كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

أقوال السلف في الأفعال الاختيارية بالله تعالى
وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به : فإن ابن كلاب و الأشعري وغيرهما ينفونها وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافعي عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن غير مخلوق قولين مبنيين على هذا الأصل :
أحدهما : أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته
والثاني : أنه لم يزل متكلما إذا شاء
وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد قولين وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته - كقول ابن كلاب - أبو الحسن التميمي وأتباعه و القاضي أبو يعلى وأتباعه ك ابن عقيل و أبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذه تارة وهذا تارة وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبد الله بن حامد و أبو بكر عبد العزيز و أبو عبد الله بن بطة و أبو عبد الله بن منده و أبو نصر السجزي و يحيى بن عمار السجستاني و أبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم
والنزاع في هذا الأصل بين أصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وبين أصحاب أبي حنيفة وبين أهل الظاهر أيضا فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على إثبات ذلك و أبو محمد بن حزم على المبالغة في إنكار ذلك وكذلك أهل الكلام فالهشامية والكرامية على إثبات ذلك والمعتزلة على نفي ذلك وقد ذكر الأشعري في المقالات عن أبي معاذ التومني و زهير الأثري وغيرهما إثبات ذلك وكذلك المتفلسفة فحكوا عن أساطينهم - الذين كانوا قبل أرسطو أنهم كانوا يثبتون ذلك وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم وأما أرسطو وأتباعه - كالفارابي و ابن سينا - فينفون ذلك وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعضهم أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وإن أنكروه وقرر ذلك
وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول
قال إسحاق بن راهويه : حدثنا بشر بن عمر : سمعت غير واحد من المفسرين يقول : الرحمن على العرش استوى : أي ارتفع
وقال البخاري في صحيحه : ( قال أبو العالية استوى إلى السماء : ارتفع ) قال : ( وقال مجاهد : استوى : علا على العرش )
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور : ( وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : ( استوى إلى السماء : ارتفع إلى السماء ) وكذلك قال الخليل بن أحمد
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال : ( قال الفراء : ثم استوى أي صعد قاله ابن عباس وهو كقولك للرجل : كان قاعدا فاستوى قائما )
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن يوم الجمعة : وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ]
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير أبي بكر بن المنذر وتفسير أبي بكر عبد العزيز و تفسير أبي الشيخ الأصبهاني وتفسير أبي بكر بن مردويه وما قبل هؤلاء التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم و بقي بن مخلد وغيرهم ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير سنيد وتفسير عبد الرازق و وكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين مالا يكاد يحصى وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة التابعين
وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد و إسحاق وغيرهما وذكر معها من الآثار عن النبي صلى الله عيه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات قال في آخره في الجامع : ( باب القول في المذهب : هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد و إسحاق بن إبراهيم بن مخلد و عبد الله بن الزبير الحميدي و سعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم ) وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك - إلى أن قال : ( وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد والله أعلم بحده والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب عليم لا يجهل جواد لا يبخل حليم لا يعجل حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو رقيب لا يغفل يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويغفو ويغفر ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) - إلى أن قال : ( ولم يزل الله متكلما عالما فتبارك الله أحسن الخالقين )
وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم في كتاب السنة وقد نقله عنه الخلال في السنة : ( حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي - حدثني الليث بن يحيى سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض : يقول : ( ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } ( الإخلاص ) فلا صفة أبلغ مما وصف الله عز و جل به نفسه وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يطلع وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف وإذا قال لك الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت : أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء )
وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض البخاري في كتاب خلق الأفعال هو وغيره من أئمة السنة وتلقوه بالقبول
وقال البخاري : ( وقال الفضيل بن عياض : إذا قال لك الجهمي ( أنا كافر برب يزول عن مكانه ) فقل : ( أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء )
قال البخاري : ( وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال : ( من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي )

كلام الخلال في كتاب السنة
وقال الخلال في كتاب السنة : ( أخبرني جعفر بن محمد الفريابي حدثنا أحمد ابن محمد المقدمي حدثنا سلميان بن حرب قال : سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال : يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء [ ينزل الله إلى السماء الدنيا ] يتحول من مكان إلى مكان ؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال : هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء )

قول الأشعري في كتابه المقالات
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه المقالات لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث فقال : ( ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مستغفر ؟ ] كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ( النساء : 59 ) ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن الله ويقرون بأن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ( ق : 16 )
قال الأشعري : ( وبكل ما ذكرنا من أقوالهم نقول وإليه نذهب )

أقوال أهل السنة : لـ أبي عثمان الصابوني في رسالته
وقال أبو عثمان إسماعيل الصابوني الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة عنه في السنة وقد ذكر أبو القاسم التميمي في كتاب الحجة في بيان المحجة له قال : ( ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف ؟ بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه و سلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى الله تعالى وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عز و جل : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 )
وقال : ( سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول : سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول : سمعت أحمد بن إبراهيم أبا عبد الله الرباطي يقول : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضره إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - فسئل عن حديث النزول صحيح هو ؟ قال : نعم قال فقال له بعض قواد عبد الله : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة ؟ قال نعم قال : كيف ينزل ؟ فقال له إسحاق : أثبته فوق حتى أصف لك النزول فقال الرجل : أثبته فوق فقال إسحاق : قال الله عز و جل : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] فقال له الأمير عبدالله : يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق : أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم ؟
وروى بإسناد عن إسحاق بن إبراهيم قال : قال لي الأمير عبدالله بن طاهر : يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ] كيف ينزل ؟ قال : قلت : إعز الله الأمير ؟ لا يقال لأمر الرب كيف ؟ إنما ينزل بلا كيف
وبإسناد عن عبدالله بن المبارك : أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان فقال عبد الله : يا ضعيف ليلة النصف ؟ ينزل في كل ليلة فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل ؟ أليس يخلو ذلك المكان ؟ فقال عبد الله بن المبارك : ينزل كيف شاء )
وقال أبو عثمان الصابوني : ( فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا النزول على ماقاله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعتقدوا تشبها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا ولعنهم لعنا كثيرا )

قول البيهقي في كتابه الأسماء والصفات
وروى الحافظ ابو بكر البيهقي في كتابه الأسماء والصفات ( حدثنا أبو عبد الله الحافظ سمعت أبا زكريا العنبري سمعت أبا العباس - يعني السراج - سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول : دخلت يوما على طاهر بن عبد الله بن طاهر وعنده منصور بن طلحة فقال لي : يا أبا يعقوب إن الله ينزل كل ليلة ؟ فقلت له : نؤمن به فقال له طاهر : ألم أنهك عن هذا الشيخ ؟ ما دعاك إلى أن تسأله عن مثل هذا ؟ قال إسحاق : فقلت له : إذا أنت لم تؤمن أن لك ربا يفعل ما يشاء تحتاج أن تسألني )
قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانىء سمعت أحمد بن سلمة يقول سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : جمعني وهذا المبتدع - يعني إبراهيم بن أبي صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها فقال إبراهيم : كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء فقلت : آمنت برب يفعل ما يشاء فرضي عبد الله كلامي وأنكر على إبراهيم ) قال : ( هذا معنى الحكاية )
وروى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني قال : ( قال إسحاق بن إبراهيم : لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقوله تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ( الأنبياء : 23 ) ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله - يعني كما نتوهم فيهم - وإنما يجوز النظر والتفكر في أمر المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل : كيف نزوله ؟ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء
وعن حرب قال : قال إسحاق بن إبراهيم : ليس في النزول وصف )

قول الخلال في كتاب السنة
وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة ( أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - قيل له : أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز و جل ويكلمونه ويكلمهم ؟ قال : نعم ينظر وينظرون إليه ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء وإذا شاء )
قال : ( وأخبرني عبد الله بن حنبل قال : أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال : قال عمي : نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه { لا تدركه الأبصار } بحد ولا غاية { وهو يدرك الأبصار } ( الأنعام : 103 ) هو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله من شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) وكان الله قبل أن يكون شيء والله هو الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته
قال : وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى [ إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ] و [ إن الله يرى ] و [ إن الله يضع قدمه ] وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى - أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل فنقول : معناها كذا - ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء
وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد قال : ( ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه ) قال : ( فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كتفه عليه - هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه : سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف الله بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى : { ثم استوى على العرش } ( الأعراف : 45 ) كيف شاء المشيئة إليه عز و جل والاستطالة له ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } ( مريم : 42 ) فنثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر بضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه و سلم وبتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما تقوله الجهمية والمشبهة
قلت له : والمشبهة ما يقولون ؟ قال : من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محمدود والكلام في هذا لا أحبه
وقال محمد بن مخلد : قال أحمد : نحن نصف الله بما وصف نفسه وبما وصفه به رسوله
وقال يوسف بن موسى : إن أبا عبد الله قيل له : ولا يشبه ربنا شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه ؟ قال : نعم ليس كمثله شيء )
فقول أحمد : ( إنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء وإذا شاء ) وقوله : ( هو على العرش كيف شاء وكما شاء ) وقوله : ( هو على العرش بلا حد كما قال : { ثم استوى على العرش } كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء )
قلت : وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته
وقوله : ( بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد ) نفى به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفون على ما هو عليه إلا بما أخبر عن نفسه ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في خطبة الرسالة : ( الحمد الله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه ) ولهذا قال أحمد : ( لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية ) فنفى أن يدرك له حد أو غاية وهذا أصح القولين في تفسير الإدراك وقد بسط الكلام على شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع
وما في الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه أحمد وغيره من الأئمة كما ذكره الخلال أيضا قال : ( حدثنا أبو بكر المروزي قال : سمعت أبا عبد الله - لما قيل له : روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له : كيف نعرف الله عز و جل ؟ قال : على العرش بحد - قال : قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } ( البقرة : 210 ) ثم قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 )
قال الخلال : وأنبأنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال : قلت لأحمد بن حنبل : يحكى عن ابن المبارك - وقيل له : كيف تعرف ربنا ؟ - قال : في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد : هكذا هو عندنا
وأخبرني حرب بن إسماعيل قال : قلت لإسحاق - يعني ابن راهويه - : هو على العرش بحد ؟ قال : نعم بحد
وذكر عن ابن المبارك قال : هو على عرشه بائن من خلقه بحد
قال : وأخبرنا المروزي قال : قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه : قال الله تبارك وتعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤوس الآكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره )
فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعة وغيرهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر ولكن نفوا علم الخلق به وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزير بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته

قول عبد العزيز الماجشون
وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف وقد ذكره ابن بطة في الإبانة و أبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول ورواه أبو بكر الأثرم قال : ( حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال : ( أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول عن معرفة قدره ) - إلى أن قال : ( بأنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يعلم من يموت ويبلى قدر من لا يموت ولا يبلى ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حدا أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف ؟ الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته : عجزها عن تحقيق صفة ما لم يسصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم تعرف منها قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته ؟ أو تنزجر به عن شيء من معصيته ؟ ـ وذكر كلاما طويلا إلى أن قال ـ : فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي يجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } ( القيامة : 22 - 23 ) فقال : لا يراه أحد يوم القيامة فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون ) وذكر كلاما طويلا كتب في غير هذا الموضع

قول آخر لالخلال في السنة
وقال الخلال في السنة : ( أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ( من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله وكذب القرآن ورد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره يستتاب من هذه المقالة فإن تاب وإلا ضربت عنقه )
قال : ( وسمعت أبا عبد الله قال : { وكلم الله موسى } ( النساء : 164 ) فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى ثم قال تعالى يؤكد كلامه : { تكليما } ( النساء : 164 )
قلت لأبي عبد الله : ( الله عز و جل يكلم عبد ه يوم القيامة ؟ قال : نعم فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز و جل ؟ يكلم عبده ويسأله الله متكلم لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم وليس به عدل ولا مثل كيف شاء وأنى شاء )
قال الخلال : ( أخبرنا محمد بن علي بن بحر أن يعقوب بن بختان حدثهم أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت ؟ فقال : بلى تكلم بصوب وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزغ عن قلوبهم - قال : سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق قال : كذا وكذا )
قال الخلال : ( وأنبأنا أبو بكر المروزي : سمعت أبا عبد الله - وقيل له : إن عبد الوهاب قد تكلم وقال : من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام - فتبسم أبو عبد الله وقال ( ما أحسن ما قال ! عافاه الله ! )
وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون : لما كلم موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي : بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت وحديث ابن مسعود : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان ) قال أبي : و الجهمية تنكره قال أبي : وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت )
قلت : وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد بل ذلك صوته كما هو معلوم لعامة الناس وقد نص على ذلك الأئمة : أحمد وغيره فالكلام المسموع منه هو كلام الله لا كلام غيره كما قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ( التوبة : 6 ) وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي ] رواه أبو داود وغيره وقال صلى الله عليه و سلم : [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال : [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ]
ذكر الخلال عن إسحاق بن إبراهيم قال لي أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه : تدري ما معنى ( من لم يتغن بالقرآن ) ؟ قلت : لا - قال : هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته لقد تغنى به
وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه : ( زينوا القرأن بأصوتكم ) فقال : التزيين أن يحسنه
وعن الفضل بن زياد قال : سألت أبا عبد الله عن القراءة ؟ فقال : يحسنه بصوته من غير تكلف
وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال : كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه
وقال القاضي أبو يعلى : هذا يدل من كلامه على أن صوت القارىء ليس هو الصوت الذي تكلم الله به لأنه أضافه إلى القارىء الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان

قول البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وقال أبو عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - في كتاب خلق الأفعال : يذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وليس هذا لغير الله عز و جل ]
قال أبو عبد الله البخاري : ( وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا قال : { فلا تجعلوا لله أندادا } ( البقرة : 22 ) فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين )
ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس - الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح تارة يجزم به وتارة يقول : ( ويذكر عن عبد الله بن أنيس ) - قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ] وذكر الحديث - الذي رواه في صحيحه - عن أبي سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال : يا رب ما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال : تسعمائة وتسعة وتسعين - فحينئذ تضع الحامل حملها ] { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } ( الحج : 2 ) وذكر حديث ابن مسعود - الذي استشهد به أحمد - وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن عكرمة : سمعت أبا هريرة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ] فإذا { فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } ( سبأ : 23 ) وذكر حديث ابن عباس المعروف من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن نفر من الأنصار - وقد رواه احمد و مسلم في صحيحه وغيرهما وساقه البخاري من طريق ابن إسحاق عنه - [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : ما تقولون في هذا النجم الذي يرمى به ؟ قالوا : كنا يا رسول الله نقول حين رأيناه يرمى بها : مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس ذلك كذلك ولكن الله إذا قضى في خلقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض : لم سبحتم ؟ فيقولون : سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون : أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا ؟ فيسألونهم فيقولون : قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث به الكهان ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذا النجوم فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة ]
وقال البخاري أيضا : ( ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت وأن أفعال العباد مخلوقة فضيق عليه حتى مضى لسبيله وتوجع أهل العلم لما نزل به )
قال : ( وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيما ومن نحا نحوه ليس بمارق ولا مبتدع بل البدع والترؤس بالجهل بغيرهم أولى إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم يأذن به الله )

كلام المحاسبي في فهم القرآن
وقال الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب فهم القرآن لما تكلم على ما يدخل في النسخ وما لا يدخل فيه النسخ وما يظن أنه متعارض من الآيات وذكر عن أهل السنة في الإرادة والسمع والبصر قولين في مثل قوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ( الفتح : 27 ) وقوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية } ( الإسراء : 16 ) وقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وكذلك قوله : { إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) ونحو ذلك فقال : ( قد ذهب قوم من أهل السنة إلى أن الله استماعا حادثا في ذاته وذكر أن هؤلاء وبعض أهل البدع تأولوا ذلك في الإرادة على الحوادث
قال : ( فأما من ادعى السنة فأراد إثبات القدر فقال : إرادة الله تحدث إن حدثت من تقدير سابق الإرادة وأما بعض أهل البدع فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست مخلوقة ولكن بها كون الله المخلوقين )
قال : ( وزعموا أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الإرادة وأنه ليست بصفة لله من نفسه )
قال : ( ولذلك قال بعضهم : إن رؤيته تحدث )
واختار الحارث المحاسبي القول الآخر وتأول المنصوص على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الإرادة قال : وكذلك قوله : { إنا معكم مستمعون } وقوله : { فسيرى الله عملكم } تأوله على أن المراد حدوث المسموع والمبصر كما تأول قوله تعالى : { حتى نعلم } ( محمد : 31 ) حتى يكون المعلوم بغير حادث علم في الله ولا بصر ولا سمع ولا معنى حدث في ذات الله تعالى عن الحوادث في نفسه )

كلام محمد بن الهيصم في جمل الكلام
وقال محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له : لما ذكر جمل الكلام في القرآن وأنه مبني على خمسة فصول :
أحدها : أن القرآن كلام الله فقد حكى عن جهم بن صفوان أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة إنما هو كلام خلقه الله فنسب إليه كما قيل : سماء الله وأرض الله وكما قيل : بيت الله وشهر الله وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة ثم وافقوا جهما في المعنى حيث قالوا : كلام الله خلقه بائنا منه وقال عامة المسلمين : إن القرآن كلام الله على الحقيقة وإنه تكلم به
والفصل الثاني في أن القرآن غير قديم فإن الكلابية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله لم يزل يتكلم بالقرآن وقال أهل الجماعة : بل إنما تكلم بالقرآن حيث خاطب به جبريل وكذلك سائر الكتب
والفصل الثالث : أن القرآن غير مخلوق فإن الجهمية والنجارية والمعتزلة زعموا أنه مخلوق وقال أهل الجماعة : إنه غير مخلوق
والفصل الرابع : أنه غير بائن من الله فإن الجهمية وأشياعهم من المعتزلة قالوا إن القرآن بائن من الله وكذلك سائر كلامه وزعموا أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى وخلق كلاما في الهواء فسمعه جبريل ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة وقال أهل الجماعة : بل القرآن غير بائن من الله وإنما هو موجود منه وقائم به )
وذكر محمد بن الهيصم في مسألة الإرادة والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من إثبات الصفات الفعلية القائمة بالله التي ليست قديمة ولا مخلوقة

كلام الدارمي في النقض على بشر المريسي
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف بنقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي الجهمي العنيد فما افترى على الله في التوحيد قال : ( وادعى المعارض أيضا : أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول : هل من مستغفر ؟ هل من تائب ؟ هل من داع ؟ ] قال : ( فادعى أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش وبكل مكان من غير زوال لأنه الحي القيوم والقيوم بزعمه من لا يزول )
قال : ( فيقال لهذا المعارض : وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان ولا لمذهبه برهان لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان فما بال النبي صلى الله عليه و سلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار ؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا : هل من داع فأجيب ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطي ؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله وهذا محال عند السفهاء فكيف عند الفقهاء ؟ قد علمتم ذلك ولكن تكابرون وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان ؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه [ حتى ينفجر الفجر ] قد علمتم إن شاء الله أن هذا التأويل أبطل باطل لا يقبله إلا كل جاهل وما دعواه أن تفسير ( القيوم ) الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك كل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا ووقت لنزوله مخصوصا لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا )
قال : ( ثم أجمل المعارض جميع ما ينكر الجهمية من صفات الله تعالى وذاته المسماة في كتابه وفي آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم فعد منها بضعا وثلاثين صفة نسقا واحدا يحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسي وفسرها وتأولها حرفا حرفا خلاف ما عنى الله وخلاف ما تأولها الفقهاء الصالحون لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي فبدأ منها بالوجه ثم بالسمع والبصر والغضب والرضا والحب والبغض والفرح والكره والضحك والعجب والسخط والإرادة والمشيئة والأصابع والكف والقدمين وقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } ( القصص : 88 ) { فأينما تولوا فثم وجه الله } ( البقرة : 115 ) { وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) و { خلقت بيدي } ( ص : 75 ) { وقالت اليهود يد الله مغلولة } ( المائدة : 64 ) و { يد الله فوق أيديهم } ( الفتح : 10 ) { والسماوات مطويات بيمينه } ( الزمر : 67 ) وقوله : { فإنك بأعيننا } ( الطور : 21 ) و { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ( البقرة : 210 ) { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ( الحاقة : 17 ) و { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) و { الذين يحملون العرش ومن حوله } ( غافر : 7 )
وقوله { ويحذركم الله نفسه } ( آل عمران : 30 : 28 ) و { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } ( آل عمران : 77 ) و { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ( الأنعام : 54 ) و { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ( المائدة : 116 ) و { الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } ( البقرة : 22 )
قال : ( عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات فنسقها ونظم بعضها بعض كما نظمها شيئا بعد شيء ثم فرقها أبوابا في كتابه وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي دون من سواه مستترا عند الجهال بالتشنع بها على قوم يؤمنون بها ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثال فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات أنفسهم وأن العلماء بزعمه قالوا : ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك أو يشبه شيء منها بشيء مما هو في الخلق موجود )
قال : ( وهذا خطأ لما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك ليس ككيفيته شيء
قال : أبو سعيد : فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع : أما قولك : إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ فإنا لا نقول : إنه خطأ كما قلت بل هو عندنا كفر ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد أنفا منكم غير أنا - كما لا نشبهها ولا نكيفها - لا نكفر بها ولا نكذبها ولا نبطلها بتأويل الضلال كما ابطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك سنبينها لمن غفل عنها ممن حواليك من الأغمار
وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا وتسمع في آذاننا فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون وقصرت عنها الظنون ؟ غير أنا لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي : إن هذه الصفات كلها كشيء واحد وليس السمع منه غير البصر ولا الوجه منه غير اليد ولا اليد منه غير النفس وأن الرحمن ليس يعرف - بزعمكم - لنفسه سمعا من بصر ولا بصرا من سمع ولا وجها من يدين ولا يدين من وجه هو كله بزعمكم سمع وبصر ووجه وأعلى وأسفل ويد ونفس وعلم ومشيئة وإرادة مثل خلق الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات ولا يوقف لها منها على شيء فالله المتعالي عندنا أن يكون كذلك فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال : { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) و { إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقال : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } ( آل عمران : 77 ) ففرق بين الكلام والنظر دون السمع فقال عند السماع والصوت : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } ( المجادلة : 1 ) و { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) ولم يقل : قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها
وقال موضع الرؤية إنه : { الذي يراك حين تقوم } { وتقلبك في الساجدين } ( الشعراء : 219 : 218 ) وقال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } ( التوبة : 105 ) ولم يقل : يسمع الله تقلبك ويسمع الله عملكم فلم يذكر الرؤية فيما يسمع ولا السماع فيما يرى لما أنهما عنده خلاف ما عندكم
وكذلك قال الله تعالى : { ودسر } { تجري بأعيننا } ( القمر : 14 : 13 ) { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } ( الطور : 48 ) { ولتصنع على عيني } ( طه : 39 ) ولم يقل لشيء من ذلك : على سمعي فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كباطل تفسيركم )
ثم قال : ( باب الحد والعرش قال أبو سعيد : وادعى المعارض أيضا أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية )
قال : ( وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها جميع أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره : قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس له شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن ( لا شيء ) ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك : لا حد له يعني أنه لا شيء
قال أبو سعيد : والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان
وسئل عبدالله بن المبارك بم نعرف ربنا ؟ قال : بأنه على عرشه بائن من خلقه قيل : بحد ؟ قال : بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك
فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله وصفة حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) { أأمنتم من في السماء } ( الملك : 16 ) { إني متوفيك ورافعك إلي } ( آل عمران : 55 ) { يخافون ربهم من فوقهم } ( النحل : 50 ) { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر : 10 ) فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله
و [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله فوق عرشه فوق سماواته ] و [ قال للأمة السواداء : أين الله ؟ قالت : في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة ] فقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنها مؤمنة ] دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء كما قال الله ورسوله لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبيه : يا حصين كم تعبد اليوم إلها ؟ قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء ] فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإلة الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين : أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يده إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية
ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك كله منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذي سمعوا بذكره )
ثم ذكر الكلام على إبطال تأويلات الجهمية للصفات الواردة في الكتاب والسنة

