كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

فصل طرق معرفة الله كثيرة ومتنوعة
ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعه صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك وهذا غلط محض وهو قول بلا علم
فإنه من أين للإنسان انه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق ؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة فلا بد من دليل يدل عليه وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على ان للمعرفة طرقا أخرى وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة
وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا بحدوثه وحدوث غيره وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم والجوهر والمحدود والمركب وغير ذلك من العبارت وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الصفات محدثا
والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وكذلك لم يسلكها كثير من اهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه
ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود

طريقة ابن سينا
وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولولن إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجبا بنفسه لا ينافي ذلك كما لا ينافي عندهم جميعا كونه قديما
ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدوم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقا غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية وأن لها محركا يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث وهو لا يقول بحدوث العالم فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث فقسمه هو إلى واجب وممكن وأثبت الواجب بهذا الطريق ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم
وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم ثم تناقض هنا كما قد بسط في غير هذا الموضع

عودة إلى كلام ابن سينا
ونحن ننبه عليه هنا فقوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا أو قرن شرط وجود علته صار واجبا واما إن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود غما واجب الوجود بذاته وغماممكن الوجود بحسب ذاته

التعليق على كلام ابن سينا
فيقال اما كون الموجود ينقسم إلى واجب وهو الواجب بنفسه ن وإلى ممكن وموجود بغيره وأن الموجود بغيره لا بد له من موجود بنفسه فهذا كله حق وهي قضايا صادقة
وأما كون الممكن بنفسه له ذات يعتقب عليها الوجود والعدم وأنها مع ذلك قد تكون أزلية واجبة بغيرها كما يقوله ابن سينا وموافقوه فهذا باطل عند العقلاء قاطبة من الأولين والآخرين حتى عند ابن سينا مع تناقضه

الاعتراض على ما سبق من وجوه

الوجه الأول
قوله إن قرن باعتبار ذاته شرط صار ممتنعا أو واجبا وإن لم يقرن بها شرط بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان يقتضي إثبات ذات لهذا الممكن تكون تارة واجبة وتارة ممتنعة وهذا يقتضي أن الكل ممكن ذاتا مغايرة لوجوده وأن تلك الذات يمكن اتصافها بالوجود تارة والعدم أخرى وهذا باطل سواء أريد به قول من يجعل المعدوم شيئا من المعتزلة ونحوهم أو قول من يجعل الماهيات النوعية في الخارج مغايرة للوجود في الخارج كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والكلام على فساد هذين مبسوط في غير هذا الموضع
وهو لم يذكر هنا دليلا على صحة ذلك ومجرد ما ذكره من التقسيم لا يدل على وجود الإقسام الثلاثة في الخارج فيبقى دليله غير مقدر المقدمات
وهذا مما يسلكه أمثال هؤلاء يذكرون أقساما مقدرة تقديرا ذهنيا ولا يقيمون الدليل على إمكان كل من الأقسام ولا وجوده وإنما يذكرون مجرد تقدير ذلك ويبنون على ذلك التقدير بناء من قد أثبته في الخارج وهو لم يثبتوه في الخارج كما ذكرنا نظائر ذلك في مواضع
والمقصود هنا أن قول القائل : كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما واجب وإما ممكن إنما يصح إذا علم أن الموجود في الخارج له ذات يمكن أن لا يلتفت معها إلى غيرها ليقال إن تلك الذات إما واجبة وإما أن يجب لها الوجود وإما أن لا يجب
وأما إذا كان لا شيء في الخارج إلا الموجود : إما بنفسه وإما بغيره فالموجود بغيره إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيره فلا ذات له يمكن الالتفات إليها حتى يقال : إنها ممكنة قابلة للوجود والعدم بل هذا الذي قدر انه موجود بغيره إذا لم يلتفت إلى غيره فلا حقيقة له أصلا : لا وجود ولا غيره ولا هناك ما يكون ممكن الوجود أصلا
فهذا التفسير لا يصح الاستدلال به إلا بعد إثبات ذات محققة في الخارج مغايرة لما هو في الخارج من الوجود ولما لم يثبت هذا القسم كان الاستدلال باطلا
وإذا قيل : قد قرر هذا في غير هذا الموضع
قيل الجواب من وجهين :
أحدهما أنه قد بين أيضا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره
الثاني : أنه بتقدير أن يقرره فلا ريب أن هذه المقدمة ما ينازع فيه كثير من العقلاء بل أكثرهم وهي مقدمة خفية تحتاج إلى بيان
ومتفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي حائرون فيها فالرازي له فيها قولان والآمدي متوقف فيها وأهل الإثبات قاطبة كالأشعري وغيره متفقون على بطلانها فكيف تكون مثل هذه المقدمة في إثبات واجب الوجود الذي وجوده أظهر وأعرف من هذه المقدمة وهل الاستدلال على القوي بالضعيف إلا كتحديد الجلي بالخفي وهذا إذا كان في الحدود مردودا فهو في الأدلة أولى بالرد

الوجه الثاني
أن هذا باطل على كل قول أما على قول نظار السنة يقولون : وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فظاهر وأما على قول القائلين بأن المعدوم شيء المفرقين بين الوجود والثبوت فإنهم لا يقولون ذلك إلا في المعدوم لا يقولون إن الموجود القديم ثبوته يقبل الوجود والعدم بل قد يقولون إن ماهية القديم مغايرة لوجوده لكن لا يقولون إنها تقبل الوجود والعدم ففي الجملة لا يتصور عندهم ماهية متسلزمة للوجود تقبل الوجود والعدم
وأما على قول متأخري الفلاسفة الذين يجعلون وجود الممكنات زائداص على ماهياتها فتلك الماهيات إنما تتحقق في حال الوجود لا يمكن تجردها عن الوجود إلا يتصور أن يكون عندهم ماهية هي نفسها تقبل الوجود والعدم فإثبات ماهية تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك مستلزمة للوجود ليس قول أحد من الطوائف

الوجه الثالث
أن هذا باطل فإنها إذا كانت مستلزمة للوجود امتنع أن تقبل العدم وإن كان عدمها ممكنا امتنع أن تستلزم الوجود فدعوى المدعي أنها يمكن وجودها وعدمها وأنها مع ذلك تستلزم الوجود لا يمكن عدمها جمع بين المتناقضين
وإذا قيل : هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها وأما باعتبار سببها فإنه يجب وجودها
قيل : قول القائل : هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها ليس معناه أنه يجب وجودها أو عدمها بل معناه باعتبار أنها ذاتها لا تستحق وجودا ولا عدما بل لا بد لها من أحدهما باعتبار غيرها والتقدير أنها موجودة فيكون الوجود لها من غيرها واجبا والوجود الواجب ولو بغيره لا يمكن عدمه فهذه الذات الواجبة بغيرها لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه
وهب انه لولا السبب الموجب لها لعدمت لكن هذا تقدير ممتنع فإن السبب واجب الوجود بذاته وهي من لوازمه ولازم الواجب بذاته يمتنع عدمه لأن عدم اللازم يوجب عدم الملزوم فلو عدم لازم الواجب لعدم الواجب وعدمه ممتنع فعدم لازمه ممتنع فكان عدم هذه الذات ممتنعا فلا يكون عدمها ممكنا فإن الممكن نقيض الممتنع وإذا كان عدمها ممتنعا لم يكن ممكنا

الوجه الرابع
أن يقال : معلوم أنه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها
وقول القائل : علة العدم عدم العلة : إن أراد به أن عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه فهذا صحيح وإن أراد أن نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوما ن فهذا معلوم البطلان بصريح العقل فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلا ولأن ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلا ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى لأن ما يقدر عدمه لا يتناهى وكل هذا باطل فإن العدم نفي محض ليس بشيء أصلا حتى يقدر فيه علل ومعلولات
وإذا كان كذلك فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده وإلا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلا فإذا قدر وجوده واجبا بغيره وجوبا قديما أزليا لم يكن هناك ما يقبل العدم ولا يمكن أن يقرن بذاته شرط عدم علته
وهذا الاعتراض يمكن إيراده على قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فهو إما واجب وإما ممكن
فيقال إن قيل بأن الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه فإذا نظر إليه مجردا عن غيره بطلب حقيقته وكان نفيا محضا لم يكن له حقيقة بيلتفت القلب إيها ألبته
وإن قيل إن له ذاتا مغايرة للوجود فتلك الذات سواء قدر إمكان تحققها دون الوجود كما يقوله من يقول : المعدوم شيء أو فرض انه لا يمكن تحققها بدون الوجود فعلى التقديرين إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيرها لم تكن موجودة بل معدومة وانت قد فرضتها موجودة فهذا جمع النقيضين
وأيضا فهي مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضى وجوده كان ممتنع الوجود ن سواء فرض عدم ما يوجده او لم يفرض : لا وجوده ولا عدمه فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده فإذا التفت إليه مجردا عما يوجده امتنع وجوده
وإن قال القائل فرق بين التفات إليه بشرط لا أولا بشرط أو قال بشرط عدم الموجد أولا بشرط وجوده فإنه ممتنع في الأول وممكن في الثاني
قيل له : بل هو ممتنع ف يالقسمين فإذا أخذ لا بشرط كان ممتنع الوجود وكذلك إذا أخذ لا مع وجود الفاعل وذلك أنه لا يمكن وجوده إلا بالفاعل ووجوده بدون الفاعل ممتنع فإذا التفت إليه لا مع لازم وجوده كان وجوده ممتنعا والممتنع أعم من أن يكون ممتنعا بنفسه أو بغيره كما أن الموجود أعم من أن يكون موجودا بنفسه او بغيره والامتناع لا يفتقر إلى أنيقترن به شرط وهو عدم علته بل إذا لم يقترن به سبب وجوده كان ممتنعا والعقل يعقل امتناعه بدون ما يوجده وإن لم يخطر له أنه قرن به عدم علته فهو في تجرده عن الاقتران بما يوجده ممتنع كما هو في الاقتران فعدم العلة ممتنع
يبين ذلك أن عدم العلة لا شيء فاقترانه بعدم العلة اقتران بعدم محض فلم تختلف حاله بين تقدير عدم هذا الاقتران وانتفائه إلا إذا قرن به ما يقتضي وجوده وإلا فهو بدون القرين المقتضي لوجوده ممتنع معدوم وسبب هذا ان هذا الاقتران ليس هو الموجب لعدمه في نفس الأمر بل هو دليل على العدم والأدلة تتعدد والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول إلا إذا كان ملازما فالشيء إذا اخذ مع ضده كان ممتنعا ومع عدم فاعله كان ممتنعا وكل من الأمرين يدل على امتنعه وكذلك إذا أخذ بدون شرطه كان ممتنعا وبدون لازمه كان ممتنعا والمقتضى الممكن ألزم اللوازم له وأعظم الشروط ولا فرق بين أن يقدر مع انتفاء اللازم أو يقدر لا مع ثبوت اللازم فالأمر سواء هو في كليهما ممتنع إلا مع اللازم فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولهذا كل ما يقدر في الخارج فإما واجب بنفسه او بغيره وإما ممتنع بنفسه أو بغيره
فإذا قيل : هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع
قيل : ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع وإنما ذاك شيء يقدر ف يالذهن فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها وانت لم تتكلم فيما يقدر في الأذهان بل قلت : كل موجود فجعلت التقسيم واردا على الأمور الموجودة ف يالخارج وتلك إما موجودة بنفسها وإما بغيرها وليس فيها ما يمكن الالتفات إليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن مع أنه في الذهن موجودا ذهنيا

الوجه الخامس
قوله إن قرن باعتبار ذاته واجبا أو ممتنعا وغن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع
فيقال هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين فإنه لا بد أن يقترن بها حصول العلة أو عدمها 0 لا يمكن رفع النقيضين جميعا وهو حصول العلة وعدمها معا فالتقدير المقابل لهذين وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها فهو تقدير سلب النقيضين وهو رفع وجود العلة وعدمها معا وهذا ممتنع
وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا علىى تقدير ممتنع وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع فيكون الإمكان الذي أثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا بتقدير ممتنع وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعا وهذا يوضح أن هذا الإمكان أمر لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجودا تارة معدوما أخرى 0 واما ما يكون موجودا لا يقبل العدم ألبتة فليس بممكن 0 كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن مثل نقيض صفات كمال الباري فإن العجز والجهل ونحو ذلك أمور معدومة له لا تقبل الوجود ألبتة كما ان حياته وقدرته وعلمه من لوازم ذاته لا تقبل العدم ألبتة بل يجب وجودها ويمتنع عدمها وليست من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يبين هذا

الوجه السادس
وهو قوله وإن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث
يقتضي أن هذا الأمر الثالث إنما يكون له من ذاته إذا لم يقرن بها احد الأمرين ومعلوم أنه لا بد ان يقرن بها أحد الأمرين فإذا لم يكن لها الإمكان إلا في حال تجردها عن الاقتران وهي لا تتجرد عن الاقتران لم يكن لها من ذاتها إمكان أصلا فإنه جعل ما لا يمكن عدمه واجبا سواء كان واجبا بنفسه او بغيره وما كان واجبا لم يكن ممكنا وإنما يكون ممكنا إذا لم يقرن به لا سبب وجوده ولا سبب عدمه يقرر هذا

الوجه السابع
وهو أن هذا الكلام يقتضي أنها في حال اقرانها بشرط حصول العلة واجبة ليس لها من ذاتها افمكان والتقدير أنها موجودة وان الموجود إما واجب وإما ممكن وفي حال وجودها قد اقترن بها حصول العلة فلا يكون في حال وجودها لها من ذاتها الإمكان
وحينئذ فوصفها بالإمكان في حال الوجود الواجب ممتنع فبطل تقسيم الوجود الواجب إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار بخلاف تقسيم من قسمه إلى واجب وممكن وفسر الممكن بما يوصف بالوجود تارة والعدم أخرى فيكون تارة موجودا وتارة معدوما فإن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا منافاة فيه فإنها توصف بالإمكان حال عدمها لأنه يمكن وجودها وتوصف به في حال وجودها لأنه أمكن وجودها كما امكن عدمها

الوجه الثامن
أن قول القائل له من ذاته الإمكان أو ان ذاته تقبل الوجود والعدم ونحو ذلك
يقال له هذه الذات هي من حيث هي ذات مع قطع النظر عن وجودها كما فرضتم ذلك هي واجبة أو ممكنة او ممكتنعة فإن كانت واجبة أو ممتنعة بطل كونها ممكنة وإن كانت ممكنة فلا تكون ذاتا إلا آخر يجعلها ذاتا كما أنها لا تكون موجودة إلا بامر آخر يجعلها موجودة 0 بل قياس ما ذكروه أنه لا يثبت كونها ذاتا إلا بسبب ولا ينتفى كونها ذاتا إلا بسبب وهذا يفضي إلى التسلسل لأن القول فيما يوصف بكونه ذاتا كالقول فيما يوصف بكونه موجودا

الوجه التاسع
أنه إذا كانت تلك الحقيقة والذات مفتقرة في كونها حقيقة وذاتا إلى سبب فلا سبب إلا واجب الوجود وواجب الوجود يمتنع ان يجعلها حقيقة مع كونها معدومة فلا يجعلها ذاتا وحقيقة إلا مع كونها موجودة 0 وحينئذ فإذا كان وجودها واجبا به فحقيقتها واجبة به فلا تكون قابلة للعدم كما أن نفس الوجود لا يكون قابلا للعدم لما فيه من الجمع بين النقيضين

الوجه العاشر
أنه إذا قدر أن واجب الوجود لم يجعل حقيقتها 0 وهي لا تكون لها حقيقة إلا بسبب لم يكن هناك حقيقة تقبل الوجود والعدم

الوجه الحادي عشر
قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره الخ
يقال نحن إذا التفتنا إلى السماء او غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها لم نعقل إلا تلك العين الموجودة فإذا قدرنا انه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها فنحن نعقل ان الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمي هذا ممكنا كان هذا تقسيما صحيحا وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول ومخلوق وغير وخلوق 0 اما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم فهذا غير معقول في شيء من الموجودات بل المعقول انه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلا ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء
وإذا قلنا ليس له من ذاته وجود فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج فإن هذا باطل
وإذا كان كذلك وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم عند عامة العقلاء ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقا
وتسمية ما أبدعه غيره مخلوقا أحسن وأبين من تسمية هذا ممكنا إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد وأما وجد فقد خرج عن افمكان إلى الوجوب بالغير فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى وجود وعدم لا يسمونه ممكنا وإنما يسمون بالممكن شيئا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل
ثم إذا عرف أن كل ما سوى الوجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا كما قد بسط في موضعه وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود فإنه حق لكن على هذا الطريق الذي سلكه حيث أثبت ذاتا ممكنة مع كونها عنده قديمة أزلية ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق
بل إذا قيل كل موجود فإما موجود بنفسه وإما موجود بغيره والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه ثبت وجود الموجود بنفسه وإذا سمي هذا واجبا وهذا ممكنا كان ذلك أمرا لفظيا 0 لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعي أنه ذات تقبل الوجود والعدم وهؤي مع ذلك قديمة أزلية واجبة فالواجب لا يقبل العدم بحال والله أعلم
وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع ويحتاج إليها في هذا الموضع وغيره لما في القلوب من الأمراض ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام ن وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول

فصل تقرير الآمدي للمسلك الثاني
وأما المسلك الثاني فمسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص فقرره الآمدي من وجهين
الوجه الأول
أحدهما ما ذكره الرازي ثم زيفه
قال الآمدي المسلك الثاني هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها وكل ما كان كذلك فهو محدث فالعالم محدث
أما المقدمة الأولى فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين الأول انهم قالوا كل جسم من أجسام العالم فهو متناه وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين وحيز معين
أما المقدمة الأولى فلما سبق تقريره وأما المقدمة الثانية فلأن كل جسم متناه فلا بد له من مقدار معين وأن يحيط به حد واحد كالكري أو حدود كالمضلع وهو المعني بالشكل وأن يكون في حيز بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك
وهذا كله معلوم بالضرورة وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به
وبرهانه أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه أو شكل غير شكله وحيز غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص بما يخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص وهو محال
الطريق الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة أو مجتمعة ومتفرقة معا أو لا مجتمعة ولا متفرقة أو البعض مجتمعا والبعض متفرقا لا جائز أن يقال بالاجتماع والافتراق معا ولا أنها غير مجتمعة ولا مفترقة معا إذ هو ظاهر الإحالة فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخر وأي قسم منها قدر أمكن في العقل فرض الأجسام على خلافه فيكون ذلك جائزا لها ن ولا بد لها من مخصص يخصصها به لما تقدم في الطريق الأول
وأما بيان المقدمة الثانية وهو أن كل مفتقر إلى المخصص محدث فهو أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وأن يكون ما يخصصه حادثا لما تقدم في المسلك الأول يعني مسلك الإمكان فإنه قدمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره فيه وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر والأجسام لا تخلو عن الحادث فتكون حادثة فإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر والأجسام حادثة فالأعراض كلها حادثة ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر والأجسام والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض فيكون حادثا
قال الآمدي وهذا المسلك ضعيف أيضا إذ لقائل أن يقول المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق من المسلك الأول وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق في بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه

تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي
قلت هذا المسلك أضعف من مسألة الحركة والسكون فإن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس إذ كلاهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة وقد عرف ما فيه 0 وهذا يزيد باحتياجه إلى بيان أن الجسم لا يخلو عن صفات حادثة غير الحركة والسكون وهذا يخالف فيه جمهور العقلاء وهذا مبني على مقدمات على أنه لا بد من قدر أو اجتماع أو افتراق وان ذلك لا يكون إلا بمخصص وأن كل ما لا بد له من مخصص فهو محدث
أما المقدمة الأولى فجمهور العقلاء سلموا أنه لا بد له من قدر وأما كونه لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد
وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة وإن كان القول بتركيب الجسم من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أيضا أفسد من دعوى تركبه من الجواهر الفردة فكلا القولين ضعيف
ونحن في هذا المقام مقصودنا التنبيه على جوامع الطرق ومقاصدها وأما كون ما له قدر يفتقر إلى مخصص فهذا فيه نزاع مشهور 0 وذلك أن القدر صفة من صفات ذي القدر كألوانه وأكوانه وسائر ما يمكن أن يتصف به الجسم من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك فإن صفاته نوعان منها ما يختص بالأحياء مثل هذه الصفات ومنها ما يشترك فيه الحي وغيره كالألوان والقدر والطعم والريح
فإذا قال القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون قدرو على خلاف ما هو عليه كان بمنزلة أن يقول كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته 0 فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات كان تحويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون على خلاف صفاتها بل القدر من الصفات
ولهذا لما تكلم الفقهاء في مفهوم الصفة كقوله صلى الله عليه و سلم في الإبل السائمة الزكاة تكلم بعضهم في مفهوم القدر كقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فقال آخرون القدر من جملة الصفات
ولهذا كان مما احتيج به من احتج به من أهل الكلام على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم أن العالم له صفات وأقدار يمكن أن يكون على خلافها فهو مفتقر إلى مخصص لأن العالم ممكن بالاتفاق والمخصص لا يكون موجبا بالذات
وقد سلك هذا الطريق أبو المعالي في النظامية فسالكو هذه الطريقة ومنازعوهم لم يفرقوا بين القدر وسائر الصفات في إمكان القبول وعدمه والقدر المعين أقرب إلى الذات المعينة من الصفات المطلقة كما أن صفاته المخصوصة ألزم له من جنس القدر فإن نفس الجسم التعليمي الذي يقدر في الذهن لا يمكن فرضه إلا وله قدر يمكن فرضه خاليا عن جميع الصفات لنه فرض جسم شامل لجميع الأجسام ن فلهذا قدر مجردا عن جميع الصفات كما يفرض عدد مجرد عن جميع المعدودات
وكذلك ما يتخيله الإنسان من الأجسام بعد رؤيته له كتخيله الإنسان والفرس والشجر والدار والمدينة والجبل ونحو ذلك يمكنه تخيله مع عدم تخيل شيء من صفاته كألوانه وغيرها ولا يمكنه تخيله مع نفي قدره فاختصاص جنس الجسم بجنس القدر كاختصاص جنس الموصوفات بجنس الصفات واختصاص الجسم المعين بقدره كاختصاصه بصفته المعينة وحقيقته المخصوصة
وكل شيء له حقيقة تخصه وقدر وصفات تقوم به 0فهنا ثلاثة أشياء المقدار والحقيقة وصفات الحقيقة
فقول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك القدر كقوله كل موصوف يمكن وجوده على خلاف تلك الصفات وهو أقرب من قوله كل ماله حقيقة فيمكن وجوده على خلاف تلك الحقيقة
ولكن في هذا المقام يكفي أن يجعل حكم المقدار حكم سائر الصفات فلا ريب أن كيفية الموصوف وصفاته ألزم له من قدره فكيفيته أحق به من كميته فاختصاصه بقدر دون اختصاصه بصفة فالنار والماء والهواء يلزمها كيفياتها المخصوصة أعظم مما يلزمها المقدار المعين
فيقال إن أمكن أن يقرر أن كل جسم يقبل من الصفات خلاف ما هو عليه وما كان كذلك فهو ممكن أو محدث كان هذا دليلا عاما لا يختص بالمقدر وغن لم يمكن ذلك فلا فرق بين القدر وغيره
وأحد الطرق التي ذكرها إبرازي وغيره في إثبات الصانع تعالى الاستدلال بإمكان صفات الجسم أو حدوثها لم يفرق السالكون فيه بين القدر وغيره
ثم لقائل أن يقول قول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر أو كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف ونحو ذلك أتريد به الإمكان الذهني إن الخارجي ؟ والفرق بينهما أن إمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع ن فليس في ذهنه ما يمنع ذلك 0 والإمكان الخارجي معناه العلم بالإمكان في الخارج
والإنسان يقدر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها ولا يعلم أنها ممتنعة ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أخر
فإن قال أريد به الإمكان الذهني لم ينفعه ذلك لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة له
وإن قال أريد إمكان الخارجي وهو أني اعلم أن كل موصوف بصفة أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك كان مجازفا في هذا الكلام لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد 0 غايته انه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق ولأن هذا ينعكس عليه
فيقال له لم نر إلا ماله صفة فيقاس الغائب على الشاهد
ويقال كل قائم بنفسه فله صفة وقدر وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم فإن هذا لا يعلم انتقاضه
وأما قول القائل كل ماله صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده فأين القياس الذي لا يعلم افتقاده من القياس الذي لا يعلم اطراده ؟
والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له صفة وقدر وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى
ثم إن ما نشاهد من السماوات غنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة لا نعلم ذلك ضرورة ولا حسا 0 ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض 0 ولو كان هذا الجواز معلوما بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات
ثم يقال هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها فإنه يمكن أن يقال كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص
ويقال أيضا كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص
ومن المعلوم انه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أنه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم ن وموجود ممكن محدث ن فإنا نشاهد حدوث الحوادث والحادث ممكن وإلا لما وجد وليس بواجب بنفسه وإلا لم يعدم ويعلم بالضرورة أن طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب كما قد بسط في غير هذا الموضع
فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث وواجب وممكن فمن المعلوم انهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية والذات والحقيقة وغير ذلك ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره
بل من المعلوم بالضرورة إن الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره ن فإن كان كل مختص يفتقر مباين له افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مباين له فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات بلا واجب
وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة فلم يذهب إليه احد من العقلاء بل غاية الدهري المعطل الكافر أن يقول : العالم قديم واجب الوجود بنفسه لا يقول : إنه ممكن محدث ليس له مبدع وإذا قال الدهري إن العالم واجب الوجود بنفسه لزمه أن الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره كالحوادث من الحيوان والنبات والمعدن
ففي الجملة كل عاقل مضطر إلى إثبات موجود واجب بنفسه له حقيقة يختص بها عما سواه من غير مخصص مباين له خصصه بتلك الحقيقة
ومن قال : إن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط
فيقال له : هذا القول وإن كان فساده معلوما بالاضطرار كما بين في موضعه قول متناقض وهو مستلزم أنه مختص عن غيره بما يخصه
وذلك أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا ولا يوجد إلا مقيدا بقيد من القيود
فإذا قيل : موجود واجب قيده بالوجوب فلم يبق مطلقا
وإن قال : ليس بواجب قيده بسلب الوجوب فلم يكن مطلقا
وإن ادعى وجود موجود لا واجب ولا غير واجب لزمه رفع النقيضين جميعا وهو أظهر الأمور الممتنعة في بديهة العقل
ثم إنه يقيده بكونه مبدأ لغيره وبكونه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وغير ذلك من الأمور المقيدة المخصصة التي يمتاز بها من غيره ولا يكون وجودا مطلقا
ثم إن قال هو مطلق لا بشرط لزمه ان يصدق حمله على كل موجود كما أن الحيوان المطلق لا بشرط يصدق عليه حمله على الإنسان والفرس وغيرهما من الحيوانات وهذا متفق عليه بين العقلاء فيلزم حينئذ أن يكون كل موجود واجب الوجود إن كان واجب الوجود هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وامثاله من الملاحدة الباطنية باطنية الرافضة وباطنية الصوفية
ومعلوم أن هذا مكابرة للحس والعقل وهو منتهى الإلحاد في الدين وإن قال هو مطلق بشرط الإطلاق كما يقوله طائفة من ملاحدة الطائفتين ممن يرفع عنه النقيضين فهم قد قرروا في منطقهم ان المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم يلزمهم ان لا يصفوه بالوجوب ولا بكونه علة ولا عاقلا ولا معقولا ولا عاشقا ولا معشوقا لأن هذه كلها تخرج الوجود عن أن يكون مطلقا بشرط الإطلاق وتميزه عما ليس كذلك والمطلق لا بشرط ليس فيه اختصاص ولا امتياز
وإن قالوا : مطلق بشرط سلب سائر الأمور التثبوتيه عنه وهو الموصوف بالسلوب والإضافات دون الإثبات كما يقوله ابن سينا وطائفة فهذا مع أنه باطل من وجوه كثيرة ليس هو مطلقا بل موجود مقيد بقيود سلبية وإضافية وذلك نخصيص امتاز به عن سائر الموجودات على أي وجه قدر
ثم يقال كل ما أشار إليه العقل من الأمور فلا بد له من حقيقة تختص به تميزه عما سواه كيفما كان وكل ما هو موجود في الخارج فلا بد له من وجود يختص به يمتاز به عما سواه فإن كان كل ما اختص بأمر يخصه يجب أن يكون له مخصص من خارج امتنع ان يكون في الوجود موجود بنفسه وأن تكون حقيقة من الحقائق موجودة بنفسها وأن يكون ثم وجود واجب
ثم يلزم التناقض والدور الممتنع والتسلسل الممتنع فغنه إذا افتقر كل مختص إلى مباين يخصه فذاك الثاني إما أن يفتقر إلى مخصص وإما ان لا يفتقر فإن لم يفتقر انتقضت القضية الكلية وهو المطلوب
وإن افتقر إلى الأول لزم الدور القبلي وإن افتقر إلى غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء
ولو قدر مقدر أنه يلزم الدور المعي وهو أن يكون كل من المختصين موجودا مع الآخر
فيقال فكل منهما مختص بأمر فهو متوقف على ما اختصت به نفسه وعلى ما اختص به الآخر فيلزم أن يكون هناك اختصاصات فالقول في ذلك الاختصاص كالقول في الأول
وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائص كاختصاصه بنفسه ووجوده وصفاته كلها لازمها عارضها فقول القائل كل مختص لا بد له من مخصص مباين له كقوله كل موجود فلا بد له من موجد مباين له وكل حقيقة فلا بد لها من محقق مباين لها وكل قدئم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين له وأمثال ذلك
فإنه ما من أمر من هذه الأمور إلا ويمكن الذهن أن يقدره على خلاف ما هو عليه ومجرد تقدير إمكان ذلك في الذهن لا يوجب إمكان ذلك في الخارج ولكن طائفة من أهل الجدل الباطل والحكمة السوفسطائية يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة
والرازي و الآمدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيرا كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا القسمة العقلية تقتقضي أن كل موجود فاما مباين لغيره وإما مجانب له وإما لا مباين ولا مجانب أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج
ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج وقد يسمون ذلك برهانا عقيا وهو من أفسد الكلام فإن هذا بمنزلة القائل : كل موجود فإما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره وإما أن لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره فإن هذا لا يقتضى إمكان وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره بل هذا ما يعلم امتناعه بالضرورة واتفق العقلاء على امتناعه
ومثله أن يقال كل موجود إما قديم أو محدث أو لا قديم ولا محدث ومثله كل موجود غما واجب أو ممكن أو لا هذا ولا هذا وكل موجود إما خالق أو مخلوق أو لا خالق ولا مخلوق ومثله إما عالم أو جاهل أو لا عالم ولا جاهل ومثله إما حي وميت أو لا حي ولا ميت
فهذه التقسيمات وأمثالها لا تدل على إمكان كل قسم منها ولا على وجوده في الخارج باتفاق العقلاء بل العقلاء متفقون على أن الموجود إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره
فأما تقسيم كل قائم بنفسه إلى الحي والميت والعالم والجاهل والقادر والعاجز فهو أيضا صحيح عند جماهير العقلاء وهو قول المثبة لأسماء الله الحسنى وهو انه حي عالم قادر
وإنما ينازع فيه النفاة من الجهمية والباطنية فلا يسمونه بشيء من الأسماء الحسنى التي سمى بها نفسه وسمته بها رسله حتى لا يقولون هو شيء ولا موجود لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه بغيره من الأشياء والموجودات

شبهة للملاحدة
وللملاحدة الفلاسفة سؤال مشهور على قول القائل إما أن يكون حيا أو ميتا أو عالما أو جاهلا وقادرا أو عاجزا وسميعا بصيرا أو أعمى وأصم فإن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب
والفرق بينهما أن الأول سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كسلب الحياة والسمع والبصر والعلم عن الحيوان فإنه قابل لذلك فإذا سلب عنه لزم أن يكون ميتا أعمى أصم جاهلا وأما الجماد فإنه لا يقبل الاتصاف بذلك فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا سميع بصير ولا أعمى أصم

الجواب عنها من وجوه
قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الشبهة وغن كان الآمدي وأمثاله عجزوا عن حلها بل اعترفوا بورودها وبينا الجواب عن ذلك من وجوه
الأول
أن مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال والحي الجاهل الأعمى الأصم لقبوله للعلم
والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك ن فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال ولا يتصف بها فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى

والثاني
أن كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصا فالواجب أولى بها من الممكن واتصافه بها أولى من الممكن لأنه أكمل ولأن كل كمال حصل للممكن فهو من الواجب وهم يسلمون أن كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته فالمعلول أولى بذلك

الثالث
أن كل ما أمكن اتصاف الربسبحانه فهو واجب له لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره

الرابع
أن نفي هذه الصفات نقص وإن لم يسم جهلا وصما وبكما

الخامس
أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب والعدم والملكة بتسمية هذا ميتا دون هذا اصطلاح لهم لا يجب أتباعه والله قد سمى الجماد مواتا في مثل قوله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21 وفي قوله تعالى { وآية لهم الأرض الميتة } يس : 33 وأمثال ذلك
فإذا كان قد علم انه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره مباين له توهما باطلا شيطانيا وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لما قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله ؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته
وفي حديث آخر لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله كل شيء فمن خلق الله ؟
وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك
ثم إنهم يتناقضون فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالما وقادرا وكونه متكلما مريدا بأن العلم عام التعلق فإنه سبحانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والكلام خاص فإنه يتكلم بشيء دون شيء فإنه لا يتكلم إلا بالصدق والإرادة خاصة فإنه يريد شيئا دون شيء لا يريد إلا ما علم أن سيكون
فقال لهم الناس هب أن الأمر كذلك لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض ولإرادة بعض الأمور دون بعض ؟ فلا بد من سبب يوجب التخصيص فلا بد حينئذ أن يكون هو المخصص 0 فقالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص
فيقال لهم هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم فإنكم قلتم لا بد للتخصيص من مخصص ثم قلتم كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص بل رجح المرجح أحد المتاثلين على الآخر من غير مخصص وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص مع أن نسبة القادر واحدة فالموجود بنفسه أولى أن يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته وذلك أنه من المعلوم أن وجود ذاته وصفاته أولى من وجود مفعولاته وإذا جوزتم أن يكون مخصصا لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص أصلا فتجويزكم أن تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى
وهذا لا ينعكس فإنه إذا قيل إن أفعاله تفتقر إلى مخصص لم يلزم أن تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فهي لا تفتقر إلى سبب أصلا بخلاف مفعولاته فإنها مفتقرة إلى سبب وما افتقر إلى فاعل جاز أن يقال هو مفتقر إلى مخصص بخلاف ما لا يفتقر إلى فاعل فإنه لا يجب أن يفتقر إلى مخصص
فإذا قيل ما افتقر إلى سبب أو ما افتقر إلى فاعل أو ما افتقر إلى علم افتقر إلى مخصص وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر كان هذا كاملا معقولا
بخلاف ما إذا قيل المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى نخصص والغني عن الفاعل يفتقر إلى مخصص فإن هذا قلب للحقيقة كما قالته المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص وإثبات افتقار الذات إلى مخصص قلب للحقائق
وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبتون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها ويقولون إن مخصصها مجرد وجود بسيط ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات ويقولون مع ذلك الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة وفي القدرة من العموم ما ليس في الإدارة
والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى أثبتوا وجودا مطلقا مجردا ثم أثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص مثل كونه وجودا واجبا وذلك يميزه عن الوجود الممكن وجعلوه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وملتذا به وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الأمور عمن ليس هو موصوفا بها من الجمادات
وقالوا صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والأقدار من غير موجب للتخصيص فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض ؟
وهو أن يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص ؟
وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث ثم يثبتون الحوادث بلا محدث ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص أصلا وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه
ومن وافق هؤلاء من الكلابية في بعض الأمور يثبت صفات معدودة يختص بها ن ويجعل لها خصائص ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات 0 ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى أن يثبت وجودا ثم مطلقا ثم يتناقض أعظم من تناقض غيره وذلك لن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه سواء عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته ن وهذا نهاية هؤلاء وهو الجمع بين النقيضين
ثم يقول من يقول من متصوفتهم انه يجوز الجمع بين النقيضين وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل

كلام الشهر ستاني في نهاية الإقدام
والشهر ستاني لما اعتمد في مناظرته للقائلين بالعلو والمباينة والصفات الفعلية ونحو هؤلاء على هذه الطريقة أورد على نفسه من اللوازم ما اعترف معه بالحيرة فلما احتج بأن الاختصاص بالقدر يقتضي مخصصا والاختصاص بالجهة يقتضي مخصصا قال فإن قيل بم تنكرون على من يقول القدر الذي اختص به نهاية وحدا واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص بخلاف مقادير الخلق فإنها احتاجت إلى ذلك لأنها جائزة وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة عليها فلما كانت المقادير المخلوقة مقدورة عرف جوازها واحتاج الجواز إلى مرجح فإذا لم يكن فوق الباري تعالى قادر يقدر عليه لم يمكن إضافة الجواز إليه وإثبات الاحتجاج له ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان أفهى واجبة له على هذا العدد أم جائز أن توجد صفة اخرى ؟ فإن قلتم يجب الانحصار في هذا العدد كذلك نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عدا ومقدار في الذات حدا وإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا العدد والحد فيحتاج إلى مخصص حاصر ؟ ثم قال قلنا المقادير من حيث إنها مقادير طولا وعرضا وعمقا لا تختلف شهدا ولا غائبا في تطرق الجواز العقلي إليها واستدعاء مخصص
فيقال له هذا الذي قلته هو أول المسألة فإن المقادير من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج كما ان الصفات والذوات من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج وإنما يوجد في الخارج ذات مخصوصة بصفاتها المخصوصة فالقول فيما اختصت به من المقدار كالقول فيما اختصت به من سائر الصفات به من الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
ثم قال وأما الصفات وانحصارها في ثمان فقد اختلف جواب الأصحاب عنه بوجوه منها أنهم منعوا إطلاق لفظ العدد عليها فضلا عن الثمانية وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على كون الفاعل قادرا وباختصاصه ببعض الجائزات على كونه مريدا وبأحكامه على كونه عالما وعلم بالضرورة أن القضايا مختلفة وورد في الشرع إطلاق العلم والقدرة والإرادة ولا مدلول سوى ما دل الفعل عليه أو ورد في الشرع إطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز أن يكون له صفة أخرى اختلف الجواب عته فقيل لا يتطرق إليه الجواز فإنا لم نثبت الصفات إلا بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك وقيل يجوز عقلا إلا أن الشرع لم يرد به فنتوقف في ذلك ولا يضر في ذلك الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف
قال ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل بل هي له من غير سبب والمقادير العرضية تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل 0 فإن جعلها له بسبب
ومنها أنه ولو قدر صفة زائدة على الثمان لم يخل إما أن تكون صفة مدح وكمال او صفة ذم ونقصان فإن كان صفة كمال فعدمها في الحال نقص وإن كان صفة نقص فعدمها واجب وإذا بطل القسمان تعين أنه لا يتصف بزيادة على الثمانية
قال ويترتب على ما ذكرناه هل يجوز أن يكون للباري تعالى أخص وصف لا ندركه ؟ وفرق بين هذا السؤال الأول فإن السائل الأول سأل هل يجوز أن تزيد صفاته على الصفات الثمانية ؟ والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف تميز به عن المخلوقات ؟ واختلف جواب الأصحاب عنه أيضا فقال بعضهم ليس له أخص وصف ولا يجوز أن يكون لأنه بذاته وصفاته تميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث أن ذاته لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات وصفاته غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ولو كان الغرض أن يتحقق أخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرناه ن فلا أخص سوى ما عرفناه 0 وقال بعضهم لا بل له أخص وصف في الإلهة لا ندركه وذلك أن كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من ان لا حد ولا نهاية لا انقسام للذات ولا تناهي للتعلق في الصفات كل ذلك أسلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشيء عن الشيء بل لا بد من صفة إثبات بها يقع التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأسا ثم إذا ثبت أخص الوصف فهل يجوز أن يدرك قال إمام الحرمين لا يجوز أن يدرك أصلا وقال بعضهم يجوز أن يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك ذلك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات العقول وتصور الأخص من محارات العقول

