كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

الوجه الثاني
أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأول بالتأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية وهي باطلة كما قد بين في موضعه بل معلومة الفساد بالضرورة كما بين بطلان تأويل كل من تأول ( استوى ) على غير ما يتضمن علوه على العرش مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك

الوجه الثالث
أن يقال : لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلا بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره أو ظانا في نفسه وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحا وجمهور من تجده يعارض بها أو يعتمد عليها إذا بينت له فسادها وما فيه من الاشتباه والالتباس قال : هذه قالها فلان وفلان وكانوا فضلاء فكيف خفي عليهم مثل هذا ؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وإجماع سلف الذين لا يجتمعون على ضلالة ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها إلى تقليد رجال يقولون : إن هذه القضايا عقلية برهانية وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم مثلهم وأكثر منهم وعامة من تجده من طلبة العلم المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي ودليل عقلي وقياس مستقيم وذوق صحيح ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم
قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } [ البقرة : 165 - 167 ]
وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان : 27 - 29 ]
وقال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } [ الأحزاب : 66 - 68 ]
وقال تعالى : { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر : 47 - 48 ]

الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما بل يمكن ذلك فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته لم يثبته السمع الصحيح وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح وإنما يظن تعارضهما من غلط مدلولهما أو مدلول أحدهما كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة
وكثيرا ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك كالأحول الذي يرى الواحد اثنين والممرور الذي يجد الحلو مرا وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدا ولا خطأ والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا بحسب إدراك شخص معين وما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق
كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم ما يبين لهم أن القرآن حق
وقال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [ سبأ : 6 ] فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق وأما من كان عنده ما يظنه علما - وهو جهل - فذلك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه وكان في قلبه مرض فزاده الله مرضا وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ومن الصم البكم العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى أو لم يكونوا يعقلون بحال
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } [ الأنعام : 39 ]
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها

الوجه الخامس
أن يقال : لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولا يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله : ( لأن العقل أصل للنقل فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما )
قلنا : لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولا ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه فتلك الأمور التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها ليست أصلا للسمع ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع فلا يجوز أن يرد شيئا منه فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع وإن قدر أنها عقليات صحيحة مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها فإنها مع كونها عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم
بل كل من كان عن الشرائع أبعد كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى وكلامهم في الإلهيات قليل وعلمهم بها ضعيف ومسائلها عندهم يسيرة وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات فضلا عن أن يعارض به ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله
فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه كل منهم يقول : إن ذلك معلوم بالعقل والقائلون ببقاء بعض الأعراض مع القائلين بفنائها والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها والقائلون بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها وأضعاف ذلك
بل العقليات الصحيحة : ما كان معقولا للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها وهذا القدر لا يزال موجودا في بني آدم وإن فسد رأي القوم لم يلزم فساد رأي آخرين
لكن إذا تنازع الناس وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته : إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل : إن كل ما يسمى معقولا يجوز قبوله فضلا عن أن يجب فضلا عن أن يعارض به معقول آخر فضلا عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولا رد لسائرها فإذا رد مما يسمى معقولا ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ومقدمات ذلك مستلزمه له لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه التابعين لهم بإحسان أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه والصدق ما أخبر به وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك ولو مناظرين به أحدا ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلا عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله
ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو وأن الله ليس مباينا للعالم ولا هو فوق السماوات ولا يمكن الإشارة إليه ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد إليه نفسه ولا نزل من عنده نفسه شيء : لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم كما حصلت على أنفس غيرهم ولا سيما مع كثرة الخلق وانتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها فضلا عن أن يتكلموا بنقيضها ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع لكانوا يسألونه ويقولون : ما دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة وبين الإخبار بهذه الأمور بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار فكيف نصنع ؟ هل لها تأويل يوافق ما به علما أنك صادق ؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه ؟
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول وفساد عظيم في القلوب إذا كان الرجل مأمورا أن يقرأ في الليل والنهار كلاما يقرأ به في صلاته وغير صلاته ويجزم بأنه صدق لا كذب وأن من كفر بحرف منه فهو كافر وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام بل هو باطل وضلال وكفر فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب ويمرض قلبه أعظم مرض ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره أبطل شاهد صدقه
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولا لهم غير ما به علموا صدقه لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه ؟
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم ويسأل بعضهم بعضا عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه و سلم مشركي مكة على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة وهم السابقون الأولون وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمنا مهاجرا ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتدا وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأن يكتبوا : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله وأمثال ذلك
والمقصود أن كثيرا من الصحابة اشتد عليهم ذلك وأجلهم عمر فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم : ( فقال : يا رسول الله ألسنا على حق وعدونا على باطل ؟ قال : بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ فقال بلى أقلت لك إنك تأتيه هذا العام ؟ قال : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به ) ثم ذهب عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه و سلم وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه و سلم من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه و سلم
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء
فهذا عمر وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ] أخرجاه في الصحيحين
وقال : [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ]
وقال : [ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ] رواه الترمذي
إلى غير ذلك من فضائله وقد اشتبه عليه معنى نص وليس ظاهره ينافي الواقع فإن الله تعالى قال : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } [ الفتح : 27 ]
وكان النبي صلى الله عليه و سلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبرا مطلقا من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال : والله لأفعلن كذا وكذا ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر أن ظاهره يقتضي التعجيل أورده على النبي صلى الله عليه و سلم ثم على صديقه وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه فالغلط منه لا لنقص في دلالة الخطاب
وأيضا ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه و سلم : [ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة : فقلت يا رسول الله أليس الله يقول في كتابه : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق : 8 ] فقلت : ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب ]
ومعلوم أن قوله : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق : 8 ] لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة ومع هذا فلما قال : من نوقش عذب فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت
وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال : [ والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة : فقلت يا رسول الله : أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] فقال : ألم تسمعيه قال : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 72 ] ]
وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار لم يكن قوله لهم : فلان لا يدخل النار منافيا لهذا العبور ولهذا قال لها : ألم تسمعيه قال : { ثم ننجي الذين اتقوا } فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار
ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار : أنه دخلها ووردها وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها : إنه لم يدخلها فإن قيل : فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه وقيل فلان : لم يدخله الله إياه كان كلا الخبرين صدقا لا منافاة بينهما
وقوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 71 - 72 ] بيان فيه نعمة الله على المتقين : أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال : نجاه الله منهم
ولهذا قال تعالى : { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [ الأنبياء : 76 ]
ومعلوم أن نوحا لم يغرق ثم خلص بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره
كما قال : { فأنجيناه وأصحاب السفينة } [ العنكبوت : 15 ]
وكذلك قوله عن لوط : { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } [ الأنبياء : 74 ]
ومعلوم أن لوطا لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار
وكذلك قوله : { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ } [ هود : 58 ] وقوله : { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } [ هود : 66 ]
وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم وكانوا معرضين له لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك
فلفظ ( النجاة من الشر ) يقتضي انعقاد سبب الشر لا نفس حصوله في المنجى
فقوله تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه وهذا هو الورود
فقوله صلى الله عليه و سلم : [ لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ] لا ينافي هذا الورود فإن مجرد الورود ليس بعذاب بل هو تعريض للعذاب وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب لم ينف التقريب من العذاب ولا انعقاد سببه ولا الدخول على سطح مكان العذاب
ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته سألته عن ذلك وذكرت ما يعارض خبره في فهمها ولم تسكت وقد كان يفعل الأمر فيسألونه : هل هو بوحي فيجب طاعته ؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه ؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر فيقبل منهم ويوافقهم كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته : أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : ( بل هو الرأي والحرب والكيدة ) فقال : ليس هذا بمنزل قتال
ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب : من قريش وحلفائها وأهل نجد وجموعهم وبني قريظة اليهود جيران المدينة وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة وفيها أنزل الله سورة الأحزاب فلما صالحهم على نصف ثمرها قال له سعد ما مضمونه : إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا وإن كان رأيا منك أردت به مصلحتنا فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرى أو قرى فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا ؟ أو كما قال : فبين له النبي صلى الله عليه و سلم : ( [ إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر فإذا كنتم ثابتين صابرين فلا حاجة إلى هذا ) ]
وفي الصحيح [ أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم ففعل ذلك ]
وكذلك في الصحيح [ أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة فلقيه عمر فرده وقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا فترك ذلك ) ]
بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة فيجيبهم ( فإن في الصحيح [ أنه نهاهم عن الوصال فقالوا : إنك تواصل فقال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني ) ]
ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة لو أوردها بعض طلبة الفقهاء أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه وإن كان بعض الناس ينازع في الأمر المطلق : هل يفيد الإيجاب أم لا ؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق : هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب ؟ فهذا نزاع في العلم بمراده لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به
والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة وأما فعله فقد يكون مختصا به باتفاق الأمة بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره على ما هو معروف فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل إذا لم يعلموا مراده بالقول كما تكلموا في [ نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول ] [ مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى ]
فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل ويوفق بين القول والفعل ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض ويظن بعضهم أن الفعل خاص له فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله : إنك تواصل كانت معارضته خطأ باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق وقال : [ إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ]
[ بل لما غير عادته يوم الفتح فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال : إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته ]
هذا وأمثاله كثير هذا من المؤمنين به المحبين له فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } [ الأنبياء : 98 ] فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا : قد عبد المسيح فآلهتنا خير أم هو ؟
فأنزل الله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } [ الزخرف : 57 ] : إي يضجون
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف : 58 - 59 ]
وأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } [ الأنبياء : 101 - 102 ] وقد ظن طائفة من الناس أن قوله { وما تعبدون } [ الأنبياء : 98 ] لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة فيتناول المسيح وغيره وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة مثل ( من ) و ( ما ) و ( الذي ) واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
قالوا : لأن اللفظ عام وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ]
وهذا خطأ ولو كان قول هؤلاء صحيحا لكانت معارضته المشركين صحيحة فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص فأورد على المتكلم كان إراده مستقيما
وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردودا بآرائهم كما رده المشركون بالمسيح فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار كلام صحيح أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله
فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة فمعارضة هؤلاء أبطل وهي باطلة قبل نزول القرآن وقبل رد الله عليهم وما نزل من القرآن كان مبينا لبطلانها الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل فإن الله إنما خاطب بقوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ] المشركين الذين يعبدون الأوثان لم يخاطب بذلك أهل الكتاب
بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقا وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين ففي السور المدنية
والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع كقوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ]
وقوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ]
وقوله لهم : { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ]