كلام الدارمي في الرد على الجهمية
وقال عثمان بن سعيد في كتاب الرد على الجهمية له : ( باب الإيمان بكلام الله تعالى ) قال أبو سعيد : فالله المتكلم أولا وآخرا لم يزل له الكلام إذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام إذ لا يبقى متكلم غيره فيقول : { لمن الملك اليوم } ( غافر : 16 ) أنا الملك أنا الديان أين ملوك الأرض ؟ فلا ينكر كلام الله إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز و جل وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام وأنطق الأنام ؟ قال الله تعالى في كتابه { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) فهذا لا يحتمل تأويلا غير نفس الكلام وقال لموسى : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ( الأعراف : 144 ) وقال الله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } ( البقرة : 75 ) وقال { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ( الفتح : 15 ) وقال { لا تبديل لكلمات الله } ( يونس : 64 ) وقال : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } ( الأنعام : 115 )
وذكر آيات أخر إلى أن قال : ( وقال تعالى لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } ( طه : 89 ) وقال : { عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } ( الأعراف : 148 )
قال أبو سعيد : ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصا بلا تأويل ففيما عاب الله تعالى به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان أن الله غير عاجز عنه وأنه متكلم وقائل لأنه لم يكن ليعيب العجل بشيء هو موجود فيه وقال إبراهيم : { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } ( الأنبياء : 63 ) إلى قوله { أفلا تعقلون } ( الأنبياء : 67 ) فلم يعب إبراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام إلا وأن إلهه متكلم قائل )
وبسط الكلام في ذلك إلى أن قال : ( أرأيتم قولكم : إنه مخلوق فما بدء خلقه ؟ أقال الله له ( كن ) فكان كلاما قائما بنفسه بلا متكلم به ؟ فقد علم الناس - إلا ما شاء الله منهم - أن الله لم يخلق كلاما يرى ويسمع بلا متكلم به فلا بد من أن تقولوا في دعواكم : الله المتكلم بالقرآن فأضفتموه إلى الله فهذا أجور الجور وأكذب الكذب : أن تضيفوا كلام المخلوق إلى الخالق ولو لم يكن كفرا كان كذبا بلا شك فيه فكيف وهو كفر لا شك فيه ؟ لا يجوز لمخلوق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعي الربوبية ويدعوا الخلق إلى عبادته فيقول : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ( طه : 14 ) و { إني أنا ربك } ( طه : 12 ) { وأنا اخترتك } ( طه : 13 ) { واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري } ( طه : 41 - 42 ) { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات : 56 ) { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } ( يس : 60 - 61 ) قد علم الخلق - إلا من أضله الله - أنه لا يجوز لأحد أن يقول هذا وما أشبهه ويدعيه غير الخالق بل القائل به والداعي إلى عبادة غير الله كافر كفرعون الذي قال : { أنا ربكم الأعلى } ( النازعات : 24 ) والمجيب له والمؤمن بدعواه أكفر وأكذب
وإن قلتم : تكلم به مخلوق فأضفناه إلى الله لأن الخلق كلهم بصفاتهم وكلامهم لله فهذا المحال الذي ليس وراءه محال فضلا عن أن يكون كفرا لأن الله عز و جل لم ينسب شيئا من الكلام كله إلى نفسه أنه كلامه غير القرآن وما أنزل على رسله فإن قد تم كلامكم ولزمتموه لزمكم أن تسموا الشعر وجميع الغناء والنوح وكلام السباع والبهائم والطير كلام الله فهذا مما لا يختلف المصلون في بطوله واستحالته فما فضل القرآن إذا عندكم على الغناء والنوح والشعر إذ كان كله في دعواكم كلام الله ؟ فكيف خص القرآن بأنه كلام الله ونسب كل كلام إلى قائله ؟ فكفى بقوم ضلالا أن يدعوا قولا لا يشك الموحدون في بطوله واستحالته
ومما يزيد دعواكم تكذيبا واستحالة ويزيد المؤمنين بكلام الله إيمانا وتصديقا أن الله قد ميز بين من كلم من رسله في الدنيا وبين من لم يكلم ومن يكلم من خلقه في الآخرة ومن لا يكلم فقال : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } ( البقرة : 253 ) فميز بين من اختصه الله بكلامه وبين من لم يكلمه ثم سمى ممن كلم الله موسى فقال : { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) فلو لم يكلمه بنفسه إلا على تأويل ما ادعيتم فما فضل من ذكر الله في تكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه ؟ إذ كل الرسل في تكليم الله إياهم مثل موسى وكل عندكم لم يسمع كلام الله وقد قال تعالى : { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } ( آل عمران : 77 ) ففي بيان أنه لا يعاقب قوما يوم القيامة بصرف كلامه عنهم إلا وأنه يثيب بتكلميه قوما آخرين
وقال أيضا في بيان كفر الجهمية : ( أخبر الله أن القرآن كلامه وادعت الجهمية أنه خلقه وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما وقال هؤلاء : لم يكلمه الله بنفسه ولم يسمع موسى نفس كلام الله إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق ففي دعواهم دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال : { إني أنا ربك فاخلع نعليك } ( طه : 12 ) فقال له موسى في دعواهم : صدقت ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبيته مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذا ؟ فأي كفر أوضح من هذا ؟ وقال الله تبارك وتعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وقال هؤلاء : ما قال لشيء قط - قولا وكلاما - كن فكان ولا يقوله أبدا ولم يخرج منه كلام قط ولا يخرج ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام )

عود إلى كتاب النقض على المريسي
وقال أيضا في كتاب النقض على المريسي : ( وادعيت أيها المريسي في قول الله عز و جل : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ( الأنعام : 210 ) وفي قوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } ( الأنعام : 158 ) فادعيت أن هذا ليس منه بإتيان لما أنه غير متحرك عندك ولكن يأتي بالقيامة بزعمك وقوله : { يأتيهم الله في ظلل من الغمام } : يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام ولا يأتي هو بنفسه ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } ( سورة النحل : 26 ) { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } ( الحشر : 2 )
فيقال لهذا المريسي : قاتلك الله ! ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر ! أنبأك الله أنه إتيان وتقول : ليس بإتيان إنما هو كقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } ( النحل : 26 ) لقد ميزت بين ما جمع الله وجمعت بين ما ميز الله ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة لأن تأويل كل واحد منهما مقرون به في سياق القراءة لا يجهلة إلا مثلك
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل الملائكة تنزيلا ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية كما قال الله ورسوله فلما لم يشك المسلمون أنا الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو من أمره وعذابه
فقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } يعني مكره من قبل قواعد بنيانهم { فخر عليهم السقف من فوقهم } ( النحل : 26 ) فتفسير هذا الإتيان خرور السقف عليهم من فوقهم وقوله : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } مكر بهم { وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ( الحشر : 2 ) وهم بنو النضير فتفسير الإتيانين مقرون بهما فخرور السقف والرعب وتفسير إتيان الله يوم القيامة منصوص في الكتاب مفسر
قال الله تعالى : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } ( الحاقة : 13 - 18 ) إلى قوله تعالى : { هلك عني سلطانيه } ( الحاقة : 29 ) فقد فسر الله المعنيين تفسيرا لا لبس فيه ولا يشتبه على ذي عقل فقال فيما يصيب به من العقوبات في الدنيا : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } ( يونس : 24 ) فحين قال : { أتاها أمرنا } علم أهل العلم أن أمره ينزل من عنده من السماء وهو على عرشه فلما قال : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } ( الحاقة : 13 ) الآيات التي ذكرناها وقال أيضا : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } ( الفرقان : 25 ) و { يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور } ( البقرة : 210 ) و { دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 21 - 22 ) علم بما نص عليه الله من الدليل وبما حد لنزول الملائكة يومئذ : ( أن هذا إتيان الله بنفسه يوم القيامة ليلي محاسبة خلقه بنفسه لا يلي ذلك أحد غيره وأن معناه مخالف لمعنى إتيان القواعد لا ختلاف القضيتين )
إلى أن قال : ( وقد كفانا رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه تفسير هذا الإتيان حتى لا نحتاج منك له إلى تفسير ) وذكر حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين في تجليه يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه قال : [ فيقول المؤمنون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ] و ذكر حديث ابن عباس من وجهين موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفيه [ ثم يأتي الرب تعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السماوات والأرض ] رواه الحاكم في صحيحه وذكر ( عن أنس بن مالك أنه قال : وتلا هذه الآية : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } قال : يبدلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم تعمل عليها الخطايا ينزل عليها الجبار )
ثم قال : ( ومن يلتفت أيها المريسي إلى تفسيرك المحال في إتيان الله يوم القيامة ويدع تفسير رسول الله صلى الله عيه وسلم وأصحابه إلا كل جاهل مجنون خاسر مغبون ؟ لما أنك مفتون في الدين مأفون وعلى تفسير كتاب الله غير مأمون ويلك ! أيأتي الله بالقيامة ويتغيب هو بنفسه ؟ فمن يحاسب الناس يومئذ ؟ لقد خشيت على من ذهب مذهبك هذا لأنه لا يؤمن بيوم الحساب
وادعيت أيها المريسي في قول الله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( البقرة : 255 ) وادعيت أن تفسير القيوم عندك لا يزول يعني الذي لا ينزل ولا يتحرك ولا يقبض ولا يبسط وأسندت ذلك عن بعض أصحابك غير مسمى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : القيوم الذي لا يزول ومع روايتك هذه عن ابن عباس دلائل وشواهد أنها باطلة :
إحداها : أنك رويتها وأنت المتهم في توحيد الله
والثانية : أنك رويته عن بعض أصحابك غير مسمى وأصحابك مثلك في الظنة والتهمة
والثالثة : أنه عن الكلبي وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه ؟ وكذلك أبو صالح
ولو قد صحت روايتك عن ابن عباس أنه قال : ( القيوم : الذي لا يزول ) لم نستنكره وكان معناه مفهوما واضحا عند العلماء وعند أهل البصر بالعربية أن معنى لا يزول لا يفنى ولا يبيد لا أنه لا يتحرك ولا يزول من مكان إلى مكان إذا شاء كما كان يقال للشيء الفاني : هو زائل كما قال لبيد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل )
يعني فان لا أنه متحرك فإن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة كما لا توصف الأصنام الميتة قال الله تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } ( النحل : 20 - 21 ) فالله الحي القيوم القابض الباسط يتحرك إذا شاء وينزل إذا شاء ويفعل ما يشاء بخلاف الأصنام الميتة التي لا تزول حتى تزال
واحتججت أيها المريسي في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان فزعمت أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم حين رأى كوكبا وشمسا وقمرا قال : { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 76 ) ثم قلت : فنفى إبراهيم المحبة عن كل إله زائل يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد فقد أفل وزال كما أفل الشمس والقمر فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو رومي عجمي ما زاد على ما قست قبحا وسماجة ويلك ! من خلق الله : إن الله إذا نزل أو تحرك - أو نزل ليوم الحساب - أفل في شيء كما تأفل الشمس في عين حمئة ؟ إن الله لا يأفل في شيء سواه إذا نزل أو ارتفع كما تأفل الشمس والقمر والكواكب بل هوالعالي على كل شيء المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه وهو الفعال لما يريد لا يأفل في شيء بل الأشياء كلها تخشع له وتتواضع والشمس والقمر والكواكب خلائق مخلوقة إذا قلت أفلت أفلت في مخلوق في عين حمئة كما قال الله تعالى والله أعلى وأجل لا يحيط به شيء ولا يحتوي عليه شيء

قول أبي بكر عبد العزيز في المقنع
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال في أول كتابه الكبير المسمى بالمقنع وقد ذكر ذلك عنه القاضي أبو يعلى في كتاب إيضاح البيان في مسألة القرآن قال أبو بكر لما سألوه : ( إنكم إذا قلتم : لم يزل متكلما كان ذلك عبثا فقال : لأصحابنا قولان : أحدهما أنه لم يزل متكلما كالعلم لأن ضد الكلام الخرس كما أن ضد العلم الجهل قال : ومن أصحابنا من قال : قد أثبت سبحانه لنفسه أنه خالق ولم يجز ان يكون خالقا في كل حال بل قلنا : إنه خالق في وقت إرادته أن يخلق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولم يبطل أن يكون خالقا كذلك وإن لم يكن متكلما في كل حال يبطل أن يكون متكلما بل هو متكلم خالق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلما في كل حال )

قول القاضي أبي يعلي في إيضاح البيان
وذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المسمى بإيضاح البيان هذا السؤال فقال : ( نقول : إنه لم يزل متكلما وليس بمكلم ولا مخاطب ولا آمر ولا ناه نص عليه أحمد في رواية حنبل فقال : لم يزل الله متكلما عالما غفورا
قال : وقال في رواية عبد الله : لم يزل الله متكلما إذا شاء وقال حنبل في موضع آخر : سمعت أبا عبد الله يقول : لم يزل الله متكلما والقرآن كلام الله غير مخلوق )
قال القاضي أبو يعلى : ( وقال أحمد في الجزء الذي فيه الرد على الجهمية والزنادقة : وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ) وقال بعد ذلك : ( بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إنه كان ولا يتكلم حتى خلق )

قول عبد الله بن حامد في أصول الدين
وقال أبو عبد الله بن حامد في كتابه في أصول الدين : ( ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله متكلم وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلما في كل أوقاته موصوفا بذلك وكلامه قديم غير محدث كالعلم والقدرة )
قال : وقد يجيء على المذهب أن يكون الكلام صفة المتكلم لم يزل موصوفا بذلك ومتكلما كما شاء وإذا شاء ولا نقول : إنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام )
قال : ( ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلما قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات وأن الله كان فيما لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء وإذا شاء أنزل كلامه وإذا شاء لم ينزله )
قلت : قول ابن حامد : ( ولا نقول إنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام ) يريد به أنا لا نقول : إن جنس كلامه حادث في ذاته كما تقوله الكرامية من أنه كان ولا يتكلم ثم صار يتكلم بعد أن لم يكن متكلما في الأزل ولا كان تكلمه ممكنا

قول أبي إسماعيل الأنصاري في مناقب أحمد بن حنبل
وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام في اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة : ( اعلم أن الله متكلم قائل مادح نفسه وهو متكلم كلما شاء ويتكلم بكلام لا مانع له ولا مكره والقرآن كلامه هو تكلم به )
قال أيضا في كتاب مناقب أحمد بن حنبل في باب الإشارة إلى طريقته في الأصول لما ذكر كلامه في مسأئل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا : هو مخلوق وجرت المحنة المشهورة ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي إلى أن قال : وجاءت طائفة فقالت : لا يتكلم بعد ما تكلم فيكون كلامه حادثا قال : وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد إليها الدانات وتشد إليها الركائب ويجلب منها العلم وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي و الصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله ف ابن خزيمة في بيت ومحمد بن إسحاق في بيت و أبو حامد العرشرقي في بيت قال : فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في ردها كأنه منذر جيش حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب أن الله متكلم : إن شاء تكلم وإن شاء سكت فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خبيرا )
قلت : هذه القصة التي أشار إليها عن ابن خزيمة مشهورة ذكرها غير واحد من المصنفين ك الحاكم أبي عبد الله في تاريخ نيسابور وغيره ذكر أنه رفع إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري وأنهم على مذهب الكلابية و أبو بكر الإمام شديد على الكلابية
قال : ( فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال : اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم وجرى ذكر كلام الله : أقديم لم يزل أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به ؟ فوقع بيننا في ذلك خوض قال جماعة منا : إن كلام الباري قديم لم يزل وقال جماعة : إن كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي وأخبرته بما جرى فقال : من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث وانتشرت هذه المسألة في البلد وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك حتى قال منصور : ألم أقل للشيخ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية وهذا مذهبهم فجمع أبو بكر أصحابه وقال : ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه وأنه صنف في الرد عليهم وأنهم ناقضوه ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث وجعلهم هو كلابية
قال الحاكم : ( سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول : سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول : الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق ومن قال : إن القرآن أو شيئا منه ومن وحيه وتنزيله مخلوق أو يقول : إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل أو يقول : إن أفعال الله مخلوقة أو يقول : إن القرآن محدث أو يقول : إن شيئا من صفات الله - صفات الذات - أو اسما من أسماء الله مخلوق فهو عندي جهمي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي )
وذكر عن ابن خزيمة أنه قال : زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله فإن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم وأنه أمر الملائكة بالسجود له فكرر هذا الذكر في غير موضع وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع وحمد نفسه في مواضع فقال : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } ( الكهف : 1 ) و { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } ( الأنعام : 1 ) { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ( سبأ : 1 ) وكرر زيادة على ثلاثين مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ( الرحمن : 16 ) ولم أتوهم أن مسلما يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين
قال الحاكم : ( سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق - يعني الصبغي - يقول : لما وقع من أمرنا ما وقع ووجد بعض المخالفين - يعني المعتزلة - الفرصة في تقرير مذهبهم بحضرتنا قال أبو علي الثقفي للإمام : ما الذي أنكرت من مذاهبنا أيها الإمام حتى نرجع عنه ؟ قال : ميلكم إلى مذهب الكلابية فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد وعلى أصحابه مثل الحارث المحاسبي وغيره حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب فقلت : قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق فأخرجت إليه الطبق فقلت : تأمل ما جمعته بخطي وبينته في هذه المسائل فإن كان فيها شيء تكرهه فبين لنا وجهه فذكر أنه تأمله ولم ينكر منه شيئا وذكر لشيخه الخط وفيه : إن الله بجميع صفات ذاته واحد لم يزل ولا يزال وما أضيف إلى الله من صفات فعله مما هو غير بائن عن الله فغير مخلوق وكل شيء أضيف إلى الله بائن عنه دونه مخلوق )
وذكر أن أبا العباس القلانسي وغيره وافقوا من خالف أبا بكر وأنه كتب إلى جماعة من العلماء تلك السمائل وأنهم كانوا يرفعون من خالف أبا بكر إلى السلطان وأن أمير نيسابور أمر أن يمتثل أمر أبي بكر فيهم من النفي والضرب والحبس وأن عبد الله بن حماد قال : طوبى لهم إن كان ما يقال عنهم مكذوبا عليهم وأن عبد الله بن حماد من غد ذلك اليوم قال : رأيت البارحة في المنام كأن أحمد بن السري الزاهد المروزي لكمني برجله ثم قال : كأنك في شك من أمور هؤلاء الكلابية قال : ثم نظر إلى محمد بن إسحاق فقال : { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب } ( إبراهيم : 52 ) وهذه القصة مبسوطة في موضع آخر وأكثر أهل العلم والدين كانوا مع ابن خزيمة على الكلابية

