كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

المبتدعة يستعملون ألفاظ الكتاب والسنة واللغة ولكن يقصدون بها معاني أخر
والمقصود هنا قوله : يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشايهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال كلفظ العقل والعاقل والمعقول فإن لفظ العقل في لغة المسلمين إنما يدل علي عرض إما مسمي مصدر عقل يعقل عقلا وإما قوة يكون بها العقل وهي العزيزة وهم يريدون بذلك جوهرا مجردا قائما بنفسه
وكذلك لفظ المادة والصورة بل وكذلك لفظ الجوهر والعرض والجسم والتحيز والجهة والتركيب والجزء والافتقار والعلة والمعلول والعاشق والعشق والمعشوق بل ولفظ الواحد في التوحيد بل ولفظ الحدوث والقدم بل ولفظ الواجب والممكن بل ولفظ الوجود والذات وغير ذلك من الألفاظ
وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون علي ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم كما لأهل الصناعات العلمية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم وهذه الألفاظ هي عرفية عرفا خاصا ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة سواء كان ذلك المعني حقا أو باطلا
وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلي بيان :
وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون : إنا لا نفهم ما قيل لنا أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا ويلبسون علي الناس بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق ويقولون أيضا : إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهأهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم ـ مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن ـ فقد يفضي إلي مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر
فإن هؤلاء عبروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخري ليست في القرآن وربما جاءت في القرآن بمعني آخر فليست تلك العبارات مما أثبته القرآن بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفيا باطلا نفاه الشرع والعقل وهم اصطلحوا بتلك العبارات علي معان غير معانيها في لغة العرب فتبقي إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب علي باطل ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص علي باطل فمن خاطبهم بلغة العرب قالوا : إنه لم يفهم مرادنا ومن خاطبهم باصطلاحهم أخذوا يظهرون عنه أنه قال ما يخالف القرآن وكان هذا من جهة كون تلك الألفاظ مجملة مشتبهة

معني لفظ التوحيد في الكتاب والسنة مخالف لما يقصده المبتدعة
وهذا كالألفاظ المتقدمة مثل لفظ : القدم والحدوث والجوهر والجسم والعرض والمركب والمؤلف والمتحيز والبعض والتوحيد والواحد فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم : ما لا صفة له ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يرى والتوحيد الذي جاء به الرسول لم يتضمن شيئا من هذا النفي وإنما تضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا هو ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يوالي إلا له ولا يعادي إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات
قال جابر بن عبد الله في حديثه الصحيح في سياق حجة الوداع [ فأهل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] وكانوا في الجاهلية يقولولن : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأهل النبي صلي الله عليه وسلم بالتوحيد كما تقدم
قالت تعالي { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] وقال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } [ النحل : 51 ] وقال تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } [ المؤمنون : 117 ] وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } [ الزخرف : 45 ] وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ]
وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلي عبادة الله وحده لا شريك له
وقال تعالي { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } [ الممتحنة : 4 ] وقال تعالى عن المشركين : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] وقال تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } [ الإسراء : 46 ] وقال تعالى { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر : 45 ] وقال تعالى { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [ الصافات : 35 - 36 ] وهذا في القرآن كثير
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد
وكثير من أهل الكلام يقول : التوحيد له ثلاث معان وهو : واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزء له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وهذا المعني الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما يوافق ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول بل التوحيد الذي أمر به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخري فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل وكتم الحق
وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالي من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء ـ لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له
والإله هو بمعني المألوه المعبود الذي يستحق العبادة ليس هو الإله بمعني القادر علي الخلق فإذا فسر المفسر الإله بمعني القادر علي الاختراع واعتقد أن هذا أخص وصف الإله وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من المتكلمة الصفاتية وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين
وقال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ] قال طائفة من السلف : تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وقال تعالي { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 84 - 89 ] وقال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت : 61 ]
فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهي عنه وقد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ الأنفال : 39 ] وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا } [ الزمر : 43 - 44 ] وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } [ يونس : 18 ] وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [ الأنعام : 94 ] وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ]
ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالي ويصوم لها وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول : إن هذا ليس بشرك : وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله وهم لا يدخلونه في مسمي التوحيد الذي اصطلحوا عليه وأدخلوا في ذلك نفي صفاته فإنهم إذا قالوا : لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له فهذا اللفظ ـ وإن كان يراد به معني صحيح ـ فإن الله ليس كمثله شيء هو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمد والصمد : الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده فإنهم يدرجون في هذا نفي علوه علي خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ويقولون : إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما وأن يكون له شبيه
وأهل العلم يعلمون أن مثل هذا لا يسمي في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا وانقساما ولا تمثيلا وهكذا الكلام في مسمى الجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أمورا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه ويقولون : إن القرآن مخلوق لم يتكلم الله به وينفون بها رؤيته لأن رؤيته لأن رؤيته علي اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم ثم يقولون : والله منزه عن ذلك : فلا تجوز رؤيته وكذلك يقولون : إن المتكلم لا يكون إلا جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما ويقولون : لو كان فوق العرش لكن جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما فوق العرش وأمثال ذلك

إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة
وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ـ كما ذكر ـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول : ما تريدون بهذه الألفاظ ؟ فإن فسروها بالمعني الذي يوافق القرآن قبلت وإن فسروها بخلاف ذلك ردت
وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسونه إلي العجز والانقطاع وإن تكلم بها معهم نسبوه إلي أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا وأوهموا الجهال باصطلاحهم : أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها فحينئذ تختلف المصلحة فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلي قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم : لا يجب علي أحد أن يجيب داعيا إلا إلي ما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن علي الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلي ذلك ولو قدر أن ذلك المعني حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم علي ولاة الأمور وأدخلوه في بدعتهم كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن إلي مناظرتهم أن يقال : ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم : أن العقل أداه إلي علم ضروري ينازعه فيه الآخر فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلي المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة علي قولهم فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى { خالق كل شيء } [ الأنعام : 102 ] وقوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } [ الأنبياء : 2 ] وقوله النبي صلى الله عليه و سلم [ تجيء البقرة وآل عمران ] وأمثال ذلك من الأحاديث مع ما ذكروه من قوله صلي الله عليه وسلم [ إن الله خلق الذكر ] أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل علي مطلوبهم
ولما قالوا : ما تقول في القرآن : أهو الله أو غير الله ؟ عارضهم بالعلم فقال : ما تقولون في العلم : أهو الله أو غير الله ؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وكان من أحذقهم بالكلام : ألزمه التجسيم وأنه إذا أثبت لله كلاما غير مخلوق لزم أن يكون جسما
فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدري مقصود المتكلم به وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله وأخبره أني أقول : هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فبين أني لا أقول : هو جسم وليس بجسم لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب علي الناس إجابة من دعا إلي موجبها فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إلي ما دعاهم إليه الرسول صلي الله عليه وسلم لا إجابة من دعاهم إلي قول مبتدع ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار فلا هي معروفة في الشرع ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيا وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره أو ممن لا يمكن أن يرد إلي الشريعة مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلي ما يزعمه من العقليات أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور وأن المعقول الصريح يدل علي باطن يخالف الشرع ونحو ذلك أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء ـ فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام علي المعاني التي يدعونها : إما بألفاظهم وإما بألفاظ يوافقون علي أنها تقوم مقام ألفاظهم
وحينئذ فيقال لهم : الكلام إما أن يكون في الألفاظ وإما أن يكون في المعاني وإما أن يكون فيهما فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلي العبارة الشرعية كان حسنا وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولي من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة فإنه يقال له : إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة وفي كل منهما تلبيس وإيهام فلا بد من الاستفسار والاستفصال أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات
وقد ظن طائفة من الناس ان ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي : حكمي في أهل الكلام : أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل علي الكلام وقوله : لقد اطلعت من أهل الكلام علي شيء ما كنت أظنه ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة ـ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ الجوهر والسجم والعرض وقالوا : إن مثل هذا لا يقتضي الذم كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها أو سلاحا يحتاجون إليه لمقاتلة العدو وقد ذكر هذا صاحبالإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه فذموه لاشتماله علي معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل الصريح ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة وكل ما خالف الكتاب والسن فهو باطل قطعا ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضا فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخظئا وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلي ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم ولا أتم عليهم نعمته فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس ؟
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان إلا العلم بأن الرسول لم يذكره
وهذا مما احتج به علماء السنة علي من دعاهم إلي قول الجهمية القائلين بخلق القرآن وقالوا : إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول ودعا أمته إليه كما ذكره أبو عبد الرحمن الأذرمي الأزدي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدام الواثق
وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الاستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها وأمثال ذلك
وبالجملةـ فالخطاب له مقامات : فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة وأن يقول : لا أجيبك إلا إلى كتاب الله و سنة رسوله بل هذا هو الواجب مطلقا
وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وقد قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 135 ] وقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] و [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] وقال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع : [ إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله تعالى ] وفي الصحيح : [ أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى : هل وصى رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء ؟ قال : لا قيل : فلم وقد كتب الوصية على الناس ؟ قال : وصى بكتاب الله ]
وقد قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] ومثل هذا كثير
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظر أيضا فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب و السنة ويدعوا إلى ذلك وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية و الأمثال المضروبة فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ الفرقان : 33 ]
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في مخاطباته ولما قال : [ ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فقال له أبو رزين العقيلي : كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليا به فالله أعظم ] ولما سأله أيضا عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات
وكذلك السلف فروى عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] فقال له : ألست ترى السماء فقال : بلي قال : أتراها كلها ؟ قال : لا فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية
وكذلك الأئمة كالإمام أحمد في رده على الجهمية لما بين دلالة القرآن على علوه تعالي واستوائه على عرشه وأنه مع ذلك عالم بكل شيء كما دل على ذلك قوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } [ الحديد : 4 ] فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم كما افتتح الآية بالعلم وختماها العلم وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون كما في حديث العباس بن عبد المطلب الذي رواه داود وغيره عن النبي صلي الله عليه وسلم قال فيه [ والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه ] فبين الإمام أحمد إمكان ذلك بالاعتابر العقلي وضرب مثلين ولله المثل الأعلى فقال : لو أن رجلا في يده قوارير فيها ماء صاف لكان بصره قد أحاط بما فيها مع مباينته فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بصره بخلقه وهو مستو على عرشه وكذلك لو أن رجلا بنى دارا لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه كما قال تعالي { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضة بالعقل وادعى أن العقل يعارض النصوص فإنه قد يحتاج إلي حل شبهته وبيان بطلانها فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول : لو كان فوق العرش لكان جسما أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو كان له علم وقدرة لكان جسما وكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض وهو منزه عن ذلك
فهنا يستفصل السائل ويقول له : ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة ؟
فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل مثل أن يقول : أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركبا ن فنقول : هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا
وأما قولك : ليس مركبا فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب أو كان متفرقا فتركب وأنه يمكن تفرقه وانفصاله فالله تعالى منزه عن ذلك وإن أردت أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات فهذا المعني حق ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا فهذا ونحوه مما يجاب به
وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الاصطلاحية المحدثة مثل أن يدعي أن ثبوت الصفات المخلوقات يستحق أن يسمى في اللغة تجسيما وتركيبا ونحو ذلك قيل له : هب أنه سمي بهذا الاسم فنفيك له أما أن يكون بالشرع وإما أن يكون بالعقل
وأما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله لا بنفي ولا إثبات ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك لا نفيا ولا إثباتا بل قول القائل : إن الله جسم أو ليس بجسم أو جوهر أو ليس بجوهر أو متحيز أو ليس بمتحيز أو في جهة أو ليس في جهة أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به ونحو ذلك ـ كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث لم يتكلم السلف والأئمة فيها لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات بل كانوا ينكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالي نفيا وإثباتا
وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل وهو الذي تدعيه النفاة ويدعون أن نفيهم المعلوم بالعقل عارض نصوص الكتاب والسنة
قيل له : فالأمور العقلية المحضة لا عبرة فيها بالألفاظ فالمعني إذا كان معلوما إثباته بالعقل لم يجز نفيه لتعبير المعبر عنه بأي عبارة بها وكذلك إذا كان معلوما انتفاؤه بالعقل لم يجز إثباته بأي عبارة عبر بها المعبر وبين له بالعقل ثبوت المعنى الذي نفاه وسماه بألفاظه الاصطلاحية
وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته وإن كان المطلق لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام كما إذا قال الرافضي : أنتم ناصبة تنصبون العداوة لآل محمد فقيل له : نحن نتولى الصحابة والقرابة فقال : لا ولاء إلا ببراء فمن لم يتبرأ من الصحابة لم يتول القرابة فيكون قد نصب لهم العداوة
فيقال له : هب أن هذا يسمي نصبا فلم قلت : إن هذا محرم ؟ فلا دلالة لك علي ذم النصب بهذا التفسير كما لا دلالة علي ذم الرفض بمعنى موالاة أهل البيت إذ كان الرجل مواليا لأهل البيت كما يحب الله ورسوله ومنه قول القائل :
( إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي )
وقول القائل أيضا :
( إذا كان نصبا ولاء الصحاب ... فإني كما زعموا ناصبي )
( وإن كان رفضا ولاء الجميع ... فلا برح الرفض من جانبي )

الألفاظ نوعان النوع الأول
والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به فإن كان المذكور به مدحا استحق صاحبه المدح وإن كان ذما استحق الذم وإن أثبت شيئا وجب إثباته وإن نفي شيئا وجب نفيه لأن كلام الله حق وكلام رسوله حق وكلام أهل الإجماع حق وهذا كقوله تعالى { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 1 - 4 ] وقوله تعالى { هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن } [ الحشر : 22 - 23 ] ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته
وكذلك قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وقوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 - 23 ] وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فهذا كله حق
ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودا كاسم المؤمن والتقي والصدق ونحو ذلك

النوع الثاني
وأما الألفاظ التي ليس له أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يبين أنه يوافق الشرع والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهةوالجوهروالعرض فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرأ في الشرع كما أنه ليس كل ما كان صوابا في العقل تجب في الشرع معرفته
ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام : إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم
فيقال لهم : هذا الكلام تضمن شيئين : أحدهما : أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع والثاني : أن المخالف لها كافر وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليهم وسلم فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم
وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئا ولا يحرمه إلا بالشرع فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرم ولا إيمان واجب عندهم ومن أثبت ذلك بالعقل فإنه لا ينازع أنه بعد مجيء الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به لا بمجرد ما يعلم بالعقل فكيف يجوز أن يكون الكفر معلقا بأمور لا تعلم إلا بالعقل ؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر فيكون حكم الشرع مقبولا لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته ولا كفر مع تصديقه وطاعته
ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعا بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميهما هو تركيبا وتجسيما وإثبات لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة ثم كفروا من خالفهم فيها
والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفروا من خالفهم فيها أحسن حالا من هؤلاء فإن أولئك علقوا الكفر بالكتاب والسنة لكن غلطوا في فهم النصوص وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ماأنزل الله به من سلطان
ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم حتى قال عبد الله بن المبارك : إنا لنكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية
بل الحق أنه لو قدر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل وليس فيها بيان في النصوص والإجماع لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا ولا يفسقه بخلاف من نفى ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة فهذا أحق بالتكفير إن كان المخطئ في هذا الباب كافرا
وليس المقصود هنا بيان مسائل التكفير فإن هذا مبسوط في موضع آخر ولكن المقصود أن عمدة المعارضين للنصوص النبوية أقوال فيها اشتباه وإجمال فإذا وقع الاستفسار والاستفصال تبين الهدى من الضلال فإن الأدلة السمعية معلقة بالألفاظ الدالة على المعاني وأما دلالة مجرد العقل فلا اعتبار فيها بالألفاظ
وكل فول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته فضلا عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان وإنما السنة موافقة للأدلة الشرعية والبدعة مخالفتها
وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف : إنه بدعة إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة ودينا فمن عمل عملا لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلي البدعة وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع وكذلك من قال في الدين قولا بلا دليل شرعي فإنه تذرع إلى البدعة وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة
والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع ـ كأقوال النفاة التي تقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم وقد يدخل فيها ما هو حق وباطل ـ هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص فإنهم يقولون : كل من قال : إن القرآن عير مخلوق أو إن الله يرى في الآخرة أو إنه فوق العالم فهو مجسم مشبه حشوى
وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها وحكى إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف مثل أحمد بن حنبل و علي بن المديني و إسحاق بن إبراهيم و داود بن علي و عثمان بن سعيد الدارمي و محمد بن إسحاق بن خزيمة وأمثال هؤلاء ومثل عبد الله بن سعيد بن كلاب و أبي العباس القلانسي و أبي الحسن الأشعري و أبي الحسن علي بن مهدي الطبري ومثل أبي بكر الإسماعيلي و أبي نعيم الأصبهاني و أبي عمر بن عبد البر و أبي عمر الطلمنكي و يحيى بن عمار السجستاني و أبي إسماعيل الأنصاري و أبي القاسم التميمي ومن لا يحصي عدده إلا الله من أنواع أهل العلم
فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم : لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وذلك على الله محال أو قالوا : لو كان الله تكلم بالقرآن بحيث يكون الكلام قائما به لقامت به الصفات والأفعال وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث وما كان محلا للأعراض والحوادث فهو جسم والله منزه عن ذلك لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع
فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في بعض بدعتهم وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة
فيقال لهؤلاء : أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع فإن هذه الألفاظ ليس لها وجود في النصوص بل قولكم : لو رؤي لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وما كان جسم فهو محدث كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل حينيئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي وينظر فيه بنفس العقل
ومن عارضكم من المثبتة أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم فليكن هذا لازما للرؤية وليكن هو جسما أو قال لكم : أنا أقول إنه جسم وناظركم على ذلك بالمعقول وأثبته بالمعقول كما نفيتموه بالمعقول لم يكن لكم أن تقولوا له : أنت مبتدع في إثبات الجسم فإنه يقول لكم : وأنتم مبتدعون في نفيه فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته وإن لم تكن أعظم بل النافي أحق بالبدعة من المثبت لأن المثبت أثبت ما أثبتته النصوص وذكر هذا معاضدة للنصوص وتأييدا لها وموافقة لها وردا على من خالف موجبها
فإن قدر أنه أنه ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفيا عارض به النصوص ن ودفع موجبها ومقتضاها فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد يسمى بدعة
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : البدعة بدعتان : بدعة خالفت كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذه بدعة ضلالة وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر : نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل
ومن المعلوم أن قو ل نفاة الرؤية والصفات والعلو على العرش والقائلين بأن الله لم يتلكم بل خلق كلاما في غيره ونفيهم ذلك لأن إثبات ذلك تجسيم هو إلي مخالفة الكتاب والسنة والإجماع السلفي والآثار أقرب من قول من أثبت ذلك وقال ـ مع ذلك ـ ألفاظا يقول : : إنها توافق معنى الكتاب والسنة لا سيما والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم وليس عندهم بالنفي نص فهم معترفون بأن قولهم هو البدعة وقول منازعهم أقرب إلى السنة
ومما يوضح هذا أن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات وذموا المشبهة أيضا وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة فهو لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة كما لا يعرف في كلامهم أيضا القول بأن الله جسم أو ليس بجسم بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم كما ذكره أحمد في كتاب الرد على الجهمية : ولما ناظر برغوث وألزمه بأنه جسم امتنع أحمد من موافقته على النفي والإثبات وقال : هو أحد صمد لم يلد ولم يولد لم يكن له كفوا أحد