الوجه الخامس
بمنزلة قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [ الأنعام : 156 ]
وبمنزلة قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا } [ فاطر : 42 ]
وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب وهو متناول لأولئك المشركين لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين
فلما قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } [ الأنبياء : 98 - 99 ] دليل على انتفاء الإلهية فإن الإله لا يدخل النار والدليل لا ينعكس فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلها فمن ورد النار لم يكن إلها وليس كل من لا يردها إله
لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار أي إذا كانت آ لهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين وجب أن يكون كل معبود يدخل النار والمسيح معبود فيجب أن يدخلها فعارضوه بالقياس والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله لا يصلح أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان فإنها حجارة فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة وانتقاما ممن عبدها كان ذلك مصلحة ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب
ولهذا قال تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا } [ الزخرف : 57 ] أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوها به فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة فيقولون : لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستويا على عرشه للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستويا على العرش ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه
فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله بل بينهما فرق والفرق بين الله وبين مخلوقاته أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان فإن كلاهما مخلوق لله تعالى
وأما قياس الخالق بالمخلوق وقول القائل : لو كان متصفا بالصفات والأفعال القائمة به لكان مماثلا للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوما وهذا كان معدوما وهذا محدث ممكن وهذا محدث ممكن وهذا مفتقر إلى غيره وهذا مفتقر إلى غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا يمكن إفساده واستحالته وهذا يمكن إفساده واستحالته وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها لم يصح قياس أحدهما بالآخر ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك وهذا كله خطأ فاحش وبعضه أفحش من بعض فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فأما ما ليس من لوازمه فلا يجب اشتراكهما فيه
فكون المعبود من حصب جهنم ليس من لوازم كونه معبودا بل من لوازم كونه معبودا يصلح دخوله النار والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق ليس من لوازمها الإمكان والحدوث والآفات والنقائص فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجبا بنفسه والحدوث من لوازم المعدوم وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات بل قد تكون منافية للآفات والنقائص والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه بل هو مناقض للوازمه فكيف يجعل المنافي كالملازم ؟
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضا لقوله وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض : لا معقولا ولا منقولا فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به ؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده كان معارضته بذلك أولى الأشياء
وكذلك أيضا لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم وزعموا أن العقل ينافي ذلك وأنزل الله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } [ الإسراء : 60 ]
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : [ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به ]
قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } [ الإسراء : 1 ]
وقال : { أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى } [ النجم : 12 - 16 ]
وقال تعالى : { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم } [ التكوير : 22 - 25 ]
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها واستبعدوا ذلك بعقولهم مع أن ذلك ليس ممتنعا في العقل فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل
وكذلك أيضا أنكروا أن يبعث الله بشرا رسولا وجعلوا ذلك منكرا ممتنعا في عقولهم
كما قال تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } [ الإسراء : 24 ]
وقال : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس : 2 ]
وقال تعالى : { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } [ الفرقان : 41 ]
وقال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 9 ]
وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ]
وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار كقول قوم فرعون : { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين } [ المؤمنون : 47 - 48 ]
وقول قوم نوح : { ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ]
وقالت أصناف الأمم لرسلهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } [ إبراهيم : 10 ]
حتى قالت الرسل : { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] وأمثال هذا
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر ودفعوا ذلك بعقولهم
وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل
ولهذا قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } [ يوسف : 109 ]
وقال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ]
وقال : { قل ما كنت بدعا من الرسل } [ الأحقاف : 9 ] وأمثال ذلك
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن
كقوله تعالى : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [ يس : 78 - 81 ]
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعا في قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ } [ ق : 1 - 4 ]
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ]
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بها في المجامع العظام فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح وكل ذلك ثابت في الصحيح
قال تعالى : { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } [ الإسراء : 49 - 52 ]
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل كقولهم عن رسولهم : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين } [ المؤمنون : 35 - 38 ]
وقال تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } [ الجاثية : 24 ]
وأمثال هذا في القرآن كثير
وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له كقولهم : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور } [ الفرقان : 7 - 8 ]
قال تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } [ الفرقان : 9 ]
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } [ الزخرف : 52 - 53 ]
وقالوا لشعيب : { إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ]
والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يعارضه من المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه ولم تكن إلا من جهل المعارض ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله من أسمائه وصفاته ونحو ذلك ما يخالف ظاهره صريح المعقول لكان هذا أحق بالمعارضة وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد : لا معارضة دافع طاعن ولا معارضة مستشكل مسترشد فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته وأنه رسول الله إليهم ؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين
أما الكفار فيقولون له : نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أمورا تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به فالمصدق لك يكون متناقضا متلاعبا لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائما بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى أو يصيب تارة ويخطئ أخرى
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عام الفاسق الذي كان يقال له أبو عامر الراهب الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار
وأيضا فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة ويخاطبون بذلك من أسلم كما قالوا للمغيرة بن شعبة : أنتم تقرأون في كتابكم : { يا أخت هارون } [ مريم : 28 ] وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى وهذا من فرط جهلهم فإن عاقلا لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون ولا هو المسيح ابن أخت موسى وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه فكيف بمن هو أعظم الناس عقلا وعلما ومعرفة غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقا لخبره مطيعا لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له وظهر به من العلم والبيان والهدى والإيمان ما قد ملأ الآفاق وأشرق به الوجود غاية الإشراق
فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران ولا يتكلم بمثل ذلك ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون فكان يقال لها : يا أخت موسى لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران وذانك موسى وهارون ابنا عمران فكان لفظ عمران فيه اشترك والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم ؟ إن هارون هذا كان رجلا في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي ]
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفا لصريح العقل بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله ؟ وهلا كان أهل الكتاب يقولون له : ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء ؟
واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه حصل لهم أمور جليلة :
بطلان قول من يقول : العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله
بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضا لأخباره
بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له
وذلك من وجوه :
أحدها : أن إيمان المؤمنين به العالمين بصدقه حصل بدون هذه القضايا
الثاني : أن أحدا منهم لم يورد هذه المعارضة ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء
الثالث : أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا
الرابع : أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا
الخامس : أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا
السادس : أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها ولا بتفويضها وقولهم : لا نعلم معناها
السابع : أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك
الثامن : أن التابعين لم يوردوا على الصحابة ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض ولا سئل بعضهم بعضا : كيف نصنع ؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة وتناول النصوص ؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها ونقول : لا ندري ما معناها ؟
فإن قيل : فهذا الذي ذكرته ظاهرا لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت وكيف ظهر الإسلام ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء ؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع ؟
قيل : المقصود هنا فساد قول من يقول : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقا أو الحركات وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره بل نفي صفاته وأن يكون القرآن مخلوقا وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم
فمن قال : إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا قال الأشعري وغيره : إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء بل محرمة غير مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيرا من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام
وأما عقول الكفار فلا ريب وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيرا من عقولهم لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار ؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان
يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه مقرة بالقدر وكانت عقولهم من هذا الوجه خيرا من عقل من جعل كثيرا من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده وكانت العرب أيضا تقر بان الله فاعل مختار ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكانت عقولهم خيرا من عقول الدهرية والفلاسفة الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له كما يقول الدهرية والإلهيون
ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته فعقله أفسد من عقل هؤلاء والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله ولكن لم يكن هذا القول ظاهرا فيهم بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته
وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة الأمم المنكرين للصانع وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلا فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة كالذي حاج إبراهيم في ربه
ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين والعرب وإن كانوا مشركين لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له كما في تضاعيف كل أمة حتى في المصلين من هو من هؤلاء إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم
وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود
وأما من قال : إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث من غير أن يقول : إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق : طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها كما يقول الأشعري نفسه وكثير من أصحابه والرازي وأمثاله وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي وأبي حاتم البستي والخطابي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون : إنه يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام
لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا : إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها
ثم منهم من يقول : إنها لا تعارض النصوص بل يمكن الجمع بينهما

الوجه الخامس
وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة : يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام
وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي و أبي سليمان الخطابي والتميميين : كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته وأبي علي بن أبي موسى و القاضي أبي يعلى و أبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية
ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه
فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث سواء قالوا : إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي وجمهور المسلمين على أن تصديق الرسول ليس موقوفا عليها
وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين معلوم بالاضطرار من العادة وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه لم يكن علمهم موقوفا على هذه القضايا
ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال : أهل العقول الذين سمعوا القرآن والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة لم يكن منهم من طعن فيه أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتا في عقول بني آدم لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك : لا على وجه الطعن ولا على وجه الاستشكال مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفيا وإثباتا
فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقا صحيحة تعلم بالعقل لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها فإنه مع كمال القدرة والداعي يجب وجود المقدور فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلا ودينا
فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية والرافضة الغالية وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها
فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيبا بالحق وتصديقا بالباطل من القرامطة الباطنية والحلولية والاتحادية وأمثالهم
ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب ففيها داع إلى الإظهار والبيان فكذلك ها هنا كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو حس لم تتفق على الكذب ولا الخطأ فكذلك أيضا العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر وهم طوائف متباينة فما يمكن أحدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات أو بعض الصفات لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين
ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقرا في صريح المعقول فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به وإذا تكلم به فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن ينقل إلا ترى أنه لما تكلم به واحد وهو الجعد بن درهم نقل الناس ذلك ؟ ثم الجهم بعده كذلك ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد فإن هذا لا يمكن نفيه ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء لم يناج به بعض الناس فإن هذا لا يمكن نفيه بل قلنا : إنه لم يظهر وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه : إن كان حقا يوجب أنه ليس حقا فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا أعظم المطالب
ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له فإذا كان الحق هو قول النفاة وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق وإذا تفطن له مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز كانوا يظهرونه ويبينونه وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقا
وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره لو كان حقا لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته ولما فيه من معرفة الحق
واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا فإنه يقال في بني إسرائيل فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيها وتجسيما ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل لكان ذلك من أعظم ما كان ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون ودس عليه قارون بغيا لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له
وقد قال تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ]
وقال : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } [ المائدة : 20 ]
وقال : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } [ الجاثية : 16 ]
وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس وهم أئمة الفلاسفة والصابئين والمشركين من جميع الأصناف وقد ذكروا أن أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضا لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها ؟
بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة خاضعين له فهل يكون كتابا مملوءا مما ظاهره كذب وفرية على الله ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته ؟
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشأ خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيه لحنة أو يغلط في المعنى غلطة فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه - فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء : دق ولا جل ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها وهم الرسل الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين
ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده [ كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه و سلم لما أخبره بما جاءه فقال : ( إن قومك سيخرجوك قال : أو مخرجيهم ؟ قال : نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا ) ]
ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كذابا مفتريا على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به
وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه
فإن قيل : أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا
قلنا : نعم وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة وركبوا منهم قولا ثالثا شرا منهما ونحن لم نقل : إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد وعارضوهم بعقولهم ولم يعارضوهم معارضة صحيحة بل كان ما عارضوا به فاسدا في العقل
فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالا من أولئك المعارضين فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب وشر من اليهود والنصارى فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق
ولكن قلنا : إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفا لصريح العقل امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان وتفرق الأمة فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل ؟
فقلنا : عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقا - دليل على أنها باطل كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجودا - دليل على انه كذب بخلاف وجود الطعن والمعارضة فانه ليس دليلا على صحة ما عارض به وطعن كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلا على صحة ما نقل
فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلا وأعظمهم جهلا وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما
ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كان أكمل عقلا وسمعا وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كما أنقص عقلا وسمعا
ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضا وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها من الأدلة العقلية والسمعية لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية إذ كانت أدلة الحق شهودا صادقين وحكما لا يثبت عندهم إلا الحق المبين
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد لا تناقض ولا تعارض وإن قدر أن أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه
وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم
والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل
قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [ الأنعام : 112 - 115 ] فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول بل يوافقها وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان لمدلول القرآن قول باطل فلا تعجب من كثرة أدلة الحق وخفاء ذلك على كثيرين فإن دلائل الحق كثيرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول في مثل هذه الأصول : كادها باريها واتل قوله تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأحقاف : 26 ]
ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال : من المعلوم أن موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلا باتفاق من آمن بهم ومن كفر فإن الكافر بهم يقول : كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد والأسباب التي تطلب بها المرادات فسعوا فيما يصدقهم به الناس ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء
وأما المؤمن بهم فيقول : إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين بما لم يشركهم أحد من العالمين
وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه و سلم بعقل أهل الأرض لرجح
وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه ومعصيته والقدح فيما جاء به ومعارضته فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضا لصريح العقل وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده بما أجمع الناس على فساده وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل وأظهروه ولم يبينوه ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب ويرتاب المصدق ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب وحزبوا عليه الأحزاب وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه ومنع الناس من استماعه ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلا
وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة بل أكمل الناس عقلا ومعرفة تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه لم يكن عنهم مناقضا لصريح المعقول ولا منافيا لحق مقبول بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول
ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } [ آل عمران : 181 ]
وقوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } [ المائدة : 64 - 65 ] وقوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ]
ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان وكمال القدرة والرحمة
والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال فإن الفاعل إذا كان عاجزا لم يفعل وإذا كان قادرا ولم يرد فعل الخير لم يفعله فإذا كان قادرا مريدا له فعل الخير ثم إن كان محتاجا إلى غيره كان معاوضا لا محسنا متفضلا وكان فيه نقص من وجه آخر فإذا كان مع هذا غني عن الغير لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة وهذا غاية الكمال
وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك فقال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه } [ النساء : 171 ]
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } [ المائدة : 17 ]
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } [ المائدة : 73 - 74 ]
ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة : 30 ]
ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول : إن عزير ابن الله وإنما قالت طائفة منهم كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن عازورا أو هو وغيره
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل ولكن الخبر عن الجنس كما قال : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيها وتجسيما بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور
فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه و سلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة ؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقا مطابقا لما ذكر في التوراة وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة
وموسى لم يواطئ محمدا ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب فدل ذلك على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين
وقلنا : إن هذا لو كان مخالفا لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلا من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب ويقولان : إن إقرار محمد صلى الله عليه و سلم لأهل الكتاب على ذلك من غير أن يبين كذبهم فيه دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة فإن هذا في التوراة كثير جدا وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم بما يقدح فيه وتبين فساد أقواله ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذبا يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئا منها كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة مع علمهم بأنه يقدح في موسى كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح
وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه فضلا عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم وانهتك سترهم
وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمنا للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة وأمثالهم من جهال الطوائف الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقا وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي فصدقوا ذلك الناقل لا لثبوت صدقه عندهم لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة : إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور
فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح
فإن قيل : إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها أو كان غرضه إضلالهم كما أن كثيرا من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه و سلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام وبعض المتفقهة والمتزهدة مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب وقالوا : نحن كذبنا له ما كذبنا عليه ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك وغير ذلك لظنهم أن موجب ذلك حق أو لغرض آخر
وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور كذبه وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس كما يقولون : إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول : أن أهل الحديث يروون مثل هذا ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وحديث رؤيته لربه في الطواف أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عيانا فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة بأحاديث لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقا وأنهم إذا وضعوه قووا الحق كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة : أبي بكر وعمر وعثمان لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب فإنه لا يكاد يحصى مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل ومثل ما وضعوه في مثالبهم لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله
والمقصود أن المعترض يقول : يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في التوراة من الصفات على موسى كانوا يعتقدونها فكذبوها أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم
قيل : هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود مع معرفتهم واختلافهم فلا بد إذا كان معلوما فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله ويقول : إن مثل هذا يقدح في موسى فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية : إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الفاتحة : 6 - 7 ]
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب وكان فعل النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب ولكان النبي صلى الله عليه و سلم ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة
فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم
ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد فلو كان هذا وتجسيما وتجسيدا يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه ولا التابعون بحرف من ذلك بل كان ما نطق به موافقا مصدقا لذلك وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها
كما في الصحيحين عن [ عبد الله بن مسعود أن يهوديا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرا قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الزمر : 67 ] ]
وأخبر هو صلى الله عليه و سلم بما يوافق ذلك غيره مرة كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال : يقول الله : أنا الجبار أنا المتكبر أنا المتعال ينجد نفسه قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يرددها حتى رجف به المنبر حتى ظننا انه سيخر به ]
فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال : أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول فاعلم بطلان قول القائل : إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله حيث تبين أن ذلك ليس قدحا في أصله
وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع بل ما جعله معاضدا له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل : إن الحارث رجع عن ذلك وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا
وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه ومنهم من اشتبه عليه ذلك كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك
والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة فضلا عن أن يقال : إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد
وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع وقصد بعض الناس إدخال الأشعري فيهم وقد ذكر الرسالة أبو قاسم بن عساكر في تبين كذب المفتري