قول الأنصاري في ذم الكلام
ذكر أبو إسماعيل الأنصاري العروف بشيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام : ( سمعت أبا نصر بن أبي سعيد الرداد سمعت إبراهيم بن إسماعيل الخلال يقول : إني ذهبت بكتاب ابن خزيمة في الصبغي و الثقفي إلى أمير المؤمنين فكتب بصلبها فقال ابن خزيمة : لا قد علم رسول الله صلى الله عليه و سلم النفاق من أقوام فلم يصلبهم )
قال أبو إسماعيل : ( سمعت إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني يقول : استتيب الصبغي و الثقفي على قبر ابن خزيمة
وقال : ( سمعت أحمد بن أبي نصر يقول : رأينا محمد بن الحسين السلمي يعني أبا عبد الرحمن السلمي صاحب التصانيف المعروفة في طريقة الصوفية - يلعن الكلابية )
قال : ( وسمعت محمد بن العباس بن محمد يقول : كان أبو علي الرفا يقول : لعن الله الكلابية )
ومن الموافقين لابن خزيمة أبو حامد الشاركي و أبو سعيد الزاهد و يحيى بن عمار و أبو عثمان النيسابوري الملقب بشيخ الإسلام
قال : ( وسمعت عبد الواحد بن ياسين يقول : رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب - يعني الصعلوكي - بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر بن فورك وسمعت الطيب ابن محمد سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : وجدت أبا حامد الإسفرايني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي و أبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله

قول السجزي في رسالته إلى أهل زبيد
وقال الحافظ أبو نصر السحزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن : ( اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي و الأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات وقالوا : الكلام جروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت - يعني علماء العربية - : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد وما شاكل ذلك فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف وذكل لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات
قالوا : فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه وأضافه إلى نفسه كما نقول : ( خلق الله وعبد الله وفعل الله )
( قال : فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل )
فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة : المسلم والكافر وقالوا للمعتزلة : الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم فمنهم من اقتصر على هذا القدر ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه ( تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام ) ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم وإثبات اللغة فيه تشبيه وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل :
( إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا )
فغيروه وقالوا : ( إن الكلام من الفؤاد ) وزعموا أنه لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } ( المجادلة : 8 ) وفي قول الله عز و جل : { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } ( يوسف : 77 ) واحتجوا بقول العرب : ( أرى في نفسك كلاما وفي وجهك كلاما ) فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا : الأخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام
وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر بل يجانب ويقمع )

قول السجزي في الإبانة
وقال أبو نصر السجزي أيضا في كتابه المسمى بالإبانة في مسألة القرآن : لما قيل له ( إن القراءة عمل والعمل لا يكون صفة لله والدليل على أنها عمل أنك تقول : قرأ فلان يقرأ وما حسن فيه ذكر المستقبل فهو عند العرب عمل )
فقال : ( هذا لا يلزم لأنك تقول : ( قال الله عز و جل ) و ( يقول الله عز و جل ) والله تعالى قال : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } ( البقرة : 35 ) وقال تعالى : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } ( ق : 30 ) فقد حسن في القول ذكر المستقبل
فإن ارتكبوا العظمى وقالوا : كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ وليس بلغة والله سبحانه من الأزل إلا الأبد متكلم بكلام واحد لا أول له ولا آخر فقال : ويقول إنما يرجع إلى العبارة لا إلا المعبر عنه
قيل لهم : قد بينا مرارا كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسد وأنه مخالف للعقليين والشرعيين جميعا وأن نص الكتاب والثابت من الأثر قد نطقا بفساده قال الله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني )
وقال أيضا في موضع آخر : ( [ النبي صلى الله عليه و سلم قال : نبدأ بما بدأ الله به ] ) ثم قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ( البقرة : 158 ) والله تعالى قال : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( آل عمران : 59 ) وقال : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فبين جل جلاله أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب : كن وأنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ولم يقتض ذلك حدوثا ولا خلقا بعد حدوث نوع الكلام لما قام من الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى )
وقال أبو نصر السجزي أيضا : ( فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل ولا يزال متكلما بما شاء من الكلام يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله وهو سبحانه حي عليم متكلم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ليس بجسم ولا في معنى جسم ولا يوصف بأداة ولا جارحة وآلة وكلامه أحسن الكلام وفيه سور وآي وكلمات وكل ذلك حروف وهو مسموع منه على الحقيقة سماعا يعقله الخلق ولا كيفية لتكلمه وتكليمه وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا )
قال : ( ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه ومن أهل الأثر من جوز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث وقال : معناه تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ فذلك الترك بمعنى السكوت )
قال : ( والأصل الذي يجب أن يعلم : أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم بصير متكلم وقلنا إن النبي صلى الله عليه و سلم كان موجودا حيا عالما سميعا بصيرا متكلما لم يكن ذلك تشبيها ولا خالفنا به أحدا من السلف والأئمة بل الله موجود لم يزل واحد حي قديم قيوم عالم سميع بصير متكلم فيما لم يزل ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات والموجود منا إنما وجد عن عدم وحيي بمعنى حله ثم يصير ميتا بزوال ذلك المعنى وعلم بعد أن لم يعلم وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى وإن اتفقت مسميات هذه الصفات )
وقال أبو نصر أيضا : ( خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل وقال : التجزؤ على القديم غير جائز فقلت له : أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان ؟ فقال : نعم - وهم يطلقون ذلك ويموهون على من لم يخبر مذهبهم - وحقيقة سماع كلام الله من ذاته على أصل الأشعري محال لأن سماع الخلق - على ما جبلوا عليه من البنية وأجروا عليه من العادة - لا يكون البتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم وهما يقومان في وقت مقام السماع لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع وربما سمي ذلك سماعا على التجوز لقربه من معناه فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري )
قال : ( فقلت لمخاطبي الأشعري : قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال وليس ههنا من تتقيه وتخشى تشنيعه وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع فدع التمويه ودع المصانعة ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله ؟ أفهم كلام الله مطلقا أم مقيدا ؟ فتلكأ قليلا ثم قال : ما تريد بهذا ؟ فقلت : دع إرادتي وأجب بما عندك فأبى وقال : ما تريد بهذا ؟ فقلت : أريد أنك إن قلت : إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى وهذا يؤول إلى الكفر فإن الله تعالى يقول : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } ( البقرة : 255 ) ولو جاز ذلك لصار مم فهم كلام الله عالما بالغيب وبما في نفس الله تعالى وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } ( المائدة : 116 ) وإذا لم يجز إطلاقه وألجئت إلى أن تقول ( أفهمه الله ما شاء من كلامه ) دخلت في التبعيض الذي هربت منه وكفرت من قال به ويكون مخالفك أسعد منك لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز و جل ومن قبل رسول اله صلى الله عليه و سلم وأنت أبيت أن تقبل ذلك وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئا
فقال : هذا يحتاج إلى تأمل وقطع الكلام )
وقال أبو نصر : ( لم يزل الله متكلما لأن الكلام من صفات المدح للحي الفاعل وضده من النقائص والله منزه عنها )
وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال : ( وقد ثبت بما ذكرناه كون القرآن مفرقا مفصلا ذا أجزاء وأبعاض وآي وكلمات وحروف وأن ما كان بخلاف ذلك لم يكن القرآن المنزل الذي آمن به المسلمون وجحده الكفار وأن المقروء سور وآي وكلمات وحروف وكذلك المحفوظ والمكتوب والمتلو وأنه عريبي مبين نازل بلسان العرب ولسان قريش والمراد باللسان في هذا الباب اللغة لا اللسان الذي هو لحم ودم وعروق تعالى الله عن ذلك وجل عن أن يوصف إلا بما وصف به نفسه وتنزه عن الأشباه )
قال : ( ونحن نذكر عقب هذا الفصل فصلا في ذكر حروف القرآن وفصلا بعد ذلك في الصوت وما ورد فيه من القرآن والحديث وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي حروف ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس وأنها من مبادىء العلم وأسباب المدارك )
قال : ( وقد بين الله في كتابه ما لا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال : { وإذ نادى ربك موسى } ( الشعراء : 10 ) والعرب لا تعرف نداء إلا صوتا وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك فإن أنكروا الظاهر كفروا وإن قالوا : ( إن النداء غير صوت ) خالفوا لغات العرب وإن قالوا : نادى الأمير - إذا أمر غيره بالنداء - دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه من غير واسطة ولا ترجمان وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه وكيف وكلامه وكلام خلقه معا عن الأشعري معنى قائم بذات المتكلم لا يختلف فهو المشبه لا محالة )
قال : ( وأما نحن فنقول : كلام الله حرف وصوت بحكم النص ) قال : ( وليس ذلك عن جارحة ولا آلة وكلامنا حروف وأصوات لا يوجد ذلك منا إلا بآلة والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء لا يشغله شيء عن شيء والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتدىء في الآخر والقرآن لما كان كلاما لله كان معجزا وكلام الخلق غير معجز وفي كلام الله بيان ما كان وما سيكون وما لا يكون أبدا لو كان كيف كان يكون والخلق لا يصلون إلى هذه الأشياء إلا بتعريف )

كلام أبي القاسم الأصبهاني في الحجة على تارك المحجة
وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه المعروف بالحجة على تارك المحجة : ( أجمع المسلمون على أن القرآن كلام الله وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة الله تعالى وأنه موصوف به وهذه الصفة لازمة لذاته تقول العرب : ( زيد متكلم ) فالكلام صفة له لا نعرف إلا أن حقيقة هذه الصفة الكلام وإذا كان كذلك كان القرآن كلام الله وكانت هذه الصفة لا زمة له أزلية والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم أنه لو كان مفارقه لم يكن للمتكلم إلى كلمة واحدة فإذا تكلم بها لم يبق له كلام فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة كلمة بعد كلمة دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة )
قال : ( والدليل على أن القرآن غير مخلوق : أنه كلام الله وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء قال الله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) أي أردنا خلقه وإيجاده وإظهاره فقوله ( كن ) كلام الله وصفته والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة ولا يكون مثلها للمخلوق والدليل على أنه كلام لا يشبه كلام المخلوقين أنه كلام معجز وكلام المخلوقين غير معجز لو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل سورة من سوره أو آية من آياته عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه )

كلام أبي الحسن الكرجي في الفصول في الأصول
وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول ) وذكر اثني عشر إماما : الشافعي و مالك و الثوري و ابن عيينة و ابن المبارك و الأوزاعي و الليث بن سعد و إسحاق بن راهويه و البخاري و أبو زرعة و أبو حاتم
ثم قال فيه : ( سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول : سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبا حامد الإسفرايني يقول : مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار : أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله تعالى والنبي صلى الله عليه و سلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا وكل حرف منه - كالباء والتاء - كله كلام الله غير مخلوق ومن قال ( مخلوق ) فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين )
قال الشيخ أبو الحسن : ( وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام )
قال : ( ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة - منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي - يقولون : سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا : كان الشيخ أبو حامد أحمد ابن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول : اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني وتكرر لك منه جمعات فقيل له في ذلك فقال : حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلح ويشيع الخبر في أهل البلاد : أني بريء مما هم عليه - يعني الأشعرية - وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه : فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبل وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته )
قال الشيخ أبو الحسن الكرجي : ( وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول : سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول : كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني وكان ينهي أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها : إن الشيخ أبا حامد قال لي : يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني الباقلاني - فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة وإلا فلا تحضر مجلسي فقلت : أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه وأشهدوا على أني لا أدخل إليه )
قال الشيخ أبو الحسن : ( وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول : سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم - قالوا : كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفرايني )
قال أبوالحسن : ( ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني وهو عندي وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميزة وقال : هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلا عن أصول الدين )
قلت : هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها
وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد و القاضي أبو الطيب و أبو إسحاق الشيرازي وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب و الأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها عن ابن كلاب و الأشعري عن غيرهما وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب و الأشعري بها اختصاص بل ما قاله قاله غيرهما إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام وأتبعه عليه الأشعري فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك حد ولا وافقه عليه من رؤوس الطوائف وأصله في ذلك مسألة الصفات الاختيارية ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى : هل تقوم بذاته أم لا ؟ فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته
ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه ك القلانسي و الأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال
وقد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل محرم عندهم وكذلك غير الأشعري ك الخطابي وأمثاله يذكرون ذلك لكن مع هذا من وافق ابن كلاب لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلا وإن لم يقل : إن الدين محتاج إليها فلما رأى من رأى صحتها لزمه : إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه
وهذا الذي نقلوه - من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر الباقلاني - هو بسبب هذا الأصل وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى وقام عليه الشيخ أبو حامد و الشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام وأهل الحجاز ومصر مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب و الأشعري أجل منه ولا أحسن كتبا وتصنيفا وبسببه انتشر هذا القول وكان منتسبا إلى الإمام أحمد وأهل السنة وأهل الحديث والسلف مع انتسابه إلى مالك و الشافعي وغيرهما من الأئمة حتى كان يكتب في بعض أجوبته : محمد بن الطيب الحنبلي وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف كما تقدم ذكر ذلك ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد - و أبو بكر البيهقي موافق لابن البقلاني في أصوله - ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صفنه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر وقد حكى عنه : أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب و الأشعري يقول : ( هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم وأنا لم تتبين لي هذه المسألة ) فكان يحكى عنه الوقف فيها إذ له في عدة من المسائل قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه ومع هذا تكلم فيه أهل العلم وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة مما يطول وصفه كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه حتى ذكر أبو إسماعيل الأنصاري قال : سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة أبي حامد - يعني الإسفرايني - على ابن الباقلاني قال : وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد : إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني قال : وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول : سمعت أبي يقول : لعن الله أبا ذر الهروي فإنه أول من حمل الكلام إلا الحرم وأول من بثه في المغاربة
قلت : أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به وكان قد قدم إلى بغداد من هراة فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم ك أبي نصر السجزي و أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين لما ليس هذا موضعه وهو ممن يرجح طريقة الصبغي و الثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق كما رحل أبو الوليد الباجي فأخذ طريقة أبو جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخيار الأمور أوساطها
وهذا لي مخصوصا بهؤلاء بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ( الحشر : 10 )
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 )
ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابا بعد اجتهاده وهو من البدع المخالفة للسنة فإنه يلزمه نظير ذلك أو وأعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين لكثرة الاشتباه والاضطراب وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ويزول به عن القلوب الشك والارتياب ولهذا تجد كثيرا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها فيقولون القول الموافق للسنة وينفون ما هو من لوازمه غير ظانين أنه من لوازمه ويقولون ما ينافيه غير ظانين أنه ينافيه ويقولون بملزومات القول المنافي ما أثبتوه من السنة وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته فيكون مضمون قولهم : أن يقولوا قولا ويكفروا من يقوله وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين ويوجد في الحالين لاختلاف نظره واجتهاده
وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق وقد دخل فيها الحق والباطل فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضا أ مبتدعا ضالا من حيث لا يشعر
وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة إذا لو كانت كذلك لم تكن باطلا ولا تكون باطلا محضا لا حق فيها إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس ولا كن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل : إما مخطئا غالطا وإما متعمدا لنفاق فيه وإلحاد
كما قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } ( التوبة : 47 ( فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم : إما لظن مخطىء أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما فإن المؤمن إنمايدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ]
وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ( الفاتحة : 6 - 7 ) فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به والضالون عبدوا الله بلا علم
ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى } ( النجم : 1 - 2 ) وقال تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } ( ص : 45 )
وهذا الذي تقدم ذكره - من إنكار أئمة العراقيين من أصحاب الشافعي قول ابن كلاب ومتبعيه في القرآن - هو معروف في كتبهم ومعلوم أنه ليس بعد الشافعي و ابن سريج مثل الشيخ أبي حامد الإسفرايني حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء عن أبي الحسين القدوري : أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد : إنه أنظر من الشافعي وهذا الكلام - وإن لم يكن مطابقا لمعناه لجلالة قدر الشافعي وعلو مرتبته - فلولا براعة أبي حامد ما قال فيه الشيخ أبو الحسين القدوري مثل هذا القول

كلام أبي حامد الإسفرايني في التعليق في أصول الفقه
وقد قال أبو حامد في كتاب التعليق في أصول الفقه : ( مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به : اختلف الناس في الأمر : هل له صيغة تدل على كونه أمرا أم ليس له ذلك ؟ على ثلاثة مذاهب فذهب أئمة الفقهاء إلى أن الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمرا إذا عريت عن القرائن وذلك مثل قول القائل : افعل كذا وكذا وإذا وجد ذلك عاريا عن القرائن كان أمرا ولا يحتاج في كونه أمرا إلى قرينه
هذا مذهب الشافعي رحمه الله و مالك و أبي حنيفه و الأوزاعي وجماعة أهل العلم وهو قول البلخي من المعتزلة
وذهبت المعتزلة بأسرها - غير البلخي - إلى أن الأمر لا سيغة له ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرا وإنما يكون أمرا بقرينة تقترن به وهي الإرادة ثم اختلفوا في تلك الإرادة : فمنهم من قال : هي إرادة المأمور به فإذا قال : افعل وأراد بذلك إيجاد المأمور به صار أمرا وإذا عري عن ذلك لم يكن أمرا ومنهم من قال : يحتاج إلى إرادة شيئنين : إرادة المأمور به وإرادة كون اللفظ أمرا ومنهم من اعتبر إرادة ثلاثة أشياء ولسنا نتكلم معهم في هذا الفصل فإنه شيء يتفرع على مذاهبهم وإنما الخلاف بيننا وبينهم في الأصل وهو أن اللفظ هل يكون أمرا بصيغته أو بقرينة تقترن به ؟
وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر لا يفارق الذات ولا يزايلها وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك كل هذه المعاني قائمة بالذات لا تزايلها كالقدرة والعلم وغير ذلك وسواء في هذا أمر الله تعالى وأمر الآدميين إلا أن أمر الله تعالى يختص بكونه قديما وأمر الآدمي محدث وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمرا ولا نهيا وإنما هي عبارة عنه )
قال : ( وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول : هي حكاية عن الأمر وخالفه أبو الحسن الأشعري في ذلك فقال : لا يجوز أن يقال : ( إنها حكاية ) لأن الحكاية تحتاج إلى أن تكون مثل المحكي ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس وتقرر مذهبهم على هذا فإذا كان هذا حقيقة مذهبهم فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف في أن الأمر هل له صيغة أم لا فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس فذلك المعنى لا يقال : إن له صيغة أو ليست له صيغة وإنما يقال ذلك في الألفاظ ولكن يقع الخلاف في اللفظ الذي هو عندهم عبارة عن الأمر وعندنا أن هذا هو أمر وتدل صيغته على ذلك من غير قرينة وعندهم أنه لا يكون عبارة عن الأمر ولا دالا على ذلك بمجرد صيغته ولكنه يكون موقوفا على ما بينه الدليل فإن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن الأمر حمل عليه وأن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن غيره من التهديد والتعجيز والتحذير وغير ذلك حمل عليه إلا أننا نتكلم معهم في الجملة : أن هذا اللفظ هل يدل على الأمر من غير قرينة أم لا ) ؟ وبسط كلامه في هذه المسألة إلى آخرها
وهذا أيضا معروف عن أئمة الطريقة الخراسانية ومن متأخريهم أبو محمد الجويني والد أبي المعالي
وقد ذكر القاضي أبو القاسم بن عساكر في مناقبه ما ذكره عبد الغافر الفارسي في ترجمة أبي محمد الجويني ( قال : سمعت خالي أبا سعيد - يعني عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري - يقول : كان أئمتنا في عصره والمحقوقون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحيمدة أنه لو جاز أن يبعث الله نبيا في عصره لما كان إلا هو من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله )

كلام أبو محمد الجويني في عقيدة أصحاب الشافعي
قال أبو محمد في آخر كتاب صنفه سماه : ( عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة والجماعة ) وقد نقل هذا عنه أبو القاسم بن عساكر فيكتابه الذي سماه تبيين كذب المفتري
( قال أبو محمد : ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد ويجب التعيين في الأصول فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين وربما لا يتأتى ومذهب الشيخ أبي الحسن تصويب المجتهدين في الفروع وليس ذلك مذهب الشافعي و أبو الحسن أحد أصحاب الشافعي فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه فيه ومن هذا القبيل قوله : إنه لا صيغة للألفاظ أي الكلام وتقل وتعز مخالفته أصول الشافعي ونصوصه وربما نسب المبتدعون إليه ما هو بريء منه كما نسبوا إليه أنه يقول : ليس في المصحف قرآن ولا في القبر نبي وكذلك الاستثناء في الإيمان ونفي القدرة على الخلق في الأزل وتكفير العوام وإيجاب علم الدليل عليهم ) قال : ( وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه )
قلت : هذه المسأئل فيها كلام ليس هذا موضعه ولكن المقصود هنا : أنه جعل من القبيل الذي خالف فيه الشافعي وأعرض عنه فيه أصحابه : مسأل صيغ الألفاظ وهذه هي مسألة الكلام وقوله فيها هو قول ابن كلاب ( إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس الله تعالى : إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن القرآن العربي لم يتكلم الله به بل وليس هو كلام الله وإنما خلقه في بعض الأجسام )
وجمهور الناس من أهل السنة وأهل البدعة يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار وإن معاني القرآن ليست هي معاني التوراة وليست معاني التوراة المعربة هي القرآن ولا القرآن إذا ترجم بالعبرية هو التوراة ولا حقيقة الأمر هي حقيقة الخبر
وإنما اضطر ابن كلاب و الأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل : أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك وقد تبين لهم فساد قول من يقول : ( القرآن مخلوق ) ولا يجعل لله تعالى كلاما قائما بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولا منفصلا عن المتكلم ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل إذا خلق الله شيئا من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها وكذلك إذا خلق علما أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها فإذا خلق كلاما في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف مثل أهل الحديث والسنة ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم
ولازم هذا أن من قال : ( إن القرآن العربي مخلوق ) أن لا يكون القرآن العربي كلام الله بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ومن قال ( إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا ) تبطل حجته على المعتزلة فإن أصل الحجة أنه إا خلق كلاما في محل كان الكلام صفة لذلك المحل فإذا كان القرآن العربي كلاما مخلوقا في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به ولم يكون كلام الله ولهذا قال من قال : ( لا يسمى كلاما إلا مجازا ) فرارا من أن يثبتوا كلاما حقيقيا قائما بغير المتكلم به فلما عظم شناعة الناس على هذا القول وكان تسمية هذا كلاما حقيقة معلوما بالاضطرار من اللغة أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركا فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج ونحوهم فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها : أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء ولا هو متكلم باختياره ومشيئته - طمع فيهم أولئك لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره وهو قادر على الكلام وهو يتكلم بما يشاء
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء - إذا جعلوا يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادرا على الكلام ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء
والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة : كلام الله من الله ليس ببائن منه وقالوا : إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فقالوا : ( منه بدأ ) ردا على الجهمية الذين يقولون : بدأ من غيره ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } ( الزمر : 1 ) وقال تعالى : { ولكن حق القول مني } ( السجدة : 13 ) وأمثال ذلك
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له متعلقا بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا قالوا : والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة فأثبتوا معنى واحدا لم يمكنهم إثبات معان متعددة خوفا من إثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا أن يقولوا ( معنى واحدا ) فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم
وأنكر الناس عليهم أمورا : إثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن وأن الله لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم فالتكليم هو خلق الإدراك فقط
ثم منهم من يقول : السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن ونحوه
ومنهم من يقول : إنه يسمع ذلك المعنى من القارىء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى
وجمهور العقلاء يقولون : إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
وكذلك من قال : ( لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة وهو لا يقدر على التكلم بها ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل ) من أهل الحديث والفقهاء والكلام المنتسبين إلى السنة فجمهور العقلاء يقولون : إن قول هؤلاء أيضا معلوم الفساد بالضرورة وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة وصوتا مسموعا من المتكلم
وأما من قال : ( إن الصوت المسموع من القارىء قديم ) أو : ( يسمع منه صوت قديم ومحدث ) فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الكلام عليه
وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر ليس هذا موضع استقصائه

دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل فأكثر من أن تحصر وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه كما ذكر الخلال في كتاب السنة قال : ( أخبرنا المروزي قال : هذا ما جمعه واحتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن وكتبه بخطه وكتبته من كتابه فذكر المروزي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد بن عبد الله بن أحمد وقال فيه : سمعت أبا عبد الله يقول : في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع - يعني الجهمية -
قال الخلال : وأنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : وجدت هذا الكتاب بخط أبي فيما احتج به على الجهمية وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل مثل قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ( البقرة : 186 ) وقوله تعالى : { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( البقرة : 117 ) وقوله { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة } ( البقرة : 174 ) وقوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ( المجادلة : 1 ) وقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) وقوله تعالى : { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } إلى قوله تعالى - { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( آل عمران 45 - 47 ) وقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( آل عمران : 59 ) وقول تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } ( آل عمران : 77 ) وقوله تعالى { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك } ( الأنعام : 73 ) { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) وقوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( الأعراف : 143 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } ( يونس : 19 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب } ( هود : 110 ) { ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } ( الشورى : 21 ) { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ( هود : 119 ) { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } ( يوسف : 3 ) وقوله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف : 109 ) وقال تعالى : { فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ( طه : 11 - 14 ) إلى قوله : - { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } ( طه : 39 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } ( طه : 129 ) { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم } ( الأنبياء : 83 - 84 ) وقوله : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } ( الأنبياء : 87 - 88 ) قوله { وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } ( الأنبياء : 88 - 89 ) وقوله { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } ( الفرقان : 59 ) وقوله : { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } ( النمل : 80 ) وقوله : { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) وقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 88 ) وقوله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } ( الصافات : 171 - 173 ) وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( الزمر : 67 ) وقول تعالى : { هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( غافر : 68 ) { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ( غافر : 60 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } ( الشورى : 14 ) { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ( الشورى : 51 ) وقوله تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم } ( الزخرف : 55 ) وقوله : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } ( المجادلة : 1 )
قلت : وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل كقوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } ( البقرة : 29 ) وقوله : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } إلى قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ( فصلت : 9 - 11 ) وقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } ( البقرة : 210 ) وقوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } ( الأنعام : 158 ) وقوله : { وجاء ربك والملك صفا } ( الفجر : 22 ) وقوله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وقوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ( يونس : 14 ) وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الأعراف : 54 ) في غير موضع في القرآن وقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وقوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } ( الإسراء : 16 ) وقوله تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } ( الرعد : 11 ) وقوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } ( الرحمن : 29 ) وقوله تعالى : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } ( القصص : 65 ) وقوه تعالى : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } ( القصص : 62 ) { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين } ( الشعراء : 10 ) { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } ( الأعراف : 22 ) وقوله تعالى : { قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقوله : { سلام قولا من رب رحيم } ( يس : 58 ) وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } ( الزمر : 23 ) وقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } ( الجاثية : 6 ) وقوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } ( المرسلات : 50 ) وقوله : { ومن أصدق من الله حديثا } ( النساء : 87 )
وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك عامة ما أخبر الله به من أفعاله لا سيما المرتبة كقوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ( الضحى : 5 ) وقوله : { فسنيسره لليسرى } ( الليل : 10 ) وقوله : { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } ( الغاشية : 25 - 26 ) وقوله : { إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } ( القيامة : 17 - 19 ) وقوله : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ( الانشقاق : 8 ) وقوله : { أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا } ( عبس : 25 - 26 ) وقوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } ( الروم : 27 ) وقوله { ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين } ( المراسلات : 16 - 17 ) ونحو ذلك
لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول والخلق ليس هو المخلوق وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم وقد قرر هذا في غير هذا الموضع
ثم هؤلاء على قولين : منهم من يقول : إن الفعل قديم لازم للذات لا يتعلق بمشيئته وقدرته ومنهم من يقول : يتعلق بمشيئته وقدرته وإن قيل إن نوعه قديم فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص
وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط من غير تجدد فعل كان هذا بمنزلة من يتأول نصوص الإرادة والحب والبغض والرضا والسخط على أن المتجدد ليس أيضا إلا المخلوقات التي تراد وتحب وترضى وتسخط وكذلك نصوص القول والكلام والحديث ونحو ذلك : على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق لذلك وتأويل الإتيان والمجيء على أن المتجدد ليس إلا مخلوقا من المخلوقات
فهذه التأويلات كلها من نمط واحد ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث
ثم ملاحدة الباطنية يقولون : إن الرسل أرادو إفهام الناس ما يتخيلونه وإن لم يكن مطابقا للخارج ويجعلون ذلك بمنزلة ما يراه النائم فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها كرؤيا يوسف والملك بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها
وأما المسلمون من أهل الكلام النفاة فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها وإما أن يقولوا : ما ندري ما أراد فهم إما في جهل بسيط أو مركب ومدار هؤلاء كلهم على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص
وقد بين أهل الإثبات أن العقل مطابق موافق لما أخبرت به النصوص ودلت عليه لا معارض له لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضة لا حيلة لهم فيها وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات وغير أفعاله ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال لما كان يحتاج أن يقال : الأفعال مفعول ليس هو نفس المفعول ولكن النفاة عندهم أن المخلوقات هي نفس فعل الله ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات فلهذا احتيج إلى البيان
ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط كقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } ( الطلاق : 2 - 3 ) وقوله : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ( آل عمران : 31 ) وقوله : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } ( الأنفال : 29 ) وقوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق : 1 ) وقوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف : 23 - 24 ) وقوله تعالى : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } ( محمد : 28 )
وفي الجملة هذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر

دلالة السنة على أفعال الله تعالى
وكذلك في الأحاديث المستفيضة الصحيحة المتلقاة بالقبول كقوله صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه [ ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ] وقوله : [ أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ] وقوله في حديث الشفاعة : [ إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ] وقوله : [ إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات كجر السلسة على الصفا ] وقوله : [ إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث : أن لا تكلموا في الصلاة ] وقوله في حديث التجلي : [ فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ] وقوله : [ لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته ] وهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأنس وغيرهم
وقوله : [ يضحك الله إلى رجلين أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة ] وفي حديث آخر من يدخل الجنة [ قال : فيضحك الله منه ] وقوله [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ] وفي حديث [ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال : أثنى علي عبدي فإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ] وقوله صلى الله عليه و سلم [ يقول الله تعالى : من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ] وقوله صلى الله عليه و سلم [ ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا شطر الليل أو ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ]
وقوله صلى الله عليه و سلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله فلما أصبح الرجل غدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ] وأنزل الله تبارك وتعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ( الحشر : 9 ) وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين
وفي السنن من حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث الركوب على الدابة قال : فقلت [ يا رسول الله من أي شيء تضحك ؟ قال : ربك يضحك إلى عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي لفظ : [ إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي حديث أبي رزين عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين : أو يضحك الرب ؟ قال نعم فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا ]
وفي الصحيحين وغيرهما - في حديث التجلي الطويل المشهور الذي روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة - فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وفي مسلم من حديث جابر ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وغيره قال في حديث أبي هريرة [ قال : أو لست قد أعطيت العهود والمواثيق : أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ! فيضحك الله تبارك وتعالى منه ثم يأذن له في دخول الجنة ]
وفي صحيح مسلم [ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا ابن آدم أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ فيقول : أي رب أتستهزىء بي وأنت رب العالمين ؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ألا تسألوني : مم ضحكت ؟ فقالوا : مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال : من ضحك رب العالمين حين قال : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إني لا أستهزىء بك ولكني على ما أشاء قادر ]
وفي لصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ]
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه و سلم قال [ عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل ]
وفي حديث معروف : [ لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ]
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أيضا أنه قال : [ الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ] - وفي لفظ : [ مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ]
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]
وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان قاعدا في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس وأما رجل فجلس يعني خلفهم وأما رجل فانطلق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم عن هؤلاء النفر ؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل أوى إلى الله فآواه الله وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الرجل الذي انطلق فأعرض فأعرض الله عنه ]
وعن سلمان الفارسي موقوفا ومرفوعا قال : [ إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه يسأله فيهما خيرا فيردهما صفرا خائبتين ]
وفي الصحيح عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ]
وفي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة : إنا لنكره الموت ؟ قال : ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله وكره الله لقاء ]
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك وسعديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول عز و جل : أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ]
وفي الصحيحين عن أنس قال : أنزل علينا - ثم كان من النسوخ - : أبلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا
وفي حديث [ عمرو بن مالك الرواسي قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله ارض عني قال : فأعرض عني ثلاثا قال : قلت : يا رسول الله إن الرب ليرضى فيرضى فارض عني فرضي عني ]
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ]
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ]
وقال : [ اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ]
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب ذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فيقول : يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ]
وفي الصحيح [ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وفي حديث آخر : [ أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ] وفي الصحيحين عن أنس في حديث الشفاعة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول لي : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ] وذكر مثل هذا ثلاث مرات
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي ؟ قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ]
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن لله ملائكة سيارة فضلا عن كتاب الناس سياحين في الأرض فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم قال : فيجيئون حتى يحفون بهم إلى السماء الدنيا قال : فيقول الله عز و جل : أي شيء تركتم عبادي يصنعون ؟ قال : فيقولون : تركناهم يحمدونك ويسبحونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ قال : فيقولون : لا قال : كيف لو رأوني ؟ قال : فيقولون : لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا قال : فيقول : فأي شيء يطلبون ؟ قالوا يطلبون الجنة قال : فيقول : وهل رأوها ؟ قال : فيقولون : لا قال : فيقول : كيف لو رأوها ؟ قال : فيقولون : لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا قال : فيقول : من أي شيء يتعوذون ؟ قال : فيقولون : يتعوذون من النار قال : فيقول : وهل رأوها ؟ قال : فيقولون : لا قال : فيقول : كيف لو رأوها ؟ قال : فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا وأشد منها هربا قال : فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم قال فيقولون : إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء في حاجة قال : فيقول : هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبه قال : فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ] وقال في البغض مثل ذلك
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال : [ يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت له ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد : أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما جلس قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن رجلا أصاب ذنبا فقال : رب إني قد أصبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال : أي رب إني قد أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ]
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الرؤية قال فيه : [ فيلقى العبد فيقول : أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى يا رب قال : فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا فيقول : إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول : أي فل - فذكر مثل ما قال الأول - ويلقى الثالث فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال : فيقول : فههنا إذن قال : ثم يقال : ألا نبعث شاهدنا عليك ؟ فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان ذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق ] وذكر الحديث
وفي صحيح مسلم [ عن أنس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فضحك قال : هل تدرون مم أضحك ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى قال : فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول : فكفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي بأعماله فتنطق بأعماله قال : ثم يخلي بينه وبين الكلام قال : فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ]
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة : لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم فيقول له : قد أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم : أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك ]
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول : عملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم يارب فيقرره ثم يقول : قد سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم قال : ثم يعطى كتاب حسناته وهو قوله : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } وأما الكفار والمنافقون فينادون : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ]
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني فيقول : يا رب كيف أعدك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول : يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول : أي رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول تبارك وتعالى : أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه ؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟ قال : ويقول : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول : أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه ؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قال : فيقولون : يارب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] وهذا فيه ذكر المخاطبة وذكر الرضوان جميعا
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا من النار : رجل يخرج حبوا فيقول له ربه : ادخل الجنة فيقول : إن الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد : الجنة ملأى فيقول : إن لك مثل الدنيا عشر مرات ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمين بعد العصر : أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب ورجل منع فضل ماء يقول الله اليوم أمنعك من فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ]
وفي صحيح مسلم [ عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يارسول الله ؟ قال : المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ]
وهذا الحديثان فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس كما نفى القرآن مثل ذلك وأما نفي التكليم وحده ففي غير حديث
وهذا الباب في الأحاديث كثير جدا يتعذر استقصاؤه ولكن نبهنا ببعضه على نوعه والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهم من آيات الله والحكمة وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة و [ قال النبي صلى الله عيه وسلم : ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ] وفي رواية : [ ألا إنه مثل القرآن أو أكثر ]
فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر والأمر فخبره موافق لخبر الله وأمره موافق لأمر الله فكما أنه يأمر بما في الكتاب أو بما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فهو أيضا يخبر بما في الكتاب وبما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب : كخلقه ورزقه وعدله وإحسانه وإثابته ومعاقبته ويذكر فيها أنواع كلامه وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده ويذكر فيها ما يذكره من رضاه وسخطه وحبه وبغضه وفرحه وضحكه وغير ذلك من الأمور التي تدخل في هذا الباب
والناس في هذا الباب ثلاثة أقسام :

الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام
الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم يجعلون هذا كله مخلوقا منفصلا عن الله تعالى
والكلابية ومن وافقهم يثبتون ما يثبتون من ذلك : إما قديما بعينه لازما لذات الله وإما مخلوقا منفصلا عنه
وجمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام يقولون : بل هنا قسم ثالث قائم بذات الله متعلق بمشيئته وقدرته كما دلت عليه النصوص الكثيرة
ثم بعض هؤلاء قد يجعلون نوع ذلك حادثا كما تقوله الكرامية وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديما ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد واحد من الأعيان الفانية ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين فإنها مبدعة كانت بعد أن لم تكن ومع هذا فهي باقية دائمة
والفلاسفة تجوز مثل ذلك في دوام النوع دون أشخاصه لكن الدهرية منهم ظنوا أن حركات الأفلاك من هذا الباب وأنها قديمة النوع فاعتقدوا قدمها وليس لهم على ذلك دليل أصلا وعامة ما يحتجون به إبطال قول من لا يفرق بين حدوث النوع وحدوث الشخص ويقولون : إنه يلزم من حدوث الأعيان حدوث نوعها ويقولون : إن ذلك كله حدث من غير تجدد أمر حادث
وهذا القول إذا بطل كان بطلانه أقوى في الحجة على الدهرية في إفساد قولهم وفي صحة ما جاء به الكتاب والسنة كما تقدم بيانه وإن لم يبطل بطل قولهم
فالمعقول الصريح موافق للشرع متابع له كيف ما أدير الأمر وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول وهو المطلوب
ومن المعلوم : أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك وهذا هو المطلوب هنا
ولكن أقواما ادعوا معارضة طائفة من أخباره للمعقول

أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة
وأصل وقوع ذلك في المنتسبين للإسلام والإيمان : أن أقواما من أهل النظر والكلام أرادوا نصرة ما اعتقدوا أنه قوله بما اعتقدوه أنه حجة ورأوا أن تلك الحجة لها لوازم يجب التزامها وتلك اللوازم تنافض كثيرا من أخباره
وهؤلاء غلطوا في المنقول والمعقول جميعا كما اعتقدت المعتزلة وغيرهم من الجهمية نفاة الصفات والأفعال أنه أخبر أن كل ما سوى الذات القديمة المجردة عن الصفات محدث الشخص والنوع جميعا وظنوا أن هذا من التوحيد الذي جاء به واحتجوا على ذلك بما يستلزم حدوث كل ما قامت به صفة وفعل وجعلوا هذا هو الطريق إلا إثبات وجوده ووحدانيته وتصديق رسله فقالوا : إن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يقم به كلام وإنه لا يرى في الآخرة ولا يكون مباينا للخلق ولا بقوم به علم ولا قدرة ولا غيرهما من الصفات ولا فعل من الأفعال لا خلق للعالم ولا استواء ولا غير ذلك فإنه لو قام به فعل أو صفة لكان موصوفا محلا للأعراض ولو قام به فعل يتعلق بمشيئته للزم تعاقب الأفعال ودوام الحوادث وإذا جوزوا دوام النوع الحادث أو قدمه بطل ما احتجوا على ما ظنوا أن الرسول صلى الله عليه و سلم أخبر به
وهم مخطئون في المنقول والمعقول
أما المنقول : فإن الرسول لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعال وأنه : { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الفرقان : 59 )
فمن قال : إن الأفلاك قديمة أزلية فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه و سلم بلا ريب كما أن من قال ( إن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ) فقوله مناقض لقول الرسول وليس مع واحد منهما عقل صريح يدل على قوله بل العقل الصريح مناقض لقوله كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة مثل ما يقال : إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات علم بلا عالم وقدرة بلا قادر وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم والعلم هو القدرة فهذا قول نفاة الصفات
وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث فالحوادث ليست من لوازمه وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث فإذا كان القديم الواجب نفسه أو اللازم للواجب لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث وهذا حقيقة قولهم فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له وهو لازم لعلته وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود إذ الحادث المعين يكون لازما للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء
وإذا قالوا : ( يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة ) قيل : الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث
وإذا قالوا : ( كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول )
قيل لهم : فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه فيكون نوع الحوادث صادرا عن الواجب بنفسه فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم لا الفلك ولا غيره وهو نقيض قولهم
وإذا قالوا : ( نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس وهذان لازمان للعقل وهو لازم للواجب بنفسه )
قيل لهم : فذاته مستلزمة لنوع الحوادث سواء كان بوسط أو بغير وسط والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء لا بوسط ولا بغير وسط سواء كان الحادث نوعا أو شخصا لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها لأن النوع الحادث إنما يوجد شيئا فشيئا والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئا فشيئا فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها فبطل أن يكون العالم صادرا عن علة موجبة له كما بطل وجوبه بنفسه وهو المطلوب
ومما يبين ذلك : أن القديم يستلزم قدم موجبه أو وجوبه بنفسه فإن القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجودا فضلا عن أن يكون قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما ولا يكون موجبا له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضا فيمتنع أن يكوم موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثا لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه الذي هو مقتضاه وأثره وهذا معلوم بالضرورة ومتفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجبا بنفسه إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات ما هو حادث لأن الحادث كان معدوما وهو مفتقر إلى محدث يحدث فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه
فثبت أن في العالم ما ليس بواجب والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه والموجب التام لا يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بد لها من فاعل ليس موجبا بذاته وإذا كان غاية ما يقولون : إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة فعلى هذا التقدير : يمتنع حدوث الحوادث عنه فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره وإلا لزم حدوثها بلا محدث وهذا معلوم الفساد بالضرورة
فتبين أن للحوادث محدثا ليس هو مستلزما لموجبه ومقتضاه فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها أو أن يكون شيئا من معلولاتها وهم يقولون : إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها وكل ما سواها معلول لها وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة
ومن قال : ( إن مجموع أجزاء العالم واجبة أو قديمة ) فقوله معلوم الفساد بالضرورة
ومن قال : ( إن الحوادث صادرة عن جزء منه واجب ) فقوله أيضا معلوم الفساد سواء جعل ذلك الجزء الأفلاك أو بعضها لوجهين :
أحدهما : أن ذلك الجزء الذي هو واجب بغيره إذا كان علة تامة لغيره لزم أيضا قدم معلوله معه فيلزم أن لا يحدث شيء وإن كان ذلك الجزء الواجب ليس هو علة تامة امتنع صدور شيء عن غير علة تامة ولو قدر إمكان الحدوث عن غير علة تامة أمكن حدوث كل ماسوى الله فعلى كل تقدير قولهم باطل
الوجه الثاني : أنه من المعلول أنه ليس شيء من أجزاء العالم مستقلا بالأبداع لغيره من أجزائه وإن قيل : ( إن بعض أجزائه سبب لبعض ) فتأثيره متوقف على سبب آخر وعلى إنتفاء موانع فلا يمكن أن يجعل شيء من أجزاء العالم ربا واجبا بنفسه قديما مبدعا لغيره والحوادث لا بد لها من رب واجب بنفسه قديم مبدع لغيره وليس شيء من أجزاء العالم مما يمكن ذلك فيه فعلم أن الرب تعالى خارج عن العالم وأجزائه وصفاته وهذا كله مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا بيان أنه ليس في المعقول ما يناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
وقد علم أن المدعين لمعقول يناقضه صنفان :
صنف يجوزون عليه وعلى غيره من الرسل فيما أخبروا به عن الله تعالى وبلغوه إلى الأمم عن الله تعالى الكذب عمدا أو خطأ أو أن يظهر نقيض ما يبطن كما يقول ذلك من يقوله من الكفار بالرسل ومن المظهرين لتصديقهم كالمنافقين من المتفلسفة والقرامطة والباطنية ونحوهم ممن يقول بشيء من ذلك
وصنف لا يجوزون عليهم ذلك وهذا هو الذي يقوله المتكلمون المنتسبون إلى الإسلام على اختلاف أصنافهم
والمبتدعة من هؤلاء مخطئون في السمع وفي العقل ففي السمع حيث يقولون على الرسول صلى الله عليه و سلم ما لم يقل عمدا أو خطأ وفي العقل حيث يقررون ذلك بما يظنونه براهين وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة فإن الدليل لازم لمدلوله ولازم الحق لا يكون إلا حقا وأما الباطل فقد يلزمه الحق فلهذا يحتج على الحق بالحق تارة وبالباطل تارة وأما الباطل فلا يحتج عليه إلا بباطل فإن حجته لو كانت حقا لكان الباطل لازما للحق وهذا لا يجوز لأنه يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم فلو كان الباطل مسلتزلما للحق لكان الباطل حقا فإن الحجة الصحيحة لا تستلزم إلا حقا وأما الدعوى الصحيحة : فقد تكون حجتها صحيحية وقد تكون باطلة ومن أعظم ما بنى عليه المتكلمة النافية للأفعال وبعض الصفات أو جميعها أصولهم التي عارضوا بها الكتاب والسنة : هي هذه المسألة وهي نفي قيام ما يشاؤه ويقدر عليه بذاته من أفعاله وغيرها