مثال : الكلام على الرؤية
والمقصود هنا أن نفاة الرؤية ـ من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ـ إذا قالوا : إثباتها يستلزم أن يكون الله جسما وذلك منتف وادعوا أن العقل دل على المقدمتين احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين أو إحداهما فإما أن يبطل نفس التلازم أونفي اللازم أو المقدمتان جميعا
وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية : فطائفة نازعت في الأولى كالأشعري وأمثاله ـ وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة وقالوا : لا نسلم أن كل مرئي يجب أن يكون جسما
فقالت النفاة : لأن كل مرئي في جهة وما كان في جهة فهو جسم فافترقت نفاة الجسم على قولين : طائفة قالت : لا نسلم أن كل مرئي يكون في جهة وطائفة قالت : لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين وأن المنازع فيهما مكابر
وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة وقالوا : المزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي
وطائفة نازعت في المقدمة الثانية ـ وهي أنتفاء اللازم ـ وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم
ومن أراد أن يماظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظا بدعيا ولا يخالف دليلا عقليا ولا شرعيا فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي بل يقولون : ما تعنون بقولكم : إن كل مرئي جسم ؟
فإن فسروا ذلك بان كل مرئي يجب أن يكون قد ركبه مركب أو أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أنه يمكن تفريقه ونحو ذلك منعوا هم المقدمة الأولى وقالوا : هذه السماوات مرئية مشهودة ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته فالله تعالى أحق بأن تمكن رؤيته من السماوات ومن كل قائم بنفسه فإن المقتضى للرؤية لا يجوز أن يكون أمرا عدميا بل لا يكون إلا وجوديا وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز كما قد بسط في غير هذا الموضع
وإن قالوا : مرادنا بالجسم المركب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة نازعوهم في هذا وقالوا : دعوى كون السماوات مركبة من جواهر منفردة أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة وبينوا فساد قول من يدعي هذا وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة وقالوا : إن الله خلق هذا الجسم المشهود هكذا وإن ركبه ركبه من أجسام أخري وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم كما يخلق الإنسان من الماء المهين وقد ركبت العظام في مواضعها من بدن ابن آدم وركب الكواكب في السماء ن فهذا معروف وأما أن يقال إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الانقسام ثم ركب منها العالم فهذا لا يعلم بعقل ولا سمع بل هو باطل لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها كما يستحيل الماء إلى الهواء مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض
وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع وبين أن الأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الاستدلال لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود بل ذكرت أدلة عقلية دائرة بين النفي والإثبات لا حيلة لنفاة الرؤية فيها
والمقصود هنا بيان كلام كلي في جنس ما تعارض به نصوص الإثبات من كلام النفاة الذي يسمونه عقليات
وإن قالوا : مرادنا أن المرئي لا بد أن كون معاينا تجاه الرائي وما كان كذلك فهو جسمونحو هذا الكلام قالوا لهم : الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم قال : [ إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] وقال : [ هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا قال : فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا قال : فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] وهذا تشبيه للرؤية لا للمرئي بالمرئي وفي لفظ في الصحيح : [ إنكم ترون ربكم عيانا ] فإذن قد أخبرنا أنا نراه عيانا
وقد أخبرنا أيضا أنه قد : استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضا والعقل أيضا يوافقها ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق وإذا سميتم انتم هذا قولا بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما علم بالشرع والعقل إذ كان معنى هذا القول ـ والحال هذه ـ ليس منتفيا لا بشرع ولا عقل
ويقال لهم : ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة ؟ أتعنون بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا ؟
فإن أردتم أمرا وجوديا ـ وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته لم يكن ـ والحالة هذه ـ في جهة موجودة فقولكم : إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون : إن الجسم في حيز ولاحيز تقدير مكان وتجعلون ما وراء العالم حيزا
فيقال لكم : الجهة ـ والحيز ـ إذا كان أمرا عدميا فهو لا شيء وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء ولا فرق بين قول القائل : هذا ليس في شيء وبين قوله : هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان الخالق تعالى مباينا للمخلوقات عاليا عليها وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق لم يكن معه غيره من الموجودات فضلا عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به
فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا وقالوا : إنما قابل بدعة ببدعة وردا باطلا بباطل

مثال آخر : كلمة جبر
ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر ونحوهما من المسائل فإنه لما ظهرت القدرية النفاة للقدر وأنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأن يكون خالقا لكل شيء وأن تكون أفعال العباد من مخلوقاته أنكر الناس هذه البدعة فصار بعضهم يقول في مناظرته : هذا يلزم منه أن يكون الله مجبرا للعباد على أفعالهم وأن يكون قد كلفهم ما لا يطيقونه فالتزم بعض من ناظرهم من المثبتة إطلاق ذلك وقال : نعم يلزم الجبر والجبر حق فأنكر الأئمة ـ ك الأوزاعي و أحمد بن حنبل ونحوهما ـ ذلك على الطائفتين ويروى إنكار إطلاق الجبر عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم وقال الأوزاعي و أحمد ونحوهما : من قال إنه جبر فقد أخطأ ومن قال لم يجبر فقد أخطأ بل يقال : إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك
وقالوا : ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا لفظ الجبر فإنه قد صح [ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناة فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليه ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ]
وقالوا : إن لفظ الجبر لفظ مجمل فإن الجبر إذا أطلق في الكلام فهم منه إجبار الشخص على خلاف مراده كما تقول الفقهاء : إن الأب يجبر ابنته على النكاح أو لا يجبرها وإن الثيب البالغ العاقل لا يجبرها أحد على النكاح بالاتفاق وفي البكر البالغ نزاع مشهور ويقولون : إن ولي الأمر يجبر المدين على وفاء دينه ونحو ذلك فهذه العبارات معناها إجبار الشخص على خلاف مراده وهو كلفظ الإكراه : إما أن يحمله على الفعل الذي يكرهه ويبغضه فيفعل خوفا من وعيده وإما أن يفعل به الشيء بغير فعل منه
ومعلوم أن الله سبحانه تعالي إذا جعل في قلب العبد إرادة للفعل ومحبة له حتى يفعله ـ كما قال تعالي { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] ـ لم يكن هذا جبرا بهذا التفسير ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فإنه هو الذي جعنل الراضي راضيا والمحب محبا والكاره كارها
وقد يراد بالجبر نفس جعل العبد فاعلا ونفس خلقه متصفا بهذه الصفات كما في قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } [ المعارج : 19 - 20 ] فالجبر بهذا التفسير حق ومنه قول محمد بن كعب القرظي في تفسير اسمه الجبار قال : هو الذي جبر العباد على ما أراد ومنه قول علي رضي الله عنه في الأثر المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم داحي المدحوات فاطر المسموكات جبار القولب على فطراتها : شقيها وسعيدها فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه بدعة يتناول حقا باطلا

مثال ثالث : اللفظ بالقرآن
وكذلك مسألة اللفظ فإنه لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلي محمد صلى الله عليه و سلم وبلغه محمد إلي الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه بل هو كلام لمن قاله مبتدئا لا كلام من بلغه عنه مؤديا
فالنبي صلى الله عليه و سلم إذا قال [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي تلكم به بلفظه ومعناه وإنما سمعناه من المبلغ عنه بفعله وصوته ونفس الصوت الذي تلكم به النبي صلى الله عليه و سلم لم نسمعه وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم لا كلام المحدث
فمن قال : إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم كان مفتريا وكذلك من قال : إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أحدثه في غيره أو إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتا أو عاجزا عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر بها عما في نفس النبي صلى الله عليه و سلم او نحو هذا الكلام ـ فمن قال هذا كان مفتريا ومن قال : إن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه و سلم كان مفتريا
فإذا كان هذا معقولا في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم
فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة : 6 ] ليس هو كلاما لغيره لا لفظه ولا معناه ولكن بلغه عن الله حبريل وبلغه محمد رسو ل الله عن جبريل ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدث لا لفظه و لا معناه إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الإحداث إلى الآخر فقال تعالى { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } [ الحاقة : 40 - 43 ] فهذا محمد صلى الله عليه و سلم وقال تعالى { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } [ المطففين : 19 - 21 ] فهذا تجبريل عليه السلام
وقد توعد الله تعالى من قال { إن هذا إلا قول البشر } [ المدثر : 25 ] فمن قال : إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر : وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر ومن قال : إن شيئا منه قول البشرفقد قال ببعض قوله ومن قال : إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال : هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهو أيضا كافر ملعون
وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة وأنا نحن نسمع كلام الله من المبلغين عنه وإذا كان الفرق ثابتا بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه و سلم منه وبين من سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته
ولما كانت الجهمية يوقلون : إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاما في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي ـ كان من المعلوم أن القائل إذا قال : هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن وأنه ليس هو كلامه بل خلقه في غيره
وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعني ـ وإن كان صحيحا ـ ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله فإن المسلمين إذا قالوا : هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله كما أنهم إذا قالوا : هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يريدوا بذلك : أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه و سلم بل وكذلك إذا قالوا في إنشاد لبيد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
هذا شعر لبيد وكلام لبيد لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بل أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه وهو لبيد وهذا منشد له فمن قال : إن هذا القرآن مخلوق أو : إن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال : إن هذا الكلام ليس هو كلام الله ن وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث : إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتكلم بهذا الحديث وبمنزلة من قال : إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد ومعلوم أن هذا كله باطل
ثم إن هؤلاء صاروا يقولون : هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته وتلاوة القرآن مخلوقة وقراءة القرآن مخلوقة ويقولون : تلاوتنا للقرآن مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون : لفظنا بالقرآن مخلوق يدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع
فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا : اللفظية جهمية وقالوا : افترقت التجهمية ثلاث فرق : فرقة قالت : القرآن مخلوق وفرقة قالت : نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وفرقة قالت : تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق
فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت : لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم
ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال : والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع
وصنف أبو أحمد بن قتيبة في ذلك كتابا وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروزي في ذلك وذكر قصة أبي طالب المشهورة التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروزي وأبي محمد فوران ومحمد بن إسحاق الصاغني وغير هؤلاء
وكان أهل الحديث قد أفتوقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق وليس مراده صوت العبد كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول : أفعال العباد أصواتهم مخلوقة ردا لهؤلاء كما فعل البخاري و محمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة : إن أهل السنة لم يختلوفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ
وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيما للعمل ونوعا آخر ليس هو منه ولهذا تنازع العلماء في لفظ العلم المطلق : هل يدخل فيه الكلام ؟ على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم علملا فتكلم هل يحنث أم لا ؟ على قولين وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل
فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل : لو لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان ] أخرجاه في الصحيحين فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملا كما قال : لعملت فيه مثل ما يعلم فلان
والثاني كما في قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] وقوله تعالى { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } [ يونس : 61 ] فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة وهي الكلام المتلو وآخرون قالوا : بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح
وسبب ذلك أن لفظ : التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك : يراد به المصدر ويراد به المفعول
فمن قال : اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح
ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح فمن قال : اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو وذلك هو كلام الله تعالى وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحا لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره
ولهذا قال أحمد في بعض كلامه : من قال لفظي بالقرآن كخلوق يريد به القرآن فهو جهمي أحترازا عما إذا أراد به فعله وصوته وذكر اللالكائي أن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة رجل يضربه فقال له : لا تضربني فقال : إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة فقال : إن الضرب إنما يقع ألمه علي فقال هكذا إذا قلت : لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن
ومن قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو علمه وأفعال العباد مخلوقة ولو قال : أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي قيل له : لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا كما يقال للأول إذا قال : أردت أن فعلي مخلوق : لفظك أيضا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا
فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطا بين الطرفين وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون : القرآن تحيث تصرف كلام الله غير مخلوق فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق من غير أن يقترن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوق
وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد وهم ـ كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال : إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم يفقهون قوله لدقة معناه
ثم صار ذلك التفرق موروثا في أتباع الطائفتين فصارت طائفة تقول : إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة ل أبي حاتم الرازي و محمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم
وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب
مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئا منه ولا خلق منه شيئا في غيره : لا حروفه ولا معانيه ـ مثل حسين الكرابيسي و داود بن علي الأصبهاني وأمثالهما
وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به وإنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة
وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا : إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى { قل هو الله أحد } هو معنى { تبت يدا أبي لهب } وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى بل قصده أن التلاوة هي أفعال العباد وأصواتهم
وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له ومنهم من لا يعرف منه لا هذا ولا هذا وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ـ ممن يوافق ابن كلاب على قوله ـ موافقا للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا فيمنعون أن يقال : اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن : إنه يلفظ أو لا يلفظ وقالوا اللفظ : الطرح والرمي ومثل هذا لا يقال في القرآن
ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية ومال فيه إلى كجانب النفاة الفائلين بأن الىلاوة مخلوقة كنا مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقه وحكى كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثبت عن الأئمة ما يوافقه
وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي و أبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أمورا عظيمة المنفعة لكنه نصر فيه قول من يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل ورجح طريقة من هجر البخاري وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنه رجع إلى ذلك وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكار على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة
وليس الأمر كما ذكره فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام الإمام أحمد ك المروزي و الخلال و أبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة وأمثالهم وقد ذكروا من ذلك ما يعلم لك عارف له أنه أثبت الأمور عن أحمد
وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المتنسبين إلى السنة والحديث من أهل خرسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذرهم ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتابا فيمن أخذ عن أحمد العلم فذكر طائفة ذكر منهم أبو بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلي وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا
وهذا كما أن العرقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أبتاع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحيانا : محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلي أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم
وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة ابن الباقلاني وأدخلها إلى الحرم ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي ثم رحل الباجي إلى العرق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب ابن الباقلاني ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانو يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيه من لبس الحق بالباطل ن ممع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها فإن ما كان مأثورا حصلت له الألفة وما كان معروفا حصلت به المعرفة كما يرى عن مالك رحمه الله أنه قال : إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء فإذا لم يكن اللفظ منقولا ولا معناه معقولا ظهر الجفاء والأهواء ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادى عليها
وقد ثبت في الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه و سلم وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون علي ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون لهم بإحسان ـ وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام ـ فالعصمة بينهم ثابتة وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته وبعظهم يخطئ بعد إجتهاده في طلب الحق فيغفر الله له خطأه تحقيقا لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري كتنازعهم في الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه ؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم ؟ وهل رأي محمد ربه ؟
وأبلغ من ذلك أن شريحا أنكر قراءة من قرأ { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات : 12 ] وقال : إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أعلم منه أو قال : أفقه منه ـ وكان يقرأ ) بل عجبت ) فأنكر على شريح إنكاره مع أن شريحا من أعظم الناس قدرا عند المسلمين ونظائر هذا متعددة
والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر والمؤمن والمنافق والبر والفاجر والصادق والكاذب والمصلح والمفسد وأمثال ذلك وكون القول صوابا أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم
والتناقض هو أن يكون أحد الدليلين يناقض مدلول الآخر : إما بأن ينفي أحدهما عين ما يثبته الآخر وهذا هو التناقض الخاص الذي بذكره أهل الكلام والمنطق وهو اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى وأما التناقض لمطلق فهو أن يكون موجب أحد الدليلين ينافي موجب الآخر : إما بنفسه وإما بلازمه مثل أن ينفي أحدهما لازم الآخر أو يثبت ملزومه فإن انتقاء لازم الشيء يقتضي انتفاءه وثبوت ملزومه يقتضي ثبوته
ومن هذا الباب الحكم على الشيئين المتماثلين من كل وجه مؤثر في الحكم بحكمين مختلفين فإن هذا تناقض أيضا إذ حكم الشيء حكم مثله فإذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه
وهذا التناقض العام هو الاختلاف الذي نفا الله تعالى عن كتابه بقوله عز و جل : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء : 82 ] وهو الاختلاف الذي وصف الله به قول الكفار في قوله تعالى { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 8 - 9 ]
وضد هذا هو التشابه العام الذي وصف الله به القرآن في قوله { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } [ الزمر : 23 ] وهذا ليس هو التشابه الخاص الذي وصف الله تعالى به القرآن في قوله { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] فإن ذلك التشابه العام يراد به التناسب والتصادق والائتلاف
وضده : الاختلاف الذي هو التناقض والتعارض فالأدلة الدالة على العلم لا يجوز أن تكون متناقضة متعارضة وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء ومن صار من أخل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة فإنما ذلك لفساد استدلاله إما لتقصيره وإما لفساد دليله ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها
وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على اصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا به صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلامه ونحو ذلك جعلوا تلك الأقوال محكمة وجعلوا قول الله ورسوله مؤولا عليها أو مردودا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه فتجد أحدهم يقول : ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا له كم ولا كيف ولا تحله الأعراض والحوادث ونحو ذلك وليس بمباين للعالم ولا خارج عنه
فإذا قيل : إن الله أخبر أن له علما وقدرة قالوا لو كان له علم وقدرة للزم أن تحله الأعراض وأن يكون جسما وأن يكون له كيفية وكمية وذلك منتف عن الله لما تقدم
ثم قد تقول : إن الرسول قصد بما ذكره من أسماء الله وصفاته أمورا لا نعرفها وقد تقول : إنه قصد خطاب الجمهور فإفهامهم الأمر على غير حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك قد يفسر صفة بصفة كما يفسر الحب والرضا والغضب بالإرادة أو السمع والبصر بالعلم والكلام والإرادة والقدرة بالعلم ويكون القول في الثانية كالقول في الأولى يلزمها من اللوازم في النفي والإثبات ما يلزم التي نفاها فيكون مع جمعه في كلامه أنواعا من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات قد فرق بين المتماثلين : بأن جعل حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر ويكون قد عطل النصوص عن مقتضاها ونفى بعض ما يستحق الله من صفات الكمال ويكون النافي لما أثبته هو قد تسلط عليه وأورد عليه فيما أثبته هو نظير ما أورده هو على من أثبت ما نفاه وإن كان النافي لما أثبته أكثر تناقضا منه
ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينا يوالون عليه ويعادون بل يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه ويقول : مسائل أصول الدين : المخطئ فيها يكفر وتكون تلك المسائل مما ابتدعوه
معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس له أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شر من قول الخوارج
وأصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمون من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقا للنصوص لا مخالفا لها ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام :
( جهمية الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء )
فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم : أحدها : ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني : ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء والثالث : جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين والرابع : تكفيرهم أو تفسيقهم أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول
وأما أهل العلم والإيمان : فهم على نقيض هذه الحال يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه وإليه يرد ما تنازع الناس فيه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي أستفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الحبرية او المسائل العلمية فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره
وليس كل ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده لكن أهل العلم يعلمون ما قاله ويميزون بين النقل الذي يصدق به والنقل الذي يكذب به ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه صلى الله عليه و سلم فإن الله تعالي أمر الرسول بالبلاغ المبين وهو أطوع الناس لربه فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسا مدلسا

معنى الاستواء على العرش
والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأوليها إلا الله إنما نفى عن غيره علم تأويلها لا علم تفسيرها ومعناها كما أنه لما سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] كيف استوى ؟ قال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ـ وكذلك ربيعة قبله ـ فبين مالك أن معنى الاستواء معلوم وأن كيفيته مجهولة فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وأما ما يعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله
والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن وأخبر أنه أنزله لتعقله ولا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه ولا يعقل ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ بل منتهى أمرهم : القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان
فإذ قال القائل : استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل كان غالطا فإن قول القائل : استوى على كذا له معنى وقوله : استوى إلى كذا له معنى وقوله : استوى وكذا له معنى وقوله : استوى بلا حرف يتصل به له معنى فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات كحرف الاستعلاء والغاية وواو الجمع أو ترك تلك الصلات
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن كلام الله مبين غاية البيان موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره وبين نحو من عشرين دليلا على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص
فإن الكلام هنا أربعة أنواع : أحدهما : أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان
والثاني : أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها
الثالث : أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل
الرابع : أن نبين أن العقل موافق لها معاضد لا مناقض لها معارض

ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض الوجه الثامن عشر
أن يقال : ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات في أمر التوحيد والنبوة والمعاد قد بينا فساده في غير هذا الموضع وتناقضه وأن معتقد صحته من أجهل الناس وأضلهم في العقل كما بينا انتهاءهم في نفي الصفات والأفعال إلى حجة التركيب والتشبيه والاختصاص وانتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال
وبينا أن ما يذكرونه على النفي ألفاظ مجملة مشتبهة تتناول حقا وباطلا كقولهم : : إن الرب تعالى لو كان موصوفا بالصفات من العلم والقدرة وغيرها مباينا للمخلوقات لكان مركبا من ذات وصفات ولكان مشاركا لغيره في الوجود وغيره ومفارقا له في الوجوب وغيره فيكون مركبا مما به الاشتراك والامتياز ولكان له حقيقة غير مطلق الوجود فيكون مركبا من وجود وماهية ولكان جيما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى جزئه لا يكون واجبا بنفسه

معنى المركب
وقد بينا فساد هذا الكلام بوجوه كثيرة يضيق عنها هذا الموضع فإن مدار هذه الحجة على ألفاظ مجملة فإن المركب يراد به ما ركبه غيره وما كان مفترقا فاجتمع كأجزاء الثوب والطعام والأدوية من السكنجبين وغيره وهذا هو المركب في لغة العرب وسائر الأمم
وقد يراد بالمركب ما يمكن تفريق بعضه عن بعض ومعلوم أن الله تعالى منزه عن جميع هذه التركيبات
ويراد بالمركب في عرفهم الخاص ما تميز منه شيء كتميز العلم عن القدرة وتميز ما يرى ونحو ذلك وتسمية هذا المعنى تركيبا وضع وضعوه ليس وافقا للغة العرب ولا لغة أحد من الأمم وإن كان هذا مركبا فكل ما في الوجود مركب فإنه ما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء والمعلوم ليس الذي هو غير معلوم
وقولهم : إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس فإن الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه أو يفاقها وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال : إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها والصفة اللازمة يسميها بعض الناس غير الموصوف وبعض الناس يقول : ليست غير الموصوف ومن الناس من لا يطلق عليها لفظ المغايرة بنفي ولا إثبات حتى يفصل ويقول إن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فهي غير وإن أريد بهما ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو فليست بغير فإن لم يقل : هي غير الموصوف لم يكن هناك غير لازم للذات فضلا عن أن تكون مفتقرة إله وإن قيل : هي غيره فهي والذات متلازمان لا توجد إحداهما إلا مع الأخرى ومثل هذا التلازم بين الشيئين يقتضي كون وجود أحدهما مشروطا بالآخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون يقتضي كون وجود أحدهما إلا مع الأخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون كل من الشيئين موجبا للآخر فالدور في العلل ممتنع والدور في الشروط جائز
ولفظالافتقار هنا : إن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا وإن أريد به أفتقار المشروط إلى شرطه ـ فهذا هو تلازم من الجانبين وليس ذلك ممتنعا والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فأما ما كان صفة لازمة لذاته وهو داخل في مسمى أسمه فقول القائل : إنه مفتقر إليها كقوله : إنه مفتقر إلى نفسه فإن القائل إذا قال : دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتصفة بصفاتها ليس أسم الله أسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها

مذهب النفاة في الصفات والرد عليه
وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى أسمها وهذا نحق ولكن قول القائل إن هذا افتقار إلى غيره تلبيس فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه وهذا باطل لأنه قد تقدم أن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد يه ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بهذا المعنى وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات وأن يكون مستلزما لصفات وإن سميت تلك الصفات غيرا فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز
وهؤلاء عمدوا إلى المعاني كالصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظا مجملة تتناول الباطل الممتنع كالرافض الذي يسمى أهل السنة ناصبة فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم
وقد بينا في غير هذا الموضع أن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل وأنه لا خروج عن ذلك : إلا بجحد وجود الإرادة فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا منتهي الإلحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات مع نفي مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون : إن العاقل والمعقول والعقل والعاشق والمعشوق والعشق واللذة واللذيذ والملتذ : هو شيء واحد وإنه موجود واجب له عناية ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله ثم يقولون : وعلمه أو عقله هو ذاته وقد يقولون : إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير ويقولون : إن ذلك كله شيء واحد فإرادته عين قدرته وقدرته عين علمه وعلمه عين ذاته
وذلك أن من أصلهم : أنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته : إما سلب كقولهم : ليس بجسم ولا متحيز وإما إضافة كقولهم : مبدأ وعلة وإما مؤلف منهما كقولهم : عاقل ومعقول وعقل ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة كقولهم : إنه ليس فيه كثرة كم ولا كثرة كيف أو إنه ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم أو أنه لا بد من إثباته موحدا توحيدا منزها مقدسا عن المقولات العشر : عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة ونحو ذلك
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته وهم يسمون نفي الصفات توحيدا وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيدا
وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين فإن التوحيد الذي بعث الله له رسله وأنزل به كتبه هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ولا يجعل له ندا كما قال تعالى { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 1 - 6 ]
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى يما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل كما قال تعالى { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 1 - 4 ]
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا : هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة منهم أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه أو يقولون : هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله القونوي وأمثاله
ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة من وجوه :

الرد على نفاة الصفات من وجوه الأول
أحدهما : أن جعل عين العلم عين القدرة ونفس القدرة هي نفس الإدارة والعناية ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة ونفس العلم نفس الفعل والإبداع ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة فإن هذه حقائق متنوعة ن فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول : إن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم هي حقيقة اللون وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة

الثاني
الوجه الثاني : أنه من المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره والجسم ليس هو العرض والموصوف ليس هو الصفة والذات ليست هي النعوت فمن قال : إن العالم هو العلم والعلم هو العالم فضلاله بين وكذلك معلوم أن العلم ليس هو المعلوم فمن قال : إن العلم هو المعلوم والمعلوم هو العلم فضلاله بين أيضا
ولفظ العقل إذا أريد به المصدر فليس المصدر هو العاقل الذي هو اسم الفاعل ولا المعقول الذي هو اسم مفعول وإذا أريد بالعقل جوهر قائم بنفسه فهو العاقل فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته وكذلك إذا سمى عاشقا ومعشوقا بلغتهم أو قيل : محبوب ومحب بلغة المسلمين فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول : ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات

الثالث
الوجه الثالث : أن يقال : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان
ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة ع الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا : إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها
وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل : إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن
وهم قد قرروا ا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث
ومورج التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبةتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم تالفاسد وهو ا الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقلن وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا ناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك
والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر فالعين في الخارج هو هو ليس هناك جوهران اثنان حتى يكون أحدهم عارضا للآخر أو معروضا بل هناك ذات وصفات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه
وهذا مما قد بين هو ـ ومما يعلم كل عاقل ـ أنه يمتنع وجوده في الخارج ثم إذا جعل مطلقا بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه فلا يقال : هو واجب بنفسه ولا ليس بواجب بنفسه فلا يوصف بنفي ولا إثبات لن هذا نوع من التمييز والتقييد
وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية فهو أسوأ جالا من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية وهو يمتاز عنها بأمور عدمية فيكون كل من الموجودات أكمل منه
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم وإن كان هذا ممتنعا فذاك ممتنع أيضا وهو أقرب إلى العدم فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العد هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديرا كما يقدر كون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما فلزم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين
وهذا من أعظم الممتنعات بإتفاق العقلاء ن بل قد يقال : إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر وهؤلاء وأمثالهم من رؤوس الملاحدة الباطنيةن وقد ذكر ذلك عن نفسه وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحادا أعظم من إلحاد اليهود والنصاري
وأما ملاحدة المتصوفة : كابن عربي الكائي وصاحبه الصدر القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم فقد يقولون : هو الوجود المطلق كما قاله القونوي وجعله هو الوجود من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه واجبا وممكنا وواحدا وكثيرا وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة
ومعلوم أن المطلق لا بشرط ـ كالإنسان المطلق لا بشرط ـ يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان وعلى الذهني والخارجي فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن والواحد والكثير والذهني والخارجي وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقا بلا ريب
ومن قال : إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا وباطلا فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معينا : أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج كما يطابق الاسم لمسماه والمعني الذهني الموجود الخارجي فهذا صحيح وإن أراد بذلك أن نفس الموجود في الخارج كلي حين وجوده في الخارج فهذا باطل مخالف للحس والعقل فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع وهي اشتراك الأعيان في النوع واشتراك الأنواع في الجنس وهي اشتراك الكليات في الجزئيات
والقسمة المقابلة لهذه الشركة هي قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الجنس إلى أنواع والنوع إلى أعيانه
وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة وهي المذكورة في قوله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } [ القمر : 28 ] وقوله { لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجرات : 44 ] فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج وقسمتها قسمة للكل إلى أجزاءه كقسمة الكلام إلى الاسم والفعل والحرف والأول كقسمة الكلمة الاصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف
وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات لا في الكل فمعلوم أنه لا شركة في المعينات فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين ولا في هذا شيء من هذا ومعلوم أن الكلي الذي يصلح لاشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءا من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن قال : إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعني أن هذا المعين فيه شيء مطلق أو شيء كلي فكلامه ظاهر الفساد
وبهذا تنحل شبه كثيرة توجد في كلام الرازي وأمثاله من أهل المنطق ونحوهم ممن التبس عليهم هذا المقام

وجود الله هل هو ماهيته أو زائد على ماهيته ؟
وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى : هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته ؟ وهل لفظ الوجود ن \ مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالاشتراك اللفظي ؟
فقالوا : إن قلنا : إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل
وإن قلنا : إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والامتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره
ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه : أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط : أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط
والثاني : أن وجود الواجب زائد على ماهيته
والثالث : أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه

رأي ابن تيمية
فيقال لهم : الأقوال الثلاثة باطلة والقول الحق ليس واحدا من الثلاثة
وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا : إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه الواجب وهو نفسه في الممكن وهذا غلط فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما ولكن لفظالوجود ومعناه الذي في الذهن والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما وهما يشتركان فيه فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخط الذي يكتب به هذا اللفظ لهما فهما مشتركان في هذا وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره ومن توقف فيه فلعدم تصوره له
وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهيةوالحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى : حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك فكذلك لفظ الوجود فإذا قلنا : إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن فذلك إذا قيل : الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة بل ماهيته هي حقيقية وهي وجوده
وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج ليس في الخارج شيئان فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر
ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم : كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر
وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين والأثنين واحد فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة ويجعلون الصفة هي الموصوف فيجعلون الاثنين واحدا كما قالوا : إن العلم هو القدرة وهو الإرادة والعلم هو العالم ويجعلون الواحد اثنين كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدتة جواهر : : إنسان وحيوان وناطق وناطق وحساس ومتحرك بالإرادة ويجعلون كلا من هذه الجواهر غير الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات والاعراض بالجواهر كالصورة الصناعية : مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل وكذلك الاتصال والانفصال قائمان بمحل هو الجسم
وهكذا يجعلون الصورة الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون الموجد في الخارج هو الموجود في الذهن كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق
فهذه الأمور من أصول ضلالهم : حيث جعلوا الواحد متعددا والمتعدد وحدا وجعلوا من في الذهن في الخارج وجعلوا ما في الذهن ولزم من ذلك أن يجعلوا الثبت منتفيا والمنتفي ثابتا فهذه الأمور من أجناس ضلالهم وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنا ننبه على بعض ما نبين به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز و جل وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول وأنه يجب تقديمه عليه فإنه يتبين له انه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك
ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وصاروا يدخلون فيها من المعاني ماليس هو المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض علهم قالوا له : أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي مضمونه جحد الصانع وتكذيب رسله وجحد شرائعه وفساد العقل والدين والدخول في غاية الإلحاد ن المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد

كيف نعرف الضلال ونتجنبه
وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها كما ضل من ضل ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممن ضل ببعض الشبهات ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم : أن يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة
واعلم أن هذا نافع في الشرع والعقل :
أما الشرع : فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله فكل ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه و سلم قاله فعلينا أن نصدق به وإن لم نفهم معناه لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحا وافقا لقول المعصوم كان ما أراده حقا وإن كان أراد به معنى مخالفا لقول المعصوم كان ما أراده باطلا
ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه وهي مسألة فقهية فقد يكون المعنى صحيحا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة وقد يكون اللفظ مشروعا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل كما قال علي رضي الله عنه ـ لمن قال من الخوارج المارقين لا حكم إلا لله : كلمة حق أريد بها باطل
وقد يفرق بين اللفظ الذي يدعى به الرب فإنه لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه لإثبات حق أو نفي باطل
وإذا كان في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه و سلم علينا أن نفرق بين مخاطبته وبين الإخبار عنه فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور : 63 ] فلا نقول : يا محمد يا أحمد كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول : يا رسول الله يا نبي الله
والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } [ هود : 48 ] { يا موسى * إني أنا ربك } [ طه : 11 - 12 ] { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران : 55 ] ولما خاطبه صلى الله عليه و سلم قال { يا أيها النبي } [ التحريم : 1 ] { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه
وأما إذا كان في مقام الإخبار عنه قلنا : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقلنا : محمد رسول الله وخاتم النبيين فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [ الحزاب : 40 ] وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } [ الفتح : 29 ] وقال { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 144 ] وقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ]
فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه وجل مما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال ونفي ما تنزه عنه عز و جل من العيوب والنقائص فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] مع قوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] ولا يقال في الدعاء : يا شيء
وأما نفع هذا الاستفسار في العقل : فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حنى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية فقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ومن كان متكلما بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ بل يجرد بأي عبارة دلت عليه
أرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم : منها ما كان أعجميا فعربت كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة وقد لا يكون صحيح الترجمة ومنها ما هو عربي
ونحن إنما نخاطب المم بلغتنا العربية فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى والصورة والمادة والعقل والنفس والصفات الذاتية والعرضية والمجرد والتركيب والتأليف والجسم والجوهر والعرض والماهية والجزءونحو ذلك بين ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني كما إذا قال قائلهم : النوع مركب من الجنس والفصل كتركيب الإنسان من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية وإن هذه أجزاء الإنسان وأجزاء الحد والواجب سبحانه إذا كان له صفات لزم أن يكون مركبا ولمركب مفتقر إلى أجزائه والمفتقر إلى أجزائه لا يكون واجبا ـ استفسروا عن لفظ التركيب والجزء والافتقار والغير فإن جميع هذه الألفاظ فيها اشتراك والتباس وإجمال
فإذا قال القائل : الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية
قيل له : أتعني بذلك الإنسان الموجود في الخارج وهو هذا الشخص وهذا الشخص أو تعني الإنسان المطلق من حيث هو هو ؟
فإن أراد الأول قيل له : هذا الإنسان وهذا الإنسان وغيرهما إذا قلت ك هو مركب من هذين الجزأين
فيقال لك : الحيوان والناطق جوهران قائمان بأنفسهما
فإذا قلت : هما جزءان للإنسان الموجود في الخارج لزم أن يكون الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران : أحدهما حيوان والآخر ناطق غير الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل
وإن قال : أنا أريد بذلك أن الإنسان يوصف بأنه حيوان وأنه ناطق
قيل له : هذا معنى صحيح لكن تسمية الصفات أجزاء ودعوى أن الموصوف مركب منها وأنها متقدمة عليه ومقومة له في الوجودين الذهني والخارجي كتقدم الجزء على الكل والبسيط على المركب ونحو ذلك مما يقولونه في هذا الباب : هو مما يعلم فساده بصريح العقل
وإن قال : هو مركب من الحيوانية والناطقية
قيل له : إن أردت بالحيوانية والناطقية : الحيوان والناطقن كان الكلام واحدا وإن أردت العرضين القائمين بالحي الناطق وهما : صفتاه كان مضمونه أن الموصوف مركب من صفاته وأنها أجزاء له ومقومة له وسابقة عليه ومعلوم أن الجوهر لا يتركب من الأعراض وأن صفات الموصوف لا تكون سابقة له في الوجود الخارجي
وإن قال : أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك
قيل له : إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج بل هذا هو الإنسان المطلق والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن فإذا قدرت في النفس جسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا كان هذا المتصور في الذهن مركبا من هذه الأمور وإن قدرت في النفس حيوانا ناطقا كان مركبا من هذا وهذا وإن قدرت حيوانا صاهلا كان مركبا من هذا وهذا
وإن قلت : إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة
وإن قلت : إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحا إذا كان ما في النفس علما لا جهلا
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مستلزما أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجودا واحدا بالعين بل هذا أولى لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة : كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى
وهذه الحجة المبينة على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم ويسمون ذلك التوحيد

حجة الأعراض عند المتكلمين
وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم وهي حجة الأعراض فإنهم استدلوا على حدوث العالم بحدوث الأجسام واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق ثم قالوا : إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم
فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح وأن العرض لا يبقى زمانين كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية نفاه الفعل الاختياري القائم بذاته كالقاضي أبو بكر و أبي المعالي ونحوهما ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء والجسم لا يخلو منها فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها
وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره
وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك وقالوا : من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة وساكنا أخرى
وهل السكون أمر وجودي أو عدمي ؟ على قولين
وأما الاجتماع والافتراق فمبني على إثبات الجوهر الفرد
فمن قال بإثباته قال : إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة وهي : الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الاجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم
ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية وكثير من الكرامية
وأما من قال : إن نفيه هو قول أهل الإلحاد وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد : فهذا من أقوال المتكلمين كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات العالم هو أصل الدين فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين
ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال : إنه يستلزم بعضها كالأكوان أو الحركة والسكون وإن ذلك حادث وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور ك أبي الوفاء بن عقيل وغيره
ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه احتاجوا إلى أن يقولوا : ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها إذ يمكن أن يقال : إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث وأما النوع فلم يزل فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة
وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له فإن لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى
وهذه نكتة الدليل فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر وألزموهم بالأبد وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان وقدرت إلى زمن الهجرة فإنها كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا
فإذا قال القائل : إذا طبقنا بين هذه وهذه فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى
كان لهم عنه جوابان :
أحدهما : أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين
والجواب الثاني : أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب التناهي لا بين الجانب الذي لا يتناهى وهذا لا محذور فيه
ولبعض الناس جواب ثالث وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم
وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها مع قولهم بأن الله أحدث السماوات والأرض بعد أن لم يكونا وألزموهم بالأبد ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان إمام الجهمية الجبرية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة القدرية فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل فقال الجهم بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار
وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الاسترسال : وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها لامتناع ما لا يتناهى علما وعينا
وأنكر الناس ذلك عليه وقالوا فيه أقوالا غليظة حتى يقال : إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك
وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال :
قيل : لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل
وقيل : يجوز فيهما
وقيل : يجوز في المستقبل دون الماضي
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة
قولوا : لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على إنتفاء قيام الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا : لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى
وأما ابن كرام وأتباعه : فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما
وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة ومسامته وذلك من صفات الأجسام
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع
ومن هنا قال هؤلاء : إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام
قالوا : وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به
وقالت المعتزلة ك أبي الحسين وغيره : إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا والله منزه عن فعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح معلوم بأنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله وغناه معلوم بكونه ليس بجسم وكونه ليس بجسم معلوم بنفي الصفات فلو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لم يكن غنيا وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول
فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة
وكذلك أبو عبدالله بن الخطيب وأمثاله : أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق منها ثلاثة مبنية على أصلين وربما قالوا بست طرق منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة
فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون : بالإمكان أو الحدوث وكلاهما : إما في الذات وإما في الصفات وربما قالوا : وإما فيهما
فالأول : إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة
والثاني : بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة
والثالث : إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام
والرابع : إمكانهما جميعا
والخامس : حدوث الصفات وهذا هو الطريق المذكور في القرآن
والسادس : حدوث الأجسام وصفاتها وهو مبني على ما تقدم
وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد ويقول بتماثل الأجسام وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها وهؤلاء ينكرون الاستحالة
وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر فلا يقولون : إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان ولا جرم النواة باق في النخلة
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه وينكرون على أهله
والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية والنصوص النبوية وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها
فيقال لهم : أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم ولا أمر النبي صلى الله عليه و سلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك
فمن قال : إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ومن قال : إن سلوك هذه الطريق واجب في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام
ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا : وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم
ثم القائلون بان هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون : إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة : منهم الأشعري و الخطابي وغيرهما
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى الحق بل إلى باطل كقول من قال : الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل وقول من قال : لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال : من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك
ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه و سلم ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان : إثبات الصانع وتنزيهه عن صفات الأجسام كما يجعلون هم ذلك أصل دينهم فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن الإيمان يحصل بدونها بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلا بدونها
فمن قال بعد هذا : إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها وأن تقديم الشرع المعارض لها لا يكون قدحا في العقليات التي هي أصل الشرع بل يكون قدحا في أمور لا يفتقر الشرع إليها ولا يتوقف عليها وهو المطلوب
فتبين أن الشرع المعارض لمثل هذه الطرق التي إنها عقليات إذا قدم عليها لم يكن في ذلك محذور

