كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام
و ابن عقيل لما خبر كلام المعتزلة لم يرض طريقهم فلهذا ذكر أن الناس ثلاث طوائف : طائفة شكت لما رأت وجود الشر والضرر في العالم وطائفة قالت بالأصلين وهم الثنوية والطائفة الثالثة عللوا ما انخرم بعلل لم تشف غليل العقل - كما فعلت المعتزلة - فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا : خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع
قال : ( وهذه طائفة أهل الحديث ) وهذا بناء على إثبات الحكمة والغاية والتعليل من حيث الجملة والاعتراف بجهلة من جهة التفصيل وذكر أن هذا منتهى كل عالم محق وهذا مبلغ علم من انتهى إلى هنا
و لابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية وينكر على من يسميها صفات ويقول : إنما هي إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه كف التشبيه بكف التنزيه ) في كتابه منهاج الوصول وتارة يثبت الصفات الخبرية ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهي عنه كم فعله في كتاب الأنتصار لأصحاب الحديث فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور
وكذلك يوجد هذا وهذا في كلام كثير من المشهورين بالعلم مثل أبي محمد بن حزم و مثل أبي حامد الغزالي ومثل أبي عبد الله الرازي وغيرهم
و لابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف كما قال في الفنون ومن خطه نقلت قال : ( فصل : المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول فتفلسفوا واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم والكهان اعتمدوا على ما يقلى إليهم من الاطلاع وجميعا خوارج على الشرائع هذا يتجاسر إن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل وهذا يقول : قال لي قلبي عن ربي فلا على هؤلاء أصبحت ولا على هؤلاء أمسيت لا كان مذهب جاء على طريق السفراء والرسل يريد تعلم بيان الشرايع وبطلان المذاهب والتوهمات والطرايق المخترعات : هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرج أوتحريم معاملة أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة ؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق ؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوي وأحكام ؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء : هؤلاء يروون أحاديث الشرع وينفون الكذب عن النقل ويحمون النقل عن الاختلاف وهؤلاء المفتون يفنون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين هم الذي سماهم النبي صلى الله عليه و سلم : الحملة العدول فقال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين فالخارج - وإن خفقت بنوده وكثرت جموعه وسمي بالملك - يبعد أن يضرب له دينار أو درهم أو يخطب له على منبر أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك وتخشى من أن يقابله بقتال أو يصافه بحرب لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل وللملك - وإن قل جمعه - صولة الحق وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم : هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزاله المرض ويصبح على أرض أخرى ومنزل بعيد وطبه مجازفة لأنه يأمن الموافقة والمعاينة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة من الأدوية وإن عجلت سكون الألم فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب لأن ماتعطى الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض فهو كما قيل : الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه لأنهم عن نقل يتكلمون وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون كتهجم البرخشتي فعلومهم فرح ساعة ليس لعلومهم ثبات فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفيه عليهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم : إن في أمتي محدثين ومكلمين وهو ما يلقي من الفراسات والدرايات كما نطق به عمر قيل لهم : لونطق عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير لما التفت إلى واقعته ولا يبتنى الشرع على فراسته ألاتراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي ؟ وقال في الكلالة ما قال يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه ويسمع الغناء من أمرد وحرة ويأكل من الحرام شبعة ويرقص كما تشمس الخيل لا يسأل الفقهاء ولا يبنى أمره على النقل يقول بواقعة ويقول أتباعه : الشيخ يسلم إليه طريقته وأي طريقة مع الشرع ؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولا ؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق ؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان يحبون البطالات والاجتماع على اللذات وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات وأولئك يجرئون الشباب والأحداث وعلى البحث وكثرة السؤال والاعتراضات وتتبع الشرع بالمناقضات وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل ولا أحوال المتكلمين : لا التكشف ولا البحث بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات وجد وتشهير في الأعمال والطاعات فنصيحتي لأخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام وقد خبرت طريقة الفريقين : غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح والمتكلمون عندي خير من المتصوفة لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال والتشبيه هو الغاية في الإبطال بل هو حقيقة المحال مما يسقط المشايخ من عيني وإن نبلوا في أعين الناس أقدارا وانسابا وعلوما وأخطارا إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع : عدتي كذا وكذا يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه تخرج عن سمت الشرع فذاك مختلق طريقة وكل مختلق مبتدع ولو كان في ترك النوافل لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر : هذا رجل سوء أنا أنصح بحكم العلم والتجارب : إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه و سلم الله الله الثقة بالأشخاص ضلال والركون إلى الآراء ابتداع اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها اصحاب الحديث رسل السفير : الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه ولا يتم اتباع إلا بمنقول ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان وما عداهما تكلف لا يفيد وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : نقلة وفقهاء ولا نعرف فيهم ثالثا أصحاب أسواق وصفقات وتجارات لا ربط ولا مناخ للبطالات يا أصحاب المخالطات والمعاملات عليكم بالورع يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد ولا لأبي بكر وعمر ولا الشيعة عندي من زار المشاهد وأنشد المراثي والقصايد السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء واحتذى الرسم واتبع الأمر وكف عن النهي وتنزه عن الشبه ووقف عند الشك وتفرغ من كل علم خالف النقل وإن كانت له طلاوة في السمع وقبول في القلب ليس قلبك معيارا على الشرع مالله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وما أحدثوا وعولوا على ما رووا ولا على ما رأوا الصبر على الرواية مقام الصديقين قال الخضر للسفير : { إنك لن تستطيع معي صبرا } لأن مستحسنا برأيه ومستقبحا برأيه لا يتبع لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولا ابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة كلام كثير من هذا الجنس كما قد تقدم تكلم في ذلك طوائف من اهل العلم والدين لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام كان ذمه لمنحرفه العباد أكثر من ذمه لمنحرفه أهل الكلام وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء لاسيما في العتزلة وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع ومن غلب عليه طريقة أهل التصوف وهذا يوجد كثيرا في كلام أهل الزهد والعبادة لا سيما المعظمين لطريق الصوفية فمثل أبي عبد الرحمن السلمي و أبي طالب المكي و أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري و أبي حامد الغزالي وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم ومثل أبي بكر بن فورك و أبن عقيل و أبي بكر الطرطوشي و أبي عبد الله المازري و أبي الفرج بن الجوزي وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتاله أعظم
وقد قال الله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه
وكان طائفة من السلف يقولون : من فسد من الفقهاء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود واليهود يقرأون كتبهم ويعظمونهم ومن كان فيه بدعة من أهل العبادة والتصوف والزهد تجدهم يذمون اليهود أكثر مما يذمون النصارى وتجد النصارى يميلون إليهم وقد يحصل من مبتدعة الطائفين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم وهذا موجود كثيرا كما دل عليه الكتاب والسنة
وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد مثل ابن عقيل و صدقه بن الحسين وغيرهما هي التي ذكرها أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى : ب اللمع في الرد على أصحاب البدع وهو أشهر مختصراته وقد شرحوه شروحا كثيرة ومن أجلها شرح القاضي أبي بكر له

كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى
وهذه السياقة النتقدمة هي سياقة أبي الحسن في اللمع فإنه قال في أوله : ( إن سأل سائل : ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره ؟ قيل : الدليل على ذلك أن الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ودما وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله ولا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا ولا أن يخلق لنفسه جارحة فدل ذلك على أنه قبل تكامله واجتماع قوته وعقله كان عن ذلك أعجز لأن ما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
قال : ( ومما يبين ذلك أيضا : أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلا مفتولا ولا ثوبا منسوجا يغير صانع ولا ناسج ومن اتخذ قطنا فانتظر أن يصي رغزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج كان عن المعقول خارجا وفي الجهل والجا وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصرا مبنيا فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الآجر وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلا فإذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ودما أعظم في الأعجوبة كأن أولى أن يدل على صانع صنعها أعني النطفة ونقلها من حال إلى حال )
قال : ( وقد قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الدليل مبني على مقدمتين : على تحول الإنسان من حال إلى حال وأن ذلك لا بد له من صانع حوله من حال إلى حال وكلتا المقدمتين ضرورية والأولى هي مسألة حدوث صفات الأجسام كما تقدم بيانه وأن من أهل الكلام من يقول إن : المشهود هو حدوث الصفات لا حدوث الأعيان وإن أكثر الناس على خلاف ذلك
وهذا هو طريقة القرآن ولكن حدوث الصفات هي أقرب الطرق إلى طريقة القرآن وأما الثانية فهي ضرورية ولهذا لم يذكر أبو الحسن عليها دليلا لكن كثير من أصحابه يقولون : إنها طريقة موافقة منهم لمن قال ذلك من المعتزلة

كلام الباقلاني شرحا لكلام الأشعري
ولهذا اعترض من اعترض من المعتزلة على كلام أبي الحسن فأجابه القاضي أبو بكر على أصله بجواب ذكره قال القاضي أبو بكر : ( أعلم أنه إنما ضرب المثل بما ذكره من القطن واللبن لظهوره في نفوس العامة والخاصة واعتقاد جميعهم لجهل من جوز تنضد البنيان واجتماع الآجر والتراب وتصوير المصنوعات بغير صانع ولا مدبر وأنت لو اعترضت كل من سلمت حاسته وصح عقله فسألته : هل يجوز وجود ما ذكره من ضروب المحكمات بغير صانع مع العلم بأنها لم تكن كذلك من قبل ؟ لمنع ذلك ولاستجهل قائله لتقدم الأدلة وتقررها على فساده في نفوس العامة والخاصة وإن كانت العامة تقصر عبارتها عن عبارة الخاصة وألفاظ المتكلمين وطريق المستنبطين في التعبير وقولهم : لم تجد كتابة إلا من كاتب ولا ضربا إلا من ضارب ولا بناء إلا من بان وإن استحالة وجود ضرب من لا ضارب وبناء من لا بان كاستحالة ضارب لا ضرب له وبان لا بناء له وقد تقرر هذا المعنى في نفوسهم وإن قصروا عن تأديته وصار مقارنا للعلوم الضرورية وصار المخالف فيه عند سائرهم كالمخالف فيما يدرك من جهة الحواس )
قال : ( وجملة القول في هذا الباب أنا لا ندعي ولا صاحب الكتاب أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضروريات وتعلم صحته من طريق درك الحواس لكنه يدرك بالاستنباط فإذا حصل في نفوس من يجوز أن يشك في هذه المسألة وفي صانع الأشياء التي غاب عنها نظير لما يشك فيه ومثل لما ارتاب فيه رده إليه وجعله أصلا معه في تصحيح ما ينبغي تصحيحه وكشف ما يرجى له كشفه )
قال : وقوله : لو أن منتظرا انتظر اجتماع المصنوعات من غير صانع كان متجاهلا كلام صحيح لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانعا لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته واستحالة أحد الأمرين في المعقول كاستحالة الآخر )
قال : ( وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل وإنما نذكر ضروبا من ضروب الصنائع تقريبا بذكره وليس القصد بذكره تخصيص تعليقه بالصانع وإنما يراد بذلك وجوب تعلق سائر المصنوعات بصانع صنعها فاعرف ذلك )
وذكر كلاما آخر إلى أن قال : ( فإن قال قائل : فما الدليل الآن على أنه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها ومدبر دبرها ؟ وكيف وجه تعلق الإنسان وغيره من المصنوعات بفاعل ومدبر صنعه وقصده متى لم يكن هو الفاعل لنفسه ؟ قيل له : قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك وقد مضى شرحنا له حيث قلنا : إن تعلق الفعل بالفاعل كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بفعله
ثم نقول في الدليل على ذلك : إنه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا هذه الأمور - التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات - معان محدثات وإن كان لا يقر بأنها أفعال كلم في أصل هذه المسألة وقرر معه القول بوجوب حدوثها فإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة
وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال لأنه إذا قال : ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل ؟ فقد أثبتها أفعالا فإذا أنكر أن تكون أفعالا فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله ولكن قد يسوغ أن يقول : ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف ؟ وإن لم يسلم أنه فعل لشبهة تدخل عليه
فإذا كان الأمر على ما وصفنا رجعنا فقلنا : الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود ويتأخر بعضها عن بعض وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه بدلا من الوجود وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلا من العدم
فإذا كان هذا وصفها قلنا : لا يخلو ما تقدم منها : أن يكون متقدما لنفسه أو لمعنى يوجد به أو لا لنفسه ولا لعلة أولمقدم قدمه وكذلك حكم القول فيما تأخر منها فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون إن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه لأنه قد يتقدم على ما هو جنسه وتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات فلو كان ما تقدم منها متقدما لنفسه لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له ولا كان المتأخر منها بالتأخر أولى منه بالتقدم إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلا له
وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض وتأخر بعضها عن بعض - فإن ما تقدم منها فالتقدم أولى منه بالتأخر وما تأخر منها فالتأخر أولى منه بالتقدم - دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه ولا المتأخر منها متأخرا لنفسه ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لعلة توجد به لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة - إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد - أولى من وجودها بغيره ووجود سائر ما جانسها بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية بالتقدم الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه حتى تتساوى في الوجود ولا يتأخر بعضها عن بعض لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدما لعلة والمتأخر عنها متأخرا لعلة لكانت علة التقدم قبل علة التأخر إذ كانت موجودة مع المتقدم الذي هو قبل المتأخر
ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون لعلة ايضا ما تقدمت إحدى العلتين على الأخرى لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد لأنهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود ولو ثبتا معنى من المعاني وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين على صاحبه لنفسه وجنسه ووجود الشيئين في زمانين متغايرين لا يخرج الوجود عن حقيقته فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان ومن جنسها
وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقدم إحدى العلتين للأخرى لعلة ثانية والقول في الثانية وفي وجوب تعليقها بثالثة - إذا كانت متقدمة لعلة - كالقول في الأولى وكذلك القول في علة التأخر وهذا يوجب ما لا نهاية له من الحوادث وذلك محال
فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل أقر أن الفعل يتعلق بالفاعل وكان حكم المعلول حكم العلة ففي ذلك ما أردناه
وإن امتنع من تعلق العلة المقتضية لوجود ما يوجد به الفاعل دخل عليه ما كلمناه به آنفا : من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له )
قال : ( وسنبين بعد هذا أن الجواهر المعدودات ليست بذوات ولا أعيان ولا جواهر قبل وجود الأعراض وأنها لم توجد إلا مع وجودها وإنما لم نقدم هذا الباب في هذه الدلالة لعدم حاجتنا إليه وذلك أنا نجعل مكان قولنا : ( تقدمت الجواهر بعضها على بعض ) أن نقول : إن بعضها ينتضد قبل بعض وبعضها يتفرق قبل بعض وبعضها يجتمع قبل بعض وأنه لا يجوز أن يكون ما ينتضد منها منتضدا لنفسه وما افترق منها مفترقا لنفسه لقيام الدليل على تماثلها وأن ما اقتضاه ذوات بعضها من الأحكام اقتضاه ذوات سائرها وفي العلم بأن منها ما يكون مجتمعا منتضدا ومنها ما يكون متفرقا متباينا دليل على أنه ليس الذي اقتضى لها ذلك ذواتها وإن كانت تلك العلة فعلها فاعل فصارت بوجودها على صفة ما ذكرناه من الاجتماع والافتراق فصح أن الأفعال تتعلق بالفاعل وأن تلك العلة إذا كانت متعلقة بالفاعل من حيث كانت فعلا محدثا وجب أن يكون هذا سبيل الجسم إذ كان فعلا لمساواته لما تعلق بالفاعل فيما لو كان متعلقا به وهذا إقرار بتعلق الأفعال بالفاعل )
قال : ( ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة لأنه كان يجب أن لا يكون بالتقدم - في وقت تقدمه - أولى منه بالتأخر ولا بالتأخر أولى منه بالتقدم ولا كان هو بأن يكون متقدما لا لنفسه ولا لعلة أولى من تقدم ما هو مثل له في زمانه لا لنفسه ولا لعلة وفي العلم بكون المتقدم أولى منه بالتأخر والمتأخر أولى منه بالتقدم وإن وصفه بالتقدم والتأخر يفيد فوائد متغايرة لا تجري مجرى الألقاب التي لا تفيد - دليل على أنه لا يجوز أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة )
قال : ( وفي فساد هذه الأقسام التي لا يخلو الأمر منها في التقدم والتأخر دليل على أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
قال : ( وهذا أحد ما يعول عليه في وجوب تعلق الأفعال بفاعل )
قلت : مضمون هذا الكلام أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان والتخصيص لا بد له من مخصص لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفساد بالضرورة ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر فلا بد له من مرجح وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه أبو الحسين و أبو المعالي و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم : قرروا افتقار المحدث إلى المحدث بأن ذلك تخصيص بأحد الجائزين والتخصيص بأحد الجائزين لأنه لا بد له من مخصص وهذا عندهم مختص بالمحدثات ولا يتصور عندهم ممكن قديم حتى يستدلوا بافتقار الممكن المتساوي الطرفين إلى مرجح لأحدهما أو مرجح لوجوده
وذكر القاضي أبو بكر أن ما ذكر من ضرب المثل باللبن إذا صار بناء والغزل إذا صار ثوبا إنما هو لأجل ظهور ذلك في نفوس العامة والخاصة لا لأن أحداهما مقيس على الآخر
وذلك أن كثيرا من المعتزلة كأبي علي و أبي هاشم يقررون ذلك بالقياس على أفعال العباد فيقولون : كما أن الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان فكذلك الجسم المحدث لا بد له من فاعل للقدر المشترك لأن العلة الموجبة افتقار الأصل المقيس عليه إلى الفاعل هي موجوده في الفرع المقيس لأن افتقار الأصل إلى الفاعل إنما كان لحدوثه وهذا موجود في الفرع إلى سائر كلامهم المعروف في مثل هذا
فذكر القاضي أبو بكر أنه لا حاجة إلى هذا بل افتقار أحداهما كافتقار الآخر وقرر الجميع بالطريقة التي ذكرها وهو قوله : ( لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته )
قال : ( وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل )

تعليق ابن تيمية
قلت : بيان هذا أنه إذا قيل : صنعة أو فعل كان هذا اللفظ متضمنا صانعا فاعلا كما إذا قيل : فاعل صانع كان ذلك متضمنا فعلا وصنعة وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل كما يستلزم الفاعل المصدر فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له
و القاضي أبو بكر قرر هذا الوجه أيضا بناء على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري وزعم أن الأشعري يقول بذلك كما تقدم من قوله : ( إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضرورات )
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة ولا بأن ذلك يتضمن تقديما وتأخيرا فيفتقر إلى مقدم ومؤخر
ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره إذا لم يكن هناك موجد وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة فتفتقر أيضا إلى لعة متقدمة وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها وهو محال
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر
وأيضا فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر وهذا فيه نزاع مشهور لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر
وإبطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها إنما تقوم بها في حال وجودها فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حودثها لأن المعدوم لا يحدث الموجود ولا يكون المعدوم علة للموجود
ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول دون الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية إما عنادا منه وإما لشبهة عرضت له افسدت عقله وفطرته مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها لكن هذا يحتاج إليه كثيرا في مخاطبة الخلق فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم ويقبل شهادة من هو دونهم : إما لجهله وإما لظلمه وكذلك كم من الخلق من يرد أخبارا متواترة مستفيضة ويقبل خبر من يحسن به الظن لاعتقاده أنه لا يكذب وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية ويقبله إذا رآى مناما يدل على ثبوته أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة ومثل هذا كثير
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعا من النظر والاستدلال فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم يقبله وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة
فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزيئات تحت كليات قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج إليها بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث أبين وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور لم يمكنه - مع الشك في الأولى - أن يجزم بالثانية بل قد لا يتصور إحداهما حق التصور
ألا ترى أنه إذا قيل لمن صدق بالثانية : لم قلت : إن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر ؟ رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك وغايته أن يقول : الأشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح فلو قال قائل : لما قلت ذلك ؟ ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلا ؟ ويختص بما اختص به لا لمخصص أصلا ؟ لكان إنكاره لقول هذا القائل دون إنكاره لقول من قال : لم قلت : إن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث ؟
وهذا التأليفات والتركيبات الحادثة كانت بعد أن لم تكن لا بمؤلف ولا مركب فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث سوغ ان يحدث أحد المثلين دون الآخر بلا مخصص لحدوثه
وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت أو شكل دون شكل أو وصف دون وصف إلا نوع من حدوث حادث ؟ فإن الصفات والأشكال حوادث والتقدم والتأخر إضافة للحوادث إلى وقتها فهو صفة في الحدوث كإضافة الحادث إلى مكانه وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة أنه لا بد له من محدث مخصص فاعل مؤلف سواه
ولهذا لم يحتج الأشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلا كما فعله القاضي أبو بكر وأتباعه إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا ولعله إن فعل ذلك لأجل عناد المناظرين أو جهلهم فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة
ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والأئمة ولا ذكرت في القرآن فإنها من باب تضييع الزمان وإتعاب الحيوان في غير فائدة والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه من المسلمين مخاطبا له بحسب ما تقتضيه المصلحة كما يحتاج إلى الترجمة أحيانا وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل
ففي الجملة : الطرق التي تختص بطائفة طائفة مع طولها وثقلها على جمهور الخلق لا تكون في مثل الكتاب العزيز الذي جعله الله شفاء ورحمة ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنة وعيا لا يحتاج إليه ويرونه من باب إيضاح الواضحات كما لو ذكر فيه الرد على السوفساطئية ببيان أن الشمس موجودة والقمر موجود والبحار موجودة والجبال موجودة والكواكب موجودة وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء لأن هذا عندهم أمر معلوم مستقر في عقولهم لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء فضلا عن كتاب منزل من السماء
وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم
ولو ذكر في القرآن مثل هذا لم يكن لما يذكر من ذلك غاية لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه ولا يصلح أمرهم إلا به
ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها يزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعرضون بها لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلا وما لم يعارض النصوص : فقد يكون حقا وقد يكون باطلا وماكان حقا ولم يعارض النصوص فقد لا يحتاج إليه بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك بل تلك الطرق أقوى وأقرب وأنفع فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
وقد قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة فإنها إما أن لا توصل وإما أن توصل بعد تعب عظيم وتضييع مصالح أخر فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلا وإن لم تعارض فقد تكون باطلا وقد تكون حقا لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب ف القاضي أبو بكر وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من أبي المعالي وأتباعه و الأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر و أبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه وهو المبلغ عن الله كلامه وخير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي أبو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع كدلالة الصانع على الصنعة وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعا لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة فضلا عن أن يعلم أن لها صانعا فاعلا وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعا فاعلا
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعا الإبصنعة والفاعل لا يكون فاعلا إلا بفعل وهذا صحيح ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعا إلا بصانع والمفعول لا يكون مفعولا إلا بفاعل والفعل لا يكون فعلا إلا بفاعل والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلا ولا يعلمون : هل فعل شيئا أو لم يفعله ؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفة وقد قلنا : إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك
وأما الطريق الثانية التي جعلها القاضي أبو بكر معتمدة فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة لكنه أدخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما فإن تماثيل الأعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني المبني على تناهي الحوادث
ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحدا أو دهريا أو نحو ذلك وهذا يذكرونه في مواضع
منها : أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات الجوهر الفرد جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين ونفي ذلك من أقوال الملحدين
وكذلك قد يقولون : إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين ونفي ذلك من أقوال الملحدين وكذلك قد يقولون : إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين ولهذا نظائر مع أن الذين يضيفونه إلى المسلمين قد يكون إنما ابتدعه طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة والقول الآخر هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهور الخلق
وكذلك قد يضيفون إلى السنة ما لا يوجد في كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف بل قد يكون المأثور ضد ذلك حتى يتناقض أحدهم في النقل فيحكي إجماع المسلمين أو إجماع أهل الملل على شيء ثم يحكي النزاع عنهم في موضع آخر

كلام أبي الحسن الطبري إلكيا
كما رأيته قد ذكره بعض فضلاء المتكلمين من أصحاب أبي المعالي أظنه أبا الحسن الطبري المعروف بإلكيا أو بعض نظرائه ذكر في كتابه في الكلام لما استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض المشهور عن المعتزلة وأتباعهم من الأشعرية والكرامية وغيرهم - قال : ( فإما الركن الرابع وفيه المعركة والتشاجر عنده يحصل وهو إثبات استحالة حوادث لا أول لها وقد أطبق المليون وأتباع الأنبياء كلهم على استحالة حوادث لا أول لها - وقال ملحدة الفلاسفة بإثبات حوادث لا أول لها )
وقال : في مسألة حلول الحوادث بعد أن ذكر قول الكرامية قال : ( واعلم أن المشبهة أيضا يقولون : إن الحوادث تقوم به وإن لم يصرحوا به فهم والكرامية في إثبات الجهة وقيام الحوادث بذات القديم على حد سواء وذلك أنهم يجوزون على الله الجيئة والذهاب والنزول والصعود والانتقال فيقولون : هذه الأشياء لم تكن فكانت وهذا هو الحادث ثم أثبتوا له التحيز وذلك لا يقوم إلا بمتحيز )
قال : ( وقد أثبتوا حوادث لا أول لها )
قال : ولا تصول الملحدة إلا بهذا وقد دللنا على بطلانه وأنه لا يتم القول بحدوث العالم إلا بإبطاله )

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين أو إجماع المليين في مواضع كثيرة يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها وأن صحتها من لوازم صحة الإسلام أو يكونون لم يعرفوا من المسلمين إلا قولين أو ثلاثة فيحكون الإجماع على نفي ما سواها وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل لا عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين بل ولا عن العلماء المشهورين الذين لهم في الأمة لسان صدق ولا فيها آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين التي لا يكون الرجل مؤمنا أولا يتم دين الإسلام إلا بها ونحو ذلك
ومثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام لما اعتقدوا أن العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول موقوف على هذا الدليل أخذ يحكيه عن جميع أهل الملل وجميع أتباع الأنبياء وهو مع هذا لا يمكنه أن ينقله عن عالم واحد لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا معه فيه آية ولا حديث والمنصوص عن الأئمة المشهورين عند الأمة يناقض ذلك ولهذا عاد فحكى عن أهل الحديث الذين سماهم مشبهة أنهم يقولون بذلك وإن كان ذكره في معرض التشنيع عليهم ففي ذلك ما يبين أن أتباع الأنبياء تنازعوا في ذلك
وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلابإبطاله يقول منازعوه : إن الأمر في ذلك بالعكس وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يتم مع هذا القول ولا يتم إلا بنقيضه لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث ويصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن بدون سبب جعله فاعلا بل حقيقة هذا القول أنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب وصار الفعل ممكنا بدون سبب وهذا ممتنع في بدائه العقول
وبذلك صالت الدهرية على أهل الكلام الذين سلكوا هذه السبيل فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول وظنوا أن هذا قول الرسل وأبتاعهم اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول ثم من أحسن الظن بهم قال : فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض فكذبوا لمصلحة الجمهور فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء وامتنع أن يستدلوا به على علم وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء ونصر ما جاؤوا به فما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاؤوا به
فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل ثم إنه يحكي عن اهل الحديث هذا القول وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث وتجد كثيرا من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني و أبي بكر بن عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به وأظن ان أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه وهذا لأن هذه أقوال مجمله قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة لا يفهمها إلا خواص الناس
وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم وصاروا يقولون : إنه منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والمقدار والحد ونحو ذلك ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه ومباينته لهم وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته ونفي الصفات الخبرية : كالوجه واليدين ونحو ذلك مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة مسألة افتقار الحادث إلى المحدث فإن أبا الحسن لما قال : الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره ؟ واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم فسر القاضي أبو بكر قوله بوجهين :
أحدهما : أنه يريد بالخلق : التقدير وكل جسم فله قدر فيكون المعنى : ما الدليل على أن لكل جسم قدرا من الأقدار قدره مقدر ؟ لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري ولا بنى كلامه على إرادته وإنه لم يذكر دليلا على ذلك
والوجه الثاني : أن يكون الخلق : بمعنى الإبداع والاختراع وجعل الشيء شيء شيئا عينا بعد أن لم يكن كذلك
وهذا هو الوجه الذي أراده لكن اعترض عليه بعض المعتزلة وأظنه القاضي عبد الجبار بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق وأراد عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري وتصحيح طريق شيوخه وهو إثبات حدوث الأجسام أولا ثم إثبات المحدث بعد ذلك
وليس الأمر كما ذكره عبد الحبار بل الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمدا مع علمه بها كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان لأن ذلك أمر مشهود معلوم والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها
لكن الأشعري لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة فهو يقول إن فيها تطويلا وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع فلا يحتاج إليها ابتداء ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له وأن الأعراض حادثة النوع
ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم فالأمر عليه أيسر من إثبات من أثبت ذلك بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين كما سلك هذه الطريقة كثير من الأشعرية ومن وافقهم فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات لوكان في هذه الطرق شيء صحيح
فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له : هو استدل بحدوث الإنسان وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعا ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك فيقال لعبد الجبار : إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها بل الذين ذموا ما ذموا منه من أتباع السلف والأئمة ذموا منها ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها فالذي تطلبون منه من موافقتكم هو الذي ينكره عليه السلف والأئمة كما ينكرون ذلك عليكم
وفي الجملة فإن كان طريقكم مذموما فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به وإن كان صحيحا فهو قد سلكه في آخر الدليل لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقرا إلى إثبات حدوث الأجسام لعلمه بأن الأمر ليس كذلك وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين وسائر أهل الملل فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل
وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل كما ذكره هذا المعتزلي فالأمر كذلك ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك بل جعل كون المحدث دالا على المحدث أمرا مستقرا معلوما بالفطرة إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية
وأما القاضي أبو بكر فأراد أن يجيب عن الأشعري بوجه آخر فزعم أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر نظري لا ضروري وأن الأشعري أثبت ذلك وذكر أن إثباته لذلك من جهة تتضمن الفعل للفاعل كتضمن الفاعل للفعل
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا ولا يحتاج كلامه إلى هذا وإما نشأ الغلط من ظن القاضي أبي بكر أن العلم بافتقار المحدث إلى الفاعل أمر نظري وليس الأمر كذلك بل هو ضروري عند جماهير العقلاء وإن كان نظريا عند طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم
والشيء قد يكون ضروريا مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه فلا منافاة بين كونه ضروريا مستقرا في الفطر وبين إمكان إقامة الدليل عليه

كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق
فقال القاضي أبو بكر : ( وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر لأن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها مع إنكارهم الصانع المصور كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحا )
قال : ( وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث أو قريبا من شطرها يقع من غير محدث ولا فاعل أصلا وهو ثمامة بن أشرس النميري وشيعته لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها وهي مع ذلك حوادث وأفعال )
قال : ( وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الأعتراض هو أن قال : كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق )
قال : ( وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا وذهابه عن جهة الصواب فيه ثم نقول : فهب أن الأمر كما وصفته ماالذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق ؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بخالق ليس هو مما يعلم بالاضطرار ولا يثبت بدرك الحواس وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها ادعت في هذا المذهب البديهة وأن العلم يقع به عند كمال العقل وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه وأن له محدثا سواه وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال فكإنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل وما من أجله أجمعوا على ذلك فما في هذا مما يعاب لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ ؟ !
وأيضا فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامه الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث فلا يجب عليه ذلك فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى )
قال : ( وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفي على من عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره
وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية وهو تعلق الفعل بالفاعل وأن المخلوق لا بد له من خالق بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكرا مطلقا وجعلها مسلمة ولم ينازع فيها من يعبأ فيها من يعبأ به ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها
وقول القاضي : إن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يقولون : إنه محدث من غير محدث فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف منهم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق لا أنهم أنكروا الصانع وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا للحدوث
وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم : يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس : هذا ينقض الاصل الذي أثبتم به الصانع وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فإذا كانت الأوقات متماثلة والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه كان ذلك ترجيحا بلا مرجح فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك كل ذلك ينزع إلى أصل واحد وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث
والفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وابن سينا وأمثالهما جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها لا يتأخر عنها شيء من معلولها كما يقوله ابن سينا وأمثاله : إن الأول يحرك المتحركات بمعنى أنها تتحرك للتشبه به لا أنه أبدع حركتها كما أنها لم يدعها عندهم فلزم من ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت لا محدث وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث وقد بسط هذا في موضعه
وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة فهو من لوازم قوله كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا : تحدث إرادة لا في محل بل إرادة ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي لا ينفي سببا اقتضى حدوثها وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار ولكن لازم المذهب ليس بمذهب وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح لفسادها بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل : إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص أو أن الممكن لا بد له من مرجح أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث

كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى
والتناقض الذي يلزم أولئك أكثر ولها أورد أبو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة أسولة لم يجب عنها بجواب صحيح فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن لا بد له من سبب فاعترض على ذلك بأنه : ( لم قلتم : إن الممكن لا بد له من سبب ؟
ثم هنا نظران : أحدهما : أن نقول : أنتم في هذا المقام بين أمرين : إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر
ودعوى الضرورة باطل لوجهين : أحدهما أنا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح وعرضنا أيضا قولنا : إن الواحد نصف الأثنين لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية
وثانيهما : أن العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان ذلك ضروريا لاستحال من العقلاء دفعه
بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست : أحدها : أن القائلين بحدوث العالم وهم المسلمون يقولون : إن الله فعل في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الأوقات المذكورة مع تساويها بأسرها فيكون ذلك وقوعا للممكن بلا سبب
وثانيها : أن الذين يحيلون الدواعي والأعراض على الله تعالى وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل يقولون : أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص من إيجاب أو ندب أو حظر أو إباحة مع كون سائر الوقائع مساويا لها فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص
وثالثها : أن أكثر زعموا أن القادر مع تساوى دواعيه إلى الشيء وضده قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما دون الآخر وزعموا أن العلم بذلك ضروري وأن الجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين من كل الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما بل يبتدىء بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب مختص يختص به ذلك الجانب وكذلك النائم ينقلب من احد جنبيه على الآخر لا لمرجح وادعوا الضرورة في هذه الصورة
ورابعها : أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في الصفات الذاتية وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة
وخامسها : زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها أو أسرع أو أبطأ مما وجدت لكن التشبه حاصلا لا عن مرجح
وسادسها : أنهم يقولون : الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك مع كون ذلك الموضع مساويا لسائر المواضع في الحقيقة والماهية لكون الفلك عندهم بسيطا فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب ولو كان العلم بذلك ضروريا لاستحال ذلك كما استحال أن يحكم بعضهم بكون الواحد أكثر من اثنين
فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام وأما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل وأنتم ما ذكرتم ذلك الدليل ثم لو ذكرتموه فإنه ينتقض بالصور التي عددناها )
وذكر أسولة أخرى
ثم قال أبو عبد الله الرازي : ( والجواب على منهجين : الأول : إجمالي وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين : إحدهما : أن المحدث لا بد وأن يكون ممكنا لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدودا في شيء من الأوقات وثانيهما : أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية
وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات فكذلك ما ذكرتموه )
قال : ( وهذا جواب قاطع للمنصف )
قال : ( والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل )
إلى أن قال : ( قوله : إذا ثبت كون المحدثات ممكنة وجب استنادها إلى مؤثر قوله : تدعون فيه الضرورة أو النظر ؟ قلنا : بل ندعي فيه الضرورة فإنا أذا فرضنا إنسانا سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان : هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلا ؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك
وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلا ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة مشيدا فإنه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئا لم يتوقعوا حصوله هناك حملتم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية قوله : إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الأثنين وعرضنا أيضا أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الإ لمرجح وجدنا الأول أظهر قلنا : هذا ممنوع وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جليا وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية قوله : إن جمعا من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان فساد ذلك ضروريا لما قالوا به قلنا : إنهم لم يلزموا ذلك بل غايته أن صار ذلك لازما على مذاهبهم وليس كل ما صار لازما وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب فإنهم يحتالون في الجواب عن ذلك سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها قال : وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهو إن سلك مسلك هؤلاء في بيان افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فمسلكه اطول وأضعف بل هذا المسلك الذي سلكه باطل كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر
وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره فلا يترجح وجوده إلا بمرجح
أما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع وأكثر العقلاء على نقيض ذلك وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الإثبات وغيرهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه ك أبي المعالي و القاضي أبي يعلى و ابن الزاغوني وغيرهم
فالجمهور يقولون : عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب بل ليس له من ذاته وجود فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده نفي معدوما وإذا قال القائل : عدم وجوده لعدم علة وجوده كما أن وجوده لوجود علة وجوده
قالوا له : أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضي لوجوده ؟ أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه ودليل على عدمه ؟
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلا وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة بل ليست مقتضية للوجود فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب لأن وجوده بدون سبب محال
فإذا علمنا ان لا سبب يقتضي وجوده علمنا عدم وجوده فهذا من باب الاستدلاب وقياس الدلالة لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج والله أعلم
وأيضا فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح كما ذكره من أن كفتي الميزان لا تترجح إحداهما على الاخرى إلا بمرجح وأن هذا معلوم بصريح العقل
وإذا كان كذلك فطريقة المتكلمين من الذي قالوا : لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخص كما قاله القاضي أبو بكر و القاضي أبو يعلى و أبو الحسين البصري و أبو المعالي و ابن عقيل و ابن الزاغوني وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين - خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح كما فعل ذلك ابن سينا والسهروردي المقتول و الرازي و الآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح
ومن المعلوم أن العلم يكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه كما ذكروه في كفتي الميزان فإما إذا قدرناهما متساويتين لم يترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح
وكذلك الأوقات المتماثلة إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه كان ذلك التخصيص تخصيصا لأحد المثلين على الآخر والتخصيص ترجيح له عليه فلا يد له من مخصص مرجح وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما وإن كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم فليس وجوده مماثلا لعدمه كتماثل الكفتين والوقتين ولكن هما بالنسبة إليه جائزان وهو قابل لهما
فغاية ما يقال : إنه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر فهما بالنسبة إليه متماثلان من هذا الوجه فيكون ترجيح أحدهما مفتقرا إلى مرجح ولكن عند التحقيق يظهر أنهما بالنسبة إليه ليسا متماثلين وأنه ليس هنا حقيقتان ترجيح إحداهما على الأخرى بل ليس له نفسه وجود أصلا فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم لا يقال : إنه لا يستحق لا الوجود ولا العدم بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن الذي يقبل الوجود والعدم علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته
لسنا نقول : إن ذاته تستلزم العدم بحيث يكون عدمها واجبا ووجودها ممتنعا فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته لا حقيقة الممكن لذاته ولكن نقول : إن ذاته هي باعتبار النظر إليها فقط معدومة عدما ليس واجبا بل عدما يمكن أن يتبدل بالوجود
ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن فإنه كان معدوما ثم صار موجودا فهو قابل للوجود والعدم ثم إنه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال : إن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلا ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم أي لا يثبت له بذاته إلا العدم لا أنه يجب له بذاته العدم فالعدم ليس واجبا بذاته بل هو ثابت بذاته
وقولي : ثابت بذاته ليس هو إخبارا عن شيء ثابت في الخارج وذات فإن المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته ولكن هو ممكن الوجود من غيره فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجودا لا في كونه معدوما
وإذا قال قائل : إن الممكن - أو المحدث - يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب
قيل له : وعدم ذلك السبب الموجب : إما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا لزم أن يكون عدم كل ممكن واجبا فتكون جميع الممكنات ممتنعة لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب وإذا كان معدوما لعدم علته وعدم علته واجبا كان عدمه واجبا وهذا معلوم الفساد بالبديهة
وإن قيل : إن عدم العلة ممكن فإن كان معدوما بنفسه أمكن أن يكون الممكن معدوما بنفسه لا بعلة وهو المطلوب وإن كان معدوما بعلة كان القول في تلك العلة كالقول في الأخرى ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللا بعدم ممكن آخر
وهذا باطل لوجوه : منها : أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا بأولى من العكس فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر سواء سمي فاعلا أو علة أو موجبا أو سببا أو ما سمي به
فإذا قيل : عدم هذا الممكن لعدم مؤثره وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره كان كل منهما مساويا للآخر في الافتقار إلى المؤثر فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر المفتقر عدما إلى المؤثر بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر مع استوائهما في ذلك
منها : إذا كان عدم هذا لعدم ذاك وعدم ذاك لعدم آخر فالعدم الثالث إن كان هو الأول لزم الدور القبلي وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل والمعلولات وكلاهما ممتنع
فهذا كله مما يببين أن عدم الممكن ليس مفتقرا إلى المؤثر كافتقار وجوده إلى المؤثر فليس ترجيح وجوده على عدمهه كترجيح إحدى كفتي الميزان وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلىهذه بخلاف الوجود والعدم يالنسبة إلى الممكن فإن ليس رجحان الوجود كرجحان العدم
ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن ليس هو المرجح للعدم لا مثله ولا من جنسه فإن المرجح للوجود مؤثر موجود والمرجح للعدم عدم المؤثر وليس الوجود هو العدم ولا مثله ولا من جنسه فليس المرجح لأحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر ولا مثله ولا من جنسه ولا يمكن ذلك فيه بخلاف المرجح لإحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته أو ما يكون من جنس بالآخر
وأيضا فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الأخرى ليست كترجيح الوجود على العدم بل هي أقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت كتخصيصه بقدر دون قدر ووصف دون وصف ومكان دون مكان ونحو ذلك فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم
فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد ما لا يحتاج إليه بل ربما كان فيه مضرة خيرا من طريقة هؤلاء الذي استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن
ثم إن ابن سينا وأمثاله كانوا خيرا فيها من الرازي و الآمدي وأمثالهما و الرازي فيها خير من الآمدي كما قد ذكر في غير هذا الموضع وهذا لو قدر أن هذه الطريقة - طريقة ابن سينا ومن اتبعه ك الرازي ونحوه - طريقة صحيحة فكيف إذا كانت باطلة ؟ ! كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج مغاير للممكن أصلا ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها
ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع ولو أثبت بها الصانع لم يمكنه أن يجعله شيئا غير الأفلاك فضلا عما يدعونه من نفي التركيب الذي جعلوه دليلا على نفي الصفات
وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وأن الممكن لابد له من واجب فاحتاجوا إلى شيئين : إلى حصر القسمة في الواجب والممكن وأن الممكن يستلزم الواجب
ولفظ ( الواجب ) فيه إجمال قد يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له فتدخل فيه - إذا كان ذاتا موصوفة بالصفات - ذاته وصفاته
ويراد به القائم بنفسه مع ذلك فتدخل فيه الذات دون الصفات ويراد به المبدع للممكنات فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات
ويراد به شيء منفرد ليس بصفة ولا موصوف فهذا يمتنع وجوده ولم يفهموا دليلا على وجوده فضلا عن أن يكون واجب الوجود
فإذا قالوا : نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم وبالممكن ما تقبل ذاته العدم
قيل لهم : أثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى
وهذا صحيح فإن الحوادث مشهودة وافتقارها إلى المحدث معلوم الضرورة لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك فإن هذا إنما يثبت وجود قديم أحدث الحوادث
والممكن عندهم يتناول ما يكون قديما ومحدثا فالقديم الأزلي عندهم يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطو وأصحابه وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا لا يكون قديما أزليا وأن ما كان قديما أزليا لم يكن إلا واجبا ضروريا يمتنع عدمه
فهذا القول باطل وإن قدر صحته فلا يتمكن إثباته إلا بكلفة ونظر دقيق ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات لا يتوقف على العلم بكون القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه قد يكون مممكنا يقبل الوجود والعدم فهم يقولون : إذا أثبتنا قديما نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت أنه واجب الوجود لا ممكن الوجود لأن القديم يحتمل الأمرين
وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه ك الأربعين و نهاية العقول و المطالب العالية وغيرها من كتبه
فهؤلاء إذا قيل لهم أثبتوا واجب الوجود الذي هو قسيم الممكن عندهم والممكن عندهم يتناول القديم والحادث لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم وهذا لا يمكنهم إثباته إلا بإثبات الحادث الذي يكون موجودا تارة معدوما أخرى ؟ والحادث يسلتزم ثبوت القديم والقديم عنده لا يجب أن يكون واجب الوجود بل قد يكون ممكن الوجود فهم لم يثبتوا : لا واجب الوجود ولا ممكن الوجود الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه
ثم إذا قدر أنهم أثبتواوجود واجبا فهم لم يقروا أنه واحد وأنه مغير للأفلاك إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركبا لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجبا
ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب بمعنى أنه منفرد ليس بصفة ولا موصوف وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا مع أن الغرض أنه ليس بموصوف ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده بل ولا على إمكانه وإنما يقوم الدليل على امتناعه يراد به افتقار المفعول إلى فاعله والمعلوم إلى علته الفاعلة وإنما يراد به أنه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه فيلزم من وجود الذات المتصفة بصفات وجود الذات والصفات
وهذا لا محذور فيه وحقيقته أنه يلزم من كون الشيء موصوفا كونه موصوفا ومن كونه مركبا كونه مركبا وهذا كلام صحيح وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك وقد بسط هذا فيغيره هذا الموضع
وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر ممما يتبين به بطلان كلامهم
والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء وهذا كله مما يبين أن كل من كان إلى الإسلام أقرب فإن عقلياته في الأمور الإلهية أصح من عقليات من كان على الإسلام أبعد منه إلا حيث يكون قد اتبع في عقليانه من هو عن الإسلام أبعد منه هذا كله بين لمن تدبره ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء وجد كلام متكلمي المسلمين خيرا من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة

كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية
وقد قال ابن سينا في الإشارات : ( ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود من غيره )
فقوله : ( ما حقه الإمكان فليس يثير موجودا من ذاته ) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه فإذا قيل : ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره كان هذا من القضايا البينة ولكن هذا لا يعرف بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى كما اعترف هو وسلفه وسائر العقلاء لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث
وأما استدلاله على ذلك بقوله : ( فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن ) فهذا لا يحتاج إليه وهو متنازع فيه وهو لم يقم عليه دليلا بل يقال : هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم بل يقال : هذا باطل فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء
وقوله : ( فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته ) هو أيضا مما لا يحتاج إليه ولا بينه ولا هو مسلم بل هو باطل إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجودا فأما ما كان مستمرا على العدم فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره وإن صار العدم فلغيبة غيره فيكون إنما عدم لغيبة سببه وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين وهو متنازع فيه بل هو باطل وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه ودليل على عدمه لا أنه الموجب لعدمه
وكلام القاضي أبي بكر و أبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا الباب هو أصرح في المعقول بل هو صواب وهذا خطأ وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر حيث استولوا على الواضح بالخفي
وأما ابن سينا وأتباعه ك الرازي وغيره فدليلهم باطل ولم يثبتوا وجودا واجبا بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح فإن أبا الحسين يقول : ( الدليل على أن للمحدث محدثا هو أنه لا يخول : إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه
وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه )
فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات وأيضا فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وإن كان ممكن الحدوث بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه
فقول أبي الحسين : ( لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث ) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث
فكانت هذه الطريقة مع طولها خيرا من طريقة ابن سينا و الرازي وأمثالهما لو كانت تلك صحيحة من وجهين : أحدهما : أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض أبين في المعقول من افتقار كل ممكن فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث قد نازع طوائف من الناس في ثبوته وفي إمكان كونه معلولا لغيره ونحو ذلك بل عامة العقلاء على امتناعه والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه والعقل الصريح يدل على امتناعه ولم يقيموا دليلا على تحقيقه ولا على افتقاره إلى واجب وعلى إثبات واجب يكون قسيما له
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه لم ينازع هؤلاء ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثا ؟
الثاني : أنه قال : ( لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه ) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض لم يقل : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف وهو بين في العقل ضروري فيه بخلاف ما قاله أولئك فإن فيه نزاعا واضطرابا وليس هو بينا في العقل بل الصواب يقتضيه
وكذلك أبو الحسين يقول دائما : ( ما كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ) وهذا كلام صحيح ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية ليصير كلامه في الإلهيات مقربا لجنس كلام متكلمي المسلمين ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع والعقل فيستدل لها على ما نازعوه فيه مما وافقوا فيه دين المسلمين وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم كما قالوا للمعتزلة : أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم ونفيتم الصفات بناء على ذلك ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات فإذا قلتم : إنه حي عليم قدير لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات وهذا ممتنع وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات وهي لازمة للأسماء فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم فيلزمكم نفي الأسماء ولهذانظائر في كلامهم
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين من المعتزلة وأشباههم أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت وهذا مما جعله هؤلاء أصلا لهم في إثبات العلم بالصانع
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح لئلا يناقض قوله في قدم العالم ويقول : إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق هو وسلفه من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثا وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضروريا واجبا لا يكون ممكن الوجود والعدم وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث جعله له حجة على قدم العالم بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم فإنه إذا كان العالم صادرا عن علة مستلزمة له والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالممكن على الواجب وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلا
وذلك أعظم من قول أولئك : حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم : إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارنا لعلته في الزمان وقابلوا لذلك قول المتكلمين الذي قالوا : بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره لا يقارنه ولا يتراخي عنه كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
ولهذا يقال : كسرته فانكسر وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت وعتقت العبد فعتق وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين
وهم إذا قالوا : إن المكون مع التكوين لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة فإن الأول إذا كان علة تامة والعلة التامة يقارنها معلولها وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديما
ولزمهم أيضا أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها وذلك في آن واحد وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه هي غير طريقة سلفه الفلاسفة بل هي طريقة محدثة وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام ومن أصول سلفه الفلاسفة والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص وهذا حق
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب وهذا حق لكن قد ينازعونه في أن الممكن : هل يمكن أن يكون قديما أم لا ؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون : الممكن لا يكون إلا محدثا وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك
وأيضا فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون : الموجود على طريق الجواز ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل ويقولون : إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدمية
ولهذا يقولون : إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوما إلا بسبب وهذا مما نازعه فيه الجمهور حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك
وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإن أبا حامد الغزالي ذكر ذلك في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
قال : ( فنقول : النسا فرقتان : فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع فعقل مذهبهم في القول بالصانع
وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديما ثم كما هو عليه ولم يثبتوا صانعه ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه
فأما الفلاسفة فقد رأوا قديما ثم أثبتوا مع ذلك له صانعا )
قال : ( وها المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج إلى إبطال )

رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت
قال ابن رشد الحفيد : ( بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين جميعا وذلك أن الفاعل قد يلقى صنفين : صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول أي هما معا وهذا الفاعل أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الأول لأنه يوجد مفعوله ويحفظه والفاعل الآخر يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة قالوا : إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم فعلموا قياسهم هكذا : العالم فعل أو شيء وجوده تابع لفعل وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده فأنتجوا من ذلك أن العلم له فاعل موجود بوجوده فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثا قال : العالم حادث عن فاعل لم يزل قديما وفعله قديم أي : لا أول له ولا آخر لا أنه موجود قديم بذاته كما تخيل لمن يصفه بالقدم )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركا غير متحرك ويسمونه الأول وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه
وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول : لا قديم إلا هو وليس هذا قول أرسطو وأتباعه وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم

كلام أرسطو وأتباعه
وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه :
( الوجه الأول )
أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلا للحركة الفلكية إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك لا من حيث هو مبدع محدث للحركة ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه من غيره بالمحبة له والشوق لا سيما إذا كان محبا للتشبيه به لا لذاته كما يتشبه المأموم بإمامه لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك وإنما يكون علة غائية لا علة فاعلية فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلا لشيء من الحوادث كما قد بسط في موضعه
و أرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئا ولا يعلم شيئا ولا يريد شيئا

الوجه الثاني
أنه بتقدير أن يثبتوه محدثا مبدعا للحركة التي لا قوام للفلك والعالم إلا بها كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله فإنما يكون فاعلا لما هو شرط في وجود العالم لا يكون فاعلا لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعا للعالم ولاسيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوبا فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب الذي لا يقوم بدون تلك المحبة بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعا للمؤتم به من جهة كونه يحتاج إلى الأئتمام به
ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل بل هذا يتضمن أن واجب الوجود - كالفلك عند أرسطو وأتباعه - يفتقر إلى شيء بائن عنه وذلك يدل على فساد قولهم فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه

الوجه الثالث
إن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه بل هو باطل وأقصى ما يمكن أن يقال : يمكن وجوده لكن يكون ناقصا ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها

الوجه الرابع
أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحو
فيقال : إن ادعيت أن ما يفعل حركة في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به فهذا غير مسلم لا يسما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوبا أو مؤتما به وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف قائم به أعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به وأن تغير ذات المؤلف إذا انتفض تأليفه أبين من انتقاض ذلك المتحرك إذا والت حركته فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلا ففاعل التأليف أولى أن يكون فاعلا وهذا أمر مشهود ليس من جمع الأجزاء المتفرقة وجعلها شيئا واحدا كمن حرك الشيء الساكن لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع والماء للعطشان والمرأة للرجل والرجل للمرأة فكيف إذا كان كتحريك الإمام للمؤتم به ؟
وإن قال : إن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائما وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه وهذا هو الوجه الذي قصده
فيقال له : ليس في الشاهد أمر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائما
فقولك : إن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه إن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة
فيقال لك : ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني وإنما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول
وإن قلت : إن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار
فيقال لك : كون النفس وحدها هي المحركة للبدن دون أن يكون هناك سبب للحركة أمر لو كان حقا لم يكن من المشاهدات
وأيضا فالنفس لا يقول عاقل : إنها هي الفاعلة للبدن
وأيضا فكل من النفس البدن شرط في حركة الآخر

الوجه الحامس
أن يقال : نحن نسلم أن الفاعل الذي نفتقر إليه المفعول دائما أكمل مممن لا يفتقر إليه إلا حال حدوثه لكن إذا قيل : إن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائما كان هذا قولا صحيحا وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين بل لو قيل : إنه يفعل تأليف العالم دائما وأن تأليفه لا يقوم إلا به كان هذا خيرا من قول سلفك : إنه يفعل حركة العالم دائما لو كانوا قائلين بذلك فكيف وحقيقة قولهم : إنه لا يفعل شيئا ؟
فأنت لو جعلته من الصنف الأول من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركات لكن الفاعل الدائم للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائما أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه فإذا جعلته فاعلا للتأليف وهو محتاج إليه دائما كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركة فكيف ولم تجعلوه فاعلا إلا من جهة كونه متشبها به فقط ؟

الوجه السادس
أن يقال : العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه لا عين ولا صفة فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم غاية فعله تأليف تلك الأجسام مع أن كثيرا من متكلمة الإثبات كالأشعري ومن وافقه يقولون : ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته وما خرج عنه ليس فعله
والقائلون بالتولد يقولون : بل ذلك التأليف فعله والقول الوسط : أن التألف حادث بسبب فعله القائم به وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس والقوة التي جعلها الله فيها وتلك لا حاجة إليه فيها فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته فليس له نظير إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء : لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره لا يقوم إلا بها والمخلوق يحدثها دائما فليس هذا بمشاهد في الفاعلين والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم وإن لم يكن مطابقا ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله لأنه موجود في العالم وهو أقرب إلى الفاعل المطلق
فقوله : ( إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد ) كلام صحيح لكن ليس هو مطابقا لقول إخوانه الفلاسفة فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه بل غاية ما جعلوه فاعلا للحركة ثم لم يجعلون فاعلا لها إلا من جهة كونه علة غائية لكون الفلك يقصد التشبه به وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم ثم من قال من المتكلمين المعتزلة ونحوهم إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة لكونهم أثبتوا فاعلا حقيقة
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة الذي يقولون : إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء فهذا أكمل من قولهم من كل وجه وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه ربا فاعلا ومن جهة كونه إلها محبوبا معبودا
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظرا

بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
قال الغزالي : ( فإن قيل : نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلا مختارا يفعل بعد أن لم يكن يفعل كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره فإن سميناه صانعا فبهذا التأويل وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب فإنا نقول : العالم موجود والموجود إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له فإن كان له علة فتلك العلة لها علة ام لا علة لها ؟
وهكذا القول في علة العلة فإما ان تتسلسل إلى غير نهاية وهو محال وإما أن تنتهي بالآخر إلى علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول وإن كان العالم موجودا بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول فإما لم نعن به إلا موجودا لا علة له هو ثابت بالضرورة
نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السماوات لأنها عدد ودليل التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال : إنه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لأنه جسم والجسم مركب من الهيولى والصورة والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركبا وذلك يعرف بنظر ثان
والمقصود أن موجودا لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق - وإنما الخلاف في الصفات - وهو الذي نعنية بالمبدأ الأول )
قال الغزالي : ( والجواب من وجهين : أحدهما : أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها وقولكم إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فيبطل ذلك عليكم في مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة
الوجه الثاني : وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال : نثبت تقديرا أن هذه الموجودات لها علة ولكن علتها علة ولعلة العلة علة كذلك وهكذا إلى غير نهايتة
وقولكم : أنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها لايستقيم منكم فإنا نقول : عرفتم ذلك ضرورة بغير واسطة او عرفتموه بواسطة ؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها ؟ كما أن الزمان السابق له آخر وهو الآن ولا أول له
فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معا في الحال ولا في بعض الأحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة إلى غير نهاية ثم كل إنسان مات فقد بقي نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده وإن كان الكل بالنوع واحدا فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها )
قال : ( فإن قيل : ليس لبعضها ارتباط ببعض ولا ترتيب لها : لا بالطبع ولا بالوضع وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالطبع كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق بعض أو كان بها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات وأما النفوس فليست كذلك
قلنا : هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه فلم أحلتم أحد القسمين دون الآخر وما البرهان المفرق ؟
وبم تنكرون على من يقول : إن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلو عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها فإذا قدرنا وجود نفس واحدة في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الآن خارجا عن النهاية واقعا على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض
والعلة غايتها أن يقال : إنها قبل المعلول بالطبع كما يقال : إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية ؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له ؟
قال فإن قيل : البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية أن يقال : كل واحدة من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة ؟ فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها
قلنا : لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة فإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة ونقول : كل واحد ممكن : على معنى أن له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن : على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه وأن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم )
قال : ( فإن قيل : فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال
قلنا : إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم أنه محال وهو كقول القائل : يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم وآحاد الذوات حادثة وهي ذات أوائل والمجموع لا أول له فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات أوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع
وكذلك يقال على كل واحد : إن له علة ولا يقال : للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع إذ يصدق على كل واحد أنه واحد وأنه بعض وأنه جزء ولا يصدق على المحجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول والمجموع عندهم ما ليس له أول
فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها وهي صور العناصر الأربعة المتغيرات فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال وخرج قولهم إلى التحكم المحض
فإن قيل : الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل وما لا وجود له لا يوصف بالتنهاهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها ولا يتعذر ما يقدر في الوهم فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان لا يبقى إلا نفوس الأموات وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان وعند مفارقة الأبدان تتحد فلا يكون فيه عدد فضلا عن ان يوصف بأنه لا نهاية لها وقال آخرون : النفس تابع للمزاج وإنما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم فإذن لا وجود في النفوس إلا في أحياء والأحياء الموجودون محصورون ولا تنتهي النهاية عنهم والمعدومون لا يوصفون أصلا بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين )
قال : ( والجواب أن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا و الفارابي والمحققين منهم إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل ومن عدل عن هذه المسلك فيقول : هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا ؟ فإن قالوا : لا فهو محال وإن قالوا نعم قلنا : إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها فالدورة وإن كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقى ولا ينقضي غير مستحيل وبهذا التقدير يتقرر الإشكال ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أوملك أو ماشئت من الموجودات وهو لازم على كل مذهب لهم إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها )

تعليق ابن تيمية
قلت : أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث وقال : إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر و أبي المعالي وغيرهما ممن جعل هذه المقدمة نظرية
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين
أحدهما : أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب ولكن لا يمكن نفي كونه جسما من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات وتلك مبناها على نفس التركيب وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاما بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية المحضة الذين يقولون : إن العالم واجب الوجود بذاته وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم : أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره
وابن سينا و الرازي و الآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناء على هذه المقدمة فكان ما ذكره أبو حامد إبطالا لطريق هؤلاء كلهم و الآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع
وليس فيما ذكره أبو حامد و الآمدي إبطال لطريقة المعتزلة ومن وافقهم على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل وأنتم تجوزونها في الحوادث فجوزوها في العلل
والناس لهم في هذا المقام قولان : أحدهما : قول من يبطل عدم النهاية فيهما جميعا مثل كثير من أهل الكلام : المعتزلة ومن وافقهم ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد كقول جهم والعلاف وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة وقال العلاف ببطلان حركاتهم
والثاني : قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع كما قاله هؤلاء في الحوادث بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري وغيره من أهل الكلام من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع ثم سوى أبو حامد بين الأمرين
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد كان حكم الجميع حكم أفراده وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد لم يلزم أن يكون حكمها حكمه فالأول مثل وصفها بالوجود أو العدم أو الوجوب أو الامكان أو الامتناع فإذا قدر أشياء لا تناهى كل منها موجود فالكل أيضا موجود
ثم أن قدر وجود كل منها مقارنا للآخر كان وجود الجميع مقارنا وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقبا وإذا قدرت كل منها معدوما فالكل أيضا معدوم وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معا وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر كانت متعاقبة في العدم
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب وعدمها متعاقب فالجملة أيضا موجودة على التعاقب معدومة على التعاقب وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة فالجملة ممتنعة ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة فالجملة أيضا واجبة فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي ليس لشيء منها وجود من نفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة كتناوله لكل من أفرادها كما يتناول وصف الوجود والعدم والوجوب والامتناع للجملة بحسب تناوله للأفراد فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة لا تكون معدومة مع وجود كل منها ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات فهو أولى بالإمكان منها
ولو قال قائل : فكيف تصفونها بالامتناع مع كون كل منها ممكنا ؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد ؟
قيل له : نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج ثم نحكم عليها بالامتناع فإن هذا جمع بين النقيضين فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها ولكن نقدر ذلك في الذهن ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج كالجمع بين النقيضين وأمثاله من الممتنعات بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج وكل منها ممكن
وقيل : إن الجملة واجبة بنفسها فهذا هو الممتنع كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها كالحوادث المستقبلة في الجنة فإن كلا منها بعد غيره وليست الجملة بعد غيرها بل لا تزال إلى غير نهابة وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء
فحينئذ إذا قيل : بعد كل واحد غيره كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد ولكل واحد من أجزائها بعد
ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد وكذلك إذ قدر أنه لا أول للجملة ولكل منها أول
وكذلك إذا قيل : إن الجملة كل وجميع ومجموع أومستدير أومربع أو مثلث أو حيوان أو إنسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلا ولا مدورا ولا حيوانا
ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال : قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل وأما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقا إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله
لكن تبين خطؤهم من وجوه :

فساد مذهب الفلاسفة من وجوه
( الوجه الأول )
أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء بل بتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهي في آن واحد ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد وهذا مما يصرحون بامتناعه مع قيام الدليل على امتناعه وتضمن امتناع وجود حادث ووجود الحوادث بلا مؤثر تام وكل هذا ممتنع
وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان لا يتعقبها ولا يتراخى عنها فيكون الأثر مع التأثير التام
وكثير من المتكلمين يقولون : يجوز أن يتراخى والصحيح قول ثالث وهو أن يتعقبه : لا يكون معه ولا متراخيا عنه وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى
وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود بل يكون كل ممكن قديما أزليا لوجود علته التامة في الأزل ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث والأول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء ويلزم أنه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها فإنهم يقولون : لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته
فيقال : وذلك التمام حادث فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جرا فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد وهذا ممتنع كامتناع علل ومعلولات لاتتناهى في آن واحد إذ لا فرق بين امناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة
ولهذا قالوا : لا يحدث حادث إلا بسبب حادث فلو حدث عن القديم لا فتقر إلى حادث والقول في الثاني كالقول في الأول فيلزم أن لا يحدث شيء
وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه فيلزم أن لا يحدث شيء
فالمتكلمون قالوا : القادر يفعل بدون سبب حادث فقالوا : هذا محال وقالوا : تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها فكان قولهم أشد بطلانا