رسالة البيهقي في فضائل الأشعري
قال البيهقي في أثناء الرسالة : ( فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه )
ثم ذكر من فضائل أبي موسى الأشعريين وذرية أبي موسى أمورا معروفة إلى قال : ( إلى أن بلغت النوبة إلى أن شيخنا أبي حسن الأشعري فلم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء فكان في بيانه تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة ونصرت أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة و سفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي وغيره من أهل الشام ومالك و الشافعي من أهل الحرمين ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث والليث بن سعد وغيره ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وذلك من دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة وصار رأسا في العلم أهل السنة في قديم الدهر وحديثه
إلى أن قال : ( وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة وتركوا ظاهر الكتاب والسنة وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى نحوه : الحياة والقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والكلام وجحدوا ما دل عليه من المعراج وعذاب القبر والميزان وأن الجنة والنار مخلوقتان وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران وما لنبينا صلى الله عليه و سلم من الحوض والشفاعة وأن الخلفاء الأربعة كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية وزعموا أن شيئا من ذلك لا يستقيم على العقل ولا يصح في الرأي - أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماما قام بنصرة دين الله وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله وزاد في التبيين لأهل اليقين أن ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة مستقيم على العقول الصحيحة والآراء
ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة
قال أبو القاسم بن عساكر : ( وإنما كان انتشار ما ذكر أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه - في رسالته - من الفتنة ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان طغرلبك ووزارة أبي نصر الكندري وكان السلطان حنيفا سنيا وكان وزيره معتزليا رافضيا فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع قرن الكندري - للتسلي والتشفي - اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع وامتحن الأئمة الأفاضل وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطبة نيسابور وفوضها إلى بعض الحنيفة فأم الجمهور وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عند البلد )
ثم ذكره زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام
وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة الصحابة وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي - وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب - سأل عنه فكان في جوابه : ( واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر - يعني الكلام - إلا ما أراد به إيضاح السنن - والتثبيت عليها - ودفع الشبه عنها )
وقال أبو بكر بن فورك : ( انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية وصنف في ذلك الكتب )
وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته

كلام الأشعري في الإبانة
وقوله : ( فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم الني بها تدينون قيل له : قولنا الذي به تقول : وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثبوبته - قائلون : ولمن خالف قوله مجانبون لأن الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وأن له وجه كما قال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ طه : 27 ] وان له يدين كما قال : { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] كما قال { لما خلقت بيدي } [ ص 75 ] وأن له عينين بلا كيف كما قال : { تجري بأعيننا } [ القمر : 15 ] إلى أن قال
( ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم إجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] وكما قال : { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 8 - 9 ]

تعليق ابن تيمية
فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابه : يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتب والسنة والإجماع وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة لما أظهر من السنة بسبب ما وقع له من المحنة
فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقا إلى معرفة صفات الله وأمثال ذلك من مسائل الأصول ؟ فضلا عمن يدعي تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأئمة ومن يقول : إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن
ولهذا كان الأشعري وأئمة الصحابة من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم كما كان ذلك مذهب ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي بكر الصبغي وأبي علي الثقفي وأمثالهم
لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التهجم والاعتزال كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية ويقدم عقله على النصوص الإلهية ويخالف سلفه والأئمة الأشعرية وصار ما مدح به الأشعري وأئمة الصحابة من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه لكن احتجوا بحجج عقلية : إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها وتسلم عن النقص والفساد فوقعوا في أنواع من رد المعاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية
وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والعلو لله على خلقه - هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام وعنها لومهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل النقيض فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح أو بموجب النقل الصحيح وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا

اعتراض يذكر نفاة الصفات
فإن قيل : إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوما عربا فصحاء يفهمون ما أريد بها ولم يكونا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش ولا ما يشبه ذلك من الأمر المستلزمة للتجسيم فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات لم يكن المفهوم منها عندهم معارضا لشيء من الأدلة العقلية وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية
فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة

بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة : الوجه الأول
فيقال : هذا باطل من وجوه متعددة : الوجه الأول
أن يقال : فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات ولا يجوز أن يقال : ظواهر هذه النصوص غير مراد ولا أن قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات : لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه إثبات
ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات
ولكن هؤلاء المتفلسفة يقولون : إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه وإنما أراد التخييل وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية
وفساد هذا المعلوم من وجوه اكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة

الوجه الثاني
أن يقال : التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة من : كتاب السنة والرد على الجهمية للأثرم ولعبد الله بن أحمد و عثمان بن سعيد الدارمي و محمد بن إسماعيل البخاري و أبي داود السجستاني و عبد الله بن محمد الجعفي و الحكم بن معبد الخزاعي و حشيش بن أصرم النسائي و حرب بن قاسم الكرماني و أبي بكر الخلال و محمد بن إسحاق بن خزيمة و أبي القاسم الطبراني و أبي الشيخ الأصبهاني و أبي أحمد العسال و أبي نعيم الأصبهاني و أبي الحسن الدارقطني و أبي حفص بن شاهين و محمد بن إسحاق بن منده و أبي عبد الله بن بطه و أبي عمر الطلمنكي و أبي ذر الهروي و أبي محمد الخلال و البيهقي و أبي عثمان الصابوني و أبي نصر السجزي و أبي عمر بن عبد البر و أبي القاسم اللالكائي و أبي إسماعيل الأنصاري و أبي القاسم التيمي وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم منه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه
وهذا يصير دليلا من وجهين : أحدهما من جهة إجماع السلف فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على الخطأ فكيف في الأصول
الثاني : من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها لا يفهمون منها ما يناقض ذلك
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولا بالإثبات وإنكارا لقول النفاة كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال : إن الله على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي وقال الأوزاعي كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته

الوجه الثالث
أن من له عناية بآثار السلف بعلم علما أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وقد قتلهما المسلمون وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة
وقال يوسف بن أسباط و عبد الله ابن المبارك : أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع : الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية فقيل لابن المبارك : فالجهمية : فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه و سلم
ولأصحاب أحمد في الجهمية : هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة ؟ - قولان والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم ولا يرى ولا تقوم به صفة ولا فعل وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فكيف يمكن مع هذا أن يقال : إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات
وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال : إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه

الوجه الرابع
أن يقال : القرآن : إما أن يقال : إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات وإما أن يقال : أنه ينفي ذلك وإما أن يقال : إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو الإثبات وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضا لذلك وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 4 ] ونحو ذلك وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين لا تنفي ثبوت الصفات ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات فهذا من أعظم البهتان الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن بل هو على نقيض مقصودهم أدل فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال لا مماثل له في ذلك وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة بعد أن افتروا على العقل فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة فيقول أحدهم : لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام والله قد نفى عنه المثل فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة منها أن يقال : هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس : أحدها : كون كل عال جسما والثاني : كون الأجسام متماثلة والثالث : كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن
ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ ( الجسم ) ولفظ ( المثل )
فيقال : الجسم في لغة العرب هو البدن وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسما في لغة العرب وهو في اصطلاحكم جسم
وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة ولا الخبز مثل التراب ولا الدم كالذهب فما يسمى في لغة العرب ( جسدا ) و ( جسما ) ونحو ذلك هو مما يعلم أنه ليس متماثلا بصريح العقل والحس فكيف بما هو أعم من ذلك مثل كونه يشار إليه أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة : الطول والعرض والعمق ؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة كالعدسة والسمسمة بل الذرة التي قال الله فيها : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان : هذا طويل وهذا قصير وكذلك أعضاء الإنسان كيده ورجله وعنقه يقولون : هذا طويل وهذا قصير ويقولون : هذا عريض وهذا دقيق ورقيق لعنقه ويده
وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها لا يقولون لفم الإنسان : إنه عميق ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة
فإذا قالوا عن الشيء : إنه طويل عريض عميق لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق ثم يقولون مع هذا : إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة فإنه يجب أن يكون مماثلا مستويا في الحد والحقيقة لا يختلف إلا باختلاف أعراضه
فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم ثم بتقدير أن يكون كذلك فلا يتمارى عاقلان أن لفظ ( المثل ) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا وأنه إذا قيل له : إن كذا مثل كذا أو ليس مثله وهذا ليس له مثل فإنه ليس المفهوم من ( المثل ) كون هذا بحيث يشار إليه وكون هذا بحيث يشار إليه أو كون كل منهما له قدر أو له طول وعرض وعمق لا بالمعنى اللغوي ولا بما هو أقرب إليه فضلا عن اصطلاحهم
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون : الجبل مثل النار ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على مطلق المقدار بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسما بل حيوانا بل إنسانا
كما يف قوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ]
وقال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } [ الواقعة : 58 - 61 ]
وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم :
( ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل )
وقال الآخر :
( ما إن كمثلهم في الناس واحد )
فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله : { ليس كمثله شيء } أو قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } على أنه لا صفة له أو لا يرى في الآخرة أو ليس فوق العرش - بناء على تلك المقدمات وهو أنه لو كان كذلك لكان جسما والأجسام متماثلة والله قد نفى المثل ؟
ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون : لو كان متصفا بذلك لكان جسما ولو كان جسما لكان منقسما والمنقسم ليس بواحد والله قد أخبر أنه واحد مع أنه لا يوجد في لغة العرب بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسما ومنقسما كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ المدثر : 11 ]
وقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } [ النساء : 11 ]
وقوله : { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } إلى قوله : { قال له صاحبه وهو يحاوره } [ 32 - 37 ]
وقوله : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ]
وقوله تعالى : { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ]
وقوله : { ولا يشرك في حكمه أحدا } [ الكهف : 26 ]
وقوله : { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف : 110 ]
وقوله : { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } [ الكهف : 23 ]
وقوله : { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [ الجن : 22 ]
وقوله : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [ الجن : 18 ]
وقوله : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة : 6 ]
وقوله : { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ]
إلى قوله : { أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } [ يوسف : 41 ]
وقوله : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ]
إلى قوله : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } [ القصص : 27 ]
وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 4 ]
والعرب وغيرهم من الأمم يقولون : رجل ورجلان اثنان وثلاثة رجال وفرس واحد وجمل واحد ودرهم واحد وثوب واحد ورأس واحد وذكر واحد وأمير واحد وملك واحد ومسكن واحد وسيد واحد وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه فلو قدر وجود هذا في الخارج أو إمكان وجوده لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ ( الواحد ) في لغة العرب يعبرون بها عنه إذ ليس كل ما وجد أو أمكن وجوده يجب أن يتصوره أهل اللغة ويكون داخلا فيما عبروا عنه من لغتهم
وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ ( الواحد ) و ( الأحد ) في لغتهم عن هذا لم يجز أن يقال : إن لفظ ( الواحد ) في لغتهم لا يقع إلا عليه لما ذكرناه أن لفظ ( الواحد ) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسما منقسما وذلك ليس بواحد عندهم فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة وإن قدر وجوده لكان نادرا في اللغة
والغالب المشهور في اللغة أن اسم ( الواحد ) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وقوله : { قل هو الله أحد } ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب واخبرنا فيه انه أحد وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب بل إذا قال القائل : دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق فإن القرآن نزل بلغة العرب وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه متصفا بالصفات مباينا لغيره مشارا إليه
وما لم يكن مشارا إليه أصلا ولا مباينا لغيره ولا مداخلا له فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا بل ولا تعرفه فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه لا على مطلوبهم
يؤيد هذا أنهم يقولون : اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا : المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة فضلا عن أن يعلموا أن لفظ ( الحركة ) موضوع له
ولفظ ( الحركة ) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيدا فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه وهو أنه لا يشار إليه ولا يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس بل قليل منهم والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج فمنهم من قال : وجود هذا في الخارج ممتنع وإن كان كذلك ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ ( الحركة ) فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ ( الواحد ) و ( الأحد ) لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا
ولو قيل : إنه يجوز استعمال لفظ ( الواحد ) في لغتهم في هذا المعنى : إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ
قيل : هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى وبتقدير أن يكون مستعملا في هذا وهذا فإنه يكون دالا على ما به الاشتراك فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر فلا يدل على محل النزاع ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما : مجاز في الآخر لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق وهو المعروف ولو قدر أنه مشتركا اشتراكا لفظيا لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم لا على عين قولهم فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه فضلا عن أن يكون الله موصوفا به
وهذا ( الواحد ) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول : المعدوم شيء ومن جنس الكليات والمجردات كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج لكن مثبتة الأحوال اعقل ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث قالوا : لا موجودة ولا معدومة فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة الذين يقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ومن قال : المعدوم شيء وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا الكليات المجردات أمورا موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت
والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس فضلا عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة ثم في مدلول الألفاظ المسموعة
فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا : إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد كان هنا طرق :
أحدها : أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه
الثاني : أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج وحينئذ فلا يكون كلام دالا على وجود ما ليس بموجود
الثالث : أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس : لا العرب ولا غيرهم فلا يكون اللفظ موضوعا له ودالا عليه وإن كان له وجود ولا يقال : هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة
الطريق الرابع : أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه فلا ريب أن شموله لما نفوه أظهر إذ لم يعرف استعماله في ذلك فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه
الخامس : أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئا إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه
السادس : أنه بتقدير كون أحدهما مجازا فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين
السابع : أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما
الثامن : أن من يستدل به على ما نفوه لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة وأفعالا متعددة وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه
التاسع : أن يقال : أسم ( الأحد ) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة أو في غير الموجب كقوله : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ] وقال : { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ] وقال : { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وأمثاله لا يعرف استعمال ( الأحد ) فيما ادعوه لا في النفي والإثبات فكيف اسم الواحد ؟
العاشر : أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 62 ] وقوله : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } [ النحل : 51 ] وقوله حكاية عن المشركين : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] وأمثال ذلك
وأما كون القديم واحدا أو الواجب واحدا فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة فإنهم قالوا : القديم واحد وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد وهذا حق ويراد به أن مسمى القديم واحد ثم قالوا : لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد
وقالت جهمية الفلاسفة : الواجب واحد وهو مجمل : يراد به الإله الواجب بذاته وهذا حق ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا : لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب
ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة واتفق عليه الأئمة فتبين أن لفظ ( التوحيد ) و ( الواحد ) و ( الأحد ) في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] بل لفظ ( التوحيد ) و ( الأحد ) و ( الواحد ) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم وأنه موصوف بالصفات الثبوتية كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع فلو قدر أن لفظ ( الواحد ) فيه اشتراك وإجمال لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعا للإجمال والاشتراك موافقا لقول أهل الإثبات دون النفاة
وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعا أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول هم في جانب والرسل في جانب كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء
ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق بل أصدق الكلام كلام الله والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه بخلاف الكلام الذي هو كذب سواء كان صاحبه يعلم أنه كذب أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج فيمتنع أن يكون كلام الله مخبرا عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة : كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلا فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها كما يجعلون العالم عين العلم والقادر عين القدرة
ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم ويجعلون كل صفة هي الأخرى كما يجعلون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين بحيث تكون هذه العين هي تلك العين كما يقولون : الوجود واحد والموجود الواجب وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي لا يختص بوجه من الوجوه أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه فلا يختص بكونه واجبا أو عالما أو قادرا أو حيا أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود
وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيرا إليه
ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو خبر وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام وعين الكلام الذي هو خبر عن الله هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين
كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود الذين قالوا الوجود واحد وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات الذين قالوا : الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة
فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا مثل جعل الذرات هي الصفات أو جعل كل صفة هي الأخرى أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمرا موجودا في الخارج يجب وجوده في الخارج وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج فلا يكون إلا في الذهن
ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين : أحدهما : الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام مع أن جمهور العقلاء ينكرونه مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى
الثاني : الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان
وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة وإنما هي أمور متصورة في الأذهان لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان ثم يدعون تركيب الأنواع منها كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان ومن تصور أن هذا حق التصور تبين لهم من غلط هؤلاء وضلالهم ما يطور وصفه وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ]
وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيدا - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق وتعدد أسمائه وكلامه مع ذلك لا محذور فيه بل هو الحق الذي لا يمكن جحده
ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة : أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان لا حقيقة له في الخارج