بطلان استدلال المتكلمين بقصة الخليل على رأيهم
ومن عجائب الأمور : أن كثيرا من الجهمية نفاة الصفات والأفعال ن ومن اتبعهم على نفي الأفعال : يستدلون على ذلك بقصة الخليل صلى الله عليه و سلم كما ذكر ذلك بشر المريسي وكثير من المعتزلة ومن أخذ ذلك عنهم أ و عمن أخذ ذلك عنهم كأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم وذكروا في كاتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه وهو قوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ]
قالوا : فاستدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك كالكوكب والقمر والشمس
وظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام { هذا ربي } [ الأنعام : 77 ] أراد به : هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة
وهذا خطأ من وجوه :

الوجه الأول
أحدهما : أن قول الخليل { هذا ربي } ـ سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي : أو غير ذلك ـ ليس المراد به : هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون : إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من اهل المقالات المعروفة التي ذكره الناس : لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم صلى الله عليه و سلم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم
وهذا دين المشركين من الصبئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطوا وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي والسحر الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فليبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [ الزخرف : 26 - 27 ] وقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 75 - 77 ] وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدونه غير الله
وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون : إن ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم
فالشرك الذي نهي عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام : الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد
قال الإمام أحمد : وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى ن وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

الوجه الثاني
أنه لو كان المراد بقوله : { هذا ربي } أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال : إن : إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا ـ مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم

الوجه الثالث
أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد ـ لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير ـ إن الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء : إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها : إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار : إنه آفل

الوجه الرابع
أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع
وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعني الإمكان كما قال في إشاراته :
قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ] فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب : أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ] هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره : إن هذا قول المحققين
واستعارته لفظ : الهوي والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه
وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها : أن الكواكب والشمس والقمر : هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك
وشبهتهم في ذلك : أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب : إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل والفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله
وقول هؤلاء ـ إن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام ـ فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب : أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس
وأيضا فلو قدر أن ذلك كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز : فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا القرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه و سلم فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو
وأيضا فإنه قال تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } [ الأنعام : 76 ] فذكره منكرا : لأن الكواكب كثيرة ثم قال : { فلما رأى القمر } [ الأنعام : 77 ] { فلما رأى الشمس } [ الأنعام : 78 ] ] بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر والمعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان
وأيضا فإنه قال { لا أحب الأفلين } والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك
فلو ذك القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون : نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك ـ لو ذكروه ـ من الفساد أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا
والكم على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كير من الداخلين في العلم والعبادو إذ صاحب كتاب مشكاة الأنوار إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز و جل لموسى ين عمران النبي صلي الله عليه وسلم كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي
وهو من جنس قول من يقول : إن النبوة مكتسبة ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة فكن السهروردي المقتول يقول : لا أموت حتى يقال في : قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول : لقد زرب ابن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه ففي خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام
ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد حنى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى كما فعل صاحب الفصوصابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصرف والتحقيق
وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضبة مما الجمهور عن مثل هؤلاء بخلاف جنس أهل الفقر والزهد ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصرف وفقير وناسك وغير هؤلاء فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفي من إلحاد ملاحدة الشيعة وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال لعفيف التلمساني : أنت نصيري فقال : نصير جزء مني والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا
فإن قيل : فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحا في أصله لكنه تقديما له على أدلة عقلية فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع
قيل : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس تقديما له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة الشرع عليه وقد حصل فإنا إنما ذكرنا في هذا المقام بيان بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام الدليل على صحته مطلقا
الجواب الثاني : أن نقول : الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته
الجواب الثالث : أن نقول : بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها فهي باطلة بالعقل وبالشرع والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ] وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء فإنها مخالفة للسمع والعقل فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي الأصل من كلام المكذبين للرسل
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها مبسوط في غير هذا الموضع لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام فنقول :

بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض الوجه التاسع عشر
أن هذه المعارضات مبنية على التركيب وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه وأما الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول : قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة
وذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث وإما أن لا يكون فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وهو ممتنع في البديهة وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره ويلزم التسلسل الممتنع فإتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام أو إلى القول بالتسلسل والدور وكلاهما ممتنع عندهم
ومما ينبغي أن يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه فإنه إذا قيل : إنه قدر أنه لم يكن يحدث شيئا قط ثم حدث حادث فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن لم يحدث إلا بسبب حادث وأن القول في كل ما يحدث قول واحد
وإذا قال القائل : فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض فإن قوله : لا يحدث حادثقول عام فإذا جوز أن يحدث حادث بلا بسبب فقد تناقض ويسمى تسلسلا
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات : بأن يكون للفاعل فاعل وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء
والثاني : التسلسل في الآثار : بأن يكون الحدث الثاني موقوفا على حادث قبله وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك وهلم جرا فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث ـ مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة ـ يجوزون ذلك وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك
وأما إذا قيل : لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل وقد يسمى هذا دورا فإنه إذا قيل : لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دورا فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث وكونه سبحانه لم يزل مؤثرا يراد به مؤثرا في كل شيء وهذا لا يقوله عاقل لكنه لازم حجة الفلاسفة ويراد به لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية
ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك قالوا لهم في الجواب : هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به
وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا : هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه فقالوا لهم : إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلا وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله وإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور
والتسلسل نوعان : تسلسل في العلل وقد اتفق العلماء على إبطاله وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء
وتنازع هؤلاء : هل الإلزام لهم صحيح أم لا ؟ وبتقدير كون الإلزام صحيحا ليس فيه حل للشبهة وإذا لم تنحل كانت حجة على الفريقين وكان القول بموجبها لازما واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله الرازي في أشهر كتبه وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموي وجوابه هو عنها فإنه الرازي ذكرها وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر بجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها الموضع
قال حجتهم : جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود فكل ما لا بد منه في مؤثريته إن لم يكن حاصلا في الأزل فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل وإن كان حاصلا : فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى فيرجح أحدهما على الآخر وأن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح وإن توقف لزم خلاف الفرض
ثم قال أجاب المتكلمون بوجه : الأول : أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت
قلت : هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما ونه يجيب القاضي أبو بكر وأبو المعالي والتميميون من أصحاب أحمد والقاضي أبو يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وأمثالهم وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة وزريفه عليه ابن رشد الحفيد وبه أجاب الأمدي وبه أجاب الرازي في بعض الموضع
قال : الجواب الثاني للمتكلمين : أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به
قلت : هذا الجواب ذكره طائفة من الأشعرية ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة كما ذكره الشهرستاني ويمكن أن يجعل هذا جوابا آخر
قال : الجواب الثالث : لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت
قلت : هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو حازم ابن القاضي أبي بعلي وغيره
قال : الجواب الرابع : أن الأزلية مانعة من الإحداث لم سبق
الجواب الخامس : أنه لم يكن ممكنا قبله ثم صار ممكنا فيه
قلت : هذان الجوابان أو تاحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم كالشهرستاني وغيره وهذا جواب الرازي في بعض المواضع
قال : الجواب السادس : أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقتان متساويان والعطشان إذا وجد قدحين متساويين
قلت : هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول وهو عنده أجل ما صنفه الكلام ـ قال : قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز و جل لا بد وأن يكون حاصلا في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز و جل
قلنا : هذا إنما يلزم إذا كان موجبا بالذات أما إذا كان قادرا فلا
قوله : القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت وأن يفعل قبله وبعده توقفت فاعليته على مرجح
قلنا : المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال : القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح
قوله : إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع
قلنا : قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه
قلت وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة وهو وأمثاله دائما في كتبهم يضعون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة هو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر
فهؤلاء إذا ناطروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة هم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة
وهذا غلب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما بتناقضون فيحتجون بالمحجة التي يزعمون أنها برهان باهر ثم في موضع آخر يقولون : إن بديهة العقل يعلم به فساد هذه الحجة

آراء المتكلمين في إرادة الله تعالى
وهو لما احتج في المحصول على إثبات الجبر وأن إثباته يمنع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ذكر هذه الحجة وقال : فثبت بهذا البرهان الباهر أن هذه الحوادث إما أن تحدث ـ يعني من العبد القادر ـ على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق
وقال أيضا في تقريرها ههنا : العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر فلو جوزنا ممكنا يترجح أحد طرفيه على الآخر بلا مرجح لم يمكنا أن نحكم لشيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر وذلك يسد باب إثبات الصانع
قال : وأما الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنا نمنع تساويهما من كل الوجوه وإن ساعدنا عليه ولكن الهارب من السبع يعتقد ترجح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه أو يصير غافلا عن أحدهما فأما لو اعتقد الهارب تسويهما من كل الوجوه فإنه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعرضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح
وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة : إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره ولا يمكن أن يقال : الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره ؟ لأنه لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائدا وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى وذلك محال لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له وذلك أمر ذاتي له ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة
قال : وهذا الجواب باطل أيضا لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية تعليل أصل المرجحية ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح ولا يكون تعليل ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا فكذلك ههنا
قلت : نظير هذا قول من يقول من القدرية المعتزلة الشيعة ونحوهم : إن الله تعالى جعل العبد مختارا وخلقه مختارا إن شاء اختار هذا الفعل وإن شاء اختار هذا الفعل فهو يختار أحدهما باختياره
فيقال لهم : هو جعله أهلا للاختيار وقابلا للاختيار وجائزا منه الاختيار وممكنا منه الاختيار ونحو ذلك أو جعله مختارا لهذا الفعل على هذا ؟
فإن قالوا بالأول قيل لهم : فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لا بد له من سبب وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا فوجود أحد الاختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه
وإن قالوا بالثاني أعترفوا بالحق وأن ما فيه من أختيار الفعل المعين هو من الله تعالى كما قال سبحانه { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } [ التكوير : 28 - 29 ]
ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم : فهذا الاختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل وهو إرادة العبد الحادثة من المحدث لها ؟
قالوا : الإرادة لا تعلل
فقلت لمن قال لي ذلك منهم : تعني بقولك : لا تعلل بالعله الغائية أي لا تعلم غايتها أو لا تعلل بالعلة الفاعلية فلا يكون لها محدث أحدثها ؟
أما الأول فليس الكلام فيه هنا مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة فإنه من جوز في بعض الحوادث ان تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون
فالمعتزلة القدرية : إما أن ينفوا إرادة الرب تعالى : وإما أن يقولوا بإرادة أحدثها في غير محل بلا إرادة كما يقوله البصريون منهم وهم أقرب إلى الحق من البغداديين منهم وهم في هذا كما قيل فيهم : طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب ـ فإنهم التزموا عرضا يحدث لا في محل وحادثا يتحدث بلا إرادة كما التزموا في إرادة العبد أنها تحدث بلا فاعل فنفوا السبب الفاعل للإرادة مع أنهم يثبتون لها العلة الغائية ويقولون : إنما أراد الإحسان إلى الخلق ونحو ذلك
والذين قابلوهم من الأشعرية ونحوهم أثبتوا السبب الفاعل لإرادة العبد وأثبتوا لله إرادة قديمة تتناول جميع الحوادث لكن لم يثبتوا لها الحكمة المطلوبة والعاقبة المحمودة فكان هؤلاء بمنزلة من أثبت العلة الفاعلية دون الغائية وأولئك بمنزلة من أثبت العلة الغائية دون الفاعلية

آراء الفلاسفة
والمتفلسفة المشاؤون يدعون إثبات العلة الفاعلية والغائية ويعللون ما في العالم من الحوادث بأسباب وحكم وهم عند التحقيق أعظم تناقضا من أولئك المتكلمين لا يثبتون لا علة فاعلية ولا غائية بل حقيقة قولهم : أن الحوادث التي تحدث لا محدث لها لن العلة التامة القديمة مستلزمة لمعلومها لا يمكن أن يحدث عنها شيء
وحقيقة قولهم : أن أفعال الرب تعالى ليس فيها حكمة ولا عاقبة محمودة لأنهم ينفون الإرادة ويقولون : ليس فاعلا مختارا ومن نفى الإرادة كان نفيه للمراد المطلوب بها الذي هو الحكمة الغائية أ ولى وأخرى ولهذا كان لهم من الاضطراب والتناقض في هذا الباب أعظم مما لطوائف أهل الملل كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أقوال الطوائف الكبار وما فيها من التناقض وأن من عارض النصوص الإلهية بما يسميه عقليات إنما يعارضها بمثل هذا الكلام الذي هو نهاية إقدامهم وغاية مرامهم وهو نهاية عقولهم في دراية أصولهم
قال الرازي : قالت الفلاسفة : حاصل الكل اختيار أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم لم يكن حاصلا في الأزل لأنه جعل شرط الإيجاد أولا : الوقت الذي تعلقت الإرادة بإيجاده فيه وثانيا : الوقت الذي تعلق العلم به فيه وثالثا : الوقت المشتمل على الحكمة الخفية ورابعا : انقضاء الأزل وخامسا : الوقت الذي يمكن فيه وسادسا : ترجيح القادر وشيء منها لم يوجد في الأزل وقد أبطلنا هذا القسم
ثم قال عن الفلاسفة : والجواب المفصل عن الأول من وجهين :
أحدهما : أن إرادته لم تكن صالحة لتعلق إيجاده في سائر الاوقات كان موجبا بالذات ولزم قدم العالم وإن كانت صالحة فترجيح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجح وقع الممكن لا لمرجح وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل
والثاني : أن تعلق إرادته بإيجاده أن لم يكن مشروطا بوقت ما ملزم قدم المراد وإن كان مشروطا به كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل وإلا عاد الكلام في كيفية إحداثه وتسلسل
وعن الثاني من وجهين :
الأول : أن العلم تابع للمعلوم التابع للإراداة فامتنع كون الإرادة تابعة للعلم
الثاني : أن تعين المعلوم محال فيمتنع عقلا إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه وذلك يوجب كونه موجبا بالذات
وعن الثالث من وجهين :
أحدهما : أن حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع وأن كان لمحدث عاد الكلام فيه
وأيضا فتلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل الوقت لزم حدوثها قبله وإلا فإن وجب حدوثها في ذلك الوقت جاز في غير ذلك ولزم نفي الصانع وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة وتسلسل
الثاني : أنه مع العلم باشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة إن لم يمكنه الترك كان موجبا بالذات وإن أمكنه وتوقف الفعل على مرجح تسلسل وإلا وقع الممكن لا لمرجح
وعن الرابع من وجهين :
أحدهما : أن مسمى الأزل إن كان واجبا لذاته امتنع زواله وإلا استند إلى واجب لذاته ولزم المحذور
والثاني : أن الأزل نفي محض فامتنع كونه مانعا م الإيجاد
وعن الخامس : أن انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته محال
الثاني : أن الماهية لا يختلف قبولها للوجود أو لا قبولها لكونه شاملا للأوقات
وعن السادس من وجهين : الأول : أنه لما استويا بالنسبة إليه كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقيا وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك ولزم نفي الصانع
الثاني : أنه لما استويا بالنسبة إليه فترجح أحدهما إن لم يتوقف على نوع ترجيح منه كان وقوعه لا بإيقاعه بل من غير سبب ولزم نفي الصانع وإن توقف عاد التقسيم فيه : أنه هل كان حاصلا في الأزل أم لا ؟
وأما فصل الهارب والعطشان فإنا نعلم أنه ما لم يحصل لهما ميل إلى أحدهما لم يرجح
قلت : هذه الوجوه بعضها حق لا حيلة فيه وبعضها فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا ذكر جواب الناس عن تلك الشبهة
ثم قال الرازي : والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإن ينفي الحدوث أصلا
قال : فإن قلت : واجب الوجود علم الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على حدوث استعدادت القوابل بسبب الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
قلت : حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب : إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثه ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم

اعتراض الأرموي على الرازي
وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال :
والقائل أن يقول : إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم
قال : بل الجواب الباهر عنه : أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم

