كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

إبطال التسلسل
وأيضا فإبطال التسلسل له طرق كثيرة وذلك أنه يمكن أن يقال فيه وجوه :
الوجه الأول
أحدها : أن الموجودات بأسرها إما أن تكون واجبة الوجود أو ممكنة الوجود أو ممتنعة الوجود والأقسام الثلاثة باطلة فلزم أن يكون بعضها واجبا وبعضها ممكنا
أما الثالث فهو باطل لأن ما وجد لا يكون ممتنع الوجود
والثاني : باطل أيضا لأن ممكن الوجود هو الذي وجوده وعدمه وما كان كذلك لم يوجد إلا بغيره فلو كان مجموع الموجودات ممكنة لافتقرت الموجودات كلها إلى غيرها وما ليس بموجود فهو معدوم والمعدوم لا يفعل الموجود بالضرورة
والأول باطل أيضا لأنا نشاهد ما يحدث بعد أن لم يكن كالحيوان والنبات والمعدن والسحاب والأمطار
والحادث عدم ووجد أخرى فلا يكون ممتنعا لأن الممتنع لا يوجد ولا واجبا بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يعدم فثبت أنه ممكن وثبت أن في الموجودات ما هو ممكن بنفسه وأنه ليس كلها ممكنا فثبت أن فيها موجودا ليس بممكن والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب بنفسه فإن الموجود إما أن يكون وجوده بنفسه وهو الواجب أو بغيره وهو الممكن ولا يجوز أن يكون ممتنع لأن الممتنع هو الذي لا يجوز أن يوجد فيمتنع أن يكون في الوجود ممتنع
فتبين أن في الموجودات واجبا وممكنا وليس فيها ممتنع وإن شئت قلت : إما أن يقبل من جهة نفسه العدم وهو الممكن أو لا يقبل العدم وهو الواجب بنفسه وإن شئت قلت إما أن يفتقر إلى غيره وهو الممكن أو لا يفتقر وهو الواجب
وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة وليس كلها ممكنا ولا كلها واجبا تعين أن فيها واجبا وفيها ممكنا

الوجه الثاني
أن يقال كل ممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب يجب به وجوده لأنه إذا لم يحصل ما به يجب وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فلا يوجد وما به يجب وجوده لا يكون ممكنا لأن الممكن لا يجب به شيء لافتقاره إلى غيره فالمفتقر إلى الممكن مفتقر إليه وإلى ما به وجب الممكن وإذا كان الممكن وحده لا يجب به شيء علم افتقار الممكن إلى واجب بنفسه

الوجه الثالث
أن يقال : طبيعة الإمكان سواء فرضت الممكنات متناهية أو غير متناهية لا يوجب الوجود بنفسها فإن ما كان كذلك لم يكن ممكنا فلا بد للمكن من حيث هو ممكن من موجود ليس بممكن والمراد بالممكن في هذه المواضع الممكن الإمكان الخاص وهو الذي يقبل الوجود والعدم فيكون الواجب والممتنع قسيميه فأما إذا أريد به الممكن الإمكان العام وهو قسيم الممتنع فكل موجود فهو ممكن بالإمكان العام
ثم الموجود إما موجود بنفسه وإما بغيره وليس كل موجود وجد بنفسه لأن منها المحدثات التي يعلم بضرورة العقل أن وجودها ليس بأنفسها
فثبت أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وما هو موجود بغيره

الوجه الرابع
أن يقال الموجودات ليست كلها موجودة بغيرها لأن الغير إن كان معدوما امتنع أن يكون الموجود موجودا بما ليس بموجود وإن كان الغير موجودا كان الموجود خارجا عن جملة الموجودات
وإذا لم تكن الموجودات كلها موجودة بغيرها : فإما أن تكون كلها أو كل منها موجودا بنفسه وإما أن لا يكون والأول ممتنع لأن المحدثات التي يشهد حدوثها يعلم بالضرورة أنها ليست موجودة بنفسها وإذا لم تكن كلها موجودة بغيرها ولا كلها موجودة بنفسها تعين أن منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بغيره وهذا لك أن تعتبره في كل فرد فرد من الموجودات وفي المجموع فتقول : يمتنع في كل فرد من الموجودات أن يكون موجودا بغير موجود لأنه إذا كان كل واحد من الموجودات موجودا بغير موجود لزم أن يكون كل من الموجودات موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بوجود غيره وإما أن يكون منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بوجود غيره
والأول ممتنع لوجود الحوادث التي لا توجد بأنفسها
والثاني ممتنع لأن كل واحد واحد من الموجودات إذا كان موجودا بوجود غيره والغير من الموجودات التي لا توجد إلا بموجود غيرها لم يكن فيها إلا ما هو مفتقر محتاج إلى الغير وما كان بنفسه مفتقرا محتاجا إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير وما كان في نفسه لا يوجد إلا بغيره فأولى أن لا يكون بنفسه مبدعا لغيره فيلزم أن لا يكون في الموجودات ما هو موجود بنفسه ولا ما هو فاعل لغيره فيلزم حينئذ أن لا يوجد شيء من الموجودات لأن الموجود إما موجود بنفسه وإما بوجود غيره وهذا إنما لزم لما قدر أن كل موجود موجود بغيره فتعين أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وهو المطلوب
وأما إذا اعتبرت ذلك في المجموع فمجموع الموجود لا يكون واجبا بنفسه لأن من أجزائه ما هو ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن والمجموع يتوقف عليه والمتوقف على الممكن لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون المجموع مفتقرا إلى غيره المباين له فإن ذلك لا يكون إلا معدوما والموجود لا يكون مفتقرا إلى فاعل معدوم ليس بموجود فضلا عن مجموع الموجود فتعين أن يكون المجموع مفتقرا إلى ما هو داخل في المجموع وذلك البعض لا يكون إلا واجبا بنفسه إذ لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره فيكون مجموع كل واحد من الموجودات مفتقرا إلى غيره وذلك الغير مجموع الممكنات ليس مفتقرا إلى ما هو بعض الممكنات فإن مجموعهما أعظم من بعضها وذلك البعض يشرك لمجموع في الفقر والإحتياج إلى الغير ففيه ما فيها من الإحتياج والفقر إلى الغير مع أن المجموع أعظم منه فإذا كانت الأجزاء كلها فقيرة محتاجة و المجموع محتاجا فقيرا أمتنع أن يكون شيء من الأجزاء بالمجموع وحده فضلا عن أن يكون بجزء آخر فضلا عن أن يكون المجموع الذي كل أجزائه فقراء بواحد من تلك الأجزاء الفقراء وهذا كله بين ضروري لا يستريب فيه من تصوره ويمكن تصوير هذه المواد على وجوه أخرى

فصل
وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال : الموجودات إما أن تكون كلها حادثة وهو ممتنع لأن الحوادث لا بد من فاعل وذلك معلوم بالضرورة ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوما وذلك أيضا معلوم بالضرورة وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوما فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم : إما حدوثها بلا محدث وإما حدوثها معدوم وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم وليس كل موجود قديما بالضرورة الحسية فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث
وهاتان المقدمتان وهو أن كل حادث فلا بد من محدث وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا مع انهما معلومتان بالضرورة فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن النتيجة أبين عند العقل من المقدمات فيصير كمن يحج الأجلى بالأخفى وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا فقد ينتفع به في مواضع مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية دون ما هو أخفى منها ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم يكن مزية على العامة ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه إلى أمثال ذلك من المقاصد
فأما كون الحادث لا بد له من محدث فهي ضرورية عند جماهير العلماء وكثير من متكلمة المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظريا كما سيأتي ذكره بعد هذا
وأما كون المعدوم لا يكون فاعلا للموجودات فهو أظهر من ذلك ولذلك اعترف بكونه ضروريا من استدل على أن المحدث لا بد له من محدث موجود والممكن لا بد له من مؤثر موجود كالرازي وغيره

كلام الرازي في إثبات وجود الله
قال الرازي : أما كون المؤثر موجودا فإنه لا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر منفي والحكم بالاكتفاء المؤثر المنفي حكم بعدم الإحتياج إلى المؤثر
قال : والعلم بذلك ضروري ولا يتصور في هذا المقام الاستدلال بالكلام المشهور من أن المعدوم لا تميز فيه فلا يمكن استناد الأثر إليه لأنه يتوجه عليه شكوك معروفة
قال : والجواب عنها وإن كان ممكنا إلا أن العلم بفساد استناد الأثر الموجود إلى المؤثر المعدوم أظهر كثيرا من العلم بذلك والدليل والأجوبة عن الأسولة التي تورد عليه وإيضاح الواضح لا يزيده إلا خفاء
قال : وقول القائل : هب أن المؤثر ليس بمعدوم فلم يجب أن يكون موجودا ؟ قلنا : لا واسطة بين الوجود والعدم وقول القائل : الماهية تقتضي الإمكان لا بشرط الوجود ولا العدم فهو متوسط بين الوجود والعدم قلنا : نحن لا ندعي أن كل حقيقة فهي إما الوجود وإما العدم حتى يلزم من كون الماهية مغايرة لهما فساد ذلك الحصر بل ندعي أن العقل يحكم على كل حقيقة من الحقائق التي لا نهاية لها أنها لا تخلو عن وصفي الوجود والعدم وإذا كان كذلك فكون الماهية مغايرة للوجود والعدم لا يقدح في قولنا : إنه لا واسطة بين الوجود والعدم

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا السؤال والجواب عنه لا يحتاج إليه مع علمنا الضروري بأن المؤثر في الموجود لا يكون إلا موجودا وهذا قد سبقه إليه غير واحد من النظار

كلام الجويني في الإرشاد
كأبي المعالي الجويني فإنه قال في الإرشاد : فإن قال قائل : قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع فيم تنكروه على من يقدر الصانع عدما قلنا : العدم عندنا نفي محض وليس المعدوم على صفة من صفات الإثبات ولا فرق بين نفي الصانع وبين تقدير الصانع منفيا من كل وجه بل نفي الصانع وإن كان باطلا بالدليل القاطع فالقول به غير متناقض في نفسه والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة حيث أثبتوا للمعدوم صفات الإثبات وقضوا بأن المعدوم على خصائص الأجناس
قال : والوجه أن لا نعد الوجود من الصفات فإن الوجود نفس الذات وليس بمثابة التحيز للجوهر فإن التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر وجود الجوهر عندنا نفسه من غير تقدير مزيد
قال : والأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات والعلم به علم بالذات
قال الكيا الهراسي الطبري : إذا قلنا الباري موجود فوجوده ذاته هذا بالاتفاق من أصحابنا القائلين بالأحوال والنافين لها إلا على رأي المعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء

كلام أبي القاسم الأنصاري
وقال أبو القاسم الأنصاري شارح الإرشاد والقاضي أبو بكر : وإن أثبت الأحوال فلم يجعل الوجود حالا فإن العلم به علم بالذات وعند أبي هاشم ومتبعيه الوجود من الأحوال وهو من أثر كون الفاعل قادرا
قال وما قاله إمام الحرمين : من أن الأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فإنما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه وهكذا قال الكيا : الوجود بمنزلة التحيز للجوهر فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف أبا المعالي
قال ومن الدليل على وجود الصانع أنه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجودا ولا يكون مختصا بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود
قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على أنه فاعل ومن شرط الفاعل أن يكون موجودا

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الثاني هو ما ذكره أبو المعالي فإن إثبات الصانع إثبات لوجوده وإلا فصانع منتف كنفي الصانع وأما الأول فهو وإن كان صحيحا لكن النتيجة أبين من المقدمات فإن العلم بأن الصانع لا يكون إلا موجودا أبين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا موجودا وكلاهما معلوم بالضرورة لكن الفاعل الذي يبدع غيره أحق بالوجود وكما أن الوجود من محل الصفة فإن محل الصفة قد يكون جمادا وقد يكون حيوانا وقد يكون قادرا وقد يكون عاجزا والصفة وإن كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الأفتقار إلى المحل القابل وأما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل
ومعلوم أن الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل أقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل وأيضا فإن القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز أن يقارن المفعول بل لا بد من تقدمه عليه ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني وأما كون كل من الشيئين شرطا للآخر فإنه يجوز وهذا هو الدور المعي وذاك هو الدور القبلي وقد بسط هذا في غير الموضع وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه سواء قيل إن حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك أو قيل هي هي كما هو المعروف عن متكلمي أهل السنة
والمقصود هنا أن الدليل لما دل على أنه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده : لا علة فاعلة ولاما يسمى فاعلا غير ذلك صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه ثم أخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني فأرادوا إثباته كلها فصاروا ينفون الصفات وينفون أن يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة فلا تكون واجبة بنفسها ومعلوم أن كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل : هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلا ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من المشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجبا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجودا فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجودا بطريق الأولى
وأيضا فيقال : الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثا سواء قدر متناهيا أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدث تقتقي الإفتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثا من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثا فوجب أن يكون قديما
وأيضا فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل مستقل بالفعل إذ ما ليس مستقلا بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلا للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثا فلا بد له من فاعل أيضا فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص مكن مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له
ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35
قال جبير بن مطعم : لما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع
وقال { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } الواقعة 58 - 59 إذ كان كل من القسمين : وهو كونهم خلقوا من غير خالق وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث وأن محدثه ليس هو إياه علما ضروريا ثبت بالضرورة أن له محدثا خالقا غيره وكل ما يقدر فيه انه مخلوق فهو كذلك
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجودا بل يبقى معدوما على أصح القولين أو مترددا بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغن به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقرا إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضا فهو أيضا محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم

فصل
ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر وفي الخلق وعدم الخلق والقدرة وعدم القدرة والكمال والنقصان والحياة والموت والعلم والجهل وغير ذلك بأن يقال : كل موجود فإما أن يكون غنيا بنفسه عما سواه وإما أن يكون مفتقرا إلى ما سواه والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه فيلزم وجوده الغني عما سواه على التقديرين والحوادث مفتقرة إلى غيرها فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال : كل موجود فإما أن يكون مخلوقا وإما ألا يكون مخلوقا والمخلوق لا يكون مخلوقا إلا بخالق ليس بمخلوق
وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما أن يكون قادرا بنفسه وإما ألا يكون قادرا بنفسه وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادرا إلا بإقدار القادر بنفسه والحوادث المشهودة كانت معدومة والمعدوم لا يكون موجودا بنفسه فضلا عن أن يكون قادرا بنفسه فثبت أن في الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه والقادر بنفسه لا يكون إلا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما أن يكون كاملا ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره وإما أن يكون ناقصا يحتاج في كماله إلى غيره ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود فضلا عن أن تكون كاملة بنفسها وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره وما ليس فيه نقص لا يكون إلا كاملا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما عالم بنفسه وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه وإما أن لا يقبل العلم ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه ليس علمه من لوازم ذاته فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم حدث له العلم بعد ذلك فثبت أن في الموجود ما ليس عالما بنفسه بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العلم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العالم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه وما ليس عالما بنفسه بل بمن يعلمه كما قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله : { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } العلق 1 - 5 وقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة 255
وما كان عالما بنفسه فإن يكون موجودا بنفسه أولى وأحرى فإن العلم صفة له وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه فلا يكون الموصوف بها قديما واجبا بطريق الأولى والأحرى
ومثل أن يقال الموجود : إما حي بنفسه وإما حي بغيره وإما ليس بحي ومعلوم أن الحي بغيره موجود فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حيا بعد ذلك فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حيا وذلك الذي جعله حيا إما أن يكون حيا بنفسه وإما بغيره والحي بغيره يحتاج إلى حي فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه والحي بنفسه لا يكون إلا واجبا قديما بنفسه فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره فغن تكون ذاته واجبة بنفسها لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فغن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها فالحي الموصوف بها أن يكون حيا قديما أزليا واجبا بنفسه أولى وأحرى
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول والخالق ولمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء وبصريح المعقول بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاستعاذة منه في قوله صلى الله عليه و سلم [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ فيقول : الله فيقول : من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة التي يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها حتى قد يتمنى الموت أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها وهي الوسوسة التي سأله عنه الصحابة فقالوا : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حمة أو يخر من السماء إلى الأرض خيرا له من أن يتكلم به فقال : ذلك صريح الإيمان وفي رواية : ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به فقال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحة

فصل
واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني أو كل مخلوق فلا بد له من خالق أو كل معلوم فلا بد له من يعلم أو كل أثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو أيضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد من كاتب والبناء لا بد له من بأن فإنه إذا رأى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب وإذا رأى بنيانا علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون أو يمكن أن تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض ولا يكون في مكانين وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه
وكذلك إذا قيل : هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفه على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بان كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من باب بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا : إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول : كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات فكل أحد يعلم أنه هو لم يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم أنه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم انه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل ومن الإختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21

فصل
إذا تبين ذلك فالآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزما لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى أن تندرج تحت قضية كلية سواء كان المدلول عليه قد عرفت عينه أو لم تعرف عينه بل عرف على وجه مطلق مجمل
فالأول مثل أن يقال : علامة دار فلان أن على بابها كذا أو على عتبها كذا أو علامة فلان أنه كذا وكذا فإذا رؤيت تلك العلامة عرف ذلك المعين
والثاني أن يقال : علامة من يكون أميرا أو قاضيا أن تكون هيئته كذا وكذا فإن رؤيت تلك الهيئة علم أن هناك أميرا أو قاضيا وإن لم تعلم عينه
وإذا كان كذلك فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق سبحانه وتعالى بعينه وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثا بنفسه ولا يحتاج أن يقرن بذلك أن كل محدث فله محدث كما قدمناه أن العلم بأفراد هذه القضية لا يجب أن يتوقف على كلياتها بل قد تكون دلالته على المحدث المعين أظهر وأسبق
ولهذا كان ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المحدث بنفسها من غير أن يجب أن يقترن بها قضية كلية : أن كل محدث فله محدث وهي أيضا دالة على الخالق سبحانه من حيث يعلم أنه لا يحدثها إلا هو فإنه كما يستدل على أن المحدثات لا بد لها من محدث قادر عليم مريد حكيم فالفعل يستلزم القدرة والإحكام يستلزم العلم والتخصيص يستلزم الإرادة وحسن العافية يستلزم الحكمة
وكل حادث يدل على ذلك كما يدل عليه الآخر وكل حادث كما دل على عين الخالق فكذلك الآخر يدل عليه فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه وسماها الله آيات والآيات لا تفتقر في كونها آيات إلى قياس كلي : لا قياس تمثيلي ولا قياس شمولي وإن كان القياس شاهدا لها مؤيدا لمقتضاها لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس بل يعلم موجبها مقتضاها وإن لم يخطر لها أن كل ممكن فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
ومن هنا يتبين لك أن ما تنازع فيه طائفة من النظار وهو أن علة الإفتقار إلى الصانع هل هو الحدوث أو الإمكان أو مجموعيهما لا يحتاج إليه وذلك أن كل مخلوق فنفسه وذاته مفتقرة إلى الخالق وهذا الافتقار وصف له لازم ومعنى هذا أن حقيقته لا تكون موجودة إلا بخالق يخلقه فإن شهدت حقيقته موجودة في الخارج علم أنه لا بد لها من فاعل وإن تصورت في العقل علم أنها لا توجد في الخارج إلا بفاعل ولو قدر أنها تتصور تصورا مطلقا علم أنها لا توجد إلا بفاعل فهي في نفسها لا توجد إلا بفاعل وهذا يعلم بنفس تصورها وإن لم يشعر القلب بكونها حادثة أو ممكنة وإن كان كل من الإمكان والحدوث دليلا أيضا على هذا الافتقار لكن الحدوث يستلزم وجودها بعد العدم وقد علم أنها لا توجد إلا بفاعل والإمكان يستلزم أنها لا تكون إلا بموجد وذلك يستلزم إذا وجدت أن تكون بموجد وهي من حيث هي هي وإن لم تدرج تحت وصف كلي يستلزم الافتقار إلى الفاعل أي لا تكون موجودة إلا بفاعل ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل المبقي المديم لها فهي مفتقرة إليه في حدوثها سواء قيل إن بقاءها وصف زائد عليها أو لم يقل
ولهذا يعلم العقل بالضرورة أن هذا الحادث لا يبقى إلا بسبب يبقيه كما يعلم أنه لم يحدث إلا بسبب يحدثه ولو بنى الإنسان سقفا ولم يدع شيئا يمسكه لقال له الناس : هذا لا يدوم ولا يبقى وكذلك إذا خاط الثوب بخيوط ضعيفة وخاطه خياطة فاسدة قالوا له هذا لا يبقى البقاء المطلوب فهم يعلمون بفطرتهم افتقار الأمور المفتقرة إلى ما يبقيها كما يعلمون افتقارها إلى ما يحدثها وينشئها
وما يذكر من الأمثال المضروبة والشواهد المبينة لكون الصنعة تفتقر إلى الصانع في حدوثها وبقائها إنما هو للتنبيه على ما في الفطرة كما يمثل بالسفينة في الحكاية المشهورة عن بعض أهل العلم أنه قال له طائفة من الملاحدة : ما الدلالة على وجود الصانع ؟ فقال لهم : دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا قالوا : ما هو ؟ قال : بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له : أمجنون أنت ؟ قال : وما ذاك قالوا أهذا يصدقه عاقل ؟ فقال : فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك ؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام وهكذا إذ قيل : فهذه السفينة أثبتت نفسها في الساحل بغير موثق اوثقها ولا رابط ربطها كذبت العقول بذلك
فهكذا إذ قيل : إن الحوادث تبقى وتدوم بغير مبق يبقيها ولا ممسك يمسكها
ولهذا نبه سبحانه على هذا وهذا فالأول : كثير وأما الثاني : ففي مثل قوله { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } فاطر 41 وقوله { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } الروم 25 وقوله { رفع السماوات بغير عمد ترونها } الرعد 2 وهذا الإبقاء يكون بالرزق الذي يمد الله به المخلوقات كما قال الله تعالى { الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } الروم 40

كلام الشهر ستأتي في نهاية الإقدام
وهذا الذي ذكرناه من أن نفس الأعيان المحدثة كالإنسان تستلزم وجود الصانع الخالق وأن علم الإنسان بأنه مصنوع يستلزم العلم بصانعه بذاته من غير احتياج إلى قضية كلية تقترن بهذا وهو معنى ما يذكره كثير من الناس مثل قول الشهر ستأتي : أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فليست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا : كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه
قال : ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو يعترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعليل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها بصانع عليم قادر حكيم { أفي الله شك } إبراهيم 10 { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } الزخرف 87 { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } الزخرف 9 وإن هو غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء { دعوا الله مخلصين له الدين } يونس 22 { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } الإسراء 67
قال ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فأعلم انه لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } غافر 12 { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } الزمر 45 { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } الإسراء 46
قال وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان
قلت : وهذا الطريق الثاني لم يسلكه الأوائل وإنما سلكه ابن سينا ومن وافقه ولكن الشهرستاني وأمثاله لا يعرفون مذهب أرسطو والأوائل إذ كان عمدتهم فيما ينقلونه من الفلسفة على كتب ابن سينا
قال ويدعي كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة
قال وأنا أقول : ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياجه في ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات يرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث
وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } النمل 62 { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } الأنعام 63 { قل من يرزقكم من السماوات والأرض } يونس { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } النمل 64
وعن هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها ]
قلت : لفظ الحديث في الصحيح : [ يقول الله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
قال : فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويلة الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان { فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى } الأعلى 10 - 11 { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } طه 44
قلت : الذي في الحديث : إن الشياطين امرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وهذا المرض العام في أكثر بني آدام وهو الشرك كما قال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يوسف 106 وأما التعطيل فهو مرض خاص لا يكاد يقع إلا عن عناد كما وقع لفرعون
وليس في الحديث أن الشياطين سولت لهم الاستغناء عن الصانع فإن هذا لا يقع إلا خاصا لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأحوال وهو جنس السفسطة بل هو شر السفسطة والسفسطة لا تكون عامة لعدد كثير دائما بل تعرض لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأشياء
قال : ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه الخ

تعليق ابن تيمية
قلت هو وطائفة معه يضنون أن الضمير في قوله { حتى يتبين لهم أنه الحق } فصلت 53 عائد إلى الله تعالى ويقولون هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق ومن استدل بالخالق على المخلوق
والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية أن الضمير عائد إلى القرآن وأن الله يري عباده من الآيات الفقيه والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق وذلك يتضمن ثبوت الرسالة وأن يسلم ما أخبر به الرسول كما قال تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فصلت 52 53
والمقصود هنا التنبيه على أن حاجة المعين إلى العلم لا تتوقف على العلم بحاجة كل من هو مثله والاستدلال على ذلك بالقياس الشمولي والتمثيلي
وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي اعضم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة أتباع الرسل وسوء عاقبة المكذبين أنفع من معرفة صدق الرسول وأتباعه مما يفيد العلم فقط فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب فيفيد كمال القوتين : العلمية والعملية بنفسه بخلاف ما يفيد العم ثم العلم يفيد العمل
ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى مالا تتعلق به حاجتها
ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم وممالكيهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } النحل 53
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]
ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والإعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسؤل المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والإفتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته
فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس
وقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ كل مولود يولد على الفطرة ] يروي عن ربه : [ خلقت عبادي حنفاء ] ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له ن وهذا هو الحنيفية
وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع طائفة من قول من ذكر أن المعرفة ضرورية والعلم الذي يقترن به حب المعلوم قد يسمى معرفة كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمعروف ما تحبه القلوب مع العلم والمنكر ما تكرهه وتنفر عنه عند العلم به فلهذا قد يسمى من كان فيه مع علمه بالله حب لله وإنابة إليه عارفا بخلاف العالم الخالي عن حب القلب وتألهه فإنهم لا يسمونه عارف
ومن المعلوم أن وجود حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه في القلب فرع وجود الإقرار به وهذا الثاني مستلزم للأول فإذا كان هذا يكون ضروريا في القلب فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له أولى أن يكون ضروريا فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم
وقد يراد بلفظ المعرفة العلم الذي يكون معلومة معينا خاصا وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كليا عاما وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومة الشيء بعينه وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل كما بسط في موضع آخر وسيأتي كلام الناس في الإقرار بالصانع هل يحصل بهذا وبهذا
وقد بينا في غير هذا الموضع الكلام على قولهم : علة الحاجة إلى المؤثر : هل هي الحدوث أو الإمكان أو مجموعها ؟ وبينا أنه إن أريد بذلك أن الحدوث مثلا دليل على أن هذا المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في إفتقار المفعول إلى فاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل
وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر وإنما النزاع في مسألتين :
إحداهما : أن الواجب بغيره إزلا وأبدا : هل يصح أن يكون مفعولا لغيره ؟ كما يقوله من يقول من المتفلسفة : إن الفلك قديم معلول ممكن لواجب الوجود ازلا وأبدا فهذا هو القول الذي ينكره جماهير العقلاء من بني آدم ويقولون ك إن كون الشيء مفعولا مصنوعا مع كونه مقارنا لفاعله أزلا وأبدا ممتنع ويقولون أيضا : إن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى فأما ما كان دائم الوجود فهذا عند عامة العقلاء ضروري الوجود وليس من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم وهذا مما وافق عليه الفلاسفة قاطبة حتى ابن سينا وأتباعه
ولكن ابن سينا تناقض فادعى في باب إثبات واجب الوجود أن الممكن قد يكون قديما أزليا مع كونه ممكنا ووافقه على ذلك طائفة من المتأخرين كالرازي وغيره ولزمهم على ذلك من الاشكالات ما لم يقدروا على جوابه كما قد بسط في موضعه وعلى هذا فالإمكان والحدوث متلازمان فكل ممكن محدث وكل محدث ممكن
وأما تقدير ممكن مفعول واجب لغيره مع أنه غير محدث فهذا ممتنع عند جماهير العقلاء وأكثر الفلاسفة من أتباع ارسطو وغيره مع الجمهور يقولون : إن الإمكان لا يعقل إلا في المحدثات وأما الذي أدعى ثبوت ممكن قديم فهو ابن سينا ومن وافقه ولهذا ورد عليهم في إثبات هذا الإمكان سؤالات لا جواب لهم عنها