الرد على قولهم : أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه
وإن قيل : إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات كان هذا أيضا باطلا ومعلوم الباطلان من وجوه :

الوجه الأول
أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرن من خلق السماوات والأرض ومن نعيم الجنة والنار ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير وأعظم من دلالته على أن محمد خاتم النبيين وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص
وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك

الوجه الثاني
أن يقال : جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات
ولهذا كان المخلوقون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره وإما بالتفويض مع قولهم : ظاهر ذلك غير مراد فلو كان ظاهرها دالا على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك

الوجه الثالث
أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالان عما يظنوه مشكلا من القرآن كما تقدم تمثيلا وإذا كان كذلك ولم يسألوا عن ذلك علم قطعا أنه لم يكن منافيا لما يعلمونه بعقولهم

الوجه الرابع
أن يقال : فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل وهذا هو كان صلب الكلام وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل لنهم يذكرون ذلك فيها فيقال : ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب

الوجه الخامس
أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل وهي من أجل علوم الدين ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بالنفي ولا إثبات

الوجه السادس
أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين وإما أن لا يكون فإن قيل : ليس ذلك من الدين بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله والثناء عليه وتعظيمه وتقديسه وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله سواء قيل : إن ذلك واجب أو مستحب فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله فيكون ذلك من الدين
وقد قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3 ]
وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [ المائدة : 16 ]
وقال تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ]
وقال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول ونزل به هذا الكتاب وعلمته هذه الأمة وتضمنه هذا الدين فلا يمكن أن يقال : إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه فلم يكن لهم به علم ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات

الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم
وفيه الرد على كلام الرازي المتقدم : عن أصل الحجة أن يقال : لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة كما تقدم التنبيه على فسادها فضلا عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع فإن غاية هذه المعقولات أن يقال : لو كان فوق العالم لكان جسما وذلك منتف قد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة فإن منهم من منع المقدمة الأولى مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة وغيرهما من أصحاب كلاب والأشعري وأهل الفقه والحديث والتصوف من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد و أبي حنيفة وغيرهم والفلاسفة كما ذكر ابن رشد ونحوه ومنهم من منع الثانية كالهشامية والكرامية وغيرهما ومنهم من فصل عن المعنى الجسم
فإن قيل : إن معناه ما ليس بلازم للعلو مثل كونه مماثلا للمخلوقات - منع الأولى
فإن قيل : إن معناه لزم للعلو مثل كونه مستشارا إليه - منع الثانية
فهو يقول : أنه فوق العالم قطعا كما علم ذلك بالعقل والسمع
فإذا قيل : لو كان فوقه لكان جسما فالمراد بمعنى الجسم : إما أن يكون لازما للعلو وإما أن لا يكون لازما فإذا كان لازما لا محال منعت المقدمة الثانية وهي انتفاء اللازم وإن لم يكن لازما منعت المقدمة الأولى وهي التلازم
وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ ( المتحيز ) و ( المركب ) ونحو ذلك يستفصل عن معناه كما يستفصل عن معنى لفظ ( الجسم ) فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات أو ما يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك بل نقول : هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح كما دل عليه النقل الصحيح

الوجه السابع
أن يقال : بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات كما هو طريق السلف والأئمة : يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه كأبي عباس القلانسي والحارث المحاسبي وأشباههما من أئمة الأشعرية وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله
ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك وانهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك من نصوص الوجه واليد
ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي قال : أنها نافية لهذه الصفة كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين ويبين أنه لا محذور في إثباتها كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد ونحو ذلك من الصفات الخبرية
وهؤلاء كلامهم امتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا وإذا قيل : إن في كلامهم تناقضا أو أنهم يقولون ما لا يعقل ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم فهم بالنسبة إلى النفاة اكمل علما بالمعقول والمنقول وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل وما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم وتنسب به معارضة النفاة لهم ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله
ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق : منها : أنهم يقولون : العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم
ومنها : أنهم يقولون : قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضا ضروري وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضا ضروري فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو وعلى انهم محتاجون غليه يسألونه عن الضرورات وعلى انهم يقصدونه في العلو ولا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته ويظل عنه ما كان يفتريه
ومنها أنهم يقولون : إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير موطأة من بعضهم البعض ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة ويمتنع أيضا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه ومتى قدح في مثل هذا كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم
ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية : كقولهم : كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر وإما أن يكون مداخلا له ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم فمعهم من العلم الضروري والقصد الضروري واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملا فإنها مخالفة للمعارف الضرورية ولما أجمعت عليه فطر البرية مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن ولسنة النبي صلى الله عليه و سلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف

الوجه الثامن
أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص : إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص : كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك إن كنت من المثبتين له وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك : هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك
فإن قلت : ما أثبته معلوم معلوم بالاضطرار من الدين قال لك أهل الإثبات للعلو : وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين
فإن قلت : أنا لا أسلم هذا لكم قالوا لك : ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة
فإن قلت : لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري قالوا لك : لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا
فإن قلت : أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه
قيل لك : وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك كما تقوله لمنازعك أيضا لكن أنت لا توفي بهذا بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم بل قد تعاديهم أو تكفرهم فإن كان ما فعلته سائغا لك ساع لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك كما فعلت هذا بأهل الإثبات وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته
وإن قلت : أنا لا أثق بصدقهم : أنهم يعلمون ذلك اضطرارا أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري
قيل لك : ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضا
فإن قلت : هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي
قيل لك : وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم
وإن قلت : أنا بين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته
قيل لك : والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها
وإن قلت : أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء
قيل لك : والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته
وأعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئا من السمعيات بوجه من الوجوه إذ لا يمكن أحدا من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية
وإذا قال : أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضا وأمكن أن يجاب بجواب آخر وهو : أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم ولو أنه من الأمور العلمية السياسية فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع : إما في الظاهر وإما للجمهور وإما أوائل سلوكهم
وإن كان ممكن لا يثبت النبوات بوجه فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء كالملوك والفلاسفة ونحوهم
بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه إذ الإنسان مدني بالطبع لا يستقل بتحصيل مصالحه فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره
وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضا له من عقلياته فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب فما كان جوابا له كان نظير جوابا لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه و سلم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

الجواب التاسع
أن يقال : نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلا وسمعا فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها كما تفعلونه في مسالة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك إذ أنتم كثيرا ما تثبتون الشيء بدون لوازمه أو مع وجود منافيه
ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم من النفاة وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر يظهر قصوره لمن كان خبيرا بالعقليات وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم
ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه بما به ناظرهم أولئك ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين كما تسلط عليهم أولئك فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين كما قاتلهم أولئك الكفار حتى ظهر الباطل والكفر والضلال بتفريطهم أولا في جهاد من يليهم من الكفار وعداوتهم ثانيا على من يليهم من المسلمين
وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين كما نعت النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج حيث قال : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ]
وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج فإن الخوارج كانوا يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم معادين للمؤمنين أعزاء عليهم كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبرا وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 51 - 52 ]
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته كما أن هؤلاء يلحقهم أيضا الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه حرماته
وقد قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [ الزخرف : 39 ]
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات : نحن لا نرضى أن نجيبكم بنا تجيبون به أنتم نفاة الصفات وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه و سلم بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص : لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول صلى الله عليه و سلم قائمة على من بلغه ما جاء به ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ النساء : 65 ]
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوا علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام

الوجه الرابع والأربعون
أن يقال : العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلا له بل هي أيضا باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة :
طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون
وطريقة التركيب والاستدلال بها أن الموصوف بها ممكن أو محدث فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب
والثالثة : الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه قد يقال : إنها طريقة أخرى وقد تدخل في الأولى
والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها - على رأي من يقول : إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة - يدخل في الأولى والثانية
أما دخولها في الأولى فبناء على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق كما لا يخلو الجسم - بل الجوهر - من الحركة والسكون
وأما دخولها في الثانية فبناء على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فيكون : إما ممكنا عند من يستدل بذلك على الإمكان وإما محدثا عند من يستدل بذلك على الحدوث
ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة أو من الجواهر العقلية وهي المادة والصورة وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض فلا يخالف فيه إلا شذوذ
ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكنا أو حادثا والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه
وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال ويسلكه أيضا نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات
وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب بناء على أن الموصوف مركب وإذا استدلوا بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن ويسندون ذلك إلى التركيب فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم بل هذا نقيض قولهم
وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات وأن نفاة الصفات القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعدا عن دين المسلمين
فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل وبينوا أنها فاسدة في العقل محرمة في الشرع - كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فسادا في العقل وتحريما في الشرع
وما زال أئمة العلم على ذلك حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة فالاستدلال بالحكة والسكون على حدوث المتحرك الساكن بل الاستدلال بالأعراض مطبقا على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات والاستدلال بتركيب الأجسام من الجواهر ونحو ذلك وجعل ذلك طريقا إلى العلم بحدوث العالم وإلى العلم بإثبات الصانع تعالى هو طريق الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المذموم - عند السلف المحدث في الإسلام وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة والاستدلال بها - والتزام لوازمها والتفريع عليها وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين أو سبقوهم إلى ذلك سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم
والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين وهذه هي من أعظم أصول هؤلاء المتكلمين وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه وتجهيل أصحابه وتضليلهم حيث سلكوا في الاستدلال طرقا ليست مستقيمة واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم
وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من ذلك بعضه لكن كثير من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه ذم الكلام وأهله ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله

كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام
وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال : ( فإن قلت : فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف فمن قائل : إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب - سوى الشرك - خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل : إنه واجب فرض : إما على كفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال على دين الله )
قال : ( وإلى التحريم ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان وجميع أهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظر حفصا الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وإني سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال أيضا : قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام )
( وقال أيضا : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد )
( وقال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام )
وقال ( وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل )
قال : ( وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث )

تعليق ابن تيمية
قلت : هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات ويقررون ذلك بالعقل وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور - كتاب في قصص من هجره أحمد سال فيه لأبي بكر المروذي عن ذلك فأجابه عن قصصهم واحدا واحدا
وقد ذكر ذلك أيضا أبو بكر الخلال في كتاب السنة وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك كما ذكره معمر بن زياد في أخبار شيوخ أهل المعرفة والتصوف وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت وهذا يناقض قول ابن كلاب
وأبو حامد ليس له من الخبرة والآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك الذين يتميزون بين صحيحه وسقيمه ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها
وأحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل
وقد نقل أبو حامد في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض الحنابلة وهو أن أحمد لم يتأول إلا ثلاث أحاديث وهذا غلط على أحمد وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطأ نقلا وتوجيها ولو اقتصر أبو حامد على ما نقله من كتاب ابن عبد البر عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطأ فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء ولكن لعله نقل ذلك من كلام أب طالب أو غيره
ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى بالبرهان لما ذكر مذهب الناس في القياس العقلي والشرعي فقال : ( القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب فذهب بعضهم إلى رد القياسين وقال القائلون : هذا مذهب منكري النظر وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين من الفقهاء وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحد القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات وصار صائرون إلى النهي عن القياس النظري والأمر بالقياس الشرعي
وقال ( وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به )

كلام الجويني في البرهان
قال : ( وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي ) قال أبو المعالي : أطلق النقلة القياس العقلي فإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له فليس في المعقولات قياس وقد فهم عنا ذلك طلبة المعقولات