رد ابن تيمة على الأرموي
قلت : الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت
وأما اعتراض الأرموي فجوبه : أنه كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها ومعلولها لازم لعلته : امتنع أن يحدث عنها شيء فما حدث لا بد له من سبب تام وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له فيلزم جود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال
وأما قوله : إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه
فيقال له : هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العل التامة فلا بد له من حدوث سبب تام
وإذا قال القائل : الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه
قيل : الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثا عن العلة التامة لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل والحادث ليس بمقارن لها في الأزل
وإذا قيل : حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط
قيل : الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه
وإذا قالوا : حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد
قيل لهم : الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة لأن العلة التامة القديم تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل والحوادث المتسلسلة ليس معها في الأزل
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل سواء حدثت عنه بواسائط لازمة له أو بغير وسائط وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوسا أو غير ذلك وسواء قيل : إن الصادر الأول عنه : العنصر كما يقول بعضهم أو قيل : بل هو العقل كما هو قول آخرين فإن الوسائط اللازمة ل قديمة معه لا يحدث فيها شيء إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث
وقولهم : إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإرادتها المتعاقبة مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له أو بغير واسطة العقل أو القول بحدوثها عن العقل أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء ـ هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء فإذا كان المؤثر التام الأزلي سواء جعل ذلك شرطا في حدوث غيره أو لم يجعل ومتي امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الاستعدادات والشرائط مفتقرا إلى سبب تام فيلزم وجود علل ومعلومات لا تتناهى دفعة كما ذكره الرازي وهذا من جيد كلامه
وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر : فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها وهو منقوض بهذه المعارضة مع أنه جواب غاب بعضه موافق لقول أهل الملل وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية فإنه مبني على إثبات العقول والنفوس وأنها ليست أجساما وكونها قديمة أزلية لازمة لذات الله تعالى وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل بل هي أقوال باطلة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان في الأعيان
وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين ـ الكشهرستاني الرازي واللآمدي ـ زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات
وهذا قول باطل بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسما ولا قائما بجسم : مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي وغيره بل قال طوائف من أهل النظر : إن الموجود منحصر في هذين النوعين وإن ذلك معلوم بضرورة العقل وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
والمقصود هنا : أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبني على هذا الأصل
ومضمونه : أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته وهم يفسرون العقول بالملائكة فتكون الملائكة قديمة أ دخل فيه الخلق والإبداع هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي ؟ وهل الخلق هو المخلوق أو غير المخلوق ؟
وفيها قولان مشهوران للناس والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق هو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و مالك و أحمد وهو قول أكثر أهل الكلام مثل طوائف من المعتزلة والرمجئة والشيعة وهو قول الكرامية وغيرهم وهو مذهب الصوفية ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف ب الكلاباذي هو قول أكثر قمدماء الفلاسفة وطائفة من مأخريهم
وطائفة قالت : الخلق هو المخلوق وهو قول كثير من المعتزلة وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أصحاب الشافعي و أحمد و مالك وغيرهم
والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيتهما لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه ولأن كونه مؤثرا معلوم دون حقيقته ولأن المؤثرية نسبة بينهما فهي متأخرة ومغايرة
قال : وليس التأثير أمرا سلبيا لأنه نقيض قولنا : ليس بمؤثر فذلك الوجودي إن كان حادثا فتقر إلى مؤثر وكانت مؤثريته زائدة ولزم التسلسل وإن كان قديما ـ وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين ـ فلزم قدمها
أجاب الرازي : بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل
قلت : وهذا الجواب هو على قول من يقول : إن الخلق هو المخلوق وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلا
فقال الأرموي : ولقائل أن يقول : التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية
قال : والمنكر هو التسلسل في المؤثرات
قال : بل الجواب عنه : أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنه كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر
قلت : وقول الأرموي : لقائل أن يقول : التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعلقها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة عن الأثر فاقتضت مؤثرية أخري بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية :
يعترض عليه : بأن هذا يناقض قوله بعد هذا : بل الجواب عنه : أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإنه إن كان هذا القول صحيحا لم يلزم عن المؤثر وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط
ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال : تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وهذا إلزام صحيح
لكن يقال له ك كان من تمام هذا الإلزام أن تقول : المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزم لوجود الأثر فإن كونه مؤثرا بدون الأثر ممتنع وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية فإنه إذا خلق وجد المخلوق وإذا أثر في غيره حصل الأثر فالأثر يكون عقب التأثير وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر
وليس الأمر كذلك بل هي متقدمة على الأثر أو مقارنة له عند بعضهم ولم يقل أحد من العقلاء : إن المؤثرية متأخرة عن الأثر بل قال بعضهم : إن الأثر متأخر منفصل عنها وقال بعضهم : هو مقارن لها وقال بعضهم : هو متصل بها لا منفصل عنها ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال
ولكن على التقديرين : تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها فيلزم أن يكون لها مؤثرية وتكون المؤثرية الثانية عقب الؤثرية الأولى وهذا مستقيم لا محذور فيه فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثرا في الأثر المنفصل عنه وكونه مؤثرا في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر
وهذا على قول الجمهور الذين يقولون : الموجب يحصل عقب الموجب التام والأثر يحصل عقب المؤثر التام والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية والمعلول يحصل عقب كمال العلية
وأما من جعل الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة وهلم جرا وهذا تسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار فإن التسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه وإنما يفعل في حال وجوده فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير بل لا يكون إلا مع وجوده لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر فإن جعل تمام المؤثرية مقارنا للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار
وقد يقول القائل : هذا الذي أراده الرازي بقوله : إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين
والرازي قد يقول بهذا وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء
فيقول القائل : هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة حيث قال : والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإنه ينفي الحوادث أصلا
قال : فإن قلت : واجب الوجود عام الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
قلت : حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثة ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم
فيقال : هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية فإنه لا بد لها من مؤثر تام فإن كان قديما أمكن وجود الحادث عن القديم وبطل قولهم وإن كان حادثا فلا بد على قولهم أن يكون حادثا مع حدوث الأثر لا قبله لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه فعلى قولهم هذا : يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره والأثر معه مؤثره لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثا ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثا فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل وقد اتفق العقلاء على امتناعه
واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ
فإن ملخص قوله : إن اللازم حدوث المؤثر أو حدوث بعض شرائطه وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب
فيقال لهم : هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون : حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني والشرط موجود قبل المشروط
ولكن هذا يناقض قولهم : إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلومها معها في الزمان وأن المعلوم يجب أن يكون موجودا مع تمام العلة لا يتأخر عن ذلك فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه وكلما حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت عليه العلة حادثا معه لا قبله ثم ذلك الحادث أيضا يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله وهلم جرا فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت وهلم جرا
والتسلسل ممتنع في العلة وفي تمام العلة فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة وللعلة علة إلى غير غاية فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام ولتمام العلة تمام إلى غير غاية والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء معلوم فساده بضرورة العقل سواء قيل : إن المعلول يقارن العلة في الزمان أو قيل إنه يتعقب العلة
ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارنا للعلة التامة لا يتأخر عنها وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه وتمام علة ذلك التمام حادث معه وهلم جرا فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة وهذا مما يسلمون أنه ممتنع ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر
وإذ كان هذا لازما لقولهم لا محيد لهم عنه : لزم أن أحد أمرين : إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء والثاني باطل بالمشاهدة فتعين بطلان حجتهم
فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام فأعترض عليه بما لا يقدح فيه
ولكن مثاب الغلط والاشتباه هنا : أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر بمعني أنه يحدث شيء ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا وهذا عند من يقول : إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية فيقضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارنا للأثر لا يتقدم عليه فتبين به فساد حجتهم
وأما من قال : إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطا بحادث يحدث يكون الأثر عقبه ولا يكون الأثر مقارنا له
ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم ويوافق أصل السنة وأهل الحديث الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء
فإنه على قول هؤلاء يقال : فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة
وحينئذ فإذا قيل : هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه لا يتوقف فعله على شرط قيل : نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه وذلك الفعل أيضا مشروط بأثر حادث قبله
فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار وهي عندهم أصول العلم الإلهي إذا حققت غاية التحقيق : تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل وتبين أن خاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
قلت : المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية لم يلزم إلا التسلسل في الآثار
وقوله : إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول : إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة لا نفس المؤثر والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله والمبدع وإبداعه والمقتضي واقتضائه والموجب وإيجابه وهو كالفرق بين الضارب وضربه والعادل وعدله والمحسن وإحسانه وهو فرق ظاهر
لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر :
ليس بمستقيم فإن كون الشيء مؤثرا في غيره لا يكون متأخرا عن أثره بل إما أن يكون مقارنا له أو سابقا عليه وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع ولا يحتاج إلى هذا التقدير فإن كون التسلسل ها هنا واقعا في الآثار : أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس فضلا عن أن يدل عليه بهذا الدليل
والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم والأثر حادث
وهذا قول من يقبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل وإن كان المخلوق حادثا
وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد وأهل الكلام والصوفية وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق وهذا قول أكثر الطوائف لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث ومنهم من صرح بتجدد الأفعال ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك
فالذي ذكره البغي عن أهل السنة : إثبات صفة الخلق لله تعالى وأنه لم يزل خالقا وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة وهو قول جمهور أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهم وكذلك ذكره غير واحد من المالكية وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة ومن هؤلاء من صرح بمعني الحركة لا بلفظها
وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية
فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف وهو قوله : الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر دون المقدور فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير
ولكن هذا الجواب ضعيف فإن قوله : الصفة الإضافية العراضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى ا لتأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها وهذه دعوى كلية ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية
ونظير هذا قولهم : ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية فإنه ليس لكون الشيء مذكورا أو مخبرا عنه صفة ثبوتية بذلك فإن المعدوم يقال : إنه مذكور ومخبر عنه فإن هذه دعوى والمثال جزئي
والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب وقد يكون كمتعلق الإخبار
ثم يقال : الصفة العرضة للشيء بالنسبة إلى غيره : سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز إضافة محضة لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود الاثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والنبوة فأن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر وكذلك العلة التامة مع معلومها فإنه ليس بينهما برزخ زمان وإن كان المعلوم لا يكون إلا متعقبا للعلة في الزمان لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضع آخر
وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول فلا يتحقق إلا مع تحققهما وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث وقلتم : كونه قابلا للحدوث يجب أن يكون من لوازم ذاته وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل :
فهذا التناقض من جنس قولكم إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقلتم : إذا كان قابلا للحوادث في الأزل لزم إمكان وجود الحوادث في الأزل فأي فرق بين إمكان القبول وإمكان المقدور وإمكان المفعول ؟ وما تقدم الشيء على غيره وكونه مثل هذا قبل زمن هذا ولكن لا يلزم إذا لم يكن المتأخر مع المتقدم ألا يكون المقبول المقدور والأثر ممكنا مع وجود التأثير والقدرة والقبول حتى يقال : إنه خالق مع امتناع المخلوق وقادر مع امتناع المقدور وقابل مع امتناع المقبول
وأيضا فإن هذا الجواب بمنزلة جواب من يقول : إن الحوادث توجد بإرادة قديمة والمنازعون لهم ألزموهم بأن هذا ترجيح بلا مرجح كما تقدم
فهؤلاء يعترضون على جواب الأرموي وهؤلاء يعترضون عليه بأنه عند وجود الأثر الحادث : إما أن يتجدد تمام التأثير وإما أن لا يتجدد شيء لزم التسلسل كما تقدم وإن لم يتجدد لزم حدوث الحادث بدون سبب حادث وقد تقدم إبطاله بأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره
وكان الأرموي يمكنه أن يجيب ـ على أصله ـ بأن حدوث الأجسام موقوف على حدوث التصورات المتعاقبة في العقل أو النفس كما أجاب به عن الحجة الأولي

المقصود مما تقدم
قلت : المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء والداهية الدهاء وما يخفي على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة
ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه و سلم أو إلى موافقة طائفة أخري من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تبليغ للرسول بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسل ومخالفة لصريح العقل وهذا مما تبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهو المقصود في هذا المقام

مثال في الإجابة على الفلاسفة الرد على قولهم بقدم العالم الكلام على امتناع التسلسل
مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة أن يقال : حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين : إحداهما : أن الممكن لا بد له من مرجح تام وامتناع التسلسل ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه فإن التسلسل هنا : هو توقف جنس الحادث على الحادث وهذا متفق على امتناعه والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين
فيقال لكم : التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل وفي تمامها أما تسلسل في الشروط أو الآثار : ففيه قولان للمسلمين وأنتم قائلون بجوازاه
فنقول : إما أن يكون هذا التسلسل جائزا أو ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع تسلسل الحوادث ولزم أن يكون لها أول وبطل قولكم بحوادث لا أول لها وأمتنع كون حركات الأفلاك أزلية وهذا يبطل قولكم
ثم نقول : العالم لو كان أزليا فإما أن يكون لا يزال مشتملا على حوادث : سواء قيل إنها حادثة في جسم أو عقل أو يقال : بل كان في الأزل ليس فيه حادث كما يقال : إنه كان جسما ساكنا فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها فبطل هذا التقدير وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير وهذا يبطل حجتكم ويجوب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب
وإن قلتم : إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلا
فيقال لكم حينئذ : لم لا يجوز أن تكون الأفلاك أو كل ما يقدر موجودا في العالم أو كل ما يحدثه الله : موقوفا على حادث بعد حادث ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة ؟
فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل سواء كان تسلسل الحوادث جائزا أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزا بطلت الحجة وبطل المذهب المعروف عندكم وهو أن حركات الأفلاك أزلية فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزا فإذا كان تسلسلها ممتنعا لزم أن يكون لحركة الفلك أول وإن كان تسلسل الحوادث جائزا لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفا على حوادث قبله وهلم جرا
فإن قلتم : هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم
كان الجواب من وجوه : أحدها : أن هذا هو قولكم ليس هذا ممتنعا عندكم فإن الفلك قديم أزلي عندكم مع أنه جسم تقوم به الحوادث
الثاني : أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكنا بطلت حجتكم وإن كان ممتنعا بطل مذهبكم وحجتكم أيضا فإن قولكم : إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي
الثالث : أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين : إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به
الرابع أن يقال : قيام الحوادث بالقديم : إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب وإن كان جائزا بطلت هذه الحجة
الخامس : أن من قال أهل الكلام بأن : القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم فإن كان قولهم هذا صحيحا لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة وهو يستلزم بطلان حجتكم لأنه حينئذ يمكن صدور العالم م تكن أو ما زال يحدث شيء بعد شيء والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا باطل كما ذكرتموه في الحجة لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح والثاني : يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم وهو نقيض مذهبكم
فإذا قالوا : نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب لكون القديم لا تحله الحوادث ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات
قيل لهم : فحينئذ سهلت القضية فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال : القديم لا تحله الحوادث
ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب دون قيام الحوادث به فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جدا
وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئا واحدا وأن قولكم : إن العاشق والمعشوق والعشق والعاقل والمعقول والعقل : شيء واحد وإن العالم هو العلم والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين وتكلمنا على ما تسمونه تركيبا وأنه ـ بتقدير موافقتكم على أصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه وهكذا تجابون على حجة التأثير
وقولهم : إن كان التأثير قديما لزم قدم الأثر وأن كان محدثا فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء وبطل مذهبكم وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وقد يسمى تسلسلا ودوارا وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم
فإنه يقال لهم : إما أن يكون التأثير أمرا وجوديا وإما أن لا يكون وجوديا فإن لم يكن وجوديا بطلت الحجة وهو جواب الرازي وهو جواب من يقول : الخلق نفس المخلوق وإن كان وجوديا فإما أن يكون قائما بذات المؤثر أو بغيره فإن كان قائما بذاته لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود وهذا قول مثبتة الصفات
وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم وإن كان ممتنعا لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثر قديم ن فتبطل حجتكم
وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائما بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط وأن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا أمكن تسلسل التأثير فبطلت الحجة
وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكنا كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى وهذا باطل لم يقل له أحد وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه وهو المطلوب
ومما يجابون به عن حجة التأثير أن يقال أيضا : التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر وإن كان ممتنعا لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم أو كون التأثير عدميا وعلى التقديرين يبطل قولكم
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث وذلك الإحداث هو التأثير فإن كان عديما بطلت الحجة وإن كان موجودا فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل الحجة وإن كان التأثير محدثا ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث فتبطل الحجة أيضا وهو جواب لا مخلص لهم عنه به ينقطع شغبهم
وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز و جل للسماوات والأرض مبنيا على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة : فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين
بل يحب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون : إنه برهان قاطع ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع : إنه برهان قاطع وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان
والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه يمثل هذه الحجج الداحضة
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفي بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين
ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك ولكن نبهنا على ذلك

ملخص الرد على حجة التأثير
وملخص ذلك في حجة التأثير الذي يسمى الخلق والإبداع والتكوين والإيجاب والاقتضاء والعلية والمؤثرية ونحو ذلك ـ أن يقال : التأثير في الحوادث : إما أن يكون وجوديا أو عدميا وإذا كان وجوديا : فإما إن يكون قديما أو حادثا وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة
أما إن كان عدميا فظاهر لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر إذ العدم لا يستلزم شيئا موجودا ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وكثير من المعتزلة
وإن كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو محدثا فإن كان التأثير قديما فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلا بالتأثير والمكون متصلا بالتكوين وإما أن لا يقال بوجوب ذلك وإما أن يقال بوجوب المقارنة وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير
فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديما بل لا بد من تأثيرات حادثة ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير والقديم لا يكون مسبوقا بغيره
وإن قيل : إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحدا لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف المشاهدة
فإذا قيل بأن : التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثا ولزم حدوث كل ما سوى الله وإن كان كل حادث مسبوقا بحادث
وإن قيل : بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم كما هو قول كثير من أهل النظر وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى وهي صفة التخليق ويقول : إنها قديمة وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد والصوفية وأهل الكلام وغيرهم
وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح : جاز أن يحدث التأثير قائما بالمؤثر بقدرته أو بقدرته ومشيئته القديمة كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة
وإن قيل : لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثا وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث وإحداث هذا التأثير تأثير وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكنا وإذا كان ممكنا بطلت الحجة فظهر بطلانها على كل تقدير
وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع وهم يقولون بذلك والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث فإذا أجيبوا عنها بجواب مستقيم على كل قول كأن خيرا من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر وجمهور العقلاء يقولون : إنه معلوم الفساد بالضرورة
وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع وذكر فيها أن القول بكون التأثر أمرا وجوديا أمر معلوم بالضرورية ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية لئلا يلزم التسلسل
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول وتلقاه بعضهم عن بعض أمكن فساد دعواهم وتبين أنها ليست ضرورية وإن كن مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة التي تقولها الطائفة تبعا لكبيرها لم يمكن دفع مثل هذه فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر لم يمكن إقامة الحجة على مبطل وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل فكل من جحد القاضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم التي لم ينقلها بعضهم عن بعض كان سوفسطائيا
فإن ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي وذلك معلوم بالضرورة لم يقل له : بل هو عدمي لئلا يلزم التسلسل فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لمنظار المسلمين وغيرهم
والقول بجوازه هو قول طوائف : كطائفة من المعتزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون : للخلق إلى ما لا نهاية له لكن هؤلاء يثبتون تسلسلا في آن واحد وهو تسلسل في تمام التأثير وهو باطل وقول طوائف من أهل السنة والحديث كالذين يقولون : إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك والذين يقولون : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وغير هؤلاء
فإذا كان فيه قولان فإما أن يكون جائزا أو يكون العلم بامتناعه نظيرا خفيا
بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير الموضع
منها ما ذكرناه وهو أن يقال : التأثير سواء كان وجوديا أو عديما وسواء كان التسلسل ممكنا أو ممتنعا فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل
أو يقال : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه بتأثير حادث وإن لزم التسلسل وإن كان ممتنعا لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير وهو يبطل الحجة فالحجة باطلة على التقديرين وهذا جواب مختصر جامع
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر
فيقال له : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدماته بطل إن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه ن حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول : التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة
والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر
فيجاب على كل تقدير فيقال : التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزم : إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو بالقدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة
وأصل هذا الكلام : أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار : القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل
فإذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهم : إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به : الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو هو غالط في الإطلاق
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه و سلم بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالانتهاء عنه وأن يقول القائل : آمنت بالله ورسله
كما في الصحيحين [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ حتى يقول له : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ] وفي رواية : [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق من خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ] ورواية : [ ورسوله ] وفي رواية : [ لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا : هذا الله فمن خلق الله ؟ قال : فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ قال : فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال : قوموا قوموا صدق خليلي ]
وفي الصحيح أيضا [ عن أنس بن مالك عن رسول صلى الله عليه و سلم قال قال الله : إن أمتك لا يزالون يسألون : ما كذا ؟ وما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ ]
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان : تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين
فالأول ـ مثل أن يقال : لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا بالطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال : كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء
وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة
وجوابه أن يقال : أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين ؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني : فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين أو في جنس الحوادث : أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر وهلم جرا
وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تما تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه
وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقولنها أيضا : إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم
والناس لهم في أستلزام المؤثر أثره قولان :
فمن قال : إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول : المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول : أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب
والقول الثاني : أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الاستلزام قولين : أحدهما : أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء
والثاني : أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث
وإن قيل : إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بحض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم
فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس : تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

عمدة الفلاسفة في قدم العالم على مقدمتين
وحقيقة الأمر : أن هؤلاء الفلاسفة بنوا عمدتهم في قدم العالم على مقدمتين : إحداهما : أن الترجيح لا بد له من مرجح تام يجب به
والثانية أنه لو حدث الترجيح للزم التسلسل وهو باطل
وهم متناقضون قائلون بنقيض هاتين المقدمتين