موافقة الرازي لابن سينا وإنكار ابن رشد على ابن سينا
و الرازي لما كان مثبتا لهذا الإمكان لابن سينا كان في كلامه من الاضطراب ما هو معروف في كتبه الكبار والصغار مع أن هؤلاء كلهم يثبتون في كتبهم المنطقية ما يوافقون فيه سلفهم أرسطو وغيره : أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وقد ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد هذا وقال : ما ذكره ابن سينا ونحوه من أن الشيء يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا قول لم يقله أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت : و ابن سينا قد ذكر أيضا في غير موضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم كما قاله سلفه وسائر العقلاء وقد ذكرت ألفاظه من كتاب الشفاء وغيره في غير هذا الموضع وهو مما يتبين به اتفاق العقلاء على أن كل ممكن يقبل الوجود والعدم فلا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وهذا مما يبين أن كل ما سوى الواجب بنفسه فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا لا يناقض دوام فاعليته
والمقصود هنا أن نفس الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الموثر وأما كون أحدهما جعل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق فهذا خطأ بل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لها لا يحتاج إلى علة فإنه ليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لا يمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب
فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغني والصمدية أمر لازم لذات الله فيمتنع أن يكون سبحانه فقيرا ويمتنع أن يكون إلا غنيا عن كل ما سواه ويمتنع فيما سواه أن يكون غنيا عنه بوجه من الوجوه ويجب في كل ما سواه أن يكون فقيرا محتاجا إليه دائما في كل وقت
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقار إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه على قولين للنظار وكثير من أهل الكلام المحدث المتلقى عن جهم وأبي الهذيل ومن تبعهما من المعتزلة وغيرهم يقولون إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا القول في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية الذين يقولون : افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثه بل افتقاره إليه في حال بقائه دائما ازلا وأبدا
فهؤلاء زعموا وجود الفعل بلا حدوث شيء وأولئك زعموا أن المخلوق لا يفتقر إلى الخالق لا يحتاج دائما وكلا القولين باطل كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن كثيرا مما يجعلونه مقدمات في أدله إثبات الصانع وإن كان حقا فإنه لا يحتاج إليه عامة الفطر السليمة وإن كان من عرضت له شبهة قد ينتفع به
والكلام على إبطال الدور والتسلسل هو من هذا الباب وما سلكوه من الطرق بقطع التسلسل والدور فهو طريق صحيح أيضا

وجماع ذلك أن الدور نوعان والتسلسل نوعان
أما الدور : فقد يراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا ويسمى هذا الدور المعي الاقتراني ويراد به أنه لا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا ونحو ذلك وهو الدور البعدي
فالأول ممكن كالأمور المتضايفة مثل البنوة والأبوة وكالمعلولين لعلة واحدة وسائر الأمور المتلازمة التي لا يوجد منها إلا مع الآخر كصفات الخالق سبحانه المتلازمة وكصفاته مع ذاته وكسائر الشروط كغير الشروط كغير ذلك مما هو من باب الشرط والمشروط
وأما الثاني فممتنع فإنه إذا كان هذا لا يوجد إلا بعد ذاك وذاك لا يوجد إلا بعد هذا لزم أن يكون ذاك موجودا قبل هذا وهذا قبل ذاك فيكون كل من هذا وذاك موجودا قبل أن يكون موجودا فيلزم اجتماع الوجود والعدم غير مرة وذلك كله ممتنع
ومن هذا الباب أن يكون هذا فاعلا لهذا او علة فاعلة أو علة غائية ونحو ذلك لأن الفاعل والعلة ونحو ذلك يمتنع أن يكون فعلا لنفسه فكيف يكون فاعلا لفاعل نفسه ؟ وكذلك العلة الفاعلة لا تكون علة فاعلة لنفسها فكيف لعلة نفسها ؟ وكذلك العلة الغائية التي يوجدها الفاعل هي مفعولة للفاعل ومعلولة في وجودها له لا لنفسها فإذا لم تكن معلولة لنفسها فكيف تكون معلولة لمعلول نفسها ؟
فهذا ونحوه من الدور المستلزم تقدم الشيء على نفسه أو على المتقدم على نفسه وكونه فاعلا لنفسه المفعولة أو لمفعول نفسه أو علة لنفسه المعلولة أو لمعلول معلول نفسه أو معلولا مفعولا لنفسه أو لمعلول نفسه ومفعول نفسه كل ذلك ممتنع ظاهر الامتناع ولهذا اتفق لعقلاء على امتناع ذلك
وأما التسلسل في الآثار والشروط ونحو ذلك ففيه قولان معروفان لأصناف الناس وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة ونحو ذلك فهذا ممتنع بلا ريب
فإذا تبين هذا فنقول : لو كان جميع الموجودات ممكنا مفتقرا إلى فاعل غيره فذلك الغير إن كان هو الغير الفاعل له لزم كون كل منهما فاعلا للآخر وهذا من الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء وإن كان ذلك الغير غيرا آخر لزم وجود فاعلين ومفعولين إلى غير غاية وإن شئت قلت : لزم مؤثرون كل منهم مؤثر في الآخر إلى غير غاية وإن شئت قلت لزم علل كل منها معلول للآخر إلى غير غاية وكل من هؤلاء ممكن الوجود مفتقر إلى غيره لا يوجد بنفسه
فهنا سؤالان :
أحدهما : قول القائل : لم لا يجوز أن يكون المجموع واجبا بنفسه وإن كان كل فرد من أفراد ممكنا بنفسه ؟ وقد أجيب عن هذا بأنه يستلزم ثبوت واجب الوجود بنفسه مع أنه باطل أيضا لأن المجموع هو الأجزاء المجتمعة مع الهيئة الاجتماعية وكل من الأجزاء ممكن بنفسه والهيئة الاجتماعية عرض من الأعراض الذي لا يقوم بنفسه فهو أيضا ممكن لنفسه بطريق الأولى فكل من الأجزاء ومن الهيئة الاجتماعية ممكن لنفسه فامتنع أن يكون هناك ما يقدر واجبا بنفسه
وأيضا فإن ما توصف به الأفراد قد يوصف به المجموع وقد لا يوصف فإن كان اتصاف الأفراد به لطبيعة مشتركة بينها وبين المجموع وجب اتصاف المجموع بخلاف ما إذا حدث للمجموع بالتركيب وصف منتف في الأفراد
ومعلوم أن كل واحد واحد إذا لم يكن موجودا إلا بغيرة وهو فقير محتاج فكثرة المفتقرات المحتاجات واجتماعها لا يوجب استغناءها إلا أن يكون في بعضها معاونة للآخر كالضعيفين إذا اجتمعا حصل باجتماعهما قوة لأن كلا منهما مستغن عن غيره من وجه محتاج إليه من وجه وأما إذا قدر أن كلا منهما مفتقر إلى غيره من كل وجه امتنع أن يحصل لهما بالاجتماع قوة أو معونة من أحدهما للأخر إذ التقدير أن كل كل منهما ليس له شيء إلا من الآخر وهذا هو الدور القبلي دور الفاعلين والعلل الفاعلية والغائية فلا يحصل لأحدهما من الآخر شيء والتقدير أنه ليس له من نفسه شيء فلا يحصل بالاجتماع وجود أصلا
يبين هذا أن كل جزء فهو مفتقر من كل وجه إلى غيره والمجموع أيضا مفتقر من كل وجه إلى الأفراد فإنه أي فرد من الأفراد قدر عدمه لزم عدم المجموع فليس في المجموع وجود يعطيه للأفراد ولا لشيء من الأفراد وجود يعطيه للمجموع او لغيره من الأفراد وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت آحاد العشرة فإن كونها عشرة لا يحصل لأفرادها كما أن كل فرد ليس وجوده مستفادا من اجتماع العشرة فلما لم يكن كل من الأفراد وجوده من العشرة ولا من غيره من الأفراد أمكن وجوده بنفسه وأمكن أن يكون شرطا في وجود الفرد الآخر وأن يكون الحكم الحاصل باجتماع العشرة لا يحصل لفرد فرد فتبين أن مجموع الممكنات لا يكون ممكنا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

سؤال للآمدي وأجوبة عنه
والسؤال الثاني : سؤال الامدي وهو قوله : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
فيقال عن هذا أجوبة :
الأول
أنه إذا كان كل من الجملة ممكنا بنفسه لا يوجد إلا بغيره فكل من الآحاد ليس وجوده بنفسه والجملة ليس وجودها بنفسها فليس هناك شيء وجوده بنفسه فلا يكون وجوده إلا بغيره فتعين أن يكون هناك غير ليس هو جملة مجموع الممكنات ولا شيئا من الممكنات وما ليس كذلك فهو موجود بنفسه وهو الواجب بنفسه ضرورة
وأما قوله : يكون ترجح كل واحد بالآخر أي يكون كل من الممكنات موجودا بممكن آخر على سبيل التسلسل
فيقال له : نفس طبيعة الإمكان شاملة لجميع الآحاد وهي مشتركة فيها فلا يتصور أن يكون شيء من أفراد الممكنات خارجا عن هذه الطبيعة العامة الشاملة ونفس طبيعة الإمكان توجب الافتقار إلى الغير فلو قدر وجود ممكنات بدون واجب بنفسه للزم استغناء طبيعة الإمكان عن الغير فيكون ما هو ممكن مفتقرا إلى غيره ليس ممكنا مفتقرا إلى غيره وذلك جمع بين النقيضين
يبين ذلك أنه مهما قدر من الممكنات التي ليست متناهية فإنه ليس واحد منها موجودا بنفسه بل هو مفتقر إلى ما يبدعه ويفعله فالثاني منها مشارك للأول في هذه الصفة من كل وجه فليس لشيء منها وجود من نفسه ولا للجملة فلا يكون هناك موجود أصلا
بل إذا قال القائل : هذا موجودا بآخر والآخر إلى غير نهاية أو هذا أبدعه آخر والآخر أبداه آخر إلى نهاية كان حقيقة الكلام أنه يقدر معدومات لا نهاية لها فإن قدر فاعلا إذا لم يكن موجودا بنفسه لم يكن له من نفسه إلا العدم وقد قدر فاعله ليس له من نفسه إلا العدم
فكل من هذه الأمور المتسلسلة ليس لشيء منها من نفسه إلا العدم ولا للمجموع من نفسه إلا العدم وليس هناك إلا الأفراد والمجموع وكل من ذلك ليس منه إلا العدم فيكون قد قدر مجموع ليس منه إلا العدم وما كان كذلك امتنع أن يكون منه وجود فإن مالا يكون منه إلا العدم ولا من مجموعه ولا من أفراد يمتنع أن يكون منه وجود
فإذا قدر ممكنات متسلسلة كل منها لا وجود له من نفسه لم يكن هناك إلا العدم والوجود موجود محسوس فعلم أن فيه ما هو موجود بنفسه ليس وجوده من غيره وهو المطلوب

الثاني
أن يقال : الموجود الذي ليس من نفسه يمتنع أن يكون وجود غيره منه فإن وجود نفسه بنفسه واستغناء نفسه بنفسه وقيام نفسه بنفسه أولى من وجود غيره بوجوده واستغناء غيره به وقيام غيره به فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه امتنع أن يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الأولى فلا يجوز أن يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية
وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه وسواء قيل : إن المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون أسباب أو قيل : أنها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها أو قيل : إن بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب أو الإبداع أو التوليد أو الفعل أو غير ذلك مما قيل فإن كل من قال قولا من هذه الأقوال لا بد أن يجعل للمؤثر وجودا من موجود بنفسه لا يمكن أحد ان يقول : كل منها مؤثر وليس له من نفسه إلا العدم وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود فإنه يعلم بصريح العقل أنه إذا قدر أن كل تلك الأمور ليس لشيء منها وجود من نفسه وجود ولا بنفسه لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه فإن مالا يكون موجوداص بنفسه ومن نفسه فأولى به إن لا يكون مؤثرا في وجود غيره بنفسه ومن نفسه فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه بل كل منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه كان كل معدوما بنفسه معدوم التأثير بنفسه فنكون قد قدرنا أمورا متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه ولا تأثير له بنفسه وليس هناك مغاير لها يكون موجودا مؤثرا فيها فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعا
وإذا قال القائل : كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه كان صريح العقل يقول له : فما لا يكون موجودا بنفسه لا يكون مؤثرا بنفسه فكيف تجعله مؤثرا في غيره ولا حقيقة له
فإن قال : بل حقيقته توجد بذلك الغير
قيل له : ليس هناك غير يتحقق به فإن الغير الذي قدرته هو أيضا لا وجود له ولا تأثير أصلا إلا بما تقدره من غير آخر ليس له وجود ولا تأثير
ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثرا مبدعا لغيره من أعظم الأمور بطلانا وفسادا فإن إدباعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده وهو مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم ليس موجود فكل ما قدر إنما هي معدومات

الثالث
يوضح هذا الجواب الثالث : وهو أن نقول : قول القائل : الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلا والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم وإذا قال القائل : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جاب الإثبات فإنه لا يكون موجودا إلا بمقتضي لوجوده إذا كان ليس له من نفسه وجود
وأما في النفي فمن الناس من يقول : علة عدمه عدم علة وجوده ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة وهذا قول ابن سينا وأتباعه
والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين
وهو الآخر من قولي الرازي أن عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدوما فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه فهو صحيح وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له فليس كذلك فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة
فقول القائل : الممكن لا يوجد إلا بمرجح بمنزل قوله : لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بغيره ولا يحتاج أن يقول مالا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره فإن مالا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود
وإذا قلت : له من نفسه العدم فهذا له معينان : إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود فليس كذلك بل هي قابلة للوجود وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود بل ليس لها من نفسها غير العدم وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها فهذا صحيح فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم وبين كون نفسه مستلزمة للعدم فرق بين مع أن قولنا : له من نفسه وليس له من نفسه لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم أو هي مستلزمة للعدم فإن هذا يتخيله من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج أو يقول الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج وهذا كله خيال باطل كما قد بسط في موضعه
ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج وبعد ذلك فما في الإذهان مغايرة لما في الأعيان
وإذا قلنا : هذا الممكن يقبل الوجود والعدم أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجودا في الخارج بنفسه وليس له في الخارج وجود من نفسه ولا يجب عدمه في الخارج بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجودا ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجودا وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان : هل يتحقق في الأعيان أولا يتحقق ؟ وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره ؟
فإذا قدر أن المتصورات في الإذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى وليس فيها إلا ما هو معدوم في الخارج بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعا لغيره فإذا قدر انه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود وإما لنفسه إما لغيره ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقرا إلى علة توجب عدمه بل هو معدوم بنفسه سواء أمكن وجوده أو امتنع وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر
وإذا قيل بعد هذا : الذي لا وجود له من نفسه موجود بهذا الذي لا وجود له من نفسه وهلم جرا كان بمنزلة أن يقال : هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم وهلم جرا بل المعدوم أن يقال : هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع فيكون هذا تناقضا حيث جعلت المعدوم موجودا بمعدوم وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر

الرابع
أن يقال : الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر فإن ذلك الممكن الآخر لا يترجح وجوده على عدمه إلا بغيره وإذا كان الممكن الذي قدر انه الفاعل المؤثر المرجح لم يترجح وجوده على عدمه بل يقبل الوجود والعدم فالممكن الذي قدر أنه الأثر المفعول المصنوع المرجح أولى أن لا يترجح وجوده على عدمه بل هو قابل للوجود والعدم بل الممكن لا يكون موجودا إلا عند ما يجب به وجوده فإنه ما دام مترددا بين إمكان الوجود والعدم لا يوجد فإذا حصل ما به يجب وجوده وجد وإذا كان كذلك فنفس الممكن لا يجب به ممكن بل لا يجب الممكن إلا بواجب والواجب غما بنفسه وإما بغيره والواجب بغيره هو الممكن من نفسه الذي لا يوجد إلا بما يجب وجوده وحينئذ فيمتنع تسلسل الممكنات بحيث يكون هذا الممكن هو الذي وجب به الآخر بل إنما يجب الآخر بما هو واجب وما كان ممكنا باقيا على الإمكان لم يكن واجبا : لا بنفسه ولا بغيره فإذا قدر تسلسل الممكنات القابلة للوجود والعدم من غير أن يكون فيها موجود بنفسه كانت باقية على طبيعة الإمكان ليس فيها واجب فلا يكون فيها ما يجب به شيء من الممكنات بطريق الأولى فلا يوجد شيء من الممكنات وقد وجدت الممكنات هذا خلف وإنما لزم هذا لما قدرنا ممكنات توجد بممكنات ليس لها من نفسها وجود من غير أن يكون هناك واجب بنفسه
واعلم أن الناس قد تنازعوا في الممكنات : هل يفتقر وجودها إلى ما به يجب وجودها بحيث تكون إما واجبة الوجود معه وإما ممتنعة العدم أو قد يحصل ما تكون معه بالوجود أولى مع إمكان العدم وتكون موجودة لمرجح الوجود مع إمكان العدم فالأزل قول الجمهور والثاني قول من يقول ذلك من المعتزلة ونحوهم
وكثير من الناس يتناقض في هذا الأصل فإذا ابنينا على القول الصحيح فلا كلام وإن أردنا أن نذكر ما يعم القولين قلنا :

الخامس
أن الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر لم يتحقق وجوده بل لا يتحقق وجوده إلا بما يحقق وجوده وحينئذ فإذا قدرنا الجميع ممكنات ليس فيها ما تحقق وجوده لم يحصل شرط وجود شيء من الممكنات فلا يوجد شيء منها لأن كل ممكن إذا أخذته مفتقرا إلى فاعل يوجده فهو في هذه الحال لم يتحقق وجوده بعده فإنه ما دام مفتقرا إلى أن يصير موجودا فليس بموجود فإنه موجودا ينافي كونه مفتقرا إلى أن يصير موجودا فلا يكون فيها موجود فلا يكون فيها ما يحصل به شرط وجود الممكن فضلا عن أن يكون فيها ما يكون مبدعا لممكن أو فاعلا له فلا يوجد ممكن وقد وجدت الممكنات فتسلسل الممكنات بكون كل منها مؤثرا في الآخر ممتنع وهو المطلوب
واعلم أن تسلسل المؤثرات لما كان ممتنعا ظاهر الامتناع في فطر جميع العقلاء لم يكن متقدمو النظار يطيلون في تقريره لكن المتأخرون أخذو يقرورنه وكان أسباب ذلك اشباه التسلسل في الآثار التي هي الفعال بالتسلسل في المؤثرين الذين هم الفاعلون فإن جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف ومن اتبعهما من اهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وسلكه من سلكه من المعتزلة والكلابية والكرامية وغيرهم اعتقدوا بطلان هذا كله وعن هذا امتنعوا أن يقولوا : إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء ثم اختلفوا : هل كلامه مخلوق أو حادث النوع أو قديم العين وهو معنى أو قديم العين وهو حروف او حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا ؟ على الأقوال المعروفة في هذا الموضوع
ثم إن جهما وأبا الهذيل العلاف منعا ذلك في الماضي والمستقبل ثم إن جهما كان أشد تعطيلا فقال بفناء الجنة والنار وأما أبو الهذيل فقال بفناء حركات الجنة وجعلوا الرب تعالى فيما لا يزال لا يمكن أن يتكلم ولا يفعل كما قالوا : لم يزل وهو لا يمكن أن يتكلم وأن يفعل ثم صار الكلام والفعل ممكنا بغير حدوث شيء يقتضي إمكانه وأما أكثر أتباعهما ففرقوا بين الماضي والمستقبل كما ذكر في غير هذا الموضع والمقصود هنا انه لما جعل من جعل التسلسل نوعا واحدا كما جعل من جعل الدور نوعا واحدا حصلت شبهة فصار بعض المتأخرين كالآمدي والآبهري يوردون أسولة على تسلسل المؤثرات ويقولون إنه لا جواب عنها فلذلك احتيج إلى بسط الكلام في ذلك

فصل
وما سلكه هؤلاء المتاخرون في إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار فهو طريق صحيح أيضا وإن كان منهم من يورد على ذلك شكوكا يعجز بعضهم عن حلها كما قد بسط في غير هذا الموضع
لكنه طريق طويل مشق لا حاجة إليه ولهذا لم يسلكه أحد من النظار المتقدمين من أهل الكلام المحدث فضلا عن السلف والأئمة فشيوخ المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم من أصناف أهل الكلام أثبتوا الصانع الحدوث والإمكان وما يتعلق بذلك من غير احتياج إلى بناء ذلك على إبطال الدور والتسلسل كما هو الموجود في كتبهم فلا يوجد بناء إثبات الصانع على قطع الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار في كلام مثل أبي علي الجبائي وأبي هاشم وعبد الجبار بن أحمد وأبي الحسين البصري وغيرهم ولا في كلام مثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي بكر بن فورك وأبي إسحق الإسفراييني وأبي المعالي الجوني وأمثالهم ولا في كلام محمد كرام ومحمد بن الهيصم وأمثالهم ولا في كتب من يوافق المتلكمين في كثير من طرقهم مثل كلام أبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم وكذلك غير هؤلاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولا في كلام متكلمي الشيعة كالموسوي و الطوسي وأمثالهما لا أعلم أحدا من متكلمي طوائف المسلمين جعل إثبات الصانع موقوفا على إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار وإن كان هؤلاء يبطلون ما يبطلونه من الدور والتسلسل
فالمقصود أنهم لم يجعلوا إثبات الصانع متوقفا عليه بل من يذكر منهم إبطال التسلسل يذكره في مسائل الصفات والأفعال فإن هذا فيه نزاع مشهور فيذكرون إبطال التسلسل مطلقا في العلل والآثار لإبطال حوداث لا أول لها بدليل التطبيق ونحوه وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة والعلل الغائية دون الاثار فإنهم مع اتفاقهم على بطلانه لا يحتاجون إليه في إثبات الصانع وأما التسلسل في الآثار والشروط فهذا احتاج إليه من احتاج من نفاة ما يقوم به المقدورات والمرادات كالكلابية وأكثر المعتزلة والكرامية ومن وافق هؤلاء
ومن أقدم من رأيته ذكر نفي التسلسل في أثبات واجب الوجود في المؤثراتخاصة دون الآثار ابن سينا وهوبناه على نفي التسلسل في العلل فقط ثم اتبعه من سلك طريقة كالسهوردي المقتول وأمثاله وكذلك الرازي والآمدي والطوسي وغيرهم
لكن هؤلاء زادوا عليه احتياج الطريقة إلى تفي الدور أيضا والدور القبلي مما اتفق العقلاء على نفيه ولوضوح انتفائه لم يحتج المقدمون والجمهور إلى ذكر ذلك لأن المستدل بدليل ليس عليه أن يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات وينفيه فإن هذا لا نهاية له وإنما عليه أن ينفي من الاحتمالات ما ينقدح ولا ريب أن اتقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الأحوال
ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس يذكر في الأدلة من الاحتمالات التي ينفيها مالا يحتاج غيره إلى ذلك ولكن هذا لا ضابط له كما أن الأسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر أو مناظر فإن الله ييسر من الهدى ما يبن له فساد ذلك فإن هدايته لخلقه وإرشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك وبحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصدا وعملا

موقف الرازي من طريقة ابن سينا
ولهذا لما شرح الرازي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وقال إنه لم يذكر فيها إبطال الدور وذكر ما ذكره في إبطال الدور ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل ابن سينا إنما تركه لذلك والطريقة التي سلكها ابن سينا في إثبات واجب الوجود ليس هي الطريقة أئمة الفلاسفة القدماء كأرسطو وأمثاله وهي عند التحقيق لا تفيد إلا إثبات مجرد واجب وأما كونه مغايرا للأفلاك فهو مبني على نفي الصفات وهو توحيدهم الفاسد الذي قد بينا فساده في غير هذا الموضع ولهذا كان من سلك هذه الطريقة قد يفضى به الأمر إلى إنكار وجود واجب مغاير لوجود الممكنات كما يقوله أهل الوحوة القائلون بوحدة الوجود من متأخري متصوفة هؤلاء الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما والقول بوجود قول حكاه ارسطو واتباعه عن طائفة من الفلاسفة وأبطلوه
والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون : ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود وهو واجب بنفسه وهو القول الذي أظهره فرعون لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الإسم فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله وأولئك يحسبون ان الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود وأولئك لا يقولون هذا وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق وأولئك ليس لهم توجه إليه
وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه : منها العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن وغير ذلك من الصور والأعراض فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة ليست واجبة ولا ممتنعة
ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود ونهاية العقول والمطالب العالية وغير ذلك من كتبه وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام بل لم يكن في هؤلاء من سلك هذه الطريقة إثبات الصانع فضلا عن أن يجعلها هي العمدة ويجعل مبناها على ما سنذكره من المقدمات
وقد رأيت من أهل عصرنا من يصنف في أصول الدين ويجعلون عمدة جميع الدين على هذا الأصل تبعا لهؤلاء لكن منهم من لا يذكر دليلا بل يجعل عمدته في نفي النهاية امتناع وجود مالا يتانهي من غير حجة أصلا ولا يفرق بين النوعين ويرتب على ذلك جميع أصول الدين ثم من هؤلاء المصنفين من يدخل مع أهل وحدة الوجود المدعين للتحقيق والعرفان ويعتقد صحة قصيدة ابن الفارض لكونه قراها على القونوي وأعان على شرحها لمن شرحها من إخوانه وهم مع هذا يدعون أنهم أعظم العالم توحيدا وتحقيقا ومعرفة
فلينظر العاقل ما هو الرب الذي أثبته هؤلاء وما هو الطريق لهم إلى إثباته وتناقضهم فيه فإن القائلين بوحدة الوجود يقولون بقدم العالم تصريحا أو لزوما وذلك مستلزم للتسلسل ودليله الذي أثبت به واجب الوجود وعمدته فيه نفي كل ما يسمى تسلسلا
وأيضا ففيما صنفه من أصول الدين يذكر حدوث العالم موافقة للمتكلمين المبطلين للتسلسل مطلقا في المؤثرات والآثار ومع هؤلاء يقول بوحدة الوجود المستلزمة لقدمه وللتسلسل موافقة لمتصرفة الفلاسفة الملاحدة كابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم
وإذا كان ما ذكره ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود صحيحا في نفسه وإن كان لا حاجة إليه ولا يحصل المقصود من إثبات الصانع به وكان الرازي ونحوه يزعمون أن هذه الطريقة هي الطريقة الكبرى في إثبات واجب الوجود وهي الطريقة التي سلكها الآمدي مع أنه اعترض عليها باعتراض ذكر أنه لا جواب له عنه فنحن نذكرها على وجهها