كلام الرازي و الآمدي عن أدلة النفاة
وقد ذكر أبو عبد الله الرازي - هو و أبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما - أدلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثها نقصا وإن كان نقصا اتصافه بالنقص والله تعالى منزه عن ذلك
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه ونحن نذكر ما ذكره أبو عبد الله ابن الخطيب في ذلك في أجل كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول وذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين ووصفه بصفات تطول
قال : ( وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوفه على مجامع بحث العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين ) قال : ( فإنني قلما تكلمت فيه في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تلخيص النهايات والغايات )
وقال في هذا الكتاب : ( الأصل الثاني عشر وهو ما يستحيل على الله ) قال : ( المسألة الرابعة في أنه يستحيل عليه أن يكوم محلا للحوادث واتفقت الكرامية على تجويز ذلك وأما تجدد الأحوال : فالمعتزلة اختلفوا في تجويزه مثل المدركية والسامعية والمبصرية والمريدية والكارهية وأما أبو الحسين البصري فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته )
قال : ( وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه فإنه يجوزون تجدد الإضافات على ذاته مع أن الإضافة عندهم عرض وجودي وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة )
قلت : أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة : ما يجده في كتب أبي الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم وفي كلام الفلاسفة : ما يجده في كتب ابن سينا و أبي البركات ونحوهما وفي مذهب الأشعري : يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه كتب القاضي أبي بكر وأمثاله وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله وأما كتب القدماء ك أبي الحسن الأشعري و أبي محمد بن كلاب وأمثالهما وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو وقول كثير منهم كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو ؟ قالوا : قال سقراط و أفلاطون وأرسطو : إن الباري لا يعبر عنه إلا بهو فقط وهو الهوية المحضة غير المتكثرة وهي الحكمة المحضة والحق المحض وليست لله صورة مثل الصورة التي تكترث في العنصر وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولا الإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنه ولكن بأنه واحد أزلي ليس باثنين لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود وجعلناه متنايها إلى غيره وقال تاليس و بلاطرخس و لوقيوس وكسيفايس و أنبذقليس جميعا : إن الباري واحد ساكن غير أن أنبذقليس قال : إنه متحرك بنوع سكون كالعقل المتحرك بنوع سكون فذلك جائز لأن العقل إذا كان مبدعا فهو متحرك بنوع سكون فلا محالة أن المبدع متحرك بسكون لأنه علة قالوا : وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون
وقال زينون و ديمقراط وساغوريون : إن الباري متحرك في الحقيقة وإن حركته فوق الذهن فليس زوالا
قالوا : وقال تاليس - وهو أحد أساطين الحكمة - : إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره فأما من جهة هويته : فغير مدرك له صفة من نحو ذاته بل من نحو ذواتنا وكان يقول : أبدع الله العالم لا لحاجة إليه بل لفضله ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن ههنا وجود وكان يقول : إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه
وقال فيثاغورس نحو قال تاليس : لا يدرك من جهة النفس هو فوق الصفات العلوية الروحانية غير مدرك بجوهريته بل من قبل آثاره في كل عالم فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم وهو الواحد الذي رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواته مبدعة مسبوقة مخلوقة
قالوا : وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين غير أنه يجوز لقائل أن يقول : إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات

كلام ابن ملكا
قلت : وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره بل عن القائلين بقدم العالم فقال : ( قال القائلون بالحدوث للقدميين : فإذا كان الله لم يزل جوادا خالقا قديما في الأزل فالحوادث في العالم كيف وجدت ؟ أعن القديم أم عن غيره ؟ فإن قلتم : هو خالقها وعنه صدر وجودها فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث وأراد خلقه بعد أن لم يرد وإن قلتم : إن غيره فعل الحوادث فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته )
قال : ( فقال القدميون : بل الخالق الأول الواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث وحده لا شريك له في وجوده وخلقه وملكه وأمره وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين : فمنهم من قال : إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئا بعد شيء أراد فخلق وخلق فأراد أوجب خلقه إرادته وأوجب إرادته خلقه مثال ذلك : أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده وأراد بوجود الأب وجود الابن أراد فجاد وجاد فأراد إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود فإذا قلتم : لم أوجد ؟ قيل : لأنه أراد فجاد ولم أراد ؟ قيل : لأنه أوجد فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضا من وجوده السابق واللاحق
فإن قالوا : كيف تحدث له الإرادة ؟ وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن ؟ وكيف يكون محل الحوادث ؟ قيل : وكيف يكوم محلا لغير الحوادث ؟ أعني الإرادة القديمة
فإن قيل : لإنها له منه قيل : والإرادات له منه
فإن قيل : الإرادة القديمة له في قدمه قيل : والحديثة له في قدمه لأن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجب عنده إرادة لاحقة فأحدث خلقا بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته وهكذا هلم جرا )
قال : ( والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الأرادة القديمة في كونه محلا لها لكنه لا وجه لهذا التنزيه كما سنتكلم عليه في فصل العلم إذا قلنا في علمه : لم يعلم ؟ وكيف يعلم ؟
قال : ( فهذا أحد المذهبين ) قال : ( وأما المذهب الآخر : فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه فله سبب يوجب حدوثه وذلك السبب حادث أيضا حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة ) وساق تمام قول هؤلاء وهو قول أرسطو وأتباعه
وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك وإن كان لهم في المادة أقوال أخر وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات حذرا من التغير والتكثر في ذاته وذكر حجة أرسطو وابن سينا ونقضها
وقال : ( فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات فجوابه المحقق : أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافاته ومناسباته وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته )
قال : ( ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا مدركاته وإضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي ( لا معنى في نفس الذات وذلك مما لم تطبله الحجة ولم يمنعه البرهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى )
وتكلم على قول أرسطو إذ قال : من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة فقال أبو البركات : ( ما قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم : فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة وفي بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول : إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية )
قال : ( وهذا محال فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه ؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيهما أبدا وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها : كما قال : إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم التغيرات النفسانية ايضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات فالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة )
وبسط الكلام في مسألة العلم وقال - لما ذكر القولين المتقدمين - : ( والقائلون بالحدوث قالوا : إنه لا يحتاج إلى هذا التمحل وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه بل نقول : بأن المبدىء المعيد خلق العالم وأحدثها بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه )
وقال : ( وقيل في جوابهم : إن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا معقول يجعله مقصودا في العلم القديم عند الإرادة القديمة حيث أراده في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم لا لأن الله لا يقدر على علمه لكن لأنه في نفسه غير مقدرور عليه ثم ما الذي يقولونه في حدوث العالم : من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي ويحسن إلى المحسن ويسيء إلى المسيء ويقبل توبة التائب ويغفر للمستغفر هل يكون ذلك عنه أو لا يكون ؟ فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك الشرع الذي قصدهم نصرته وأبطلوا حكم أوامره ونواهيه وكل ما جاء لأجله من الحث على الطاعة والنهي عن المعصية وإن قالوا : يكون ذلك بأسره عنه فهل هو بإرادة أم بغير إرادة ؟ وكونه بغير إرادة أشنع وإن كان بإرادة فهل هي إرادة قديمة أم محدثة ؟ فإن كانت قديمة فالإرادات القديمة غير واحدة وما أظنهم يقولون : إن المرادات الكثيرة صدرت عن إرادة واحدة
قال : ( وإن قالوا : إن ذلك يصدر عنه بإرادات حادثة فقد قالوا بما هربوا منه أولا )

تعليق ابن تيمية
قلت : فأبو البركات لاستبعاد عقله أن تصدر المرادات الكثيرة عن إرادة واحدة ظن أن هؤلاء لا يقولون به وهم يقولون به فإن هذا قول ابن كلاب و الأشعري ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف يقولون : إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضا واحد بالعين ثم تنازع القائلون بهذا الأصل : هل كلامه معنى فقط والقرآن العربي ليس هو كلامه أو كلامه الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره وهي قديمة العين ؟ على قولين
ومن القائلين بقدم أعيان الحروف والأصوات من لا يقول هي واحدة بل يقول : هي متعددة وإن كانت لا نهاية لها ويقول بثبوت حروف أو حروف ومعان لا نهاية لها في آن واحد وأنها لم تزل ولا تزال وهذا مما أوجب قول القائلين بأن كلام الله مخلوق وأنه ليس له كلام قائم بذاته لما رأوا أن ما ليس بمخلوق فهو قديم العين والثاني ممتنع عندهم فتعين الأول
وأولئك الصنفان قالوا : والأول ممتنع فتعين الثاني وهؤلاء إنما قالوا هذه الأقوال لظنهم أنه يمتنع أن تقوم به الأمور الاختيارية : لا كلام باختياره ولا غير كلام كما قد بين في موضعه
وهذا الأصل هو القول بقيام الحوادث به هو قول هشام بن الحكم و هشام الجواليقي و ابن مالك الحضرمي و علي بن الهيثم وأتباعهم وطوائف من متقدمي أهل الكلام والفقه كأبي معاذ التومني و زهير الأثري و داود الأصبهاني وغيرهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وقال ( وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق - كنحو عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن قال : إنه محدث كنحو زهير الأثري - يعني و داود الأصبهاني - ومن قال : إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون : إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )
وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعا على ذلك

كلام آخر للرازي
والمقصود هنا أن نبين غاية حجة النفاة فإنه بعد أن ذكر الخلاف قال : ( والمعتمد أن نقول : كل ما صح قيامه بالباري تعالى : فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثا وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية عن صفة الكمال والخالي عن الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص والنقص على الله محال بإجماع الأمة وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الله بأسرها صفات كمال فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وإنه غير جائز )
قال : ( وهذا ما نعول عليه وإنه مركب من السمع والعقل )
قال : ( والذي عول عليه أصحابنا أنه لو صح اتصافه بالحوادث لوجب اتصافه بالحوادث أو بأضادها في الأزل وذلك يوجب اتصافه بالحوادث في الأزل وإنه محال )
وقال : ( وهذا الدلالة مبنية على أن القابل للضدين يستحيل خلوه عنهما وقد عرفت فساده )
قال : ( ومن أصحابنا من أورد هذه الدلالة على وجه لا يحتاج في تقريرها إلى البناء على ذلك الأصل وهو أنه لو كان قابلا للحوادث لكان قابلا لها في الأزل وكون الشيء قابلا للشيء فرع عن إمكان وجود المقبول فيلزم صحة حدوث الحوادث في الأزل وهو محال )
قال : ( إلا أن ذلك معارض بأن الله قادر في الأزل ولا يلزم من أزلية قادريته صحة أزلية المقدور فكذلك ههنا )
قال : ( ومنهم من قال : لو كانت الحوادث قائمة به لتغير وهو محال )
قال : ( وهذا ضعيف لأنه إن فسر التغير بقيام الحوادث به اتحد اللازم والملزوم وإن فسر بغيره امتنع إثبات الشرطية )
قال : ( وأما المعتزلة فجلهم تمسكوا بأن المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول ذلك الموصوف فيه والباري تعالى ليس في الجهة فامتنع قيام الصفة به )
قال : ( وقد عرفت ضعف هذه الطريقة )
قال : ( ومشايخهم استدلوا بأن الجوهر إنما يصح قيام المعاني الحادثة به لكونه متحيزا بدليل أن العرض لما لم يكن متحيزا لم يصح قيام هذه المعاني به )
قال : ( وإنه باطل لاحتمال أن يقال : إن الجوهر إنما صح قيام الحوادث به لا لكونه متحيزا بل لأمر آخر مشترك بينه وبين الباري تعالى وغير مشترك بينه وبين العرض سلمنا ذلك إلا أنه من المحتمل أن يكون الجوهر يقبل الحوادث لكونه متحيزا والله تعالى يقبلها لوصف آخر لصحة تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة )
قال : ( واستدلوا أيضا بأنه لو صح قيام حادث به لصح قيام كل حادث به )
قال : ( وهذه دعوى لا يمكن إقامة البرهان عليها )
قال : ( فهذه عيون ما تمسكت به الناس في هذه المسألة )

تعليق ابن تيمية
قلت : أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله إليهم واختلف كلامه في تكفيرهم وإن كان هو قد استقر أمره على أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة لا لهم ولا للمعتزلة ولا لأمثالهم وهذه المسألة من أشهر المسائل التي ينازعهم فيها ومع هذا قد ذكر أن قولهم يلزم أكثر الطوائف وذكر أنه ليس لمخالفيهم عليهم حجة صحيحة إلا الحجة التي احتج هو بها وهي من أضعف الحجج كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وأما الحجج التي يحتج بها الكلابية والمعتزلة فقد بين هو فسادها مع أنه قد استوعب حجج النفاة والذي ذكره هو مجموع ما يوجد في كتب الناس مفرقا ونحن نوضح ذلك :
فأما الحجة الأولى - وهي : ( أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ) فهذه الحجة مبنية على مقدمتين وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف من المسلمين :
أما الأولى - وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده - فأكثر العقلاء على خلافها والنزاع فيها بين طوائف الفقهاء والنظار ومن الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة كأصحاب احمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم ومن قال ذلك التزم أن يكون لكل جسم طعم ولون وريح وغير ذلك من أنواع الأعراض ولا دليل لأصحابها عليها
و أبو المعالي في كتابه المشهور الذي سماه الأرشاد إلى قواطع الأدلة لم يذكر على ذلك حجة بل هذه المقدمة احتاج إليها في مسألة حدوث العالم لما أرد أن يبين أن الجسم لا يخل من كل جنس من أجناس الأعراض عن عرض منه فأحال على كلامه مع الكرامية ولما تكلم مع الكرامية في هذه المسألة أحال على كلامه في مسألة حدوث العالم مع الفلاسفة ولم يذكر دليلا عقليا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وإنما احتج على الكرامية بتناقضهم
ومضمون ما اعتمد عليه من قال : ( إن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده ) أن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة : الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فتقاس بقية الأعراض عليها واحتجوا بأن القابل لها لا يخلو عنها وعن ضدها بعد الاتصاف كما سلمته الكرامية فكذلك قبل الاتصاف
فأجابهم من خالفهم - كالرازي وغيره - بأن الأولى قياس محض بغير جامع فإذا قدر أن الجسم يستلزم نوعا من أنواع الأعراض فمن أين يجب أن يستلزم بقية الأنواع ؟ وأيضا فإن الذي يسلمونه لهم الحركة والسكون والسكون : هل وجود أو عدم ؟ فيه قولان معروفان وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد ومن قال : ( إن الأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة ) - وهم أكثر الطوائف - لم يقل بأن الجسم لا يخل من الاجتماع والافتراق بل الجسم البسيط عنده واحد سواء قبل الافتراق أو لم يقبله وكذلك إذا قدر أن فيه حقائق مختلفة متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الاجتماع والافتراق
وأما كونه لا يخلو عنهما بعد الاتصاف فأجابوا عنه بمنع ذلك في الأعراض التي لا تقبل البقاء كالحركات والأصوات وأما ما يقبل البقاء فهو مبني على أن الباقي هل يفتقر زواله إلى ضد أم لا ؟ فمن قال : ( إن الباقي لا يفتقر زواله إلى ضد ) أمكنه أن يقول بجواز الخلو عن الاتصاف بالحادث بعد قيامه بدون ضد يزيله ومن قال : ( لا يزول إلا بضد ) قال : إن الحادث لا يزول إلا بضد حادث فإن الحادث بعد الحدوث لا يخلو المحل منه ومن ضده بناء على هذا الأصل فإن كان هذا الأصل صحيحيا ثبت الفرق وإن كان باطلا منع الفرق وتناقضهم يدل على فساد أحد قوليهم
ثم القائلون بموجب هذا الأصل طوائف كثيرون بل أكثر الناس على هذا فلا يلزم من تناقض الكرامية تناقض غيرهم
وأما المقدمة الثانية - ( وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ) - فهذه قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم وقالوا : التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلان بل لا يمكن حدوث شيء من الحوادث لا العالم ولا شيء من أجزاء العالم إلا بناء على هذا الأصل فمن لم يجوز ذلك لزمه حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كما قد بسط هذا في مسألة حدوث العالم وبين أنه لا بد من تسلسل الحوادث أو الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بالحدوث بلا سبب حادث يلزمهم الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بقدم العالم يلزمهم الترجيح بلا مرجح ويلزمهم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا أفسد من حدوثها بلا سبب حادث
والطوائف أيضا متنازعة في هذا الأصل وجمهور الفلاسفة وجمهور أهل الحديث لا يمنعون ذلك وأما أهل الكلام : فللمعتزلة فيه قولان وللأشعرية فيه قولان
وأما الحجة الثانية - وهي أنه ( لو كان قابلا لها لكان قابلا لها في الأزل وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال - فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث ولا يلزم من كون القدرية أزلية أن يكون إمكان المقدور أزليا
قلت : ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى :
أحدها : أنه لا يسلم أنه إذا كان قابلا لحدوث الحادث أن يكون قابلا له في الأزل إلا إذا أمكن وجود ذلك في الأزل فإنه إذا قيل : ( هو قابل لما يمتنع أن يكون أزليا ) كان بمنزلة أن يقال : هو قادر على ما يمتنع أن يكون أزليا فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون ( يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ) والكلام في هذا مشترك بين كونه قادرا وقابلا فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث - كالكلابية وأمثالهم من المعتزلة والكرامية - كان كلامه في هذا بمنزلة كلامه في هذا ومن قال : ( إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث ) - كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون : إ : نه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته ولم يزل كذلك أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره كما يشترك في هذه الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم - فقولهم في هذا كقولهم في هذا
الوجه الثاني : أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل كما يلتزم من يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الأصل قولين معروفين فإن ما لا يتناهى من الحوادث : هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعا ؟ على ثلاثة أقوال معروفة قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم
الوجه الثالث : أن يجاب بجواب مركب فيقال : هو قابل لما هو قادر عليه فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكنا كان قابلا لذلك في الأزل وقادرا عليه في الأزل وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكنا في الأزل كان قابلا للممكن من ذلك كما هو قادر على الممكن من ذلك
الوجه الرابع : أن يقال : كونه قابلا أو ليس بقابل : هو نظر في محل هذه الأمور وليس نظرا في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات - كالعلم والقدرة - هو نظر في إمكان اتصافه بذلك فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أن ما بقي وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل : فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى
الجواب الخامس : أن يقال : هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة بخلاف الصفات اللازمة له فإنها ليست مقدورة فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالا كان وجود هذا المقبول في الأزل محالا لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات وإذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالا في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودها فيما لا يزال كسائر الحوادث ولم يزل من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل
الجواب السادس : أن يقال : أنتم تقولون : ( إنه قادر في الأزل ) مع امتناع وجود المقدور في الأزل وتقولون : ( إنه قادر في الأزل على ما لا يزال ) فإن كان هذا الكلام صحيحا أمكن أن يقال في المقبول كذلك ويقال : هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل وهو قابل في الأزل لما لا يزال وإن كان هذا الكلام باطلا لزم إمكان وجود المقدور في الأزل وإما امتناع كونه قادرا في الأزل وعلى التقديرين : يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم : ( تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول )
الجواب السابع : أن يقال : أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما فيقال لكم : إن كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما - أي على تحققهما معا في زمن واحد كما أقتضاه كلامكم - بطل فرقكم وهو قولكم ( بأن تقدم القدرة على المقدور واجب ) فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور مع وجوب تقدم القدرة على المقدور وهكذا تقولون ( الإرادة قديمة مع امتناع وجود المراد في الأزل ) وتقولون : ( الخطاب قديم مع امتناع وجود المخاطب في الأزل ) فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئنين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين دون الآخر أمكن أن يقال : إن القابلية متحققة في الأزل مع امتناع تحقق المقبول في الأزل كما قال كثير من الناس : إن التكوين ثابت في الأزل مع امتناع وجود المكون في الأزل
وأما الحجة الثالثة - وهو أن قيام الحوادث به تغير والله منزه عن التغير - فهذه هي التي اعتمد عليها الشهرستاني في نهاية الإقدام ولم يحتج بغيرها
وقد أجاب الرازي وغيره عن ذلك بأن لفظ ( التغير ) مجمل فإن الشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أو تحركت الرياح أو تحركت الأشجار والدواب من الأناسي وغيرهم فهل يسمى هذا تغيرا أولا يسمى تغيرا ؟ فإن سمي تغيرا كان المعنى أنه إذا تحرك المتحرك فقد تحرك وإذا تغير بهذا التفسير فقد تغير وإذا قامت به الحوادث - كالحركة ونحوها - فقد قامت به الحوادث فهذا معنى قوله : ( إن فسر بذلك فقد اتحد اللازم والملزوم )
فيقال : وما الدليل على امتناع هذا المعنى ؟ وإن سماه المسمى تغيرا وإن كان هذا لا يسمى تغيرا بل المراد بالتغير غير مجرد قيام الحوادث مثل أن يعني بالتغير الاستحالة في الصفات كما يقال : تغير المريض وتغيرت البلاد وتغير الناس ونحو ذلك فلا دليل على أنه يلزم من الحركة ونحوها من الحوادث مثل هذا التغير ولا ريب أن التغير المعروف في اللغة هو المعنى الثاني فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا كانت جارية في السماء - : إن هذا تغير وإنها تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأن القرآن ويصلي الخمس : إنه كلما قرأ وصلى قد تغير وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال فإذا تغيرت صفته وعاداته قيل : إنه قد تغير
وحينئذ فمن قال : ( إنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء ) لم يسم أفعاله تغيرا ومن قال : ( إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما وفعل بعد أن لم يكن فاعلا ) فإنه يلزم من قال : ( إن الكلام والفعل يقوم به ) ما يلزم من قال : ( إن الكلام والفعل يقوم بغيره ) والقول في أحد النوعين كالقول في الآخر وإذا قدر أن النزاع لفظي فلا بد من دليل سمعي أو عقلي يجوز أحدهما ويمنع الآخر وإلا فلا يجوز التفريق بين المتماثلين بمجرد الدعوى أو بمجرد إطلاق لفظي من غير أن يكون ذلك اللفظ مما يدل على ذلك المعنى في كلام المعصوم فأما إذا كان اللفظ في كلام المعصوم - وهو كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل الإجماع - وعلم مراده بذلك اللفظ فإنه يجب مراعاة مدلول ذلك اللفظ ولا يجوز مخالفة قول المعصوم وإطلاق التغير على الأفعال كإطلاق لفظ ( الغير ) على الصفات وإطلاق لفظ ( الجسم ) على الذات وكل هذه الألفاظ فيها إجمال واشتباه وإبهام ومذهب السلف والأئمة : أنهم لا يطلقون لفظ ( الغير ) على الصفات لا نفيا ولا إثباتا فلا يطلقون القول بأنها غيره ولا بأنها ليست غيره إذ اللفظ مجمل فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيرا وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر فهي غير وهكذا ما كان من هذا الباب
و إذا كان هذا كلامهم في لفظ ( الغير ) فلفظ ( التغير ) مشتق منه ومن تأمل كلام فحول النظر في هذه المسألة علم أن الرازي قد استوعب ما ذكروه وأن النفاة ليست معهم حجة عقلية تثبت على السبر وإنما غايتهم إلزام التناقض لمن يخالفهم من المعتزلة والكرامية والفلاسفة
ومن المعلوم أن تناقض المنازع يستلزم فساد أحد قوليه لا يستلزم فساد قوله بعينه الذي هو مورد النزاع ولهذا كان من ذم أهل الكلام المحدث من أهل العلم لأنهم يصفونهم بهذا ويقولون : يقابلون فاسدا بفاسد وأكثر كلامهم في إبداء مناقضات الخصوم
وأيضا فغير ذلك الخصم لا يلتزم مقالته التي ناقض به المورد النزاع كما في هذه المسألة فإنه وإن كانت الكرامية قد تناقضوا فيها فلم يتناقض فيها غيرهم من الأئمة والسلف وأهل الحديث وغيرهم من طوائف أهل النظر والكلام
وقد قال أبو القاسم الأنصاري - شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي - في شرح الإرشاد : ( أجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم )

أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه
وهو كما قال : فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكا سديدا لا عقليا ولا سمعيا واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه : الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه :
أحدهما : في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات : الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال : ( وأما الأصل الثالث - وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده لا كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه )
قال : ( وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الاعراض والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة والأعراض تسمى الصورة )
قال : ( وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان وجوزوا الخلو عما عداها وقال الكعبي ومتبعوه : يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العرو عن الألوان )
قال : ( وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة
ومما يوضح ذلك : أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها إلا عن افتراق سابق إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلا العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع وغرضنا في ورم إثبات حدث العالم يتضح بالأكوان )
قلت : أثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون وأما الأجتماع والافتراق فهو مبني على إثبات الجوهر الفرد والنزاع فيه كثير مشهور فإن من ينفيه لا يقول : إن الجسم مركب منه ولا إن الجوهر كانت متفرقة فاجتمعت والذين يثبتونه أيضا لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت فإنه لا دليل على أن السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها ولهذا قال في الدليل : ( فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة ) وهذا كلام صحيح لكن الشأن في أثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت وهذا التقدير غير معلوم بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسملين وغيرهم
ثم قال أبو المعالي : ( وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين : إحداهما : الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها فنقول : كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به على زعمهم فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون إن كان يجوز الخلو من الألوان وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض )
قلت : مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بيهما : أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده فلهذا لم يخل منهما : فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل القياس وإلا منع الحكم في الأصل وقيل : بل يجوز خلوه بعد الإتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية فلا تثبت بها دعوى كلية ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر ؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر ؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن يخلفه كراهية وبغضه ؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته ؟
قال : ( ونقول أيضا : الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى : أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوزا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارىء للحوادث )
قلت : فلقائل أن يقول : هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة : إنكم إذا جوزتم ذلك يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث
فيقال : إما أن يكون هذا لازما وإما أن لا يكون لازما : فإذا كان لازما دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك ولا دليل له أيضا فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلا لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعا فكيف مع ظهور النزاع ؟ وإن لم يكن لازما لهم لم يكن حجة عليهم
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده
الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب :
( فصل ) مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله : قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث والرب يتقدس عن قبول الحوادث )
قال : ( وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها فقالوا : القول الحادث يقوم بذات الرب وهو غير قائل به وإنما يقول بالقائلية والقائلية عندهم القدرة على التكلم وحقيقة أصلهم : أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد ولذلك وصفوه بكونه خالقا في الأزل ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا )
قال : ( والدليل على بطلان ما قالوه : أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع )
قال : ( ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض على تفصيل لهم أشرنا إليه وإثباته أحكاما متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم ويصدهم أيضا عن طرد دليل في هذه المسألة : إنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات )
هذا كلامه ولقائل أن يقول : قوله : ( الدليل على بطلان ما قالوه : أنه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر ) هو لم يذكر دليلا هناك إلا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده وهو ليس حجة علمية عقلية بل غايته : احتجاج بموافقة منازعة في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والنسة وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضا عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية ؟
وقد أجابه المنازعون بجواب مركب وهو إما الفرق - إن صح - وألا منع حكم الاصل
وأيضا فأنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال وسموا ذلك تقديسا له عن الاعراض والحوادث وقد ذكر أبوالمعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث وانه يلزمهم نقيض ذلك أما الأول : فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده وأما لزوم هذا القول لهم : فلإ ثباتهم أحكاما متجددة للرب وأنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث : لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة وأنه لادليل لهم على نفي ذلك وهو أيضا لم يذكر دليلا لموافقيه على نفي ذلك
فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك
قال : ( ونقول للكرامية : مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض إذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات )
قال : ( ثم نقول لهم : إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب ؟
وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث ومما يلزمهم : تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلا )
قال : ( ونقول لهم : قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب ؟ ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه )
قلت : ولقائل أن يقول : هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لإثبات الظن في الفروع فضلا عن إثبات يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة فإن غاية هذا الكلام - إن صح - أن الكرامية تناقضوا وقالوا قولا ولم يلتزموا بلوازمه
فيقال : إن كان ما ذكره لازما لزمهم الخطأ : إما في إثبات الملزوم وإما في نفي اللزم ولم يتعين الخطأ في أحدهما فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم ؟ فإن أقام على ذلك دليلا عقليا كان هو حجة كافية في المسألة وإلا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم وإن لم يكن ما ذكره لازما لهم لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلا في مورد النزاع
ثم يقال : أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي : هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف ؟ كالنزاع في أمثال ذلك وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملا وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك - كانت هذه أمورا اصطلاحية لفظية لغوية لا معاني عقلية والمرجح في إطلاق الألفاظ - نفيا وإثباتا - إلى ما جاءت به الشريعة فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحا
وما ألزمهم إياه في الشاهد : فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله كالقيام والقعود والذهاب والمجيء فلا يسمون ذلك صفات وإن قامت بالمحل وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول والإرادة التي تعرض له وتزول قد لا يسمون ذلك صفة له وإنما يصفونه بما كان ثابتا له كالخلق الثابت
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية لا عقلية وليس هذا موضعها
وأما قيام الأكوان به على التعاقب وقيام ما أحالوا قيامه به فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما توصفوه به وبين ما منعوه فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها فكذلك هؤلاء يقولون فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين
ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس فمن الناس من طرد القياس ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين ومنهم من فرق بين إدراك اللمس وإدراك الشم والذوق لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين
فإذا قال المعتزلة البصريون و القاضي أبو بكر و أبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة : يلزمكم طرد القياس لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين ولم يكن هذا دليلا على إبطال اتصافه بالسمع والبصر كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به كما فعله هؤلاء ومن وافقهم ك القاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية : يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به كما قلتم في الرؤية كانوا أيضا على طريقين : منهم من يذكر الفرق ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره لمجيء النصوص بذلك دون غيره
قال أبو المعالي في إرشاده : ( فإن قيل : قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعا بصيرا والسمع والبصر إدراكان ثم ثبت شاهدا إدراكات سواهما : إدراك يتعلق بقبيل الطعوم وإدراك يتعلق بقبيل الروائح وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفة بكونه سميعا بصيرا
قلنا : الصحيح المقطوع به عندنا : وجوب وصفه بأحكام الإدراك إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب وصفه بحكم السمع والبصر فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا : فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات والرب يتعالى عنها وهي لا تنبىء عن حقائق الإدراكات فإن الإنسان يقول : شممت تفاحة فلم أدرك ريحها ولو كان الشم دالا على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل : أدركت ريحها ولم أدركه وكذلك القول في الذوق واللمس )
قلت : ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقلت : وأما تعاقب الحوادث : فهم نفوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك
وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما لأن عدم ذلك يستلزم النقص لعموم تعلق العلم والقدرة بخلاف الإرادة والكلام فإنه لا عموم لهما فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق لا يتكلم بكل شيء ولا يريد إلا مايسبق علمه به لا يريد كل شيء بخلاف العلم والقدرة فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير
وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا فقالوا : إن له إرادة حادثة وكلاما حادثا ولم يقولوا : له عالمية حادثة وقادرية حادثة فالسؤال على الفريقين جميعا فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده كما دل على ذلك ظاهر النصوص وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف ك أبي الحسين البصري و أبي البركات وغيرهم وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله ومثل جهم والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه
وقيام الأكوان به نفوه لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة وهم يقولون : المتصف بالأكوان لا يخلو منها وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه وقال : ( نفرض الكلام في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإذا كان من المعلوم بالضرورة : أن القابل للأكوان لا يخلو عنها فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث ويقولون : ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل الإلزام وصح فرقهم وإن لم يكن هذا الفرق صحيحا لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم بل يقول القائل : كلاكما مخطىء حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها
ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلا لها وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم وهم يدعون أنه ليس قابلا لها كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية
فإذا قال المعترض عليهم : يجب على أصلهم أن يكون قابلا لها لأنهم يصفونه بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم قيل : هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية : يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلما وقدرة : أن يكون متحيزا لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز ويقولون : إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسما
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة : قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير وليس بمحيز ولا جسم فإذا عقلنا موجودا حيا عليما قديرا ليس بجسم عقلنا حياة وعلما وقدرة لا تقوم بجسم قالوا : وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع
قالت الكرامية لهؤلاء : قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه ويراهم بعد أن يخلقهم ويغضب عليهم إذا عصوه ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل ويكلم موسى حين أتى الوادي ويحاسب خلقه يوم القيامة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص لم يلزمنا مع ذلك أن تجوز عليه حدوث الأكوان
ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض وآخر منتهاهم : حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام لاأكوان به أو الأعراض ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا : إنه جهل وإن حكم أهله ( أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات : هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك ويتوهم أن يمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله وأن الطع في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول ولهذا قال من قال من الأئمة : ( قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام ) بل قالوا : ( علماء الكلام زنادقة )
ولهذا قيل : إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو : ترتيب الأصول في تكذيب الرسول ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا يردون به نصوص الكتاب والسنة ويقولون : إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله : لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا لميكمن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار

قول الرازي في الأربعين
ومقصودنا بحكاية هذا الكلام : أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة وبين فسادها وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف
وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضا فقال في الأربعين : ( المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك وينكرون سائر الطوائف وقيل : أكثر العقلاء يقولون به وإن أنكروه باللسان فإن أبا علي و أبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا : إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل ويكره بكراهة حادثة لا في محل إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث و أبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوما متجددة بحسب تجدد المعلومات والأشعرية يثبتون نسخ الحكم مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود ويقولون : إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه يسقع وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع ويقولون : بأن قدرته تتعلق بإجاد المعين وإذا وجد انقطع ذلك التعلق لامتناع إيجاد الموجود وكذا تعلق الإرادة بترجيح المعين وأيضا المعدوم لا يكوم مرئيا ولا مسموعا وعند الوجود يكون مرئيا ومسموعا فهذه التعلقات حادثة
فإن التزام جاهل كون المعدوم مرئيا ومسموعا قلنا : الله تعالى يرى المعدوم معدوما لا موجودا وعند وجوده يراه موجودا لا معدوما لأن رؤية الموجود معدوما أو بالعكس غلط وأنه يوجب ما ذكرنا والفلاسفة - مع بعدهم عن هذا - يقولون بأن الإضافات - وهي القبلية والبعدية والمعية - موجودة في الأعين فيكون الله مع كل حادث وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته و أبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة وعلوم محدثة في ذاته تعالى زاعما بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه إلها لهذا العالم إلا مع هذا القول ثم قال : ( الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب )
قال الرازي : ( واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور وهو إضافة مخصوصة بينهما وإما إضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيرا في الذات ولا في صفة حقيقية منها فنقول : تغير الإضافات لا محيص عنه وأما تغير الصفات الحقيقية : فالكرامية يثبتونه وغيرهم ينكرونه فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم لا نسمي ذلك صفة ولا نقول : إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية كما تقدم )
ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه :
( أحدها : أن صفاته صفات كمال فحدوثها يوجب نقصانه يعني قبل حدوثها والإضافات لا وجود لها في الأعيان دفعا للتسلسل فلا يرد نقصا )
ولقائل أن يقل : هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه والمنازع لا يسمي ذلك صفة وإن وصف الموصوف بنوع ذلك فليس لك فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم يحيث يكون عدمها في الأزل نقصا وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصا بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده كالحوداث المنفصلة فليس عدم كل شيء نقصا عما عدم منه
وأيضا فالحوادث لا يمكن وجودها إلا متعاقبة وقدمها ممتنع وكان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصا والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها وهذا فيه قولان مشهوران فالمنازع قد يختار جوازه لا سيما من يقول : إن الرب لم يزل فاعلا متكلما إذا شاء
( الثاني : لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازمها وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلا لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما لكن وجود الحوادث في الأزل محال ولا يلزم علينا القدرة الأزلية لأن تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث لا صحة أزلية وجود الحوادث وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث والفرق المذكور - إن صح - أغنى عن الدليل السابق وإلا نفى النقص وأيضا إذا صح الفرق مع أن الدليل المذكور ينفيه لزم بطلان الدليل )
قلت : فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه :
أحدها : الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه وبيان أنه فرق فاسد لكن يقال : إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل وكلاهما يبطل الدليل أو يقال : ما كان جوابا لكم عن المقدور كان جوابا لنا عن المقبول أو يقال : إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين : إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل وإن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعا وحينئذ فإذا جاز أن يقال : هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال : هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول
وقول الأرموي : والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق وإلا بقي النقص قد يقال : أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وقد يقال : عنى به الفرق بين القادر والقابل فإن أراد الأول كان معنى كلامه : إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلا لها في الأزل وتكون صحتها أزلية أي لم تزل ممكنة صحيحة مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزليا ويقولون : صحة الجواز وإمكانها أزلي لا متناع انقلابها من الامتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع أزليتها
وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة و الرازي وغيرهما في جواب من قال بأن إمكان وجود المقدورات لا أصل له فقالوا : نحن نقول : إمكان الحوادث لا بداية لها ونقول الشيء المعين بشرط كونه حادثا لا بداية لأزليته ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل لأن كونه حادثا مع كونه أزليا ممتنع
وهذا الفرق عند التحقيق باطل فإنه مسلتلزم للجمع بين النقيضين فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقا بالعدم
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكنا وأن صحته وإمكانه أزليته كان معناه أن ما كان مسبوقا بالعدم يمكن أن يكون أزليا والأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثا يمكن أن يكون قديما وما يجب كونه مسبوقا بالعدم يجوز أن يكون أزليا غير مسبوق بالعدم وهذا جمع بين النقيضين
فإذا قيل : الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث ؟
قيل : بل هو حادث فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته وهذا الممتنع لا يكون قط ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه فكان إمكان حدوثه ممكنا كوجود الولد المشروط بوجود والده فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجودا قبل وجود فلان والممتنع لذاته لا يكون مقدورا وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعا فإن الجميع حاصل بمسيئة الرب وقدرته وهو سبحانه بما يحدث بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجودا فيجعل ما لم يكن ممكنا مقدورا يصير ممكنا مقدورا وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود شرح مراد الأرموي فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة الأزلية وأزلية الصحة كان معنى كلامه : إن صح هذا الفرق بطل الدليل فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله : ( إن هذا الفرق إن صح إنى عن الدليل السابق ) بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر فهذا الفرق يغني عن الدليل وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر
الوجه الثاني : أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة والمقبول لا يجب ذلك فيه كان هذا وحده دليلا على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلا له وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحا وإن لم يكن صحيحا صح النقض به
الثالث : أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعا وينفي الفرق - لزم بطلان الدليل فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضه وكلاهما مبطل له وهذا بين
قال الرازي : ( الثالث قول الخليل : { لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 67 ) يدل على أن المتغير لا يكون إلها )
ولقائل أن يقول : إن كان الخليل صلى الله عليه و سلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة وهو مما يعلم من اللغة اضطرارا وهو حين بزغ قال : ( هذا ربي ) فإذا كان من حين يزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك وإنما جعل المنافي الأفول وإن كان الخليل صلى الله عليه و سلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ ربا يشرك به ويدعى من دون الله فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم أو لا لهم ولا عليهم
قال الرازي : ( واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع والبصر صفات حادثة ولا بد لها من محل وهو ذاته تعالى ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية والقدم لا يعتبر في المقتضى فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي فالمقتضى هو كونها صفات والحوادث كذلك فليلزم قيامها به )
قال : ( والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم : إنه عدمي فإنه عبارة عن نفي العدم السابق ونفي النفي ثبوت ؟ )
قلت : ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة وإنما الغرض بيان : هل في العقل ما يعارض النصوص ؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور
وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث وامتناع تسلسلها فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث : لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض لأن ذلك دور فإذا قال القائل : الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة قيل له : دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفا على صحته وذلك دور فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبينا على انتفاء حلول الحوادث فلا يكون لهم حجة على ذلك
فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة فإنه ليس معهم شيء من السمع وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلا عقليا على قيامها به أو إمكان قيامها به احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي فلا بد للنفاة من هذا وهذا بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم أن يقولا السمع دل على ذلك ولم يقيموا دليلا عقليا خاليا عن المعارض المقاوم ينفي ذلك فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع يل يكفيهم إبطال ما يعارضه وإذا أقاموا دليلا عقليا فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها بل تكفيهم المعارضة فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب
فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي وإبطال ما يعارضه مما احتاج إليه المثبتة بل يكفيهم منع مقدمات المعارض فإن أبطلوها فقد زادوا وتكفيهم الممعارضة بالعقليات فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل
وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات وهم قد قدحوا في أدلة النفاة فيتم كلامهم
وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسلفة وغيرهم فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة وطعن النفاة في أدلة بعض حتى متكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم متنازوعون في ذلك قد عرف
وأيضا فإن المثبتين يقلون : كونه قادرا على الفعل بنفسه صفه كمال كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أنا لأول أكمل كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما وأمثال ذلك ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها : إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل
وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها ومن لا يفعل حادثا أصلا لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال شهد صريح العقل بأن الأول أكمل فإن الثاني ينفي قدرتهوفعله للجميع لئلا يعدم البعض في الأزل والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل فذاك ينفي الجميع حذرا من فوت البعض والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض ففوت البعض لازم على التقديرين وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني
وأيضا فهم يقولون : كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون كلامه فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه لا إلى غيره فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو كلاما كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به فإذا خلق كلاما في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل لا كلامه فإذا خلق في الشجرة : { إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاما للشجرة فتكون هي القائلة : ( إني أنا الله رب العالمين ) وهذا باطل فيتعين أن يقوم به الكلام وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل فتعين أن يكون متكلما بقدرته ومشيئته كلاما يقوم بذاته وكذلك في مجيئة وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك إن قدرنا هذه أمورا منفصلة عنه : لزم أن لا يوصف بها وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته : لزم عجزه وتفضيل غيره عليه فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به التي يفعلها بمشيئته وقدرته وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم : لا تحله الحوادث كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم : لا تحله الأعراض
وأيضا فإن ما به تثبت الصفات القائمة به تثبت الأفعال القائمة به التي تحصل بقدرته واختياره ونحو ذلك وذلك أنه يقال : العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس وهذه صفات نقص والله منزه عن ذلك فيجب اتصافه بصفات الكمال ويقال : كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصا فالواجب الوجود أولى به من كل موجود وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع
فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية : هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني إلا أن يكون المحل قابلا لهما فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا أعمى ولا بصير
أجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة :
مثل أن يقال : هذا اصطلاح لكم وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات
ومثل أن يقال : فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها ويتصف بالناقص منها فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها وذلك نقص ممتنع كما تقدم والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك
فإذا قال النافي : ( إنما يلزم اتصفاه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكنا فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال : هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها )
فيقال : هذا نزاع لفظي كما تقدم ويقال أيضا : فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصا
فإن قال النافي : لو جاز ان يفعل أفعالا تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلا للحوادث وما قبل الشيء لا يخل عنه وعن ضده فيلزم تعاقبها وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها
قيل لهم : هذا مبني على مقدمتين : على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده وعلى امتناع دوام الحوادث وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم
ثم قبل العلم بفساده يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية أبين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئا لا العالم ولا غيره والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم وإثبات الصانع لا يتم إلا بها وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم وإثبات الصانع بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث إلا بنقيضها ولا يمكن إثبات خلق الله لما خلقه تصديق رسله فيما أخبروا به عنه إلا بنقيضها فما جعلوه أصلا ودليلا على صحة المعقول والمنقول هو مناف مناقض للمنقول والمعقول كما قد بسط في غير هذا الموضع
وأيضا فإن هؤلاء النفاة يقولون : لم يكن الرب تعالى قادرا على الفعل فصار قادرا وكان الفعل ممتنعا فصار ممكنا من غير تجدد شيء أصلا يوجب القدرة والإمكان وهذا معنى قول القائل : إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهذا مما تجزم العقول ببطلانه مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب
ومن اعتذر منهم عن ذلك - مثل كثير منهم - قالوا : إن الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه
قيل لهم : الأزل ليس هو شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد حتى يقال : إنه تجدد أمر أوجب ذلك بل الأزل كالأبد فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل فالأزل هو الدوام في الماضي فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت فالأزل لا يختص بوقت دون وقت فالأزلي هو : الذي لم يزل كائنا والأبدي هو : الذي لا يزال كائنا وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى فقول القائل : ( شرط قدرته انتفاء الأزل ) كقول نظيره : ( شرط قدرته انتفاء الأبد )
فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في كونه تعالى لا يقدر في الأبد على الأفعال فكذلك قول من قال : لا يقدر في الأزل على الأفعال وقول أبي الهذيل : ( إنه تعالى لا يقدر على أفعال حادثة في الأبد ) يشبه قول من قال : ( لا يقدر على أفعاله حادثة في الأزل ) وقد بسط الكلام على هذا وقول من يفرق بين النوعين في غير هذا الموضع