الوجه الثاني
أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد فإذا قدر قديمان : كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى كما يقولونه في الأفلاك فهذا ممتنع لأن كلا منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية مع أن أحدهما أكثر من الآخر وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه وهذا ممتنع كما امتنع مثل ذلك في الأبعاد
( الوجه الثالث )
أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارنا له أزلا وأبدا وأن يكون القديم الأزلي مفعولا ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاما بعضه من باب الأسولة اللفظية وبعضه من باب الأسوله المعنوية فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأول ( هذا كلام مقنع غير صحيح فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الأربع أعني : الفاعل والصورة والهيولى والغاية وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فإنهم كانوا يسألون عن أي علة أرادوا بقولهم : إن العالم له علة أولى فإن قالوا : أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال مفعوله هو فعله لكان جوابا صحيحا على مذهبهم على ما قلنا غير معترض عليه ولو قالوا : أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضا
وكذلك لو قالوا : أردنا به السبب الصوري لكان معترضا أن فرضوا صورة العالم قائمة به
وإن قالوا : أردنا به صورة مقارنة للمادة جرى قولهم على مذهبهم
وإن قالوا : صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من الأجسام وهذا لا يقولون به
وكذلك إن قالوا : هو سبب على طريق الغاية كان جاريا أيضا على أصولهم
وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى فكيف يصح أن يجعل جوابا للفلاسفة ؟ )
وبسط الكلام بسطا لا يرد على أبي حامد فإنه قد علم أنه أراد بالعلة هنا العلة الفاعلة لا الأقسام الثلاثة وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى ويقولون : كل ما سواه صادر عنه فالذي ذكره تقرير مذهبهم - كما يقولونه - على أحسن وجه فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية وهو كون لفظا مشتركا فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب والخروج عن المقصود
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم
ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد فقال على الوجه الأول وأنه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسما قديما لا علة له وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات وقد أبطلة أبو حامد
قال ابن رشد : ( يريد أنهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات كان ذلك الأول عندهم ذاتا بصفات وما كان على هذه الصفة فهو جسم أو قوة في جسم ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الأجرام السماوية )
قال ابن رشد : ( وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة - يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة - يعني الأوائل - لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له بمانسبة إليهم من الأحتجاج ولا يزعمون أيضا أنهم يعجزون عن دليل التوحيد ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول وستأتي هذه المسألة فيما بعد )
قلت : ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في نفي الصفات ونفي التجسيم وأنها ليست طريقة أوليهم بنى نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس وأنها ليست بجسم واستدل بأضعف من دليلهم وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية وهي أن المركب لا بد له من مركب والمؤلف لا بد له من مؤلف وهذا إنما يكون إذا أطلق هذا اللفظ على مسماه باعتبار أن هناك مؤلفا فعل التأليف ومركبا فعل التركيب
ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال أو أراد به ما فيه اجتماع وقال : إن ذلك واجب بنفسه لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه وهذا مبسوط في موضعه
المقصود تبيين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه وما أخذه عن المتكلمين وكيف خلط أحدهما بالآخر
قال ابن رشد : ( قول أبي حامد : ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة وهكذا إلى غير نهاية إلى قوله : وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها شك تقدم الجواب عنه حين قلنا : إن الفلاسفة لا تجوز عللا ومعلولات لا نهاية لها لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعا وفي مواد لا نهاية لها بل إذا كانت دورا )
قال : ( وأما ما يحكيه عن ابن سينا : أنه يجوز نفوسا لا نهاية لها وأن ذلك إنما يمتنع فيما له وضع فكلام غير صحيح ولا يقول به أحد من الفلاسفة وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع أعني القول لوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال : إن النفوس متعددة بتعدد الأشخاص وأنها باقية )
قال : ( وأما قوله : وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية ؟ وهل هذا إلا تحكم بارد ؟ !
فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جدا وذلك أن وضع الأجسام لا نهاية لها معا يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل وأن يكون بالفعل وذلك مستحيل والزمان ليس بذي وضع فليس يلزم من وجود أجسام بعضها فوق بعض إلى غير نهاية وجود ما لا نهاية له بالفعل وهو الذي امتنع عندهم )
ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها قال ابن رشد : ( وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنه طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الموجود وأن طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلمين ترى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوه فيه : من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكر أبو حامد وإذا سومح في هذه القضية لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الموجود أولا إلى ما له علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وإلى ضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة له وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا عله له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا يتبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت : فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها : أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنها طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الوجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول
قال : ( وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية )
قال : ( وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره بممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكره أبو حامد )
قلت : فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل قول جيد إذ ان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم والمحدث لا بد له من فاعل هذا أيضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء
وأما قوله : ( ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة )
فإنه يقول : أولئك أرادوا بالممكن المحدث وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث فأراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية وهذا القول الذي ذكره ابن سينا يظن من أخذ الفلسفة من كلامه أنه قول أرسطو وأتباعه وليس كذلك وإنما يذكر هذا عن برقلس ولهذا قال : الباري جواد وعلة جوده هو ذاته فيكون جوده دائنا وهذا يوافق قول ابن سينا ولا يوافق قول أرسطو فإن الأول عنده لا فعل له : لا جودا ولا غير جود ولا إرادة بل ولا يعلم ما سواه
وقول ابن رشد : ( إن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفا بنفسه )
فيقال له : إن سلم أنه ليس معروفا بنفسه هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن : يقبل الوجود والعدم بل إنه محدث وكل ما سواه فقير إليه وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن وأنه ليس شيئا موجودا بنفسه غنيا عما سواه قديما أزليا إلا واحد وأدلة ذلك مذكورة في مواضع وحينئذ فيحصل بذلك المقصود
لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ونحوهم سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو عن الأعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته ولا فاعل لشيء بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء بل هذا ممتنع فلا يكون مقدورا فيلزم أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وفاعلا بل ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن وأن الفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء أوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان إلى غير ذلك من اللوازم كما قد بسط في موضعه
والسلف والأئمة كلهم ذموا الكلام المحدث وأهله وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل ويخالفون الكتاب والسنة وإجماع السلف مع أن كلاهم جهل وضلال مخالف للعقل كما هو مخالف للشرع كما قد بسط في موضعه
والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا : قال ابن رشد : ( وإذا سومح ابن سينا في هذه القضية : - وهو أن الممكن ما له علة - لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الوجود إولا : إلى ما علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري )
قلت : أما تقسم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة فهذا تقسم دائر بين النفي والإثبات لا يمكن المنازعة فيه كما إذا قيل : الموجود ينقسم إلى ما قوم بنفسه وإلى ما لا قوم بنفسه وإلى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات فهذا تقسيم حاصر وإذ لا واسطة بين النفي والإثبات وهما النقيضان كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا
لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم : أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري هو الذي ليس بينا بنفسه ولم يقيموا عليه دليلا ولا يمكنهم إقامة دليل عليه بل الدليل يدل على بطلانه ولهذا أظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم
قال ابن رشد : ( ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة به وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الامر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيه إلى غير نهاية )
فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإذا أراد بالممكن : الممكن الحقيقي وهو الحادث وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له وهو واجب الوجود لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين بل لا بد من دليل بدل على ثبوتهما وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة كما لو قيل : الوجود ينقسم إلى ماهو ثابت وإلى ما ليس بثابت أو ينقسم إلى قديم وحادث وما ليس بقديم ولا حادث أو ينقسم إلى واجب وممكن وما ليس بواجب ولا ممكن
فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام
وإذا قيل : ينقسم إلى معلول وغير معلول وقيل : المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضروريا كان غايته إذ أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث : إثبات القسمين : الضروري والحادث أو إثبات ضروري معلول ليس في إثبات ضروري ليس بمعلول وهو واجب الوجود بنفسه فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه فكيف وليس فيه أيضا إثبات ضروري معلول وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري ؟
ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك ولا استدل بالحدوث ألبته وهو الممكن الحقيقي وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن
فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه قالوا : ( والقديم - الذي سموه ممكنا - يفتقر إلى واجب بنفسه ) وهذا ليس بينا وعامة العقلاء ينازعونهم فيه ولا يمكنهم إقامة دليل عليه
فهذا الذي سموه ممكنا هو قديم أزلي ضروري الوجود ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه وهو أيضا ليس بثابت فلم يثبتوا هذا الممكن ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن ولا ما ادعوه من الواجب
قال ابن رشد : ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة )
قلت : وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما لا علة له وسمى هذا الأول ممكنا ثم قسم هذا الممكن إلى : الممكن الحقيقة - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول وهو أن هذا الضروري الذي له علة هو ضروري له علة
وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم وحينئذ فيكون قد أثبت ضروريا واجب الوجود معلولا
قال : وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولا لعلة أمكن أيضا أن تكون تلك العلة وإن كانت ضرورية واجبة الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جرا ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل لأن مضمونه إثبات أمور واجبتة ضرورة كل منها له علة والجملة كلها واجبة ضرورة مع كونها وكون كل منها معلولا وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر إذا الممكن عندهم يكون ضروريا واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولا لغيره فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري ويسمى ممكنا باعتبار أنه معلول وإن كان ضروريا واجب الوجود لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وحقيقة الأمر أنهم قدروا أمورا متسلسلة كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه وكل منها معلول وسموه باعتبار ذلك ممكنا وقالوا : إنه يقبل الوجود والعدم وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة فضلا عن افتقارها كلها لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل ويعود الأمر إلى المممكن الذي أثبتوه وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي : هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه ؟
وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل بل جميع العقلاء يقولون : إن هذا لا يفتقر إلى فاعل ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي و الآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع
وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين و نهاية العقول و المطالب العالية و المحصل وغير ذلك من كتبه
وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن وعنوا بالممكن ما له علة وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل
هذا حق لكنه يدل على إثبات قديم أزلي لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه ولما لم يثبتوا هذا الممكن والواجب لا يثبت إلا بثبوته لم يثبتوا لا واجبا ولا ممكنا ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين
وإن لم يثبت الممكن فإنه إن كان الممكن ثباتا فقد ثبت الواجب وإن لم يكن ثابتا فقد بقي القسم الآخر وهو الواجب لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات
ونحن قلنا : الموجود : إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له والمعلول لا بد له من علة فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب
قيل لهم : هذا لا ينفعكم لوجهين :
احدهما : أنكم لم تثبتوا وجودا لا علة له ومجرد التقسيم لا يدل عليه بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول وعلى هذا التقدير فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى فلا يثبت لكم وجود لا علة له
الثاني : أن يقال : هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب فمن قال : الوجود كله واحد وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن ولا قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليلكم وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء
ولما كان هذا منتهى كلامهم صار السالكون لطريقهم نوعين :
نوعا يقول : لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون : لا جواب عنه كالآمدي وغيره
ونوعا يقول : الوجود كله واجب : قديمه ومحدثه وليس في الوجود موجودان : أحدهما قديم والآخر محدث وأحدهما واجب والآخر ممكن بل عني وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم كما يقوله ابن عربي وأتباعه كابن سبعين و القونوي
فيتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد الذي سلكه ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره
ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة فإن انقسام الموجود إلى واجب : هو قديم أزلي وإلى ممكن : هو محدث وجد بعد أن لم يوجد معلوم بالضرورة بجميع العقلاء وعوامهم
وصوفيتهم يقولون : الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان : أحدهما واجب قديم والآخر ممكن محدث فهؤلاء يجمعون بين النقيضين حين يجعلون الوجود الواحد قديما حادثا ممكنا معلولا مفعولا واجبا وغير مفعول ولا معلول
وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين بل يشكون في رفع النقيضين فلم يثبت عندهم وجود واجب بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره
ومعلوم أن الموجود مشهود وأنه إما ممكن وإما واجب فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما أوثبوتا أحدهما فهو في غاية السفسطة كما أن من لم يثبتهما بل جعل الجميع واجبا بنفسه قديما أزليا وأنكر وجود الحوادث فهو في غاية السفسطة والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر
وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد فإنه مع تعظيمه للفلاسفة وغلوه في تعظيمهم وقوله : إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه فإذا كان هذا فسادا فذاك بطريق الأولى
وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال : ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن نمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية )
قال ابن رشد : إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن وهو المحدث بعد أن لم يكن الذي يكون أن يكون موجودا تارة ومعدوما تارة أخرى فإن هذا هو الممكن الحقيقي فإذا أريد بالممكن هذا وقيل : الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن والممكن ما له علة وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث كان حقيقة الكلام : أنه ينقسم إلى قديم وحادث كما قاله المتكلمون
وحينئذ فهذه الممكنات - التي هي المحدثات - هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث فإذا قدرنا وجود ما لاينتاهى من المحدثات كان كل منها لا بد له من محدث وكان مجموع المحدثات أعظم افتقارا إلى محدث فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقر واحد منها وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لايتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة وأن جيمعها مفتقر إلى محدث خارج عنها والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديما وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي ولا معلول ضروري كما قدره أولئك حيث قدروا عللا ومعلولات لا تتناهى كل منها محدث وكل منها ممكن مع أن الممكن قد يكون ضروريا ممتنع العدم واجب الوجود فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولا حتى يكون المجموع من ذلك معلولا وهذا ممتنع عليهم حيث جمعوا بين النقيضين
قال ابن رشد : ( وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى تبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة معلول - كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت : فابن رشد ذكر أولا أن الممكن إن فهمنا منه : الممكن الحقيقي وهو المحدث فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه : إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود يمتنع عدمها أزلا وأبدا ويقول مع ذلك : إنها ممكنة يمعنى أنها معلولة - قال ابن رشد : فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول
وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم ويستدل بالبين على الخفي
وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية وهي المحدثات
ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم إذا قدر تسلسلها
الوجه الثاني : قال : ( ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا إي عن تقدير هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
ومعنى كلامه : أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكنا وإن كان ضروريا واجب الوجود لكنه واجب بغيره فيجب أولا أن يثبتوا أن هاهنا ضروريا يحتاج إلى علة وهو الواجب بغيره الذي قالوا : إنه واجب أزلا وأبدا ضروري الوجود لكنه واجب بغيره لا بنفسه فلهذا سموه ممكنا
قال : ( ولم يبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضروريا بغير علة وهو الواجب بنفسه ولو بين هذا أولا كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
يقول : تبين أولا أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلا وأبدا وهو مع ذلك معلول غيره
لقيل : هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له وحينئذ فنحتاج أن نقول : إنه يمتنع وجود علل ومعلولات كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلا وأبدا فيكون التسلسل فيها باطلا كما كان التسلسل باطلا في الممكن الحقيقي وهو المحدث
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسة كل منها محدث الآخر ليس فيها قديم فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه فيكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم ؟
وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديما أزليا ضروريا واجبا بغيره وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلا وأبدا ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غيره سلفه
وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلامحدثا وأن الدائم القديم الأزلي لايكون إلا ضروريا لا يكون محدثا
و ابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع من كتابه المسمى بالشفاء وغيره
لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن والممكن عندهم هو الحادث سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع : من أن الممكن لا يكون إلا محدثا وكان ما ذكره هؤلاء وسائر العقلاء دليلا على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجودا بنفسه إلى الله وحده وأن كان ما سواه مفتقر إليه
وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلا لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلا لما ذكره أرسطو وأتباعه و ابن رشد أيضا من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم فإنه محتاج إلى غيره وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول لأنه لا قوام له إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالأول فكان لا وجود له إلا بالأول فامتنع أن يكون وجوده بنفسه بل كان معلولا بغيره وما كان معلولا بغيره لم بكن موجودا بنفسه بل كان ذلك الأول علة في وجوده وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه علم بصريح العقل أنه ليس موجودا بنفسه فلا يكون واجبا بنفسه وما لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا وكان محدثا كما قد بسط في مواضع
إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد و ابن رشد يقول : إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه وما كان أزليا واجبا بغيره دائما - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكنا بل الممكن ما كان معدوما يقبل الوجود وأما ما لم يزل واجبا يغره فليس هو بممكن
وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء وأن طريقه التي أثبت به واجب الوجود بناء على هذا الأصل إنما هو إقناعي لا برهاني كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ( وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث )
قال : ( وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه )
قال : ( وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاج إلى الفاعل ظاهرا من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن )
قلت : وهذا الذي حكاه عنهم : من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثا مركبا قد ذكره في غير موضع وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة كالأجسام العنصرية والمولدات وأن القول بأن كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك وهلم جرا إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله
وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات : أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها ذكر أنه ليس قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم هو أضعف من قول ابن سينا بكثير
وعامة ما يذكر في واجب الوجود أن يكون شرطا في وجود غيره وأما كونه علة تامة لغيره وربا ومبدعا كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث فطريقة أولئك تستلزم أن تكون الممكنات وجدت بغير واجب أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد
والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الاسلام مع ما فيهم من البدعة والتقصير
ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وعدة أدلة بين بها فساد قولهم قال ابن رشد : ( إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة لزمهم ضرورة أن يقال لهم : من أين كان في المعلول الأول كثرة ؟ وكما يقولون : إن الواحد لا يصدر عنه كثير كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد فقولهم : إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يناقض قولهم : إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة إلا أن يقولوا : إن الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة )
قال : ( والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر و ابن سينا ؟ لأنهما أول من قال هذه الخرافات فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة لأنهم إذا قالوا : إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين : أعني صورتين فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول وأيتهما التي ليست الصادرة ؟ )
قال : وكذلك إذا قالوا فيه : إنه ممكن من ذاته واجب من غيره لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود واجبة إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضروريا وكذلك ليس في الطبائع الضرورة إمكان أصلا كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها )
قال : ( وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه : إن علومهم الإلهية ظنية )
وقال أيضا لما أراد أن يقرر قول أرسطو : إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم والإمكان لا بد له من محل وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره سميناه واجبا فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفا له لأن الإمكان كالامتناع وليس للامتناع محل في الخارج ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين
فقال ابن رشد : ( هذه مغلطة فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع والذي يقال على المقبول بقابله الضروري والذي يتصف بالإمكان الذي يقاله الممتنع ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل من جهة ما يخرج إلى الفعل لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وذلك بين من حد الممكن فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكنا من جهة ما هو معلوم ولامن جهة ما هو موجود بالفعل وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة
ولذلك قالت المعتزلة : إن المعدوم ذات ما وذلك أن العدم يضاد الوجود وكل واحد منهما يخلف صاحبه فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه
ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجودا ولا نفس الوجود أن ينقلب عدما وجب أن يكون القابل لهما شيئا ثالثا غيرهما وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضا ) وبسط الكلام في هذا
وقال أيضا في دليلهم المشهور على قدم العالم وهو قولهم : ( يستحيل صدور حادث من قديم مطلق لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلا فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنا عنه إمكانا صرفا فإذا حدث لم يخل : إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح : لم رجح الآن ولم يرجح قبل ؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحا )

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
قال ابن رشد : ( هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لأن مقدماته هي عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري الممكن الأقلي والذي على التساوي وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوي
والإمكان أيضا منه ما هو من الفاعل وهو إمكان الفعل ومنه ما هو من المنفعل وهو إمكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج لأنه يدرك حسا في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك وأنه ليس معروفا بنفسه : أن كل متحرك فله محرك وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته فإن هذا كله يحتاج إلي بيان فلذلك فحص عنه القدماء
وإما الإمكان الذي في الفاعل فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيرا يحتاج إلى مغير مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم )
قال : ( والتغير أيضا الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير : منها ما هو في الجوهر ومنه ما هو في الكيف ومنه ما هو في الكم ومنه ما هو في الأين والقديم أيضا : يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة وكذلك المعقولات : على العقل الذي بالقوة ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض )
قال : ( وكذلك الفاعل أيضا : منه ما يفعل بإرادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا : أعني في الحاجة إلى المرجح وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد ) ؟
قال : ( وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين والغلط في واحد من هذه المبادي هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات )
قلت : المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا و الفارابي قبله
وهذا ابن رشد مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء واختصاره لكلامهم وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم يذكر أن كثيرا من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين ليس هو من قول قدمائهم
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال : إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة
قال : وحينئذ فقول القائل : إن الموجود ينقسم إلى ما له علة وإلى ما لا علة له يحتاج إلى دليل قال : ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلته والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه وهو ما كان معدوما وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثا وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
قال : وإذا جعلنا الممكن ما له علة كان التقدير : أن ما له علة فله علة ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو المسمى عندهم بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يقال : إنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت : ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوما كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة فإما كل ما يمتنع عدمه فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم بل هذا واجب الوجود سواء قيل : إنه واجب بنفسه أو واجب بغيره وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلا وأبدا فكونه ممكنا يفتقر إلى دليل فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا بد له من دليل كما ذكر ابن رشد بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده فهذا يعلم أنه ممكن ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها لا واجبة بنفسها
وهذا وإن كان حقا لكن دليلهم عليه في غاية الضعف فإنه مبين على أن كل جسم ممكن ودليلهم عليه ضعيف جدا كما قد بين في غير هذا الموضع وقد بين ضعفه أبو حامد ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكنا في اللغة باعتبار أنه بنفسه لا يوجد لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثا فيسمى ممكنا باعتبار ويسمى محدثا باعتبار والإمكان والحدوث متلازمان وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن كما قد بسط في غير هذا الموضع
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه
وأما ما يقدر واجبا بغيره دائما فذاك لا يسمى ممكنا بهذا الاصطلاح
وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه وهو كون الممكن ما له علة قال ابن رشد : فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلة وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث
قال : وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري كما هو قول الجمهور فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث فلا بد له من فاعل ليس بحادث وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم ثم بعد هذا كونه لا علة له
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا : بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية ممتنع عند جميع العقلاء وقد بين ذلك في موضعه
وأما كون الممكن الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود هو معلول لغيره فهذا ليس يبين أيضا امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول مع كونه واجبا قديما أزليا فالقول في علته كقول فيه فإذا قدر علل ومعلولات كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها إذ كان كل منها واجب له علة فإذا قيل : المجموع لا علة له لم يظهر امتناع ذلك كما يظهر امتناعه في المحدثات ولكن كونه له علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله وأنه صدر عن عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر كما هو معرف من مذهبهم وتقريره
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم : ( وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا و أبي نصر وغيرهما ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية ومبادىء الموجودات السماوية موجودات مفارقة للمواد هي المحركة للأجرام السماوية والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها وأنها إنما خلقت من أجل الحركة
وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي مفارقة للمواد وأنها ليست بأجسام لم يبق وجه به تحرك الأجسام ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول إلا أن المعلوم في مادة والعلم ليس في مادة وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة وجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسما ولا قوة في جسم وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها مرتبط بمبدأ أول فيها ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود وأقاويلهم مسطورة في ذلك فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده
وما يظهر أيضا من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس
كما قال سبحانه : { وأوحى في كل سماء أمرها } وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيوانا ناطقا )
قال : ( وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها عن بعض فهو شيء لا يعرفه القوم وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه كما قال تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف )
قال : ( فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا ) يعني ما ذكره ابن سينا قال : ( وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده )
قال : ( وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة مع أنها معقولة وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم فهو لذيذ محبوب عند الجيمع )
قال : ( وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى هو أن الإنسان إذا تأمل ما ها هنا ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال المتكلمون : إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم فإذا حصل له هذا الأصل وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة فهو حيوان عالم وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات تولد أصل ثالث لا شك فيه وهو أن السماوات أجسام حية مدركة فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام ما ها هنا وحفظه من الحيوان والنبات والجمادات فذلك معروف بنفسه عند التأمل فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل لم يكن ها هنا فصول أربعة ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة لما كان نبات ولا حيوان ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي وفي الصيف بالعكس : أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد الذي لها دائما من موجود موجود من المكان الواحد بعينه تلفى للقمر ولجميع الكواكب فإن لكلها أفلاكا مائلة وهي تفعل فصولا أربعة في حركاتها الدورية وأعظم من هذه كلها في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له في غير ما آية مثل قوله سبحانه : { وسخر لكم الليل والنهار } الآية
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة ومن وجهات محدودة ونحو حركات محدودة وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار وإرادة ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا لم تعدم بالحياة بالجملة على صغر أجرامها وخساسة أقدارها وقصر أعمارهما وإظلام أجسادها وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك التي لها دبرت ذاتها وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها
كما قال سبحانه : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } الآية وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا علم على القطع أنها حية فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا ونظر إلى أصل ثالث وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها علم أنها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات و الجمادات وأن الآمر لها غيرها وهوغير جسم ضرورة لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته وأنه لو لا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال لأنها مدبرة ولا منفعة لها خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده والآمر هو الله تعالى وهذا كله معنى قوله تعالى : { أتينا طائعين } )
قال : ( ومثال هذا في الاستدلال : لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من اناس ذوي نطق وفضل مكبين على أفعال محدودة لا يخلون بها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة للعناية بغيرهم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع مرتبة وأنهم كالعبيد مسخرين له
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }
وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة له حركات خادمة لحركاته الكلية ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش : أن يكون منها جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد وأولئك الآمرون وهم المسمون العرفاء يرجعون إلى أمير واحد وهو أمير الجيش
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين وترجع السبعة - أو الثمانية على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم وكيف ارتباط وجود سائر الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها أعني قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول
وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا فيعرض من اعراضها كحال السيد مع عبيده بل في نفس وجودها فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية
وهذا هو معنى قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل وإن كان يعترف بالوجود فمن رام أن يشبه الوجودين : أحدهما بالفاعل وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة )
قال : ( فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية وفي إثبات الخلق لها وفي أنه ليس بجسم وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام واحدها هي النفس )
قال : ( وأما إثبات وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه )
قلت : فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به يحركها تحريك المحبوب لمحبه بل تحريك المتشبه به للمتشبه كتحريك الإمام للمؤتم فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه كتحريك الطعام للآكل ولمرأة للجماع وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة مسخرا لها بذلك مكلفا لها بذلك
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك كم يتشبه المؤتم بالإمام

كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول
قال : والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبها به محبوبا لها كما ذكر أرسطو فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى

نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع كما ليس ذلك في كلام أرسطو وفي باطل وتناقض من وجوه :
( الوجه الأول )
أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال : إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر يعني الحركة كما ذكر أرسطو وجعلها تارة مستغنية عنها ولكنها كلفت بها لأجل السفليات وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم وهم غير محتاجين إليها

الوجه الثاني
أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل كما ذكره في أمر الملك لنوابه وأمر القائد لجيشه وأمر السيد لعبيده

الوجه الثالث
أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة ؟

الوجه الرابع
أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها وأنه لا قوام لها إلا بالحركة فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها ولا أبدع أعيانها

الوجه الخامس
أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة والدليل الذي ذكره هذا و ابن سينا وغيرهما من الفلاسفة في إثبات العقول إنما يدل على إثبات عقول هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها من جنس العقل الموجود في نفوسنا فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها فلا دليل لهم على ذلك أصلا
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك لذكرت ألفاظهم بأعيانهم ليتبين لك ما ذكرته ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر والجواهر أعراضا والصفة هي الموصوف والموصوف هو الصفة وعلى هذا بنوا كلامهم كما صرحوا به في غير موضع ومن هنا يظهر :

الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود وهذا من أعظم سفسطة في الوجود وهو شر من كلام النصارى بكثير
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة وهو العقول التي جعلولها مبادىء أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون كليات مجردة عن الأعيان وهي المثل الأفلاطونية وجعلوها أزلية أبدية وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه وقالوا : الكليات لا يكون وجودها منفكة عن الأعيان وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم حتى في واجب الوجود قالوا : إنه هو العلم وإنه العالم وأن العلم هو القدرة فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى كما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب
و ابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها والمراد بأمره بالحركة : كونه محبوبا لها أي تحب أن تتشبه به لا أنها تحب ذاته كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر وكل واحد يأمر من دونه وكلها ترجع إلى الآمر الأول
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين : لا صفاتهم ولا أفعالهم بل الملك الآمر له شعور بأمره وطلب من المأمور وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به فليس في هذا صدور أمر من أمر ولا شعور بالمحب المشتاق ولا طلب لفعل منه
و ابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها بأنها لو كانت موجودة من ذاتها أي قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير وألا تطيعه كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها
فيقال له : أنت لم تقرر أنه آمر لها وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها أي تحب التشبه به وهب أنه آمر لها فأنت لم تذكر دليلا على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة إلا قولك : ( إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية )
وهذه دعوى مجردة
فلم لا يجوز أن يقال : تلك العبودية زائدة على الذات ؟
وقولك : ( إنها تقومت بالعبودية ) : إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها فهذه دعوى أرسطو وقد علم ما فيها وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى فهذا هو المطلوب ولم تذكر عليه حجة
وأيضا فقولك : علم أن الآمر لها غيرها وهو غير جسم لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها - كلام لا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أنه مسخرا للعقول : ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام أن يكون من الأجسام المسخرة ؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة فلا يلزم أيضا إذا قيل : هو قائم بنفسه أو هو حي عليم قدير أو هو جوهر أو جسم أو ذات أو غير ذلك أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس
الثاني : أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها وهو موصوف وهو آمر لموصوفات وأمثال ذلك وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور
وأيضا فإنك قلت : لو تخيلت أمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر كما يقولون : لا توجد الأفلاك إلا بالحركة وهي قبول الأمر أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته أعظم من حاجة ما دونها إليها : فكيف يقال في هذا : لا يوجد إلا به ؟ ويقال في ذلك : لا يوجد إلا بقبول الأمر ؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل أو محبوب منفصل يحب التشبه به فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه وهم لم يقروا ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع لكن يمكن تقريره بأن يقال : إذا كان قوامها بحركتها وقوام حركتها به فقوامها به وإذا كان قوامها به امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره
وإذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود فيكون ممكن الوجود بنفسه وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود لكن هم لم يذكروا هذا وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكنا
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه

عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكنا كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثا قال : ( فإن قيل : إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود لم يكن له علة : لا خارجة عنه ولا داخلة فيه فإن كانت له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته ممكنا وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود )
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار
قال : ( وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين ) : واجب الوجود وممكن الوجود ( فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة ) ( يعني العلة الفاعلة ) وإثباتها فكأنهم يقولون : إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها ؟ فيقول الدهري : لا علة لها فما المستنكر ؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا فنقول : إنه واجب وليس ممكنا وقولهم : الجسم لا يكون واجبا تحكم لا أصل له )
قال ابن رشد : ( قد تقدم من قولنا : إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين معترفا بها فإن للخصم أن يقول : ليس كما ذكر بل كل موجود لا علة له لكن إذا فهم من واجب الوجود : الموجود الضروي ومن الممكن : الممكن الحقيقي أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له وهو أن يقال : كل موجود فإما أن يكون ممكنا أو ضرريا فإن كان ممكنا فله علة فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل الأمر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل في تلك العلة الضرورية : إذا جوز أيضا أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة )
قال : ( وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو ضروري بغيره وأما : هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته ؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك فأما مسلكه فهو مختل ضرورة لأنه لم يقسم الموجود أولا إلى الممكن الحقيقي والضروري وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات )
قال : ( ثم قال أبو حامد مجيبا للفلاسفة في قولهم : إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته فإن قيل : لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة قلنا : ليكن كذلك فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلنا عليهم ولا سبيل لهم سواه )
قال : ( فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا )
قال ابن رشد : ( هذا القول لازم لزوما لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا وقد قال : إن أشرف من طريقة القدماء وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من أمور متأخرة وهي الحركة والزمان وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضى ) وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجودا فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركبا من مادة وصورة وبالجملة أن يكون له جزء فإذا وضع موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها بعض كالحال في العالم وأجزائه صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود )
قال : ( هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا نحن : إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية ولا تفضى بالطبع إليه إلا على النحو الذي قلنا وأكثر ما يلزم هذا القول أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لأن من يضع مركبا قديما من أجزاء بالفعل فلا بد أن يكون واحدا بالذات وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه أعني بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا وكذلك يقول الإسكندر : إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم والرباط الذي بين أجزاء الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال في العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان )
قال : ( وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك تأولوا على ابن سينا هذا الرأي وقالوا : إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا : إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية قالوا : وإنما سماها فلسفة مشرقية لأنها مذهب أهل المشرق ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة )
قال : ( ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير مامرة وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا أيضا على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو وكلا الطريقين صحيحة لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو
قال : ( ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي على ما أصف كانت حقا وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات : الوجود في الجوهر والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر وهذه الطريقة هي أن نقول : إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوه فيه أصلا : لا في الجوهر ولا في غير ذلك من أنواع الحركات وما هكذا فليس بجسم مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه وظهر منه أنه ممكن الوجود في الحركة التي في المكان فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا : لا على حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلا ولا قوة في جسم وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر : إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية )
قلت : المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله إنما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير من أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا قليل الفائدة إذاكان صحيحا مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير مع أنه يقول : هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا
وهوكما قيل : لحم جمل غث على رأس جبل وعر ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود مضمونه : أن الممكن الوجود هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء : المحدث بعد عدم يجب أن تتقدمه واجب الوجود وهو القديم الذي لم يسبقه عدم
وهذا هو بعينه قول المتكلم : إن المحدث مفتقر إلى قديم
ثم قال : ( وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه أصلا وليس بجسم )
وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا
وقوله : ( إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود ) أي قديم في جوهره ( وأنه ممكن الوجود في الحركة ) هو قول الفلاسفة الدهرية الذي يقولون : إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة
وهذا لا دليل له أصلا بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله : يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا لا على حركة ولا غيرها فلا يكون جسما أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل فلم قال : إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما ؟ يقال : غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا فيقال : كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان
ثم يقال : بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه
وهذا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطل مذهبهم وإن أمكن فالفلك نفسه : إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة وهو محتاج في حركته إلى محرك منفصل كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به يفتقر فيها إلى غيره
وحينئذ فيمكن أن يقال : المحرك للفلك هو أيضا جسم متحرك بحركة فيه سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى وإن قيل : إن الفلك ممكن الوجود فلا بد له من الواجب فيكون الواجب علة موجبة له فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل وهو ممتنع وإن لم يكن علة تامة له لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب إذ لا شيء له من نفسه
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة وهو أن الحركة الدائمة في الفلك إذا كانت صادرة عن موجب فالموجب لها : إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن
وذلك التمام : إن كان له من نفسه كان متحركا وهو خلاف ما زعموه وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه مفقترا في تمام فعله إلى غيره
وهذا أعظم عليهم : وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره
وإذا قيل : نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب
قيل : الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون مفتقرا في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته بل كل ما سواه فقير إليه
وأما على قولهم : فهم يقولون : إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال ويقولون : إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء
فيقال لهم : الفلك إن كان واجبا بنفسه فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء فامتنع أن يقولوا : إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال وإن كان الفلك ليس واجبا بنفسه لم ممكن بنفسه فهو صادر عن الأول : ذاته وصفاته وأفعاله
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضى التام له قديما والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء فلا بد له من واجب والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء فإذا قدر الفاعل الفلك ففاعله الفلك ممكنة فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن لها بد من فاعل وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمرا يتعلق بالواجب وذلك من لوازم الواجب لا يفتقر إلى غير الواجب وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره
وهذا قد بسط في موضع آخر وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم سواء قدر الفلك واجبا بنفسه أو قدر ممكنا واجبا بغيره
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية : صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة : منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم : إن تخصيص شيء دون شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفي الصفات
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ولم يقتصر على مجرد ما قالوه بل وسع القول فيه حتى وصله كلام سلفه الدهرية
فالأول : وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص ضم إليه : أن كل ممكن وإن كان قديما لا يترجح إلا بمرجح وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن
و ابن سينا وافقهم على ذلك فتناقضت عليه أصوله وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم فهو نفي الصفات ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيما والتجسيم تركيبا ويقولون : إن المركب لا بد له من مركب فلا يكون مركبا فلا يكون جسما لأن الجسم مركب فلا يقوم به صفة لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم ولا يكون فوق العالم لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم
ولا يرى في الآخرة لأن الرؤية إنما تقع على جسم أو عرض في جسم
وكلامه مخلوق لأن لو قام به الكلام لكان جسما
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك فزاد في نفي الصفات عليهم حتى كان أظهر تعطيلا منهم بل أبلغ تعطيلا من الجهم رأس نفاة الصفات وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور : بعضها أصابوا في مخالفتهم وبعضها أخطأوا في مخالفتهم لكن الذي أصابوا فيه منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا ك الإشارات وغيرها ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته وسموا ذلك توحيدا ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل وأظهر تناقضهم
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم ويمكن أظهار تناقض قوله أكثر من إظهار تناقض أقوالهم فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه فإنهم يوافقون عليها وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم وبها تمكن من إنكار المعاد وتحريف الكلم عن مواضعه وقال : نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات وقال : كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه كما تقدم كلامه
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه ودخل في ذلك باطنية الصوفية أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء
وكلام ابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود يدور على ذلك لمن فهمه ولكن يسمون هذا العالم الله فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة كفرعون وأمثاله ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم بخلاف أولئك وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق مع قولهم بالوحدة والاتحاد كما رأينا منهم طوائف مع ما دخلوا فيه من العلم والدين لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه
وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم ومم كان كذلك فهو أحد رجلين : إمامؤمن عليهم : علم أن هذا يناقض الحق وينافي دين الإسلام فذمهم وعاداهم
وإما زنديق منافق : علم حقيقة أمرهم وأظهرمن ما يظهرون وكان من أئمتهم فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار
والأول من أتباع الرسل والأنبياء كآل إبراهيم الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره

كلام ابن سينا في الإشارات
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم وتبين له مقصودهم فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم الذي قال في خاتمته : ( أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق وألقمتك نفي الحكم في لطائف الكلم فصنه عن المبتذلين والجاهلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والروية والسعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما سألك منه مدرجا مجزأ مفرقا تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها أن يجري فيما تؤتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذه العلم وأضعته فالله بيني وبينك )
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته سلك ما ذكرته لك عنه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم
قال في آخره : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا )
و الرازي لم يعرف وجه وصيته فقال : ( إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون : ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد )
قلت : ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحدة لا شريك له مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى وعبادة ما سواه وإضافة التأثيرات إلى غيره بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم ولازم قولهم : إخراج الحوادث كلها عن فعله وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه وهو نفي الصفات وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا وهذا النفي الذي سموه توحيدا لم ينزل به كتاب ولا بعث به رسول ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها بل هو مخالف لصريح المعقول مع مخالفته لصحيح المنقول
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم : أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر ؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به الذي يقولون : إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته
وأيضا فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا إنما يتم إذا ثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت وإلا فإذا كان الخلق موصوفا بصفات متنوعة : كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة الرحمة بأفعال متنوعة : كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحدا عندهم بل كان مركبا وجسما
وحينئذ فيقال لهم : هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان وهو نظير الواحد البسيط الذي يجعلون منه تتركب الأنواع فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات ويقولون : إنه منه تتركب الأنواع الموجودة هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات ويقولون : هو مبدأ الوجود وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه : إما الواحد الكلي البسيط الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم فبطل نفيهم للصفات وبطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فبطل قولهم في الأفعال فبطل ما قرروه في قدم العالم وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة حيث قالوا : كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا من غير قيام أمر متجدد به ؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم
أيضا فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات فكان هذا عصمته التي لا بد له منها
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه فقال : ( أوهام وتنبيهات قال قوم : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى : { لا أحب الأفلين } فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما )
قلت : وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه ليس له موجب آخر وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية وإليه يعود كلام محقيقهم ولهذا كان أئمة الكلام القدماء من المعتزلة والأشعرية وغيرهم كأبي على الجبائي وأمثاله و ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وأمثالهما لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة وقد حكي هذا القول عن برقلس وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود وأنه لايكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من أجزائه الحسية : الجواهر المفردة ومن أجزائه العقلية : وهي المادة والصورة ومن الذات والصفات ومن العام والخاص ومن الوجود والماهية
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين بل و ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة فساد ما ذكروه في هذا التوحيد وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده فضلا عن إثبات أفعاله قال : ( وقال آخرون : بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا : فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم )
فيقال له : الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين فإن ما لم يكن معولا كان واجبا لنفسه فهؤلاء جنس واحد حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من واحد ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء : أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد فيقولون بالتعدد في الصانع وأولئك إذا أثبتوا أصلا وطنية غير معلولة فلا يجعلونها فاعلة صانعة بل قابلة للفاعل فهؤلاء يقولون : إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم كابن زكريا المتطبب حيث قالوا : القدماء خمسة وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس
وكان ابن سينا ذكر هذا القول وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه فإن هذا يقول : سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة وهذا يقول : سببه عشق النفس للهيولى ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة
وحينئذ فيقال : مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه والعالم مع ذلك محدث الصورة فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب ولا يقولون بقدم العالم ولا يقولون بأن طينته غير معلولة وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا ويجعلون الفاعل معطلا عن الفعل ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها
قال : ( ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم : إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه ولو لا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منها وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا : وذلك محال وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له فتكون موقوفة على ما لا نهاية له فيقطع إليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له ؟ ومن هؤلاء من قال : إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده ومنهم من قال : لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال : لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء )
قال : ( وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون : إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع وأن تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد ؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما أو تيسر أو وقت معين أوغير ذلك مما عد أو لقبح كان يكون له قد زال أو عائق أوغير ذلك كان فزال
قالوا : فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال : الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
قالوا : ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيء بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب فإن معنى قولنا : كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات يصح أن يقال : إن الأخير كان متوقفا على وجود مالا نهاية أو محتاجا إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية ففي جميع الأوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه : أنه ممكن أوغير ممكن فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه ؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى ؟ قالوا : فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير )
قال : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك )

تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص فينتفي التخصيص فينتفي ما ذكروه من الحدوث
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود فتخصيصه بالوجود دون العدم وبالعدم دون الوجود كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة جميعا وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل فلما لم يطردوه نقض قولهم
وحينئذ فيقال له : بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين ؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين ؟
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية : التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحدا من القولين فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضا قولك ؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسدا وكذلك إن كان صحيحا فهو فاسد على كل تقدير
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث
فيقال لك : وأنت تقول : إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث فهم إن كان ما التزموه باطلا فقد التزمت أضعافه فيكون قولك أفسد وإن لم يكن باطلا بطلت حجتك على إبطال قولهم فتبين أن إبطالك لقولهم مع اعتقادك لما تعتقده باطل على كل تقدير وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها فأنت أعظم تناقضا في عدم طردك لأصولك مطلقا : صحيحها وفاسدها
وبيان ذلك أنه قد قال : يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا ومايلزم من ذلك لزوما ذاتيا وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير
فيقال له : إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا واللازمة من ذلك لزوما ذاتيا كما يقوله في لزوم الفلك عنه وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها فاللازم لهذه اللوازم : إما أن يكون لازما لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات أو لازما لها في حال دون حال
فإن كان لازما لها في كل الأوقات وجب أن لا يحدث شيء وأن لا يكون تغير أصلا
وإن كان لازما لها في وقت دون وقت فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات والأمور الحادثة في الأوقات حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث لأن الأمور الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزمها لزوما ذاتيا نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفا لحاله ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث بطل أصل الكلام
وإن لم يجز ذلك لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له
فلا بد من أحد أمرين :
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط وهذا أشد إبطالا لقولهم
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها إلا لتخصيص لها بذلك إذ لو اختصت دون تخصيصه للزم الحدوث بلا محدث وهو ممتنع
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم
وهذا أمر لا محيد لهم عنه هو يبين بطلان قولهم بيانا ضروريا لمن فهمه إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير وهذا يناقض ما قالوه
فهم بين أمرين : إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير لم يمكنهم إبطال قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب بل بمجرد القدرة أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير بطل قوهم كله فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه مختلف القدر والصفات وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم سواء قالوا : هو صدر عن العقل الذي لا يتغير كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير كما يقوله ابن رشد وأمثاله أو صادر عن الواجب بتوسط العقل كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة وكانوا أكثر التزاما للباطل الذي قرروا أنه باطل وأبطلوا به قول المعتزلة وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلا لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها : لا بوسط ولا بغير وسط وتلك الحوادث لم تحدث عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث وأن لا يكون الرب تعالى محدثا لشيء من الحوادث
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم : بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع
فقال لهم : أنتم عطلتم الصانع دائما عن صنع شيء من الحوادث على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئا من الخير والإحسان أزلا وأبدا
وأما صنعه اللوازم وجوده فهذا أنتم منازعون فيه وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلا وأبدا
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع وهذا ضروري في العقل
وعلى قولكم : الحوادث دائما تحدث وليس لها صانع فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلا وأيضا فإن الحوادث مختلفة في صفاتها ومقاديرها كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وإن جاز ذلك بطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة فكيف ما قدروه فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه
وأيضا فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة كحادث الطوفان وأمثاله بل إرسال موسى عليه السلام وما تبع رسالته من الحوادث وإرسال محمد صلى الله عليه و سلم وما تبع رسالته من الحوادث وأمثال ذلك هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء وقد قالوا لأجل هذا : يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم وقالوا : العالم قديم لذلك ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث ما في ذلك القول وزيادات فإن المعتزلة يقولون : التخصيص إنما وقع وقت إحداث العالم فقط ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم
وهؤلاء يقولون : لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة والأشعرية ونحوهم وإن قالوا : إنه لا يزال يخص وقتا دون وقت بحدوث الحوادث من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة فهم أطرد لقولهم من قولكم : إن نسبته إلى الأوقات واحدة مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر مع استواء نسبته إلى الأوقات
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية
وأيضا فمعلوم أن الحركات مختلفة والمتحركات مختلفة وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس بل لكل فلك أو لكواكب كل فلك حركة تخصه فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت

تعليق ابن تيمية
والجمهور من أهل الهيئة يقولون : المتحرك هو الأفلاك وإن الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة فهو جمع بين النقيضين وقول متناقض
وأما الصدور بواسطة فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد وإلا كان قولا متناقضا فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة فقدر صدر عنه أكثر من واحد وإن لم يكن في الصادر كثرة وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد وهلم جرا وهذا خلاف المشهود
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم : إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا أو مهما قالوه من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام فهي مع كونها أقوالا لا دليل عليها وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب بل والدليل يقوم على فسادها فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم فإن تلك الوجوه إما أن تكون أمورا وجودية أو عدمية فإن كانت وجودية فقد صدرت عن الأول فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحدا بسيطا وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية فلا يصدر عنه إلا واحد وهلم وجرا
وأيضا فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية كما بسط هذا في موضع آخر
وإذا كان كذلك فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية وهي فعل الرب الدائم فعله قول باطل لوجوه :
أحدها : أن الحركات ليست واحدة بل حركات مختلفات وليس بعضها صادرا عن بعض فقول القائل : إنها واحدة قول باطل
الثاني : أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة نوعا واحدا أو أنواعا مختلفة تحدث شيئا بعد شيء وإذا كان الأول علة تامة أزلية كان مستلزما لمعلوله فلا يتأخر عنه شيء من معلوله بل يكون معلوله كله أزليا أبديا دائما بدوامه إن أمكن مقارنة المعلول لعلته لا يحدث منه شيء بعد شيء فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وهو لا يكون بينه وبينها فصل فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل ؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية
الثالث : أن يقال : كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان أمر لا يعقل وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن كما يقدر الممتنعات وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها وكان زمانهما واحدا ولكن قد يكون الشيء مستلزما لغيره ومقارنا له في الزمان كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر كحركة الخاتم واليد لكن لا يكون الملزوم فاعلا للازم فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة
ولكن لفظ ( العلة ) فيه إجمال واشتباه واشتراك فقد يراد بها الملزوم الموجب وقد يراد بها الفاعل والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له لكن موجبه الذي هو مفعول له لا يعقل مقارنته له لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئا بعد شيء فتكون المفعولات صادرة عنه شيئا بعد شيء
وهؤلاء أصلوا أصلا فاسدا ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه ولا يكون معلول إلا لعلة تامة وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في قولهم : إن المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره فقالوا : الباري كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره فقال أولئك : بل يجب أن يقارنه أثره
والصواب قول ثالث وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه لا مقارنا له ولا متراخيا عنه كما يقال : كسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق
قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه وقد يقال : يكون مع تكوينه بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم فإنه إنما يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيرهم سبقا زمانيا وما كان كذلك لا يكون إلامحدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام
وأما على قول هؤلاء فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم منها : أنه لا يحدث في العالم شيء فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا
ومنها : أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد
وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء وهو تسلسل علل ومعولات أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها فإنه كلما حدث حادث فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد
وإذا قالوا : كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون : المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع كالحجر الهابط وكالمسافر إلى بلد فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا والمقتضى لقطعه المسافة وهو قصده تلك المدينة قائم لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول
فيقال لهم : هذا يدل على فساد قولكم فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه فليس هذا نظير قولكم بل هو نظير قول من يقول : لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول
وهذا نظير قول من يقول : لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء فوجود الثاني كالإرادة الثانية والكلمة الثانية والفعل الثاني مشروط بانقضاء الأول وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى : { الله خالق كل شيء }
وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام أو حدوث العالم بامتناع حوادث لا أول لها ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة ولهذا كان أئمة أهل الكلام ك الرازي وغيره يوفقونهم على فسادها فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية ك الأربعين و نهاية العقول وغيرهما : امتناع حوادث لا أول لها كما تقدم تقريره واعتراض إخوانه عليه فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة ويقرر وجوب دوام الفاعلية وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب وامتناع حدوثها في غير زمان ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه ك الآمدي و الأبهري و الأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه أو أخذوه هم من حيث أخذه هو
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له فأجدهم قد أخذوا ذلك الأعتراض أو الجواب أخذو من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي فإنه أخذه من المطالب العالية
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضا ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين ومن المعتزلة والأشعرية هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحا لم يجيبوا عنه
فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وأنه جهل لا علم
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك فإن النظر : إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق أو يقلد المعصوم فهذان طريقان علميان وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم فالسلف والأئمة عارضوهم وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم
وإذا قال القائل : هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف و أبي إسحاق النظام ومثل الجهم بن صفوان و اتبعهم عليه مثل أبي علي و أبي هاشم و عبد الجبار بن أحمد و أبي الحسين البصري وغيرهم ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام و ابن الهيثم وغيرهما ومثل أبي الحسن الأشعري و القاضي أبي بكر و أبي المعالي و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل ابن الزاغوني و أبي عبد الله المازري و القاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة وإن كان أصلها مأخوذا من الجهم بن صفوان و أبي الهذيل العلاف وغيرهما
قيل لمن قال هذا القول : الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق : هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا ؟
وهل هي موافقة للشرع أم لا ؟ فعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئا وسل الله أن يلهمك ويهديك
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي [ أن الله تعالى قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقد ثبت في صحيح مسلم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فالضلال وقع في السمع والعقل فإن أقواما نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله مما عرف بالنص والإجماع
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال : [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ وهو بعد في قطع هذه المسافة فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع لينظر في قوله وقول غيره كما يفعل من نظر في أقوال النظار فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ؟
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس وقد بلغه أن لبقراط و جالنيوس وأمثالهم فيها نصا لم ينبغ له أن يثبت القول فيها حتى يعرف ما قاله هؤلاء مع جواز غلطهم في نفس الأمر فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية ؟
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية من الفلاسفة وغيرهم أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل لا بإظهار الحقائق إذ لم يكن إلا ذلك فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه هل يطابق قول هؤلاء أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ : إما عنادا وإما ضلالا ؟ وهذا مبسوط في موضعه

تعليق ابن تيمية
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء
وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها التي عجز المتكلمون عن حلها ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثا لا يناقض ذلك وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا : إن الله كان ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا لا مقدورا له في الأزل ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا
ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم و أبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها زاد الجهم : وبفناء العالم كله : الجنة والنار فيكون الرب ما زال معطلا من الكلام والفعال صم لا يزال معطلا من الكلام والفعال وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده لكن هؤلاء وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا وأما أولئك فقد يتأولون النصوص أو يقولون : لها معنى لا نفهمه ولا يقولون : إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل وتارة في تأويل المنقول
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة ولهذا سماهم المسلمون : ملحدين : فإنهم يلحدون في آيات الله ولهذا يفضي بهم تأويل النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها وإن كانوا متأولين في ذلك فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل ثم أمكنه ذلك بلا سبب وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا : إما أن يكون موجودا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل وإذا حصل وجب وجود الفعل
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها بأن يقولوا : المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته أو إمكان الفعل وانتفاء المانع وهو الأزل أو حصول المصلحة
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جوابا صحيحا فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به والمعلوم يتبع الإرادة فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر لم يكن العلم مرجحا وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصا فتم
و الرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه ثم يضعف هذا الجواب وتارة يقول : بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم وأجود أجوبته المعارضة والنقض وهو أنه يقول : هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك ودليلهم لا يدل على ذلك بل يدل على حصول مطلق الترجيح لا على حصول ترجيح لممكنات معينة ولا كل ممكن
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين كالعقول والنفوس والأفلاك ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئا فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه لا مفعول له في الخارج كان ذلك وفاء بموجب دليلهم وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلما إذا شاء كان وفاء بموجب دليلهم
وإذا قيل : إنه قامت به إرادات متعاقبة كما قاله الأبهري وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث كان ذلك وفاء بموجب دليلهم إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن والمثبت لمطلق لا ثبت فعلا معينا ولا مفعولا معينا فضلا عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثرا تاما فيها فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط فلا يحدث حادث إلا منه سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط فلو كان المؤثر كما زعموه من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها
وهكذا الأمر في كل حال وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة فعنده يجب أن لا يكون علة تامة فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم
وإذا قالوا : حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه
قيل لهم : هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد كما في الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد وكل ما سواه من القوابل والمقبولات والاستعدادات والإمدادات فمنه لا من غيره سواء كان بوسط أو بغير وسط
وإذا كان كذلك وكان حاله قبل إحداث كل حادث كحاله قبل ذلك الحادث امتنع أن يحدث منه شيء أصلا : لا قابل ولا مقبول ولا استعداد ولا إمداد فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلا فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئا قط بل ولا فعل شيئا قط بل حدثت الحوادث بلا محدث فعلم أنه باطل
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم فقولهم بقدمه باطل ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه وأما أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك فهم قائلون بحدوث صورة العالم ولهم في المادة كلام فيه اضطراب فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر كأبي البركات وغيره
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه ولا ابن سينا وأمثاله على أن الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته : إرادة بعد إرادة
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله كما أخبرت بذلك الرسل فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه : { استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }
قال في الآية الأخرى : { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم }
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين وأن السماء كانت دخانا وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار : أنه خلق السماء من بخار الماء والبخار دخان الماء كما أن دخان الأرض دخان
وإن أريد بالدخان التراب فقط أو دخان التراب والماء فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
وثبت في الصحيح : صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ]
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله به عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ] وفي رواية صحيحة : [ ثم خلق السماوات والأرض ] قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء
وكذلك في أول التوراة مثل هذا سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت الريح تهب على الماء وذكر تفصيل خلق هذا العالم
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر فإن العرش أيضا مخلوق كما أخبرت بذلك النصوص واتفق على ذلك المسلمون فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا لم يكونوا بقدم العالم فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلا مع أنه في غاية الفساد
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئا وأن الحوادث تحدث بلا محدث بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود وأنه ليس له مبدع
و أرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية فلا بد لها من غاية وقال : إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق بل ذاك لمحبته يتحرك إليه فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه ؟ فهكذا يقولون : أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى
وقد بينا فساد قوله وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله وما فيها من الفساد في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل ليس من دين المسلمين كما أنه من خالف كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع السابقين ليس من دين المسلمين فليس في دينهم الصحيح : لا ما يخالف صحيح المنقول ولا ما يخالف صريح المعقول ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح وأن هذا متفق عليه بين العقلاء والله أعلم

فصل
ثم إن الرازي مع سلوكه المسلك المتقدم ذكر أن هذه المتقدمة أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح هي مقدمة ضرورية وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعا
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم فهو يبين أنه باطل وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق : لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب ولكن قد ذكر أيضا أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء
وقد ذكر أن كثيرا من الطوائف يتنافضون فيقولون بما يناقض هذه القضية ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول : إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم : إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم ؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة
وطوائف منهم ينازعون في ذلك ويقولون : إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت مع قولهم : إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة وقد علم النزاع في تسلسل الآثار بل فيما يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها وثبوت تسلسلها
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء فإن كان الممكن هو الحادث كان كلاهما دليلا على مدلول واحد

القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه
وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث فنقول : إذا كان ذلك ممتنعا فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضا بل هو أعظم امتناعا لوجوه :
( الأول )
أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه إذ لولا إمكان وجوده لما وجد ولولا إمكان عدمه لما كان معدوما قبل حدوثه فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه وذلك يفتقر إلى مرجح

الثاني
أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت وصفة دون صفة وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص

الثالث
أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى المرجح إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب كانت طريقته أقوم فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز وهو الموجود الممكن لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح كما سلك ابن سينا وأتباعه كالسهروردي و الرازي و الآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء حيث قالوا في موضع آخر : إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف
ثم الذين استدلوا بذلك ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل الجمهور أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل ابن سينا ونحوه
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعا كما فعل الرازي ونحوه وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي
ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب و القاضي أبي يعلى و أبي المعالي الجويني و ابن عقيل و أبي الحسن ابن الزاغوني وأمثالهم خير من طريقته

كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم
وذلك أنه قال : ( فإذا ثبت أن العالم محدث فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وسندل على أنه عالم قادر فصح قولنا )
قال : ( واستدل شيوخنا رحمهم الله على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلىمحدث لأجل أنه محدث فكان حدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثه احتاجت إلى محدث )
قال : ( والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث وإن كرهناه وكنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه يحتاج إلينا
والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه أو لبقائه أو لعدمه فلو احتاج إلينا لأجل بقائه لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين فصح أنه احتاج إلينا ليحدث ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه )

تعليق ابن تيمية
قلت : فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم حتى مثل أبي القاسم القشيري و أبي الوفاء بن عقيل وبنوا ذلك على هذه
وأما الطريقة التي ذكرها هو وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث
وأبطل الأول بأنه لو كان حدوثه واجبا لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وقد قال قبل هذا : إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال واستحال عدمه
وهذا التقسيم لا يحتاج إليه ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه وذلك أن قول القائل : إما أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه
إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه أو وجوبه بغيره فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع بل يجوز أن يقال : المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه أي وجد المقتضي التام لحدوثه الذي يمتنع معه أن لا يحدث وهذا إذا قيل فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضا لا ينفي ذلك فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجبا ويقولون : لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم لا على وجه الوجوب
ويقولون : إن القادر المختار سواء كان قديما أو محدثا لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور وفساد قولهم لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحا أو فاسدا فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع
وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير كان خيرا من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك
وإما إن أراد القائل بقوله : إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم والمحدث كان معدوما فيمتنع أن يقال إنه حادث وهو واجب بنفسه
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديما فإن هذا نقيض هذا إذ المعني بكونه محدثا أنه ليس بقديم
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة والثاني نازع فيه طائفة معروفة
وأيضا فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فامتنع عدمه
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديما فهو أبين من هذا
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال : إنه حدث وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال
و أبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية التي مضمونها أن الوقتين متساويان فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء فإن المحدث اختص حدوثه بوقت وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين
أما كونها خيرا وأقرب فظاهر وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال
وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال يترتب عليه نزاع
فإذا قال له القائل : بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال لم يمكنه أن يقول : ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال لأنه يقول له كما قلت : إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه يخصص الحدوث بحال من حال كذلك يقول : إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال
فإن قال : المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء كان الجواب من وجوه :
أحدها : المنع فإن هذه دعوى مجردة
الثاني : أن يقال : لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضيا للحدوث إلا مع الوجوب وإنه مادام اقتضاؤه جائزا فإنه يمتنع الاقتضاء وذلك لأنه إذا جاز أن يقتضى وجاز أن لا يقتضى كان كل من الأمرين ممكنا جائزا لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها ولا وجود لشيء منه وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم ومسألة القدر وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم
لا سيما و أبو الحسين يقول : إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة : إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه
الثالث أن يقال : هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى وأنه يخص الحدوث بحال دون حال فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى
فإن قيل : ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه فيلزم قدم الحوادث بخلاف ما كان جائز الاقتضاء
قيل : هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازما له وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة كبرقلس و ابن سينا وأتباعهما
فإنهم يقولون : إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات وما سواه معلول به فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث وهذا باطل قطعا
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء
فيقال : إذا قدر أنه قادر مختار وهو يحدث الحوادث مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته
ولا يمكنهم أن يقولوا : القدرة والمشيئة لا تخص وقتا دون وقت لأن هذا ينقض قولهم فإنهم يقولون : إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض
ولو قال قائل : ذلك من غيرهم لقيل له : تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته أو يقال : إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه وأما منازعه فيمكنه التزامها ولا يتناقض قوله : لا عقلا ولا شرعا
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه وأنه إذا صححه بذلك الطريق كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك
وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقا مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها
ونحن كثيرا ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئا من النصوص غير محتاج إليها بل مستغن عنها ليتبين أن العلم بصدق الرسول وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به مع أنا نبين أيضا أن تلك الطرق فاسدة لكن بيان الاستغناء عنها في مقام وبيان فسادها في مقام
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولا ثم يعارضون بها النصوص ثانيا فنحن نبين الغنى عنها ثم نبين فسادها ثانيا ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة وهي الأدلة السمعية متلازمان فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر
وهذا قدر زائد على عدم تنافيها وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما
وأيضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول : إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك يستلزم قدح الشرع في أصله
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين بل ذكر أولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وأن ما قدم من الحوادث وأخر لا بد له من مقدم ومؤخر من غير أن يحتاج أن يقول : إن الحدوث : إما أن يكون واجبا وإما أن يكون غير واجب وهذا أصح وأقرب وأبين
ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من طريقة القاضي فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت والتخصيص لا بد له من مخصص فإن هذا وإن كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين أو تخصيصه بصفة دون صفة هو موجود في نفس الحدوث فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات لا بد له من مخصص ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل ولو قدر أنه لم يحدث غيره ولا يمكن حدوث غيره وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس حتى الصبيان حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه قال : من ضربني ؟ من ضربني ؟ وبكى حتى يعلم من ضربه وإذا قيل له : ما ضربك أحد أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد لم يقبل عقله ذلك وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها لا بد له من مخصص بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء وبيان ذاك بهذا من باب بيان الأجلى بالأخفى
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس من حدوث الأعيان المحدثة وحدوث الأعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف
قالوا : فهذا هو الذي يشهد حدوثه ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه من أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات كما ذكره الرازي وغيره وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها
فمن قال : إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها فقد ظهر خطؤه عقلا لكل أحد كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة
فإنه من المعلوم بالاضطرار : أن الرسول صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين ما دعوا أحدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث الذي قد أغنى الله عنه وظهر الغنى عنه لكل عاقل
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلا هو ألطف من العلم بالغنى عنها ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير قبل أن يظهر لهم فسادها
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها وفسادها وطعن بعض أهلها في بعض وإفسادها لمقدماتها وبيان فسادها بصريح العقل في غير هذا الموضع ما ينبه على المقصود
والمقصود هنا : التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث والمفعول إلى الفاعل وهو من العلوم الضرورية البديهية وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله من أن الحدوث : إما أن يكون على وجه الوجوب أو على وجه الجواز
وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه لولا المقتضى لحدثه أظهر مما ذكره ابن سينا و الرازي وأمثالهما من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه
وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض
وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر : أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها ادعت في هذه المذهب البديهة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18