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي قال : قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن فإن مما يجعل في قياس الشمول حدا أوسط يجعل في قياس التمثل مناط الحكم ويسمى العلة والوصف والمشترك
فإذا قيل : النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر وكل مسكر حرام - فهذا قياس شمول ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة : كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل : قال : إنه مسكر فكان حراما قياسا على عصير العنب المسكر ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل هو الدال على صحة المقدمة الكبرى والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم وهو مناطه وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم والسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول الذي هو محمول في المقدمة الصغرى موضوع في الكبرى
وأما ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان : ( هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد )
وهو كما قال فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة والكلام في الله ودينه بغيره علم
واستدل أحمد بقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 33 ]
وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية : نقلها وعقلها من سائر الأئمة لأنه ابتلي بمخالفي السنة فاحتاج إلى ذلك والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد لم يسلك فيه إلا قياس الأولى وهو الذي جاء به الكتاب والسنة فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس بل هو سبحانه أحق بكل حمد وأبعد عن كل ذم فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فهو أحق به من كل ما سواه وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه
والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك كان هذا من باب قياس الأولى وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك وكذلك أحمد سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالما بجميع المخلوقات مع كونه بائنا عن العالم فوق العرش بقياسين عقليين : أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قد صاف فيرى ما فيه مع مباينته له فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له أعظم من قدرة هذا على ما في يده فلا تمتنع رؤيته لما فيه وأحاطته به مع مباينته له
والقياس الثاني من بنى دارا وخرج منها فهو يعلم ما فيها لكونه فعلها وإن لم يكن فيها فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه هو أحق بأن يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير وإن لم يكن حالا في المخلوقات
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة أو الكلام بلا علم والكلام المبتدع في الدين كقوله في رسالته إلى المتوكل : ( لا احب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم أو الصحابة أو التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود )
وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك بل هو قد فعل ذلك بل يكره المعاني المبتدعة في هذا أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - غلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين
ولهذا كره الكلام في ( الجسم ) وفي ( الحيز ) وفي اللفظ بالقرآن نفيا وإثباتا لما في كل من النفي والإثبات من باطل وكلامه في هذه الأمور مبسوطة في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه
والمذموم شرعا ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين
فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها مثل قوله تعالى : { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } [ هود : 32 ]
وقوله : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] وقوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ]
وأمثال ذلك فقد يكون واجبا أو مستحبا وما كان كذلك لم يكن مذموما في الشرع
وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف في ذم أهل الكلام لو أنه معروف عنهم في كتب يعتمد عليها لم يذكره هنا وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر الذي سماه فضل العلم وأهله وما يلزمهم في تأديته وحمله و أبو عمر من اعلم الناس بالآثار والتميز بين صحيحيها وسقيمها

كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه
ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضا عن أحمد أنه قال ( علماء الكلام زنادقة ) قال : ( وقال مالك : أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم بدين جديد ؟ ) قال : ( يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم )
وقال : ( وقال مالك : لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع فقال بعض أصحابه في تأويله : انه أراد بأهل الأهواء : أهل الكلام على أي مذهب كانوا )
قلت : هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منداد البصري الإمام المالكي وقد قال : ( إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام )
قال : ( فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء : أشعري كان أو غير أشعري ) هكذا ذكره عنه ابن عبد البر ومنه نقل ذلك أبو حامد لكان كنى عن التصريح بذلك
قال أبو حامد : ( وقال أبو يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق ) وقال : ( وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التجديدات فيه وقالوا : ما سكت عن الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه ولذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلك المتنطعون هلك المتنطعون ] أي المتعمقون في البحث والاستقصاء )
قال : واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه و سلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلا حفظ الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة )
قال : ( وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بان المحذور من الكلام : إن كان هو من أجل لفظ ( الجوهر ) و ( العرض ) وهذه الاصطلاحات الغريبة لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسب والتعدية والتركيب وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح كإحداث آنية على هيئة جديدة لاستعمالها في مباح وإذا كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخالق تعالى وصفاته كما جاء به الشرع فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل ؟ وإن كان المحذور هو الشغب والتعصب والعداوة والبغض وما يفضي إليه الكلام فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه على الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز منه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه أليه
وكيف يكون ذلك الحجة المطالبة والبحث عن محظورا وقد قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم } [ النمل : 64 ] وقال تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } [ الأنفال : 42 ]
وقال تعالى : { إن عندكم من سلطان } [ يونس : 68 ] أي من حجة وبرهان
وقال تعالى { قل فلله الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ]
وقال تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } إلى قوله { فبهت الذي كفر } [ البقرة : 158 ] وذكر إبراهيم مجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ]
وذكر كلاما طويلا ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاما مبسوطا في غير هذا الموضع إلى أن قال : ( فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين )
ثم ذكر تفصيلا اختاره مضمونه : أن فيه مضرة من آثار الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل )
قلت : المضرة التي ذكرها : نوعان : أحدهما : يتعلق بالعلم وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق وتفضي إلى الباطل والثاني : يتعلق بالقصد وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل لئلا يغلب الشيطان
قال : ( وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود )
قال ( ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام )
قال : ( بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم اجتماع السلف عليها والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة )
قال : ( وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة )
قلت فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر خلاف من نازعهم ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه و سلم لأمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين : لا من السلف والأئمة ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة وما يقبل من ذلك وما يرد وما يحمد وما يذم وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصد به نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد فكيف من قابل السنة بالبدعة وعارض الحق بالباطل وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق
ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه وما ذكره من أنه هو وطريق الفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها مع خبرته بذلك وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلومة
فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك : والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك وأعرفهم بأدلة ذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك نافعة : إما لهدى مسترشد وإما لإعانة مستنجد وإما لقطع مبطل متلدد بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن الناظر الطالب للعلم : إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك : إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن وإما أن ينظر فيما من شأنه أنه يخبر عنه كالأبدان واللغات
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وهو كلام الله تعالى وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ]
والمناظرة المحمودة نوعان : والمذمومة نوعان وذلك لأن المناظر : إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب وأما الأولان : فمن كان عالما بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق إذا تبين له أو يقطعه ويكف عداوته إن كان معاندا غير متبع للحق إذا تبين له ويوقفه ويسلكه ويبعثه على الناظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق
وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة : إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه أو ليس له غرض في فهمه بل قصده مجرد الرد له فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه وأصل قصده الحق لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم أو لا يفهمه إلا بعد عسر أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك : إما معرفة الحق وإما شكا وتوقفا في اعتقاد الباطل أو في اعتقاد صحة الدليل الذي استدل به عليه وبعث همته على النظر في الحق وطلبه إن كان له رغبة في ذلك فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى النفس الحق بقسم المعاندين كما تقدم
وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض فإذا أراد علوا في الأرض أو فسادا كان مذموما على إرادته ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم فيجره إلى أمور أخرى
وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء
وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج أو الجواب عن بعض المعارضات أو الجمع بين دليلين متعارضين وأمثال ذلك - فهذا إذا ناظر : طالبا لمعرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضها والجمع بين الأدلة الصحيحة - كان محمودا وإن ناظر بلا علم فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات - كان مذموما
والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع - كالخوارج وغيرهم - من القسم الأول وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير : تارة من القسم الأول وتارة من القسم الثاني وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز و جل { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ]
وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة : ذم أصحاب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج
فقال تعالى : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ غافر : 5 ]
وقال تعالى : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } [ الأنفال : 6 ]
وقال : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ]
والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب فإن أصل ذمهم الكلام المخالف للكتاب والسنة وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلا فمن جادل به جادل بالباطل وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكون قولا ومذهبا لطائفة تذب عنه وإنما يكون باطلا مشوبا بحق كما قال تعالى : { لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } [ آل عمران : 71 ]
أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح كالذين قالوا : إن محمدا صلى الله عليه و سلم شاعر وكاهن ومجنون قالوا : إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه والكاهن يخبر أحيانا بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه والمجنون يقول ويفعل خلاف ما في عقول ذوي العقول فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه و سلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك
لكن ما ينصبه الله من الأدلة ويهدي إليه عباده من المعرفة يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به ولكن ليس كل من عرف الحق - إما بضرورة أو بنظر - أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرفه به غيره نوع وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده لا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها
والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضه وإن كانوا في ذلك درجات وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك بل هذا يقوم بالبعض وهذا يقوم بالبعض كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وغير ذلك من أمور الدين
والكلام الذي ذموه نوعان : أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذبا وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل كذب فإن أصدق الكلام كلام الله
والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم : من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما - كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعيا وهو لا يقبل الحق : إما لهواه وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه
وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة
قال الله تعالى : { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } [ الشورى : 16 ]
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة وقد ينهى عنها إذا كان المناظر معاندا يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائيا ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه وإن كان مستحقا للعقاب عاقبوه مع القدرة : إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة أو فيها مفسدة راجحة فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال
وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها : محمود ومذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل
ومنشأ الباطل من نقص العلم أو سوء القصد كما قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [ النجم : 23 ]
ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له والله هو الحق المبين ومحبته أصل كل عبادة فلهذا كان أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته وهذا هو ملة إبراهيم خليل الله تعالى الذي جعله الناس إماما وجعله أمة يأتم به الخلق وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين
ثم ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } [ البقرة : 258 ] ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب
والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم قولهم مأخوذ من قول خصمائه كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه وجحد تكليمه لموسى وقوم إبراهيم كانوا مشركين كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك وكان فيهم من هو معطل كما ذكر الله تعالى ذلك
والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب : فيهم المشرك وفيهم المعطل ونفي الصفات من أقوالهم فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود ربا أبدعه كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته ومنهم من يثبت له مبدعا واجبا بنفسه أبدعه كما هو قول الدهرية الإلهية منهم ويقولون : إن الواجب ليس له صفة ثبوتية بل صفاته : إما سلب وإما إضافة وإما مركبة منهما
وكان الجعد بن درهم من أهل حران وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة - خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم موافقة لفرعون والنمرود بناء على أصل هؤلاء النفاة وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام ولا يقوم به محبة لغيره فقتله المسلمون ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه
والمحبة متضمنة للإرادة ومسألة الكلام والإرادة ضل فيها طوائف كما ضلوا في إنكار العلو الذي أنكره فرعون على موسى كما قد بسط هذا في موضعه
ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة : كالجوهر والجسم والعرض فإن الاسم المفرد ليس بكلام ولا يتكلم به أحد وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمنا لأمور فيها افتراء على الله ورسوله : إما إثبات ما نفاة الله وإما نفي ما أثبته الله ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر
والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته وبطلان ما يعارضه وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلا بحقيقة الحق وبما جاء الرسول صلى الله عليه و سلم من العلم والإيمان وبما وصل إليه السلف والأئمة فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه وجهله بالثالث يوجب ظنه أن السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية إلى العلم بالله وصفاته خوفا من الشبهات والأهواء بل الأصل في ذم السلف لكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه
فهذا هو الكلام المذموم بالذات وهو الكلام الكاذب الباطل وأما الكلام الذي هو حق وصدق فهذا لا يذم بالذات وإنما يذم المتكلم به أحيانا لاشتمال ذلك على مضرة عارضة مثل ما يحرم القذف وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير
وأما الكلام في الدين فنوعان : أحدهما أمر والثاني خبر والكلام في أصول الدين هو من النوع الثاني ولا ريب أن الله تعالى أخبر بإثبات أمور ونفي أمور وأصدق الكلام كلام الله فما ناقض ذلك كان كذبا وقولا على الله غير الحق
كما قال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } [ النساء : 171 ]
وقال تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } [ الأعراف : 169 ]
وقال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف : 152 ]
وقال تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] وأمثال ذلك
وعامة الكلام الذي ذمه السلف تشتمل مسائله على كذب وفرية ودلائل مسائله على كذب وفرية كأقوال الجهمية النفاة لما أثبته الله تعالى له من الأسماء والصفات وكلام القدرية النافية لما أثبته الله من قدرته ومشيئته
ودلائل الجهمية والنفاة : هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وأن المركب مسبوق بجزئه ومفتقر إلى مركب يركبه فيكون محدثا وممكنا وما قام بها من الصفات والحركات أعراض والأعراض - أو بعضها - حادثة وما كان شخصه حادثا وجب أن يكون نوعه حادثا فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى قالوا : بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة وبذلك عرفنا أن الله موجود فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله وذلك باطل شرعا وعقلا ولم يكن ما أقاموه دليلا صحيحا فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم ولا هم نصروا بميزان مستقيم ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد فإن أعداد الملة قد يقيمون شبهة على نقيض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كشبهة الدهرية على قدم السماوات فيقابلون ذلك بفاسد آخر كاستدلالهم على حدوث ذلك بدليل الأعراض والصفات
وحفظ مثل هذا الكلام لاعتقاد العوام كدفع المظلمة عنهم بعقوبات فيها عدوان ومن ظن أن الخلف أعلم بالحق وأدلته أو المناظرة فيه من السلف فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم وكلا الظنين طريق من لم يعرف حقيقة الدين ولا حال السلف السابقين
وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية الذي يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل فهؤلاء فيما يحدثون به من الكذب ويكذبون به من الصدق في المقولات بمنزلة أهل الكلام الباطل في البحث والنظر كالجهمية الذين يكذبون بالحق ويصدقون بالباطل في العقليات
ولهذا كان غير واحد من السلف يقرن بين الجهمية والرافضة وهما شر أهل الأهواء وكان الكلام المذموم عند السلف أعظم من الشهادة بالزور وظلم الحق
وذلك لأن الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم كان معترفا بذنبه معتقدا لتحريم ذلك فترجى له التوبة ويكون اعتقاده التحريم وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يرجى أن يمحوا الله بها سيئاته
وأما إذا كذب في الدين معتقدا أن كذبه صدق وافترى على الله ظانا أن فريته حق فهذا أعظم ضررا وفسادا
ولهذا كان السلف يقولون : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم ونهى عن الخروج على أئمة الظلم وأمر بالصبر عليهم
[ وكان يجلد رجلا يشرب الخمر فلعنه رجل فقال : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ]
[ وجاءه ذو الخويصرة التميمي وبين عينيه أثر السجود فقال : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فقال : ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ثم قال : يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ]
فهذا المبتدع الجاهل لما ظن أن ما فعله الرسول ليس بعدل كان ظنه كاذبا وكان في إنكاره ظالما وهذا حال كل مبتدع نفى ما أثبته الله تعالى أو أثبت ما نفاه الله أو اعتقد حسن ما لم يحسنه الله أو قبح ما لم يكرهه الله فاعتقادهم خطأ وكلامهم كذب وإرادتهم هوى فهم أهل شبهات في آرائهم وأهواء في إرادتهم
فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه ولكن قد يورث شبهة وهوى
وقد اعترف أبو حامد بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفتها
وأما حراسة عقيدة العوام
فيقال : أولا : لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه أخبر به لأمته فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه و سلم فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به ويكذبوا بنقيضه ويعتقدوا موجبه قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك والرد على من يخالفه فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم واعتقد نقيضه - كان مبتدعا مبطلا متكلما بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه و سلم كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة محق يتكلم بالحق
وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة ورد بعض ما أخبر به الرسول كالجهمية والمشبهة والخوارج والروافض والقدرية والمرجئة
ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل كما تحرس بكذب ولا ظلم فإذا رد الإنسان باطل بباطل وقابل بدعة ببدعة كان هذا مما ذمه السلف والأئمة
وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام الباطل والكلام بغير علم
والأول كثير وأما الثاني فقد قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 33 ]
وقال تعالى : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ]
وقال : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } [ الإسراء : 36 ]
وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاث : قاض في الجنة وقاضيان في النار رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار ]
وفي السنن : [ من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار ]
فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقا لا سيما ما كان في نفسه كذبا باطلا وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه السلف عنه مطلقا بل هذا - إذا كان حقا - يكون مأمورا به تارة ومنهيا عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا دينا
ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه و سلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ وأن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنه لذلك وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة والنافين لذلك والقائلين : إن الله يجبر العباد والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه الذي يتضمن حقا وباطلا في جانبي النفي والإثبات
والكلام بلفظ ( الجسم ) و ( الجوهر ) و ( العرض ) في مسائل الصفات هو من هذا الباب قال : أبو عبد الرحمن السلمي - وقد ذكر شيخ الإسلام في ذم الكلام من طريقة : سمعت أبا نصر أحمد بن محمد السجزي يقول : سمعت أبي يقول : قلت لأبي العباس بن سريج : ما التوحيد ؟ قال : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه و سلم بإنكاره ذلك
والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة وأما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر فهذا مذكور في موضع آخر