جواز التسلسل
أما جواز التسلسل فإن أرادوا به التسلسل المتعاقب في الآثار شيئا بعد شيء فهم يقولون بجواز ذلك وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل ما سوى الله محدثا كائنا بعد أن لم يكن كالفلك وغيره وإن كان حدوثه مؤقوفا على سبب حادث قبله وحدوث ذلك السبب موقوف على سبب حادث قبله
وإن أرادوا التسلسل المقترن ـ وهو أنه لو حدث حادث للزم أن يحدث معه تأثيره ومع حدوث تمام تأثيره يحدث تأثير المؤثرـ فهذا باطل بصريح العقل وهم يوافقون على امتناعه
وإن عنوا بالتسلسل : أنه لو حدث ترجيح جنس الفعل للزم هذا التسلسل فهو صادق ولكن هذا يفيد أنه لا يحدث مرجح يوجب ترجيح الفعل بل لا يزال جنس الفعل موجودا فهذا يسلمه لهم أئمة المسلمين
لكن ليس في هذا ما يقتضي صحة قولهم بقدم شيء من العالم بل هذا يقتضي حدوث كل ما سوى الله فإنه إذا كان جنس الفعل لم يزل لزم أنه لا تزال المفعولات تحدث شيئا بعد شيء وكل مفعول محدث مسبوق بعدم نفسه ولكن هؤلاء ظنوا أن المفعول يجب أن يقارن الفاعل في الزمان ويكون معه من غير أن يتقدم الفاعل على مفعوله بزمان
وهذا غلط بين لمن تصوره وهو معلوم الفساد بالعقل عند عامة العقلاء ولهذا لم يكن في العقلاء من قال : إن السماوات والأرض قديمة أزلية إلا طائفة قليلة ولم يكن في العالم من قال : إنها مفعولة وهي قديمة إلا شرذمة من هذه الطائفة الذين خالفوا المعقول وصحيح المنقول
وقولهم بأن المؤثر التام الأزلي يستلزم أثره بهذا الاعتبار الذي زعموه أي : يكون معه لا يتقدم المؤثر على أثره بالزمان يوجب أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء وهذه هي طرق العلم
وإذن كان الممتنع إنما هو جواز التسلسل في أصل التأثير والتسلسل المقارن مطلقا
وأما التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء فهم مصرحون به : معترفون بجوازه
وقدم العالم ليس لازما مستلزما لجواز التسلسل وإنما خصوا به المعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وغيرهم الذين وافقوهم على نفي الأفعال القائمة به أو نفي الصفات والأفعال فقالوا لهم : أنتم قدرتم في الأزل ذاتا معطلة عن الفعل فيمتنع أن يحدث عنها شيء لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح
فالطريق الذي به ينقطع هؤلاء الفلاسفة أن يقال : إن كان التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء ممتنعا بطلت الحجة وإن كان جائزا أمكن أن يكون حدوث كل شيء من العالم مبينا على حوادث قبله إما معان حادثة شيئا بعد شيء في غير ذات الله تعالى وإما أمور قائمة بذات الله تعالى كما يقوله أهل الحديث وأهل الإثبات الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء وإما غير ذلك كما قاله الأرموي وغيره
وبالجملة : فالتقديرات في تسلسل الحوادث معددة ومهما قدر منها كان أسهل من القول بأن السماوات والأرض أزلية وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهؤلاء الفلاسفة إنما يبحثون بمجرد عقولهم فليس في العقل ما يوجب ترجيح قدم الأفلاك على سائر التقديرات ومن يقر بالسمع ـ كمن يقر بالشرائع منهم ـ فأي تقدير قدره كان أقرب إلى الشرع من قولهم بقدم الأفلاك

الترجيح بلا مرجح
وأما المقدمة الثانية - وهي الترجيح بلا مرجح - فإنهم ألزموا بها القائلين بالحدوث بدون سبب حادث وهي لهم ألزم فإن الحوادث المتجددة تقتضي تجدد أسباب حادثة فالحدوث أمر ضروري على كل تقدير والذات القديمة المستلزمة لموجبها : إن لم يتوقف حدوث الحوادث عنها على غيرها لزم مقارنة الحوادث لها في الأزل وهذا باطل بالضرورة والحس وإن توقف على غيرها فذلك الغير إن كان قديما أزليا كان معها فيلزم مقارنة الحوادث لها وإن كان حادثا فالقول في سبب حدوثه كالقول في غيره من الحوادث
فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين - نفاة الأفعال القائمة به - أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث مع كون الفاعل موصوفا بصفات الكمال وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا ذات موصوفة بصفات الكمال بل حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل إذ كانوا مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها فلا يبقى للحوادث فاعل أصلا لا هي ولا غيرها
فعلم أن قولهم أعظم تناقضا من قول المعتزلة ونحوهم وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم هو على حدوثه أدل منه على قدمه باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم
ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات وأن هؤلاء وأمثالهم من أهل النار كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ( الملك : 10 ) وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن نبين أن أجوبة نفاة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى لهؤلاء الدهرية أجوبة ضعيفة كما بين ذلك وبهذا استطالت الفلاسفة والملاحدة وغيرهم عليهم
فالذين سلكوا هذه المناظرة لا أعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا أعطوا الجهاد لأعداء الله تعالى حقه فلا كملوا الإيمان ولا الجهاد
وقد قال الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } ( الحجرات : 15 ) وقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } ( آل عمران : 81 ) [ قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق : لئن بعث الله محمد صلى الله عليه و سلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد صلى الله عليه و سلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ]
فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به : تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة الذين ذمهم السلف والأئمة لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع الذين هم أبعد عن السنة منهم بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد وأخذوا يقولون أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده - تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا - لأنها أصل السمعيات
وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول لا يناقضه ولا يعارضه وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة وينقطع الكفار فتحصل مطابقة العقل للسمع وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول واتباع صريح المعقول والتمييز بين البينات والشبهات

كل ما يحتج به النفاة يدل على نقيض قولهم
وقد كنت قديما ذكرت في بعض كلامي أني تدبرت عامة ما يحتج به النفاة من النصوص فوجدتها على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كأحتجاجهم على نفي الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] فبينت أن الإدراك هو الإحاطة لا الرؤية وأن هذه الآية تدل على إثبات الرؤية أعظم من دلالتها على نفيها
وكذلك إحتجاجهم على أن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة بقوله تعالى { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } [ الأنبياء : 2 ] بينت أن دلالة هذه الآية على نقيض قولهم أقوى فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث وبعضه ليس بمحدث وهو ضد قولهم
والحدوث في لغة العرب العامة ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل ال كلام فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا وما تقدم على غيره قديما وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى { كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] وقوله تعالى عن إخوة يوسف { تالله إنك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] وقوله تعالى { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } [ تلأحقاف : 11 ] وقوله تعالى عن إبراهيم { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون } [ الشعراء : 75 - 76 ] وكذلك استدلالهم بقوله : الأحد الصمد على نفي علوه على الخلق وأمثال ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم تبين لي بعد ذلك مع هذا أن المعقولات في هذا كالسمعيات وأن عامة ما يحتج به النفاة من المعقولات هي أيضا على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كما يستدلون به على نفي الصفات ونفي الأفعال وكما يستدل به الفلاسفة على قدم العالم ونحو ذلك والمقصود هنا التنبيه وإلا فالبسط له موضع آخر
وعمدة من نفى الأفعال والصفات من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم على هذه الحجة التي زعموا أنهم يقررون بها حدوث العالم وإثبات الصانع فجعلوا ما قامت به الصفات أو الأفعال محدثا حتى يستدلوا بذلك على أن العالم محدث ويلزم من ذلك أن لا يقوم بالصانع لا الصفات ولا الأفعال
وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعا تاما عقليا لا حيلة لهم فيه إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات وأما من نفى الأفعال أو نفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه ويبقى حائرا شاكا مرتابا مذبذبا بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة كما قال تعالى في المنافقين { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ]
وهذا موجود في كلام عامة هؤلاء الذين في كلامهم سنة وبدعة ولا ريب أنهم يردون على الفلاسفة وغيرهم أمورا ولكن الفلاسفة ترد عليهم أمورا وهم ينتصرون في غالب الأمر بالحجة العقلية على الفلاسفة أكثر مما تنتصر الفلاسفة بالحجة العقلية عليهم ولكن قد تقول الفلاسفة أمورا باطلة من جنس العقليات فيوافقونهم عليها فيستطيلون بها عليهم وقد تقول الفلاسفة أمورا صحيحة موافقة للشريعة فيردونها عليهم وهم لا يصيبون الصدق والعدل إلا إذا وافقوا الشريعة فإذا خالفوها كان غايتهم أن يقابلوا الفاسد بالفاسد الباطل بالباطل فتبقي الفلاسفة العقلاء في شك ويبقى العقلاء منهم في شك لا حصل لهؤلاء نور الهدى ولا لهؤلاء
وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح والباطل بالحق والبدعة بالسنة والضلال بالهدى والكذب بالصدق وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح
وقد رأيت من هذا عجائب فقل أن رأيت حجة عقلية هائل لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها إلا رأيت بعد ذلك من أئمة بلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه
وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف من العقليات ما يبين ذلك لا لأنا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا التي يدعي إخوانهم أنها قطعية مع مخالفتها للشريعة ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين استأنست بذلك واطمأنت به ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد
فإن عامة الطوائف ـ وإن ادعوا العقليات ـ فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق انحلت عقدة الإصرار على التقليد

إبطال الأبهري حجة الفلاسفة على قدم العالم
وقد رأيت الأثير الأبهري - وهو ممن يصفه هؤلاء المتأخرون بالحذق في الفلسفة والنظر ويقدمونه على الأرموي ويقولون : الأصبهاني صاحب القواعد هو وغيره تلامذته - رأيته قد أبطل حجة هؤلاء المتفلسفة على قدم العالم بما يقرر ما ذكرته من إبطالها وكان ما أجاب به عن حجتهم أولى بدين المسلمين كما ذكره الأرموي مع أنه ينتصر للفلاسفة أكثر من غيره
فقال في فصل ذكر فيه ما يصح من مذاهب الحكماء وما لا يصح :
قال : ( ثم قالوا : إن الواجب لذاته يجب أن يكون واجبا من جميع جهاته أي يجب أن تكون جميع صفاته لازمة لذاته إما أن تكون كافية فيما له من الصفات وجودية كانت أو عدمية أو لا تكون والثاني باطل وإلا لتوقف شيء من صفاته على غيره وذاته متوقفة على وجود تلك الصفة أو عدمها فذاته تتوقف على غيره وهو محال
قال : ( وهذا ضعيف لأنا نقول : لا نسلم أن ذاته تتوقف على وجود تلك الصفة أو عدمها بل ذاته تستلزم تلك الصفة أو عدمها ولا يلزم من ذلك ذاته إما على وجودها أو عدمها )
قال : ( ثم قالوا : إن الباري تعالى يستلزم جملة ما يتوقف عليه وجود العالم فيلزم من دوامه أزلية العالم وهو ممتنع لا محال أن يكون له إرادات حادثة كل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في في جانب النزول إلى أرادة تقتضي حدوث العالم فلزم حدوثه )
قلت : فهذا الجواب خير من الذي ذكره الأرموي وذكر أنه باهر و الأرموي نقله من المطالب العالية للرازي فإنه ذكره وقال : ( إنه هو الجواب الباهر ) ووافقه عليه القشيري المصري : فهذا أصح في الشرع والعقل
أما الشرع : فإن هذا فيه قول بحدوث كل ما سوى الله وذلك القول فيه إثبات عقول ونفوس أزليبة مع الله تعالى والفرق بين القولين معلوم عند أهل الملل والشرائع
وأما العقل : فإن قول الأرموي فيه إثبات أمور ممكنة يحدث فيها حوادث متعاقبة من غير أمر يتجدد من الواجب وهذا يقتض حدوث الحوادث بلا محدث فإن الواجب بنفسه إذا كان علة مستلزمة لمعلولها لم يجز تأخر شيء من معلوله عنه بخلاف ما ذكره الأبهري فإنه ليس فيه إلا أن الواجب مستلزم لآثاره شيئا بعد شيء وهذا متفق عليه بينهم فإنه ليس فيه إلا تسلسل الآثار و الأبهري و الأرموي وغيرهما يقولون بتسلسل الآثار بل قول أولئك يقتضي أن يكون الفلك هو رب ما دونه وهو المحدث للحوادث بأفعاله القائمة به المتعاقبة وقول الأبهري يقتضي أن يكون الله هو رب العالمين وهو محدث لكل شيء مما يقوم به من الأفعال المتعاقبة
ولا ريب أن قول أولئك فاسد في العقل كما هو فاسد في الشرع فإن الفلك إذا كان ممكنا فجميع صفاته وحركاته ممكنة ولا يترجح شيء من ذلك إلا بوجود المرجح التام فالمرجح التام إن كان موجودا في الأزل لزم وجود مقتضاه في الأزل
ثم ذلك المرجح إن كان في نفسه علة تامة لمعلوله بحيث لا يتجدد به ولا منه شيء امتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرا لا في الفلك ولا في غير الفلك لا دائم ولا منقطع وامتنع أن تكون حركة الفلك الدائمة صادرة عن هذا لا سيما مع اختلاف الحركات والمتحركات وأنه بسيط عندهم من كل وجه وهو في الأزل علة تامة فيمتنع أن تصدر عنه المختلفات والمتجددات كما أن جميع المتحركات الممكنات لا تدوم حركتها إلا بدوام السبب المحرك المنفصل عنها وهذا لأن حال الفاعل إذا كانت حين أحدث هذا المتأخر كحاله حين أحدث ذلك المتقدم امتنع تخصيص هذا الحال بالفصل دون هذه كما يقولون هم ذلك
وإن قالوا : ( إنما كان هذا لأن حركة الفلك لم يمكن وجودها كلها أو لم يمكن وجود الحوادث كلها في الأزل فتأخر فيضه لتأخر استعداد القوابل )
قيل : هذا إنما يمكن أن يقال إذا كان القابل ليس هو صادرا عن الفاعل مثل القوابل لأثر الشمس فإن أثر الشمس فيها مختلف باختلاف تلك القوابل فتسود وجه القصار وتبيض الثوب وترطب الفاكهة تارة وتجففها أخرى ولهذا إنما قال سلفهم هذا في العقل الفعال فقالوا إنه يتأخر فيضه على القوابل لتأخر استعداد القوابل بسب الحركات الفلكية فالموجب لاستعداد القوابل ليس هو الموجب للفيض عندهم
وهذا قالوه لاعتقادهم وجود هذا العقل وهذا لا يستقيم في المبدع لكل شيء الذي منه الإعداد ومنه الإمداد لا يتوقف فعله على غيره
فأما إذا كان الفاعل هو الفاعل للقابل والمقبول عاد السؤال جذعا وقيل : فلم جعل القوابيل تقبل على ذلك الوجه دون غيره ؟ ولم جعل الحركة الفلكية علي هذا الوجه دون غيره مع أن الممكن ليس له من نفسه شيء أصلا لا طبيعة ولا غيرها ؟ بل الموجب هو الفاعل لطبيعته وحقيقته وليس له حقيقة في الخارج مباينة للموجود في الخارج بل البارىء هو المبدع للحقائق كلها
ومن قال : ( إن للممكن ماهية مغايرة في الخارج للأعيان الموجودة في الخارج ) أو قال : ( إنه شيء ثابت في القدم ) فلا يمكنه أن يقول : إن تلك المعدومات أوجبت قدرة الفاعل على بعضها دون بعض مع أنها كلها ممكنة : إلا لأمر آخر مثل أن يقال : ما يمكن غير هذا وهذا هو الأصلح أو الأكمل والأفضل
وبهذا تظهر حجة الله تعالى في قوله : { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ( الرعد : 4 ) فإنه دل بهذا على تفضيله بعض المخلوقات على بعض مع استوائها فيما تساوت فيه من الأسباب
كما قال في الآية الأخرى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } ( فاطر : 27 - 28 )
فإذا قال القائل : إنما تفاضلت واختلفت لاختلاف القوابل وأسباب أخرى من الهواء والتراب والحب والنوى
قيل له : وتلك القوابل والأسباب هي أيضا من فعله ليست من فعل غيره فهو الذي أعد القوابل وهو الذي أمد كل شيء بحسب ما أعده له وحينئذ فقد تبين أنه خلق الأمور المختلفة ومن كل شيء زوجين فبطل أن يكون واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد لازم له لا يصدر عنه غيره ولا يمكنه فعل شيء سواه فإن فعل المختلفات الحادثات يدل على أنه فاعل بقدرته ومشيئته ولهذا قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ( فاطر : 28 )
قال طائفة من السلف : العلماء به فإن من جعله غير قادر على إحداث فعل ولا تغيير شيء من العالم بل لزمه ما لا يمكنه مفارقته : لم يخشه إنما يخشى الكواكب والأفلاك التي تفعل الآثار الأرضية عنده أو ما كان نحو ذلك ولهذا عبدها هؤلاء من دون الله ولهذا كان دعاؤهم لها وخشيتهم منها
ولهذا تبرأ الخليل من مخافتها لما ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وقال : { لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 76 ) قال تعالى : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } ( الأنعام : 80 - 81 ) وقال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ( الأنعام : 82 ) فإن المشركين يخافون بالمخلوقات من الكواكب وغيرها وهم قد أشركوا بالله ولا يخافون الله إذ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وإنما يخشاه من عباده العلماء الذين لا يعلمون أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم فهؤلاء الدهرية الفلاسفة وأمثالهم لا يخافون الله تعالى
فإن قال قائل : فهم يقرون بالعبادات ويقولون : ( ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات ) لا سيما الإسلاميون منهم فإنهم يعظمون الأدعية والعبادات
قيل : هم لا يقرون بأن الله نفسه يحدث شيئا بسبب الدعاء أو غيره وإنما الحوادث كلها عندهم بسبب حركة الفلك لا بشيء آخر أصلا وهم إذا قالوا : ( إن النفوس تقوى بالدعاء والعبادة والتجرد والتصفية فتؤثر في هيولى العالم ) كان هذا عندهم بمنزلة تأثير الأكل والشرب في الري والشبع لا يستلزم ذلك عندهم أمرا يحدث من عند الله تعالى فإنه لو حدث منه أمر لزم تغيره عندهم وبطل أصل قولهم
وهم قد يخافون ما يحدث من الحوادث بسبب أعمالهم لاقتضاء طبيعة الوجود ذلك كما يقولون : إن أكل المضرات يورث المرض أو الموت والسبب لكل الحوادث حركة الفلك وإن كانت الحوادث لا تحدث بمجرد الحركة بل بالحركة وغيرها : أما لكون الحركة توجب امتزاجا تستعد به الممتزجات لما يفيض عليها من العقل الفعال أو لغير ذلك فهم مطالبون بالموجب لحركة الفلك وحدوث جميع الحوادث : إن كان الموجب لها علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها امتنع أن تكون حركات الممكنات وما فيها من الحوادث صادرة عن هذه العلة لأن ذلك يقتضي تأخر كثير من معلولاتها مع ما فيها من الاختلاف العظيم المنافي لبساطتها التي يسمونها الوحدة
وقد بين في غير هذا الموضع أن الواحد البسيط الذي يقدرونه لا حقيقة له في الخارج أصلا
وإذا قيل : ( القوابل المفعولة الممكنة المبدعة اختلفت وتأخر استعدادها مع كون الفاعل لها لم يزل ولا يزال على حال واحدة ) كان امتناع هذا ظاهرا
بخلاف ما إذا قيل : ( أن نفس الفاعل موصوف بصفات متنوعة وأفعال متنوعة وله تعالى شؤون وأحوال كل يوم هو في شأن فإنه يكون تنوع المفعولات وحدوث الحادثات لتنوع أحوال الفاعل وأنه يحدث من أمره ما شاء )
وإذا طلب الفرق بينهما قيل : أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها ولا يحتاج إليه وإذا كان واجبا بنفسه فما كان من لوازمه كان أيضا واجبا لا يمكن عدمه بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود
فإنه إذا قيل : اختلف فعل الفاعل وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه
قيل : فهو أيضا الفاعل للقابل المختلف الحادث فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله ولا حدوث لشيء من أفعاله ؟

رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية
و الأبهري قد أبطل حجة المعتزلة والأشعرية ونحوهم على حدوث الأجسام وأراد أن يعتذر عن الفلاسفة فقال :
( فصل - في ذكر الطرائق التي سلكها الإمام - يعني أبا عبد الله الرازي - في كتبه لتقرير مذاهب المتكلمين وكيفية الاعتراض عليها
أما الطريقة التي سلكها لحدوث العالم فمن وجهين :
أحدهما : أن العالم ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو حادث لأن تأثير المؤثر فيه : إما أن يكون حال الوجود أوحال العدم أو لا حال الوجود ولا حال العدم والأول باطل لأن التأثير حال الوجود يكون إيجادا للموجود وتحصيلا للحاصل وهو محال والثاني محال لأن التأثير حال العدم يكون جمعا بين الوجود والعدم وهو محال فيلزم أن يكون : لا حال الوجود ولا حال العدم فيكون حال الحدوث فكل ما له مؤثر فهو حادث
الثاني : أن الأجسام لو كانت أزلية فإما أن تكون متحركة في الأزل أو ساكنة والقسمان باطلان
أما الأول فلوجوه :
أحدها : أنها لو كانت متحركة في الأزل للزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية في شيء واحد لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يتقضي عدم المسبوقية بالغير فيلزم الجمع ضرورة
الثاني : أنه لو كانت متحركة في الأزل لكانت بحال لا تخلو عن الحوادث وما يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا هذا خلف
الثالث : أنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وهو محال والموقوف على المحال محال
الرابع : أنها لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان : إحداهما من الحركة اليومية إلى غير النهاية والثانية من الحركة التي وقعت من الأمس إلى غير النهاية
فالجملة الثانية إن صدق عليها أنها لو أطبقت على الأولى انطبقت عليها كان الزائد مثل الناقص وإن لم تصدق كانت متناهية فالجملة الاولى أيضا متناهية وقد فرضت غير متناهية هذا خلف
وأما الثاني : فلأنها لو كانت ساكنة في الأزل امتنع عليها الحركة لأن المؤثر في السكون إما أن يكون أزليا أو حادثا لا جائز أن يكون حادثا وإلا لكان السكون حادثا وقد فرض أزليا هذه خلف فتعين أن يكون أزليا فيلزم من دوامه دوام السكون فتمتنع الحركة على الأجسام وأنها ممكنة عليها لأن الأجسام إما أن تكون بسيطة أو مركبة فإن كانت بسيطة فيصح على أحد جوانبها ما يصح على الآخر فيصح أن يصير يمينها يسارا ويسارها يمينا فيصح عليها الحركة وإن كانت مركبة كانت مجتمعة من البسائط فكانت بسائطها قابلة للاجتماع والافتراق وكانت قابلة للحركة هذا خلف )
قال الأبهري ( الاعتراض : قوله : بأن التأثير في الممكن إما أن يكون حالة الوجود أو حالة العدم أو لا حالة الوجود ولا حاله العدم
قلنا : لم لا يجوز أن يكون حال الوجود ؟
وقوله : التأثير حال الوجود إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل
قلنا : لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو أعطى الفاعل وجودا ثانيا وليس كذلك فإن التأثير عبارة عن كون الأثر موجودا بوجود المؤثر وجاز أن يكون الأثر موجودا دائما لوجود المؤثر والذي يدل على حصول التأثير حالة الوجود أنه لو لم يكن كذلك لكان التأثير حالة العدم لاستحالة الواسطة بين الوجود والعدم والثاني كاذب لأن التأثير حاله العدم يقتضي الجمع بين الوجود والعدم وهو محال )
قال : ( أما قوله : الأجسام لو كانت أزلية : فإما أن تكون متحركة أو ساكنة في الأزل
قلنا : لم لا يجوز أن تكون متحركة ؟
قوله : يلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في شيء واحد
قلنا : لا نسلم وهذا لأن المسبوق بالغير هو الحركة وغير المسبوق بالغير هو الجسم
فإن قال : ( إذا كانت الحركة أزلية كانت الحركة من حيث هي هي غير مسبوقة بالغير لكن الحركة من حيث هي هي مسبوقة بغير لأنها تغير وانتقال فتقتضي المسبوقية بالغير فيلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في الحركة
قلنا : إذا ادعيتم ذلك فنقول : لا نسلم أن الجسم لو كان أزليا لكانت الحركة من حيث هي هي حركة أزلية ولم لا يجوز أن يكون الجسم أزليا ويصدق عليه أنه متحرك دائما بأن تتعاقب عليه الحركات المعنية ولا يصدق على الحركات الموجودة في الأعيان أنها أزلية ضرورة اتصاف كل واحد منها بكونها مسبوقة بالغير ؟ )
قلت : هذا مضمونه ما نبه عليه في غير هذا الموضع : أن حدوث كل من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال
( وأما قوله : لو كانت الأجسام متحركة لكانت لا تخلو عن الحوادث
قلنا : نعم : ولكن لم قلتم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ؟
قوله : لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا
قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازما للجسم وليس كذلك بل هو قبل كل حركة حركة لا إلى أول إلى ما لا نهاية )
قلت : هذه من نمط الذي قبله فإن الأزلي هو نوع الحادث لا عين الحادث
قوله : لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له
قلنا : لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم : إن ذلك غير جائز ؟
قلت : مضمونة أنه يكون موقوفا على انقضاء ما لا ابتداء له ولا أول له وهو لا نهاية له من الطرف الأول لكن له نهاية من الطرف الآخر
قوله : لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان أحدهما : من الحركة اليومية والثانية : من الحركة التي وقعت في الأمس
قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود
قلت : هذا مضمونه أن التطبيق لا يكون إلا بين موجودين ولكن يقال التطبيق في الخارج لا يكون إلا بين موجودين ولكن يمكن تقدير التطبيق بين معدومين لا سيما إذا كانا قد دخلا جميعا في الوجود فالمطبق بينهما إما أن يكونا مقدرين في الأذهان لا يوجدان في الأعيان بحال كالأعداد المجردة عن المعدودات أو معدومين منتظرين كالمستقبلات أو معدومين ماضيين كالحوادث المتقدمة أو موجودين كالمقادير الموجودة والمعدودات الموجودة
ويجاب عن هذا بجواب ثان : وهو : أن الجملتين اللتين طبقت إحداهما على الأخرى مع التفاوت في أحد الطرفين وعدم التناهي في الآخر هما متفاضلتان في الطرف الواحد وتنطبق إحداهما على الآخرى في الطرف الآخر فلا يصدق ثبوت مطابقة إحداهما للأخرى مطلقا ولا نفي المطابقة مطلقا بل يصدق ثبوت الانطباق من أحد الطرفين وانتفاؤه من الآخر وحينئذ فلا يكون الزائد مثل الناقص : ولا يكونان متناهيين
وإذا قال القائل : نحن نطبق بينهما من الطرف الذي يلينا فإن استويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص وأن يكون وجود الزيادة كعدمها والشيء مع عدم غيره كهو مع وجوده وإن تفاضلا لزم أن يكون ما لا يتناهى بعضه متفاضلا
قيل : التطبيق بينهما من الجهة المتناهية مع تفاضلهما فيها ممتنع وفرض الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع فإن الحوادث الماضية من أمس إذا قدرت منطبقة على الحوادث الماضية في اليوم كان هذا التطبيق ممتنعا فإنه يمتنع أن يطابق هذا هذا فإن الجملتين متفاضلتان : ومع التفاضل يمتنع التطبيق المستلزم للمعادلة والاستواء
وإذا قال القائل : أنا أقدر المطابقة في الذهن وإن كانت ممتنعة في الخارج
قيل له : فقد قدرت في الذهن شيئين مع جعلك أحدهما أزيد من الآخر من الطرف الواحد ومساويا له من الطرف الآخر ومعلوم أنك إذا قدرت لم يكن تفاضلهما ممتنعا بل كان الواجب هو التفاضل ودليلك مبني على تقدير التطبيق فيلزم التفاضل فيما لا يتناهى وكل من المقدمتين باطل فإن قدرت تطبيقها صحيحا عدليا فهو باطل وإن قدرته وإن كان ممتنعا لم يكن التفاضل في ذاك ممتنعا فدعواك أن التفاضل ممتنع فيما قدرته متفاضلا ممنوع بل مع تقدير التفاضل يجب التفاضل لكن يجب التفاضل من جهة التفاضل ولا يلزم التفاضل من الجهة الأخرى
قال الأبهري : ( وإن سلمنا أنه لا يجوز أن تكون متحركة في الأزل ولكن لم لا يجوز أن تكون ساكنة ؟
قوله : بأن المؤثر في السكون إما أن يكون حادثا أو أزليا
قلنا : فلم قلتم بأنه لو كان أزليا للزم دوام السكون ؟ ولم لا يجوز أن يكون تأثيره فيه موقوفا على شرط عجمي أزلي ؟ والعدمي الأزلي جائز الزوال فإذا زال الشرط زال السكون )
قلت : لقائل أن يقول : العرض الأزلي إنما يزول بسبب حادث والقول فيه كالقول في غيره بل لا يزول إلا بسبب حادث فيحتاج إلى حدوث سبب يحدث ليزول السكون وهو يقول : المقتضي لزوال السكون كالمقتضي لحدوث العالم وهو الإرادة المسبوقة بإرادة لا إلا أول لكن هذا التقدير يصحح القول بحدوث العالم
فيقال : إن كان الجسم أزليا وأمكن حدوث الحركة فيه كان المقتضي لحركته مجوزا لحدوث العالم لكن هذا يبطل حجة الفلاسفة ولا يصحح حجية أن الجسم الأزلي يمتنع تحريكه فيما بعد
وأيضا فإنه ههنا بحثا آخر وهو أن السكون هل هو أمر ثبوتي مضاد للحركة أو هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك ؟ وفيه قولان معروفان فإذا كان عدميا لم يفتقر إلى سبب
( قال : وأما الطريقة التي يسلكها في كون الباري فاعلا بالاختيار فمن وجهين :
أحدهما : أنه لو كان موجبا بالذات وجب أن لا ينفك عنه العالم فيلزم إما قدم العالم وإما حدوث الباري تعالى
الثاني : أنه لو كان موجبا بالذات لما حصل تغير في العالم لأنه يلزم من دوامه دوام معلوله وإلا كان ترجيحا بلا مرجح ويلزم من دوام معلوله دوام معلول معلوله وهكذا إلى أن يلزم دوام جميع المعلولات )
قال الأبهري : ( الاعتراض : أما الوجه الأول فلا نسلم أن القدم منتف وأما الحجة التي ذكرها فقد مر ضعفها وأما الثاني فلا نسلم أنه لو كان موجبا بالذات للزم دوام معلولاته وإنما يلزم ذلك أن لو كان جميع معلولاته قابلة للدوام وهذا لأن من جملة معلولاته الحركة وهي غير قابلة للبقاء )
ولقائل أن يقول : اعتراض الأبهري هنا ضعيف
أما الأول فيقال : هب أن ما ذكره على انتفاء القدم ضعيف لكن لا يلزم من ضعف الدليل المعين انتفاء المدلول وأنت قد بينت ضعف دليل الفلاسفة على القدم وإذا كان القول بالموجب بالذات يستلزم قدم العالم ولا دليل لهم عليه كان قولهم أيضا لا دليل عليه
و الأبهري قد ذكر في غير هذه الموضع ما احتج به على حدوث العالم ببيان انتفاء لازم القدم ولكن إن كان قصده بيان فساد ما ذكره الرازي ف الرازي ذكر وجهين وهب أن الأول ضعيف لكن الثاني قوي وهو قوله : ( لو كان موجبا بالذات ما حصل تغير في العالم )
وتحرير ذلك أن يقال : الموجب بالذات يراد به العلة التامة التي تستلزم معلولها ولو كانت شاعرة به ويراد ما يفعل بغير إرادة ولا شعور وإن كان فعله متراخيا ومن المعلوم أنه لم يقصد إفساد القسم الثاني وإنما قصد إفساد القسم الأول
فيقال : إذا كان الموجب علة تامة تستلزم معلولها كان معلولها لازما لها ومعلول معلولها لازما فيمتنع تأخر شيء من لوزمها ولوازم لوازمها فلا يكون هناك شيء محدث فلا يحصل في العالم تغير
وأما قول المعترض : ( إنما يلزم أن لو كان جميع معلولاته قابلة للقدم والحركة لا تقبله )
فيقال : هذا الاعتراض باطل لوجوه : أحدها : أنه إذا جاز أن تكون العلة التامة التي تستلزم معلولها لها معلول لا يقبل البقاء وهو الحركة والحوادث تحدث بسببه جاز أن يكون ذلك المعلول حوادث يقوم بها وتكون كل الأمور المباينة موقوفة على تعاقب تلك الحوادث كما قد ذكره الأبهري نفسه في الإرادات المتعاقبة وقال : ( يجوز أن يكون للباري إرادات حادثة وكل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم فيلزم حدوثه وإذا كان هذا جائزا امتنع أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يسلتزم أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يستلزم موجباته بل يجوز مع هذا أن تتأخر عنه موجباته وعلى هذا فلا يكون العالم قديما وليس هذا هو الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي تكلم به الرازي وأراد به إفساد قول الفلاسفة الدهرية فإن الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي بينه وبينهم هو العلة التامة التي تستلزم معلولها
الوجه الثاني : أن يقال : إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله فالتغيرات التي في العالم تبطل كونه موجبا بهذا الاعتبار وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمرا لا يلزمه بل يحدث شيئا بعد شيء فحينئذ إذا وافقكم المنازعون على تسميته موجبا بالذات لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئا بعد شيء ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة فبطل قولكم
الوجه الثالث : ذلك المعلول الذي لا يقبل الدوام كحركة الفلك : هل للباري موجب له بذاته بوسط أو بغير وسط أو أيجابه له موقوف على حادث آخر ؟
فإن قيل بالأول لزم الحركات المتعاقبة وأن تكون قابلة للدوام وهو ممتنع
وإن قيل بالثاني قيل : فإيجابه لما تأخر من هذه الحركة : إما يكون موقوفا على شرط أو لا يكون فإن يكن موقوفا على شرط لزم تقدمه لتقدم الموجب الذي لا يقف تأثيره على شرط وهو ممتنع
وإن قيل : بل إيجابه للجزء الثاني مشروط بحدوث الجزء الأول وهلم جرا : كان معناه أن إيجابه لكل جزء مشروط بوجود جزء آخر وهو قبله : وهو علة تامة لشيء من تلك الأجزاء فيجب أن لا يحصل شيء منها لأن تلك الأجزاء متعاقبة أزلا وأبدا وما من وقت يفرض إلا وهو مشابه من الأوقات فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لشيء من الحوادث فيكون إحداثه لكل حادث مشروطا بحادث لم يحدثه والقول في ذلك الحادث الذي هو شرط كالقول في الحادث الذي هو مشروط فإذا لم يكن محدثا للأول فلا يكون محدثا للثاني فلا يكون محدثا لشيء من الحوادث على قولهم ( هو علة تامة ) وهو المطلوب
فإنه لو قال : ( لو كان موجبا بذاته لما حصل في العالم شيء من التغير ) وهذا يهدم قولهم فإنهم بين أمرين : إما أن يقولوا ليس بعلة تامة لمعولاته أو يقولوا : معلولاته مقارنة له فأما جمعهم بين كونه علة تامة في الأزل وبين كون المعلول يوجد شيئا فشيئا فجمع بين الضدين
فإن العلة التامة : هي التي تستلزم معولولها لا يتأخر عنها معلولها ولا يقف اقتضاؤها على غيرها وهم يقولون : إنه في كل وقت ليس علة تامة لما يحدثه فيه بل فعله مشروط بأمر متقدم وليس هو علة تامة لذلك الشرط المتقدم فلا يكون علة تامة لا للمتقدم من الحوادث ولا للمتأخر فلا بد للحوادث من مقتض آخر
وهذا لا يرد على من يقول : ( أحدث الحوادث بإرادات متعاقبة أو أفعال متعاقبة ) فإنه لا يقول : هو موجب بنفسه للممكنات ولا يقول : هو في الأزل علة تامة لها بل بقوله : ليس بعلة أصلا لشيء من مخلوقاته بل فعلها بمشيئته وقدرته إذ الفعل الثاني منه مشروط بالأول لأن الأفعال الحادثة لا تكون إلا متعاقبة وليس هو موجبا بذاته لشيء من تلك الأفعال ولا للمفعولات بها ولا يلزم من ذلك لا قدم شيء من الأفعال بعينه ولا قدم شيء من المفعولات بعينه : لا فلك ولا غيره والحوادث جميعها التي في العالم والتغيرات يحدثها شيئا بعد شيء بأفعاله الحادثة شيئا بعد شيء فكل يوم هو في شأن
بخلاف ما إذا قالوا : هو علة تامة مستلزمة لمعلولها وجعلوا من المعلولات ما لا يكون إلا شيئا فشيئا فإن هذا جميع بين المتنافيين يمنزلة من قال : معلوله مقارن له معلوله ليس مقارنا له
وإذا قالوا : هو موجب بنفسه للفلك وأجزاء العالم الأصلية وليس موجبا بنفسه للحوادث المتجددة بل أيجابه لها مشروط بما يكون قبلها من الحوادث
قيل : هذه حقيقة قولكم وحينئذ فلا يكون نفسه موجبا لشيء من الحوادث لا الأول ولا الثاني لا بوسط ولا بغير وسط وهو المطلوب فالقول بالموجب بالذات وحدوث المحدثات عنه بوسط وبغير وسط جمع بين النقيضين
ثم هذا القول يبطل قولكم بكونه موجبا للعالم بذاته لأنهم يقولون : إن العالم لا قيام له بدون الحركة وإنها صورته التي لو لا هي لبطل فإذا كان إيجابه للعالم بدون الحركة ممتنعا وإيجابه للحركة في الأزل ممتنعا : لم يكن موجبا لا للعالم ولا للحركة فإن المبدع المشروط بشرط يمتنع إبداعه بدون إبداع شرطه وإبداع شرطه ممتنع على أصلهم فإذن إبداعه ممتنع وهذا لأنهم جعلوا الباري ليس له فعل يقوم بذاته أصلا ولا يتجدد منه شيء ولا فيه شيء أصلا وعندهم أن ما كان كذلك لا يحدث عنه شيء أصلا
ثم قالوا : الحوادث كلها صادرة عنه لأن الحركة لم تزل ولا تزال صادرة عنه وكيف تصدر حركات لم تزل ولا تزال في أمور ممكنة عن شيء لا يحدث عنه ولا فيه شيء على أصلهم ؟
ومما يوضح هذا أن قدماء هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه كانوا يقولون : إن الأول محرك للعالم حركة الشوق كتحريك المحبوب لمحبه والإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي به وبهذا أثبتوه وجعلوه علة للعالم حيث قالوا : إن الفلك لا يقوم إلا بالحركة الإرادية والحركة الإرادية لا تتم إلا بالمراد المحبوب الذي يحرك المريد حركة اشتياق فالباري عندهم علة بهذا الاعتبار وهو بهذا الاعتبار لم يبدع الأفلاك ولا حركاتها لكن هو شرط في حصول حركتها
وعلى هذا القول فقد يقال : العالم قديم واجب بنفسه بل هم يصرحون بذلك والأول الذي هو المحبوب واجب قديم بنفسه كما يقول آخرون منهم : بل العالم واجب قديم بنفسه وليس هناك علة محبوبة محركة له بالشوق خارجة عن العالم
وإذا كان كذلك كانت الحركات حادثة في واجب بنفسه وإذ لزمهم كون الواجب بنفسه محلا للحوادث والحركات لم يكن معهم ما يبطلون به كون الأول كذلك وحينئذ فلا يكون لهم حجة على كونه موجبا بالذات وهم يعترفون بذلك وإنما نفوا عن الأول ذلك لكونه ليس جسما عند أرسطو وأتباعه ولا دليل لهم على ذلك إلا كون الجسم لا يمكن أن يكون فيه حركة غير متناهية بناء على أن الجسم متناه فيمتنع أن يتحرك حركة غير متناهية
هذه الحجة عمدتهم وهي مغلطية من أفسد الحجج فإنه فرق بين ما لا يتناهى في الزمان بل يحدث شيئا بعد شيء وبين ما لا يتناهى في المقدار والنزاع إنما هو في حركة الجسم دائما حركة لا تتناهى ليس هو كونه في نفسه ذا قدر لا تتناهى فأين هذا من هذا ؟ وهذا مبسوط في موضع آخر
ويقال لهم : حدوث الحوادث عن فاعل لا يحدث فيه شيء : إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن حدوث الحوادث جميعها عن الأول بدون حدوث شيء كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وغيرهم من المعتزلة والكلابية وغيرهم وإن كان ممتنعا بطل قولهم بحدوث الحوادث الدائمة عنه مع أنه لم يحدث فيه شيء وهذا أفسد
وإذا قالوا : أولئك خصصوا بعض الأوقات بالحدوث بدون سبب حادث من الفاعل
قيل : وأنتم جعلتم جميع الحوادث تحصل بدون سبب حادث من الفاعل
وإذا قلتم لهم : كيف يحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة ؟
قالوا لكم : فكيف تحدث الحوادث دائما بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة ؟ بل بدون وجود ذلك ؟ وأنتم تقولون : يحدث للفلك تصورات وإرادات وهي سبب الحركات المتعاقبة فما السبب الموجب لحدوث تلك الحوادث ولم يحدث شيء أصلا يوجب حدوثها ؟
ولو قال قائل : الإنسان دائما يتجدد له تصورات وإرادات وحركات بدون سبب حادث ولا يحدثها محدث أصلا ألم يكن ذلك ممتنعا ؟
فإن قيل : بإحداثه للأول استعان على إحداث الثاني
قيل : فما الموجب لإحداثه الأول وهو لم يزل في إحداث إذا قدر أزليا لم يكن هناك أول بل لم يزل في إحداث
فإن قيل تلك الحوادث التي للإنسان صدرت عن العقل الفعال بدون سبب حادث
قيل : فالعقل الفعال دائم الفيض عندهم فلم خص هذه التصورات والإرادت والحركات بوقت دون وقت ؟
قالوا : لعدم استعداد القوابل فإذا استعد الإنسان للفيض أفاض عليه واهب الصور
فإذا قيل لهم : فما الموجب لحدوث الاستعداد ؟
قالوا : ما يحدث من الحركات الفلكية والامتزاجات العنصرية فلا يجعلون العقل الفعال هو الموجب لما يحدث من الاستعداد بل يحيلون ذلك على تحركيات خارجة عنه وعن إفاضته
فإن قالوا مثل هذا في الأول لزم أن يكون المحدث لشروط الفيض غيره وشبهوه بالفعال في كونه لا يفيض عنه إلا بعض الأشياء دون بعض لكن الفعال تحدث عنه الأشياء شيئا بعد شيء عندهم أما الأول فلا يحدث عنه شيء بل معلوله لازم له فهو أنقص رتبة في الإحداث عندهم من الفعال
وإن قالوا : بل هو المحدث للشروط شيئا فشيئا
قيل : أنتم قلتم في الفعال : ( إنه دائم الفيض لا يخص من تلقاء نفسه وقتا دون وقت بفيض ) فالأول إذا خص وقتا دون وقت من تلقاء نفسه بشيء لم يكن فياضا بل كان الفياض أجود منه وإن كان التخصيص من غير تلقاء نفسه كان ذلك لمشارك له في الفعل كما في الفياض
فهم بين أمرين : إما أن يجعلوه عاجزا عن الانفراد بالإحداث كالفعال بل أدنى منه وإما أن يجعلوه بخيلا لا فياضا فيكون الفعال أجود منه
وأيضا فإذا قالوا : إنه علة تامة وموجب تام لمعلوله وموجبه وفاعل تام في الأزل لمفعوله فجعلوا ما سواه معلوله ومفعوله وموجبه وإن كان ذلك بوسط كان هذا ممتنعا في صرائح العقول فإن الموجب التام والعلة التامة والتكوين التام إما أن يقول القائل : يجوز تراخي المكون عنه كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وإما أن يقول : هو مستلزم به
فإن قيل بالأول أمكن تراخي المفعولات كلها وبطل قولهم بوجوب قدم شيء من العالم بل يمتنع قدم شيء من العالم لامتناع مقارنة الكون للمكون
وإن قيل بالثاني فلا يخلو : إما أن يقال : يجب اقتران مفعوله به في الزمان بحيث يكون معه لا يكون عقب تكوينه وإما أن يقال : بل كون الكائن إنما يكون عقب تكوين المكون
فإن قالوا بالأول كما يدعونه لزمهم أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف الحس والمشاهدة
وإن قالوا بالثاني لزم أن يكون كل معلول له مسبوقا بغيره زمانيا فلا يكون شيء من العالم قديما أزليا معه وهو المطلوب
وإذ كان أقتران المفعول بفاعله في الزمان ممتنعا على تقدير دعوى استلزامه له فاقترانه به على تقدير عدم وجوب الاستلزام أولى
فتبين أن يمتنع قدم شيء من العالم على كل تقدير وهذا بين لم تصوره تصورا تاما
ولكن وقع اللبس والضلال في هذا الباب من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام لما ادعوا ما يمتنع في صريح العقل عند هؤلاء - من كون المؤثر التام يتأخر عنه أثره والحوادث تحدث بسبب حادث - فر هؤلاء إلى أن جعلوا المؤثر يقترن به أثره ولا يحدث حادث إلا بسبب حادث ولم يحققوا واحدا من الأمرين بل كان قولهم اشد فسادا وتناقضا من قول أولئك المتكلمين
فإن كون المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان :
أحدهما : أن يكون الأثر المكون المفعول المصنوع مقرنا للمؤثر ولتأثيره في الزمن بحيث لا يتأخر عنه تأخرا زمانيا بوجه من الوجوه وهذا مما يعرف جمهور العقلاء بصريح العقل أنه باطل في كل شيء فليس معهم في العالم مؤثر تام يكون زمنه زمن أثره ويكون زمن حصول الأثر المفعول زمن حصول التأثير بل إنما يعقل التأثير أن يكون الأثر عقب المؤثر وإن كان متصلا به كأجزاء الزمان والحركة الحادثة شيئا بعد شيء وإن كان ذلك متصلا
أما كون الجزء الثاني من الزمان والحركة مقارنا للجزء الأول في الزمن فهذا مما يعلم فساده بصريح العقل وهذا معلوم في جميع المؤثرات الطبيعية والإرادية وما صار مؤثرا بالشرع وغير الشرع
فإذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ولعبده أنت حر فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق وإنما يقع عقب ذلك وإذا قال : إذا طلقت فلانة ففلانة طالق لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى لا مع تطليق الأولى في الزمان وهذا الذي عليه عامة العلماء قديما وحديثا ولكن شرذمة من المتأخرين الذين استزل هؤلاء عقولهم ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان وهذا غلط عند عامة العلماء وكذلك إذا قال : إذا مت فأنت حر فالمدبر يعتق عقب موت سيده لا مع موت سيده
وهكذا في الأمور الحسية إذا قال : ( كسرت الإناء فانكسر ) و ( قطعت الحبل فانقطع ) فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل : ( قطعته فلم ينقطع وكسرته فلم نكسر ) كما يقال : علمته فلم يتعلم ولفظ ( التعليم والقطع والكسر ) ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص ويراد به المقتضي الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط فهذا قد يتخلف عنه موجبه
ومن هذا الباب قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] وقوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الاهتداء وهو المطلوب في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب وهذا بخلاف قوله : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } ( فصلت : 17 ) فالمراد به البيان والإرشاد المقتضى للاهتداء وإن كان موقوفا على شروط وله موانع
وهكذا إذا قيل : هو موجب بذاته أو علة بذاتة ونحو ذلك : إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته في الوقت الذي شاء كونه فيه فهذا حق لا منافاة بين كونه موجبا وفاعلا بالاختيار على هذا التفسير
وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات أو موجب تام لمعلول مقارن له - وهذا قول هؤلاء - وكل من الأمرين باطل
فقد قامت الدلائل القينية على اتصافه بصفات الإثبات وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارنا للمؤثر وتأثيره في الزمان ولو كان فاعلا بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته ؟ فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديما أزليا لم يزل ولا يزال
فمن تصور هذه الأمور تصورا تاما علم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيئ قديم وهو المطلوب
فإن قال قائل : المنازعون لنا الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء أو لم يزل فاعلا إذا شاء أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئا بعد شيء ونحو ذلك وهم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئا بعد شيء فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء : إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة فلم كان قولنا ممتنعا وقولهم ممكنا ؟
قيل لهم : أنتم قلتم : إنه مؤثر تام أو علة تامة في الأزل فلزمكم أن لا يتأخروا عنه شيء من آثاره سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط
فإذا قلتم : صدر عنه عقل - مثلا - والعقل أوجب نفسا فلكية وفلكا أو ما قلتم
قيل لكم : المعلول الأول إن كان تاما من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء - فهو أزلي - كان معلوله العقل معه أزليا فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل فيلزم أن يكون معلوله معه أزليا وهكذا معلول المعلول هلم جرا
وإذا قلتم : الحركة لا تقبل البقاء
قيل لكم : فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل بل صار موجبا وحدوثه كونه موجبا يمتنع أن يتوقف على أثر غيره إذ ليس هناك موجب غيره ويمتنع أن يحدث تمام إيجابه منه لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل فذلك التمام : إن كان قديما لزم كون معلول المعلول قديما وهلم جرا وإن كان حادثا حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب
فأنتم بين أمرين أيهما قلتموه بطل قولكم : إن قلتم ( أنه علة تامة في الأزل ) لزم أن لا يتأخر عنه معلوله وإن قلتم ( ليس بعلة تامة ) لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب وأيهما كان بطل قولكم فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم وجاز حدوث كل ما سواه
وإذا قلتم : هو علة تامة للفلك دون حركاته
قيل لكم : هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئا بعد شيء فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل أم حدث تمام كونه علة لها شيئا بعد شيء ؟
فإن قلتم : هو علة تامة في الأزل لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل وإما تخلف المعلول عن علته التامة وكلاهما يبطل قولكم
وإن قلتم : حدث تمام كونه علة لحركة حركة منها
قيل لكم : فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وهذا أمر بين لمن تصوره تصورا تاما ليس لهم حيلة في دفعه
وأما الذين يقولون : ( إنه لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا بمشيئته وإنه يقوم به إرادة أو كلمات متعاقبة شيئا بعد شيء ) فهؤلاء لا يجعلونه في الأزل قط علة تامة ولا موجبا تاما ولا يقولون : إن فاعلية شيء من المفعولات يتم في الأزل بل عندهم كون الشيء مفعولا ومصنوعا مع كونه أزليا جمع بين النقيضين وإذا امتنع كون المفعول الذي هو أثر المكون أزليا امتنع كون تأثيره وتكوينه المستلزم له قديما أزليا فأمتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء من الأشياء ولكن ذاته تستلزم بما يقوم بها من الأفعال شيئا بعد شيء وكلما تم فاعلية مفعول وجد ذلك المفعول وجد ذلك المفعول كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فكلما كون الشيء كونه فحصل المكون عقب تكوينه وهكذا الأمر دائما فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن وتمام تكوينه وتخليقه لم يكن موجودا في الأزل بل إنما تم تخليقه وتكوينه بعدئذ وعند تمام التكوين والتخليق حصل المكون المخلوق عقب التكوين والتخليق لا مع ذلك في الزمان فأين هذا القول من قولكم ؟ !