كلام ابن سينا في إثبات وجود الله تعالى
قال ابن سينا إشارة كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجودفي نفسه فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال : هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل عدم علته صار ممتنعا أو مثل شرط وجود علته صار واجبا 0 وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشىء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود إما واجب بذاته وغما ممكن الوجود بحسب ذاته
إشارة ماحقة في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه ومن حيث هو ممكن فإن صار أحدهما أولى فلحضور شىء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره
ثم قال تنبيه : إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من أحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها 0 ولنرد هذا بيانا شرح : كل جملة كل واحد منها معلول فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها وذلك لأنها إما أن تقتضي علة أصلا فتكون واجبة غير معلولة وكيف يتأتى هذا : وإنما تجب بآحادها ؟ وإما أن تقتضي علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شىء واحد 0 وأما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة 0 وإما أن تقتضي علة هي بعض الاحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته أولى بذلك وإما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها وهو الثاني
إشارة : كل علة جملة هي غير شىء من آحادها فهي علة :
أولا : للآحاد ثم للجملة وإلا فلتكن الآحاد غير محتاجة إليها 0 فالجملة إذا تمت بآحادها لم تحتج إليها بل ربما كان شىء علة لبعض الآحاد دون بعض ولم يكن علة للجملة على الإطلاق
إشارة كل جملة مترتبة من علل ومعلولات على الولاء وفيها علة غير معلولة فهي طرف لأنها كانت وسطا فهي معلولة
إشارة كل سلسلة مترتبة من علل ومعلولات كانت متناهية أو غير متناهية فقد ظهر أنها لم يكن فيها إلا معلول احتاجت إلى علة خارجة عنها لكنها يتصل بها لا محالة طرف فظهر أنه إن كان فيها ما ليس بمعلول فهو طرف ونهاية فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته

تعليق على كلام ابن سينا
قلت : مضمون هذا الكلام ان الموجود إما واجب بنفسه وإما ممكن لا يوجد إلا بغيره كما قرر ذلك في الإشارتين لكن قد قيل إن في الكلام تكريرا لا يحتاج إليه وإذا كان الممكن لا يوجد إلا بغيره فهو مفعول معلول ويمتنع تسلسل المعلولات لأن كل واحد من تلك الآحاد ممكن والجملة متعلقة بتلك الممكنات فتكون ممكنة غير واجبة أيضا فتجب بغيرها وما كان غير جملة الممكنات وآحادها فهو واجب فهذا معنى قوله : إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها لكن قوله إما أن يتسلسل يحتاج أن يقال : وإما ان لا يتسلسل فقيل إنه حذف ذلك اختصارا إذ كان هو مقصوده والمعنى : وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود وهو المطلوب
ولو قيل بدل هذا اللفظ : إن تسلسل ذلك كان هو العبارة المناسبة لمطلوبه
ثم ذكر شرح هذا الدليل على وجه تفصيلي بعد ان ذكره محملا فقال : إذا تسلسلت الممكنات وكل منها معلول فغنها تقتضي علة خارجة عن آحادها لأنه إما يكون لها علة وإما أن لا يكون وإذا كان لها علة فالعلة إما المجموع وإما بعضه وإنما خارج عنه والأقسام ممتنعة إلا الأخير
أما الأول وهو أن لا تقتضي علة أصلا فتكون الجملة واجبة غير معلولة فهذا لا يتاتى لأنها إنما تجب بآحادها وما وجب كان معلولا واجبا بغيره
وهذا يقرره بعضهم كالرازي بوجهين : أحدهما : أن الجملة مركبة من الآحاد وىحادها غيرها وما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه وهو تقرير ضعيف لأنه لو قدر أن كل واحد من الأجزاء واجب بنفسه لم يمتنع أن تكون الجملة واجبة بنفسها فإن مجموع الأمور الواجبة بنفسها لا يمتنع أن تكون غير محتاجة إلى أمور خارجة عنها وهذا هو المراد بكونه واجبا بنفسه 0 ولكن هذا من جنس حجتهم على نفي الصفات بنفي التركيب وهي حجة داحضة
الوجه الثاني : أن كل واحد من الآحاد ممكن غير واجب والجملة لا تحصل إلا بها فما لا يحصل إلا بالممكن اولى ان يكون ممكنا وهذا التقرير خير من ذاك وهذا التقرير الثاني هو الذي ذكره السهروردي في تلويحاته وهو أحد الوجهين الذين ذكرهما الرازي وهو أحد الآمدي أيضا
قال السهروردي : لما كان كل واحد من الممكنات يحتاج إلى العلة فجميعها محتاج لأنه معلول الآحاد الممكنة فيفتقر إلى علة خارجة عنه وهي ممكنة لأنها لو كانت ممكنة كانت من الجملة فتكون إذا واجبة الوجود
وقد قررها الآمدي بوجه ثالث وهو أنها إن كانت الجملة واجبة بذاتها فهو عين المطلوب فقال الجملة إما ان تكون واجبة لذاتها وإما أن تكون ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت احادها ممكنة وقد ثيل : إنها ممكنة قال : ثم وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب
وهذا الوجه الثاني الذي ذكره هو وجه ثالث وليس هذا بمحصل للمقصود لأنه حينئذ لا يلزم ثبوت واجب بنفسه خارج عن جملة الممكنات

كلام الآمدي في دقائق الحقائق
وقد أورد بعضهم على هذا سؤلا فقال : إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى امر خارج عنها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض
قال الآمدي : وهذا ساقط لأنه إذا كانت الجملة غير ممكنة كانت واجبة بذاتها وهي مجموع الاحاد 0 وكل واحد من الاحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب بذاته لا يكون ممكنا بذاته
قلت : وهذا السؤال يحتمل ثلاثة اوجه :
احدهما أن يقال : إنها واجبة بالآحاد والأجتماع جميعا ومعلوم ان الجملة هي الآحاد واجتماعها فإذا كان ذلك كان ممكنا كانت الذات ممكنة فيكون السؤال ساقطا كما قال الآمدي :
الثاني : أن يقال : المجموع واجب بآحاده الممكنة ولا يجعل المجموع نفسه ممكنا بل يقال : المجموع واجب بالآحاد الممكنة وهذا هو السؤال الذي يقصده من يفهم ما يقول وحينئذ فسيأتي جوابه بان الاجتماع الذي للممكنات أولى أن يكون ممكنا لكونه عرضا لها والعرض محتاج إلى موارده فإذا كانت ممكنة كان هو اولى بالإمكان وغير ذلك
الاحتمال الثالث : أن يقال : كل واحد من الآحاد يترجح بالآخر والمجموع ممكن أيضا لكنه يترجح بترجح الآحاد المتعاقبة
وهذا السؤال ذكره الآمدي موردا له على هذه الحجة في كتابه المسمى بدقائق الحقائق
قال : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود وبكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية
قال : وهذا شكال مشكل وربما يكون عنده غيري حله

تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي
ولقائل أن يقول : إن أريد بكون الجملة ممكنة انها ممكنة غير واجبة بل مفتقرة إلى أمر خارج عنها فلذلك يوجب افتقارها إلى غيرها وهو المطلوب
وإن أريد أنها ممكنة بنفسها واجبة بالآحاد المتسلسلة فهذا السؤال هو في معنى السؤال الذي قبله وإنما الاختلاف بينهما في أن الأول قال : لم لا تكون واجبة بنفسها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن آحادها بل المجموع واجب بآحادها الممكنة
والثاني قال : لم لا تكون ممكنة بنفسها واجبة بآحادها على وجه التسلسل
لكن قد يقال : إنه في احد التقديرين ادعى وجوب الهيئة الاجتماعية بنفسها مع إمكان الآحاد وفي الثاني ادعى ان الهيئة الاجتماعية ممكنة بنفسها لكنها واجبة بالآحاد المتسلسلة ومعلوم أن كليهما باطل والأول أظهر بطلانا من الثاني فإنها إذا كانت الآحاد كلها ممكنة والاجتماع نسبة وإضافة بينها غايته أن يكون عرضا قائما بها امتنع ان يكون واجبا بنفسه فإن الموصوف الممكن يمتنع أن تكون صفته واجبة الوجود بنفسها
وأما الثاني فلأن الهيئة الاجتماعية إذا كانت معلول الآحاد الممكنة كانت أولى بالإمكان فإن معلول الممكن أولى أن يكون ممكنا وإن شئت قلت : المفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا والآحاد ليس فيها إلا ما هو ممكن فلا يكون في الاجتماع وأحاده إلا ما هو ممكن لا يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه يمتنع أن يوجد به غيره إذا لم يحصل له ما يوجد به فإن وجوده في نفسه قبل وجود غيره به فإذا لم يكن وجوده إلا بموجد يوجده فلان لا يكون وجود غيره به بدون الموجد الذي يوجده أولى واحرى وكل من الممكنات واجتماعها ليس موجودا بنفسه فيمتنع ان يكون شيء منها موجدا لغيره فامتنع ترجح بعضها ببعض وترجح المجموع بالآحاد
وفي الجملة فكلا السؤالين يتضمن افتقار الاجتماع إلى الآحاد فكلاهما لم يدع فيه إلا وجوبها بالآحاد لم يدع وجوبا بالذات غير الوجوب بالآحاد لكن الآمدي وهي هذا السؤال لما أضافة إلى غيره بعبارة أخرى واعتبار ثم إنه اعترف بعدم قدرته على حله لما أورده من جهة نفسه بعبارة أخرى واعتبار آخر
ومن أجاب عن الآمدي في الفرق بينهما يقول : السؤال الأول قيل فيه : إن المجموع واجب بنفسه بعبارة ممتنع وهذا قيل فيه : إنه ممكن وجب بالآحاد
وهذا الجواب بالفرق ضعيف وذلك لأنه إذا قيل : هو ممكن واجب بالآحاد فقد قيل : إنه واجب بتلك الآحاد وتلك الآحاد كلها ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا فيمتنع أن يكون معلول الممكن قبل وجوب الممكن والممكن لا يجب إلا بالواجب بنفسه بل ما كان واحد من الممكنات جزء علة لوجوده فهو ممكن فكيف إذا كان كل من الممكنات التي لا نهاية لها جزء علة وجوده ؟ فإن الاجتماع الذي يحصل للممكنات المتسلسلة التي هي علل ومعلولات يتوقف على كل واحد من تلك الأمور التي كل منها علة معلول فالاجتماع أولى بالإمكان وأبعد عن الوجوب إن قدر أن له حقيقة غير الآحاد
فثبت انه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات كل منها ممكن فلا بد لها من أمر خارج عنها وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء وهو من أقوى العلوم اليقينية والمعارف القطعية
ولولا أن طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم كالآمدي والأبهري لما بسطنا فيه الكلام

المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد
وأصل هذا السؤال مبناه على أن المجموع ليس هو كل واحد واحد من الآحاد إذا المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد فقد يقال : هو واجب بكل واحد واحد من الآحاد وحينئذ فالمجموع ممكن من جهة كونه مجموعا واجبا بالآحاد الممكنة لا سيما وهؤلاء الفلاسفة الذين احتجوا بهذا 0 هم واكثر الناس يقولون : لا يجب في كل جملة ان توصف بما يوصف به آحادها

كلام ابن سينا
قال ابن سينا : ليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد

كلام السهروردي
وكذلك قال السهروردي الحكم على الكل بما على كل واحد لا يجوز فإن كل ممكن غير الحركة جائز وقوعه دفعة واحدة وليس كذلك الجميع وكل واحد من الضدين ممكن في محل والكل معا غير ممكن

الرد على ذلك من وجوه
الوجه الأول
أن يقال : نفس الاجتماع يمتنع أن يكون واجبا بنفسه بدون الأجزاء فإن فساد هذا معلوم بالضرورة ولم يقله أحد كيف والاجتماع عرض يفتقر إلى محله فإذا كان محل العرض غير واجب بنفسه كان العرض المفتقر إلى الممكن بنفسه أولى أن يكون ممكنا غير واجب بنفسه وإنما يتوهم وجوبه بالأجزاء الممكنة وحينئذ فيكون ذلك الاجتماع ممكنا بنفسه واجبا بالأجزاء وإذا كان ممكنا بنفسه فنفس اجتماع الآحاد من جمله أجزاء المجموع فيقال : المجموع هو الآحاد مع الهيئة الاجتماعية وكل واحد من ذلك ممكن ليس واجبا بنفسه وحينئذ فلا يكون هنا مجموع منفصل عن الأجزاء فلو قيل : وجب المجموع الآحاد لكان قولا بوجوب أحد الجزأين الممكنين بالآخر وهو وجوب الجزء الممكن بنفسه الذي هو الصورة الاجتماعية بسائر الأجزاء التي كل منها ممكن بنفسه
وإذا كان كذلك كان هذا مضمونه حصول أحد الممكنين بالآخر من غير شيء واجب نفسه
ومن المعلوم أن المعلق بالممكن بنفسه أولى أن يكون ممكنا بنفسه والممكن بنفسه لا يوجد إلا بغيره فيلزم أن لا يوجد واحد منهما على هذا التقدير والتقدير أن الممكنات قد وجدت فهناك شيء خارج هن الممكنات وجدت به

الرد على ذلك من وجوه
الوجه الثاني
بأن يقال : المجموع الذي هو هيئة اجتماعية نسبة وإضافة بين آحاد الممكنات ليس هو جوهرا قائما بنفسه فيمتنع أن تكون واجبة بنفسها فإن العرض مفتقر إلى غيره والنسبة من أضعف الأعراض وما كان مفتقرا إلى ممكن من الممكنات امتنع وجوبه بنفسه فالمفتقر إلى كل واحد واحد من الممكنات ممكن بنفسه ولا يوجد شيء مما هو ممكن بنفسه إلا بغيره لم يوجد شيء من ذلك إلا بغيره ويمتنع وجود الممكن بمجرد ممكن فإن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يوجد به غيره بطريق الأولى وهو معنى قولهم : المعلق بالممكن أولى أن يكون ممكنا

الوجه الثالث
أن يقال : المجموع إما أن يكون مغايرا لكل واحد واحد وإما أن لا يكون فإن لم يكن مغايرا بطل هذا السؤال ولم يكن هناك مجموع غير الآحاد الممكنة وإن كان مغايرا لها فهو معلول لها ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا
وهذا معنى قول ابن سينا إن الجملة إذا لم تقتض علة أصلا أي لم يستلزم علة تكون موجبة للجملة كانت واجبة غير معلومة وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها يقول : هي لم تجب بنفسها وإنما وجبت بآحادها وما وجب بغيره لم يكن واجبا بنفسه

كلام الآمدي في خطبة أبكار الأفكار
وإيضاح هذا بالكلام على عبارة الآمدي حيث قال هذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله مع أنه يعظم ما يتكلم فيه من الكلام والفلسفة ويقول في خطبة كتابه أبكار الأفكار ما تقوله الفلاسفة من أنه لما كان كمال كل شيء وتمامه بحصول كمالاته الممكنة له كان كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات ولما كانت العلوم متكثرة والمعارف متعددة وكان الزمان لا يتسع لتحصيل جملتها مع تقاصر الهمم وكثرة القواطع كان الواجب السعي في تحصيل أكملها والإحاطة بأفضلها تقديما لما هو الأهم فالأهم وما الفائدة في معرفته أتم ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالبصر أبصار البصائر وتمتد نحوه أعناق الهمم والخواطر ما كان موضوعه أجل الموضوعات وغايته أشرف الغايات وإليه مرجع العلوم الدينية ومستند النواميس الشرعية وبه صلاح العالم ونظامه وحله وإبرامه والطرق الموصلة إليه يقينيات والمسالك المرشدة نحوه قطعيات
وذلك هو العلم الملقب بعلم الكلام الباحث في ذات واجب الوجود وصفاته وأفعاله ومتعلقاته ولما كنا مع ذلك قد حققنا أصوله ونقحنا فصوله وأحطنا بمعانيه وأوضحنا مبانيه وأظهرنا أغواره وكشفنا أسراره وفزنا فيه بقصب سبق الأولين وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين واستنزعنا منه خلاصة الألباب وفصلنا القشر عن اللباب سألني بعض الأصحاب والفضلاء من الطلاب جمع كتاب حاو لمسائل الأصول جامع لأبكار أفكار العقول
وذكر تمام الكلام فهو مع هذا الكلام ومع ما في كلامه من ذكر مباحث أهل الفلسفة والكلام يذكر مثل هذا السؤال المشكل الوارد على طريقة معرفة واجب الوجود الذي لم يذكر طريقا سواه ويذكر أنه مشكل وليس عنده حله ولكن من عدل عن الطرق الصحيحة الجلية القطعية القريبة البينة إلى طرق طويلة بعيدة لم يؤمن عليه مثل هذا الانقطاع كما قد نبه العلماء على ذلك غير مرة وذكروا أن الطرق المبتدعة إما أن تكون مخطرة لطولها ودقتها وإما أن تكون فاسدة ولكن من سلك الطريق المخوقة وكانت طريقا صحيحة فإنه يرجى له الوصول إلى المطلوب
ولكن لما فعل هؤلاء ما فعلوا وصاروا يعارضون بمضمون طرقهم صحيح المنقول وصريح المعقول ويدعون أن لا معرفة إلا من طريقهم أولا يكون عالما كاملا إلا من عرف طريقهم احتيج إلى تبين ما فيها دفعا لمن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا وبيانا للطرق النافعة غير طريقهم وبيانا لأن أهل العلم والإيمان عالمون بحقائق ما عندهم ليسوا عاجزين عن ذلك ولكن من كان قادرا على قطع الطريق فترك ذلك إيمانا واحتسابا وطلبا للعدل والحق وجعل قوته في الجهاد في أعداء الله ورسوله كان خيرا ممن جعل ما أوتيه من القوة فيما يشبه قطع الطريق { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين } البقرة 11 - 19
فإن الهدى الذي بعث الله به رسوله لما كان فيه معنى الماء الذي يحصل به الحياة ومعنى النور الذي يحصل به الإشراق ذكر هذين المثلين كما قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } الأنعام 122 وكما ضرب المثل بهذا وهذا في قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } الرعد 17 وقال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } النساء 60 - 63
ومن أعظم المصائب أن يصاب الإنسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له إلا به ويصاب في الطريق الذي يقول إنه به يعرف ربه ويرد عليه فيه إشكال لا ينحل له مع أنه من أكبر رؤوس طوائف أهل الكلام والفلسفة بل قد يقال : إنه لم يكن فيهم في وقته مثله
والمقصود هنا ذكر عبارته في الإشكال الذي أورده وهو قوله : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية

الرد على الآمدي
فيقال له : والأمور التي شملها وجوب أو إمكان أو امتناع أو غير ذلك إن لم يكن هناك إلا مجرد شمول ذلك الوصف لها من غير أمر وجودي زائد على الآحاد فليس اجتماعها زائدا على أفرادها وإن كان هناك اجتماع خاص كالتأليف الخاص فهذا التأليف والاجتماع الخاص زائد على الأفراد وإذا كان كذلك فليس في مجرد تقدير ممكنات شملها الإمكان ما يقتضى أن يكون اشتراكها في ذلك قدرا زائدا على الآحاد كما أن العشرة المطلقة ليست قدرا زائدا على آحاد العشرة
لكن نحن نذكر التقسيمات الممكنة التي تخطر بالبال ليكون الدليل جامعا فنقول : إذا قال القائل في مثل المعلولات الممكنة : الجملة معلولة بالآحاد فيقال له : إما أن لا يكون هنا جملة غيرالآحاد كما ليس للعشرة جملة غير آحاد العشرة وإما أن تكون الجملة غير الآحاد كالشكل المثلث فإن اجتماع الإضلاع الثلاثة غير وجودها مفترقة وكالعشرة المصفوفة فإن اصطفافها غير العشرة المطلقة فإن كان الأول فالجملة هي الآحاد المتعاقبة وكلها ممكن فالجملة كلها ممكنة
وإن كان الثاني فالجملة إما ان يراد بها الهيئة الاجتماعية دون أفرادها وإما أن يراد بها الأفراد دون الاجتماع وإما ان يراد بها الأمران والأول هو الذي أراده بالسؤال
لكن ذكرنا كل ما يمكن أن يقال فإذا قال : الاجتماع ممكن وترجحه بالآحاد المتعاقبة
قيل له : فيكون الاجتماع معلول الآحاد وموجبها ومقتضاها والآحاد ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا فيكون حينئذ كل من الآحاد ممكنا ونفس الجملة ممكنة لكن هذا الممكن معلول تلك الممكنات وقد علم أن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يكون شيء من تلك الآحاد موجودا بنفسه ولا الجملة موجودة بنفسها فلا يكون في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه إذا وجد ن فلا بد له من موجد
ومما يبين ذلك أن الجملة إذا قيل : هي ممكنة معلولة الآحاد المتعاقبة كان هاك ممكن زيد على تلك الممكنات فكان الممكنات التي هي معلولات متعاقبة زيدت معلولا آخر ومعلوم أنها بزيادة معلول آخر تكون أحوج إلى الواجب منها لو لم تزد ذلك المعلول
ولو قيل : إنها زيدت علة ممكنة لم يغن عنها شيئا فكيف إذا زيدت معلولا ممكنا
ومما يبين هذا أن الجملة قد تكون مقترنة وقد تكون متعاقبة فالمقترنة مثل اجتماع أعضاء الإنسان واجتماع أبعاض الجسم المركب سواء كان لها ترتيب وضعي كالجسم أو لم يكن كاجتماع الملائكة والناس والجن والبهائم وغير ذلك
وأما المتعاقبة فمثل تعاقب الحوادث كاليوم والأمس والولد مع الولد ونحو ذلك
والجملة المقترنة أحق بالاجتماع مما تعاقبت أفرادها فإن ما تعاقبت أفراده قد يقال : إنه ليس بموجود لأن الماضي معدوم والمستقبل معدوم ولهذا جوز من جوز عدم التناهي في هذا دون ذاك وفرق بين الماضي والمستقبل لأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل وفرق قائل ثالث بين ماله اجتماع وترتيب كالجسم وبين ما فقد أحدهما كالنفوس والحركات
وإذا كان كذلك فإذا قال اقائل : الجملة ممكنة وهي معلولة الآحاد فلو كانت الجملة هنا مقترنة مجتمعة في زمان احد لكان الأمر فيها أظهر من المتعاقبة التي لا اقتران لآحادها ولا أجتماع لها في زمن واحد والعل والمعلولات لا تكون إلا مجتمعة لا تكون متعاقبة لكن المقصود أن ما يذكره يشمل القسمين فلو قدر أنها متعاقبة لكان ذلك يشملها
والآمدي جعل العمدة في نفي تناهي العلل والمعلولات على أنه قال : والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكن على ما وقع به الغرض فهي غما متعاقبة وإما معا فإن قيل بالأول فقد أبطل بثلاثة اوجه ثم زيفها وقال والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو ما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية وماله ابتداء ونهاية فهو متوقف على سبق غيره عليه وأما أن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا
ثم ساق الدليل كما حكيناه عنه وهذه التقاسيم والتطويل لا يحتاج إليها وهي باطلة في نفسها ن فزاد في الدليل مايستغنى عنه ويكون توقف الدليل عليه مبطلا له إذا لم يبطل إلا بما ذكره
وهذا كثيرا ما يقع في كلام أهل الكلام المذموم يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق فلم يصل إلى مكة

وجوه الرد على الآمدي
الأول
أن يقال : ما ذكره من الدليل على امتناع علل ومعلولات مجتمعة يتناول العلل والمعلولات مطلقا سواء كانت متعاقبة أو لم تكن وإذا كان دليل الامتناع يعم القسمين فلا حاجة إلى التقسيم ولكن زيادة هذا القسم كزيادة القسم فيما ذكره بعد ذلك حيث قال وإن كانت العلل والمعلولات معا فالنظر إلى الجملة غير النظر إلى كل من الآحاد وحينئذ فالجملة إما أن تكون واجبة وأما أن تكون ممكنة وهذا لا يحتاج إليه أيضا فإن قد ذكر أن الآحاد ممكنة مفتقرة إلى الواجب فبتقدير أن لا تكون الجملة زائدة على الآحاد يكون الأمر أقرب
وهو بعد هذا قد أورد انه لا يلزم من كون الأفراد ممكنة كون الجملة ممكنة وأجاب عن ذلك بأن هذا ساقط وهذا السؤال والجواب كاف عن ذلك التطويل بزيادة قسم لا يحتاج إليه لكن هذا القسم وإن لم يحتج إليه فإنه لم يضره بخلاف ما ذكره من زيادة تعاقب العلل فغنه زيادة أفسد بها دليله مع استغناء الدليل عنها

الثاني
وذلك يظهر بالوجه الثاني : وهو انه قال لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة فيلزم أن تكون الأولى حادثة او تكون كلها حادثة مسبوقة بالعدم وهذا قد استدل به طائفة من أهل الكلام على امتناع حوادث لا تتناهى
وقد تقدم الاعتراض عليه وبين الفرق بين ما هو حادث بالنوع وحادث بالشخص وأن ما كان لم تزل آحاد متعاقبة كان كل منها بمنزلة الآخر وكل منها مسبوق بالعدم وليس النوع مسبوقا بالعدم
وقول القائل الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم لفظ مجمل فإن أراد به أن الواحد الذي هو بعينه أزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فهذا صحيخح وليس الكلام فيه وإن أراد أن النوع الأزلي الذي لم يزل ولا يزال ولا يكون مسبوقا بالعدم فهذا محل النزاع
فقد صادر على المطلوب بتغيير العبارة وكأنه قال لا يمكن دوام الحوادث كما لو قال الأبدي لا يكون منقطعا وكل من أفراد المستقبلات منقطع فلا تكون المستقبلات أبدية
فيقال النوع هو الأبدي ليس كل واحد أبديا كذلك يقال في الماضي وهذا الكلام قد بسط في غير هذا الموضع

الثالث
أن يقال : هذه المقدمة فيها نزاع مشهور بين العقلاء ولعل أكثر الأمم من أهل الملل والفلاسفة ينازع فيها وأما وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلم يتنازع فيها أحد من العقلاء المعروفين
فلو قدر أن تلك المقدمة المتنازع فيها صحيحة لكان تقدير المقدمة المجمع عليها بمقدمة متنازع فيها خلاف ما ينبغي في التعليم والبيان والاستدلال لا سيما وليست أوضح منها ولا لها دليل يخصها فإنه ربما ذكرت المقدمة المتنازع فيها لاختصاصها بدليل أو وضوح ونحو ذلك وأما بدون ذلك فهو خلاف الصواب في الاستدلال