الاستدلال على النفي والرد عليه
وقد استدل بعضهم عل النفي بدليل آخر فقال : إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن حقيقته كافية في حصولها أولا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وهذا يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا هذا خلف وحينئذ يلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة
والمثبتون يجيبون عن هذا بوجوه :
أحدها : أن هذا إنما يقال فيما كان لازما لذاته في النفي أو الإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله تعالى ولا يكون إذا لم يشأه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن بين المستدل أنه لا يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته كان هذا وحده كافيا في المسألة وإن لم يبين ذلك لم يكن فيما ذكره حجة
الثاني : أن يقال : إن هذا منقوض بأفعاله فإن حقيقته كافية في حصولها ولا لزام افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا فما كان جوابا عن الأفعال كان جوابا للمثبتين القائلين : إنه يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ومن جوز أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بمحض القدرة والمشيئة القديمة قال هنا كذلك كما يقول الكرامية ومن قال : ( إنه لم يزل يفعل ويتكلم إذا شاء ) قال هنا كذلك كما يقولوه من يقوله من أئمة السنة والحديث
الثالث : أن يقال : أتعني بقولك ( ذاته كافية ) أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل ؟ أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده ؟ فإن عنيت الأول انتقض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما عدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذ كان مالا تكفي فيه الذات يفتقر إلى سبب منفصل وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذ كان مما تكفي الذات يمكن تأخره
الرابع : ان يقال : قولك ( يفتقر إلى سبب منفصل ) تعني به شيئا يكون من فعل الله تعالى أو شيئا لا يكون من فعله ؟ أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب فهو فاعلها وفاعل ما يحدث بها فلا يكون مفتقرا إلى غيره وأما إن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل مالا يكفي فيه الذات فلا يستلزم وجوده في الأزل ألا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مخلوقاته ومعلوم أن هذا خلاف إجماع أهل الإيمان بل خلاف إجماعه جماهير العقلاء وهو خلاف المعقول الصريح أيضا فإن ذلك الشريك المقدر إن كان واجب الوجود بنفسه إلها آخر لزم إثبات خالق قديم مع الله مشارك له في فعله لا يفعل إلا به وهذا مع أنه لم يقل به أحد من بني آدم فهو باطل في نفسه لأنه يستلزم افتقار كل من الفاعلين إلى الآخر فإن التقدير في هذا المشترك هو أن أحدهما لا يستقل به بل يحتاج إلى معاونة الآخر وما احتاج إلى معاونة الآخر كان فقيرا إلى غيره ليس بغني وكان عاجزا ليس بقادر فإن كان هذا دليلا على انتفاء الوجوب بطل دليلك وإن لم يكن دليلا بطل دليلك أيضا فإنه مبني عليه وإن كان ذلك الشريك المقدر ليس واجب الوجود بنفسه فهو ممكن لا يوجد إلا بالواجب نفسه فلزم أن يكو من مفعولاته
الجواب الخامس : أن يقال قول المحتج : ( كل ما يفرض له فإما أن تكون ذاته كافية في ثبوت حصوله أو لا تكفي في حصوله وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل ) كلام باطل وذلك أنه يقال : لا نسلم أن مالا يكون مجرد الذات كافية في ثبوته أو انتفائه يفتقر فيه إلى سبب منفصل وإنما يلزم ذلك أن لو لم تكن الذات قادرة على ما يتصل بها من الأفعال فإذا كانت قادرة على ذلك أمكن أن يكون ما يتجدد له من الثبوت موقوفا على ما يقوم بها من مقدوراتها فليس مجرد الذات مقتضية لذلك ولا افتقرات إلى سبب منفصل وذلك أن لفظ ( الذات ) فيه إجمال واشتباه وبسبب الإجمال في ذلك وقعت شبهة في مسائل الصفات والأفعال ؟ فإنه يقال له : ما تريد بذاته ؟ أتريد به الذات المجردة عما يقوم بها من مقدوراتها ومرادتها ؟ أم تعني به الذات القادرة على ما تريده مما يقوم لها ومما لا يقوم بها ؟
فإن أرادت به الأول كان التلازم صحيحا فإنه إذا قدر ذات لا يقوم بها شيء من ذلك كان ما يثبت لها وما ينفي عنها إن لم تكن هي كافية فيه وإلا افتقرت إلى سبب منفصل لأنه لا يقوم بها ما تقدر عليه وتريده لكن يقال : ثبوت التلازم ليس بحجة إن لم تكن الذات في نفس الأمر كذلك وكون الذات في نفس الأمر كذلك هو رأس المسألة ومحل النزاع فلا يكون الدليل صحيحا حتى يثبت المطلوب ولو ثبت المطلوب لم يحتج إلى الدليل فتكون قد صادرت على المطلوب حيث جعلته مقدمة إثبات نفسه وهذا باطل بصريح العقل واتفاق أهل العارفين بذلك
وإن أردت بذات النوع الثاني لم يصح التلازم فإنه إذا قدر ذات تقدر على أن تفعل الأفعال التي تختارها وتقوم بها لم يلزم أن يكون ما يتجدد من تلك الأفعال موقوفا على سبب منفصل ولا يكون مجرد الذات بدون ما يتجدد من مقدورها ومرادها كافيا في كل فرد من ذلك بل قد يكون الفعل الثاني لا يوجد إلا بالأول والأول بما قبله وهلم جرا فليس مجرد الذات بدون ما تجدده كافيا في حصول المتأخرات ولا هي مفتقرة في ذلك إلى أمور منفصلة عنها فلفظ ( الذات ) قد يراد به الذات بما يقوم بها وقد يراد به الذات المجردة عما يقوم بها
فإذا قيل ( هل الذات كافية ) إن أريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الإثبات وإذا قدرت تقديرا فهي لا تكفي في إثبات ما يثبت لها وإن أريد به الذات المنعوتة فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها ونظير هذا قول نفاة الصفات : إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة ؟ فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات وأما الذات الموصوفة بصفاته القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات قادرة على ما تشاؤه من الأفعال فهي لا تكون إلا موصوفة لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها حتى يقال : هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها ؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك
فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل خلق السماوات والأرض وبعد إقامة القيامة وفيما بين ذلك لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الإكرام والجلال فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل هذه الأفعال وبعدها
وكان أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها فهو ايضا ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها ومن آياته الشمس والقمر والكواكب وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة ثم زيد عليها النور ودوام الحركة فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه والمخلوقات إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل فلا يوجد شيء من ذاته وصفاتها وأفعالها إلا بأمر منفصل عنها وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل الذي هو مفتقر إليه فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى وإذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سببا لأفعال تقوم بنفسه كما يخلق الطاعات التي ترضيه والتوبة التي يفرح بها والدعاء الذي يجيب سائله وأمثال ذلك من الأمور فليس هو في شيء من ذلك مفتقرا إلى ما سواه بل هو سبحانه الخالق للجميع وكل ما سواه مفتقر إليه وهو الغني عن كل ما سواه وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض كإنزال المطر بالسحاب وإنبات النبات بالماء لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة إذ هو خالق هذا وهذا وجاعل هذا سببا لهذا وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان
الجواب السادس : أن يقال : قولهم إن لم يكن ذاته كافية في حصولها لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا تمنع فيه المقدمة الأولى التلازمية التي هي شرطية متصلة وذلك أن الذات إن لم تكن كافية في حصولها إنما يلزم افتقار ذلك الحادث إلى سبب منفصل لا يلزم افتقار نفس الذات إلى سبب منفصل فإن المحتج يقول : كل صفة تفرض فذاته كافيه في حصولها أو لا حصولها لأنه لو لم يكن كذلك لزم افتقاره إلى سبب منفصل
فيقال له : بتقدير أن لا تكون الذات كافية في نفي تلك الصفة أو ثبوتها يلزم أن يكون نفيها أن إثباته موقوفا عل أمر غير الذات وأما كون الذات تكون موقوفة على ذلك الغير فهذا ليس بلازم من هذا التقدير إلا أن يتبين أنه إذا كان شيء من الأمور التي توصف بها من السلب والإيجاب موقوفا على الغير وجب أن يكون هو نفسه موقوفا على الغير وهو لم يبين ذلك
ومن المعلوم أن القائلين بهذا يقولون : إن ما يتجدد من الأمور القائمة به فهو موقوف على مشيئته وقدرته وذاته ليست موقوفة على مشيئته وقدرته ويقولون : إنه يجوز أن يقف ذلك على ما يحدثه هو من الحوادث بمشيئته وقدرته وهو في نفسه ليس موقوفا على ما يحدثه من الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته وليس في الوجود موجود سواه وسوى مخلوقاته حتى يقال إن تلك الأمور موقوفة عليه بل غاية ما يمكن أن يقال إنها موقوفة على مشيئته وقدرته أو توابع مشيئته وقدرته وأصحاب هذا القول يقولون ذلك وتكون تلك الأمور موقوفة على ذلك لا يقتضي أن يكون هو نفسه موقوفا على ذلك ولكن هذا المحتج إن لم يقرر مقدمات حجته لم تكم حجته صحيحة وحجته مبنية على أنه لو لم تكف ذاته في حصول ما ينفي ويثبت للزم افتقاره إلى غيره وإنما يلزم افتقار تلك المنفيات والمثبتات إلى ذلك الغير فإن هذا بين فإن لم يبن أن افتقار تلك الأمور إلى الغير مستلزم لافتقاره وإلا لم تكن حجة صحيحة لا سيما وتلك الأمور على هذا التقدير ليست من لوازم ذاته فإنها لو كانت من لوازم ذاته كانت ذاته كافية فيها ولوازم الذات متى افتقرت إلى الغير لزم افتقار الذات إلى الغير فإن الملزوم لا يوجد إلا باللازم واللازم لا يوجد إلا بذلك الغير فالملزوم لا يوجد إلا بذلك الغير ولكن ذلك الغير لا يجب أن يكون فاعلا أو علة فاعلة بل يجوز أن يكو شرطا ملازما
وقد بين في غير هذا الموضع أن نفس ذات الواجب إذا قيل : هي ملازمة لصفاته الواجبة له أو صفاته الواجبة له ملازمة لذاته أو كل من الصفات الواجبة ملازم للأخرى كان هذا حقا وهو متضمن أن تحقيق كل من ذلك مشروط بتحقق الآخر
وأما كون الرب تعالى مفتقر إلى شيء مباين له غنى عنه فهذا ممتنع فإنه سبحانه الغني عن كل شيء فإذا قدر أن بعض لوازمه توقف على ما هو مباين له لم يكن وجوده ثابتا إلا بوجود ذلك المباين وكان الله مفتقرا إليه والله غني عن كل شيء وأما إذا لم يكن الأمر من لوازم ذاته بل كان من الأمور العارضة فلا ريب أن أهل الإيمان والسنة يقولون إن الله لا يفتقر في شيء من الأشياء إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله سواء قام بذاته أو لم يقم بذاته ولكن هو بنفسه غني عن كل ماسواه ولا يقال إنه نفسه غني عن نفسه وليس في كونه مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته فاعلا لجميع أفعاله لم يكن شيء مما وجد بغيره بل جميع ما وجد فلا يخرج من ذاته وصفاته وأفعاله فلا يتصور أن يكون مفتقرا إلى غير نفسه المقدسة سبحانه وتعالى
ولكن المقصود أن هذا المحتج إذا قال له المعترض : ما المانع أن تكون هذه الأمور العارضة موقوفة على غير مع كون الحق واجب بذاته ؟ لم يكن فيما ذكر حجة بل ذكر أن تلك الأمور إذا لم تكن من لوازم ذاته بحيث تكون مجرد الذات كافيه فيها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل واللازم إنما هو افتقار تلك الأمور إلى سبب منفصل فإن بين أن ما يقوم بالواجب يمتنع أن يكون موقوفا على سبب منفصل تمت حجته وإلا فلا ولا يمكن أن يقيم حجه إلا على أنه لا يقف على ما هو مستغن عن الواجب بنفسه وهذا حق وأما كونه لا يقف على ما هو مفتقر إلى الواجب فهذا لا يمكن إقامة الدلالة عليه
الوجه السابع : أن يقال : قولك بأن عواض ذاته لا يتوقف على الغير يستلزم أن عواض ذاته يتوقف على الغير وإذا كان تقدير ثبوته مستلزما لانتفائه دل على أن تقدير ثبوته مستلزم لجمع بين النقيضين فلا يكون ثابتا وإن شئت قلت : قولك لا تقوم به الحوادث مستلزم لقيام الحوادث به فيلزم الجمع بين النقيضين وإن شئت قلت : قولك لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته يستلزم نقيض ذلك فيكون باطلا وهذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا في أول المسألة وذلك لأن هذا العالم المشهود إما أن يكون واجبا بذاته أو ممكنا فإن كان واجبا بذاته فمن المعلوم قيام الحوادث به فيلزم قيامها بالواجب بذاته
وأيضا فمن المعلوم أن ما يقوم ببعض الأفلاك من الحوادث ليست ذاته كافيه له بل هو موقوف على غيره فيكون ما يقوم بالواجب بنفسه موقوفا على غيره وإن كان هذا العالم ممكنا وهو الحق فلا بد له من واجب فذلك الواجب إما أن يكون علة تامة مستلزمة في الأزل لجميع معلولاته أو لا والأول باطل لأنه لو كان كذلك لم يتأخر شيء من معلولاته والثاني يقتضي أنه فعل بعد أن لم يكن فعل وذلك يقتضي تجدد فاعلية فأما أن يكون تجدد ذلك مستلزما لكون متجدداته توجب افتقار ذاته إلى غيره أو لا فإن لم تكن بطلت الحجة وإن استلزم ذلك ثبت افتقار ما يتجدد بذاته إلى غيره فلو قيل : إن الواجب لا تقوم بذاته هذه الأمور للزم أن تقوم بذاته هذه الأمور فيلزم الجمع بين النقيضين وإن قيل : تجدد الفاعلية لا يستلزم قيام شيء به بل تجددت من غير حدوث شيء أصلا قيل : فكذلك ما يتجدد من الأمور القائمة بذاته ممكن حينئذ تجدده من غير حدوث شيء اصلا بطريق الأولى وإن شئت أن تكون هذه معارضة ودليلا في رأس المسألة ونقول : ما يتجدد من مفعولاته هل يتقضي أفتقار ذاته إلى غيره أما لا ؟ فإن قيل لا يقتضي فكذلك ما يتجدد من أفعاله القائمة به وإلا فلا وهذا لأن نفاة الأمور القائمة به منهم من يقول حدثت الحوادث المباينة له من غير تجدد شيء أصلا كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة والكلابية وغيرهم ومنهم من يقول : بل ما زالت الحوادث تحدث مع كونه مستلزما لجميع مفعولاته كما تقول ذلك الدهرية الفلاسفة والدهرية منهم من يقول : : إن العالم واجب الوجود بنفسه ومنهم من يقول : إن الأول علة غائية له وكل من هذه الأقوال يلزمه من التناقض ما يبين به أنه لا يمكنه إبطال القول بقيام مراداته ومحبوابته بذاته

معارضة بعض المتكلمين للرازي
وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف فقال : المراد بالحادث : الموجود الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة أما ما لا يوصف بالوجود - كالأعدام المتجددة والأحوال عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول : إنها وجودية - فلا يصدق عليها اسم الحادث وإن صدق عليها اسم المتجدد فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث
قال : وما قاله الإمام - يعني الرازي - في هذا المقام إن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور فليس كذلك لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي متجددة لا محدثة والمتجدد أعم من الحادث فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص
قلت : ولقائل أن يقول : هذا ضعيف من وجوه :