دلالة السمع على أفعال الله تعالى
ونحن ننبه عى دلالة السمع على أفعال اله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية ويتبين به مطابقة العقل للشرع
ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة والدلالة العقلية القاطعة خالفتها فأصل الدلالة متفق عليه فنقول :
معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به كالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش والقبض والطي والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك بل والخلق والإحياء والإماتة فإن الله تعالى وصف نفسه بالإفعال اللازمة كالاستواء وبالأفعال المتعدية كالخلق والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم فإن الفعل لا بد له من فاعل سواء كان متعديا إلى مفعول أو لم يكن والفاعل لا بد له من فعل سواء كان فعله مقتصرا عليه أم متعديا إلى غيره والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله إذ كان لا بد له من الفاعل وهذا معلوم سمعا وعقلا
أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن بل وغيرها من اللغات متفقون على أن الإنسان إذا قال : ( قام فلان وقعد ) وقال : ( أكل فلان الطعام وشرب الشراب ) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة إذ كلتا الجملتين فعلية وكلاهما فيه فعل وفاعل والثانية امتازت بزيادة المفعول فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضا فعل وفاعل وزيادة مفعول به
ولو قال قائل : الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل كما في الجملة الأولى بل الفعل الذي هو ( أكل ) و ( شرب ) نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولا - لكان كلامه معلوم الفساد بل يقال : هذا الفعل تعلق بالفاعل أولا كتعلق ( قام وقعد ) ثم تعدى إلى المفعول ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان
فقوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الحديد : 4 ) تضمن فعلين : أولهما متعد إلى المفعول به والثاني مقتصر لا يتعدى فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى : { ثم استوى } - فعلا متعلقا بالفاعل فقوله ( خلق ) كذلك بلا نزاع بين أهل العربية
ولو قال قائل : ( خلق ) لم يتعلق بالفاعل بل نصب المفعول به ابتداء لكان جاهلا بل في ( خلق ) ضمير يعود إلى الفاعل كما في ( استوى )
وأما من جهة العقل : فمن جوز ان يقوم بذات الله تعالى فعل لازم به كالمجيء والاستواء ونحو ذلك لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان وأما العكس فما علمت به قائلا
وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعا لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه وهذه سبب الحدوث والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفا بأنه يتكلم بما يشاء فعال لما يشاء وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث ونقلوه عن السلف والأئمة وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة
وعلى هذا فيزول الإشكال ويكون إثبات خلق السماوات والأرض إنما يتم بما جاء به الشرع ولا يمكن القول بحدوث العالم على أصل نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل قد دل على نفيها ويقدمون هذا الذي هو عندهم دليل عقلي على ما جاء به الكتاب والسنة والعقل عند التحقيق يبطل هذا القول ويوافق الشرع فإنه إذا تبين أن القول بنفيها يمتنع معه القول بحدوث شيء من الحوادث : لا العالم ولا غيره والحوادث مشهودة كان العقل قد دل على صحة ما جاء به الشرع في ذلك والله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص فالخالق أحق به وكل نقص نزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب
وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي و أبو الحسن الأشهري وغيرهما وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر أحمد بهجره وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث : إنه رجع عن قوله
وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين ورجح قول ابن كلاب وذكر ذلك في قول الله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } [ التوبة : 105 ] وأمثال ذلك وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كـ حرب الكرماني و عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة ك أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و عبد الله بن الزبير الحميدي و سعيد ين منصور وقال عثمان بن سعيد وغيره : إن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم
وطائفة أخرى من السلفية ك نعيم بن حماد الخزاعي و البخاري صاحب الصحيح و أبي بكر بن خزيمة وغيرهم كـ أبي عمر بن عبد البر وأمثاله : يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء ويسمون ذلك فعلا ونحوه ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور
وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء ك أبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ومنهم من يوافق الأولين ك أبي عبد الله بن حامد وأمثاله ومنهم طائفة ثالثة - كالتميميين و ابن الزاغوني غيرهم - يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم
ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث ك البخاري و أبي زرعة و أبي حاتم و محمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته : من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة وكان له أصحاب ك أبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلاب فقام بعض المعتزلة وألقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء ولا يتعلق ذلك بمشيئته فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له وصار الناس حزبين فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه ومن وافق طريقة ابن كلاب معه حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين ف الحاكم أبو عبد الله و أبو عبد الرحمن السلمي و أبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه وكذلك يحيى بن عمار السجستاني و أبو عبد الله بن منده و أبو نصر السجزي و شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه وأما أبو ذر الهروي و أبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب
وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين وأهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة ( حلول الحوادث ) وكانت المعتزلة تقول : إن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي مباينته للخلق وعلوه على العرش وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبادات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب فإنهم إذا قالوا ( إن الله منزه عن الأعراض ) لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام ولا ريب أن الله منزه عن ذلك ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا
وكذلك إذا قالوا : ( إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات ) أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات وهذا المعنىصحيح ومقصودهم : أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله وأن محمدا لم يعرج به إليه ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه شيء ولا يتقرب إلى شيء ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية
وإذا قالوا : ( إنه ليس بجسم ) أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل أبدان الخلق وهذا المعنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه ولا يقوم به صفة ولا هو مباين للخلق وأمثال ذلك
وإذا قالوا : ( لا تحله الحوادث ) أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم وهذا معنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا بل عين المخلوقات هي الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك
و ابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات وكان ابن كلاب و الحارث المحاسبي و أبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون : إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة وثبت الاستواء على العرش ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش بخلاف أتباع صاحب الإرشاد فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون : إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له معاون
فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون : إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه
ومن هنا طمع فيهم المعتزلة وطمعت الفلاسفة في الطائفتين بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ماء جاء به الشرع مطلقا والقدح فيما يعارضه ولم يكونوا يقولون : ( إنه لا يرجح إلى السمع في الصفات ) ولا يقولون : ( الأدلة السمعية لا تفيد اليقين ) بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم ليس موقوفا على دليل الأعراض وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول : إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح لكن الاستدلال به بدعة ولا حاجة إليه فهؤلاء لا يقولون : إن دلالة السمع موقوفة عليه لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الأفعال وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل فكيف إذا خالفه ؟
وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات وتارة يقولون : إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية وتارة يطعنون في الأخبار
فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة : أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يقولون : إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع مما ليس هذا موضع بسطه وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة : المعقول والكلام وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد فهم من جنس الرافضة : لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية
ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية وكذلك نفي الصفات وأما هؤلاء فالمشهور عندهم أنه إذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة أنه تصديق للرسول وإثبات الصانع أيضا معلوم بالضرورة أو بمقدمات ضرورية فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية فهم خير من المعتزلة في أصول الدين من وجوه كثيرة وإن كان المعتزلة خيرا منهم من بعض الوجوه
و أبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها ك الإبانة و الموجز و المقالات وغيرها وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم لكن الأشعري وأئمة أصحابه أتبع لأصول الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من أحواله وممن اتبع ابن عقيل ك أبي الفرج ابن الجوزي في كثير من كتبه وكان القدماء من أصحاب أحمد ك أبي بكر عبد العزيز و أبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة ويذكرون ماذكره من تناقض المعتزلة وكان بين التميميين وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الأئتلاف والتواصل ما هو معروف وكان القاضي أبو بكر يكتب أحيانا في أجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب وعلى العقيدة التي صفنها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة و أبي عبد الله بن حامد وأمثالهم فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية
و الأشعري وأئمة أصحابه ك أبي الحسن الطبري و أبي عبد الله بن مجاهد الباهلي و القاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد وإبطال تأويلها وليس له في ذلك قولان أصلا ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم يذكر أن ذلك قوله ولكن لأتباعه في ذلك قولان
وأول من اشتهر عنه نفيها أبو المعالي الجويني فإنه نفى الصفات الخبرية وله في تأويلها ففي الإرشاد أولها ثم إنه في ( الرسالة النظامية ) رجع عن ذلك وحرم التأويل
وبين إجماع السلف على تحريم التأويل واستدل بإجماعهم على أن التأويل محرم ليس بواجب ولا جائز فصار من سلك طريقته ينفي الصفات الخبرية ولهم في التأويل قولان وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم مثبتون لها يردون على من ينفيها أو يقف فيها فضلا عمن يتأولها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18