تعليق ابن تيمية على كلام الشهرستاني
فيقال : هذا وما أشبه هو الذي يقال في هذا المقام من جهة من يفرق بين بعض الصفات وبعض كما يفرق بين الصفة والقدر ومن تدبره علم أنه لا يمكن الفرق
وذلك من وجوه :

الوجه الأول
أن ما ذكره ليس فيه جواب فيه جواب عن الإلزام والمعارضة فإنهم عارضوه بإثبات صفات متعددة سواء كانت ثمانيا أو أكثر أو أقل فغن اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كاختصاص الذات بقدر من الأقدار وإذا كان المسمي لا يسمي ذلك عددا فمنازعه لا يسمي الآخر قدرا وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية بل في المعاني العقلية وما زاد على ذلك سواء نفي ثبوته او نفي العلم به لا يضر فغن السؤال قائم إلا أن يثبت المثبت صفات لا نهاية لعددها وهذا ينقض قاعدة من يقول : غنه لا يوجد ما لا نهاية له وإلا فإذا أثبت الصفات متناهية كانت المعارضة متوجهة سواء عرف عددها أو لم يعرف وتفريق من فرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن هذه تفتقر إلى فاعل دون الأخرى لا يصح لأن هذا إنما يجيء على قول من يقول : الماهيات غير مفعولة ولا مجعولة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإلا فأهل السنة ومتكلموهم متفقون على أن حقائق جميع المخلوقات مخلوقة مصنوعة بل ليس لها حقيقة في الخارج إلا ما هو موجود في الخارج وما سوى ذلك فإنما هو الصورة العلمية وما في الأذهان من ذلك فالله تعالى هو الذي جعله فيها والله سبحانه هو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى وهو الذي خلق خلق الإنسان من علق وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم وهو الذي خلق الإنسان علمه البيان
فقوله : الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل قول باطل بل صفة كل موصوف مخلوق مضافة إلى الله تعالى فإنه خلق كل موصوف بصفاته وليس في المخلوق شيء لا من ذاته ولا من صفاته إلا والله تعالى خلقه وأبدعه
وأيضا فكل صفة لازمة لموصوفها لا يكون الموصوف إلا بها فإن كان مفتقرا إلى الفاعل فالفاعل فعله بصفاته وإن كان غنيا عن الفاعل استغنى بصفاته عن الفاعل وتسمية أهل المنطق لبعضها ذاتيا ولبعضها عرضيا لا يمنع اشتراكها في هذا الحكم
وقول القائل لو قدر صفة زائدة على الثمان لكان صفة كمال أو نقص إنما يفيده نفي ما زاد على الثمان وهذا لا يضر المعارض بل يقوي معارضته فإن تخصيص الصفات بإثبات ثمان دون ما زاد ونقص تخصيص بقدر وعدد فغن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين للموصوف فالسؤال قائم فإن قال القائل هذه الصفات على هذا الوجه من لوازم الذات لا تفتقر إلى موجب غير الذات قيل له : فهكذا مورد النزاع وبطل ما ذكرته من أن اختصاص كل موصوف بصفات ومقدار يفتقر إلى مخصص منفصل عنه

الوجه الثاني
أن ما ذكره من الكلام في أخص وصف هو أيضا لازم لهم كما أن ما ذكره في الصفات هو أيضا لازم لهم فإن هذا معارضة باختصاص الحقيقة في نفسها وذلك معارضة باختصاصها ببعض الصفات دون بعض وبعدد من الصفات دون ما زاد وسواء قيل بإثبات أخص وصف أو لم يقل فإنه لا بد من ذات متميزة بنفسها عما سواها

الوجه الثالث
أن يقال : أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة : أحدها : إثبات صفات أخرى كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وقدماء أصحابه كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثالهم ن وهو قول أبي بكر بن فورك وقد حكي إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد وهو قول أبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي كما هو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل والشريف أبي علي وابن الزغوني وأبي الحسن التميمي وأهل بيته كابنه أبي الفضل ورزق الله وغيرهم كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السشنة والحديث وليس للأشعري نفسه فيإثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها بل يبطل تأويلات من ينفيها ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها ثم لهم في التأويل والتفويض قولان فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في الإرشاد وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم
وأما أبو الحسن وقدماء أصحابه فهم من المثبتين لها وقد عد القاضي أبو بكر في التمهيد و الإبانة له الصفات القديمة خمس عشرة صفة ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله وهو قول أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم
وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية لم يكن يظهر بينهم غيره حتى جاء من وافق المعتزلة على نفيها وفارق طريقة هؤلاء وأصل هؤلاء أنهم يثبتون الصفات السمع والعقل بخلاف من اقتصر على الثمانية فإنه لم يثبت صفة إلا بالعقل وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل كما أثبت أبو أسحق الإسفراييني صفة اليد بالعقل وكما يثبت كثير من المحققبن صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل
القول الثاني : قول من ينفي هذه الصفات كما ذكره الشهرستاني وغيره وهو أضعف الأقوال فإن عندته أنه لو كان لله صفة غير لوجب أن ينصب عليها دليلا نعلمه ولم ينصب فلا صفة له وكلتا المقدمتين باطلة فإن دعوى المدعي أنه لا بد أن ينصب الله تعالى على كل صفة من صفاته دليلا باطل ودعواه أنه لم ينصب دليلا إلا نعلمه هو أيضا باطل كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإن هذه القاعدة إنما هي معدة لجمل المقاصد
والثالث قول الوافقة الذين يجوزون إثبات صفات زائدة لكن يقولون لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية وهذا أختيار الرازي و الأمدي وغيرهما
وأئمة أهل السنة والحديث من اصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية لكن منهم من يقول لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا ومنهم من يقول بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول ومنهم من يقول نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا ومنهم من يقول يعطى كل دليل حقه فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه وما كان راجحا لا قاطعا قلنا بموجبه فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع وإذا قام دليل يرجح لأحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين وهذا أصح الطرق
وكثير من الناس قد يظن صحة أحاديث فإما أن يتأولها أو يقول هي مثل غيرها من الأخبار وتكون باطلة عند أئمة الحديث
ومن الأخبار ما يكون ظاهرة يبين المراد به لا يحتاج إلى دليل يصرفه عن ظاهرة ولكن يظن قوم أنه مما يفتقر إلى تأويل كقوله الحجر السود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه
فهذا الخبر لو صح عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ظاهرة ان الحجر صفة لله بل صريح في أنه ليس صفة لله لقوله يمين الله في الأرض فقيده في الأرض ولقوله فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به وإذا كان صريحا في أنه ليس صفة لله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهرة ونظائر هذا كثيرة مما يكون في الاية والحديث ما يبين أنه لم يرد به المعنى الباطل فلا يحتاج نفي ذلك إلى دليل منفصل ولا تأويل يخرج اللفظ عن موجبه ومقتضاه
وإذا كان كذلك فالمعارضة بالصفات ثابتة على كل قول من الأقوال الثلاثة إذ لا بد فيها من اختصاص فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له
ثم رأيت أبا الحسن الآمدي قد ذكر هذا الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه في كتابه المسمى بغاية المرام في علم الكلام فقال في مسألة نفي العلو وتوابع ذلك وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال لو كان الباري مقدرا بقدر متصورا بصورة متناهيا بحد ونهاية مختصا بجهة متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بغيره فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا ولو استدعى مخصصا لكان الباري محدثا
قال الآمدي لكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك انه سلم ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثا ان لو كان المخصص خارجا عن ذاته ونفسه
ولعل صاحب هذا القول لا يقول به وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثا ولا محوجا إلى غيره أصلا فإن قيل : إن ما اقتضاه بذاته ليس هو أولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة إليه في جهة الاقتضاء فهو نحو الخلاف ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة في جهة الاقتضاء إلا ان يقدر أنه لا اختلاف بين هذه الممكنات ولا محالة أن بيان ذلك متعذر جدا كيف وأنه يحتمل أن ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات وبه درء الإلزام
ثم استدل على هذه المسألة بما هو أضعف من هذا وهو أن البناء على ذلك مستلزم لكونه جوهرا والجواهر متماثلة وقد عرف ما في هذين الأصلين من المنازعات اللفظية والمعنوية في غير هذا الموضع و الآمدي نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة
ومما ينبغي أن يعرف في مثل هذه المسائل المنازعات اللفظية فإن القائل إذا قال التخصيص يفتقر إلى مخصص والتقدير إلى مقدر كان بمنزلة من يقول : التحريك يفتقر إلى محرك وأمثال ذلك وهذا لا ريب فيه فإن التخصيص مصدر خصص يخصص تخصيصا وكذلك التقدير والتكلم ونحو ذلك ومصدر الفعل المتعدي لا بد له من فاعل يتعدى فعله فإذا قدر مصدر متعد بلا فاعل يتعدي فعله كان متناقضا بخلاف ما إذاقيل : الاختصاص يفتقر إلى مخصص والمقدار إلى مقدر ونحو ذلك فإن هذا ليس في الكلام ما يدل عليه لأن المذكور إما مصدر فعل لازم كالاختصاص ونحوه أو اسم ليس بمصدر كالمقدار وكل من هذين ليس في الكلام ما يوجب افتقاره إلى فاعل يتعداه فعله فإذا قيل الموصوف الذي له صفة وقدر قد اختص بصفة وقدر فلا بد له من مخصص لم يكن في هذا الكلام ما يدل على افتقاره إلى مخصص مباين له يخصصه بذلك بخلاف ما إذا قيل إذا خص بصفة أو قدر فلا بد له من مخصص فإن هذا كلام صحيح
والناطقون من أهل النظر وغيرهم إذا قصدوا المعاني فقد لا يراعون مثل هذا بل يطلقون اسم المفعول على ما لم يعلم أن له فاعلا فيقول أحدهم هذا مخصوص بهذه الصفة والقدر والمخصوص لا بد له من مخصص فإذا أخذ المخصوص على أنه اسم مفعول فمعلوم أنه لا بد له من فاعل يتعدى فعله وإذا أخذ على أن المقصود اختصاصه بذلك الوصف مان هذا مما يفتقر إلى دليل وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به أن غيره أوجده بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد فكثير من الأفعال التي بنيت للمعفول واسم المفعول التابع لها قد كثر ف يالاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلا بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة
وكثير من ألفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا : إن الرب تعالى المخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره أو هو موجود لم يريدوا أن أحدا غيره خصه بتلك الخصائص ولا أن غيره جعله موجودا
وبسبب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسألة إذا قيل الباري تعالى مخصوص بكذا وكذا او مختص بكذا وكذا قالوا فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك والمخصص لا بد له من مخصص خصصه بذلك
والناس قد يبحثون عن اختصاص الشيء بأمور قبل بحثهم هل هي من نفسه او من غيره ويعلمون ويقولون إنه مخصوص بذلك وقد خص بهذا واختص به ونحو ذلك
ونظير ذلك ما ذكره أبو حامد في تهافت الفلاسفة لما رد عليهم مذهبهم ف ينفي الصفات وبين أنه لا دليل هم على نفيها وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتجوابه من الألفاظ المجملة المبهمة كلفظ التركيب فإنهم جعلوا إثبات الصفات تركيبا وقالوا متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا وادخلوا في مسمى التركيب خمسة أنواع
أحدها : أنه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركبا من وجود وماهية
والثاني : ليس له صفة لئلا يكون مركبا من ذات وصفات
والثالث : ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز لتركب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام
الرابع : أنه ليس فوق العالم لئلا يكون مركبا من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركبا من المادة والصورة فلا يكون مركبا تركيبا حسيا كتركيب الجسم من الجواهر المنفردة ولا عقليا كتركبه من المادة والصورة
وهذان نوعان بهما يصير خمسة وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا فإنه زعم أن نفس الوجود إذا كان يستلزم وجودا واجبا فالوجود الواجب له هذه الخصائص النافية لهذه الصفات ويقول ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم وهذا مراده

كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
وأما قدماء الفلاسفة فلم يكونوا يثبتون واجب الوجود بهذه الطريقة بل بطريقة الحركة فلما جاء ابن رشد الحفيد يعترض على أبي حامد فيما ذكره لم يمكنه الانتصار لابن سينا بل بين أن هذه الطريقة التي سلكها ضعيفة كما ذكر أبو حامد واحتج هو بطريقة أخرى ظن أنها قوية وهي أضعف من طريقة ابن سينا فإن أبا حامد لما ذكر القول المضاف إلى الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وذكر أنهم ينفون تلك الأنواع الخمسة قال ومع هذا فإنهم يقولون للباري تعالى غنه مبدأ وأول وموجود وجوهر واحد وقديم وباق وعالم وعاقل وعقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض وزعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه
قال وهذا من العجائب وهم يقولون ذات المبدأ الأول واحد وإنما تكثر الأسماء بإضافة إلى شيء أو إضافة شيء إليه أو سلب شيء عنه والسلب والإضافة لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه ولكن الشان في رد هذه كلها إلى السلوب والإضافات وذكر تمام قولهم
قال أبو حامد فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وانتم مخالفون من جميع المسلمين سوى المعتزلة فما البرهان عليه ؟ فإن القائل الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الصفات الموصوفة واحدة يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات فيه وفيه النزاع وليس استحالة معلوما بالضرورة ولهم مسلكان أحدهما أن كل واحد من الصفة والموصوف : إن كان مستغنيا عن الآخر فهما واجبا الوجود وإن كان مفتقرا إليه فلا يكون واحد منهما واجب الوجود وإن احتاج أحدهما إلى الآخر فهو معلول والآخر هو الواجب وأيهما كان معلولا افتقر إلى سبب فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب
قال أبو حامد : المختار من هذه الأقسام هو الأخير ولكن إبطالكم القسم الأول لا دليل لكم عليه فإن برهانكم عليه إنما يتم بنفي الكثرة من هذه المسألة فكيف تنبني هذه المسألة على تلك ؟

تعليق ابن تيمية
قلت الجواب عن هذه الحجة يمكن بوجوه :
الوجه الأول
أن يقال : قولكم : إما أن يقال : قولكم : إما أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر وإما أن يكون مستغنيا عنه : تريدون بالاحتياج حاجة المفعول إلى فاعله أو مطلق التلازم وهو كون أحدهما لا يوجد إلا بالآخر أم قسم ثالث ؟
فإن أردتم الأول لم يكن أحدهما محتاجا إلى الآخر بل غنيا عن كونه فاعلا له ولا يلزم أن يكونا واجبي الوجود بمعنى أن كلا منهما هو الواجب بنفسه المبدع للممكنات
وإن قيل : إن كلا منهما واجب الوجود بمعنى أنه لا مبدع له
قيل : نعم ولا نسلم امتناع تعدد مسمى واجب الوجود بهذا التفسير وإنما يمتنع تعدده بالتفسير الأول فإن الأدلة قامت على أن خالق الممكنات رب واحد لم تقم على نفي صفاته بل كل من صفاته اللازمة له قديم أزلي ممتنع عدمه ليس له فاعل فإذا عبر عن هذا المعنى بأنه واجب الوجود فهو حق وإن عني بواجب الوجود ما ليس ملازما لغيره فليست الذات وحدها واجبة الوجود ولا الصفات بل الواجب الوجود هو الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها لا سيما وهم يقولون إنها مستلزمة للمعلول فامتناع ذلك على أصلهم أبلغ وقد عرف أن كلا من الصفات الذاتية ملازمة للأخرى والصفات ملازمة للذات وليس كل منهما مبدعا للآخر
وإن قلتم : كل منهما محتاج إلى الآخر بمعنى انه ملازم له لم يلزم من كونه ملازما أن يكون معلولا

الوجه الثاني
وهذا الجواب الثاني وهو أن يقال : ما تعني بواجب الوجود ؟
أتعني به مالا فاعل له أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له ؟
فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير ولم يدل على امتنع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل
فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيدا فهو مخالف للشرع والعقل
وإن أراد بواجب الوجود : القائم بنفسه الذي لا فاعل له كانت الذات واجبة الوجود وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود
وإن أريد بحاجة كل من الصفة والموصوف إلى الآخر التلازم أختير إثبات ذلك ولم يلزم من ذلك كون أحدهما معلول الآخر فإن المتضايفين متلازمين وليس أحدهما معلول الآخر وإن أريد بذلك كون أحدهما فاعلا اختير نفي الحاجة بهذا التفسير وهو القسم الأول وهو انه ليس أحدهما محتاجا إلى الآخر
وإن أريد أن أحدهما محل للآخر أختير جواب الغزالي وهو ان الصفة محتاجة إلى الذات من غير عكس
وعلى هذا فقول القائل : إن أحدهما معلول للآخر إن أراد به أحدهما فاعل للآخر فهو باطل فإنه لا يجب من قيام الصفة بالموصوف أن يكون الموصوف فاعلا للصفة بل الأمر بالعكس فإن المفعول يمتنع ان يكون من باب الصفات اللازمة للموصوف
وإن أريد بذلك أن يكون أحدهما قابلا للآخر فلا امتناع في ذلك وإن قيل بل إن المحل علة للحال
واعلم أن هذه الحجة وأمثالها غنما نشأت الشبهة فيها من جهة أن ألفاظها مجملة فلفظ العلة يراد به العلة الفاعلة والعلة القابلة ولفظ الحاجة إلى الغير يراد به الملازم للغير ويراد به حاجة المشروط إلى شرطه ويراد به حاجة المفعول إلى فاعله
وإذا عرف هذا فالصفات اللازمة مع الذات متلازمة وليس أحدهما فاعلا للآخر بل الذات محل للصفات وليس الواحد منهما علة فاعلة بل الموصوف قابل للصفات وهذا لا امتناع فيه بل هو الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول
لكن الغزالي لم يجب إلا بجواب واحد ومضمون كلامهم أنهم في جميع كلامهم في نفي الصفات ينتهي أمرهم إلى أن هذا تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه لأنه محتاج

كلام الغزالي في مسألة صفات الله
فقال لهم أبو حامد : نحن نختار أن يقال : الذات في قوامها غير محتاجة إلى الصفات والصفات محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا فبقي قولكم إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيقال إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ؟ ولم استحال أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها وإن أردتم بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه قديم مع هذا ولا فاعل له فما المحيل لذلك فإن قيل : واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولا قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب الوجود بحكم اصطلاحكم إنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل على هذا القدر وقطع التسلسل يمكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما أنه لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته

تعليق ابن رشد على الغزالي
قال ابن رشد يرد أنه إذا وضع لهم هذا القسم من الأقسام التي استعملوا في إبطال الكثرة آل الأمر معهم إلى أن يثبتوا أن واجب الوجود ليس يمكن أن يكون مركبا من صفة وموصوف ولا أن تكون ذاته ذات صفات كثيرة وهذا شيء ليس يقدرون عليه بحسب أصولهم ثم أخذ يبين أن المحال الذي راموا أن يلزموه على تقدير هذا القسم ليس بلازم قال : فيقال لهم : إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له فاعلة فاعلية فلم قلتم ذلك أي فلم قلتم بامتناع كونه موصفا بالصفات ولم استحال أن يقال : كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفاته قديمة لا فاعل لها
قال ابن رشد وهذا كله معاندة لمن سلك في نفي الصفات طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته وذلك أنهم يفهمون في الممكن الوجود الممكن الحقيقي ويرون أن كل ما دون المبدأ الأول هو بهذه الصفة وخصومهم من الأشعرية يسلمون هذا ويرون أن كل ممكن فله فاعل وأن التسلسل ينقطع بالانتهاء إلى ما ليس ممكنا في نفسه فإذا سلم لهم هذه ظن بها أنه يلزم عنها أن يكون الأول الذي انقطع عنده الإمكان ليس ممكنا فوجب أن يكون بسيطا غير مركب لكن للأشعرية أن يقولوا : أن الذي ينتفي عنه الإمكان الحقيقي ليس يلزم أن يكون بسيطا وإنما يلزم أن يكون قديما فقط لا علة فاعلية له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على أن الأول بسيط من طريقة واجب الوجود

كلام آخر للغزالي في مسألة التركيب
قال أبو حامد فإن قيل فإذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل تركيب يحتاج إلى مركب ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسما لأنه مركب قلنا قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقوله كل موجود يحتاج إلى موجد فيقال له : الأول قديم موجود لا علة له ولا موجد فكذلك يقال : موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفاته بذاته بل الكل قديم بلا علة وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن تكون العلة الأولى جسما كما سنلزمه عليكم فيما بعد

تعليق ابن رشد على كلام الغزالي
قال ابن رشد معترضا على أبي حامد التركيب ليس هو مثل الوجود لأن التركيب هو مثل التحريك أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب والوجود هو صفة هذه الذات بعينها وأيضا المركب ليس ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره فيلزم أن ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم وأيضا فإذا كان الأمر كما قلنا من أن التركيب أمر زائد على الوجود فلقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
قال والفصل في هذه المسألة أن المركب لا يخلو من أن يكون كل واحد من جزأيه أو أجزائه التي تركب منها شرطا في وجود صاحبه بجهتين مختلفتين أو لا يكون شرطا أو يكون أحدهما شرطا في وجود الثاني والثاني ليس شرطا في وجود الأول فأما الأول فلا يمكن أن يكون قديما لأن التركيب نفسه شرط في وجود الأجزاء فلا يمكن أن تكون الأجزاء علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه وأما الثاني إذا لم يكن واحد منهما شرطا في وجود صاحبه فإن امثال هذه إذا لم يكن في طباع أحدهما أن يلازم الآخر فإنها ليست تتركب إلا بمركب خارج عنها وإن كان أحدهما شرطا في وجود الآخر من غير عكس كالحال في الصفة والموصوف الغير جوهرية فإن كان الموصوف قديما ومن شانه أن لا تفارقه الصفة فالمركب قديم وإذا كان هذا هكذا فليس يصح إن جوز مجوز وجود مركب قديم أن يبين على طريق الشعرية أن كل جسم محدث لأنه إن وجد مركب قديم وجدت أعراض قديمة أحدها التركيب لأنه أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الأعراض أنه لا تكون الأجزاء التي تركب منها الجسم إلا بعد الأفتراق فإذا جوزوا مركبا قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق وحركة لم يتقدمها سكون وإذا جاز هذا أمكن أن يوجد جسم ذو أعراض قديمة ولم يصح لهم أن مالا يخلو عن الحوادث حادث

تعليق ابن تيمية على كلام الغزالي وابن رشد
قلت ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك وكلامه في ذلك أكثر مغلطة من كلام ابن سينا الذي أقر بفساده وضعفه
وذلك أن هؤلاء قالوا لأبي حامد والمثبتين إذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل مركب يحتاج إلى مركب
قال لهم قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقول القائل : كل موجود يحتاج إلى موجد
ومقصوده بذلك أن هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا ليس معنى كونه مركبا إلا كون الذات موصوفة بصفات قائمة بها ليس معناه أنه كان هناك شيء متفرق فركبه مركب بل ولا هناك شيء يقبل التفريق فإن الكلام إنما هو في إثبات صفات واجب الوجود اللازمة الوجود بنفسه لم يكن أن تفارقه ولا أن توجد دونه ولا يوجد إلا بها فليس هناك شيئان كانا مفترقين فركبهما فركب
ولفظ المركب في الأصل اسم مفعول لقول القائل ركبته فهو مركب كما تقول فرقته فهو مفرق وجمعته فهو مجمع وألفته فهو مؤلف وحركته فهو محرك
قال الله تعالى { في أي صورة ما شاء ركبك } الانفطار 8 يقال ركبت الباب في موضعه
هذا هو المركب في اللغة لكن صار في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يقع على عدة معان غير ما كان مفترقا فاجتمع كما يقول أحدهم الجسم إما بسيط وإما مركب يعنون بالبسيط الذي تشتبه أجزاؤه كالماء والهواء وبالمركب ما اختلفت كالإنسان وقد يقولون كل جسم مركب من أجزائه لأن هذا الجزء غير هذا الجزء وإن كانوا يعتقدون أنه لم يتفرق قط وأنه لم يزل كذلك ويتنازعون هل الجسم مركب من الواهر المنفردة أو من الهيولى والصورة أم ليس مركبا من واحد منهما ؟ مع اتفاقهم على أنه من الأجسام ما لم تكن أجزاؤه مفترقة فتركبت وقد يعنون بالمركب المركب من الصفات كما يقولون الإنسان مركب من الجنس والفصل وهو الحيوان الناطق وهاتان الصفتان لم تفارق إحداهما الأخرى ولا يمكن وجود الناطق إلا مع الحيوان ولا يمكن وجود حيوان إلا مع ناطق أو ما يقوم مقامه كالصاهل ونحوه
فأبو حامد وأمثاله خاطبوا هؤلاء بلغتهم في أن الموصوف بصفة لازمة له يسمى مركبا وقالوا لهم قلتم إن مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا يمتنع في الواجب الوجود فقولهم إن كل مركب مفتقر إلى مركب مغلطة نشأت من الإجمال في لفظ مركب فإنهم لم يسلموا لهم أن هناك تركيبا هو فعل مركب حتى يقال إن المركب يفتقر إلى مركب بل هناك ذات موصوفة بصفات لازمة له فإذا قال القائل كل موصوف بصفات لازمة له يفتقر إلى مركب ومؤلف يجمع بين الذات والصفات كان قوله باطلا فقولهم في هذا الموضع كل مركب يفتقر إلى مركب من هذا الباب
وكذلك إذا قيل كل مؤلف يفتقر إلى مؤلف كما يستعمل مثل هذا الكلام غير واحد من الناس في نفي معان سماها مسم تأيفا وتركيبا فجعل المستدل يستدل بمجرد إطلاق اللفظ من غير نظر إلى المعنى العقلي فيقال لمن سمى مثل هذا تركيبا وتأليفا أتعني بذلك أن هنا شيئا فعله مركب ومؤلف أو ان هنا ذاتا موصوفة بصفات ؟
أما الأول فممنوع فإنه ليس في خلق الله من يقول إن صفات الله اللازمة له متوقفة على فاعل يؤلف ويركب بين الذات والصفات
وإن عنيت الثاني فمسلم ولا دليل لك على أن الذات القديمة الواجبة المستلزمة للصفات تفتقر إلى من يركب صفاتها فيها فلهذا قال أبو حامد هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد ولو قال إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ
وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد فإذا قال القائل : كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظرا إلى اللفظ كان كقوله كل مركب يفتقر إلى مركب نظرا إلى اللفظ ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققا في نفسه لا يعني به ما وجده أو اوجده غيره كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفا بصفة قائمة به أو ما كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة
وأما اعتراض ابن رشد على أبي حامد بقوله ليس المركب مثل الموجود بل مثل التحريك
فجوابه من وجوه :
أحدها أن يقال ليس الكلام في الموازنات اللفظية بل في المعاني العقلية والمقصود هنا أن الذات القديمة الواجبة الموصوفة بصفات لا يجب أن يكون لها جامع منفصل جمع بين الذات والصفات كما أن الموجود المحقق لا يفتقر إلى موجود غير نفسه بل قد يكون موجودا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل كذلك اتصافها بالصفات لا يفتقر إلى فاعل
الثاني أن يقال وهب أن هذا مثل التحريك في اللفظ
فقولك : هي صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب إن عنيت انها زائدة على الذات والصفة وقيام الصفة بالذات فهذا باطل وإن عنيت انها هي قيام الصفة بالذات أو هي الصفة القائمة بالذات فليس في ذلك ما يوجب كونها انفعالية لها فاعل مباين للموصوف
الثالث أن التحريك إن عني به تحريك الشيء لغيره فليس هذا نظير مورد النزاع فإن أحدا لم يسلم أن في الذات القديمة الموصوفة بصفاتها اللازمة شيء ركبه أحد وإن عني به مطلق الحركة صار معنى الكلام أن اتصاف الذات بالصفات كاتصافها بالحركات وليس في واحد منهما ما يقتضي احتياج الموصوف إلى مباين له
وأما قوله ليس ينقسم الأمر إلى مركب من ذاته ومركب من غيره حتى ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم
فيقال له بل هؤلاء المسلمون كأبي حامد وأمثاله لما خاطبوكم باصطلاحهم وأنتم جعلتم قيام الصفة بالموصوف تركيبا فإنهم يقولون بحسب اصطلاحكم إنه ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره
وحقيقة الأمر أن ثبوت الصفات إن سميتموه تركيبا لم نسلم لكم عدم انقسام المركب إلى قديم واجب ومحدث ممكن وإن لم تسموه تركيبا بطل أصل كلامكم 0 ولكن أنتم سميتم هذا تركيبا ونفيتموه فلهذا قلتم لا ينقسم المركب فكان كلامكم ممنوعا بل باطلا
وأما قوله إن لقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد معدوم من ذاته
فجوابه من وجوه
أحدها منع المقدمة الأولى فما الدليل على أنه إذا وجدت ذات موصوفة بصفات لازمة له يلزم أن توجد ذات متحركة بحركة منها ليس معه في ذلك إلا مجرد الموازنة اللفظية
الثاني أن حقيقة قوله إن افتقار التركيب إلى مركب كافتقار التحريك إلى المحرك فإن أخذ ذلك على أن له فاعلا فلكل منهما فاعل وإن أخذ مجرد التركيب مجرد التحرك قيل فعلى هذا يكون المعنى إذا وجد متصف بصفة بنفسه يوجد فاعل متحرك بنفسه وإذا كان حقيقة كلامه أنه إذا كان متصفا بالصفات من ذاته فسيوجد متصفا بالأفعال من ذاته 0 فيقال له إما أن تكون هذه الملازمة صحيحة وغما أن لا تكون فإن لم تكن صحيحة فليست بحجة وإن كانت صحيحة كانت دليلا على ثبوت أفعال الله تعالى وكان حقيقتها أنه يلزم من ثبوت الصفات القائمة به ثبوت الأفعال القائمة به فأي محذور في هذا إذا كانت الملازمة صحيحة ؟
الثالث قوله وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما هو بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لأنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا لنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلذلك احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال ألقني بقولك فسيوجد المعدوم من ذاته أي نفس ما كان معدوما يوجد من الذات المعدومة أم تعني به أن الحركة المعدومة توجد من الذات المتحركة ؟
أما الأول فغير معقول فإن المعدوم ليس له وجود أصلا حتى يعقل أن يوجد منه ذاته أو غير ذاته ووجوده موجود من غير موجود ممتنع بضرورة العقل وكون المعدوم يوجد بنفسه معلوم البطلان بالبديهية
وإن عنيت الثاني فاللازم والملزوم واحد فإن المتحرك من ذاته توجد حركته المعدومة من ذاته
وقول القائل إنه إذا جاز هذا جاز وجود المعدوم من الذات المعدومة ممنوع بل باطل معلوم البطلان
وقوله لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
فيقال له غاية هذا أنهما يشتركان في أمر من الأمور فمن أين يلزم إذا اشتركا في أمر ما أن يشتركا في غيره مع ظهور الفرق فإن قوله وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل لا يجوز أن يراد به أن نفس المعدوم كان فيه قوة هي مبدأ وجوده فإن المعدوم ليس في شيء ولا فيه شيء
وإنما يقال إن ما منه وجد المعدوم كان فيه قوة وجوده كما في النطفة قوة أن تصير علقة 0 وفي الحبة قوة أن تصير سنبلة وفي النواة قوة أن تصير نخلة فالذي فيه القوة ليس هو المعدوم واما الحركة والمتحرك فنفس المتحرك فيه قوة هي مبدأ الحركة فنظير المتحرك المحل الذي وجد فيه ما كان معدوما من الأعراض كما يوجد اللون في المتلونات والطعم في المطعومات والحياة في الأحياء فكذلك الحركة في المتحركات فمحل هذه الصفات والحركات كان قابلا لها وفيه قوة القبول والاستعداد لها وأما نفس هذه الأمور التي كانت معدومة فوجدت فليس فيها من القوة ولا غيرها شيء
فقياس القائس وجود المعدوم من ذاته بوجود الحركة من المتحرك في غاية الفساد والعلة تكون فاعلة وتكون قابلة فلو قال القائل الموجود أو الجسم أو القائم بنفسه أو نحو ذلك يقبل الصفات والأعراض كالحركات ونحوها وفيه قوة لذلك فيجب أن يكون المعدوم فيه قبول لقيام الصفات والحركات به لكان قوله في غاية الفساد فكيف إذا قال إذا كان المتحرك فاعلا بنفسه لحركته وجب أن يكون المعدوم فاعلا لذاته بل يقال الفاعل يمكن أن يفعل غيره وأما فعله لنفسه فممتنع فلو قال إذا كان المتحرك يفعل حركة وجب أن يفعل المعدوم حركة لكان باطلا فكيف إذا قال وجب أن يفعل نفسه
وقوله فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلهذا احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال له هب أنه سلم لك أن المتحرك وجوده مع القوة المحركة فلم قلت إن الحركة تحتاج إلى محرك منفصل عنه ؟
ثم يقال لك هل يجوز أن يتحرك المتحرك بنفسه بعد أن لم يكن متحركا أم لا ؟
فإن أجزت هذا بطل قولك وجاز وجود المتحرك بنفسه قبل الحركة وقبل القوة المحركة وإن قلت لا يجوز قيل فحركته حينئذ اما أن تكون من نفسه وإما من غيره فإن كانت من نفسه كانت الحركة من نفس المتحرك وبطل قولك وإن كانت من غيره وكان ذلك الغير متحركا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان غير متحرك لزم وجود حركات متوالية عن غير متحرك وهذا قولهم وهو باطل
وذلك أن أجزاء الحركات متعاقبة شيئا بعد شيء فالمقتضى لكل من تلك الأجزاء يمتنع ان يكون موجبا تاما في الأزل لأنه لو كان كذلك للزم أن يقارنه موجبه فإن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها 0 وحينئذ يلزم كون المحدث قديما وهو ممتنع أو يقال إن كانت العلة التامة تستلزم مقارنة معلولها لزم ذلك وإن لم تستلزم ذلك جاز حدوث الحركات المتأخرة عن موجب قديم فيجوز أن يتحرك الشيء بعد ان لم يكن متحركا بدون سبب حادث وهذا يبطل قولكم وإذا لم يكن الموجب التام لها ثابتا في الأزل لزم ان يكون حادثا والقول في حدوثه كالقول في حدوث غيره فيمتنع أن يحدث هو او غيره عن علة تامة قديمة فإذا لم يكن في الفاعل فعل حادث امتنع أن يصدر عنه شيء حادث فامتنع صدور الحركات عن غير متحرك
ومما اعترف به ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين وقال عن إخوانه لفلاسفة إن الذي يتمسكون به سببان :
أحدهما أن فعل الفاعل يلزمه التغير وإن كل متغير فله مغير
والثاني أن القديم لا يتغير بضروب من ضروب التغير
وقال وهذا كله عسير البيان
قلت وهذا المقام وهو حدوث الحوادث عن ذات لا يقوم بها حادث ن مما اعترف حذاقهم بصعوبته وبعده عن المعقول كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن النفس المحركة للأفلاك يحدث لها تصورات وإرادات هي مبدأ الحركة وأن محركها العقل الذي يريد التشبه به او واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع وتحريك الواجب أو العقل للفلك أو لنفس الفلك كتحريك المحبوب للمحب والمشتهى للمشتهى والمعشوق للعاشق ليس من جهة المحرك فعل أصلا بل ذلك يحبه فيتحرك تشبها به
وبهذا أثبت أرسطو وأتباعه العلة الأولى وان فوق الأفلاك ما يوجب تحريك الأفلاك
والكلام على هذا من وجوه ليس هذا موضع بسطها لكن يقال كون الفلك يتحرك للتشبه بالواجب أو إخراج ما فيه الأيون والأوضاع كلام لا دليل عليه بل الأدلة الدالة على فساده كثيرة ليس هذا موضعها
فنقول : هب أن الأمر كذلك فهذا إنما فيه أنه أثبت العلة الغائية للحركة
فيقال : أين السبب الفاعل لحركة الفلك ؟ فإن الحركة وإن افتقرت إلى غاية مقصودة فتفتقر إلى مبدأ فاعل بالضرورة
فإذا قالوا نفسه تحركه
قيل لهم فما الفاعل لما يحدث في النفس من أسباب الحركة كالتصورات والإرادات ؟ فإن فإن هذه كانت معدومة ثم وجدت بعد العدم فما السبب الفاعل لهذه الحركة
فإن قالوا النفس هي الفاعلة لهذه الحركة فقد جعلوها متحركة من نفسها وهذا خلاف ما قالوه
وإن قالوا شيئا غيرها قيل لهم الكلام فيه كالكلام في النفس فإنه إن حدث فيه ما لم يحدث سئل عن سبب ذلك
وإن قيل بل المحدث لحركة النفس على حال واحدة أزلا وأبدا قيل لهم فقد لزمكم حدوث حادث بلا سبب وقيل لكم ذلك المحرك للنفس إن كان علة في الأزل وجب وجود معلوله في الأزل فيجب وجود ما حدث للنفس من التصورات والإرادات في الأزل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قيل بل حدث له أمر به صار فاعلا لما يحدث في النفس سئل عن سبب حدوث ذلك
وإذا قيل الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد
قيل فذلك الاستعداد حادث والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره فلا بد من أحد أمرين غما حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإما حدوث الحوادث عن متحرك وأيهما كان بطل قولهم 0 والأول يقولون إنه معلوم البطلان بالضرورة فيلزمهم الثاني فقد ألزم مناظريه ما يلزمه هو أشد منه وتبين به أن قول إخوانه أشد فسادا فإنه قال والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال فاعل أول وإنزال فعل له أول لأنهم لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة لم تكن وذلك ضرورة إما في الفاعل أو في المفعول او في كليهما وإذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة إذا أوجبنا أن لكل حال متجددة فاعلا لا بد أن يكون الفاعل لها إما فاعلا آخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول ولا يكون مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره ن وإما ان يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه ن فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا عنه اولا أولا بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول
قال وهذا لازم كما ترى ضرورة إلا أن يجوز أن من الأحوال الحادثة في الفاعلين مالا يحتاج إلى محدث وهذا بعيد إلا على قول من يجوز ان ههنا أشياء تحدث من تلقائها وهو قول الأوائل من القدماء الذين أنكروا الفاعل وهو قول بين سقوطه بنفسه
فيقال له ك أنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت : لها فاعل قيل لك : أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته ؟
فإن قلت بالأول قيل لك : فهي دائمة أو لها ابتداء ؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
وإن قلت : بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث
قيل لك : الفاعل له : إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز أن يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
وهذا لازم لهؤلاء الفلاسفة الإلهيين كما يلزم إخوانهم الطبيعيين وهو القول الذي هو من أظهر المعارف الضرورية فسادا وقد بسط الكلام على هذه المواضع في غير هذا الموضع وإنما كان المقصود هنا التنبيه على جنس ما يغالط به هؤلاء وأمثالهم من الألفاظ المجملة كلفظ المركب ونحوه كما يغالطون بلفظ التخصيص والمخصص وأن كلام أبي حامد وأمثاله في مناظرتهم خير من كلامهم وأقوم
وأما قول ابن رشد لا يخلو إما أن يكون كل من جزأيه شرطا في وجود الآخر أو لا يكون أو يكون الواحد شرطا في الآخر من غير عكس
وقوله القسم الأول لا يكون قديما وذلك أن التركيب نفسه هو شرط في وجود الآخر فليس يمكن أن تكون الأجزاء هي علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه
فيقال له أولا تسمية هذا تركيبا وأجزاء ليس هو من لغات بني آدم المعروفة التي يتخاطبون بها فإنه ليس في لغة الآدميين أن الموصوف بصفات يقال إنه مركب منها وأنها أجزاء له وإذا خاطبناكم باصطلاحكم فقد علمتم انه ليس المراد بالمركب إلا اتصاف الذات بصفات لازمة لها أو وجود معان فيها أو اجتماع معان وأمور ونحو ذلك ليس المراد أن هناك مركبا ركبه غيره حتى يقال : إن المركب نفتقر إلى مركب فإن من وافقكم على اصطلاحكم في تسمية الذات الواجبة الموصوفة بصفاتها اللازمة تركيبا لم يرد بذلك أن هناك مركبا ركبها فغن هذا لا يقوله عاقل ولا انتم أيضا تدعون أن مجرد اللفظ الدال على هذا المعنى يقتضي أن يكون له فاعل ولكن تدعون ثبوت ذلك إما بطريقة ابن سينا ونحوه الذي قد تقدم إبطالها وإما بطريقة المعتزلة التي اختارها ابن رشد واعترف بفساد طريقة ابن سينا
وإذا كان المراد بلفظ التركيب ما قد عرف فمن المعلوم ان الذات الموصوفة بصفات لازمة لها أو فيها معان لازمة لها لا يقال فيها : إن اتصاف الذات بالصفات أمر معلوم مفتقر إلى فاعل حتى يقال إن الأجزاء هي علة التركيب أو يقال التركيب علة نفسه بل هذا المعنى الذي سميته تركيبا هو من لوازم الواجب بنفسه لا يمكن أن يكون الواجب إلا موصوفا بالصفات اللازمة له ثابتة له المعاني اللازمة له وليس لذلك علة فاعلة كما تقدم
وأما قوله إن التركيب شرط في وجود الأجزاء
فيقال له لا ريب أنه لا يمكن وجود الذات إلا موصوفة بلوازمها ولا يمكن أن توجد صفاتها إلا بوجودها فاجتماع الذات بالصفات واجتماع الأمور المتلازمة شرط في وجود كل منها وهي أيضا شرط في وجود ذلك الاجتماع وليس شيء من ذلك معلولا لفاعل ولا مفتقرا إلى مباين ن وتوقف أحدهما على الآخر هو من باب الدور الاقتراني المعي لا من باب الدور السبقي القبلي والألو جائز والثاني ممتنع فغن الأمور المتلازمة لا يوجد بعضها إلا مع بعض وليس بعضها فاعلا لبعض بل أن كانت واجبة الوجود بنفسها وإلا افتقرت كلها إلى فاعل
والذات التي لا تقبل العدم بما هي عليه من الصفات اللازمة هي الحق الواجب الوجود بنفسه وأما مجرد وجود مطلق في الخارج وذات لا صفة لها فلذلك ممتنع لنفسه فضلا عن أن يكون واجب الوجود
واتصاف الذات الواجبة بصفاتها اللازمة سواء سمي تركيبا او لم يسم لا يوجب افتقاره ولا افتقار الذات ولا شيء من صفاته إلى فاعل ولا علة فاعلة ولا ما يشبه ذلك وأما كون بعضها مستلزما لبعض ومشروطا به ولا يوجد إلا معه وثبوته متوقف عليه ونحو ذلك فليس في هذا ما يقتضي افتقار ذلك إلى فاعل مبدع لكن يعلم ان الذات لا تكون إلا بصفاتها اللازمة وصفاتها لا تكون إلا بها
وإذا سمى المسمي هذا افتقارا وسمى هذه أجزاء وسمى هذا الأجتماع تركيبا لم يكن في هذه التسمية ما يوجب أن يكون هذا الموصوف مفتقرا إلى فاعل وما جعله افتقارا ليس هو افتقار المفعول إلى الفاعل والمعلول إلى العلة الفاعلة وإنما هو تلازم ومن سماه افتقارا لا يمكنه أن يفسره إلا لافتقار المشروط إلى الشرط والشرط إلى المشروط
ومثل هذا المعنى لازم للوجود الواجب لا ممتنع عليه وإنما الممتنع أن يفتقر إلى مباين له فيكون وجود الواجب متوقفا على وجود مباين فإن كان المباين علة له لم يكن موجودا بنفسه بل ممكنا له فاعل وعلة وإن قدر انه شرط فيه وهو غني عنه وما كان وجوده مشروطا بما هو غني عنه لم يكن موجودا بنفسه فلا يجوز أن يكون الرب الخالق تعالى الذي له الذات الموصوفة بصفات الكمال متوقفا على شيء مباين له بل ولا على شيء عني عنه بوجه من الوجوده لا على فاعل ولا شرط
وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل فإن الممكنات التي لا وجود لها من نفسها لا توجد إلا بغيرها وما كان خارجا عنها لم يكن وجوده إلا بنفسه ونفسه هي الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة ليست نفسه مجرد وجود مطلق ولا ذات مجردة
ومن ادعى أن ما كان وجوده بنفسه لا يكون إلا وجودا مجردا وذاتا مجردة لأن الذات الموصوفة مفتقرة إلى الصفة فلا يكون موجودة بنفسها
قيل له : الممكنات والمحدثات لم تفتقر إلى ذات مجردة ن حتى يقال إذا قيل إنها موصوفة لزم الافتقار بل افتقرت إلى ما هو خارج عنها كلها
والتعبير عن هذا المعنى يكون بعبارات فإذا قيل : ما لا يقبل العدم أو قيل موجود بنفسه او واجب الوجود بنفسه ونحو ذلك كان المقصود واحدا ومن المعلوم أن مالا يقبل العدم إذا كان ذاتا موصوفة بصفات الكمال لم يجز ان يقال : اتصافها بصفات الكمال يوجب افتقارها إلى الصفات فتقبل العدم فإن فساد هذا الكلام ظاهر وهو بمنزلة أن يقال قولكم : موجود بنفسه أو واجب الوجود بنفسه يقتضي افتقاره إلى نفسه والمفتقر لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم وإذا كان هذا فاسدا فالأول أفسد فإن صفات كماله داخلة في مسمى نفسه فإذا كان قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه لا يمنع وجوب وجوده فقوله إنه مفتقر إلى صفاته أولى أن لا يمنع وجوب وجوده
وكذلك إذا سمى ذلك أجزاء وقال : هو مفتقر إلى أجزائه فإن جزء الشيء وبعضه وصفته ونحو ذلك داخل في مسمى نفسه فإذا لم يكن قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه مانعا من وجوب وجوده ن فقوله هو مفتقر إلى جزئه وصفته ونحو ذلك أولى وتسمية مثل هذا افتقارا لفظ فيه تلبس وتدليس يشعر الجاهل بفقره وهذا كما لو قيل : هو غني بنفسه فإنه قد يقول القائل : فهو فقير إلى نفسه فصفاته داخلة في مسمى نفسه وهو غني سبحانه بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه
وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع وقد قال ابن رشد هذا الذي يعبر على من قال بنفي تعدد الصفات هو ان تكون الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلا والإرادة والقدرة مفهوما واحدا وانها ذات واحدة وأن يكون أيضا العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد معنى واحدا والذي يعبر على من قال : إن ههنا ذاتا وصفات زائدة على الذات ان تكون شرطا في وجود الصفات والصفات شرطا في كمال الذات ويكون المجموع من ذلك شيئا واجب الوجود أي موجودا واحدا ليس فيه علة ولا معلول
قال لكن هذا لا جواب عنه في الحقيقة إذا وضع ان ههنا شيئا واجب الوجود بذاته فإنه يجب أن يكون واحدا من جميع الوجوه وغير مركب أصلا لا من شرط ومشروط ولا من علة ومعلول لأن كل موجود بهذه الصفة : فإما أن يكون تركيبه واجبا وغما أن يكون ممكنا فغن كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر إنزال مركب قديم من ذاته أعني من غير أن يكون له مركب وبخاصة على قول من أنزل أن كل عرض حادث لأن التركيب فيه يكون عرضا قديما وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى ما يوجب اقتران العلة بالمعلول
قال وأما هل يوجد شيء مركب من ذاته على اصول الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وذلك أن التركيب شرط في وجوده وليس يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها وكذلك أجزاء كل مركب من الأمور الطبيعية إذا انحلت لم يكن الاسم المعقول عليها إلا بالاشتراك مثل اسم اليد المقولة على التي هي جزء من الإنسان الحي واليد المقطوعة بل كل تركيب عند أرسطو طاليس فهو كائن فاسد ن فضلا عن ان يكون لا علة له وأما هل تفضى الطريقة التي سلكها ابن سينا في واجب الوجود إلى نفي مركب قديم فليس تفضي إلى ذلك لأنه إذا فرضنا أن الممكن ينتهي إلى علة ضرورية والضرورية لا يخلو إما أن يكون لها علة او لا علة لها وأنها إن كانت لها علة فإنها تنتهي إلى ضروري لا علة له فإن هذا القول إنما يؤدي من جهة امتناع التسلسل إلى وجود صورية ومادية إلا أن يوضع ان كل ماله صورة ومادة وبالجملة كل مركب فواجب أن يكون له فاعل خارج عنه وهذا يحتاج إلى بيان ولم يتضمنه القول المسلوك في شأن واجب الوجود مع ما ذكرنا أن فيه من الأختلال ولهذا بعينه لا يفضي دليل الشعرية وهو ان كل حادث له محدث إلى أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى أول ليس بحادث
قال وأما أن يكون العالم والعلم شيئا واحدا فليس ممتنعا بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها وذلك أن العالم إن كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى ان يكون عالما وذلك أن كل ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة أولى بذلك المعنى المستفاد مثال ذلك أن هذه الأجسام الحية التي لدينا ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها أو يفضي الأمر فيها إلى غير نهاية وكذلك يعرض في العلم وسائر الصفات