الرد عليهم من وجوه الوجه الأول
أن الدليل الذي استدلوا به على نفي الحوادث ينفي المتجددات أيضا كقولهم : إما أن يكون كمالا أو نقصا وقولهم : لو حصل ذلك لزم التغير وقولهم : إما أن تكون ذاته كافية فيه أو لا تكون وقولهم : كونه قابلا له في الأزل يستلزم إمكان ثبوته في الأزل فإنه لا يمكن أن يحصل في الأزل لا متجدد ولا حادث ولا يوصف الله بصفة نقص سواء كان متجددا أو حادثا وكذلك التغير لا فرق بين أن يكون بحادث أو متجدد فإن قالوا : تجدد المتجددات ليس تغيرا قال أولئك : وحدوث الحركات الحادثة ليس تغيرا فإن قالوا : ( بل هذا يسمى تغيرا ) منعوهم الفرق وإن سلموه كان النزاع لفظيا وإذا كان استدلالهم ينفي القسمين لزم إما فساده وإما النقض

الوجه الثاني
أن يقال : تسمية هذا متجددا وهذا حادثا فرق لفظي لا معنوي ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه سبحانه وتعالى أنه محل للحوادث ولا محل للأعراض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة التي يفهم منها معنى باطل فإن الناس يفهمون من هذا أن يحدث في ذاته ما سمونه هم حادثا كالعيوب والآفات والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى وإذا قيل : فلان ولي على الأحداث أو تنازع أهل القبلة في أهل الأحداث فالمراد بذلك : الأفعال المحرمة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطريق والله أجل وأعظم من أن يخطر بقلوب المؤمنين قيام القبائح به والمقصود أن تفرقة المفرق بين المتجدد والحادث أمر لفظي لا معنى عقلي ولو عكسه عاكس فسمى هذا متجددا وهذا حادثا لكان كلامه من جنس كلامه

الوجه الثالث
أن دعوى المدعي أن الجمهور إنما يلزمهم تجدد الإضافات والأحوال والأعدام لا تجدد الحادث الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة دعوى ممنوعة لم يقم عليها دليلا بل الدليل يدل على أن أولئك الطوائف يلزمهم قيام أمور وجودية حادث بذاته مثال ذلك سبحانه وتعالى يسمع ويرى ما يخلقه من الأصوات والمرئيات
وقد أخبر القرآن بحدوث ذلك في مثل قوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وقوله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ( يونس : 14 ) وقد أخبر بسمعه ورؤيته في مواضع كثيرة كقوله لموسى وهارون : { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) وقوله : { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } ( الشعراء : 218 - 219 ) وقوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ( المجادلة : 1 )
وفي الصحيح [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ] ومثل هذا كثير
فيقال لهؤلاء : أنتم معترفون وسائر العقلاء بما هو معلوم بصريح العقل أن المعدوم لا يرى موجودا قبل وجوده فإذا وجد فرآه موجودا وسمع كلامه فهل حصل أمر وجودي لم يكن قبل أو لم يحصل شيء ؟
فإن قيل : لم يحصل أمر وجودي وكان قبل أن يخلق لا يراه فيكون بعد خلقه لا يراه أيضا وإن قيل : حصل أمر وجودي فذلك الوجودي إما أن يقوم بذات الرب وإما أن يقوم بغيره فإن قام بغيره لزم أن يكون غير الله هو الذي رآه وإن قام بذاته علم أنه قام به رؤية ذلك الموجود الذي وجد كما قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وما سموه إضافات وأحوالا وتعلقات وغير ذلك
يقال لهم : هذه أمور موجوده أو ليست موجودة ؟ فإن لم تكن موجودة فلا فرق بين حاله قبل أن يرى ويسمع وبعد أن يرى ويسمع فإن العدم المستمر لا يوجب كونه صار رائيا سامعا وإن قلتم : بل هي أمور وجودية فقد أقررتم بأن رؤية الشيء المعين لم تكن حاصلة ثم صارت حاصلة بذاته وهي أمر وجودي
والمتفلسفة لا يقتصر في إلزامهم على تجدد الإضافات بل يلزمون بكونه محدثا للحوادث المتجددة شيئا فشيئا والإحداث هو من مقولة أن يفعل وأن يفعل : أحد المقولات العشر وهي أمور وجودية
فيقال : كونه فاعلا لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلا لها إما أن يكون أمرا حادثا وإما أن لا يكون حدث كونه فاعلا فإن لم يحدث كونه فاعلا فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها فيلزم أن لا يحدث شيء أو يحدث بلا محدث وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا : الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة بلا أمر تجدد فكيف تقولون : هي دائما تفعل الحوادث شيئا بعد شيء من غير أن يحدث لها أمر ؟
وأيضا فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث إن كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة وهذا باطل وذلك يبطل قولهم وإن قالوا : بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد أن لم تكن فاعلة وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل هي إحدى المقولات العشر التي هي الأجناس العالية المسماة عندهم بقاطيغورياس وهي كلها وجودية فيلزم اتصاف الرب بقيام الأمور الوجودية به شيئا بعد شيء كما أختاره كثير من سلفهم وخلفهم
وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الرازي من إلزام الطوائف شيئا بعد شيء لمن تصور ذلك تصورا تاما وكل من قال : ( لم يحدث شيء موجود ) فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصورا تاما
وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم إياه من الإضافات بأن قالوا : الإضافات لا توجد إلا كذلك فلا يتصور فيه الكمال قبلها ولأنها تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال بل في متبوعها
قلت : ولقائل أن يقول : هذا بعينه يقوله المثبتون فإن الكلام إنما هو في الحوادث المتعلقة بمشئيته وقدرته ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل : فإذا قال القائل : ( الإضافات لا توجد إلا حادثة ) قيل له : والحوادث المعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد لا حادثة
وأما قوله : ( الإضافة تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال ) فعنه جوابان : أحدهما : أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع فإن صح الفرق ظل الدليل وإن لم يصح انتقض الدليل فيبطل على التقديرين
الثاني : أن يقال : وهكذا ما يتعلق بمشيئته وتقدرته هو تابع أيضا فلا يثبت فيه الكمال
يوضح ذلك : أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال لا وزر أن يكون شيء من الكمال الأزلي إلا وهو متصف به في أزله كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك وإنما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل

طريقة الأئمة في مسألة القرآن
ومما يبين لك أن الرازي وأمثاله كانوا يعتقدون ضعف هذه المسألة - مع فرط رغبتهم في إبطال قول الكرمية إذا أمكنهم - أنه لم يعتمد على ذلك في مسألة كلام الله تعالى في أجل كتبه نهاية العقول ومسأل الكلام هي من أجل ما يبنى على هذا الأصل
وذلك أن الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل و أبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد و كأبي المعالي الجويني وأمثاله و أبي القاسم الرواسي و أبي سعيد المتولي وغيرهم من أصحاب الشافعي و القاضي أبي الوليد الباجي و أبي بكر الطرطوشي و القاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك و كأبي منصور الماتريدي و ميمون النسفي وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا : لو كان القرآن مخلوقا للزم أن يخلقه : إما في ذاته أو في محل غيره أو أن يكون قائما بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر والأول : يستلزم أن يكون الله محلا لحوادث والثاني : يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه فلا يكون ذلك الكلام كلام الله كسائر الصفات إذا خلقها في محل كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك والثالث : يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها وهذا ممتنع
فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة إلى هذا التقسيم

قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه
وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه وأنه كان يقول بقولهم وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته وأن قوله من جنس قول ابن كلاب وليس الأمر كذلك فإن عبدالعزيز ـ هذا ـ له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث
وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] وقوله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [ الزخرف : 3 ] قال : ( فقال بشر : يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع ما مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره ؟ فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال )
وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل - إلى أن قال : ( فقال عبد العزيز : يا بشر تسألني أم أسألك ؟ فقال بشر : سل أنت وطمع في وجميع أصحابه ! وتوهموا أني إذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره )
قال عبدالعزيز : ( فقلت : يا بشر تقول : إن كلام الله مخلوق ؟ قال : أقول : إن كلام الله مخلوق ) قال : ( فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها : أن تقول : إن الله خلق القرآن - وهو عندي أناكلامه - في نفسه أو خلقه قائما بذاته ونفسه أو خلقه في غيره فقل ما عندك قال بشر : أقول : إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها قال عبد العزيز : فقلت : يا أمير المؤمنين تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة وأنا أقول معه بخلق القرأن فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع عن الكلام فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلى عينا في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيخدعه عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح دمه
قال : فأقبل عليه المأمون فقال : أجب عبد العزيز عما سألك عنه فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه فقال بشر : قد أجبته ولكنه يتعنت فقال المأمون : يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث فقال : هذا أشد طلبا من مطالبته بنص التنزيل ما عندي غير ما أجبته به
قال : فأقبل على المأمون فقال : يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة
فقلت : نعم سألته عن كلام الله تعالى : أمخلوق هو ؟ قال : نعم فقلت له ما يلزمه في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لا بد منها : أن يقول إن الله خلق كلامه في نفسه أو خلقه في غيره أو خلقه قائما بذاته ونفسه فإن قال ( إن الله خلق كلامه في نفسه ) فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك عز و جل وتعظم !
وإن قال : ( خلقه الله في غيره ) فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز و جل لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل كلامه كلاما لله ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذمه قائله : كلاما لله عز و جل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله تعالى الله عن ذلك !
وإن قال :
( خلقه قائما بنفسه وذاته ) فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قدير ولا يرى ولا رئي كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته وهذا مما لا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا علم أنه صفة لله وصفات الله كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر
فقال المأمون : أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر : سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء
فقلت : أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها قال : سل قال عبد العزيز : فقلت لبشر : ألست تقول : إن الله كان ولا شيء وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا ؟ قال : بلى فقلت : فبأي شيء حدثت الأشياء بعد أن لم تكن شيئا ؟ أهي أحدثت نفسها أم الله أحدثها ؟ فقال : الله أحدثها فقلت له : فبأي شيء حدثت الأشياء إذ أحدثها الله ؟ قال : أحدثها بقدرته التي لم تزل قلت له : إنه أحدثها بقدرته كما ذكرت أفليس تقول : إنه لم يزل قادرا ؟ قال : بلى قلت له : فتقول : إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا أقول هذا قلت له : فلا بد أن يلزمك أن تقول : أنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله فقال بشر : ويلزمك أنت أيضا أن تقول : إن الله لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله قال عبد العزيز : فقلت لبشر : ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إني لم أقل : ( إنه لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ) ليلزمني ما قلت وفي نسخة أخرى : ( وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة الله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) قال بشر : أنا أقول إنه أحدث أشياء بقدرته فقل ما شئت فقال عبد العزيز : فقلت : يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئا بقدرته وقلت أنا : إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله خلق بقول قاله أو بإرادة أرادها أو بقدرة قدرها فبأي ذلك كان فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل اللخق متقدما فليس هو من الخلق في شيء فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول ) ثم ذكر حجة أخرى
والمقصود هنا : أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول فإن الله تعالى إذا خلق شيئا فإما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو يخلقه قائما بنفسه وقد أبطل الأقسام الثلاثة
ولا ريب أن المعتزلة يقولون : إنه خلقه في غيره فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها أهل السنة وهو أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله فإن كان مخلوقا في محل آخر غيره لزم أن يكون كل كلام مخلوق في محل كلام الله لتماثلهما بالنسبة إلى الله ويلزم أن يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله فإذا قالوا : { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم } ( فصلت : 21 ) كان الناطق هو المنطق وبشر لم يكن من القدرية بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق أفعال العباد فألزمه عبد العزيز أن يكون كلام كل مخلوق كلام الله حتى قول الكفر والفحش وهذا الإلزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص و الفتوحات المكية ونحوه وقالوا :
( وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه )
ولهذا قال من قال من السلف : من قال : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ( طه : 14 ) مخلوق فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون الذي قال : { أنا ربكم الأعلى } ( النازعات : 24 ) لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة وذلك خلقه في فرعون فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله
كما قال سليمان بن داود الهاشمي - أحد أئمة الإسلام نظير الشافعي و أحمد و إسحاق و أبي عبيد و أبي بكر بن أبي شيبة وأمثالهم - قال : ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال : { أنا ربكم الأعلى } من هذا ؟ وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وكذلك ذكر نظير هذا عبد الله بن المبارك و عبد الله بن إدريس و يحيى بن سعيد القطان وهذا مبني على أن الله خالق أفعال العباد فإذا كان قد خلق في محل : ( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني ) وخلق في محل : ( أنا ربكم الأعلى ) كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام أولى بالعقاب من فرعون وإذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله
وأما كونه خلقه قائما بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضا لأن الصفات لا تقوم بنفسها ولكن الجهمية تقول : خلق علما لا في محل والبصريون من المعتزلة يقولون : خلق إرادة وقدرة لا في محل وطائفة منهم يقولون : خلق بخلق بعد خلق لا في محل وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل
وأما القسم الأول - وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه - فأبطله عبد العزيز أيضا لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين :
أحدهما : أن يقال : أحدث في نفسه بقدرته كلاما بعد أن لم يكن متكلما وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقولون : كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى وأن الله تكلم بعد أن لم يكن يتكلم أصلا وأن الله يمتنع ان يقال في حقه : ما زال متكلما وهذا مما أنكره الإمام أحمد وغيره
والثاني : أن يقال : لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قاله الأئمة وكل من هاتين الطائفتين لا تقول : ( إن ما في نفس الله مخلوق ) بل المخلوق عندهم لا يكون إلا منفصلا عن نفس الله تعالى وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق
ولا ريب أن بشرا وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون : إنه خلق منفصلا عنه كما خلق غيره من المخلوقات فأما نفس خلق الرب عند من يقول الخلق غير المخلوق - وهم الأكثرون - فلا يقولون : إن الخلق مخلوق ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الإرادات أو الإدراكات لم يقل : إن ذلك مخلوق فإنه إذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق
ولهذا كان من يقول : ( إن كلام الله قائم بذاته ) متفقين على أن كلام الله غير مخلوق ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال : هل يقال : إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة كما يقوله ابن كلاب و الأشعري ؟
أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة كما يذكره عن ابن سالم وطائفة
أو يقال : بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلما كما يقوله ابن كرام وطائفة
أو يقال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة ؟
والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقا سواء كان حادثا أو قديما
وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر فإن بشرا من أئمة الجهمية نفاة الصفات وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة لا فعل ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة بل ما ثم عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين :
إحداهما : أنه إذا كان كلام الله مخلوقا ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائما بنفسه : لزم أن يكون مخلوقا في نفس الله وهذا باطل
الثانية : إن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات : إما القدرة - كما أقر به بشر - وإما فعله وأمره وإرادته - كما قاله عبد العزيز - وعلى التقديرين : ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق فبطل أصل قول بشر والجهمية : إنه ليس لله صفة وإن كل ماسوى الذات المجردة فهو مخلوق وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن
يبقى كلام أهل الإثبات فيما يقوم بذاته : هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا ؟ وهل عبد العزيز ممن يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشئيته وقدرته أو ممن يقول : لا يكون المراد المقدور إلا منفصلا عنه مخلوقا ؟ ويجعل المقدور هو المخلوق وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم إيراده
وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب و الأشعري ومن وافقهما من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و مالك و أحمد وغيرهم
والقول الأول : هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة كأبي معاذ التومني و زهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم
فقد يقول القائل : إن عبد العزيز موافق لابن كلاب لأنه قال : إن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه لكن إذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول : قول أهل الحديث لأنه قال بعد هذا لبشر : بأي شيء حدثت الأشياء ؟ قال : أحدثها الله بقدرته التي لم تزل قال عبد العزيز : فقلت له : إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت أفلست تقول : إنه لم يزل قادرا ؟ قال : بلى فقلت له : فتقول إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا أقول هذا قلت : فلا بد أن يلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بلا قدرة لأن القدرة صفة وقال عبد العزيز بعد هذا : لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع
وقد أثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هوصفة له ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أنه يجعل الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وأن الفعل صفة لله مقدور لله إذا شاء ولا يمنعه منه مانع وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه
يبقى أن يقال : هذا الخلق - الذي يسمى التكوين - من الناس من يجعله قديما ومنهم من يجعله مقدورا مرادا و عبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له وهذا تصرح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته وما كان موجودا مقدورا لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس
وأيضا فإنه قال : قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته وقلت أنا : إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته فجعل قول الله مقدرورا له مع أنه صفة له عنده
وهذا قول من يقول : إنه يقدر على التكلم وإنه بمشيئته وقدرته وليس هو قول من يقول : إن القول لازم له لا يتعلق بقدرته ومشيئته
فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديما وإن كان النوع قد يكون قديما لأن بشرا لما قال له : أحدثها بقدرته التي لم تزل قال له : أفليس تقول : لم يزل قادرا ؟ قال : بلى قال : فتقول إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا قال : فلا بد أن يلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة
وهذا لأنه إذا كان لم يزل قادرا ولا مخلوقا ثم وجد مخلوق لم يكن قد وجد بقدرة بلا فعل فإنه لو كان مجرد القدرة كافيا في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة
وهذا المقام هو المقام المعروف وهو أنه : هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا ؟ فإن جمهور العقلاء يقولون : إن انتفاء هذا معلوم بالضرورة وإن ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز بخلاف قول من يقول : إن نفس القادر يرجح أحد طرفي مقدروه بلا مرجح كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية أو بمجرد إرادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر
يبقى هنا السؤال على عبد العزيز هو الذي ألزمه إياه بشر حيث قال له : وأنت أيضا يلزمك أن تقول : لم يزل يفعل ويخلق وإذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله لأن الحادث إن لم يفتقر إلى سبب حادث كفت القدرة القديمة وإن افتقر إلى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به فيلزم تسلسل الحوادث فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق فيكون المخلوق معه فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل ( لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ليلزمني ما قلت وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي النسخة الأخرى : ( وإنما قلت : لم يزل الخالق سيخلق والفاعل سيفعل لأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )
ومضمون كلامه : أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها ولا يلزمني هذا كما لزمك لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة والقدرة قديمة لزم وجود المخلوقات معها وإلا لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب لأن القدرة دائمة أزلا وأبدا ووجود المخلوقات ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعند وجود المرجح التام يجب وجوده لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم فيبقى ممكنا كما كان فلا يترجح إلا بمرجح تام فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب
قال عبد العزيز : وهذا الفعل صفة لله ليس من المخلوقات المنفصلة عنه والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأما قول القائل : ( إن ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهوصفة ) فإنه يسأل عن سبب حدوثه كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به
فيجيب عنه عبد العزيز بأجوبة
أحدها : الجواب المركب وهو أن يقول : تسلسل الآثار الحادثة إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزمني ذلك ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه ولهذا كان كثير من الطوائف يقولون : الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول فيثبتون لك مع إبطال التسلسل مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ومن الصوفية وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم وهؤلاء منهم من يقول : الفعل الذي هو التكوين قديم والمكون المنفصل حادث كما يقولون مثل ذلك في الإرادة ومنهم من يقول : بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن وكلا الفرقين لا يقولون : إن ذلك مخلوق بل يقولون : إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة
الجواب الثاني : أن يقول : ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال : إن جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن فهو لازم لك ولي إذا قلت بهذا فلا أختص بجوابه وأما وجود المفعول بدون فعل : فهذا لازم لك وحدك وهو الذي احتججت به عليك فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي والإلزام الذي ذكرته أنت مشترك بيني وبينك فلا يخصني جوابه
الجواب الثالث : أن يقول : أنا قلت : الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه وإنما يجب أن يكون المخلوق معه في الأزل إذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلا قبله وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي إلى المخلوق فإن ذك يستلزم ثبوت غير المخلوق
وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات وتحتاج إلى حجج لم يذكر المريسي منها شيئا و عبد العزيز لم يلتزم شيئا من ذلك وإنما التزم أن الفعل صفة لله تعالى والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وحجته يحصل بها المقصود
وقوله في النسخة الأخرى - إن صح عنه : ( إنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل والخالق سيخلق ) قد نفى فيه ان يكون نفس الفعل قديما فضلا عن أن يكون المفعول قديما
وقوله : ( إن الفعل صفة لله والله يقدر عليه لا يمنعه منه مانع ) يمنع قدم عين الفعل لا يمنع قدم نوعه إلا أن يثبت امتناع تسلسل الآثار وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا إثباته
وقوله : ( لم يزل سيفعل ) إن صح عنه يحتمل معنيين : أحدهما : أنه لم يزل موصوفا بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث أنواع المنفصلات عنه والثاني : أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئا بعد شيء فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات
فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو أعيانها قديما وعلى الثاني لا يمتنع تقدم النأواع بل قد يمتنع تقدم أعيان المخلوقات فلا يكون شيء من المخلوقات مع الله في الأزل على التقديرين
وجماع ذلك : أن الذي ألزمه عبد العزيز للمريسي لازم له مبطل لقوله بلا ريب وعليه جمهور الناس فإن جماهير الناس يقولون : الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وهذا قو ل جماهير الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وجماهير الصوفية وجماهير أهل الحديث بل كلهم وكثير من أهل الكلام والفلسفة أو جماهيرهم فهو قول أكثر المرجئة من الكرامية وغيرهم وأكثر الشيعة وكثير من المعتزلة والكلابية وكثير من الفلاسفة و لأصحاب مالك و الشافعي و احمد في ذلك قولان فالذي عليه أئمتهم : أن الخلق غير المخلوق وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وقول جمهور أصحاب أحمد وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة وهو قول كثير من الكلابية

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18