تابع كلام الغزالي في الإحياء
قد قال أبو حامد أيضا لما ذكر أقسام العلوم : ( فإن قلت : لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة وتبين أنهما محمودان أو مذمومان ؟ فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنه فهو : إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماء وبعضها خوض في ما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيه بالكلية من البدع

كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب : ( ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عول سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك فبادرت - أيدكم الله - بإجاباتكم إلى ما التمسوه وذكرت لهم جملا من الأصول مقرونة بأطراف من الحجاج تدلكم على صوابكم في ذلك وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم ومفارقتكم بذلك الأدلة الشرعية وما أتى به الرسول منها ونبه عليها وموافقتكم بذلك لطرد الفلاسفة الصادين عنها والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها : اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي مضى عليه سلفنا وأتباعهم من صالح خلفنا : أن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه و سلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون وفرق متباينون : منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي يمكن أن يكون لله رسول ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة وصاحب صنع يعكف عليه ويزعم أن له ربا يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه لينبههم جميعا على حدثهم ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعتهم ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ويوضح لهم سائر ما تعبدهم الله به من شريعته وأنه عليه السلام دعا جماعتهم إلى ذلك ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات وغير ذلك من اختلاف اللغات وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] فنبههم عز و جل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك
وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12 - 14 ]
وهذا مما أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره وكونه قديما ينفي تلك الحال فإذا حصل متغيرا بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها وذلك أن القديم لا يجوز عدمه وإذا كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهيا إلى هيئات محدثة ولم تكن الأجسام قبلها موجودة بل كانت معها محادثة ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق فيتم من غير مرتب له ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها لأن سلالة الطين والماء المهين بنفسه لا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام وما فيه الآلات المعدة لمصالحه : كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنع من غذائه وتحول بينه وبين مرضعته فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به ولا يصل منه إلا غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجاز لطاف قد هيئات لذلك بمقدار ما يقيمها والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد باجتذاب المناخر وما فيها من الآلات المعدة كخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة في مجاز ينفذ ذلك منها وغير لك مما يطول شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق ولا يستغني في ما هو عليه عن مقوم له يرتبه إذا كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر عند كل عاقل متأمل كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر ينقسم ذلك فيها ويقصد إلى ترتيبها
ثم زادهم الله تعالى في ذلك بيانا بقوله عز و جل : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم التي لا تخفى مواقع انتفاعهم بها كالليل الذي جعل لسكونهم ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك
ولو كان دهرهم كله ليلا لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم وكذلك لو كان دهرهم كله نهارا لأضر بهم ذلك ودعاهم إلى ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك إلى ما لا يطيقونه فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم فجعل لهم من النهار قسطا لتصرفهم لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه وجعل لهم من الليل قسطا لسكونهم لا يقتصر عن درك حاجتهم لتعتدل في ذلك أحوالهم وتكمل مصالحهم وجعل لهم من الحر والبرد فيهما بمقدار ما لهم من ثمارهم ولمواشيهم من الصلاح رفقا لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوما لأبصارهم ولو كان لونها على اختلاف ذلك من الأولون لأفسدها ودلهم على حدثها بما ذكرناه من حركتها واختلاف هيئاتها كما ذكرنا أنفا ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض وما فيهما من الحكم ومع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز و جل لهما بقوله تعالى : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } [ فاطر : 41 ]
فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره وأن وقوفهما لا يجوز ان يكون بغير موقف لهما ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز و جل : { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ثم قال عز و جل { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [ الرعد : 4 ]
ثم نبه تعالى خلقه على انه واحد باتساق أفعاله وترتيبها وأنه تعالى لا شريك له فيها بقوله عز و جل : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]
ووجه الفساد بذلك : لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام ولا يتم إحكام وكان لا بد أن يلحقهما العجز أو يحلقهما عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادرا ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل لآخر أو لا يكون كل واحد منهما قادرا على ذلك فإن كان كل واحد منهما قادرا على فعل ما يقدر الأخر بدلا منه لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر وإلا بترك الآخر له وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك
ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له فهو مذموم عاجز وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلا منه وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما والعاجز لا يكون إلها ولا ربا
ثم نبه المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا : من يحي العظام وهي رميم ؟ { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } ثم أوضح لهم ذلك بقوله : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } [ يس : 79 - 80 ] فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت أحدهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما على جواز إعادته الحياة في العظام والنخرة والجلود المتمزقة
ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها بقوله تعالى : { أتعبدون ما تنحتون } ثم قال : { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 95 - 96 ] فبين لهم فساد عبادتها ووجوب عبادته دونها بأنها إذا كانت لا تصير أصناما إلا بنحتكم لها فأنتم أيضا لن تكونوا على ما أنتم عليه من الصور والهيئات إلا بفعلي وإني - مع خلقي لكم وما تنحتونه - خالق لنحتكم إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه
ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز و جل : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } [ الأنعام : 191 ]
وقال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء : 165 ]
ثم احتج النبي صلى الله عليه و سلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته وتحدي النصارى - لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه - بالمباهلة عند أمر الله عز و جل له بذلك بقوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } آل عمران : 61 ]
وقال لليهود لما بهتوه : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ البقرة : 94 ] فلم يجسر أحد منهم على ذلك مع اجتماعهم على تكذيبه وتناهيهم في عداوته واجتهادهم في التنفير عنه لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم وصدقه فيما يخبرهم لأقدموا على إجابته ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره
ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه ونبههم عليه بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث إليهم لما قالوا : إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله وقد خاطبهم فيه بلغتهم فعجزوا عن ذلك مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن وقطع عليه السلام عذرهم به عذر غيرهم كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم ولا تطمع فيه خواطرهم وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء الذين قد برعوا في معرفة العقاقير وقوى ما في الحشائش وقدر ما ينتهي إليه علاجهم وتبلغه حيلهم بإحياء الموتى بغير علاج وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك مما بهرهم به وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم وما يصلون إليه بحيلهم
وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه و سلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله وقطع به عذرهم لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم وبسطوه في خطبهم وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم ولا كانت طاعته لازمة لهم مع خصامهم وشدة عنادهم ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك ودفعوه عما يوجب طاعتهم له وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه مع طول تحديه لهم وكثرة تبكيتهم وطول مقامه فيهم ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا مع حرصهم عليه
وإذا كان هذا على ما ذكرناه علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة و السلام إلى التوحيد وإقامة الحجة على ذلك وإيضاحه لطرق إليها وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير وهو ينبع من بين أصابعه حتى رووا ورويت مواشيهم وكلام الذئب وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية وانشقاق القمر ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها وإخباره لهم عليه السلام بما تجنه صدورهم وما يغيبون به عنه من أخبارهم
ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز و جل وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم بقوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [ التغابن : 12 ] وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك وما ضمنه له من عصمته منهم بقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] فعصمه الله منهم مع كثرتهم وشدة بأسهم وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له حتى بلغ رسالة ربه إليهم مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه ومعاداة عشيرته وقصد الجميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما كانوا عليه من تعظيم أصنامهم وعبادة النيران وتعظيم الكواكب وإنكار الربوبية وغير ذلك مملا كانوا عليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته وأنه عليه السلام - لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم وأنه جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عن كافتهم
ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه و سلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حديثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه وصفات فعله وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصلح أن يؤخر عنهم البيان فيه لأنه - عليه السلام - لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله والزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته
ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء ما وقف عليه جماعتهم ولا شك في شيء منه ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج بل مضوا جميعا على ذلك وهم متفقون : لا يختلفون في حدثهم ولا في توحيد المحدث لهم وأسمائه وصفاته وتسليم جميع المقادير إليه والرضى فيها بأقسامه لما قد ثلجت به صدورهم وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم - عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها ونبههم بالإشارة على ما فيها فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها والطرق التي اختلفوا فيها ولم يقلد بعضهم بعضا في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك لما كلفوا من الاجتهاد وأمروا به فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة بمحدثهم ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته - فقد تبين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتى ثلجت صدورهم به واستغنوا على استئناف الأدلة فيه وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه و سلم من الأدلة على ذلك وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم ومن غير أن تحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه و سلم عليها ودعا سائر أمته إلى تأملها إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد بأهدى مما أتى به أو يصل من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول المشهورة في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه والاجتهاد في طلب الطرق الصحية إليه : من المحدثين والفقهاء يعلم أكابرهم أصاغرهم ويدرسون صبيانهم في كتاتيبهم لتقر ذلك عندهم وشهرته فيهم واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته
واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه و سلم من المعجزات - بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم - قد أوجب صحة أخباره ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز و جل وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم عنه وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله وصار خبره - عليه السلام - عن ذلك سبيلا إلى إدراكه وطريقا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره - عليه السلام - على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها والعرفة بفساد شبه المنكرين لها والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها ولا يجوز ذلك على شيء منها والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة باختلاف أجناسها وأنه لا يصح انتقالها من محالها والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفا
وفي كل رتبة من ما ذكرنا فوق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليست يحتاج - أرشدك الله - في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه و سلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدق محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعوا إليه وتأمل ما استشهد به على صدقه والمعرفة بأن آياته من قبل الله تعالى تدرك بيسير الفكر فيها وأنها لا يصح أن تكون من البشر بوضوح الطرق إلى ذلك ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم على النظر في آياته بخرق عوائدهم له وحلول من يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له على ما ذكرنا مما كان من ذلك موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم
وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم - أرشدكم الله - أن طرق الاستدلال بإخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دعينا إلى معرفته وما لا يدرك بالحواس - أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كان أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها لبعدهم عن الشبهة كما ذكرناه وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد عليه لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه فأخلدنا سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه و سلم في ما دعاهم إليه من العلم بحذفهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما ادعوا إلى معرفته منهم والعدول عن كل ما خالفها لثبوت نبوته عليه السلام عندهم وثقتهم بصدقه في ما أخبرهم به عن ربهم لما وثقته الأدلة لهم فيه وكشفته لهم العبرة وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة - ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع - من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدث العلم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز مجيئهم في العقول وغلط من دفع لك وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم - لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقتهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم فلما كان هذا واجبا لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه و سلم والاحتياط في عدالة الرواة لها - واجبا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين
لذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرصا على معرفة الحق من وجهه وطلبا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى من يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك ولما كلفهم الله عز و جل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه و سلم طريقا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله تعالى ستره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام والمبلغين عنه كما حفظ كتابه حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه أو تسكين حرف متحرك إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله عز و جل من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله لجميعهم طرق الدين وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين
ودل على ذلك بقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3 ]
وليس يجوز أن يخبر الله عز و جل عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم به الدين وبين النبي صلى الله عليه و سلم معنى ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله ومفارقته لهم صلى الله عليه و سلم بقوله : اللهم هل بلغت ؟
فلو كنا نحتاج مع ما كان منه - عليه السلام - في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغا إذ كنا نحتاج إلى المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز ولو كان كذلك لعارضه المنافقون وسائر المرصدين لعداوته في ذلك ولم يمنعهم مانع كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات ومجادلته في سائر الأوقات ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى الطعن لأنه عليه السلام لم يدع شيئا مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده أو مثل فعله كذا إلا وقد بينه لهم
ويزيد هذا وضوحا قوله عليه السلام [ إني قد تركتكم على مثل الواضحة : ليلها كنهارها ] وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ ولا طعن لمبتدع إذ كان - عليه السلام - قد أقام الدين بعد أن أرسى أوتاده وأحكم أطنابه ولم يدع النبي صلى الله عليه و سلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعنا عليه ثم مضى - صلى الله عليه و سلم - محمودا بعد إقامة الحجة وتبليغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة حتى لم يحوج أحدا من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته
بل قد قال - عليه والسلام - في المقام الذي لم ينكتم قوله فيه لاستحالة كتمانه على من حضره أو طي شيء منه على من شهده : إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي ولعمر إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل والبرء من كل داء معضل وإن في حراستهما من الباطل - على ما تقدم ذكرنا له - آية لمن نصح نفسه ودلالة لمن كان الحق قصده )
قال : ( وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به وقوة ما عرفوا الحق منه فإذا كان ذلك ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم والعدول عما كانوا عليه معهم وبالله التوفيق وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة لطرق استدلالهم وصحة معارفهم فلنذكر الآن ما اجتمعوا عليه من الأصول

