبين أنه عمرو بن فلان آخر ، وهو كذلك إذ كلاهما معصوم ولا علينا في اعتقاده ، وكذا لو قصد ضرب رأسه أو رجله فأصاب عينه ففقأها فإنه يقتص منه خلافاً لما في الرجراجي ، وأما لو قصد ضرب هذه الذات عدواناً فأصاب ذاتاً أخرى فلا قود وهو خطأ خلافاً لما في ( ح ) والفرق أنه في الأول قصد هذه الذات فقتلها فتبين أن المقصود غيرها وهذه قصد ضرب هذه الذات فعدلت الرمية عنها إلى غيرها . واحترزت بقولي عدواناً عما إذا قصد ضرب شيء معتقداً أنه غير آدمي أو أنه آدمي غير محترم لكونه حربياً أو زانياً محصناً ، فتبين أنه آدمي محترم فلا قصاص أيضاً ولو تكافئا ، وإنما فيه الدية ويصدق بيمينه أنه ظنه حربياً لأن هذا وإن كان عمداً لكونه ليس بعدوان فإنه ملحق بالخطأ ، ومما إذا كان الضرب على وجه اللعب وقامت قرينة عليه وإلاَّ فلا يصدق في إرادته كما مر ، ومما إذا كان الضرب على وجه الأدب ممن يجوز له كالأب ونحوه فمات أو كسر رجله أو فقأ عينه فالدية على العاقلة إن بلغت الثلث وإلاَّ فعليه فقط . ويصدق الأب والمعلم والزوج في إرادة الأدب دون القتل إن كان بآلة يؤدب بمثلها لا إن ضربه المعلم باللوح ونحوه فإنه يقتص منه ، وكذا إن ذبح الأب ولده أو شق بطنه لا إن رماه بالسيف وادعى أنه أدبه فلا يقتص منه ، وثانيها القاتل وشرطه أن يكون عاقلاً بالغاً فحذفه من البيت الثاني لدلالة الأول عليه ، وسيأتي أنه يزاد على ذلك كونه غير حربي مماثلاً للمقتول في الحرية والإسلام حيث قال :
والقود الشرط به المثليه
في الدم والإسلام والحريه
الخ .
فلا يقتل حربي بمسلم قتله في حال حربيته ثم أسلم ، ولا مسلم بكافر ولو حراً ، ولا حر مسلم بعبد كما يأتي . وثالثها : القتيل وشرطه أن يكون معصوم الدم كما يأتي في قوله : والشرط في المقتول عصمة الدم الخ . فلا يقتص من مسلم قتل مرتداً أو زانياً محصناً . ثم أشار إلى الأمر الثالث الذي يثبت به القتل فقال :
أَوْ بِالْقِسَامَةِ وَباللَّوْثِ تَجِبْ
وَهْوَ بِعَدِلٍ شَاهِدٍ بما طُلِبْ
( أو بالقسامة ) وهي خمسون يميناً على قتل حر مسلم محقق الحياة فلا قسامة على قتلأضدادهم كما يأتي في قوله : وليس في عبد ولا جنين قسامة الخ ( خ ) : والقسامة سببها قتل الحر المسلم يعني المحقق الحياة ، ولكن لا يمكن منها الولي مطلقاً بل ( وباللوث تجب ) وتثبت له بدونه ( وهو ) أي اللوث أمر يحصل منه غلبة الظن بصدق المدعي وينشأ عن أمور خمسة . أحدها : أنه ينشأ ( بعدل ) واحد ( شاهد بما طلب ) من معاينة القتل أو الضرب أو الجرح تأخر الموت بأكل أو شرب أم لا . كان المقتول بالغاً أم لا . مسلماً أو كافر ، والمرأتان العدلتان كالشاهد الواحد فيما ذكر فيحلف الأولياء يميناً واحدة تكملة للنصاب أنه لقد قتله أو ضربه ثم خمسين يميناً أنه لقد قتله أو لقد ضربه أو جرحه ولمن ضربه أو جرحه مات ويستحقون القود في العمد والدية في الخطأ أو في عدم المماثل ، اللهم إلا أن يشهد بأنه قتله غيلة فلا يقسمون معه لأنه لا يقبل فيها إلا العدلان على المعتمد كما في الزرقاني ، وظاهر النظم كغيره أن شهادة العدل لوث ولو لم يوجد أثر الضرب الذي شهد به ، وهو كذلك إذ الضرب قد لا يظهر أثره في خارج الجسد .
وثانيها : أنه ينشأ عن شهادة اللفيف كما قال :
أَوْ بِكَثِيرٍ مِنْ لَفِيفِ الشُّهَدَا
وَيسْقُطُ الإعْذَارُ فيهم أبَدَا
( أو بكثير من لفيف الشهدا ) اثني عشر فأكثر على ما به العمل شهدوا بمعاينة قتله أو ضربه أو جرحه على نحو ما تقدم في العدل الواحد ، وهذا على ما عند الناظم ، ولكن العمل الجاري بفاس قبول شهادة اللفيف في جميع الأمور فإن الستة منهم يقومون مقام العدل الواحد ، وقد نص ناظمه على أن العمل جرى بنفي اليمين مع الاثني عشر ، وظاهر كلامه وكلام شراحه ولو في الدماء لأن الاثني عشر في مرتبة العدلين ونصفها في مرتبة الواحد وعليه فشهادته ليست لوثاً فقط بل قائمة مقام العدلين ولا سيما على ما يأتي في قوله : ومالك فيما رواه أشهب الخ . لأنه يفهم منه حيث أوجب القسامة مع غير العدل المتحد أنها لا تجب مع المتعدد الكثير كما في اللفيف المذكور . ( ويسقط الإعذار ) للخصم ( فيهم أبدا ) لأنه مدخول فيهم على عدم العدالة فلا يقدح فيهم بكل ما يقدح به في العدول من مطل ولعب نيروز وحلف بعتق أو طلاق وعدم أحكام الصلاة والوضوء والغسل ونحو ذلك : نعم لا بد فيهم من ستر الحال فلا يقبل تارك الصلاة ولا مجاهر بالكبائر من كثرة كذب وإظهار سكر ولعب بقمار وسفه ومجون ، ولا متهم كصديق وقريب للمشهود له أو عدو للمشهود عليه ، وهذا إذا وجد في البلد أمثل منهم ، وأما إذا عم الفساد بالسكر وكثرة الكذب والمجاهرة بالكبائر . فلا يقدح في شهادتهم بشيء من ذلك كما لشارح العمل عند قوله :
لا بد في شهادة اللفيف
من ستر حالهم على المعروف

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13