الرباع
أن الغزالي سلك مسلكا في تعجيز الفلاسفة عن إثبات الصانع بان قال دليلكم مبني على نفي التناهي عن العلل والمعلولات قال وأنتم لا يمكنكم ذلك مع إثباتكم حوادث لا تتناهى فإن ما تذكرونه من دليل نفي النهاية في العلل يلزم مثله في الحوادث وما تذكرونه مما يسوغ وجود حوادث لا تتناهى يلزمكم نظيره في العلل
وهذا الذي قاله وإن كان قد استدركه من استدركه عليه لكن هو أجود مما فعله الآمدي فإن مقصوده إلزامهم أحد امرين إما عدم إثبات الواجب وإما الإقرار بحدوث العالم وبين أن إثبات الصانع معلوم بإثبات الحوادث وأن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري فهذا خير من أن يجعل إثبات الصانع موقوفا على تقسيمها إلى التعاقب والاقتران وإن العلل المتعاقبة لا يمكن إبطالها إلا بالتسوية بين امتناع كون الحادث المعين دائما لم يزل وكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن هذا فيه من التطويل ووقف العلم بالصانع على مثل هذه المقدمة ما لا يخفى

الخامس
أن الدليل الذي ذكره غايته أن يثبت ان الحوادث لها ابتداء إذ لو كانت العلل متعاقبة محدثة وللحوادث أول لزم أن يكون للحادث أول وهذا غايته أن يكون بمنزلة إثبات حدوث العالم
وهو وأمثاله مع كونهم يحتجون على حدوث العالم فلم يقولوا : إن المحدث لا بد له من محدث كما هو قول الجمهور ولا أثبتوا ذلك بان الحدوث مخصص بوقت دون وقت فيفتقر إلى مخصص كما فعله كثير من أهل الكلام بل ولا بان الممكن يفتقر إلى المرجح لوجوده بل قالوا المحدث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ثم أوردوا جواز التسلسل في العل لن وأجابوا عن ذلك
فإذا كان الجواب عن ذلك لا يتم إلا بإثبات حدوث العلل كما كان غايتهم أن يثبتوا افتقار الممكن إلى علة حادثة فهم بعد ذلك إن قالوا : والمحدث لا بد له من محدث كانوا قد قالوا حقا لكن طولوا بذكر تقسيمات لا فائدة فيها بل تضعف الدليل وكانوا مستغنين عنها في الأول وإن لم يقولوا : والمحدث لا بد له من محدث لم يكن ما ذكروه نافعا فإن مجرد حدوث العلة إن لم يستلزم وجود المحدث لم يثبت واجب الوجود
فتبين أن ما سلكوه إما أن لا يفيد أو يكون فيه من التطويل والتعقيد قد يكون فيه منفعة لمن يسفسط ويعاند ولمن لاتنقاد نفسه إلا بمثل ذلك كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع
ومضمون ما ذكروه دور في الاستدلال فلا يكون استدلالا صحيحا فإنه إذا قدر علل ومعلولات متعاقبة وأثبت امنتناع ذلك لأن الحادث لا يكون أزليا لزم أن هذه العلل محدثة
فيقال له : فلم لا يجوز ان يكون استناد الممكنات إلى العلل محدثة فلا بد أن يقول على طريقته : إن المحدث ممكن والممكن يفتقر إلى علة وعلته لا تكون محدثة فيكون حقيقة كلامه : المحدث يفتقر إلى محدث لأن المحدث يفتقر إلى محدث إذا كان حقيقة ما يقوله : إن المحدث لا بد له من علة لأنه ممكن فيفتقر إلى مرجح ومرجحة لا يكون محدثا لأن المحدث ممكن لا بد له من علة
وإن غير العبارة فقال : هذا الممكن لا بد له من علة والعلة لا تكون ممكنة لأن الممكن لا بد له من علة كان قد قال : الممكن له علة لأن الممكن له علة وكل ذلك إثبات الشيء بنفسه
والمقصود هنا أن ما ذكر من امتناع التسلسل في العل يشمل ما إذا قدرت متعاقبة كما إذا قدرت مقترنة وأنه حينئذ يكون الاجتماع معلولا لها كان أولى أن يكون ممكنا لا يوجد بنفسه ولا يوجد ممكن بممكن لا موجد له فإن مالم يوجد نفسه أولى أن لا يوجد غيره فإذا لم يكن في الآحاد ما يوجد نفسه كان أولى أن لا يوجد غيره لا الجملة ولا غيرها من الآحاد
يبين هذا ان الممكن لا يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بغيره فإذا قدر أن ثم ممكنات موجودة سواء كانت عللا أو لم تكن وسواء كانت متناهية أو غير متناهية لم يكن فيها شيء وجد بنفسه فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بها وليس فيها شيء موجود بنفسه لم يكن في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه لا جملة ولا تفصيلا وإذا وجد مالا يوجد بنفسه لم يوجد إلا بغيره
ألا ترى أنه لو قال : الحوادث لا توجد بنفسها لم يكن فرق بين الحوادث التي لها نهاية والتي لا نهاية لها بل كل من الحوادث التي لا تتناهى لا يوجد بنفسه بل لا بد له من محدث
والذهن إذا قدر ممكنات محصورة ومحدثات محصورة ليس لها محدث ولا مبدع علم امتناع ذلك فإذا قدرها لاتتناهى لم تكن هذه الحال توجب استغناءها عن المحدث المبدع وتجعلها غنية عن مبدع خارج عنها بل كلما كثر ذلك كان أولى بالحاجة إلى المبدع فما لا يوجد بنفسه إذا ضم إليه مالا يوجد بنفسه مرات متناهية أو غير متناهية كان ذلك مثل ضم المعدومات بعضها إلى بعض وذلك لا يغنى عنها شيئا بل المعدومات لا تفتقر حال عدمها إلى فاعل وأما هذه التي لا بد لها من فاعل إذا كثرت كان احتياجها إلى الفاعل أوكد وأقوى وتسلسل الممكنات لا يخرجها عن طبيعة الإمكان الموجب لفقرها إلى المبدع كما أن طبيعة الحدوث لا تخرج المحدثات عن طبيعة الحدوث الموجبة لفقرها إلى الفاعل
ومن جوز تسلسل الحوادث وقال : كل منها حادث والنوع ليس بحادث لا يمكنه أن يقول : كل من الممكنات ممكن والجملة ليست ممكنة كما لا يمكنه أن يقول : كل من الموجودات موجود والجملة ليست موجودة ولا يقول : كل من الممتنعات ممتنع والجملة ليست ممتنعة بل الامتناع لجملة الممتنعات إولى منه لآحادها وكذلك الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها والفقر إلى الصانع الذي يستلزمه الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها وأما الوجود لجملة الموجودات فليس هو اولى منه لآحادها
وإن قيل : هو واجب للجملة وذلك أن جملة الموجودات موقوفة على وجود كل منها بخلاف وجود الواحد منها فإنها لا تتوقف على وجود الجملة وأما الممتنعات فامتناع جملتها ليس موقوفا على امتناع كل منها بل كل منها ممتنع لذاته فامتناع الجملة لذاتها أولى وأحرى اللهم إلا ان يكون الامتناع مشروطا بأفرادها كالمتلازمين اللذين يمتنع وجود أحدهما دون الآخر ولا يمتنع اجتماعهما
وكذلك الممكنات إذا كان كل منها ممكنا لذاته بحيث يفتقر إلى الفاعل ولا يوجد بنفسه فليس إمكان كل منها مشروطا بالآخر ولا معلقا به ولا لإمكان هذا تأثير في إمكان هذا كما في الامتناع بخلاف الموجودات فإنه قد يكون وجود أحد الأمرين إما مشروطا وإما علة للآخر بخلاف ما إذا قدر موجودات واجبة بأنفسها فإنه حينئذ لا يكون وجود بعضها موقوفا على وجود البعض وأما ما هو ممكن بنفسه أو ممتنع بنفسه فليس إمكانه وامتناعه مشروطا بغيره بل نفس تصور حقيقتة يوجب العلم بامتناعه وإمكانه
وحينئذ فكلما كثر أفراد هذه الحقيقة كان العلم بامتناعها أو إمكانها أكثر والعلم بامتناع الجملة أو إمكانها أولى وأحرى ولو قدرنا واجبات بأنفسها غنية عن الغير بحيث لا يكون بعضها شرطا في البعض لكانت الجملة واجبة ولم يكن وجوبها بدون وجوب الآحاد وامتنع أن يقال : الجملة ممتنعة أو ممكنة مع وجوب كل من الآحاد بنفسه وجوبا لا يقف فيه على غيره
فتبين أنه إذا كان من الأمور ما هو ممكن في نفسه لا يقف إمكانه على غيره ومعنى إمكانه أنه لا يستحق بنفسه وجودا ويمتنع وجوده بنفسه وهو بالنظر إلى نفسه فقير محض أي الفقر الذاتي الذي يمتنع معه غناه بنفسه وسواء قلنا : إن عدمه لا يفتقر إلى مرجح أو قلنا إن عدمه لعدم المرجح وقدرنا عدم المرجح فهو في الموضعين لا يستحق إلا العدم لا يستحق وجودا أصلا
فكثرة مثل هذا وتقدير مالا يتناهى من هذا الضرب لا يقتضي حصول وجود له أو غني في وجوده عن غيره ولا وجود بعض هذه الأمور ببعض فإن كثرة هذه الأمور التي لا تستحق إلا العدم توجب كثرة استحقاقها للعدم وكثرة افتقارها إلى موجد يكون موجودا بنفسه
فإذا قدر أمور لا نهاية لها ليس فيها شيء يستحق الوجود كان قول القائل : إن بعضها يوجد بعضا في غاية الجهل فإن مالا يستحق في نفسه أن يكون موجودا كيف يستحق أن يكون موجودا لغيره وكيف وكيف يكون وجوده ما هو مساو له في أنه لا يستحق الوجود
يبين هذا أنه إذا كان هذا لا يستحق الوجود وهذا لا يستحق الوجود لم يكن جعل هذا علة والآخر معلولا باولى من العكس فإن شرط الفاعل أن يكون موجودا فإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون فاعلا وكل منهما لا يستحق أن يكون موجودا فلا يكون فاعلا
وإذا قال : إن أحد هذين وجد بالاخر فهذا إنما يعقل إذا كان الآخر موجودا وذاك الآخر لا يكون موجودا بنفسه لا يكون موجودا إلا بغيره وذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن ليس هو أي غير كان بل لا بد من غير يحصل به وجوده ووجوده بحيث يستغنى به عما سواه فلذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن من شرطه أن يكون مستقلا بإبداع الممكن لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه فمتى قدر أنه محتاج إلى غيره كان الممكن محتاجا إلى هذا الغير وإلى هذا الغير فلا يحصل وجوده بأحد الغيرين بل لا بد منهما وكذلك لو قدر من الأغيار ما يقدر فلا بد أن يكون ما يفتقر إليه الممكن غير محتاج إلى غيره بوجه من الوجوه وليس الممكنات ما هو بهذا الشرط بل كل منها يحتاج إلى غيره فلو قدر أن الممكن يوجد بممكن إلى نهاية او غير نهاية والجملة الممكنة توجد بالأفراد لكان الغير الذي يفتقر إليه الممكن محتاجا إلى غيره مع أن كلا من المحتاجين لا يغني عن نفسه شيئا أصلا ألبتة
يزيد هذا إيضاحا أن الممكن مع عدم المقتضى التام يكون ممتنعا لا ممكنا وأعني بالمقتضى التام الذي يلزم من وجوده وجود المقتضى لكن يكون ممتنعا لغيره فإذا كان كل من الممكنات له علة ممكنة والعلة الممكنة ليست مقتضيا تاما فإنها لا توجد إلا بغيرها إذ الممكن مفتقر إلى غيره فوجوده مجردا عن مقتضية تام كان كل منها ممتنعا وتقدير ممتنعات لا نهاية لها يوجب قوة امتناعها ويمتنع مع ذلك ان تكون جملتها ممكنة فضلا عن أن تكون واجبة فتبين بذلك أن جملة العلل الممكنات التي لا تتناهى جملة ممتنعة فامتنع أن يقال : هي موجودة معلولة للأفراد لأن الممتنع لا يكون موجودا لا معلولا ولا غير معلول
يبين ذلك ان تقدير معلول لا علة له ممتنع والممكن الموجود معلول لغيره فإذا قدر علل ممكنة لا تتناهى كان كل منها معلولا فقد قدر معلولات لا تتناهي ومن المعلوم بالضرورة أن وجود معلولات لا تتناهى لا يقتضي استغناءها عن العلة وإذا قيل : إن الجملة معلولة للآحاد فقد ضم معلول إلى معلولات لا تتناهى وذلك لا يقتضي استغناءها عن العلة
فتبين أن من توهم كون العلل الممكنة التي لا تتناهى التي هي معلولات لا تتناهى يمكن أن يكون لها معلول لا يتانهى فإنما قدر ثبوت معلولات لا تتناهى ليس فيها علة وإذا كانت المعلولات المتناهية لا بد لها من علة فالمعلولات التي لا تتناهى أولى بذلك فإن طبيعة المعلول تستلزم الافتقار إلى العلة وهذا يظهر باعتبار المعاني التي يوصف بها الممكن فإنه قدر واحد من هذا النوع كان ذلك مستلزما لعلته وموجبه وصانعه وفاعله ومبدعه وإذاقدر اثنان كان الاستلزام أعظم وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم فإنه إذا كان الواحد منها بدون الواجب ممتنعا فالاثنان ممتنع وممتنع وتقدير مالا يتناهى من هذا تقدير ممتنعات لا تتناهى
وإن قيل : إن وجود الواحد منها يستلزم وجود الواجب فتقدير اثنين أولى أن يستلزم وجود الصانع ولو أمكن وجود مالا يتناهى من العلل الممكنة كان ذلك أعظم في امتناعها فكيف بما يتناهى كما يقدر من يقدر أن العقل أولى أبدع الثاني والثاني أبدع الثالث وفلكه إلى العاشر المبدع لما تحت الفلك وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم
فتبين أنه كلما كثرت الممكنات وتسلسلت كان ذلك أعظم في دلالتها على ثبوب الواجب واستلزامها له والإنسان قد يتوهم إذا فرض علل هي معلولات لا تتنتهى وتوهم أن العلة تكون وحدها مؤثرة في المعلول أو مقتضية له او موجبة فهذا ممتنع فإن العلة إذا كانت معلولة لزم أنها لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى غيرها فالنعلول المفتقر إليها مفتقر إلى علة علتها التي هي مفتقرة إليه فيكون معلولها كما أنه مفتقر إليها مفتقر إلى كل ما هي مفتقرة إليه فإذا قدر من ذلك مالا يتناهى قدر انه محتاج إلى أمور لا تتناهى وليس فيها ما هو موجود بنفسه ولا غنى عن غيره
ومن المعلوم أنه كلما كثرت الأمور المشروطة في وجود الموجود كان وجوده موقوفا عليها كلها وكان أبعد عن الوجود من الموجود الذي لا يتوقف وجوده إلا على بعض تلك الأمور فإذا كان الممكن لا يوجد بعلة واحدة ممكنة بل يمتنع وجوده بها فإذا كثرت العلل الممكنة التي يتوقف وجوده عليها كان وجوده أعظم في الامتناع وأبعد عن الجواز وإذا كانت الممكنات قد وجدت فقد وجد قطعا مقتض لها مستغن عن غيره وكلما تدبر المتدبر هذه المعاني أزداد لها تبينا وعلم ان كل ما يقدر وجوده من الممكنات فإنه دال على الواجب الغني بنفسه عن كل ممكن مباين له
ومن العجب أن هؤلاء يذكرون في إثبات واجب الوجود من الشبهات ما يذكرون وإن كانوا يجيبون عنها ثم إذا أخذوا وجوده إما مبرهنا وإما مسلما وصفوة من الصفات السلبية بأمور لم يدل عليها ما دل على وجوده بل يصفونه بما يمتنع معه وجوده حتى يعلم أن ما وصفوا به واجب الوجود لا يكون إلا ممتنع الوجود كما قد بسط في غير هذا الموضع ولا يذكرون من القوادح المعارضة لتلك الأسلوب بعض ما يذكرونه في إثبات وجوده وإن توهموا بطلانها مع أن تلك المعارضات هي صحيحة قادحة فيما ينفى صفاته بل الشيطان يلقى إليهم من الشبهات القادحة في الحق ما لو حصل لهم نظير من الأمور القادحة في الباطل لما اعتقدوه
فهذا كله إذا أريد بالجملة الاجتماع المغايرة لكل واحد واحد وغن أريد بها كل واحد واحد كان الأمر أظهر وأبين فإن كل واحد واحد ممكن مفتقر إلى الفاعل فإذا لم يكن هناك جملة غير الآحاد امتنع أن يكون هناك غير الآحاد الممكنة مما يوصف بوجوب أو إمكان
وإن أريد بالجملة مجموع الأمرين الآحاد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون هناك اجزاء متعاقبة وجزء هو الاجتماع وهذا الجزء يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مفتقر إلى الممكنات ولأنه عرض قائم بغيره واحسن احواله ان يكون كالتأليف مع المؤلف فإذا كان المؤلف ممكنا بنفسه فتأليفه أولى بل قد يقال : ليس للجملة هنا أمر وجودي مغاير للأفراد المتعاقبة وإنما لها أمر نسبي اعتباري كالنسبة التي بين أفراد العشرة وهذا وغيره مما يبين امتناع وجوبها بنفسها فيبقى هذا الجزء ممكنا بنفسه فقيرا إلى غيره كسائر الأجزاء فيكون حينئذ هناك كل منها محتاج إلى الموجد فيحتاج كل منها إلى الموجد والجملة هنا داخل في قولنا : كل منها فإنه جزء من هذا الكل
فتبين انه كيفما ادبر المر ليس في الممكنات المتعاقبة لا واجب بنفسه ولا بغيره إلا أن يكون هناك واجب بنفسه خارج عن الممكنات إذا كان كل فرد فرد ممكنا والاجتماع أيضا ممكن بطريق الولى والمران ممكنان بطريق الأولى والحرى وكل من الأفراد مستغن عن الهيئة الاجتماعية فإنه موجود بدونها وما احتاج إلى الممكن المستغن عنه كان أحق بالإمكان
وايضاح ذلك أنه إذا قدر كل موجود معلول مفعول مفتقر وليس في الوجود إلا ما هو كذلك كما إذا قدر ان الممكنات ليس لها مقتض واجب بنفسه فإنه يكون المر كذلك وإن لم يجعل بعضها معلولا لبعض فهذا التقدير يقتضي أن لا يوجد شيء منها لأنها لا توجد بانفسها إذ التقدير كذلك وما لم يكن موجودا بنفسه فهو اولى ان لا يوجد غيره فلا يكون شيء منها موجودا بنفسه ولا موجودا بغيره ومعلوم أن الموجود إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره فإذا قدر انها موجودة وقدر مع ذلك انها لا موجودة بأنفسها ولا بموجد أوجدها لزم الجمع بين النقيضين ولو قدر مع ذلك موجدا لغيره والمعدوم لا يوجد غيره فإذا لم يكن فيها ما هو موجود بنفسه لم يكن فيها ما هو موجد لغيره وهذا أعظم امتناعا من تقدير أفعال لا فاعل لها وجوادث لا محدث لها فإن تلك يكون التقدير فيها انها وجدت بلأنفسها والتقدير هنا لم توجد بأنفسها ولا هناك ما هو موجود بنفسه يوجدها ولا هناك غير موجود يوجدها وإنما التقدير معلولات مفتقرات والمعلول من حيث هو معلول والمفتقر من حيث هو مفتقر ليس فيه ما يقتضي وجوده وإذا لم يكن لها وجود ولا لمقتضيها وجود لزم انتفاء الوجود عنها كلها وهذا مع كونها موجودة جمع بين النقيضين
وهذا كلام محقق وتنبيه للإنسان بان يعلم أن مجرد تقدير معلولات ممكنة لا هي موجودة بنفسها ولا فيها علة موجودة بنفسه لا يقتضى وجود ذلك في الخارج فليس كل ما قدرته الذهان امكن وجوده في الأعيان لا سيما مع سلب الوجود عنها من نفسها ومن موجد يوجدها وإذا قدر ان المعلول الممكن له علة ممكنة فهي ايضا معدومة من تلقاء نفسها كما هي معدوم من تلقاء نفسه فليس فيما قدر قط شيء موجود فمن أين يحصل لها الوجود ؟

فصل : اعتراض الأبهري على حجة قطع التسلسل في العلل
وقد أورد الأبهري ومن اتبعه على هذه الحجة المذكورة لقطع التسلسل في العلل اعتراضا زعم انه يبين ضعفها فقال في كلامه على ملخص الرازي وغيره قول القائل : مجموع تلك العلل الممكنة يحتاج إلى كل واحد منها الخ 0 قلنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك المجموع واحدا منها أما قوله بأن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله فلا يكون علة للمجموع قلنا لا نسلم وإنما يلزم أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك وهذا لن الشيء جاز ان يكون علة للمجموع من حيث هو مجموع فلا يكون علة لكل واحد من أجزائه فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه لا يقال بأن مجموع تلك العلل المتسلسلة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجية فذلك المجموع افتقر إلى علة خارجية عنه لنا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجية عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس مفتقرا إلى علة خارجية عنه لا يقال بأن المجموع المركب من ىحاد كل واحد منها محتاج إلى علة خارجية لأنا نقول لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن كل واحد منها معولا لآخر إلى غير النهاية لا يقال إن جملة ما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع والثالث حق قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة المور التي يفتقر إليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم إنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع وإذا كان المجموع ممكنا في نفسه فهو مفتقر إلى غيره فما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون هو المجموع أو داخلا فيه أو خارجا منه والأول محال وإلا لكان الشيء علة لنفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع لأن المجموع إذا كان ممكنا وإنما يفتقر إلى البعض لزم أن يكون البعض هو المقتضي للمجموع فيلزم أن يكون مقتضيا لنفسه ولعلته وإن كان ما يفتقر إليه المجموع خارجا عن المجموع فهو المطلوب وهذا التحرير يوجب أن يكون البعض علة فاعلة للمجموع والعلة الفاعلة كافية للمجموع
وقوله إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة المور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع

الرد على الأبهري من وجوه
فيقال له : لأن المجموع إن لم يكن زائدا على تلك الأمور التي كل منها معلول فليس هنا مجموع غير المعلولات والمعلولات التي لا يوجد شيء منها بنفسه بل لا بد له من موجد موجود إذا لم يكن فيها موجد موجود وامتنع ان يكون مجموعها حتصلا بمجموعها وإن كان المجموع معلولا لها فهو اولى بالافتقار وهذا امر معلوم بالضرورة وما قدح فيه كان قدحا في الضروريات فلا يسمع

الوجه الثالث
الجواب عن معارضته وهو قوله إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وملخص هذا الكلام أن مجموع الموجودات ليس متوقفا على بعض الأجزاء لتوقفه على الجميع ولا متوقفا على ما خرج عن المجموع فالمجموع متوقف على المجموع
فيقال له هذا يناقض ما ذكرته أولا من ان المؤثر في مجموع الموجودات واحد منها وزعمت أن هذا معارضة لقولهم مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون المؤثر فيها واحدا وإذا كان هذا يناقض ذاك فإما ان تقول المؤثر في المجموع جزؤه او المؤثر فيه هو المجموع فإن قلت إنه جزؤه بطل هذا الاعتراض وسلم هذا الدليل الدال على امتناع معلولات ممكنة ليس لها علة واجبة وبذلك يحصل المقصود من إثبات واجب الوجود 0 وغن قلت إن المؤثر هو المجموع بطل اعتراضك على ذلك الدليل وسلم ذلك الدليل عن المعارضة فحصل به المقصود

الوجه الرابع
أن يقال قولك جملة الأمور او مجموع المور الذي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع يتضمن أن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر من المور وانت لم تذكر على ذلك دليلا فلم قلت إن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر وأولئك إنما ادعوا ان مجموع الممكنات يفتقر إلى امر من المور وهذا معلوم بادلة متعددة بل بلضرورة وما ذكرته ليس بمعلوم

الوجه الخامس
أن يقال مجموع الموجود المتضمن للواجب لا يقبل العدم وما لا يقبل العدم فليس بممكن وما ليس بممكن فهو واجب فالمجموع حينئذ واجب وما كان واجبا لم يفتقر إلى أمر من الأمور وقولك إن المجموع مفتقر إلى المجموع هو معنى قول القائل إنه واجب بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه بل لا بد له من نفسه وإذا كنت قد أقررت انه واجب بنفسه بطل قولك إنه يفتقر إلى أمر وهذا بخلاف مجموع العلل الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه لأنه ليس فيها ما هو موجود بنفسه وإذا لم يكن في المجموع ما هو موجود بنفسه كان امتناع المجموع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى
وهذا السؤال الذي أورده هذا من جنس السؤال الذي أورده الآمدي بل هو هو ولعل احدهما اخذه من الآخر وهو أن تكون الجملة مترجحة بالآحاد وكل منها مترجح بالآخر إلى غير نهاية واجاب عنه الآمدي في أحد كتابيه وقال في الآخر إنه لا يعرف عنه جوابا وذكر عن قوم أنهم قالوا المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار واستفسط هذا الاعتراض
ومقصود الجميع أن مجموع المعلولات التي لا تتناهي لا تفتقر إلى شيء غير آحادها المتعاقبة وفساد هذا معلوم بالاضطرار بعد جودة التصور وإنما أشكل على من أشكل لعدم التصور التام فإنه إذا قال القائل علل لا تتناهى أو ممكنات لا تتناهى كل منها مترجح أو معلول بالآخر توهم الذهن أن هذا يتضمن تقدير موجودات في الخارج كل منها معلول الموجود الآخر وان الأمر هكذا إلى غير نهاية
ولهذا أراد طائفة أن يبطلوا هذا التسلسل بجنس ما يبطلون به الآثار التي لا تنتهي كالحركات التي لا تتناهى وهذا غلط فإن المقدر هو أمور ليس فيها ما يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بعلة مباينة له موجودة وكلها بهذه المثابة إلى غير نهاية
وهذا في الحقيقة تقدير معدومات بعضها علة لبعض في وجوده إلى غير نهاية من غير أن يوجد شيء منها وكما أن المعدوم إذا كان باطلا وإن قدر وجوده مع ذلك كان جمعا بين النقيضين وإذا كان تقدير معلول معدوم بعلة معدومة تقتضي وجوده ولم يوجد ممتنع في بديهة العقل من جهة انه لم يوجد ومن جهة أن علته ليست موجودة فكثرة هذه العلل اولى بالامتناع وتسلسلها إلى غير نهاية اعظم في الامتناع فكذلك إذا قدر ما هو معلول ممكن لا يوجد إلا بموجد يوجده وقدر انه ليس هناك موجود يوجده فإن وجوده يكون ممتنعا فإن قدر موجودا كان جمعا بين النقيضين 0 وتسلسل هذه المعلولات من غير أن تنتهي إلى موجودا بنفسه أعظم في الامتناع لكن من توهم أنها موجودات متسلسلة التبس عليه المر وتقدير كونها موجودات متسلسلة ممتنع في نفسه بل هو جمع بين النقيضين لأن التقدير انه ليس فيها ما يوجد بنفسه ولا يوجد إلا بموجد موجود وإذا لم يكن فيها موجود بنفسه ولا موجد موجود امتنع أن يكون فيها إلا معدوم فتقدير وجودها جمع بين النقيضين
وبيان ذلك أن كلا منها هو مفتقر إلى موجد يوجده فلا يوجد بنفسه وعلته لم توجد بنفسها فليس فيها موجود بنفسه وليس هنا علة موجودة بنفسها 0 فإذا قدر في كل منها أنه موجود بغيره فذلك الغير هو بمنزلته أيضا لا وجود له من نفسه فليس هناك موجود يوجدها إلا ما يقدر منها وكل منها إذا لم يكن له من نفسه وجود فأن لا يكون موجدا لغيره بطريق الأولى والأحرى فلا له من نفسه وجود ولا إيجاد وغيره من جنسه ليس له من نفسه وجود ولا إيجاد فمن أين يكون لشيء منها وجود بلا وجود لنفسه ولا إيجاد ؟ إذ الإيجاد فرع الوجود