تعليق ابن تيمية
قلت : الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } [ الطور : 35 ] فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لبا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة : إما بإخبار يفيد العلم الضروري أو غير ذلك من العلوم الضرورية
وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى : { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } [ مريم : 67 ] { قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } [ مريم : 9 ]
ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة والطائر من بيضة والثمر من شجرة والشجرة من نواة والسنبلة من حبة ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء بل استحال
وقد تنازع الناس في هذا الموضع فقال طائفة من أهل الكلام : هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال كالاجتماع بعد الافتراق والافتراق بعد الاجتماع وأت تلك الجوهر باقية ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها ولكن تغيرت صفاتها وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
وهؤلاء يقولون : إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها فلا نعلمه إلا بالاستدلال
والذي ذكر الأشعري أولا مبني على هذا الأصل وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم وهذا من بقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية بعد رجوعه عن مذهبهم وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة
وجمهور العقلاء من أصناف الناس - أهل النظر والفلسفة وغيرهم - يقولون : إن هذا باطل وإن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم وكما يشهد ذلك وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية مع جمهور الفلاسفة وقالت طائفة من الفلاسفة وغيرهم : بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة : وهي هيولى مشتركة بينها هي بعينها باقية لم تتبدل وإنما تبدلت الصورة وتلك الهيولى جوهر عقلي
وجمهور العقلاء أيضا ينكرون ذلك وذلك أن المني إذا صار حيوانا والماء هواء والهواء ماء ونحو ذلك فالجسم الثاني له عين وصفات وليس عين الأول ولا صفاته وإنما يشتركان في النوع وهو : أن هذا له قدر وهذا له قدر وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال ولكن ليس عين القدر هذا هو عين قدر هذا ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه وذلك عرض له والقابل للاجتماع - الذي هو القائم به هو هو ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر وهو كالشمع التي تختلف صورها وهي هي بعينها وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها فنفس العين - التي هي الجوهر والجسم - باقية وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت لم تتغير الحقيقة
ولفظ ( الصورة ) لفظ مشترك : يراد بالصورة الشكل والهيئة كصورة الخاتم والشمعة والمادة الحامية لهذه الصورة هي الجسم بعينه
ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور وهذا الجسم المتصور ليس له مادة تحمله فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعا في الجسم قائما بنفسه لكن خلق من مادة كما خلق الإنسان من المني وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها بل تفنى وتعدم شيئا فشيئا وهذا هو العدم المشهود في الأعيان فإن الله تعالى كما ينشئ ما يخلقه شيئا فشيئا فينفي ما يعدمه شيئا فشيئا وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
وإذ كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث لله تعالى
وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال : ( بإثبات الأعراض أولا وإثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا ) وقد وافقهم عليها اكثر الأشعرية وغيرهم وهذه هي التي ذمها الأشعري وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين مبتدعة لا حاجة إليها لطول مقدماتها وغموضها وما فيها من النزاع
وهذا هو الذي قصدناه وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة وأما بطلانها فذاك مقام آخر ليس في كلامه تعرض لذلك ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق

كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام
قال الشهرستاني في مسألة حدوث العالم : ( وللمتكلمين طريقان في المسألة : أحدهما : إثبات حدوثه والثاني إبطال القول بالقدم أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الأعراض ) - كما تقدم ذكره - قال : ( وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال فقال : لو قدرنا قدم الجوهر لم يخل من أمور : إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمعا وبعضها مفترقا وبالجملة ليس يخلو من اجتماع وافتراق وجواز طريان الاجتماع والافتراق عليها أو تبدل بعضها ببعض وهي بذاتها لا تجتمع ولا تفترق لأن حكم الذات ل يتبدل فلا بد إذا من جامع فارق )
قال : ( وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني هذه الطريقة فكساها عبارة أخرى )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة : إنما أراد بها امتناع قدم جميع الجواهر فهي مبنية على إثبات الجوهر الفرد حتى يمكن أن يفرض إمكان اجتماع الجواهر وافتراقها وإلا فإذا قيل : إن من الأجسام ما هو واحد في نفسه أو كل جسم متشابه فهو واحد في نفسه أو قيل : إنه مركب من المادة والصورة - لم يلزم الافتراق فيما هو واحد في نفسه ولا يسلم المنازع إمكان افتراق كل جسم فيمنع قوله : ( لا يخلو من اجتماع وافتراق وجواز طريان الاجتماع والافتراق ) بل ويمكن مع هذا أن يقال : هي مركبة من الجواهر ويمنع قبول كل منهما للافتراق لكن يبنيه على أن الجواهر متماثلة فما جاز على أحدهما جاز على الآخر
ولا ريب أن تماثل الجواهر والأجسام : إن سلمه المنازع كان القول بحدوث الأجسام كلها ظاهرا فإن منها ما هو حادث قطعا فيكون جميعها قابلا للحدوث وما قبل الحدوث لم يكن بنفسه موجودا فلا بد له من صانع وهو الذي سماه جامعا فارقا
لكن هم يقولون : إن الحادث المعلوم حدوثه هو الأعراض وحينئذ فلا يكون في الجواهر ما يعلم حدوثه إلا بالدليل وإن أراد به امتناع قدم بعض الجواهر فهذا لا ينازعه فيه من يقول : إن الأعيان المحدثة جواهر وهم اكثر العقلاء فإنه من المعلوم بالاضطرار حدوث ما يشهد حدوثه من الحيوان والنبات والمعدن لكن من يقول بأن الأجسام مركبة من جواهر قد يقول : إن المحدث تأليف وتركيب وهي أعراض وأما جمهور العقلاء فيقولون : إن المحدث المشهود جواهر قائمة بأنفسها
فالمقصود أن من قال : الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فهذه الحجة توجب أنه لا بد لذلك التركيب من مركب
وكلام الأشعري - الذي ذكره الشهرستاني - مبني على هذه الأصل ومن نازع في ذلك لم يفده شيئا
وإذا دلت هذه الحجة فإنما تدل على حدوث التركيب الذي هو عرض لا تدل على حدوث الجواهر إلا بالطريقة الأولى وهي إثبات حدوث التركيب وامتناع حوادث غير متناهية وهذه الطريقة تسلكها الكرامية ونحوهم ممن يقول : إن الله جسم قديم أزلي وإنه لم يزل ساكنا ثم تحرك لما خلق العالم ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة فهي تقبل الاجتماع والافتراق ولا تخلو من اجتماع وافتراق وهي أعراض حادثة لا تخلو منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق ولكنه لم يزل ساكنا والسكون عندهم أمر عدمي وهو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وهؤلاء يقولون : إن الباري لم يزل خاليا من الحوادث حتى قامت به بخلاف الأجسام المركبة من الجواهر المفردة فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق

بقية كلام الشهرستاني
قال الشهرستاني : ( وربما سلك أبو الحسن طريقا في حدوث الإنسان بكونه من نطفة أمشاج وتقلبه في أطوار الخلقة وأكوار الفطرة وليس يشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل صفاته : لا الأبوان ولا الطبيعة فتعين احتياجه إلى صانع مدبر قال : وما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل لاشتراك الكل في الجسمية )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة هي المتقدمة التي ذكرها الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي مبنية على أنه أثبت حدوث الإنسان بما فيه من اختلاف الصور والهيئات ولهذا قال : إنه سلك طريقا في إثبات حدوث الإنسان فجعل حدوثه هو المدلول وجعل الدليل اختلاف الصور عليه وقد جعل الصورة الحادثة دليلا على حدوث المتصور ولا بد في هذه الطريقة من بيان امتناع حوادث لا أول لها فهذه الطريقة من جنس طريقة الأعراض لكنها أخص دليلا ومدلولا فإن الهيئات أخص ومدلولها إنما هو حدوث ما حدثت هيئته ودليل أولئك يعم ولكن الأشعري عدل عن طريقة غامضة إلى طريقة واضحة وهذه الطريقة هي التي يسميها الرازي وأمثاله : الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض القائمة بالأجسام فإنهم يقولون في الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في ( نهاية العقول ) وغيره

كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في ( الأربعين )
وقال في النهاية : ( اعلم أن الاستدلال على ما يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة والمعلوم بالضرورة : الأجسام والأعراض القائمة بها وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة )
وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم
وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين لم يسلكها السلف الصالح وذكر أنها خطرة مبتدعة وأنه لا حاجة إليها
قال الرازي : والثاني : ( الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى )
قال : ( وهذه عمدة الفلاسفة )
قلت : هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه ليست طريقة قدماء الفلاسفة وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات الذين بين الناس فساده وتناقضهم فيه وهو طريقة التركيب الذي يقولون : إن المتصف بالصفات مركب والمركب مفتقر إلى أجزائه قد تكلمنا عليها في مواضع
قال الرازي : ( والمسلك الثالث : الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة قديمة أو حادثة )
قلت : وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد بين الناس فساد هذه الحجة وبين الرازي نفسه فسادها بل وجمهور العقلاء على فسادها وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقي في القلب شبهة
قال الرازي : ( والمسلك الرابع : الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء أنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليها فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول في حدوث الصفات )
قال : ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي ان لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
قلت : قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح لكن الرازي قصر فيه من وجهين : أحدهما : أنه لا يستدل بنفس الحدوث بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث ثم يقول : والممكن لا بد له من مرجح وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث فجعل القديم الأزلي ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا
وابن سينا وأتباعه يوافقن الناس على ذلك لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك وأنه على هذا التقدير لا ينفي لهم دليل على إثبات واجب الوجود
الوجه الثاني : إنه جعل ذلك استدلالا بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها وحركتها وسكونها وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم أو حدوث غير ذلك من الأعراض فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض
وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله فجعلوا الصور كلها جواهر كما جعل أولئك الصور كلها أعراضا وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات : كالخاتم والدرهم والسيف والسرير والبيت والثور ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه فوجدوها مركبة من مادة كالفضة ويسمونها أيضا الهيولى والهيولى في لغتهم معناه المحل وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل ومن صورة وهي الشكل الخاص وهذا نظر صحيح
ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك وأن النار والهواء والتراب لها أيضا مادة هي هيولاها ومنهم من قال : جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب صناعية وطباعية وكلية وتنازعوا : هل تنفرد المادة الكلية عن الصور فتكون الهيولى مجردة عن الصور ؟ على قولين :
وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطون وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو
والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل
والذين قالوا : إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا والذين قالوا : إن جميع الصور جواهر أخطأوا بل الصورة قد تكون عرضا كالشكل والصور الصناعية من هذا الباب
وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه ليس قائما بجوهر آخر
والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضا والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن
ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين : أحدهما : أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان كما جعله الرازي وغيره
لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع فكان دليلا صحيحا في نفسه وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان
الثاني : ما ذكره الأشعري حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام
وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء بل يبينون فسادها بصريح المعقول فهي من جنس طريقة المعتزلة
لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة الكثيرة المقدمات الغامضة التي يقع فيه نزاع فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك فكانت هذه أقرب وأيسر فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة من جنس بحوثه معهم في غير ذلك من أصولهم فإنه يبين تناقضهم ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم ولكن سلم لهم أصولا وافقهم عليها مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم : أن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول
ولهذا قال من قال : بقيت عليه بقية من الاعتزال وقالوا : إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل

كلام أبي نصر السجزي في الإبانة
وهذا ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال : حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذ خلف المعلم كان من فقهاء المالكيين قال : أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول )
قال أبو نصر : ( وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره )

تعليق ابن تيمية
قلت : ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة كمسألة الرؤية والقرآن والصفات ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع فإن هذا أصل أصولهم كما قد بينا كلام أبي الحسين البصيري وغيره في ذلك وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامهم في أصول الدين هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه وجاء كثير من أتباع المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة - حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة وقالوا : ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى وإنما خلافهم مع المجسمة وكذلك قالوا في القرآن : إن القرآن الذي قالت به المعتزلة : إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم
والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل ومكابرتهم للضروريات
وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول من قول المعتزلة كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك فإنه كما إن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية
ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل الكتاب وهؤلاء أهل أوثان فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد وأيضا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقا
مثال ذلك : أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية وقالت لهم المعتزلة : رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة كطائفة من أصحاب أحمد وغير هم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه و سلم وبإجماع السلف من أهل العصر الأول ويمكن تقريرها أيضا بالعقل كما بيناه في غير هذا الموضع فلا يخلو من ذلك : إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة وإما أن لا يمكن فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة وإن لم يمكن كانوا بين أمرين : إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو المتضمن معنى المقابلة والمواجهة
وهذا أولى بأتباع الأشعري لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره بل وقول الأشعري أيضا وغيره من قدماء الأصحاب
فإن قال له المعتزلي : إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزا وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن الأشعري أن يقول له : إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان مكنا انقطع المعتزلي وإن لم يكن ممكنا قال له : أنا وافقتك على نفي التحيز لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز هو محدث لما اتفقنا عليه من التحيز لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة فيصح عليه الاجتماع والافتراق ويصح عليه الحركة والسكون وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء وما كان مستلزما لما له انتهاء كان له ابتداء فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع
فيقول الأشعري : هذا الدليل إن كان صحيحا ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضا صحيح أمكن أن أقول بموجب ذلك وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة مع موافقتي للكتاب والسنة أولى من موافقتك على هذه المقدمة وهي امتناع وجود ما لا يتناهى فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان فللفلاسفة فيها قولان وللمعتزلة فيها قولان وللأشعرية فيها قولان ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان
وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة ولكن منهم من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي
والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها
ويقول له : وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن مبنيا عليها فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفا عليها ولا علمي أيضا بصدق الرسول موقوفا عليها ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها
وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد عليها فإن تلك الطرق صحيحة عقلية لا يمكن عاقلا أن ينازع فيها فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم الحس وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل بل العقل الصريح يعلم العقل افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها إلى سائر نافي هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه كما قد بسط في موضعه
وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب

فصل
ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم قد طعن فيها جمهور العقلاء فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وذموا أهل الكلام بها كذلك طعن في حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها وإن كان أولئك المعتزلة و الأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر

كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام
فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير وقد قال أبو القاسم بن عساكر في كتابه المعروف ب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الأشعري : فإن قيل : ( غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه متكلم وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى وأنتم تنتسبون إلى مذاهبه فهلا اقتديتم في ذلك به )
ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي حدثني بشر ابن الوليد سمعت أبا يوسف يقول : من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غريب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروي هذا أيضا عن مالك بن أنس وقال : قال البيهقي : وإنما يريد - والله أعلم - بالكلام كلام أهل البدع فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد )
قال ابن عساكر : ( وأما قول الشافعي : فأخبرنا فلان - وذكر من كتاب مناقب الشافعي لـ عبد الرحمن بن أبي حاتم : ثنا يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : لأن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه - سوى الشرك - خير له من الكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال : قال أبو ثور : سمعت الشافعي يقول : ما تردى أحد بالكلام فأفلح
وقال ابن أبي حاتم : ثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال : إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا )
وروي أيضا ( عن ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد )
قال ابن عساكر : ( فإنما عنى الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي )
قال : ( وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر ولذلك حكم بالتبديع ويدل عليه ما أخبرنا فلان ) وروى بإسناده ( عن محمد بن إسحاق بن خزيمة : سمعت يونس بن عبد الأعلى : يقول : جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال : غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام )
قال : ( فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله )

تعليق ابن تيمية
قلت : حفص الفرد لم يكن من القدرية وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي وهو من المثبتين للقدر لكنه من نفاة الصفات وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية

كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية
وقد ذكر الأشعري في ( المقالات ) فقال : ( ذكر الضرارية - أصحاب ضرار بن عمرو - : والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله : إن أعمال العباد مخلوقة وإن فعلا واحدا لفاعلين أحدهما خلقه وهو الله والآخر اكتسبه وهو العبد وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة وهم فاعلون لها في الحقيقة وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع وأن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله كالألم الحادث عن الضربة وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة فعل لله - سبحانه - وللإنسان وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر : أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه )
وقال : ( وكان يزعم أن الله يخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين يرون بها ماهيته - أي ماهو - )
قال : ( وقد تابع على ذلك حفص الفرد وغيره )
فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة
وأعدل من قول الأشعري حيث جعل العبد فاعلا حقيقة وأثبت استطاعتين ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث كما هو مذكور في موضعه

عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن عساكر : ( فأما الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء )
وروي عن ابن خزيمة : ( سمعت الربيع يقول : لم كلم الشافعي حفصا الفرد فقال حفص : القرآن مخلوق قال له الشافعي : كفرت بالله العظيم )
وعن الربيع : ( قال : حضرت الشافعي - أو حدثني أبو شعيب - ألا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال : ما تقول في القرآن ؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه فكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي واحتج عليه فطالت فيه المناظرة فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد قال الربيع : فلقيت حفصا في المسجد بعد فقال : أراد الشافعي قتلى )
وروي عن الشافعي : ( قال : ماناظرت أحدا أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمره للناس )
( قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده )
( وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال : دخل حفص الفرد على الشافعي فقال لنا : لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل و أصحابه وكان يقول بخلق القرآن )
قلت : حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم فإن القرآن كلام والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم والجسم محدث فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا لم تكن مناظرته له في القدر ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن : هل هو مخلوق أم لا ؟
وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من مثبته وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال : ( وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال : بشيء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ] - الحديث أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا : نترك القول بالأخبار أصلا وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في ترك أنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة وكانوا لا يتسمون بتسميتهم )
قال : ( وإنما يعني - والله أعلم - بقوله : من ارتدى بالكلام لم يفلح كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها )
قال : ( فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل )
إلى أن قال البيهقي : ( وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم )
قال : ( وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس استاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء )
وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان عن ابن وهب : ( قال : قال مالك : كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه
قال : وكان بصيرا بالكلام وكان يرد على أهل الأهواء وكان من علم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء
وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم : سمعت أبا بكر بن عبدالله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضيل البجلي يقول : دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه فأجاب إلى ما سأله وكان أول ما قال لي علي تكتب عن المرتدين ؟ فقلت : معاذ الله ما أنت بمرتد وقد قال الله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها فقال : أشدها علينا : أن قال لنا : ما تقولون في عيسى صلى الله عليه و سلم ؟ قلنا : من عيسى يا أمير المؤمنين ؟ قال : عيسى بن مريم قلنا : رسول الله قال : وكلمته ؟ قلنا : نعم قال : فما تقولون فيمن قال : ليس عيسى كلمة الله ؟ قلنا : كافر يا أمير المؤمنين قال : فقال لنا : أليس عيسى كلمة الله ؟ قلنا : بلى قال : أفمخلوق أم غير مخلوق ؟ قلنا : مخلوق قال فمن زعم أنه غير مخلوق ؟ قلنا : كافر يا أمير المؤمنين قال : فما تقولون في القرآن ؟ قلنا : كلام الله عز و جل قال : مخلوق أو غير مخلوق ؟ قلنا : غير مخلوق قال : فمن زعم أنه مخلوق ؟ قلنا : كافر قال فمن زعم ؟ أن عيسى غير مخلوق وهو كلمة الله ؟ قلنا : كافر قال : يا سبحان الله : عيسى كلمة الله ومن نفى الخلق عنه كافر ! والقرآن كلمة الله ومن يثبت الخلق عليه كافر ! قال الحسين : فأعلمته ما يجب من القول وقلت له : قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم : إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون فتعلموا ذلك مني فتحملكم الرياسة على ترك ذلك ويقول لكم : يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة فتأبون ذلك والحجة في هذا الباب كيت وكيت
فقال : والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون وأن ثلث روايتي ساقطة عني ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه فقال له : وأنا أقول كما تقول فقال لي زهير : فعلم ابني فإنه حدث فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك ثم انصرفت قال الحاكم : الحسين بن الفضل البجلي صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام ه )
قلت : هذه الحكاية وقع فيها تغيير أن كان أصلها صحيحا فإن زهير بن حرب و يحيى بن معين ونحوهما ممن امتحن في زمن المحنة لم يجتمعوا بالمأمون ولا ناظرهم بل ذهب إلى الثغر بطرسوس وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن أبراهيم ين مصعب أن يمتحن الناس فامتنعوا من الإجابة فكتب إليه كتابا ثانيا يغلظ فيه ويأمر بقتل القاضيين : بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء فامتنع من الإجابة سبعة منهم : زهير بن حرب وبقي أحمد بن حنبل و محمد بن نوح لم يجيبا فحملا إليه مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه
وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك لم يختلفوا في ذلك فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب فلعل ذلك كان من غير المأمون ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل وكان ذلك في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها : من الجهمية والمعتزلة والنجارية : مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع
وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية وهو في الحبس قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة ك أحمد بن حنبل وأمثاله

كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن
قال أحمد فيما كتبه : ( ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال : أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق فقلنا : أي آية ؟ قال : قول الله عز و جل : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } وعيسى مخلوق فقلنا : إن الله منعك الفهم في القرآن : إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنه يسمى مولودا رضيعا وطفلا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له ( كن ) فكان عيسى صلى الله عليه و سلم بكن فعيسى ليس هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قول وليس الكن مخلوقا
وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا : عيسى روح الله وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة وقالت النصارى : عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال : إن هذه الخرقة من هذا الثوب قلنا نحن : إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة وأما قول الله تعالى : { روح منه } يقول : من أمره كان الروح فيه كقوله : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } يقول : من أمره وتفسيره روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله كما يقال : عبد الله وسماء الله وأرض الله )
فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة والنصارى الحلولية ضلوا في هذا الموضع فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا : هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك من نفيهم والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله كما فعلت النصارى في المسيح ومن جمع بين النفي والحلول كحلولية الجهمية : مثل صاحب الفصوص وغيره قالوا : ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له كما أن صفات المخلوق حق الله )
فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق ويصفون الخالق بكل ما يوصف به المخلوق فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك
ولفظ ( الكلام ) مثل لفظ : الرحمة والأمر والقدرة ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيرا كما يقولون : درهم ضرب الأمير
ومنه قوله تعالى : { هذا خلق الله } : أي مخلوقه ؟ فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر كقوله : { أفعصيت أمري } { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } { ذلك أمر الله أنزله إليكم }
ويراد به المأمور به كقوله تعالى : { وكان أمر الله قدرا مقدورا } { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } فالأول هو كلام الله وصفاته والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه
وكذلك لفظ ( الرحمة ) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه : الرحمن الرحيم كقوله تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } ويراد بها ما يرحم به عباده من المخلوقات كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ]
وقوله [ عن الله تعالى : يقول للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ]
وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة كقوله تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وقوله : { يريدون أن يبدلوا كلام الله }
ويراد به ما فعل بالكلمة كالمسيح الذي قال له ( كن ) فكان فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في الآدميين فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين كما خلق آدم وحواء أيضا على غير الوجه المعتاد فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين
وفي هذا الباب باب المضافات إلى الله تعالى ضلت طائفتان : طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك كإضافة البيت والناقة إليه وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم حتى ابن عقيل و ابن الجوزي وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك وقالوا : هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى ب نفي التشبيه وإثبات التنزيه وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة
وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة ويقولون بقدم الروح فمنهم من يقول بقدم روح العبد لقوله : { ونفخت فيه من روحي } وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى
ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كطائفة من أهل طبرستان وجيلان وأتباع الشيخ عدي وغيره
وطائفة ثالثة تقف في روح العبد : هل هي مخلوقة أم لا ؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية كالوجه واليد والروح وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين وهؤلاء الطائفتان أيضا يضلون في المضاف بمن فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف كقوله تعالى : { ولكن حق القول مني } وقوله تعالى : { وروح منه } فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه ثم يقةل النفاة : والروح مخلوقة بائنة عنه فالقول مخلوق بائن عنه ويقول الحلولية : القول صفة له ليس لمخلوق فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة
والفرق بين البابين : أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره
فقوله تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } وقوله في عيسى : { وروح منه } وقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين : أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم : سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله
والوجه الثاني : أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات وأن تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلا عن المكروهات وكما يقال عن مال الفيء والخمس : هو مال الله ورسوله
ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته
وكذلك كلماته نوعان : كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعيذ بها في قوله : [ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ] فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها كما عصاها إبليس ومن اتبعه
والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئا إضافة تخصيص إلا لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة
ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به كقولهم : بقدرته أو بنعمته أو أن المعنى : خلقته أنا أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء
وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك لوجهين : أحدهما : أنه صفة والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق الثاني : أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاما له ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه كما فعل ذلك حلولية الجهمية كابن عربي وغيره حيث قالوا :
( وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه )
ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه كما أضاف إليه البيت والناقة بقوله تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } وقوله : { ناقة الله وسقياها } لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فإنما حدث بكلام الله تعالى
والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] هل المراد بها : الكلمة التي شرعها الله وهي عقد النكاح ؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك ؟
والصواب أن المراد بقوله : كلمة الله كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه لا العقد الذي هو كلام العباد ومن قال إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة قد بسطناها في غير هذا الموضع وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به وقدر أنه حصل نزاع في قوله : { وكلمة الله هي العليا } هل المراد : الكلمة التي يحبها ويأمر بها ؟ أو الكلمة التي تكلم بها وهي نفس أمره وخبره ؟
وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ] فمن قال : المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله ولو قدر أن قائلا قال : أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب ولا يكون لله عز و جل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده
ثم قول القائل : الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامرا غير المأمور به وكلاما هو نهي غير المنهي عنه وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه
وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه و سلم : [ واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] أنها كلمته التي تكلم بها
وكذلك قوله تعالى : { وكلمة الله هي العليا }
هي كلمته التي تكلم بها وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل وقد تمت كلماته صدقا وعدلا
فالكلام له نسبة إلى المتكلم به وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه وهو المأمور به والمخبر عنه فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به
ثم ما أخبر به عن نفسه مثل قوله تعالى : { قل هو الله أحد } وآية الكرسي وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه وذكر فيه أحوالهم كقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم
وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون : إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه بناء على أنه قديم والقديم لا يتفاضل
ويتأولون قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } أي خير لكم وأنفع والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة : إن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل على ذلك الشرع والعقل
ففي الحديث الثابت [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى : لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ] ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه ليس في القرآن لها مثل فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله
وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب : أتدري أي آية في كتاب الله أعظم : فقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب بيده في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن : { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن
وذلك أن القرآن : إما خبر وإما إنشاء والخبر : إما خبر عن الخالق وإما عن المخلوق فثلثه قصص وثلثه أمر وثلثه توحيد فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار
وأيضا فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه فإن كلامه الذي وصف به نفسه وأمر فيه بالتوحيد أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه وأمر فيه بما هو دون التوحيد
وأيضا فإذا كان بعض الكلام خيرا للعباد وأنفع لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه لا يكون ثواب أحدهما أكثر ولا نفعه أعظم
والمقصود هنا شيئان : أحدهما : أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي و ابن عساكر وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع وقالوا : إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم قام جماعة من أئمتنا وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يسمون تسميتهم وإنما يعني بقوله ( من ارتدى بالكلام لم يفلح ) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل
قلت : وهذا اتفاق من علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف : كلام من يترك الكتاب والسنة ويعول في الأصول على عقله فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله ؟ ! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك
وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة فإن المعتزلة لا تقول : إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون : إنها تفيد اليقين ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء
الثاني : أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به فإن المعتزلة يقولون : الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال وهي حادثة فكان يكون محلا للحوادث وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم
وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر فإن حفصا لا ينكره وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال المبني على دليل الأعراض
وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام كان متناولا لكلام الجهمية وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم فإن مناظرته للجهمية ورده عليهم أشهر وأكثر من أن يذكر هنا وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو على قول حسين النجار - والنجار من المثبتة للقدر - وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18