تعليق ابن تيمية
قلت : ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلوم نفاتها
فقال : يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا وقد قال إن هذا عسير
قلت : بل الواجب أن يقال : أن هذا مما يعلم فساده بضرورة فمن جعل العلم هو القدر والقدرة هي الإرادة وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر كان مخالفته للعوم الضرورية وسفسطته اعظم من سفسطة كثير من السوفسطائية وقود هذه المقالة أن يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام والمتحرك هو الحركة والمصلي هو الصلاة والصائم هو الصوم وأمثال ذلك وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها فلا فرق في الحقيقة بل هذا تحكم ويلزمه ان يكون الإنسان الناطق نفس النطق والفرس الصاهل نفس الصهيل والحمار الناهق نفس النهيق والجسم الحساس المترحك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية ويلزمه أيضا أن يجعل نفس الحس نفس الحركه ونفس الحيوانيه نفس الناطقية ونفس الصاهلية نفس الناهقية
وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } الأنعام 39
وبقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف 179
وبقوله تعالى { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك 10
وقول ابن رشد كون العالم والعلم شيئا واحدا ليس ممتنعا بل واجب ان ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها
فيقال له : هذا من أعظم المكابرة والفسفسطة والبهتان وقوله إن العالم إذا كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما إلى آخر كلامه كلام في غاية الفساد كما أنه إذا قيل إذا كان الضارب ضاربا بضرب فالضرب اولى أن يكون ضاربا والقائم إذا كان قائما بقيام أولى أن يكون قائما والناطق إذا كان ناطقا بنطق فالنطق أولى أن يكون ناطقا والقاتل إذا كان قاتلا ماشيا والخالق إذا كان خالقا بخلق فالخلق أولى أن يكون خالقا والرازق إذا كان رازقا برزق فالرزق أولى ان يكون رازقا والمحيي المميت إذا كان محييا مميتا بإحياء وإماتة فالإحياء والإماتة أولى أن يكون محييا مميتا
وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة أسماء الله الحسنى وفي أسماء نبيه صلى الله عليه و سلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة يلزم أن يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم أحق بالاسم من الفاعل ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث أحق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من من نفس الفاعل الموصوف
وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده وإنما دخلت الشبهة على من قاله لأن قوله إذا كان العالم عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما كلام اشتبهت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة فظن أنه إذا قيل هذا عالم بعلم أن العلم هو الذي أفاده العلم والعلم هو الذي أعطاه العلم كأنه معلمه فكأنه قال إذا كان المتعلم عالما فمعلمه أولى أن يكون عالما وليس الأمر كذلك بل قولنا هذا عالم بعلم أي أنه موصوف بالعلم أي ليس موجودا عن العلم ولا معرى عنه بل هو متصف به والعلم نفسه لا يعطيه العلم بل نفس العلم هو العلم وإن كان العلم قديما من لوازم ذاته فلم يستفيده من أحد وإن كان محدثا فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم لكن هل له حال وهو كونه عالما معللة بالعلم أم كونه عالما نفس العلم هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها ومن أثبتها لم يقل إنها صفة موجودة
وقوله ما استفاد صفة من غير فتلك الصفة يعني المستفاد منها اولى بذلك المعني المستفاد كما مثل به من الحياة كلام فاسد فإن العالم لم يستفد الصفة التي هي العلم من الصفة التي هي العلم بل نفس علمه هو نفس الصفة ليس هنا صفة مفيدة وصفة مستفادة إلا أن يقال اعلم أثبت العالمية على رأي مثبتة الحال وعلى هذا التقدير فالعالمية ليست صفة وجودية وهو غنما كان عالما بالعلم الوجوب للحال لا بالحال الموجبة للعلم وإذا كان عالما بالعلم لم يكن العلم حصل من علم آخر وإنما العلم عند هؤلاء اوجب كونه عالما والذي عليه الجمهور أن نفس العلم هو نفس كونه عالما فليس هنا شيئان وعلى القولين فإذا استحق الموصوف بالعلم أن يسمى عالما لم يكن العلم أحق بأن يكون عالما فإن هذا لا يقوله عاقل :
وقوله إن الجسم إذا كانت حياته من قبل حياة تحله فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها
فيقال : هذا باطل من وجهين :
أحدهما أن الحياة التي حلته هي الحياة التي صار بها حيا ليس هنا حياة أخرى صار بها حيا حتى يقال هنا حياة حلته وحياة جعلته حيا
الثاني أن حياته إذا قدر أنها مستفادة من حياة أخرى فتلك الحياة الأخرى قائمة بحي هو حي بها لا أن تلك الحياة هي الحية بل الحي الموصوف بالحياة لا نفس الحياة فلينظر العاقل نهايات مباحث هؤلاء الفلاسفة في العلم الإلهي : العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته ن ولينظر هذا المعقول الذي يعارضون به الرسول صلى الله عليه و سلم مع أن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وليس هذا موضع بسطه
والناس شنعوا على ابي الهذيل العلاف لما قال إن الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع أن كلامه أقل تناقضا من كلام هؤلاء
وأما زعمه أن ما يلزم مثبتة الصفات لا جواب عنه لأن واجب الوجود يجب أن يكون غير مركب من شرط ومشروط
فيقال له : قد تقدم أنكم أنتم سميتم هذا تركيبا هو لا يسمى تركيبا في لغة من اللغات المعروفة لبني آدم بل إنما سماه تركيبا متأخروكم كابن سينا وأمثاله وأما قدماؤكم فقد ذكرتم عن أرسطو طاليس أن كل تركيب فهو كائن عنده فاسد والسماء عنده ليست كائنة فاسدة فهو لا يسمي السماوات وما فيها من الكواكب مركبة مع لأنها أجسام متحيزة متحركة تقوم بها الأعراض فكيف يسمي ما كان حيا عالما قادرا مركبا ؟ وإذا خاطبناكم باصطلاحكم المبتدع لنقطع شغبكم بحثنا معكم بحثا عقليا فإنكم تدعون أن هذه الأمور معلومة بالعقل لا بالسمع وإطلاق الألفاظ ونفيها لا تقفون أنتم فيه عند الشرع فالواجب على أصولكم أن ما علم بالعقل ثبوته أو انتفاؤه اتبع من غير مراعاة للفظ
ونحن نبين فساد ما ذكرتموه من المعنى بالعقل الصريح مع مخاطبتكم بلغتكم فيقال له لم قلت إن ما كان مركبا من شرط لا يكون واجب الوجود ؟
وأما قوله لأن تركيبه إذا كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر تقدير مركب قديم من غير أن يكون له مركب
فيقال له هذا هو البحث اللفظي ذكرنا هذا لأجله والمركب الذي يفتقر إلى مركب هو ما ركبه غيره كما أن المحرك الذي يفتقر إلى محرك ما حركة غيره ولم يقل احد من العقلاء إن واجب الوجود مركب ركبة غيره وأنتم إذا سميتم اجتماع الذات والصفات تركيبا لم تريدوا إلا الاجتماع والتعدد والتألف وكثرة المعاني ونحو ذلك لم تقصدوا بذلك ان هناك فاعلا لذلك وإن أردتم ذلك كان باطلا وبطل اللفظ والمعنى جميعا فغن أصل الكلام أن الواجب إذا كان ذاتا موصوفة بصفات كان مركبا فإن أراد المريد : كان له من ركبه من الذات والصفات كان التلازم ممنوعا بل هو باطل ضرورة فإنا إذا قدرنا واجب الوجود بنفسه الغني عن الفاعل موصوفا بصفات لازمة له امتنع أن يكون للواجب بنفسه المستلزم لصفاته من ركب بينه وبين صفاته فإن كونه واجبا بنفسه يمنع ان يكون له فاعل وكون صفاته لازمة له يمنع جواز مفارقتها له ويمنع افتقارها إلى من يجعلها فيه فكيف يقال : إن له مركبا ركبه حتى يقال : إن هذا تركيب يفتقر إلى مركب ويقال يمتنع ثبوت مركب قديم أي من ذاته ومن سمى هذا تركيبا وقال إنه قديم فإنه يقول هو تركب وتألف واجتماع ومثل هذا لا يفتقر إلى مركب مؤلف جامع ولو قيل على سبيل الفرض إن الذات المستلزمة للصفات هي الموصوفة بذلك فليس هنا ما يقتضي افتقارها إلى غيرها

كلام لابن رشد باطل من وجوه
وأما قوله خاصة على قول من يقول كل عرض حادث لن التركيب يكون فيه عرضا قديما فهذا باطل من وجوه :
الوجه الأول
أن القائلين بأن كل عرض حادث من الأشعرية ومن وافقهم لا يسمون صفات الله أعراضا فإذا قالوا هو عالم وله علم وهو متصف بالعلم لم يقولوا إن علمه واتصافه بالعلم عرض ومن سمى صفاته أعراضا كالكرامية ونحوهم لم يلزمهم أن يقولوا كل عرض حادث 0 وما أعلم أحدا من نظار المسلمين يقول كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض فإن هذا تناقض بين فما ذكره لا يلزم أحد من المسلمين ن فلم يقل أحد إن كل عرض حادث مع قوله إن صفات الله اللازمة له أعراض