اعتراض الأبهري فاسد من وجوه
قلت وهذا الاعتراض فاسد جدا وبيان فساده من وجوه :
الوجه الأول : أن يقال : هو اعتراض على قولهم مجموع العلل الممكنة ممكن لافتقار المجموع إلى الآحاد الممكنة ولا يجوز أن يكون المؤثر في المجموع واحدا من العل الممكنة لن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل فامتنع أن يكون مؤثرا في المجموع فقال المعترض : إنما يلزم هذا أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك ؟
فيقال له أولا : نحن لا نعني بالمجموع مجرد الهيئة الاجتماعية بل نعني به كل واحد من الأفراد والهيئة الاجتماعية وحينئذ فتكون علة المجموع علة كل واحد من أجزائه وهذا معلوم بالضرورة فإن المؤثر إذا كان مؤثرا في مجموع الآحاد مع الهيئة الاجتماعية فقد أثر في كل جزء من أجزائه فإنه لو لم يؤثر في كل جزء من الجزاء لجاز انتفاء ذلك الجزء وإذا انتفى المجموع والتقدير أنه في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا والمجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية فلو قدر انه غير موجود لزم الجمع بين النقيضين وهو الممتنع وهذا الممتنع لزم من تقدير كونه مؤثرا في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا مع تقدير عدم بعض أجزاء المجموع فعلم أنه يستلزم من كونه أثر في المجموع وجود المجموع ويلزم من وجود المجموع انه لا ينتفى شيء من أجزائه فعلم أن ما استلزم ثبوت المجوع استلزم ثبوت كل من أجزائه وإن لم يكن المستلزم علة فاعلة فكيف إذا كان المستلزم على فاعلة ؟ فتبين أن ثبوت العلة الفاعلة للمجوع يتضمن أن يكون علة لكل من أجزائه ولو تخيل متخيل أن الواحد من الجملة علة لسائر الأجزاء والأجزاء علة للمجموع أو أنه علة للمجموع والمجموع علة للآحاد فيكون ذلك الواحد علة العلة قلنا هذا لا يضر لأن العلة علة وكما يمتنع في الواحد أن يكون علة علة نفسه فيمتنع أن يكون علة نفسه بطريق الأولى فلو كان بعض الأجزاء علة للمجموع والمجموع علة لكل من الأجزاء أو بالعكس لزم أن يكون ذلك الجزء علة علة نفسه وعلة علل نفسه وهو ما قبل ذلك الجزء من العلل التي قدر أنه لا نهاية لها وهذا بين لا يتصوره أحد إلا يعلم امتناعه بالبديهة ومن نازع فيه كان إما لعدم تصوره له وإما لعنادة وحينئذ فيكفي أن يقال : هذا معلوم بالبديهة فالشبهة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية فلا يستحق جوابا

الوجه الثاني
أن يحل ما ذكره من المعارضة وهي قوله : وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه فغن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه
قلنا : لا نسلم أن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات وإذا كانت الموجودات وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن والواجب علة للمكن لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات بل علة لبعضها وبعضها لا علة له
فإن قيل : إنما قلنا الواجب للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد فهو علة للهيئة الاجتماعية
قيل : أولا : لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد ويقال : ثانيا إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية فالعلة مغايرة للمعلول ليست العلة بعض المعلول
وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة وقد يعنى به اجتماعها وقد يعنى به الأمران ومعلوم انه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة وهذا هو المطلوب
وأما الاجتماع إذا قدر انه مغاير للأفراد فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره وإن أريد الأفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء وهذا ممكن فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايرا للأفراد لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات
فإذا قيل : إنه مبدع لسائر الموجودات دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها وهو الهيئة الاجتماعية إذا قدر أنها موجودة فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه فهو داخل في سائر الموجودات سواه فهو من جملة مصنوعاته
ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمرا مغايرا للأفراد : أمرا يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع وذلك الاجتماع حادث بحدوثه فإذا قدر أن ما سوى الله حادث فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضا حادث وهو كمعية المخلوقات مع خالقها وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء بل هو متفقون على جواز حدوث النسب والإضافات بين الخالق والمخلوق سواء قيل : إنها وجودية أو عدمية ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع بل هو بعض الأمور المجتمعة وبعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكنا وذلك الاجتماع هو بعض آخر فالواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة وهذا هو المطلوب انتقاؤه فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات فإن الأول يقتضى كونه علة لنفسه وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعا من كونه يخلق غيره بعد وجوده ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35 فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم فعلم أن لهم محدثا أحدثهم

الوجه الثالث
لا نسلم أن المجموع المركب من الواجب والممكن يكون الواجب وحجه علة له بل علته الأجزاء جميعها وذلك لأن المجموع متوقف على كل من الأجزاء : الواجب والممكنات فالمجموع من حيث هو مجموع توقفه على كل جزء كتوقفه على الجزء الآخر إذ كان لا يوجد إلا بوجود كل من الأجزاء ثم إذا كان بعض الأجزاء علة لبعض كان المجموع مفتقرا إلى الجزء الواجب وإلى الجزء المفتقر إلى الجزء الواجب ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد الواجب مقتضيا للمجموع بلا واسطة بل لولا الجزء الآخر الممكن لما حصل المجموع ن فتبين أن الواجب لا يكون وحده علة للمجموع من حيث هو مجموع وإنما يكون علة لسائر الأجزاء وهو وسائر الأجزاء علة للمجموع
نعم يلزم أن يكون علة بنفسه للممكنات وهو بتوسط الممكنات أو مع الممكنات علة للمجموع من حيث هو مجموع ومثل هذا منتف في الأجزاء الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط غيره
أما الأول فلأن الجزء الواجب إذا لم يكن وحده علة للمجموع فالجزء الممكن أولى ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء فلا يستقل به واحد منها
وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء بالضرورة فإن المعلول لا يكون علة علته وإذا امتنع كونه علة لنفسه ولسائر الأجزاء المتقدمة عليه لم يحصل به وحده هذه الأجزاء والمجموع متوقف على هذه الأجزاء فلا يكون شيء من الأجزاء الممكنة علة للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط معلولاته بخلاف الجزء الواجب فإنه إذا قيل عنه إنه علة لمجموع بنفسه وبتوسط معلولاته كان هذا المعنى ممتنعا في الممكن فالمعنى الذي يمكن أن يجعل فيه الواجب علة للمجموع الذي هو واحد منه يمتنع مثله في الممكنات فلا يتصور أن يكون علة للمجموع الذي هو واحد منه وهذا يكشف ما في الاعتراض من التلبيس والغلط :

الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم أن الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع بل الواجب علة للمكنات من الأجزاء والآحاد علة للمجموع ومثل هذا لا يمكن أن يقال في مجموع العلل الممكنة ولا في مجموع الممكنات فإنه لا يمكن أن يكون شيء منها علة لسائر الأجزاء إذ كل منها معلول لا يكون علة لنفسه ولا لعلله وإذا كان كل من الأجزاء معلولا والمجموع معلول الآحاد كان المجموع أولى بأن يكون معلولا

الوجه الخامس
أن يقال في إبطال هذا الاعتراض : نحن ذكرنا الحجة لإثبات أن يكون في الوجود واجب بنفسه فإما أن يكون في الموجودات واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يكن فيها واجب بنفسه بطل الاعتراض

الوجه السادس
أن يقال : الاعتراض مبناه على أن مجموع الموجودات له علة هو بعضهوهو الواجب فإن لم يكن في المجموع بعض واجب بطل الاعتراض وهذا الاعتراض مذكور على سبيل المعارضة لأنا قد ذكرنا انا نعلم بالضرورة أن مجموع العلل الممكنة إذا كان له علة كان علة لكل منها وأن العلم بذلك ضروري وبيناه بيانا لا ريب فيه وإذا تبين أن صحة الاعتراض مستلزمة لثبوت واجب الوجود كان واجب الوجود ثابتا على تقدير صحة الاعتراض وعلى تقدير فساده وإذا كان ثابتا على التقديرين تقدير النفي وتقدير الإثبات ثبت أنه ثابت فينفس الأمر وهو المطلوب وهذا بين لمن تأمله ولله الحمد

يمكن إيراد الجواب على وجوه
الوجه الأول : أن يقال : أما أن يقدر ثبوت الواجب في نفسه وإما أن يقدر انتفاؤه فغن قدر ثبوته في نفس الأمر حصل المقصود وامتنع أن يكون في نفس الأمر ما ينفي وجوده وإن قدر انتقاؤه لزم بطلان الاعتراض المذكور على دليل ثبوته وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على ثبوتهه سليما عما يعارضه فيجب ثبوته مدلوله وهو الواجب الوجود فلزم ثبوت وجود سواء قدر المعترض ثبوته أو قدر انتفاءه وما لزم ثبوته على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه كان ثابتا في نفس الأمر قطعا وهو المطلوب
فإن قيل : كيف يمكن تقدير ثبوته مع تقدير انتفائه وفي ذلك جمع بين النقيضين
قيل : نعم هذا لأن تقدير انتفائه لما كان ممتنعا في نفس الأمر جاز أن يلزمه ما هو ممتنع في نفس الأمر وهذا مما يقرر ثبوته
وأيضا فإذا كان تقدير انتفائه يستلزم الجمع بين النقيضين كان تقديرا ممتنعا في نفس الأمر ويكون تقدير انتفائه ممتنعا في نفس الأمر وإذا كان انتفاؤه ممتنعا كان ثبوته واجبا وهو المطلوب
فإن قيل : إذا كان انتفاؤه ف ينفس الأمر ممتنعا قطعا وكان بطلان الاعرتاض معلقا بانتفائه لم يلزمه بطلان الاعتراض وإذا صح الاعتراض بطل الدليل المذكور
قلنا تقدير انتفائه هو جزء الدليل على بطلان الاعتراض ليس هو بطلان الاعتراض ومن المعلوم أن انتفاء الدليل لا يوجب انتفاء يدل عليه في نفس الأمر فغن الدليل لا يجب عكسه فلو كان انتفاؤه بس الأمر وحده دليل على بطلان الاعتراض لم يلزم صحة الاعتراض بتقدير نقيض هذا الدليل فكيف إذا كان جزء دليل
فإن قيل بطلان جزء الدليل يوجب بطلان الدليل فيبطل ما ذكر من الدليل على فساد الاعتراض
قيل لفظ جزء الدليل مجمل فإن أريد بالجزء قسم من القسام المقدرة كان هذا باطلا فإنه لا يلزم من بطلان قسم في الأقسام المقدرة بطلان الدليل إذا كان غيره من الأقسام صحيحا وإن أريد بجزء الدليل مقدمة من مدماته فهذا صحيح فإنه إذا بطلت مقدمة الدليل بطل لكن مقدمة الدليل هنا صحيحة فإنها تقسيم دائر بين النفي والإثبات ومن المعلوم أن التقسيم الدائر بين النقيضين يستلزم بطلان أحد القسمين في نفس الأمر ومقدمة الدليل ليست اجتماع النقيضين فإن هذا ممتنع وإنما هي صحة التقسيم إلى النفي والإثبات
والمقدمة الثانية حصول المطلوب على كل من التقديرين فإذا كان التقسيم دائرا بين النفي والإثبات والمطلوب حاصل على كل منهما ثبت حصوله في نفس الأمر وغن كان احد القسمين منتفيا في نفس الأمر فغن المطلوب حاصل على التقدير الآخر فلا يضر انتفاء هذا التقدير وإنما ذكرت هذه التقديرات ليتبين أن ما ذكره المعترض لا يقدح في صحة الدليل المذكور على واجب الوجود بل الدليل صحيح على تقدير النقيضين وهذا من أحسن الدورات في النظر والمناظر لإبطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربة الحجيج وهناك عدة طرق يمكن أن ياتي من كل منها فإذا وكل بكل طريق طائفة ياخذونه كان من المعلوم أن الذي يصادفه طائفة ولكن إرسال تلك الطوائف ليعلم انه منع المحذور على كل تقدير إذ كان من الناس من هو خائف ان ياتي من طريقة فيرسل من يزيل خوفه ويوجب أمنه

الوجه الثاني
ويمكن إيراد الجواب على وجه آخر وهو ان يقال : إما أن يقدر فساد هذا الاعتراض في نفس الأمر وإما أن يقدر صحته فإنه لا يخلو من أحدهما وذلك أنه إما أن يكون مفسدا للدليل المذكور على بطلان تسلسل المؤثرات وإما أن لا يكون مبطلا مفسدا فغن لم يكن مفسدا للدليل لفساده في نفسه ثبت صحة الدليل وهو المطلوب وإن كان مفسدا للدليل فلا يفسده إلا إذا كان متوجها صحيحا وإلا فالاعتراض الفاسد لا يفسد الدليل وإذا كان متوجها صحيحا لزم ثبوت واجب الوجود فإنه لا يصح إن لم يكن مجموع الموجودات فيها واجب وإذا صح أن فيها واجبا حصل المقصود فيلزم ثبوت الموجود الواجب على تقدير صحته وفساده

الوجه الثالث
ويمكن إيراد الجواب على صورة ثالثة وهو أن يقال : إما أن يقدر أن في الموجودات ما هو واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يقدر أن فيها ما هو واجب لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له فبطل الاعتراض
وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزما لمدلوله وهو الموجود الواجب فيلزم ثبوت واجب الوجود
وأصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق أن التقدير المستدل به قدر فيه أمور ليس فيها موجود بنفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره واجتماعها أيضا مفتقر فليس هناك إلا فقير محتاج والتقدير المعترض به قدر أن موجودا واجبا بنفسه معه ممكنات موجودة به ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة وذلك البعض هو واجب بنفسه فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الأجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية وتلك ليس فيها واجب بنفسه بل كل من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خارج عنه والهندي لم يجب عنه
فإن قيل : فقد قدرتم عدم وجوب الوجود فكيف يكون موجودا بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل ؟
قلنا : لأن التقدير الممتنع قد يستلزم أمرا موجودا واجبا وجائزا كما قد يستلزم أمرا ممتنعا لأن التقدير هو شرط مستلزم للجزاء والملزوم يلزم من تحققه تحقق اللازم ولا يلزم من انتقائه انتفاء اللازم
وهذا كما لو قيل : لو جاز أن يحث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين كوجود الخالق مع كل واحد من الملخوقات فإنه موجود سواء كان موجودا أو لم يكن
وحينئذ فيجوز أن يكون التقدير الممتنع وهو تقدير عدم الواجب يستلزم وجوده كما يكون التقدير الممكن فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض والدليل يستلزم وجوده
وأيضا فإن تقدير عدمه تقدير ممتنع في نفس الأمر والتقدير الممتنع قد يستلزم أمرا ممتنعا فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه ن وهذا ممتنع فعلم أن تقدير عدمه ممتنع وه المطلوب وعلم أنه لا بد من وجوده وإن قدر في الأذهان عدم وجوده فتقدير عدمه في الأذهان لا يناقض وجوده في الخارج وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير وبهذا وغيره يظهر الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها
ونحن نبين ذلك :
قوله : لا يقال بان مجموع تلك السلسة ممكن ن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه لأنا نقول : لا تسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه
والجواب عن هذا أن يقال : هو القائل : كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهية ضرورية بعد تصورها فإن المعنى بالممكن مالا يوجد بنفسه بل لا بد له من موجد مقتض سواء سمي فاعلا أو علة فاعلة أو مؤثرا وإذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكنا لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده وقد علم أن المجموع لا يوجد بنفسه بنفسه إذ لو كان كذلك لكان واجبا بنفسه
ومن المعلوم بالضرورة أن المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجدا مقتضيا فبعض المجموع أولى أن لا يكون مقتضيا موجدا فإنه من المعلوم ببدائه العقول أن المجموع إذا لم يجز أن يكون موجدا ولا مقتضيا ولا فاعلا ولا علة فاعلة فبعضه إولى أن لا يكون كذلك فإن المجموع يدخل فيه بعضه فإذا كان بجميع أبعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل والإيجاد فكيف يكفي بعضه في ذلك ؟
وهذا دليل مستقل في هذا المقام وهو أن المجموع إذا لم يكن علة فاعلة بل هو معلول مفتقر فيعضه إولى أن لا يكون علة فاعلة بل معلول مفتقر فعلم أن مجموع الممكنات إذا كان مفتقرا إلى المؤثر فكل من أبعاض المجموع إولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين أن كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر وهو المطلوب ولله الحمد والمنة

الرد على باقي الاعتراض
وأما قول المعترض : لانسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه إن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه

الوجه الأول
فيقال له : اولا : منشأ هذه الشبهة أنلفظ المجموع فيه إجمال يراد به نفس الهيئة الاجتماعية ن ويراد به جميع الأفراد ويراد به المجموع والمجموع المركب الذي هو كل واحد واحد من الأفراد لا يفتقر إلى الممكن فإن منها الواجب وهو لا يفتقر إلى الممكن ولكن الهيئة الاجتماعية إذا قدر أن لها تحققا في الخارج فهي التي يقال : أنها متوقفة على الممكن وحينئذ فيظهر الفرق بين مجموع الممكنات ومجموع الموجودات فإن مجموع الممكنات هو نفس الهيئة الممكنة وكل من الأفراد ممكن والمجموع المتوقف على الممكن أولى بالإمكان وأما مجموع الموجودات فليس كل منها ممكنا بل منه الواجب فليس المجموع ممكنا بمعنى ان كل واحد منها ممكن فظهر الفرق وحينئذ فيقال له : هذا باطل من وجوه :
أحدها : أن يقال : أنت قد قلت في الاعتراض على الدليل الأول : إن الواجب بذاته علة لمجموع الموجودات وقلت هنا إن المجموع مفتقر إلى الممكن فإن كان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات بطل اعتراضك الأول وصح الدليل الأول لأنه حينئذ لا يكون المجموع مستغنيا بالواجب بل هو محتاج إلى الممكنات فلا يكون الواجب علة للمجموع إلا مع اقتضائه لجميع الممكنات ثم هو مع الممكنات إما المجموع وإما علة المجموع ومثل هذا منتف في مجموع الممكنات فإن الواحد منها لا يجوز أن يكون علة لسائرها إذ ليس علة لنفسه ولا لعلته وعلة علته وإذا لم يكن في الممكنات إلا ما هو معلول لم يكن فيها ما يوجب سائرها فلم يكن فيها ما يصلح أن يكون علة للمجموع بوجه من الوجوه
وإن قلت : إن معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات سواء اقتضاه بوسط أو بغير وسط وإنه لما كان الواجب مقتضيا للوسط كانت الحاجة في الحقيقة إلى الواجب والغنى به إذ كان هو مبدع الممكنات التي هي لغيرها شروط أو وسائط أو علل أو ما قيل من الأمور
فيقال لك : على هذا التقدير فمجموع الموجودات التي فيها الواجب بنفسه ليس مفتقرا إلى شيء من الممكنات بل افتقاره إلى الواجب وحده فبطل اعتراضك على هذا الدليل الثاني وأي الدليلين صح حصل المقصود
وتلخيص هذا الجواب : أن مجموع الموجودات من حيث هو مجموع إن قال هو معلول الواجب وحده او بوسط بحيث لا يقال مفتقر إلى غيره بطل هذا الاعتراض وهو كونه مفتقرا إلى الممكن
وإن قال : هو معلول الواجب لكون الممكن من معلول الواجب وهو معلول الممكن والواجب كان هذا مفسدا لاعتراضه على الدليل الأول لكون مجموع الممكنات لا يكون معلولا لواحد منها بوجه من الوجوه

الوجه الثاني
الوجه الثاني : أن يقال : قولك : لا نسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة لأن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة غلط
وذلك أن لفظ الممكن فيه إجمال
قد يراد بالممكن ما ليس بممتنع فيكون الواجب بنفسه ممكنا
ويراد بالممكن ما ليس بموجود مع إمكان وجوده فيكون ما وجد ليس بممكن بل واجب بغيره ثم ما يقبل الوجود والعدم هو المحدث عند جمهور العقلاء بل جميعهم وبعضهم تناقض فجعله يعم المحدث والقديم الذي زعم أنه واجب بغيره
ويراد بالممكن ما ليس له من نفسه وجود بل يكون قابلا للعدم هو وكل جزء من أجزائه
وأنت قد سميت مجموع الموجود ممكنا ومرادك أن المجموع يقبل العدم ولا يقبله كل جزء من أجزائه
وهؤلاء الذين قالوا : إن مجموع الممكنات أو مجموع العلل الممكنة ممكن مرادهم أن كل ما كان لا يقبل الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم بنفسه وكل جزء من أجزائه قابل للعدم يفتقر إلى علة خارجة عنه وهذا هو المفهوم عند إطلاقهم من الممكن بنفسه المفتقر إلى علة خارجة فإن الممكن بنفسه مالا يوجد بنفسه أي نفسه قابلة للعدم
وهذا لا يكون عند وجوب بعضها فإن القابل للعدم حينئذ إنما هو بعض نفسه جملة نفسه فغلطك أو تغليطك حصل مما في لفظ الممكن بنفسه من الإجمال
والأدلة العقلية إنما يعترض على معانيها فإن كنت أوردت هذا سؤالا لفظيا كان قليل الفائدة وإن كان سؤالا معنويا كان باطلا في نفسه والقوم لما قالوا : الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه جعلوا الوجود منحصرا في هذين القسمين أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصرا في هذين القسمين
وأما الجملة الجامعة لهذا وهذا فهي جامعة للقسمين ومرادهم بالممكن في أحد القسمين : ما يكون كل شيء منه لا يوجد إلا بشيء منفصل عنه ومرادهم بالواجب بنفسه مالا يفتقر إلى مباين له بوجه من الوجوه
ومن المعلوم أن الأول مفتقر إلى مقتض خارج عنه وأن مجموع تلك الممكنات ممكن مفتقر إلى ما هو مفتقر إلى مقتض مباين له والمفتقر إلى المفتقر المباين له اولى أن يكون مفتقرا إلى البماين وأما الثاني فلا يجوز أن يكون مفتقرا إلى مباين له وأما افتقاره إلى نفسه أو جزئه فهذا لا ينافي كونه غنيا عما يباينه
وحينئذ فمجموع الموجودات التي بعضها واجب وبعضها ممكن ليس هو من الممكن بهذا التفسير بل هو من الواجب لعدم افتقاره إلى مباين له
وإذا قيل : إن المجموع واجب بنفسه لكونه واجبا بما هو واجب بنفسه أو قيل : هو واجب بنفسه وأريد بذلك أن فيه ما هو واجب بنفسه وسائره مستغن بذلك الواجب بنفسه فالمجموع واجب ببعضه والواجب ببعضه يدخل بهذا الاعتبار في الواجب بنفسه تبين مغلطة المعترض وقيل له : قولك : المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن أتعني به انه مفتقر إلى أمر مباين أم تعني به أنه مفتقر إلى بعضه
أما الأول فباطل وأما الثاني فحق ولكن إذا قيل : إن مجموع الممكنات التي كل منها مفتقر إلى مباين للمجموع هو أيضا ممكن مفتقر إلى مباين لهذا المجموع لم يعارض هذا المجموع الموجودات فإن مجموع الموجودات لا يصح أن يكون ممكنا بمعنى أنه مفتقر إلى مباين له إذ ليس في أجزائه ما هو مفتقر إلى مباين للمجموع فإذا كان هو متوقفا على آحاده وليس في آحاده ما هو متوقف على أمر مباين له لم يجب أن يكون هو متوقفا على أمر مباين له
وأيضا فمن المعلوم بالضرورة أن مجموع الموجودات لا يتوقف على أمر مباين له إذ المباين لمجموع الموجودات ليس بموجود ومجموع الموجودات لا يكون معلولا لأمر غير موجود بخلاف مجموع الممكنات فإنه يكون معلولا لأمر غير ممكن فكيف يقاس أحدهما بالآخر ؟ أم كيف يعارض هذا بهذا ؟ إذا كان مجموع الموجودات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بموجود فكذلك يجوز أن يكون مجموع الممكنات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بممكن ؟
وهل هذا الإ بمنزلة من قال : إذا كان الموجودات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بموجود فمجموع المعدومات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بمعدوم وهل هذا إلا مجرد مقايسة لفظية مع فرط التباين في المعنى ؟
وهل يقول عاقل : إن الموجود الواجب بنفسه والموجود الذي وجب بغيره إذا لم يحتج إلى معدوم فالمعدوم الذي لم يجب بنفسه ولا بغيره يكون موجودا بأمر معدوم والممكن ليس به من نفسه وجود بل لا وجود له إلا من غيره سواء قيل : إن عدمه لا يفتقر إلى علة أو قيل : إن عدمه لعدم مقتضيه فمجموع الممكنات التي ليس فيها ما وجوده بنفسه لا تكون إلا معدومة وكل منها لا يكون موجودا إلا إذا كان وجوده بغيره سواء سمي هو معلولا لغيره أو مفعولا لغيره كيف تكون موجودة بغيرها ؟
ونكتة هذا الجواب أن لفظ الممكن يراد به الممكن بالإمكان الذي توصف به الممكنات المفتقرة إلى مقتض مباين فيلزم أن لا يكون لها ولا لشيء منها وجود بوجه من الوجوه إلا من المباين وأما الإمكان الذي وصف به مجموع الموجودات فمعناه أن ذلك المجموع لم يجب إلا بوجوب ما هو داخل فيه فبعض ذلك المجموع واجب بنفسه فلا يكون ذلك المجموع مفتقرا إلى مباين له

الوجه الثالث
ويتضح هذا بالوجه الثالث : وهو أنا نقول ابتداء : كل موجود فإما أن يكون وجوده بامر مباين له وإما أن لا يكون وجوده بأمر مباين له وكل ما كان وجوده بامر مباين له لا يكون موجودا إلا بوجود ما يباينه ومجموع الممكنات لا توجد إلا بمباين لها فلا يوجد شيء منها إلا بمباين لها وبعضها ليس بمباين لها فلا يوجد ببعضها بخلاف مجموع الموجودات فإنها لا تفتقر إلى مباين لها وإنما تفتقر إلى بعضها
وحينئذ فإذا صيغت الحجة هذه على هذا الوجه تبين أنه لا بد من موجود مباين للممكنات خارج عنها وهو المطلوب وأن مجموع الموجودات لا بد لها من موجود هو بعهضا فوجد به مجموعها وحينئذ فيلزم ثبوت واجب الوجود على التقديرين فكان ما ذكروه من الاعتراض دليلا على إثبات واجب الوجود لا على نفيه

فصل غلط المبتدعة في الله سبحانه على طرفي نقيض
واعلم أن هؤلاء غلطوا في مسمى واجب الوجود وفيما يقتضيه الدليل من ذلك حتى صاروا في طرفي نقيض فتارة يثبتونه ويجزدونه عن الصفات حتى يجعلوه وجودا مطلقا ثم يقولون : هو الوجود الذي في الموجودات فيجعلون وجود كل ممكن وحادث هو الوجود الواجب بنفسه كما يفعل ذلك محققة صوفيتهم كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم
وتارة يشككون في نفس الوجود الواجب ويقدرون أن يكون كل موجود ممكنا بنفسه لا فاعل له وأن مجموع الوجود ليس فيه واجب بنفسه بل هذا معلول مفعول وهذا معلول مفعلول وليس في الوجود إلا ما هو معلول مفعول فلا يكون في الوجود ما هو فاعل مستغن عن غيره فتارة يجعلون كل موجود واجبا بنفسه وتارة يجعلون كل موجوزد ممكنا بنفسه
ومعلوم بضرورة العقل بطلان كل من القسمين وأن من الموجودات ما هو حادث كان تارة موجودا وتارة معدوما وهذا لا يكون واجبا بنفسه وهذا لا بد له من موجود واجب بنفسه
ومن غلطهم في مسمى واجب الوجود أنهم لم يعرفوا ما هو الذي قام عليه الدليل وجوده مستفادا من أمر مباين له بل وجوده بنفسه وكون وجوده بنفسه لا ينفي أن يكون موجودا بنفسه وأن يكون ما دخل في مسمى نفسه من صفاته لازما له فالدليل دل على أنه لا بد للممكنات من أمر خارج عنها يكون موجودا بنفسه فلا يكون وجوده بامر خارج عنه وحينئذ فاتصافه بصفاته سواء سمي ذلك تركيبا او لم يسم لا يمنعه ان يكون واجبا بنفسه ر يفتقر إلى أمر خارج عنه ولهذا كانت صفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار وإن لزم من ذلك تعدد مسمى واجب الوجود بهذا المعنى بخلاف ما إذا عنى به أنه الموجود الفاعل للممكنات فإن هذا واحد سبحانه لا شريك له
وأما إذا عني به الموجود بنفسه القائم بنفسه فالصفات اللازمة تكون ممكنة لكن هذا يقتضي أن يكون في الممكنات ما هو قديم أزلي وهذا باطل كما قد بسطناه في موضع آخر

الوجه الثالث
أن يقال : قولك : المجموع المركب من لاواجب والممكن ممكن ممنوع بان يقال ليس المجموع إلا الأفراد الموجودة في الخارج والمجموع هو جميع تلك الأفراد وتلك الأفراد بعضها واجب وبعضها ممكن والجميع ليس هوصفة ثبوته قائمة بالأفراد وإنما هو امر نسبي إضافي كالعدد والموجود في الخارج فليست جملته غير آحاد المعنية ومعلوم أن الجملة ليست هي كل واحد من الآحاد بعينه لكن هي الآحاد جميعها فالآحاد
جميعها هي الجملة والمجموع وهذا لا حقيقة له غير الآحاد والآحاد بعهضا واجب وبعضها ممكن
يبين ذلك أنه قد قال بعد هذا : إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منها ولا خارجا عنه فهي نفس المجموع
فإن قال : بل المجموع هو الهيئة الاجتماعية الحاصلة باجتماع الواجب والممكن وتلك ممكنة لتوقفها على غيرها
قيل : تلك النسبة ليست أعيانا قائمة بانفسها ولا صفات ثبوتية بالأعيان بل أمر نسبي إضافي سواء كانت نسبة عدمية أو ثبوتيه إذا قيل : هي ممكنة لم يضر فإن الواجب الذي هو واحد من المجموع موجب لسائر الممكنات وتلك النسبة من الممكنات ولا يكون جزء المجموع موجبا للمجموع بمعنى انه موجب لكل واحد من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون موجبا لنفسه وهو ممتنع بل بمعنى انه موجب لما سواه وللهيئة الاجتماعية وهذا صحيح أو يقال : هو موجب لماسواه والهيئة الاجتماعية إن كانت ثبوتية فهي ممكنة من جملة الممكنات التي هي سواه وإن كانت عدمية فالأمر ظاهر

الوجه الرابع
أن يقال : مجموع الموجودات إما أن يكون فيها واجب بنفسه وإما أن لا يكون أي إما أن يقدر ذلك وإما أن لا يقدر فإن قدر فيها واجب بنفسه وجوب الواجب بنفسه وهو المطلوب وإن لم يقدر ذلك هذه الحجة وقد تقدم تقرير هذا الكلام

الدليل الثالث على إبطال التسلسل
وأما الدليل الثالث على إبطال التسلسل وهو قولهم : إن جملة ما يفتقر إليه المجموع : إما أن يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه
والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض أجزائه كافيا في المجموع والثالث حق

اعتراض الأبهري عليه
فقد اعترض عليه بقوله : قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة الأمور التي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع
وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم أنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع ؟

الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه

الوجه الأول
أن نقول : العلم بكون مجموع المعلولات الممكنة معلولا ممكنا أمر معلوم بالأضطرار فإن المجموع مفتقر إلى المعلولات الممكنة والمفتقر إلى المعلول أولى أن يكون معلولا وحينئذ فما أورده من القدح في تلك الحجة لا يضر إذ كان قدحا في الضروريات فهو من جنس شبه السوفسطائية

الوجه الثاني
أن مجموع المعلولات الممكنة إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فالمقتضى له غما نفسه أو جزؤه أو أمر خارج عنه
أما كون مجموع المعلولات الممكنات واجبا بنفسه فهو معلوم الفساد بالضرورة لأن المجموع غما كل واحد واحد من الأفراد وغما الهيئة الاجتماعية وإما مجموعهما وكل من ذلك ممكن
فإذا ليس الأفراد ممكنة وكل منها معلولولو قدر مالا غاية له والمعلول من حيث هو معلول لا بد له من علة فكل منها لا بد له من علة وتعاقب معلولات لا تتناهى لا يمنع ان يكون كل منها محتاجا إلى العلة فإذا لم يكن ثم مجموع إلا هذه الآحاد التي كل منها معلول محتاج لزم أن لا يكون في الوجود إلا ما هو معلول محتاج ومن المعلول بالضرورة أن المعلول المحتاج لا يوجد بنفسه
فعلى هذا التقدير لا يكون في الوجود ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بموحد والموجد إذا لم يكن موجودا بنفسه كان مما لا يوجد بنفسه فلا يوجد فيلزم أن لا يوجد شيء وقد وجدت الموجودات فيلزم الجمع بين النقيضين : وهو أن لا يكون شيء من الموجودات موجودا إذا قدر انه ليس فيها شيء موجود بنفسه وهي كلها موجودة فلا بد من غير موجود بنفسه فيكون الموجود موجودا بنفسه غير موجود بنفسه وهو جمع بين النقيضين

الوجه الثالث
أن يقال : أردنا بجملة ما يفتقر إليه المجموع العلة الفاعلة فغن الكلام إنما هو في إثبات الفاعل لمجموع الممكنات ليس هو فيما هو أعم من ذلك قوله : إن أردتم العلة الفاعلة التامة فلم قلتم : إنه يستلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع ؟
فيقال : قلنا ذلك لأنه إذا وجدت العلة الفاعلة التامة لزم وجود المعلول فإنه إنما نعني بالعلة مجموع ما يلزم من وجوده وجود المعلول فغن الممكن لا يوجد حتى يحصل المرجح التام المستلزم لوجوده فإذا كان الفاعل فاعلا باختياره فلا بد من القدرة التامة والإرادة الجازمة فلا يحصل الممكن بدون ذلك ومتى وجد ذلك وجب حصول المفعول الممكن فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ الله امتنع وجوده فإن حصل للمكن المؤثر التام وجب وجوده بغيره وإن لم يحصل امتنع وجوده لانتفاء المؤثر التام فوجوده لا يحصل إلا بغيره وأما عدمه فقد قيل : إنه أيضا لا بد له من علة وهو قول ابن سينا وأتباعه المتأخرين الذين يقولون : إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وقيل : لا يحتاج عدمه إلى علة وهو قول نظار السنة المشهورين كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وهو آخر قول الرازي فإنه يقول بقول هؤلاء تارة وهؤلاء تارة لكن هذا آخر قوليه فإن العدم عندهم لا يفتقر إلى علة وإذا قيل : عدم لعدم علته فمعناه أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أنه هو الذي أوجب عدمه بل إذا عدمت علته علمنا أنه معدوم فكان ذلك دليلا على عدمه لا أن أحد العدمين أوجب الآخر فإن العدم لا تأثير له في شيء أصلا بل عدمه يستلزم عدمه علته وعدم علته يستلزم عدمه من غير أن يكون أحد العدمين مؤثرا في الآخر
وأما وجوده فلا بد له من المؤثر التام وإذا حصل المؤثر التام وجب وجوده وإلا امتنع وجوده
ولهذا تنازع الناس في الممكن : هل من شرطه أن يكون معدوما ؟ فالذي عليه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين كأبن رشد وغيره حتى الفارابي معلمهم الثاني فإن أرسطو معلمهم الأول وحتى ابن سينا وأتباعه وافقوا هؤلاء أيضا لكن تناقضوا وعليه جمهور نظار أهل الملل من المسلمين وغيرهم : أن من شرطه أن يكون معدوما وأنه لا يعقل إلامكان فيما لم يكن معدوما
وذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديما أزليا لم يزل واجبا بغيره لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم كما خالف به جمهور النظار وخالف به ما ذكره هو مصرحا به في غير موضع
وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وذلك أنما يعقل فيما يكون معدوما ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد بل يستمر عدمه فأما ما لم يزل موجودا بغيره فكيف يقال فيه إنه يمكن وجوده وعدمه ؟ أو يقال فيه إنه يقبل الوجود والعدم ؟
ومما يوضح ذلك أن القابل للموجود والعدم غما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول : الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجودا في الخارج
فإن قيل بالأول فهو ممتنع لأن ما كان موجودا في الخارج أزلا وأبدا : واجبا بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلا فكيف يقال : إنه يقبل الوجود والعدم ؟
وإن قيل أمر آخر فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجودا أو عدما لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي فإذا اعتبرت الماهية في الذهن والوجود في الخارج أو بالعكس فاحدهما غير الآخر وأما إذا اعتبر ما في الخارج فقط أو ما في الذهن فقط فليس هناك وجود وماهية زائدة ومن تصور هذا تصورا تاما لم ينازع فيه وإنما ينازع من لم يميز بين الذهني والخارجي واشتبه عليه أحدهما بالآخر وأيضا فلو قدر أن في الخارج ماهية ووجودا لواجب قديم أزلي فهذه كما يقوله كثير من المتكلمين : إن لواجب الوجود ماهية غير زائدة على وجوده وحينئذ فمثل وجود هذه الماهية لا يقبل العدم كما أن وجود الماهية الواجبة بنفسها لا تقبل العدم
وإن قيل : نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم
قيل : إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل كما قد بين في موضع آخر وبتقدير التسليم فهذا كما يقدر أن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته ومعلوم أنه لا يستلزم ذلك كون ماهيته قابلة للعدم
ثم يقال : قول القائل : الماهية من حيث هي هي تقدير للماهية مجردة عن الوجو \ د والعدم وهذا تقدير ممتنع في نفسه فإن الماهية لو قدر تحققها فإما أن تكون موجودة أو معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال : إن تلك الماهية تقبل الوجود معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال : إن تلك الماهية تقبل الوجود والعدم
وأيضا فلو قيل : إنه يمكن تقديرها مجردة فهذا إنما يمكن في الماهية إذا كانت يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة وأما ما كان الوجود لازما لها قديما ازليا يمتنع عدمه فكيف يتصور ان يقال : إن هذه الماهية تقبل العدم وهي لم تزل واجبة الوجود فليس لها وقت من الأوقات تقبل فيه العدم وإذا قدرت مجردة في الذهن فليست هذه المقدرة في الذهن هي الموجودة في الخارج المستلزمة للوجود القديم الأزلي
فإن قيل : هذا كما نقول في ماهية المحدث أنه يقبل الوجود والعدم
قيل : إن سلم لكم أن ماهية المحدث زائدة على وجودهما موافقتكم لسائر العقلاء على أنه يمتنع تحققها في الخارج إلا إذا كانت موجودة وحين وجودها لا تكون معدومة بمعنى كونها تقبل الوجود والعدم قيل أحد إمرين : إما ان يقال : الماهية المقدرة في الذهن يمكن أن تكون موجودة في الخارج ويمكن أن تكون معدومة وإما أن يقال : هذه الحقيقة يمكن أن تكون في الخارج معدومة فإذا اخترنا من ذلك حال عدمها قيل : يمكن وجودها بعد العدم وإن كان حين وجودها : قيل : يمكن عدمها بعد الوجود ومثل هذا ممتنع في الماهية القديمة الازلية التي يجب وجودها ويمتنع عدمها سواء قدر ان وجوبها بنفسها أو بغيرها كما أن صفات الرب عند من قال : ممكنة مع كونها قديمة أزلية واجبة بالذات فإنها عندهم لا يمكن عدمها ولا تقبله فإن ما وجب قدمه من الأمور الوجودية امتنع عدمه باتفاق العقلاء فإن ما يجب قدمه لا يكون إلا واجبا بنفسه ولا بغيره ليس قديما باتفاق العقلاء
فإنه إذا قدر أنه ليس واجبا بنفسه فلا بد أن يكون من لوازم الواجب بنفسه فإنه إذا لم يكن من لوازمه بل جاز وجوده تارة وعدمه أخرى
لم يكن هناك موجب لذاته ولا ذاته واجبة بنفسها فامتنع قدمه وإذا كان من لوازم الواجب بنفسه امتنع عدمه إلا إذا عدم الملزوم فإن اللازم لا ينتفي إلا إذا انتفى الملزوم والملزوم الواجب بنفسه يمتنع عدمه فيمتنع عدم لازمه وما امتنع عدمه لا يكون ممكن العدم
فإن قيل : فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها إذا وجدت تجب بوجوب سببها فما شاء الله كان وجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وهي ممتنعة حال عدمها ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم ولا يلزم من عدمها عدم الواجب
قيل : الفرق بينهما من وجهين : أحدهما أن تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى فثبت قبولها للوجود والعدم فلا يمكن أن يقال : إنها لا تقبل العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط ولم يكن عدمه في وقت من الأوقات
الثاني : أن هذه لا يوجبها نفس الواجب إذا لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضى التام فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام ومن جملة ذلك الأمور الحادثة التي هي شرط في حدوثها وإذا عدمت فأنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الشروط الحادثة أو لحدوث مانع ضاد وجودها ومنع تمام علتها التامة فعدمت لعدم بعض الحوادث أو وجود بعض الحوادث كما وجدت لحدوث بعض الحوادث وفدم بعضها أيضا فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجدة في الأزل بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزلية الواجبة الوجود وعدمها ممتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود ن وعدمها ممتنع فعدم لازمها الأزلي ممتنع فلا يكون لازمه الأزلي ممكنا البتة بل لا يكون إلا واجبا قديما أزليا لا تقبل ذاته العدم وهذا هو المطلوب فقد تبين أن ما كان أزليا فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكنا البتة وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وأخرون حتى أرسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره وكذلك ابن سينا وأتباعه
لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا وأجبا وإن قيل : هو واجب بغيره
ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من عقلاء قبل هؤلاء ولا نقله أهل المقالات عن احد من الطوائف وإنما يوجد في كلام هؤلاء وأتباعهم وإذا عرف هذا فإن قال هؤلاء : نحن نريد به العدم الاستقبالي أي يقبل ان يعدم في المستقبل قيل فهذا يبطل قولكم لأن ما كان واجبا بغيره أزليا لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل وكذلك هو عندكم أزليا كان أبديا يمتنع عندكم عدمه
وإن قيل : نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج ويمكن أن لا يوجد
قيل : إذا كان أزليا واجبا بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكنا فالممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن معدوما في الماضي أو المستقبل
وإذا قيل : إن من الممكن يقبل الوجود والعدم لم نرد به انه يقبلهما على سبيل الجمع فإن هذا جمع بين النقيضين بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلا عن العدم والعدم بدلا عن الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود وقبل حدوث العدم هذا إذا اعتبر حاله في الخارج وإن اعتبر حاله في الذهن فالمراد أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن ان لا يوجد فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنيا أو خارجيا لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارة ووجود أخرى فما كان ضروري العدم كالجمع بين النقيضين لا يكون ممكنا ن وما كان ضروري الوجود وهو القديم الأزلي لا يكون ممكنا وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة : ارسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دايما فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم
ولما سلك الرازي ونحوه مسلك ابن سينا في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن وورد عليهم فيه إشكالات كثيرة كما هو موجود في كتبهم كما أوردوه الرازي في محصله من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيرا فإنه يعلم إمكانة بالضرورة
وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء حتى ارسطو واصحابه ن وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كل ممكن فهو مسبوق بالعدم ن وكل ما سوى الله ممكن فكل ما سوى الله حادث عن عدم ن كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا ان الدين بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها فإن مرادهم بقولهم : جملة ما يفتقر إليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة وإرادته التامة وجب وجود المقدور وهي الممكنات
وأما قوله : فلم قلتم : إنه يلزم أن يكون بعض الجزاء كافيا في المجموع فلما ذكرناه من أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع فيكون مؤثرا في نفسه وفي غيره
وهذا ظاهر فإنه إذا قدر مجموع الممكنات وقدرنا أن واحدا منها مؤثر في نفسه وفي غيره فيكون بعض أجزاء المجموع موجبا لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه وهذا ممتنع وأما المجموع المركب من الواجب والممكن فهناك ليس بعضه مؤثرا في كل واحد واحد وفي الهيئة الإجتماعية 0 فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق
وأيضا فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية ليس مؤثرا في نفسه بخلاف مجموع الممكنات فإن كل واحد منها لا بد من مؤثر والاجتماع لا بد له من مؤثر فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير فسر فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة والمتوقف على الممكن أولى أن يكون ممكنا مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها فهي ادخل في الإمكان والافتقار من غيرها وهي من أضعف الأعراض المفتقرة إلى الأعيان إن قدر لها ثبوتا وجوديا وإلا فلا وجود لها وإن فسر المجموع بكل واحد واحد أو فسر بالأمرين بكل واحد بالاجتماع أو بغير ذلك بأي شيء فسر لم يكن إلا ممكنا مفتقرا إلى غيره وكلما كثرت الإمكانات كثر الافتقار والحاجة
فإذا قيل : المؤثر في ذلك واحد منها وهو ممكن لزم أن يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلا لجميع الممكنات ونفسه من الممكنات فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضا
وهذا المعترض اخذ المجموع المركب من الواجب والممكن فعارض به المجموع من الممكنات 0 ولفظ المجموع فيه إجمال يراد به الاجتماع ويراد به جميع الأفراد ويراد به الأمران فكانت معارضته في غاية الفساد 0 فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره وما سواه من الأفراد والهيئة الإجتماعية مفعول له فهذا معقول
فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه خالق لكل ما سواه وأما الهيئة الاجتماعية إن قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضا سبحانه وتعالى 0 وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه وليس فيه موجود بنفسه فيمتنع أن يكون فاعلهم واحدا منهم لأنه لا بد له من فاعل فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات ولزم أن يكون بعض أجزاء الممكنات كافيا في مجموع الممكنات وإذا كان مجموع الممكنات يمتنع أن يكون فاعلها فلأن يمتنع أن يكون بعضها فاعلا لها بطريق الأولى فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى وما يفتقر إليه المجموع يفتقر إليه بعضه بطريق الأولى0 وهذا المعترض أخذ ما يفتقر إليه المجموع لفظا مجملا فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله0 ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا ونحن نجيب على كل تقدير

الوجه الرابع
أن يقال أتعني بجملة ما يفتقر إليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطا أو فاعلا فإن جملة ما يفتقر إليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر إليه الشيء فكل ما كان الشيء مفتقرا إليه فهو داخل في هذه الجملة وإذا حصل كل ما يحتاج إليه الشيء لم يبق الشيء محتجا إلى شيء أصلا فيلزم وجوده حينئذ فإنه ما دام مفتقرا إلى شيء لم يوجد وإذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفا على شيء أصلا لزم وجوده فينبغي بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الأمور التي إذا وجدت وجد المجموع وإن لم توجد جميعها لم يوجد المجموع
ومعلوم أنه إذا عنى به ذلك لم يمكن أن يكون ذلك بعضها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع وإن لم يحصل لم يجز حصوله فلو كان بعض الأجزاء هو تلك الجملة لوجب أن يكون ذلك البعض كافيا في حصول المجموع سواء قدر فاعلا لنفسه ولباقي الجملة أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع أو قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة فأي تقدير قدر كان ممتنعا فإن جملة ما يفتقر إليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر وهو المطلوب
ولكن لفظ المجموع فيه إجمال فإنه قد يعني به مجرد الهيئة الاجتماعية وقد يعنى به كل من الأفراد أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية فإن عني به الأول فلا ريب أن هذا قد يكون بعض الأفراد موجبا له كما في المجموع المركب من الواجب والممكن فإن الواجب هو الموجب للممكنات وهو الموجب أيضا للهيئة الاجتماعية والهيئة الاجتماعية أمر ممكن خارج عن الواجب ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية لكنه بعض الأفراد والهيئة نسبة وإضافة وليس هو بعض النسبة والإضافة ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض والنسبة وسائر الأفراد غير له وهو الموجب لكل ما هو غير له
وأما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون ذلك البعض موجبا لنفسه فاعلا لذاته وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء بل هو من أبلغ الأمور امتناعا والعلم بذلك من أوضح المعارف وأجلاها ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء
وإذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو أبعد عن أن يكون واحد من الأفراد موجبا لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية وهذا بين ولله الحمد والمنة
واعلم أن مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها ومثل هذه الخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات لا نهاية لها ولا يمكن استقصاء ما يرد علي النفوس من وساوس الشيطان ولولا أن هذين الرجلين اللذين كان يقال إنهما من أفضل أهل زمانهما في المباحث العقلية : كلاميها وفلسفيها أورد كل منها ما ذكرت وصار ذلك عنده مانعا من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه فضلا عمن نور الله قلبه
ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون كما زعم الآمدي إن كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب فأي شيء عرفوه ؟

جهل المبتدعته وحيرتهم
وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب كشف الأسرار في المنطق وهو عند كثير منهم غاية ف يهذا الفن أنه قال عند الموت أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي أموت وما علمت شيئا
وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام أو كلاما هذا معناه
وذلك أن هذا الآمدي لم يقرر في كتبه لا التوحيد ولا حدوث العالم ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقا زيفها وذكر طريقة زعم انه ابتكرها وهي أضعف من غيرها
وكان ابن عربي صاحب الفصوص و الفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول : إن الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة أو ما هو نحو هذا حتى أفضى الأمر ببعض أعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى أن قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وإنما يعلم بالسمع فقام عليه أهل بلده وسعوا في عقوبته وجرت له قصة
وكذلك الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما فقال له بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته
وكذلك حدثني من قرا على ابن واصل الحموي أنه قال أبيت باليليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس وأصبح وما ترجح عندي شيء كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة
وقد بسطنا في التوحيد وأدلته في غير هذا الموضع وذكرنا أن الناس قبلنا قد ذكروا له من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله ولكن الإنسان يريد ان يرعف ما قاله الناس وما سبقوا إليه وبينا أن القرآن ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكروه الناس وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد إليه كثير من النظار ولا العباد بل هو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه

الطرق المختلفة لإثبات الخالق تعالى
وهؤلاء كما ذكرت انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد فكان منتهى أولئك الشك ومنتهى هؤلاء الشطح فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود او يعجزون عن إقامة الدلالة عليه
وإذا لم يكن في الوجود واجب لم يوجد شيء فتكون الموجودات كلها معدومات فيفضى بهم سوء النظر إلى جعل الموجودات معدومات أو تجويز كونها معدومات وجعل الموجود الواجب ممكنا وجعل الواجب ممكنا غاية التعطيل
والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود ويجعلون وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود فلا يكون في الوجود وجود هو عندهم مخلوق ولا مصنوع ولا مفتقر إلى غيره ولا محتاج إلى سواه ن فلا يكون في الوجود ما وجد بعد عدمه ولا ما عدم بعد وجوده وهذا فيه من جعل المعدوم موجودا ومن جعل الممكن واجبا وجعل العبد ربا وجعل المحدث قديما ما هو غاية الكفر والشرك والضلال

الطريقة الصحيحة الموافقة للفطرة في إثبات وجود الله تعالى
هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق هو من أظهر المعارف وأبين العلوم
أما ثبوت الموجود المفتقر المحدث الفقير فيما نشاهده من كون بعض الموجودات يوجد بعد عدمه ويعدم بعد وجوده من الحيوانات والنباتات والمعدن وما بين السماء والأرض من السحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك وما نشاهده من حركات الكواكب وحدوث الليل بعد النهار والنهار بعد الليل فهذا كله فيه من حدوث موجود بعد عدمه ومعدوم بعد وجوده وما هو مشهود لبني أدم يرونه بأبصارهم
ثم إذا شهدوا ذلك فنقول : معلوم أن المحدثات لا بد لها من محدث والعلم بذلك ضروري كما قد بين ولا بد من محدث لا يكون محدثا وكل محدث ممكن والممكنات لا بد لها من واجب وكل محدث وممكن فقير مربوب مصنوع والمفتقرات لا بد لها من غني والمربوبات لا بد لها من رب والمخلوقات لا بد لها من خالق
وأيضا فإنه يقال : هذا الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا بنفسه فهو واجبا بغيره والممكن بنفسه الواجب بغيره لا بد له من واجب بنفسه فلزم ثبوت الواجب بنفسه على التقديرين
وأيضا فالموجود : إما أن يكون محدثا وإما أن يكون قديما والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود القديم على التقديرين
وأيضا فالموجود إما أن يكون محدثا وإما أن يكون والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود على التقديرين
وأيضا فإما إن يكون خالقا وإما أن لا يكون وقد علم فيما ليس بخالق كالموجودات التي علم حدوثها أنها مخلوقة والمخلوق لا بد له من خالق فعلم ثبوت الخالق على التقديرين
وأيضا فالموجود إما غني عن كل ما سواه وغما مفتقر إلى غيره والفقير إلى غيره لا بد له من غنى بنفسه فعلم ثبوت الغني بنفسه على التقديرين
فهذه البراهين وأمثالها كل منها يوجب العلم بوجود الرب سبحانه وتعالى الغني القديم الواجب بنفسه