الوجه الثاني
أن يقال على سبيل التقدير من قال كل عرض حادث فإنه يقول في الأعراض الباقية إنها تحدث شيئا بعد شيء فإذا قدر موصوف قديم بصفات وقيل إنها أعراض والعرض لا يبقى زمانين لزم أن يقال إنها تحدث شيئا بعد شيء وحينئذ فإذا قدر اجتماع أو تألف او تعدد في الصفات ونحو ذلك مما سميته تركيبا
وقيل إنه قديم وإنه عرض وإن كل عرض فهو حادث لا يبقى زمانين كان أولى بتجدد أمثاله من سائر الأعراض فثبوت المعنى الذي سماه تركيبا وجعله عرضا قديما كسائر الصفات القديمة

الوجه الثالث
أن يقال هذا الذي سميته عرضا قديما حكمه سائر الصفات فإن أقمت دليلا على انتفاء الصفات أمكن نفي هذا وإلا فالقول فيه كالقول في أمثاله 0 وأنت لا دليل لك على انتفاء الصفات إلا انتفاء الاجتماع والتعدد الذي سميته تركيبا فإذا لم يمكنك نفي هذا إلا بنفي غيره من الصفات ولا يمكنك نفي الصفات إلا بنفي هذا كان هذا دورا قبليا باطلا وقد تبين انه لا يمكنك لا نفي هذا ولا نفي هذا وان ما ذكرته من لفظ التركيب كلام فيه تلبيس توهم به من لا يفهم حقيقة المقصود أن مثبته الصفات أثبتوا لله تعالى ما يفتقر فيه إلى مركب يركبه معه وكل عاقل يعلم أن مذهب المسلمين المثبتين للصفات أن صفاته القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه ومن جعل اتصافه بها مفتقرا إلى مركب غيره فهو كافر عندهم فضلا عن أن يقولوا إنه مفتقر إلى مركب جمع بينه وبينها

الوجه الرابع
أن يقال على سبيل الفرض لو نازعك بعض إخوانك الفلاسفة في امتناع مركب قديم من ذاته لم يكن لك عليه حجة فلو قدر أن ذلك يستلزم مركبا قديما من ذاته لم يكن لك على أصول إخوانك الفلاسفة حجة على إبطال هذا فإن الفلك عندكم جسم قديم وهو مركب بهذا الاصطلاح
وأما قولك الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وجود قديم من ذاته عندهم ن لأن التركيب شرط في وجوده ولا يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها
فيقال لك إذا كان التركيب شرطا في وجودها نوهي شرط في وجود التركيب لم يكن أحدهما فاعلا للآخر بل إن كانا مفتقرين إلى الفاعل ففاعل الأجزاء هو فاعل التركيب وإن كانا غنيين عن الفاعل لم يفتقر أحدهما إلى الفاعل 0 والكلام على تقدير أن يكون المركب قديما تركيبه بنفسه 0 وقولك مركب من نفسه لا تعنى به أن أجزاءه فعلت التركيب وإنما تعنى به أن نفس الأجزاء متلازمان وهما مستغنيان عن غيرهما

الوجه الخامس
أن يقال قد اعترفت بفساد طريقة ابن سينا وأنها لا تتضمن أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه
وهذا الذي قلته في طريقة ابن سينا يلزمك بطريق الأولى فإنه ليس فيما ذكرته أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه إلا ما أخذته من لفظ مركب وهذا تدليس قد عرف حاله
وأما قولك إن دليل الأشعرية أيضا لا يفضي إلى إثبات أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى إثبات أول ليس بحادث
فهذا أيضا توكيد لإثبات الصفات ن فإن مرادك بالمركب ما كان موصوفا بالصفات ولا ريب أن الأدلة الدالة على إثبات الصانع ليس فيها والحمد لله ما ينفي إثبات الصفات
فإن قلت فهم ينفون التجسيم بناء على انتفاء التركيب ولا دليل لهم على ذلك
قيل لك هذه حجة جدلية وغايته أن تلزمهم التناقض وذلك لا يقتضي صحة قولك الذي نازعوك فيه وهو نازعوك في إثبات الصفات فقلت إن إثبات الصفات يستلزم التركيب وأنت لم تقم دليلا على نفي هذا التركيب فلم تقم دليلا على نفي الصفات وقالوا لك أيضا لا دليل لك على نفي التجسيم فإن عمدتك هو نفي الصفات العائد إلى نفي التركيب وقد ظهر ذلك
فإذا قلت لهم وأنتم أيضا لا دليل لكم على ذلك فإن دليل الحدوث لا يقتضي ذلك
قالوا لك نحن أثبتنا الحدوث بحدوث الجسم وهو المراد بقولنا مركب فإن صح دليلهم ثبت نفي ما سموه تركيبا وغن لم يصح دليلهم لم يكن في هذا منفعة لك
وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك وهي طريق صحيحة وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح وان احتجاجهم بهذا نظير احتجاج أولئك بلفظ التخصيص حيث قالوا إن المختص بشيء لا بد له من مخصص وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيدا وهذا هو الذي سلكه أبو عبد الله محمد بن تومرت الملقب عند أصحابه بالمهدي وأمثاله من نفاة الصفات المسمين ذلك توحيدا

كلام ابن تومرت
ولقب ابن تومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا ويقال إنه تلقى ذلك عمن يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى
قلت ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا إثبات الرؤية ولا قال إن كلام الله غير مخلوق ن ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين والقائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وقد ذكر ابن التومرت في فوائده المشرقية أن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا

ما ورد في كتاب الدليل والعلم
وقال ابن التومرت في كتاب الدليل والعلم فقال
المعلومات على ضربين معدوم وموجود والموجود على ضربين مطلق ومقيد فالمقيد هو المخصص والاختصاص على ثلاثة اضرب الاختصاص بزمان دون زمان سواه والثاني الاختصاص بجهة دون جهة غيرها والثالث الاختصاص بخاصة دون خاصة غيرها ن والموجود المطلق هو الذي ليس بمقيد ولا بمخصص ن فلا يختص بزمان دون غيره ولا بجهة دون غيرها ولا بخاصة دون غيرها فلو اختص بشيء لكان من جنسه ن فلما انتفت عنه الخواص على الإطلاق وجب له الوجود المطلق
قال والموجود المطلق هو القديم الأزلي الذي استحالت عليه القيود والخواص المختص بطلق الوجود من غير تقييد ولا تخصيص وذكر كلاما في نفي الاختصاص إلى أن قال وإذا تساوت المتناهيات في الاختصاص بجهة مقدرة امتنع عليها التخصيص من جهتها ومن مخصص على الإطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار وانفرد بالقهر والاقتدار وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وإن تكاملت صفاتها

تعليق ابن تيمية
قلت ومعلوم أن هذا تناقض فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل ن والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز ن والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره فإن أثبت شيئا من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجودا مطلقا تناقض كلامه
وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ن فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق لا حيوان ولا إنسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق بل كل موجود فله حقيقة بها لا يشركه فيها غيره
وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات أم غيره ؟ فإن قال هو هو بطل إثبات الخالق وإن قال هو غيره قيل له فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله ن فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجبا غير واجب محدثا غير محدث وهو جمع بين النقيضين
وإن قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجودا يختص به لا يشركه فيه غيره فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه ؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما فإنه مبني على مقدمتين إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم
وأما الأولى فقررت بوجهين
أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص ن وقد تبين فساده أيضا
الثاني أن جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو البعض مجتمعا والبعض مفترقا وخلوها عنهما وأيضا الجمع بينهما ممتنع واما بقية الأقسام فهي ممكنة ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزا والجائز يفتقر إلى مخصص
وهذا أضعف الوجهين
أحدهما انه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وان كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق واكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك فإن للناس في هذا المقام أقوالا أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم
والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه
والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ كما هو قول الشهر ستاني وغيره
والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ن ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء ن فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية
وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر ن وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه
وألزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها
ومن نفاه وقال بانه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير وان يكون ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين
ثم إما أن يقول هي غير متناهية مع وجودها كما يقوله النظام والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام ن وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه
أو يقول إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية ن توقف من توقف من أفاضل النظار فيه فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته
فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض خلصوا من هذا وهذا ن وقالوا إنه إذا صغر استحال إلى غيره مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجودا
وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن وما يفسد من ذلك غنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها فالحادث صفات الجواهر لا أن عينا من الأعيان يحدث وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا : إن أجزاء المني باقية في الأنسان وكذلك أجزاء النواة في الشجرة ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء كأجزاء الماء والهواء وأن تلك الأجزاء أيضا باقية لم تستحل ولم تعدم بل تجتمع تارة وتفترق أخرى
وجماهير العقلاء على مخالفة وقائلون هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس
ولهذا يقولون : النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر ؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رمادا أو ترابا أو ملحا ونحو ذلك ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد بن حنبل واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر
والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تسحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب وأن هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الأنواع من الأجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم
وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج ن وإنما تقديره في الذهن وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة فقد بين في غير هذا الموضع أنها لا تتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان
وتوحيد القديم الأزلي واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود واحد لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص فإن الواحد بالنوع كما يقال : الموجودات تشترك في مسمى الوجود والأناسي تشترك في مسمى الإنسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان والأجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك
وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا ولا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان
وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات وما دخل عليهم من الفساد في العلم الإلهي والطبيعي وأنهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والأثنين واحدا كالعلم والعالم والإرادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوما ن كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجودا كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه
الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله : إن اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده كقوله إن اختصاصه بالمقدار إلى مخصص وهو مبني على أن كل مختص يفتقر إلى مخصص
وأما المقدمة الثانية فإنها قررت بان المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وان يكون ما خصصه به حادثا وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين
وغاية هذا المسلك أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث

كلام الآمدي في تقرير هذا المسلك
قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ماأشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الفصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي إليه

ذكر الآمدي في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها
قلت : وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فإنه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها :
الأول : مسلك الإمكان وأنه ممكن وكل ممكن محدث
والثاني : مسلك الاختصاص
الثالث : مسلك الخبز المعين
الرابع : مسلك القدم : أنه قديم
والخامس مسلك الإمكان أيضا لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى
والسادس : مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي وقد تقدم ما عترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها

المسلك السابع الذي اعتمده
قال الآمدي والمسلك السابع : المسلك المشهور للأصحاب وعليه الاعتماد وذكر أن المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي
قال الآمدي : وهو أنا نقول : العالم مؤلف من أجزاء حادثة والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث بيان الأول أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض والواهر والأعراض حادثة فأجزاء العالم حادثة وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن بيانت الثانية إما بيان أن الأعراض حادثة فلانا بينا ان الأعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه فكل واحد من الأعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلم فإما أن تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي إليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو أن تكون جملتها متناهية ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الواهر عن الأعراض وإذا كانت الأعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث وإلا فلو كان قديما للزم منه غما عروة عن العرض في حال قدمه وإما أن تكون الأعراض لا أول لها وكل واحد من الأمرين محال لما تقدم
اما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي إليه فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة
فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه

تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : هذا الدليل أضعف بكثير ممن ذكره الرازي ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون إن هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه من جنس قول النظام إن الأجسام أيضا لا تبقى
وعمدة من قال بامتناع بقائها : أن العرض لو جاز لامتنع عدمه لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ذد فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا
ومعلوم ان هذا كلام ضعيف فإنه يمكن عدمه بالإعدام وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر بل هو إحداث لعدم ما كان موجودا كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوما وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل
وأيضا فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي كان إزالته له لفضل قوته فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف
وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس
ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما فإذا لم يحدثها عمدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم
وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأموري وغيره عليها وبيان فسادها
فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون : إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها
فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالمعومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم ؟
بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارت طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه
وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم

فصل
وإذ قد عرف ما قله الناس من جميع الطوائف في مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى وضعف أدلة النفاة واعتراف أب يعبد الله الرازي وغيره بذلك وانه اعتمد على حجة الكمال والنقصان وهي ضعيفة أيضا كما تقدم وذكر هو و أبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما ادلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به : إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله منزة عن ذلك

ضعف تضعيف الرازي وغيره لحجة الكمال والنقصان
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة
الوجه الأول
أن يقال : القول في افعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كما لزم عدم الكمال له في الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال
وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال
فأجيبوا بانه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره
فإذا قيل : لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته وذلك في الأزل محال فما كان جوابا عم هذا كان جوابا عن هذا
وقد اورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :
أحدها : أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور لا في مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه وهو قادر على افعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة
قال تعالى : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } القيامة 40 وقال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية الأنعام 65 وقال تعالى { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يس 81 وقال تعالى { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } الشورى 29 فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع وهذه أفعال وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي مسعود البدري لما رآه يضرب عبدا له لله أقدر عليك منك عليه فتعين انه قادر عليه نفسه
والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ليس في كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل اتمنع وجود الحوادث كذلك فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور إذ كلاهما مقدور
الثاني : أن يقال إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا
الثالث : أن يقال : إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ن فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور بل في حال إمكانه ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا : أنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك ف يغير هذا الموضع

الوجه الثاني
أن يقال : كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال وهو لم يزل متصفا بذلك وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال

الوجه الثالث
أن يقال : ما تعني بقولك عدم ذلك نقص ؟ أتعني به أن ذاته ناقصة وأنها ليست منتصفة بصفات الكمال الواجبة لها ؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها ؟ أما الأول فباطل وأما الثاني فلم قلت إن هذا ممتنع

الوجه الرابع
أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائض إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك لم يبقي ذلك إلا بالسمع الذي هو الإجماع عندكم ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور وإنما نفي ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافي للحياة والسنة والنوم المنافي للقيومية واللغوب المنافي لكمال القدرة
ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا فإن العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام دل أيضا على نفي أضداد هذه فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال
وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذي خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه

الوجه الخامس
أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضيا بان المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال بل القابلة للاتصاف بها أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها
ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات وهذا الطريق وتحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات
فيقال : وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتي ولا تجيء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها وذاتا تقدر على هذه الفعال ولا تحدث الأشياء بفعل لها كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع والحي أكمل من الجماد والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الصم الأخرس والحي أكمل من الجماد والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس
وإذا كان كذلك فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص فقال لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر معدوما في الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفا بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفا بالنقص
فيقال : أنت وصفته بالكمال عن النقص حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص فإن من لا يفعل قط ولا يقدر أن يفعل هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء
وهذه عادة النفاة لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم لما قبل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت
فقالوا : إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا
فيقال لهم : فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكانه ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه ولهذا نظائر مبسوطة ف يغير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من نفي الأفعال الاختيارية القائمة به لئلا يكون وجود الحادث منها ناقصا كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا

الوجه السادس
أن يقال : الأفعال التي حدثت بعد ان لم تكن لم تكن وجودها قبل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده وما به يحصل الكمال وما ينبغي وجوده ونحو ذلك والرب تعالى حكيم في أفعاله وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه وما أخره كان الكمال في تأخيره كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات

الوجه السابع
أن يقال : الحوادث يمتنع قدمها ويمتنع أن توجد معا واو وجدت معا لم تكن حوادث ومعلوم انه إذا دار الأمر بين إحداث الحوادث وعدم إحداثها كان أحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل
وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما فلا يقال عدم فعل هذا او عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره

الوجه الثامن
أن يقال : لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثا أحدثها فالمحدث لها : إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الاثنين ممكنا فإن الأول فيه وصفة بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع
وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها وهي في الحالين حادثة لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا بل حدثت بذاتها
وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول الفلاسفة الدهرية القائلين بان حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وإن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فغن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى وهو انه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل او الترجيح بلا مرجح
فيقال لهم : أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فسادا من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة

الوجه التاسع
إن يقال : أفعال الله تعالى : إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة وإما أن لا يكون والناس في هذا المقام مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمه قائمة بالمخلوق أو حكمه قائمة بالخالق 0 والأقول الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه وهو الفعل عندكم
وإن أثبتم الحكمو قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره اهي صفة كمال أو لا ؟
فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به
وإن قلتم ليست صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة
فقد لزمكم في الحكمة إن أثبتموها أو نفيتموها ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء وهذا بين واضح

الوجه العاشر
أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل ان هذا صفة كمال وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع ؟
فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص
قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع ؟
ولفظ النقص لفظ مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن لزم أن يكون معدوما قبل وجوده
فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال ؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا استكماله بفعل غيره بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم الخبير الرحيم الودود لا إله إلا هو وكل ما سواه فقير إليه وهو غني عما سواه لا يكمل بغيره ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ولا ضره فيضروه بل هو خالق الاسباب والمسببات وهو الذي يلهم عبده الدعاء ثم يجيبه وييسر عليه العمل ثم يثيبه ويلهمه التوبة ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها وهو الذي خلق ما لايحبه ولا يرضاه من اعمالهم لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } القصص : 70 فلا إله إلا هو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الانبياء : 22 إذا كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } الفرقان : 23 وقال { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } إبراهيم : 18 وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا
فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة وحبنا لذلك بطريق التبع وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله فالله تعالى يحب الذين يحبونه فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ويحب الحمد من خلقه
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله
وقال له الأسود بن سريع يا رسول الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى انه كان يقول ذلك في آخر الوتر
فهو المثني على نفسه إذا أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه
والثناء تكرير المحامد وتثنيتها كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدني فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد احق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد 0 فذكر الحمد والثناء والمجد هنا كما ذكره في اول الفاتحة فالحمد يتناول جنس المحامد والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها 0 والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها
فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ولا أحد يحسن أن يحمد كما يحمد نفسه ن ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ولا يمجده كما يمجد نفسه
كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر : 67 قال يقبض الله سماواته بيده والأرضون بيده الأخرى ثم يمجد نفسه فيقول نا الملك انا القدوس انا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون ؟ أو كما قال
وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى إني جواد ماجد واجد إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون

فصل كلام الآمدي في أبكار الأفكار في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته
تبارك وتعالى 0
ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى :
قال وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم كان ذاتا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم أو الأحوال عند القائلين بها فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك أو النسب والإضافات فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد ولا يقال له حادث
قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك
غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث ن وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف مذهبهم فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين وهما السمع والبصر
قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ولا يعود إليه منها حكم حتى لا يقال إنه قائل بقول ولا مريد بإرادة بل قائل بالقائلية ومريد بالمريدية ولم يجوزواعليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى في الخالق والرازق وغن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق
قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به غير أبي الحسين البصري فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد الملومات ن وما كان من النسب والإضافات والتعلقات فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن 0 وما كان من الأعدام والسلوب 0 فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى فلا يكون متجددا بالإجماع مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض إلى غير ذلك 0 وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات فغير ممتنع إن يتصف به الرب تعالى بعد أن لم يكن بالإتفاق فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال الرب تعالى موجود مع موجوده وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن

تعليق ابن تيمية
قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم سواء كان قائما بنفسه كالجوهر أو صفة لغيره كالأعراض ن وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات وهذا الفرق أمر اصطلاحي وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث
وأيضا فإن الأحوال عند القائلين بها منهم من يقول بوجودها وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها وأن يكون وجودها تبعا لغيرها
وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة
وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجدادت في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة وربما أفهم أو اوهم في العرف استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا
وأما مورد النزاع انه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والأستواء عليه والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك وإما من باب الأقوال والكلمات وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق
أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلامه أو ما أجمع عليه أهل العلم وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه و سلم ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا بل الكتب الإلهية المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات
وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة وشيوخ المسلمين المتقدمين لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر
ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الأولى في أواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته
فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك انه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والاستواء أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف
وعن هذا قالت المعتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم
وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي
و ابن كرام كان متأخرا بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفي ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبلة على مخالفة المتزلة والكلابية حتى طوائف أهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما كما ذكر عنهم الأشعري في المقالات
وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتداع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين
وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الأصل والمحكي عن كثير من أساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين كانوا قبل أرسطو من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحا وإما لزوما وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهري وغيره
وما حكاه عن أبي الحسين البصري فهو قول غير واحد قبل أبي الحسين وبعده كهشام ونحوه وغيره وإبن عقيل يختار قول ابي الحسين وهو معنى قول السلف والرازي يميل إلى قول أبي الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أي معاني أسمائه أي ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية
واما نفس الاسم فهو من كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لن ذلك يقتضي حوادث لا أول لها أو يقتضي قدم القول المعين وكلاهما باطل عندهم وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئا مما يقوم بذات الرب لا مخلوقا ولا محدثا وغنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدوث

تابع كلام الآمدي وتعليق ابن تيمية عليه
قال وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :
الأولى قالوا لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا والرب تعالى ليس بحادث
قال وهذه الحجة مبينة على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا والثالثة أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره
قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر انه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبني ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة
وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤلا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا فبطل ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير
وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر
قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بان الحادث يمتنع أن يكون أزليا
وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول
وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤلا واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين انه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث
ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى
والسؤال الذي أورده يرد على النوعين وقد ذكرنا وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم ومضمونه أنه : لم يلا يجوز أن كان لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلومات التي لا تتناهى وإن كان ممكنا في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلا لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول أصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين مع انه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين أو ما يعارض ما يثبت انه من الدين
وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله انه يتكلم بالقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه
وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا وهذا الوجه ضعيف
فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الأزلي النوع فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأي شيء ينفعك نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه ؟
قال : وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول
قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودي يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وإما أن يراد به ما هو اعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وان يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جدا وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا ولو كان عدمه حادثا كان وجوده سابقا على عدمه وهو محال
قال وإن سلمنا انه لا بد أن يكون ضد الحادث معنى وجوديا ولكن لا نسلم امتناع خلو عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة
قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفي بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفلتية من أصحاب أبي كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال
وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها فقال أما أهل الإثبات يعني للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا وهو انهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا 0 فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضا فيجب أن يكون قادرا عليه مريدا له عالما به كما وقع به الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادرا لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالما بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده
قالوا وإذا ثبت كونه قادرا مريدا عالما وجب أن يكون حيا إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمي والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد أيضا والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات
قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالما والقدرة علة كون القادر قادرا وعلى هذا النحو باقي الصفات والعلة لا تختلف لا شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن شرط العالم في الشاهد قيام العلم به وكذلك في القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا
قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها علي هذا الوجه فإنه يمكن تقريرها على وجه اكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جدا وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب
وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره في غير هذا الموضع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما قد ذكر في غير هذا الموضع
لكن المقصود هنا انه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لاتصف بضده العام الذي يتضمن النفي وهو قد ذكر هنا أنه قرره
قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه حيا لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وانه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة والتضايف والتضاد وان تقابل العلم والجهل أعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل أتعدم والملكة
والملكة على اصطلاحهم كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء إما بحق جنسه للإنسان فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابه زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل
قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة
قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو انه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلا لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارىء تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه
قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي انه قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه
الوجه الأول لن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر اكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك
وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال وهي في الحقيقة من جنس هذه فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها والقدح في دلالتها يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية وهي مما ألهمني الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن تكون لا صفة كمال وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا أو مساويا من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو انه في نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق
قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وغن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بان يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص فيكون انقص من بعض مخلوقاته
الوجه الثاني أن يقال هب انهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا
جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما اكمل ممن لا يقبل واحدا منهما وإن كان موصوفا بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال اكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال فلان يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى وهذا معلوم ببداهة العقول
الوجه الثالث : إن نقول : لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات وقد قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى
وإذا كان سبحانه قادرا على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جمادا من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك بل بوجود به له إذ ما كان ممكنا في حقه من صفات الكمال كان واجبا فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته
وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر في الاستدلال على الحق الذي قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم في جهة الربوبية بما يراه تقصيرا ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف الأئمة الموافقين للشرع والعقل وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم في هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية
وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم وهي مبنية على مقدمتين أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم في ذلك بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة
والثانية : على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف قال الآمدي الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام الذات وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجا عن الذات فإما أن يكون معلولا للإله تعالى أو لا يكون معلولا له فإن كان الأول لزم الدور وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيدا للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو إلاله
وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالا
قال الآمدي ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه فليس السبب هو المسبب ولا خارجا ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور وإلا كان العالم قديما وهو محال
قال : فإن قيل : إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة والاختيار فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصدا لمحل حدوثها ومحل حدوثها ليس إلا ذاته فيجيب أن يكون قاصدا لذاته والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به هو محال
وأيضا فإن الصفةالحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هي مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة
قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعي القصد إلى محل حدوثها فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة
ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال
والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل
وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس
قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وامثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث الحادث مطلقا من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان الذات لزم دوامه وغن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور لن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثا وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديما وهو الذات ومعولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج وما حدث في الخارج موقوفا على الحادث فيها \ فيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواحب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره
ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإن قال الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته
ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح
والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح وقد عرف كلام الناس في هذا المقام

الرد على الفلاسفة في مسألة امتناع حلول الحوادث بذاته تعالى من وجوه
ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعا وذلك من وجوه
الوجه الأول
ان يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث اول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإرادات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هي الشرط في حدوث الأفلاك كما تقولون انتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله
فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث
قيل لهم دليلكم على نفي قيام الحوادث به إما أن يكون نافيا لقيام الصفات به مطلقا وإما ان يخص الحوادث فإن كان الول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفي الصفات وإبطال ما تذكرونه في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات كما بسط في موضعه
وإن كان مختصا فدليلكم على النفي هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم ان تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دورا وهذا من المصادرة على المطلوب فغن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفي ذلك إلا بنفي حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب

الوجه الثاني
إن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث غما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة
فإن قلتم هذا يستدعي تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث
قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها
وأيضا فيقال لكم مالا يخلو عن جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وغن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديما لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب حادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلا إنه فيلزم قول الكرامية 0 وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل القائل فما لا ينفك عن حنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة
فتبين انه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير
وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم وإذا جاز عندكم ان تكون الذات سبب الحوادث التي لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضي لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقا
وقد عرف فساد قولهم في ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم في ذلك الأصل

الوجه الثالث
أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلول الذات قولهم يلزم الدور له إنما يلزم الدور إذا كان ذلك الحادث الخارج موقوفا على الحادث المتصل والمتصل موقوفا على الخارج وأما إذا كان ذلك الخارج موقوفا على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج آخر والخارج الآخر موقوف على متصل آخر فإنما يلزم التسلسل في الآثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير
وإذا كان اللازم هو التسلسل في الآثار والتأثيرات المعينة فذلك لا يلزم منه الدور والتسلسل جائز عند هؤلاء الفلاسفة وكثير من أهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلا ولا دورا في أصل التأثير فإن هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فإن الدور والتسلسل في تمام التأثيرات المعينة فإنه كالتسلسل في الآثار المعنية والتسلسل في أصل التأثير كالتسلسل في أصل الآثار
ثم يقال إن كان هذا التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وان تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث 0 وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم في المتصل والمنفصل

والوجه الرابع
في الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا كان ليس معلول الذات يلزم إن يكون مفيدا للإله صفاته فيكون أولى بالإلهية
يقال لهم هذا وغن كان باطلا عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافي وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وغنما ينتفي ذلك بنفي واجب بذاته مباين له وذلك مبني على نفي واجبين بالذات
وأنتم ادعيتم ذلك وادرجتم في ذلك نفي الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وادرجوا في ذلك نفي الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جدا وحتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجوب وجودها بذاتها لضعف ذلك
وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه في الأفلاك وهو قول أهل وحدة الوجود في كل موجود الذين أظهروا التصوف والتحقيق وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة
وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون
فإن قيل : إنها واجبة الوجود بذاتها مع ان الحوادث تقوم بها بطل قولكم : إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث
وإن قلتم : إنها معلولة مفعولة لغيرها فالموجب لها : إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر والقول فيه كالقول فيه وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفا على شرط حادث والقول فيه كالقول في الذي قلبه فيلزم التسلسل وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث فإن ذلك يقتضي مقارنة جميع معلوها لها لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها وامتناع أن يصير علة لشيء ما بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير فبطلي هذه الحجة
وأيضا فقدماؤهم يقولون : إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه ولم يذكروا أن الأفلاك مبدعة له ولا معلولة لعلة فاعلة
وحينئذ فلا بد أن يقال : هي واجبة بنفسها وهي مفتقرة في حركتها إلى المحرك المنفصل عنها فلا يمكن من قال هذا أن يقول : إن الواجب بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له كما لا يمكنه أن ينفي شيئين واجبين بأنفسهما كل منها متوقف على الآخر
إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منها محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه لا حاجة المصنوع إلى مبدعه

الوجه الخامس
أن يقال : غاية ما ذكرتموه في الحوادث منقوص بالمتجددات كالإضافات والعدميات فإنهم سلموا حدوثها وهذه الحجة تتناول هذا كما تتناول هذا فما كان جوابكم عن هذا كان جواب منازعيكم عن هذا
فإنه يقال : تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد والسبب إما : الذات وغما خارج عنها فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات وإن كان الثاني لزم الدور أو التسلسل وإن كان الثالث فالأمر الخارجي الذي أوجب تجدد تلك الإضافات والإعدام يجب أن يكون واجب والوجود
وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا
أما قول القائل : القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له فالكرامية تقول بموجب ذلك وليس هذا محل الأنواع هنا ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المبانية للرب في جهة منه أو لا يجوز ذلك
فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم
وإن أرادا ان ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته
فيقال له : هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا ؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم
يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإدارته وهذا السؤال يرد عليها فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء وإلا فلا
وأيضا فيقال : قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة منم المقاصد وأما أن لا يستلزم ذلك فإن استلزم ذلك لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر من غير عكس كما ذكروه وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة
وإذا كان كذلك بطلب حجتهم لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة بطل نفي هذا اللازم
وإما ان يقال : قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد وحينئذ فبطلت هذه الحجة فثبت بطلانها على التقديرين
وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة فإن أحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة والثانية أن كون الباري في الجهة محال فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا فبطلت الثانية وإن كانت الأولى باطلة بطلت الحجة أيضال لبطلان أحدى مقدمتيها
وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث فإن قالوا : إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهؤلاء يقولون بان الحوادث تحدث عنه بوسائط
وحينئذ فيقال : إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم ؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم
وإن قالوا : بل العالم واجب الوجود بنفسه فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر وبطلان اللازم الذي هو المدلول كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة
وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله : القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات والقصد منه وليس هو في جهة عندهم
بل يقال جوابا قاطعا : القصد في الجهة ممن ليس في الجهة إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الأعتراض وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية
وأما الاعتراض الثاني وهو قولهم : لجاز قيام كل حادث به فظاهر الفساد فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به كالجهل المركب والمرض والسنة والنوم وغير ذلك من النقائض الوجودية وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به وإنما يقوم به ما يليق بجلاله وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال ولا يوصف بنقائضها بحال
وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث كما انه إذا قيل : تقوم به أمور وجودية ولم يلزم أن يقوم به كل موجود لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة حتى يقوم به كل موجود وهذا كما إذا قلنا : إن رب العالمين قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات أن يكون رب العالمين
والناس متنازعون في صفاته : هل تسمى أعراضا أو لا تسمى ؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا
فإذا قيل : لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض لكان هذا أيضا باطلا فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به
والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل : لو جاز أن يخلق موجودا للزم أن يخلق كل موجود فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال أو لو قيل : لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا لزم أن يخلق كل حي عالم قادر وهو حي عالم قادر فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال لكان هذا كلاما باطلا
وأصل هذا أن السالب النافي لما نفي نفيا عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدره عليه لكونه حادثا فنفي عاما أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابلة المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية وكذبها يحصل بإثبات خاص وهو القضية الجزئية الموجبة فيجوز قيام صفة ما من الصفات وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث
لكن المشترك كما انه ليس هو المقتضي له للقيام بالذات فليس هو مانعا فكون القائم به صفات أو حادثا ليس أمرا موجبا للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث
فمن نفى نفيا عاما لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتا عاما لأجل ذلك وكلاهما باطل بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شيء قدير ولم يزل قادرا على أن يتكلم ويفعل بمشيئة واختياره سبحانه وتعالى
وإذا قال القائل : هذا يقتضي قيام الصفات أو الحوادث به قيل : هذا المعنى عديم التأثير لا هو موجب للامتناع ولا للجواز
والمثبتون يقولون : كونه قادرا على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص فإن القدرة على الفعل والكلام مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم فإنه يكون بمنزلة الزمن ويقولون : بالطريق التي تثبت له صفات الكمال يثبت هذا فإن الفاعل بنفسه الذي يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك أكمل ممن لا يمكنه ذلك كما قد بسط كلامهم في غير هذا الموضع
وأيضا فإن أراد المريد بقوله : تقوم به الحوادث كلها أنه قادر على أن يمسك العالم كله في قبضته كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟
وفي بعض الآثار : ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة وقال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم
فإن أراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذي دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفي مخلوقاته
وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائض الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو ذلك وهذا ممتنع لكونه نقصا لا لكونه حادثا فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلا وأبدا فلا يجوز أن تقوم به لا قديمة ولا حادثة لكونه نقاقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته
وإذا كان أحد النقيضين لازما للذات لزم انتقاء النقيض الآخر فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات
وأما السؤال الثالث وهو قوله : إنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل مالا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره
وأيضا فإن عدم الحاجة إلى الشيء أوجبت نفيه فينبغي أن تنفي جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شيء
وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجا إليه وجب إثباته وما لم يكن الخلق محتجا إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين
وأيضا فإن الرب تعالى يمكن ان يكون له من صفات الكمال مالا يعلمه البعاد ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه
ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر وهو أن يقال : الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلا
وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلا آخر ولا يبطل ثبوت المدلول فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه
ثم هم قد يقولون : صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل
ويقولون أيضا : قد علم أن الله خالق لعالم والخلق ليس هو المخلوق إذ هذا مصدر وهذا مفعول به والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه
وهذا قول جمهور الناس وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول جمهور الناس : أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم
لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق : هل هو قديم قائم بذاته ؟ أو هو منفصل عنه ؟ أو هو حادث قائم بذاته ؟ وإذا كان حادثا فهل الحادث نوه ؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال ؟
هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضا : إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم وأن المتكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله انه { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وان تدل على أن الفعل مستقبل فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع
وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية وهو عمدة منازعيهم ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز ان يكون الحق في قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين

الحجة الثالثة عند الآمدي على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي الحجة الثالثة : أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل وإلا كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى وهو تسلسل ممتنع وكون الشيء قابلا للشيء فرع إمكان وجود المقبول فيستدعي تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل وحدوث الحادث في الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشيء أزليا وبين كونه حادثا
قال الآمدي ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيمالا يزال مع إمكانه القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الأيجاد بالقدرة للمقدور وكون الرب خالقا للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل قادرا على خلق العالم ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا
قلت : قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين هما منع لكلتا مقدمتيها فإن مبناها على مقدمتين : إحداهما : أنه لو كان قابلا لكان القبول أزليا
والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع المقبول
فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد يلزم قبلوها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن وجودها في الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها في الأزل
وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل
فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الأثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول في قبولها كالقول في فعله لها إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل
وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم
وأما المقدمة الثانية فيقال : لا نسلم انه يلزم من ثبوت القبول في الأزل إمكان وجود المقبول في الأزل بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف
وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك والنكتة في الجوابين : أن ما ذكروه في المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات لكن فارق غيره في المحل فهذا مقدور في الذات وهذا مقدور منفصل عن الذات فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم فهذا المنفصل عندهم مقدور وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل
والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال : منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم
ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور كالجهعية والمعتزلة وغيرهم
ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور والقديمة لا تكون في محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم
ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعا
والمقصود هنا ان ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات
فيقال لهؤلاء : حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات كما في المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما
والجواب القاطع المركب ان يقال إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكنا وغما أن يكون ممتنعا فإن كان الأول كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكنا وحينئذ فلا يكون اللازم منفيا فتبطل المقدمة الثانية
وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال إنه قابل لها في الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل فتبطل المقدمة الأولى
فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمي يبطل الحجة قطعا
وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فغن هؤلاء يقولون إنه قابل لها في الأزل وإنها موجودة في الأزل
وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهي ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب
وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادرا على الفعل وجب أن يكون قادرا عليه في الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى وذلك يقتضي التسلسل فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعا وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ويمتنع تجددها له إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن وذلك يقتضي دوام نوع القادرية فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور فتستدعي تحقق كل منهما وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا فلا تكون القادرية عليه ثابتة في الأزل فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل
وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا : لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما للزم أن لا يحدث شيئا لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات
وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع
وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث
ثم تلك الحوادث الدائمة : إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث
وذلك الشرط إما منه وغما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث
وتلك الحوادث إما ان تحدث بغير أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم انه لم يزل قادرا قابلا فاعلا تقوم به الأفعال والأول باطل لأنه إذا كان في نفسه أزلا وابدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر اولى من العكس
وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذي يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير مفعول بل ذلك يقتضي أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمي المفعول به وأن التأثير هو الأثر
ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائما لزم قيامه بذاته دائما وأن تكون ذاته دائما موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفا بالكمال قابلا للكمال مستوجبا للكمال وهذا أعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى
وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك
وذلك مثل احتجاجهم على قدم الأفلاك بأنه إذا كان مؤثرا في العالم فإما أن يكون التأثير وجوديا أو عدميا والثاني معلوم الفساد بالضرورة
لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجوديا فإن كان حادثا لزم التسلسل ولزم كونه محلا للحوادث فيجب أن لا يكون قديما وغن كان قديما لزم قدم مقتضاه فيلزم قدم الأثر
فيقال أولا هذا يقتضي أن لا يكون شيء من آثاره محدثا وهذا خلاف المشاهدة
وموجب هذه الحجة ان الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شيء كان التأثير التام منتفيا في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شيء من المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم
وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجوديا وجب أن يكون قائما بالمؤثر وهذا يقتضي دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشؤونه التي هي من آثار قدرته ومشيئته
وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهلل الملل وغير أهل الملل
والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات

الحجة الرابعة عند الآمدي
قال الآمدي الحجة الرابعة انه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا والتغير على الله محال ولهذا قال الخليل عليه السلام { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 أي المتغيرين
قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته فقد اتحد اللازم والملزوم وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد 0 ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع فلا يقبل وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ن ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه

تعليق ابن تيمية
قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } محمد : 15 فتغير الطعم استحالت من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك
ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان انه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينة ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا 0 لونه لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال
قال الشاعر
( فلا تحسبني لكم كافرا ... ولا تحسبني أريد الغيارا )
ويقولون نزل القوم يغيرون أي يصلحون الرحال
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لما أتي بابي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب وجنبوه السواد أي غيروا لونه إلى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشيء فتغير غيرا
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب
وغار الرجل على أهله يغار إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال
وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقبله وذلك أضعف الإيمان ]
وقال [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ]
وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وغن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله
ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل
والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له
والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الاستحالة والفساد مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء ونحو هذا لا يسمونه تغيرا
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد : يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال بعضهم في قوله { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76
أي المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الأفول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما فأما القديم الأزلي الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
ولكن يتناقضون تناقضا بينا فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قديم أزلي
ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلا فجعلوا كل متحرك آفلا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلا وفسروا بذلك القرآن
وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله كما يفعله أهل دعوة الكواكب كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين ولو كان إبراهيم مقصودة نفي كون الكوكب رب العالمين واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصودة نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم انه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم
وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم
قال الآمدي وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول محلها فيه والباري ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزا ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعاني بها والباري ليس بمتحيز فلا يكون محلا للصفات
قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقا قديمة كانت أو حادثة وهي ضعيفة جدا أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم انه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف في الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما بالعلة لكونه متقوما بها في الوجود إذ ليس المعلول صفة ولا العلة موصوفة به
وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزا بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين الباري تعالى وغن كان ذلك لكونه متحيزا فلا يلزم من انتفاء الدليل في حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقة وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به الباري تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين في صورتين
قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة في الحيز تبعا لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وغن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول
فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع
فيقال من الناس من ينازعك في هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا اعلم قائما بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائما بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف
وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشيء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا غنما يعقل تصوره في الأذهان لا في الأعيان والذهن يقدر فيه الممتنعات كالجمع بين الضدين والنقيضين
والجواب المركب أن يقال ما تعني بقولك متحيزا اتعني به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعني به ما يقدر المقدر له حيزا عدميا أو ما كان منحازا عن غيره ؟
فإن عنيت الأول كان باطلا متناقضا فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن في حيز وجودي فإنها إذا كانت متناهية لو كانت في حيز وجودي لزم أن يكون الجسم في جسم آخر إلى ما لا يتناهي في حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضا داخل فيما لا يتناهي
فهذا جواب برهاني والجواب الإلزامي أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودي يستلزم وجود أجسام لا تتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس في حيز وجودي
وإن قلت أعني به أمرا عدميا قيل لك لاشيء وما جعل في لاشيء لم يجعل في شيء
فكأنك إن قلت المتحيز ليس في غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزا بهذا الاعتبار
وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفي اللازم ممتنعا
فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصا بقدر أو صفة أو تميز منه شيء عن شيء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل
وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفي شيء من موارد النزاع إلا بنفي ذلك فيعود الكلام إلى نفي ذلك
وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة به لكونه متحيزا
فيقال أولا لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل صفة لازمة لمحلها وهي محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأن العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة
وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزا
وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذي تقوم به الصفات
قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضا وغير ذلك
ثم الكلام في التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام في جنس الصفات لا في خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم الموضعين واحد وفساد اصولهم مبين في غير هذا الموضع

طريقة الامدي في إثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي والمعتمد في المسألة حجتان تقريرية وإلزامية أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فغما أن يوجب نقصا في ذاته أو في صفة من صفاته أو لا يوجب شيئا من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال أيضا بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب تقصا في ذاته ولا في صفة من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصا اتصافه بها وهو محال كما سبق

الرد عليه من وجوه
قلت : فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين وهي من أضعف الحجج كما قد بسط في غير هذا الموضع

الوجه الأول
وبيان ذلك من وجوه : الوجه الأول : أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية فلا تكون المسألة عقلية ولا ثابتة بنص بل بالإجماع المدعي ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل ؟
وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع لأن الإجماع دليل سمعي وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق
قالوا : لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته وغير ذلك فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية فليس هنا عقلي لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع
وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول والمجيء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة أدعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل
فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهي أقوى دلالة
فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلا عن نفس الإجماع فضلا عما هو مبني على مقدمة مبنية على الإجماع لو كان البناء حقا فكيف إذا كان باطلا ؟

الوجه الثاني
أن يقال : هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة لكن لعلمنا بعظمة الله في قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب
وهذا كلام مجمل فكل من رأى شيئا عيبا أو نقصا نزه الله عنه بلا ريب وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها
وهذا القائل يدعي أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربي وغيره لعلي لذاته هو الذي يكون له الكمال المطلق الذي يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلا وشرعا وعرفا أو مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة
وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل
ومن المعلوم أن كل متنازعين في هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعه لا يسلم له ذلك
فإذا قال أنت وافقتني على تنزيهه عن النقص والعيب
قال له : هذا الذي نازعتك فيه ليس هو عندي نقصا ولا عيبا فأي شيء تنفعك موافقتي لك على لفظ أنازعك في معناه
وإن قال بل اتفقنا على كل ما هو نقص في نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص في نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه
قال له : أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص في نفس الأمر منزه عنه ولم أوافك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعي صحته فإنه منزه عنه
وحاصله أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما عتقده الرجل نقصا فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا في ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتقاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وانا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذي نفيته نفيته
لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به فإن كان ذلك المأخذ صحيحا لم تجب التسوية وإن كان باطلا لزم خطئ في نفي ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطئ في الفرق بينهما وليس خطء في إثبات ما أثبته بأولى من خطيء في نفي ذاك وحينئذ فإن كمانا مستويين لزم خطئ في لافرق بينهما وليس خطئ في إثبات ما أثبته بأولى من خطئ في نفي ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضي إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك
فتبين ان هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التي ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم

الوجه الثالث
أن يقال : ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن وهو كونه فاعلا فالفاعلية : إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال فإن كانت كمالا كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين
وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة
قيل لك : وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا
وأيضا فهذا منقوص بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم في المتجددات كان جوابا لمنازعيهم في المحدثات
وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل
فيقال لهم : وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم
فإن من حججهم شبة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديما لكان الرب تعالى في الأزل جوادا ولو كان حادثا لما كان الرب تعالى في الأزل جوادا لعدم العالم عنه وهو محال
ثم قال في الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجدا وفاعلا لا لغرض يعود إليه من حلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن الصفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب متوقفا على وجود معلوله عنه ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله كما قرروه في كونه موجودا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصا ان لو كان وجود العالم في الأزل ممكنا وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلا من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود إزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه
فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك وأدنى أحواله أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن
فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه والآخر مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه

الوجه الرابع
أن يقال قول القائل إما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال
قلنا ليست في نفسها صفة كمال قوله فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع
قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشيء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقا
وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد ليست صفة كمال فإن من أرادة شيئا وهو عاجز عنه كان ناقصا ولكن إذا كان قادرا على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال
فلو قال قائل : مجرد الإرادة هل هو كمال أو لا ؟
فإن قيل هو كمال انتقض بإرادة العاجز المتمني المتحسر
وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال
قيل له الإرادة مع القدرة كمال
وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أولا فإن كان صفة كمال فينبغي أن يكون كمالا للعبد ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملا وإن لم يكن كمالا فلا يوصف به الرب
فيقال له كن من القادر على التكوين الذي إذا قال للشيء كن فيكون كمال ومن غيره نقص وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أولا فغن كان كمالا فيحمد كل غضبان وإن كان نقصا فكيف اتصف الرب به ؟
فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة
وإذا كان كذلك فكونه قادرا على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئا بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتا تتصرف دائما شيئا بعد شيء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع
وكذلك إذا قدرنا شيئا يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام وإلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل
ونكتة الجواب : أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالا لا يلزم ان لا يكون مع سائر النوع كمالا
لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول : لم يزل متصفا بهذا النوع
والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا في هذا النوع كقول غيرنا في الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعا لامتناع الحوادث في الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفا بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص

الوجه الخامس
وتحقيق هذا : أن يقال : قول القائل : إذا كان هذا كمالا كان الرب ناقصا قبل اتصافه
يقال له : متى يكون ناقصا إذا وجوده قبل ذلك ممكنا أو لم يكن ممكنا والأول ممتنع فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصا والحوادث عندهم يستحيل وجودها في الأزل فلا يكون عدمها نقصا

الوجه السادس
ان يقال : متى يكون عدم الشيء نقصا إذا عدم في الحال التي يصلح ثبوته فيها او إذا عدم في حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثاني ممنوع
وهم يقولون كل حادث فإنما حدث في الوقت الذي كانت الحكمة مقتضية له وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص

الوجه السابع
أن يقال الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية او جودها على الوجه الممكن ؟
ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون في الحوادث

الوجه الثامن
أن يقال : قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتنع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل
فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائض فالكرامية تقول بذلك وإن أردت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شيء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط
فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك
ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا في صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال

الوجه التاسع
قوله إن وجود الشيء أشرف من عدمه
يقال له : وجوده أشرف مطلقا أم في الوقت الذي يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه ؟
أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه
وإن أريد وجود الممكن الصالح
قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالا أن يكون قبل وجوده نقصا
ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصا وهذا فيه تفصيل كما تبين والثاني أن ما لا يكون وحده كمالا يجب نفيه عن الرب مطلقا وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالا فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالا لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التموية والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا

رد الآمدي على الكرامية من ثمانية أوجه
قال الآمدي الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه
الأول
أن من مذهب الكرامية انهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال
كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لا تصف بها وتعدي إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما
وكذا في سائر الصفات القائمة بمحالها وساء كان المحل قديما أو حادثا وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث أنه محل قامت به صفته إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا أمر اصطلاحي لفظي ليس بحثا عقليا فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما فإنه من لوازم ذاته ولعلهم يدعون في ذلك توقيفا كما يدعي غيرهم في كثير مما لا يطلقه من الأسماء
وأيضا فيقال : هذا إما أن يكون لازما لهم وإما أن لا يكون لازما فإن لم يكن لازما بطل النقض به وإن كان لازما أمكن التزامه وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله
والمنازع يقول بمثل ذلك في جميع الأفعال فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك
وحينئذ فيمكن إذا كان هذا صوابا أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضا
وأيضا فيقال : الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفا في الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التي تتضمن مدحا له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يمكن ازليا فلا يكون مما يوجب أسما
وحينئذ فيقال : إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث وإما ان لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا في نفي دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكنا اولا يكون فإن كان ممكنا أخطاوا في نفي ذلك الاسم وإن لم يكن ممكنا كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم

الثاني
قال الآمدي أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحي كالسمع والبصر وقد وافقوا على ان الحي إذا خلا عن السمع والبصر لا يخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلا وغن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتي وإن كان الثاني فالكلام في ذلك الضد كالكلام في الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى علىوجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية علىما سبق في إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث فإنهم يقولون : إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر فهذا الحادث نظير ذلك الحادث وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام بخلاف نفس السمع والبصر فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم انه لا يخلو عن القائلية والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام
فإن قيل : منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر
فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم وسواء كان هو المشهور أو لم يكن فإنه يقال : إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم وإن كان بينهما فرق مؤثر في الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما
وأيضا فإنه يقال : إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكنا وإما ان يكون ممتنعا فإن كان ممكنا كانوا أخطأوا في قولهم : يخلو عن القول والإرادة وعن ضدها إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائما وإن كان ممتنعا كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر فإنه يمكن اتصافه في الأزل بالسمع والبصر دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة
لكن على هذا لا يلزم تناقضهم في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلا في الأزل للاتصاف بالحوادث
لكن يقال لهم : هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن
فيقولون : وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع ؟
فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولا خصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث
وأما من يقول إنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم في هذا التفريق ويقول : إذا كان الحي لا يخلو عما يقبله وعن ضده والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة لزم ان لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر فيلزم انه ما زال متصفا بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن
ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو ان يقال نحن قلنا الحي القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذي يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودي فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشيء ولضده الوجودي قد يخلو عنهما عندنا
ولكن الأشعرية يقولون : إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودي وإذا كان كذلك فضد القول والإرادة عدم ذلك فلا يقال : القول في ضد ذلك كالقول فيه ويلزم تسلسل الحوادث لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا
ولا يضر عدم الشيء في الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة
وهذا جواب محقق لهم لكنه لا يتم ألا بأن يكون عدم القول والإرادة في الأزل ليس صفة نقص
وقولهم في ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين :
من جهة انهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة
ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية
وأيضا فما ادعاه من انه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر
وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك

الثالث
قال أبو الحسن الآمدي يعني في بيان تناقضهم أن من مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة وأنه يجوز في الشاهد تعري الجواهر عن الأقوال والإرادات والطعوم والرائح والألوان مع جواز اتصافها بها وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والرائح بذات الله تعالى وجوزوا ذلك في القول والإرادة ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعري عنها كما في القول الحادث والإرادة الحادثة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : جوابهم في هذا كجواب الأشعرية والسالمية إذا قيل لهم : لم وصفتم الرب بالقول والإرادة ولم تصفوه بالطعم واللون والريح ؟
فإذا قالوا : لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة وهي صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث فإن نفي ذلك عند من ينفيه واجب سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل وإنما يفترقان في أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح لكونه لو قبلها لم يخل منها فإن هذا الأصل عندهم فاسد بل نفوها لما فارقت به صفات الحي
وأيضا فيقال الفرق الذي فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة إما أن يكون مؤثرا وإما أن لا يكون فإن كان مؤثرا بطل الإلزام وإن لم يكن مؤثرا لزم خطؤهم في إحدى الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه فإن أقام المنازع لهم دليلا عقليا أو سمعيا على نفي اللون والريح دون القول والإرادة كان ذلك فرقا مؤثرا وإن أقام دليلا على نفي حلول الجميع كان ذلك حجة كافية دون الإلزام

الوجه الرابع
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز وانه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلا لجوهر فرد من العرش وقد قالوا : بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين ن والصفة الحادثة في ذات الله تعالى وهي القول أو الإرادة كما هو مذهبهم يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعدا وهو مناقض لمذهبهم

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول قولهم : إن العرض لا يقوم بجوهرين مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى أمر لا يختص بمسألة الحوادث فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة عندهم بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطاقا ولها موضع آخر
وأيضا فيقال : إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز كما حكاه عنهم مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزا فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزا فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم ويبقى البحث ليس هو في هذه المسألة بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز
والكلام إذا عاد إلى أصل واحد كان الكلام فيه أخف مع انهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزا إذا كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق
وأيضا فإن ذكر قولهم في العرش ههنا لا يظهر له وجه إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين فلا تقوم به إرادة ولا قول
وهذا القول إن توجه كان سؤلا عليهم في أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث
والكرامية لهم في إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية في الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم وكان لهم أيضا أجوبة أخرى كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

الوجه الخامس
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة ومستند القول والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا في التجدد فلو قيل لهم لم لا أكتفي بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية في حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة كما اكتفى بها في القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : من الصفات ما يثبت بالسمع وقد يكون أثبتوا ذلك بالسمع كما أثبت الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعري والقاضي أبي بكر والقشيري والبيهقي تكوين آدم باليدين بالسمع مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك كما أثبت أيضا الأشعري وغيره التكوين يكن سمعا مع أن العقل يكتفي بالقدرة
ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئا إلا قال له : كن وذكر أنه : بقولهم يقول
والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا
فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا ذلك
وأيضا فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث وشرطوا في هذا ما لم يشرطوه في الآخر
فالفلاسفة يقولون : كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث ولا يسوون بين الحوادث
والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة ولا تقوم الصفات إلا بمحل
وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت في غير محل وكذلك الفناء عندهم
والأشعرية فرقوا بين خلق وغيره
وأيضا فلا يخلو : إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر وغما أن لا يكون فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم في أحد القولين : إما في الاكتفاء في الحدوث بالقدرة القديمة وغما في إثبات شيء حادث للمحدثات المنفصلة
وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا في الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة
وفي الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ في أحد الموضعين لا يلزم صحة قول المنازع

الوجه السادس
قال الآمدي يخص القائلين بحدوث القول وذلك انهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة والحروف متضادة فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض نعلم استحالة الجمع بين الحروف ن وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله : كن وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى أولا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما أن يقال بتجزىء ذات الباري تعالى وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى وقد أبطلناه في إبطال القول بالتجسيم الثاني : أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس وإن كان الثاني فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا غايته ان يستلزم خطأهم في قولهم : إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا ولا يقولون بدوام الحادث المعين
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته لا يقول : إن ذلك يدوم
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لا يقولون : إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ونظائره كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكنا أو ممتنعا
فإن كان ممكنا صح قول الكرامية وإن كان ممتنعا صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول : إنه لا يبقى مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به
وأيضا فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف هو من موارد النزاع
فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف والقائلين بحدوثها
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية
وقد قال بالأول : طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب مالك والشافعي واحمد وغيرهم
وإذا كان هذا من موارد النزاع فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض
قيل له فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة هي معنى واحد في نفسه والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد فالذي هو الأمر هو الخبر ن والذي هو الخبر هو النهي وقالوا إن ذلك بالسريانية كان إنجيلا
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق والقائلين بأنه مخلوق ن يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه :
منها كون الأمر هو عين الخبر
ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل { تبت يدا أبي لهب وتب }
ومنها كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن إلى أمثال ذلك
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه
وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحدا ولو قال : إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زم واحد كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحد
ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة وغنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له كان هذا شبيها بقول من يقول إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد
وذلك انه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها تحدث بحدوثها في نفس المتكم
وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد أمكن أن يقال إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد
فإن غاية ما يقال إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد فإن المثلين متضادان وغن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان يتعدد محلها يمكن اجتماعها ن بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا
لكن الواحد منا لا يقدر منا لا يقدر على ذلك لكون حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذي ينفخ بيديه في هذه نفاخة وفي هذه نفاخة أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد
ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معاني الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف فكيف من قال إن المعاني تكون معنى واحدا
والفضلاء من أصحاب اعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة

استطرادات مقالة الآمدي في مسألة كلام الله تعالى
حتى الآمدي لما تكلم في مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام وان كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت فهو متحد لاكثره فيه في نفسه بل التكثر إنما هو في تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره من أقسام الكلام وإن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وانها من أخص أوصاف الكلام لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما وأيضا فإن ما أخبر به عن القص الماضية والأمور السالفة مختلفة متمايزة وكذلك المامورات والمنهيات مختلفة أيضا فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبرا هو عين ما سمى أمرا إذ الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا أو سلبا فثبت ان الكلام انواع مختلفة والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها
قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى اخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفساني أصلا ولا يلزم منه رفع الكلام في نفسه وزوال حقيقته
قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام
قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقي الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه في ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات
وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتلقات إذ القدرة معنى من شانه تأتي الإيجاد به والإرادة معنى من شانه تأتي تخصيص الحادث بحال دون حال وعند اختلاف التأثيرات لا بد من الاختلاف في نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا فضلا عن كونه مختلفا
قال وفيه نظر وذلك انه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات لا انه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات ثابتة في العدم وذلك مما لا قول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة فتأثير القدرة في آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه وليس كذلك وأيضا فإن ما ذكروه من الفرق وإن استمر في القدرة والإرادة فغير مستمر في باقي الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر لعدم كونها مؤثرة في أثر ما
قال والحق ان ما أورده من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيري حله ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18