طريقة ابن سينا وأتباعه في إثبات وجود الله تعالى
وابن سينا وأتباعه كالرازي والآمدي والسهروردي المقتول وأتباعهم سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها وظن من ظن منهم انها أشرف الطرق وأنه لا طريق إلا وهو يفتقر إليها حتى ظنوا أن طريقة الحدوث مفتقرة إليها
وكل ذلك غلط بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن الذي هو ممكن عند العقلاء سلفهم وغير سلفهم وهو الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى
فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره وإلى محدث مسبوق بالعدم كما هو قول ابن سينا وأتباعه فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لاإثبات واجب بنفسه ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه
وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث وطريقة الحدوث أكمل وأبين فغن الممكن الذي يعلم انه ممن هو ما علم أنه وجد بعد عدمه أو عدم بعد وجوده
هذا الذي اتفق العقلاء على أنه ممكن وهو الذي يستحق أن يسمى ممكنا بلا ريب وهذا محدث فإذا كل ممكن محدث
وأما تقدير ممكن لم يزل واجبا بغيره فأكثر العقلاء دفعوا ذلك حتى القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه المتقدمين وحتى هؤلاء الذين قالوا ذلك ابن سينا وأتباعه لا يجعلون هذا من الممكن بل الممكن عندهم ما أمكن وجوده وعدمه فكان موجودا تارة ومعدوما أخرى
وإنما جعل هذا من الممكن ابن سينا وأتباعه مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب فقالوا كل ما سواه يكون ممكنا بنفسه واجبا بغيره وجعلوا العلم قديما أزليا مع كونه ممكنا بنفسه
وهذا خلاف قول سلفهم وقول أئمة الطوائف سواهم وخلاف ما صرحوا أيضا به وهذا مما أنكره ابن رشد وغيره على ابن سينا وبسط الكلام فيه له موضع آخر
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعونان كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات هذا اظطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا
والفلسفة هي باطن الباطنية ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء ف ينوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه

بطلان قول الفلاسفة حول كمال النفس
ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الأنبياء لم تكلمنا عن قولهم انها قوى نفسانية وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك وبينا أن قولهم إن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات خطأ وضلال ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما إصلاح الدنيا وإما تهذيب النفس لتستعد للعلم أو لتكون الشريعة أمثالا لتفهيم المعاد في العقليات كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم ويقولون إنه لم يجب على الأنبياء ذلك وإنما كانوا يفعلونه لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك لا لأنه واجب على الأنبياء وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء
ودخل في ذلك طائفة من ضلال المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة فإذا حصلت سقطت العبادات وقد يحتج بعضهم بقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر 99 ويزعمون أن اليقين هو المعرفة وهذا خطأ بإجماع المسلمين أهل التفسير وغيرهم فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها وتحريم المرحمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجبا على كل أحد ما دام عقله حاضرا ولو بلغ وأن الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله مع أن من زال عقله بالنوم فانه يقضيها بالسنة المستفيضة المتلقاه واتفاق العلماء وأما من زال عقله بالإغماء ونحوه مما يعذر فيه ففيه نزاع مشهور : منهم من يوجب قضاءها مطلقا كأحمد ومنهم من لا يوجبه كالشافعي ومنهم من يوجب قضاء ما قل وهو ما دون اليوم والليلة أو صلوات اليوم والليلية كما مذهب أبي حنيفة ومالك والمجنون لا يقضي عند عامتهم وفيه نزاع شاذ
فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل سواء كان كبيرا أو صالحا أو عالما وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية وإن كانوا كلهم جهالا من سقوطها عن العارفين أو الواصلين او أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام
واتفق علماء المسلمين على أن الواحد من هؤلاء يستتاب فإن تاب وأقر بوجوبها وإلا قتل فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها وإنما تنازعوا في قتل من أقر بوجوبها وامتنع من فعلها مع أن أكثرهم يوجب قتله
ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعتراف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه فهذا على ثلاثة أنواع أحدها أن يكون قد صار مرتدا ممتنعا عن الإقرار بما فرضه الرسول فهذا حكمه حكم المرتدين وفيه للعلماء ثلاثة أقوال : إحدهما : أنه لا يقضي ما تركه في الردة ولا قبلها لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة بناء على أن الردة أحبطت عمله وأنه إذا عاد عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل كما هو معروف في مذهب أبي حنيفة ومالك وقول في مذهب أحمد والثاني : أنه يقضي ما تركه في الردة وقبلها وهذا قول الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد والثالث : أنه لا يقضي ما تركه في الردة ويقضي ما تركه قبلها كالرواية المشهورة عن أحمد
وإن كان الواحد من هؤلاء جاهلا وهو مصدق للرسول لكن ظن أن من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين كما يضن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال ولهم مع ذلك أحوال نفسانية وشيطانية
فهؤلاء مبني أمرهم على أن من ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها فهل يقضي ؟ وفيه ثلاثة أقوال : منها وجهان في مذهب أحمد : أحدهما : أنه لا قضاء عليه بحال بناء على أن حكم الخطاب لا يثبت في حق العبد إلا من بعد بلوغ الخطاب إليه والثاني : عليه القضاء بكل حال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وغيره والثالث : يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة والأول أظهر الأقوال
وأيضا فقد تنازع الناس فيمن فوت الصلاة عمدا بغير عذر والصوم هل يصح منه القضاء أم قد استقر عليه الذنب فلا يقبل منه القضاء ؟ على قولين معروفين وليس هذا موضع هذا
وإنما المقصود هنا أنه ليس في علماء المسلمين من يقول بسقوط الصلاة عمن هو عاقل على أي حال كان
فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر : 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية : اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به كما قال الله تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } المدثر : 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات عثمان بن مظعون قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم

بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك
وضلالهم من وجوه
منها : ظنهم أن الكمال في مجرد العلم
والثاني : ظنهم أن ما حصل لهم علم
والثالث : ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس
الوجه الأول
وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان : علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده
والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه : إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما
وهذا القول : وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع

الوجه الثاني
وأما المقدمة الثانية : فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه : العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود وظنوا أن العالم أبدي ازلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه
وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه وأبو حامد وإن سلك أحيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه : إنه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم
فمن قال : إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال : إن كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق إن الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية : أنه العلم بالله واخذوا من كلام هؤلاء : أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا : إن الله هو الوجود المطلق

الوجه الثالث
وأما المقدمة الثالثة : فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم
وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال : من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كمل من الرجال كثير ] فالكاملون من الرجال كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال

تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود
والمقصود هنا الكلام على مسلكه هؤلاء المتأخرين في تقرير واجب الوجود والآمدي قد قررها في أبكار الأفكار وأورد سؤالا على بعض مقدماتها في رموز الكنوز قد ذكرنا سؤاله وجوابه
وأما تقريره لها فقال في تقرير هذه الحجة : النظر إلى الجملة غير إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة كما تقدم وإن كانت ممكنه فلا بد لها من مرجح والمرجح إما داخل فيها وإما خارج عنها فإن كان داخلا فيها فالمرجح للجملة مرجح لآحادها فيلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه من الآحاد فيلزم أن يكون علة لنفسه معلولا لها وإن كان خارجا عنها لم يكن ممكنا لأنه من الجملة فيكون واجبا
ثم أورد على ذلك قول السائل لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهي وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وحينئذ فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا انه زائد على الآحاد ولكن ما المانع أن يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجيحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجحا لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي قلنا مسمى الجملة هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد إذ كل واحد من الآحاد متناه الموصوف بما لا يتناهي هو الأعداد المفروضة بحيث لا يخرج عنها واحد قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية
قلنا إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب
ولقائل أن يقول يريدون بالجملة كل الآحاد لا كل واحد منها زلا يسلمون أن كل الآحاد أمر مغاير للآحاد المتعاقبة
قولهم ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه
قلنا إما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان يوجد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول الحجة المذكورة لا تحتاج إلى إثبات كون الجملة غير الآحاد وإن كان ذلك حقا فإنه يقال لمن قال لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناه لا يخلو إما أن يكون هنا جملة غير الآحاد وإما أن لا يكون 0 فإن كان بطل سؤال وإن لم يكن كان ذلك أبلغ في الحجة فإن كل واحد من الآحاد ممكن وليس هنا جملة يمكن أن تكون واجبة فكل من الممكنات يمتنع أن يوجد بنفسه أو بممكن آخر كامتناع وجود الجملة الممكنة بكل من الممكنات
وقد أورد هو هذا السؤال فكان فيه كفاية من ان يقرر أمورا إذا حذفها كان أبلغ في الحجة وأقوى لها
وكذلك السؤال الثاني وهو قوله سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة فلا يكون معللا بغير علة الآحاد فإن هذا السؤال هو نظير الأول بل هو هو مع تغير العبارة فإن من نفي وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي لم ينازع في وجود كل واحد واحد من الآحاد المتعاقبة فإذا سلم مفهوم الجملة فيما لا يتناهي وفسر ذلك بالآحاد المتعاقبة كان باقيا على منعه الأول 0 لكن من الناس من يقول الجملة لا تعقل إلا في المتناهي ومنهم من قد ينازع في الجملة هل لها حقيقة غير كل واحد من الآحاد فلهذا جعلهما سؤالين
وبكل حال فالسؤال إن كان متوجها كان ذلك أقوى في الحجة وغن لم يكن متوجها لم يرد بحال وذلك انه لم يكن للجملة حقيقة غير كل واحد واحد لم يكن هنا مجموع نحتاج أن نصفه بوجوب أو إمكان غير كل واحد واحد وتلك كلها ممكنة فتكون الحجة على هذا التقدير أقل مقدمات فإنه إذا كانت الجملة غير الآحاد احتيج إلى نفي وجوبها بنفسها أو بالآحاد أما إذا قدر انتفاء ذلك لم يحتج إلى ذلك فلا يحتاج إلى نفي الوجوب عنها لا بنفسها ولا بالآحاد
ولهذا قال في الاعتراض إذا لم تكن الجملة غير الآحاد لم يلزم ان تكون معللة بغير علة الآحاد
وهذا مما يقوي الحجة فإنها إذا لم تكن معللة بغير علة الآحاد ومعلوم أنه لا بد من إثبات علة الآحاد فذلك وحده كاف بخلاف ما إذا كانت غير الآحاد فإنه يحتاج إلى نفي وجوبها بنفسها أو الآحاد
وهذا هو السؤال الثالث وهو قوله ما المانع أن يكون المجموع وهو الجملة مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بواحد منها بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه بترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير نهاية
وقد أجاب عن هذا بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
وهذا السؤال هو الذي ذكره في كتابه الآخر وذكر أنه لا يعرف له جوابا حيث قال ما المانع من ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
قال وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
والجواب الذي ذكر عنه إنما يستقيم إذا أرادوا بالجملة كل واحد واحد من الأجزاء ولم يجعلوا للاجتماع قدرا زائدا وجعلوا الاجتماع جزءا فإنه حينئذ يقال الجملة هي الآحاد فأما إذا أريد بالجملة الاجتماع وهو الهيئة الاجتماعية وأن ترجحها بالآحاد المتعاقبة لم يكن الجواب صحيحا
وهذا هو الذي استشكله في كتابه الآخر وحينئذ يكون السؤال لم لا يجوز ترجح الاجتماع بالآحاد المجتمعة وترجح كل واحد بالآخر وليس الجملة هو الآحاد المتعاقبة كما تقدم بل هو الهيئة الاجتماعية ولكن يمكن تقرير هذا الجواب إذا جعلت الهيئة الاجتماعية جزءا من أجزاء الجملة وهذا أمر اصطلاحي فإن المجموع المركب من أجزاء قد يجعل نفس الاجتماع ليس جزءا من المجموع وقد يجعل جزءا من المجموع فإذا جعل الاجتماع جزءا من المجموع كان تقرير السؤال أن هذا الجزء معلل بسائر الأجزاء وترجح كل جزء بالآخر وترجح جزء ممكن بجزء ممكن كترجح جزء ممكن بأجزاء ممكنة وحينئذ فإجابته بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه ليس بجواب مطابق فإنهم لم يدعوا ترجح المجموع بالمجموع بل ترجح الاجتماع بكل واحد واحد من الأجزاء المتعاقبة والاجتماع وإن كان جزءا فليس هو من الأجزاء المتعاقبة لكن هذا فيه ترجيح بعض الأجزاء ببعض فهو كتعليل بعض الممكنات ببعض فيعود الأمر ويقال فالجموع هو واجب بنفسه أو ممكن معلول لنفسه أو معلول ببعضه أو بخارج عنه كما تقدم تقرير ابن سينا لحجته
وقد تقدم أن المجموع إما أن لا يكون له علة بل هو واجب بنفسه وهذا باطل كما تقدم وإما أن يكون له علة وهو المجموع أو بعضه أو ما هو خارج عنه كما يقال نظير ذلك في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام
فلهذا قال في القسم الثاني وأما أن يقتضي المجموع علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شيء واحد واما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة
يقول إن كان المقتضي للمجموع هي الآحاد بأسرها بحيث تدخل فيها الهيئة الاجتماعية لزم أن تكون الجملة الممكنة معلولة لذاتها فإن الجملة والكل والمجموع شيء واحد بخلاف ما إذا أريد باكل كل واحد واحد فإن الجملة لا تجب بكل واحد واحد إنما تجب بمجموع الآحاد كالعشرة لا تحصل بكل فرد فرد من أفرادها وكذلك سائر المركبات وإنما يحصل المركب بمجموع اجزائه التي من جملتها الهيئة الاجتماعية إن جعلت الهيئة الاجتماعية امرا وجوديا وإن لم تجعل كذلك لم يحتج إلى هذا بل يقال المجموع هو الآحاد بأسرها وليس هنا غير الآحاد
ولعل ابن سينا أراد هذا ولهذا أوردوا عليه تلك الأسولة وهو أن المجموع مغاير للآحاد وأنه يجوز أن يجب المجموع بالآحاد المتعاقبة ونحو ذلك مما تقدم
وأما القسم الثالث وهو أن يكون للمجموع علة هي بعضه فهذا قد أبطله بقول ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته اولى بذلك
وهذان وجهان في تقرير ذلك أحدهما أن كل جزء من الأجزاء إذا كان ممكنا ومن ذلك الهيئة الاجتماعية فليس وجوب المجموع بهذا الجزء بأولى من هذا لأنه متوقف على كل جزء جزء منها
والثاني أن كل واحد من تلك الأجزاء معلول لغيره فعلته أولى أن تكون هي الموجبة للجميع منه سواء قيل : إن علة المجموع واحد معين أو واحد منها غير معين واما إذا قيل : كل واحد واحد فذلك أبعد لأنه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
فإن قيل : إذا كان المجموع هو الأجزاء ونفس الاجتماع فهذا لا يفتقر إلى شيء منفصل
قيل : هذا هو القول بوجوب ذلك بنفسه وقد تقدم إبطاله فإنه يكون كل جزء ممكنا بنفسه والاجتماع ممكن بنفسه ولم يكن هنا ما يغاير ذلك حتى يقال : هو واجب بنفسه فلا يمكن أن يكون هنا ما هو واجب بنفسه
وقد أبطل غيره هذا القسم بوجهين : أحدهما ذكره الرازي والآمدي : أن ما كان سبب المجموع كان سبب كل واحد من أجزاء ذلك المجموع فلو قدر جزء من أجزاء المجموع سببا لزم كزن الجزء سببا لنفسه فيلزم كون الممكن علة معلولا وأيضا فذلك الجزء معلول فإذا كان هو مرجحا للمجموع كان مرجحا لعلته فيكون علة لعلته

فصل
ولم يذكر أن سينا ولا غيره في إثبات واجب الوجود قطع الدور كما لم يذكر الجمهور قطع التسلسل لظهور فساده وقد ذكرنا غير مرة أن المقدمة إذا كانت معلومة مثل علمنا بأن المحدث لا بد له من محدث بل مثل علمنا أن هذا المحدث له محدث كان العلم بها كافيا في المطلوب وأن ما يرد على الأمور المعلومة هو من جنس شبه السوفسطائية التي لا نهاية لها فيجب الفرق بين ما يكون من المقدمات خفيا على أكثر الناس يحتاج إلى بيان وما يكون معلوما لأكثر والشبة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية
ولما كان أهل الكلام كثيرا ما يوردون يورد عليهم ما هو من جنس شبه السوفسطائية كما يورده الكفار الذين يجادلون بالباطل ليد حضوا به الحق لم يكن لهذا حد محدود ولا عد معدود بل هو بحسب ما يخطر للقلوب فلهذا صار كلما طال الزمان أورد المتأخرون أسولة سوفسطائية لم يذكره المتقدمون
وزاد المتأخرون مقدمة في الدليل لدفع ذلك السؤال فزادوا أولا : أن المحدث لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخصص والأوقات متماثلة والأمور المتماثلة يمتنع اختصاص بعضها دون بعض إلا بمخصص منفصل
ثم زادوا بعد هذا : ان التخصيص ممكن والممكن لا يترجح ودوده على عدمه إذ لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وزادوا أن المرجحات يمتنع تسلسلها كما تقدم ثم زادوا بعد هذا قطع الدور
وكذلك ابن سينا لم يذكر في برهانه أن الممكن لا يوجد من نفسه فلا بد أن يوجد بغيره فقال الرازي لا يلزم من صحة قولنا ليس الممكن موجودا من ذاته صحة قولنا : إنه موجود بغيره لأن بين القسمين واسطة وهي أن لا يكون وجوده من شيء أصلا لا من ذاته ولا من غيره وإذا كان كذلك لم يتم البرهان إلا بذكر هذا القسم وإبطاله : إما بادعاء الضرورة في فساده أو بذكر البرهان على فساده
قال وهو لم يفعل شيئا من ذلك
فيقال له كون وجود الشيء لا من نفسه ولا من غيره هو مما يعلم فساده بالضرورة والأمور المعلومة الفساد بالضرورة لا يجب على كل مستدل تقديرها ونفيها فإن هذا لا غاية له وإنما يذكر الإنسان من ذلك ما قد قيل أو خطر بالبال فأما الذهن والصحيح الذي يعلم بالضرورة فساد مثل هذا التقدير فهو لا يورده على نفسه ولا يورده عليه غيره وإنما يقع الإيراد عند الشك والاشتباه فإن قدر من الناس من يشك ف يهذا احتاج مثل هذا إلى البيان وقد قلنا إن الأسولة السوفسطائية ليس لها حد محدود ولا عد معدود
وهذا نظير قول القائل : إن المحدث الذي كان بعد أن لم يكن لم يحدث نفسه وهذا كله من العلوم البديهية الضرورية الفطرية التي هي من أبين الأمور عند العقلاء
ولو احتاج المستدل أن يذكر من الأقسام ما يخطر ببال كل أحد وإن كان فساده معلوما بالضرورة لقال : الممكن إذا لم يوجد بنفسه فإما أن يوجد بموجد او بغير موجد وإذا وجد بموجد فلذلك الموجد إما أن يوجده وهو معدوم أو يوجده وهو موجود
ثم يريد أن يبطل الثاني بأن الموجد لا يوجد وهو معدوم كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام وإذا أراد أن يبطل ذلك قال : والمعدوم لا يكون موجدا لأن العدم لا يتميز فيه شيء عن شيء والموجد لا بد أن يتميز عن غيره وإذا قيل : المعدوم يتميز فيه شيء عن شيء على قول من يقول : المعدوم شيء تبين أن المعدم ليس بشيء فيكون إثبات وجود الصانع موقوفا على إبطال قول هؤلاء كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام
ومن المعلوم ان إبطال هذا أدق من إبطال كون الشيء الذي لا يكون وجوده من نفسه يكون موجودا لا بنفسه ولا بغيره إذ كان من المعلوم البين لكل أحد أن ما لم يوجد بنفسه فلا بد ان يكون وجوده بغيره وأما تقدير موجود لم يوجد بنفسه ولا بغيره فهو ممتنع فإنه لا يعني بكونه موجودا بنفسه أن نفسه أوجدته إذ كان هذا معلوم الامتناع بل يعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره بل وجوده واجب بنفسه فهو موجودا أزلا وأبدا فظهور صحة هذا الكلام وبطلان نقيضه أبين مما يستدل به عليه بل يمكن هنا إيراد أسولة أخرى يطول بها الكلام
وقال الرازي أيضا : قد كان الواجب على ابن سينا أن يتكلم قبل هذا الفصل في بيان أن سبب الممكن لا يكون مقدما عليه تقدما زمانيا فإنه لو جاز ذلك لما امتنع إسناد كل ممكن إلى آخر قبله لا إلى أول وذلك عنده غير ممتنع فكيف يمكن إبطاله لإثبات واجب الوجود وأما إذا قامت الدلالة على أن السبب لا بد من وجوده مع المسبب فحينئذ لو حصل التسلسل لكانت تلك الأسباب والمسببات بأسرها حاضرة معا وذلك عنده محال
والبرهان الذي ذكره في إبطال التسلسل أيضا مختص بهذه الصورة فكان الأولى تقديم الكلام في هذه المسألة لكن لما كان في عزمه أن يذكره في موضع آخر وهو النمط الخامس من هذا الكتاب لا جرم تساهل فيه ههنا
قلت : مثل هذا الكلام هو الذي أوجب أن يدخل هذا القسم من أدخله ف يهذا الدليل كالآمدي وغيره ولا حاجة إليه بل ما ذكره ابن سينا كاف
والدليل الذي ذكره على إبطال التسلسل في العلل يوجب إبطال علل متسلسلة سواء قدرت مجتمعة أولا كما قد تبين من كلامه وهو لا يجوز عللا متسلسلة لا متعاقبة ولا غير متعاقبة وإنما يجوز حوادث متسلسة وتلك عنده شروط لحدوث الحوادث لا علل ولا أساب بمعنى العلل ولا يجوز عنده إسناد كل ممكن إلى ممكن قبله أصلا ولكن يجوز ان يكون وجوده مشروطا بوجود ممكن قبله وبين العلة والشرط فرق معروف
ومن هنا دخل الغلط على الرازي ف يهذا الاعتراض ولهذا كان سائر من تكلم في إبطال العلل المتسلسلة لم يحتج إلى ذكر هذا القسم أصلا ولا يقولون إن الممكن أو الحادث الذي يوجد قبل الممكن أو الحادث هو علة أيضا ولا هو مستند وجوده وإنما يقولون هو شرط فيه
وأيضا فإسناد كل ممكن إلى آخر قبله إما أن يراد به أنه يستند إلى أخر موجود قبله فيستمر الوجود إلى حين وجود الممكن المفعول وإما أن يراد به إلى آخر يكون موجودا قبله ويعدم قبله
فإن أريد الأول فمعلوم أنه بطل إسناده إلى ممكن موجود مع وجوده كان هذا متناولا لما يوجد مع ذلك قبل وجوده ولما لم يوجد إلا عند وجوده فلا حاجة إلى تخصيص ما وجد قبل وجوده بالذكر كما لا يحتاج إلى تخصيص ما يبقى بعد وجوده بالذكر إذ الدليل يتناول كل ما كان موجودا عند وجوده سواء وجد قبل ذلك أيضا أو بعد ذلك أيضا أو لم يكن موجودا حين وجوده
وأما إن أريد أستناده إلى الآخر يكون موجودا قبله ويعدم أيضا قبله وهذا هو الذي أراده الرازي لم يحتج أيضا إلى هذا لوجوه :
أحدهما : أنه إذا بطل إسناده إلى ممكن موجود حال وجوده فبطلان إسناده إلى ممكن يعدم حين وجوده أولى وأحرى فإذا قام الدليل على بطلان تسلسل العلل الممكنة مع كونها معا في الوجود فبطلان التسلسل مع تعاقبها أظهر وأجلى
الثاني : أن الدليل الدال على بطلان التسلسل في العلل هو دليل مطلق عام سواء قدرت متقارنة أو متعاقبة فإن جميع ما ذكر من الأدلة الدالة على أن مجموع الممكنات مفتقرة إلى أمر خارج عنها يتناول جميع الأنواع التي يقدرها سواء قدر أنها متسلسلة على سبيل الاقتران أو على سبيل التعاقب وسواء قدرت مع التعاقب بعدم الأول عند وجود الثاني أو يبقى بعد وجوده إلا مع وجوده لا سابقا ولا لاحقا وكذلك إذا قدرت مع الاقتران لا يكون بعضها قبل بعض ولا بعده و يوجد بعضها قبل بعض أو بعده فمهما قدر من التقديرات التي تخطر بالبال في تسلسل المؤثرات فما ذكر من الأدلة يبطل ذلك كله ويبين امتناعه فتبين أن ما ذكره ابن سينا كاف في ذلك لا يحتاج إلى الزيادة التي زادها الرازي و الآمدي
الثالث : أنه إذ كانت الممكنات محتاجة إلى خارج عنها ليس بممكن بل هو واجب الوجود بنفسه فذلك يمتنع عدمه ويجب وجوده فكان نفسه إثبات واجب الوجود كافيا في أنه يستمر الوجود حال وجود الممكن لا يحتاج إلى ذلك الواجب
الرابع : أن ما ذكروه من الممكن يفتقر إلى الواجب وإنما لا يكون افتقاره إليه مختصا ببعض الأزمنة أن الواجب
وقال الرازي أيضا لما شرح طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وأبطل التسلسل قد بقي هنا كلام آخر وهو إبطال الدور وهو أن يكون هذا يترجح بذاك وذاك يترجح بهذا
قال واعلم أن الدور باطل والمعتمد في إبطاله أن يقال العلة متقدمة على المعلول ولو كان كل منهما علة للآخر لكان كل منهما متقدما على الآخر فيكون كل منهما متقدما على المتقدم على نفسه فيلزم تقدم كل منهم على نفسه وهو محال
وأورد على هذا ما مضمونه أن التقدم أن كان غير كون أحدهما علة للآخر فلا نسلم الأولى وإن كان هو كون أحدهما علة للآخر كان اللازم هو الملزوم فيكون المعنى لو كان أحدهما علة للآخر لكان للآخر
ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل الشيخ إنما تركه لذلك
قلت : هذا هو الصواب فإن بطلان الدور معلوم بالضرورة ولأجل هذا لا يخطر لأكثر العقلاء حتى يحتاجوا إلى نفيه عن قلوبهم كما لا يخطر لهم أن الفاعل للموجودات يكون معدوما ولا يخطر لهم أن الشيء يحدث أو يكون لا بنفسه ولا بغيره بل ولا يخطر لهم أنه يمكن أن يكون مفعولات متعاقبة لا فاعل لها وهو تسلسل العلل فيكون معلول مفعول لمعلول مفعول والمعلول معلول لمفعول آخر لا إلى نهاية فأكثر الذهان الصحيحة لا يخطر لها إمكان هذا حتى تحتاج إلى نفيه وكذلك لا يخطر لها أنه يمكن وجود شيئين كل منهما فعل الآخر بل هم يعلمون أن الشيء لا يفعل نفسه فكيف يفعل فاعل نفسه ؟
وقول القائل إنه لو كان كل منهما فاعلا للآخر أو مؤثرا في الآخر أو علة في الآخر لكان كل منهما قبل الآخر كلام صحيح
وأما قول المعترض : إن أريد بالتقدم تقدم العلة على المعلول فاللازم هو الملزوم وأن أريد غيره فإنه ممنوع
فهذا عنه جوابان أحدهما ان يراد به التقدم المعقول في فطر الناس من تقدم الفاعل على المفعول وهو كونه قبله بالزمان أو تقدير الزمان وعلى هذا جمهور العقلاء
بل قد يقولون هذا معلوم بالضرورة وهو كون الفاعل سابقا متقدما على مفعوله وإنه يمتنع أن يكون متساويين في زمان الوجود
وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث ليس في الموجودات ما يقارن الخالق ويكون معه بالزمان ولا يعرف ف يالوجود مفعول معين قارن فاعله في زمانه أصلا وإنما يعرف هذا في الشرط والمشروط فإن الشرط قد يقارن المشروط فلا يوجد قبله وقد يوجد قبله لكن لا بد من وجوده معه كما أن الحياة إذا كانت شرطا في العلم والإرادة أمكن أن تكون متقارنة في صفات الله تعالى فإن حياته وعلمه معا لم يسبق أحدهما الآخر والعلم مشروط بالحياة وكذلك الذات مع الصفات اللازمة : لا يوجد أحدهما قبل الآخر بل هما متلازمان ولا يوجد أحدهما إلا مع الآخر
وقد يكون الشرط سابقا للمشروط كالأعراض التي لا توجد إلا بمحل وقد يكون المحل موجودا قبل وجود الأعراض وكما في أفعال الله الحادثة فإنها مشروطة بوجود ذاته وذاته متقدمة عليها
وما ذكره من ذكره من أهل الفلسفة والكلام في مسألة حدوث العالم وغيرها من أن التقدم ينقسم إلى تقدم بالذات والعلية وقد يسمى الأول تقدما بالعلية والثاني تقدما بالذات كتقدم العلة على المعلول وتقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين
وفرقوا بينهما بأنه في الأول يكون المتقدم فاعلا للمتأخر وفي الثاني يكون شرطا فيه ومثلوا الأول بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم فإنك تقول : تحركت يدي فتحرك الخاتم فيها فزمانهما واحد مع العلم بأن الأول متقدم على الثاني وينقسم إلى التقدم بالزمان وبالرتبة الحسية أو العقلية
وزاد طائفة منهم الشهرستاني والرازي ومت اتبعهما تقدما آخر يمطلق الوجود وجعلوا التقدم بعض أجزاء الزمان على بعض منه فيجيب عنه من يوافق جمهور العقلاء بأن التقدم المعقول إنما هو التقدم بالزمان أو تقدير الزمان على النزاع المعروف في هذا الموضع
وأما التقدم بالمكان والمرتبة فهو تابع لهذا لما كان المتقدم في المكان يتحرك قبل حركة المتأخر كتحرك الإمام قبل المأموم والأمير قبل المأمور
وأما التقدم بالعلية فإن عني به هذا وإلا فلا حقيقة له فلا تعقل علة تامة تكون هي بسائر أجزائها مقارنة لمعلولها أصلا
وقول القائل : تحركت يدي فتحرك الخاتم ليس هو من تقدم الفاعل على المفعول فإن حركة اليد ليست هي الفاعل لحركة الخاتم لكن هي شرط قيها فلا ترجد حركة الخاتم التابعة لحركة اليد إلا بشرط وجود حركة اليد التي هي متبوعة كما أن حركة الأصابع لا توجد إلا بحركة الكف
فإن قيل : الحركتان معا في الزمان فالفاعل لهذه هو الفاعل للأخرى وهو متقدم عليهما جميعا
وإن قيل : بل إحداهما عقب الآخرى في الزمان كأجزاء الزمان المتلاحقة بطل قول القائل : إنهما معا في الزمان
وكثيرا ما يشتبه على الناس الوجود مع الشيء بالوجود عقبه بل يطلقون لفظ المع على المعاقب له ويقولون : جاءا معا وإن كان مجيء أحدهما معاقبا للآخر إذا لم يكن بينهما فصل بل يطلقون ذلك مع قرب الآخر فالحادثات إذا كان زمانهما واحدا أو حدث أحدهما عقب حدوث الآخر بلا فصل كأجزاء الحركة والزمان لم يميز أكثر الناس بين هذا وهذا بالحس
وحينئذ فقول القائل : تحركت يدي فتحرك كمي
يقال له : لم لا يجوز ان يكون هذا مع هذا كاجزاء الحركة والزمان بعضها مع بعض والحركة تحدث شيئا فشيئا من الفاعل والقابل فمن حرك سلسلة أو حبلا معلق الطرفين فإنه إذا حرك أحد الطرفين تحرك شيئا فشيئا حتى تنتهي الحركة إلى الطرف الآخر وهي متعاقبة كتعاقب زمان تلك الحركة في أحدهما أسبق من الآخر مثل البدن إذا تحرك منتقلا فإن أجزاء البدن تتحرك في آن واحد لا يسبق بعهضا بعضا إلا ما تقدم من الحركة كما تتقدم إحدى الرجلين على الآخرى بخلاف خرزات الظهر المتصلة تتصل حركتها فإذا حركت يده تحركت جميع أجزائها وما فيها كالخاتم وما يتصل بها كالكم فيكون حكمها حكم الجسم المتصل إذا تحرك والحركة المنفصلة عن أخرى كحركة الرجل قبل الرجل يشهد فيها التقدم بالزمان لوجود المنفصل وأما مع الأتصال فقد يشتبه المتصل بالمقارن وحينئذ فأي حركة كانت من قبل المتصل فهي متصلة بما قبلها كاتصال أجزاء زمان الحركة فليس هناك اقتران في الزمان
وإذا قيل في حركة الكم : إن زمانها حركة اليد كما يقال مثل ذلك في سائر المتحركات معا بالزمان فهنا لا نسلم أن إحدى الحركتين فاعلة للآخرى بل غايتها أن تكون شرطا فيها والشرط يجوز أن يقارن المشروط بخلاف الفاعل فإنه لا بد أن يتقدم على الفعل المفعول المعين وإن قدر أن نوع الفعل لازم له كما ؟ إذا قدر قديم أزلي متحرك لم يزل متحركا فإنه سيتقدم على كل جزء من أجزاء الحركة لم يقارن وجود ذاته شيء من أجزاء الحركة وإن كان نوع الحركة لازما له فمن حوز وجود جسم قديم لم يزل متحركا لا يقول : إن شيئا معينا من الحركة قديم أزلي بل يقول : نوع الحركة أزلي وإن كان كل منها حادثا كائنا بعد ان لم يكن مسبوقا بالعدم
والمتفلسفة القائلون بقدم شيء من العالم لا دليل لهم على ذلك أصلا بل غاية ما عندهم إثبات قدم نوع الفعل وقدم نوع الفعل لا يستلزم قدم فعل معين ولا مفعول معين بل ذلك ممتنع

الرد على قولهم
وقول القائل : العلة متقدمة على المعلول وإن قارنته بالزمان وجعله الباري مع العالم بهذه المنزلة
الوجه الأول
يقال له إن أردت بالعلة ما هو شرط في وجود المعلول لا مبدعا له كان حقيقة قولك : إن واجب الوجود ليس هو مبدعا للمكنات ولا ربا لها بل وجوده شرط في وجودها وهذا حقيقة قول هؤلاء فالرب على أصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر والرب محتاج إلى العالم كما أن العالم محتاج إلى الرب وهم يبالغون في إثبات غناه عن غيره وعلى أصلهم فقره إلى غيره كفقر بعض المخلوقات
وغاية المتخذلق منهم كأرسطو أن يجعل الفلك واجب الوجود لا يقبل العدم مع كونه مفتقرا إلى المبدأ الأول لأجل التشبيه به ويجعل المبدأ الأول غنيا عما سواه لكن من التناقض أن يقول : إن واجب الوجود مفتقر إلى غيره وأيضا فالأزلي الذي يثبته لا حقيقة له كما قد بسط في موضع آخر
وإن أراد بالعلة ما هو مبدع للمعلول له فهذا لا يعقل مع كون زمانه المعلول لم يتقدم على المعلول تقدما حقيقا وهو التقدم المعقول
وإذا شبهوا وجود الفلك مع الرب بالصوت مع الحركة والضوء مع الشمس كان هذا ونحوه تشبيها باطلا لا يفيد إمكان صحة قولهم فضلا عن إثبات صحته فإن هذه الأمور وأمثالها إما أن يقال فيها : إن الثاني موجود متصل بالأول كأجزاء الزمان والحركة لا أنه معه في الزمان وإما أن يقال الثاني مشروط بالأول لا أن الأول مبدع للثاني فاعل له فلا يمكنهم ان يذكروا وجود فاعل لغيره مع أن زمانهما معا أصلا
ونحن ذكرنا هذا التقسيم لئلا يكون الجواب مبنيا على أمور دقيقة يختص بفهمها بعض الناس فإن الجواب كلما كان أظهر واتفاق العقلاء عليه أكثر كان أولى بالذكر من غيره إذ المقصود بيان الحق وإبطال الباطل وألا فيمكن بسط الكلام في هذا وأن يقال السبب لا بد أن يتقدم على مسببه بالزمان وأن الفاء المستعلمة في هذا هي فاء التعقيب
فقول القائل : تحركت يدي فتحرك كمي يدل على أن الثاني عقب الأول ويقال إن فاء التسبب تتضمن التعقيب من غير عكس فكل مسبب فإنه يكون بعد سببه فليس كل ما كان عقب غيره يكون مسببا عنه بل قد يكونان مسببين لسبب آخر وإن كان شرطا فيه
ثم الكلام في هذا ينجر إلى الفرق بين السبب وجزئه والشرط وليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود حاصل بدون ذلك وإنما المقصود هنا أن تقدم العلة الفاعلة على المعلول المفعول أمر معقول عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وإنما يجوز كون المفعول المعلول مقارنا لفاعله طائفة قليلة من الناس كابن سينا والرازي ونحوهما
وقد زعم الرازي في محصله وغيره أن المتكلمين والفلاسفة يجوزون وجود الممكن القديم عن موجب بالذات وهي العلة القديمة لكن المتكلمون يقولون إنه فاعل بالاختيار فلهذا يمنعون قدم شيء من الممكنات والمتفلسفة يقولون إنه غير فاعل بالاختيار فلهذا قالوا بقدم معلوله وهذا الذي قاله غلط على الطائفتين جميعا كما قد بسطناه في موضع آخر
فالمتكلمون الذين يقولون بامتناع مفعول قديم يقولون إن ذلك ممتنع على أي وجه قدر فاعله ويقولون : كون الرب فاعلا بغير الاختيار ممتنع أيضا وليس امتناع أحدهما مشروطا بالعلم بامتناع الآخر
والفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك لهم قولان في العلة الأولى : هل هي فاعلة بالاختيار أو موجبة بلا اختيار ؟
وقد ذكر القولين عنهم أبو البركات صاحب المعتبر وغيره وهو يختار أنه فاعل بالاختيار مع قوله بقدم الفعل وليست مسألة القدم ملازمة لمسألة الفاعل بالاختيار لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء كما ادعاه الرازي على الطائفتين وكذلك القول بإمكان معلول مفعول مقارن لفاعله هو قول بعض القائلين بقدم العالم لا قولهم كلهم ولا قول واحد من أتباع الرسل ولا ممن يقول بان اله خالق لما برأه محدث له وحينئذ فالقول بتقدم الفاعل على مفعوله تقدما مفعولا زمانيا وإما مقدرا تقدير الزمان قول جمهور العقلاء فهذا أحد الجوابين

الوجه الثاني
أن يقال : هب أنهم أرادوا بالتقدم تقدم العلة على المعلول من غير تقدم بالزمان ولا تقدير الزمان وكان اللازم هو الملزوم لكن الشيء الواحد إذا عبر عنه بعبارتين تدل كل منهما على وصف غير الوصف الآخر كان تعدد المعاني نافعا وإن كانت الذات واحدة ولهذا قد تعلم الذات بوصف ولا تعلم بوصف آخر فإذا كان ذات التقدم ذات العلة فليس المفهوم من نفس العلة هو المفهوم من نفس التقدم وإن كان متلازمين بل معنى العلة أنه اقتضاه وأوجبه ومعنى التقدم أنه قبله
وقد يفهم السبق والقبلية من لا يعلم أنه علة بعد فإذا قيل : لو كان علة قبله كان هذا صحيحا ثم العقل يجزم بأن الشيء لا يكون قبل نفسه فضلا عن أن يكون قبل ما هو قبل نفسه بأي وجه فسر معنى السبق والقبلية
وحينئذ فيستدل بهذا على ذلك من لم يفهم الامتناع من لفظ العلة وأما من فهم الامتناع من لفظ العلة كما عليه جمهور الفطر السليمة فلا يحتاج إلى هذا
ولكن كون الشيء دليلا على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته والشيئان المتلازمان كل منهما يصلح أن يكون دليلا على الآخر ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفي لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا وقد ظهر للإنسان في وقت ما يخفي عليه في وقت آخر فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك وبذاك على هذا إذا قدر إن هذا أظهر من ذاك تارة وذاك أظهر من هذا أخرى وإما بحسب شخصين وإما بحسب حالين
وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها وذاك صحيح وقد يقال : بل ينتفع بها وهذا أيضا صحيح
لكن من حصر العلم بطريق عينه هو مثل واحد معين ودليل معين أخطأ كثيرا كما أن من قال : إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا : لا يحصل العلم إلا به مطلقا أخطأوا والذين قالوا : لا حاجة إليه بحال بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه ف يحال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويتغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال فهو صلى الله عليه و سلم يخبر بالحق كما قال أهل الجنة لما دخلوها : { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق } الأعراف 43 وقد قال تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } البقرة 119 { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } الأحزاب 46 وقال تعالى { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } المؤمنون 69 - 7 1
وقال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } محمد 1 - 2 ومثل هذا كثير
فالرسول صلى الله عليه و سلم يخبر بالحق ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته كالأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة
قال تعالى { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } الإسراء 89 وقال تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } الكهف 54 إلى قوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا } الكهف 56 - 57
وقال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } الزمر : 27
وهو سبحانه يجيب عن المعارضات كما قال تعالى { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } الفرقان 23 وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة إليه النافعة للخلق وأما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن أن يبينه خطاب على وجه التفصيل
والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها وقد يعرض للفطرة يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلا كما في البدن إذا فسد أو مرض فإنه يجد الحلو مرا ويرى الواحد اثنين فهذا يعالج بما يزيل مرضه
والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض والنبي صلى اله عليه وسلم علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس وأنه معلوم الفساد بالضرورة فأمر عند وروده بالاستعاذة بالله منه والانتهاء عنه كما في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ]
وفي لفظ آخر [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق السماء ؟ من خلق الأرض ؟ فيقول اله وزاد فليقل : آمنت بالله ورسله ] وفي لفظ آخر يقول : [ من خلق كذا ؟ من خلق كذا حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ] هذا لفظ البخاري أو نحوه
وفي مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ قال الله عز و جل : إن أمتك لا يزالون يقولون : ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله سبحانه ]
وفي البخاري عن أنس قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لن يبرح الناس يتساءلون : هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله ] وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له : لم لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل أمر الاستعاذة ؟ فاجاب بأن مثل هذا مثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقة فتارة يضربه بعصا وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو أسهل
واعترض بعضهم على هذا الجواب بأن هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل وليس الأمر كذلك بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى فإن دفع الله للوسواس عن القلب أكمل من دفع الإنسان ذلك عن نفسه
فيقال : السؤال باطل وكل من جوابيه مبني على الباطل فهو باطل وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالاستعاذة وأن المبين لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان وأن طريقة البرهان تقطع الأسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم وأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بطريقة البرهان

الطريقة النبوية إيمانية وبرهانية
وهذا خطأ من وجوه بل النبي صلى الله عليه و سلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار والذي أمر به في دفع هذا الوسواس هو الاستعاذة فقط بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك

بيان ذلك من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري إذ المقدمات النظرية لو أثبت بمقدمات نظرية دائما لزم الدور القبلي أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقف على يغرها فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن والعلم الحاصل في قلبه حادث فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء فلا بد من علوم بديهية أوليه يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي إليها
ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية ولا بديهية كالشبهات التي أوردها الرازي في أول محصلة وقد تكلمنا في غير هذا الموضع
والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث ولهذا كان من أنكرم العلوم الحسية والضرورية لم يناظر بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه او عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم وإما لنحو ذلك فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال
وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية
وهذا يزول بالاستعاذة بالله فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات والمغوية ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الفاتحة 6 - 7
وفي الحديث الإلهي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى [ يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } النحل 97
وقال تعالى { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } فصلت 36
وفي الصحيحين عن سليمان بن صردج قال ك استب رجلان عند النبي صلى الله عليه و سلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فأمر الله تعالى العبد أن يستعيذ من الشيطان عند القراءة وعند الغضب ليصرف عنه شره عند وجود سبب الخير وهو القراءة ليصرف عنه ما يمنع الخير وعند وجود سبب الشر ليمنع ذلك السبب الذي يحدثه عند ذلك ]
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامة وإن شاء أن يزيغه أزاغه
وكانت يمين النبي صلى الله عليه و سلم : لا ومقلب القلوب
وكان كثيرا ما يقول : والذي نفس محمد بيده
وفي الحديث : [ للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمع غليانا ]
وشواهد هذا الأصل كثيرة مع ما يعرفه كل أحد من حال نفسه من كثرة تقلب قلبه من الخواطر التي هي من جنس الاعتقادات ومن جنس الإرادات وفيها المحمود والمذموم والله هو القادر على صرف ذلك عنه فالاستعاذة بالله طريق مفضية إلى المقصود الذي لا يحصل بالنظر والاستدلال

الوجه الثاني
والوجه الثاني : ان يقال النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بالاستعاذة وحدها بل أمر العبد أن ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة إعلاما منه بان هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه
ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأول كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى
وقد قال الله تعالى { وأن إلى ربك المنتهى } النجن 42 وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في الموطأ حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وؤاء الله مرمى
وفي رواية : ليس وراء الله منتهى
فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات ونهاية النهايات وجب وقوفه فإذا طلب بعد ذلك شيئا آخر وجب أن ينتهي فأمر النبي صلى الله عليه و سلم العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المارد أن ينتهي إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق فغنه لو كان له خالق لكان مخلوقا ولم يكن خالقا لكل مخلوق بل كان يكون من جملة الملخوقات والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق وهذا معلوم بالضرورة والفطرة وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة
وإذا قلنا : يمتنع وجود المحدثات كلها بدون محدث كان هذا متضمنا لذاك فإن كل مخلوق محدث فإذا كان كل محدث لا بد له من محدث فكل مخلوق لا بد له من خالق أولى وكذلك إذا قلنا : كل ممكن لا بد له من واجب
فلما كان بطلان هذا السؤال معلوما بالفطرة والضرورة أنر النبي صلى الله عليه و سلم أن ينتهي عنه كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسولة الفاسدة التي يعلم فسادها كما لو قيل : متى حدث الله ؟ او متى يموت ؟ ونحو ذلك
وهذا مما يبين أن سؤال السائل : أين كان بنا ؟ في حديث أبي رزين لم يكن هذا السؤال فاسدا عنده صلى الله عليه و سلم كسؤال السائل : من خلق الله ؟ فإنه لم ينه السائل عن ذلك ولا أمره بالاستعاذة بل النبي صلى الله عليه و سلم سأل بذلك لغير واحد فقال له : أين الله ؟ وهو منزه أن يسأل سؤالا فاسدا وسمع الجواب عن ذلك وهو منزه أن يقر على جواب فاسد ولما سئل عن ذلك أجاب فكان سائلا به تارة ومجيبا عنه أخرى
ولو كان المقصود مجرد التمييز بين الرب والصنم مع علم الرسول أن السؤال والجواب فاسدان لكان ف يالأسولة الصحيحة ما يغني غير الرسول عن الأسولة الفاسدة فكيف يكون الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه كان يمكن أن يقول : من ربك ؟ من تعبدين ؟ كما قال لحصين الخزاي : يا حصين كم تعبد اليوم ؟ قال أعبد سبعة ألهة ستة في الأرض وواحدا في السماء قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال الذي في السماء فقال أسلم حتى اعلمك كلمة ينفعك الله بها فلما أسلم سأله عن الدعوة فقال قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي رواه أحمد في المسند وغير أحمد

الوجه الثالث
أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر العبد أن يقول آمنت بالله وفي رواية ورسوله فهذا من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله : آمنت بالله يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد
ولهذا كان الشيطان يخنس عند ذكر الله ويوسوس عند الغفلة عن ذكر الله ولهذا سمي الوسواس الخناس فإنه جاثم على فؤاد ابن آدم فإن ذكر الله خنس والخنوس الاختفاء بنخفاض ن ولهذا سميت الكواكب الخنس
وقال أبو هريرة : لقيت النبي صلى الله عليه و سلم في بعض طرق المدينة وانا جنب فانخنست منه
ويقال : انخنست من فلان وهو اختفاء بنوع من الانخفاض والذل له فالمختفى من عدو يقالته لا يقال : انخنس منه وإنما ينخنس الإنسان ممن يهابه ويعظمه فيذل له وينخفض منه في اختفائه فهكذاالشيطان في حال ذكر يذل ويخضع ويختفي وإذا غفل العبد عن ذكر الله وسوس
فأمر النبي صلى الله عليه و سلم العبد أن يقول : آمنت بالله أو آمنت بالله ورسوله فإن هذا القول إيمان وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية ويشبه هذا الوسواس الذي يعرض لكثير من الناس في العبادات حتى يشككه هل كبر أو لم يكبر ؟ وهل قرا الفاتحة أم لا ؟ وهو نوى العبادة أم لم ينوها ؟ وهل غسل عضوه في الطهارة او لم يغسله فيشككه في علومه الحسية الضرورية
وكونه غسل عضوا أمر يشهده ببصره وكونه تكلم بالتكبير أو الفاتحة أمر يعلمه بقلبه ويسمعه بأذنه وكذلك كونه يقصد الصلاة مثل كونه يقصد الأكل والشرب والركوب والمشي وعلمه بذلك كله علم ضروري يقيني اولى لا يتوقف على النظر والاستدلال ولا يتوقف على البرهان بل هو مقدمات البرهان وأصوله التي يبنى عليها البرهان أعني البرهان النظري المؤلف من المقدمات
وهذا الوسواس يزل بالاستعاذة وانتهاء العبد وأن يقول إذا قال : لم تغسل وجهك ؟ بلى قد غسلت وجهي وإذا خطر له أنه لم ينو ولم يكبر يقول بقلبه : بلى قد نويت وكبرت فيثبت على الحق ويدفع ما يعارضه من الوسواس فيرى الشيطان قوته وثباته على الحق فيندفع عنه وإلا فمتى رآه قابلا للشكوك والشبهات مستجيبا إلى الوسواس والخطرات أورد عليه من ذلك ما يعجز عن دفعه وصار قلبه موردا لما توحيه شياطين الإنس والجن من زخرف القول ونتقل من ذلك إلى غيره إلى أن يسوقه الشيطان إلى الهلكة
{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } البقرة 257 { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } الأعراف 201 - 202

فصل
ومما ينبغي أن يعرف في هذا المقام وإن كنا قد نبهنا عليه في مواضع أن كثيرا من العلوم تكون ضرورية فطرية فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ورقع فيها شك إما لما في ذلك من تطويل المقدمات وإما لما في ذلك من خفائها وإما لما في ذلك من كلا الأمرين
والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك إما لعجزه عن تصوره وإما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الإنسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وإن أمكن نظم الدليل وفهمه ففد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما

كلام لابن تيمية في مبحث التصورات
وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات فكثير من الأمور المعروفة إذا حدث بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد

حقيقة الحدود
ولكن قد يكون في الأدلة والحدود من المنفعة ما قد نبه عليه غير مرة ولهذا تنوعت طرق الناس في الحدود والأدلة وتجد كثيرا من الناس يقدح في حدود غيره وأدلته ثم يذكر هو حدودا وأدلة يرد عليها إيرادات من جنس ما يرد على تلك أو من جنس آخر وذلك لأن المقصود بالحدود : إن كان التمييز بين المحدود وبين غيره كانت الحدود الجامعة المانعة على أي صورة كانت مشتركة في حصول التمييز بها وإن لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز وإن كان المطلوب بها تعريف المحدود فهذا لا يحصل بها مطلقا ولا يمتنع بها مطلقا بل يحصل لبعض الناس وفي بعض الأوقات دون بعض كما يحصل بالأسماء فإن الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال فلا يمكن أن يقال الاسم لا يعرف المسمى بحال ولا يمكن أن يقال يعرف به كل أحد كذلك الحد
وإن قيل إن المطلوب بالحد أن مجرد الحد يوجب أن المستمع له يتصور حقيقة المحدود التي لم يتصورها إلا بلفظ الحاد وأنه يتصورها بمجرد قول الحاد كما يظنه من يظنه من الناس بعض أهل المنطق وغيرهم فهذا خطأ كخطأ من يظن أن الأسماء توجب معرفة المسمى لمن تلك الأسماء بمجرد ذلك اللفظ
وقد بسط الكلام على هذا في موضعه وبينا ما لعيه جمهور النظار من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمشركين من أن الحدود مقصودها : التمييز بين المحدود وغيره وأن ذلك يحصل بالوصف الملازم للمحدود طردا وعكسا الذي يلزم من ثبوته ثبوت المحدود ومن انتقائه انتقاؤه كما هو طريقة نظار المسلمين من جميع الطوائف مثل أبي علي هاشم وأمثالهما ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر و أبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأمثالهم
وأما طريقة أهل المنطق ودعواهم : أن الحد التام مقصوده التعريف بالحقيقة وأن الحقيقة مؤلفة من الصفات الذاتية الداخلة في المحدود وهي : الجنس والفصل وتقسيمهم الصفات اللازمة للموصوف إلى : داخل في الحقيقة وخارج عنها عرضي وجعل العرضي الخارج عنها اللازم على نوعين : لازم للماهية ولازم لوجود الماهية وبناءهم ذلك على أن ماهيات الأشياء التي هي حقائقها ثابتة في الخارج وهي مغايرة للموجودات المعينة الثابتة في الخارج وأن الصفات الذاتية تكون متقدمة على الموصوف في الذهن والخارج وتكون أجزاء سابقة لحقيقة الموصوف في الوجودين : الذهني والخارجي
فهذا ونحوه خطأ عند جماهير العقلاء من نظار الإسلام وغيرهم بل الذي عليه نظار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى : لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته وإلى عارضة له يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته وهذه اللازمة منها : ما هو لازم للشخص دون نوعه وجنسه ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه
وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم
بل طائفة من نظار الإسلام قسموا اللازم إلى : ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية : ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه وعنوا بالمعوي : ما يمكن تصور الذات بدون تصوره وإن كان لازما للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينا يقوم بالذات
فالأول عندهم مثل كوب قائما بنفسه وموجودا بل وكذلك كونه قديما عند أكثرهم فإن ابن كلاب يقول : القديم يقدم والأشعري له قولان أشهرهما عند أصحابه : أنه قديم بغير قدم لكنه باق ببقاء وقد وافقه على ذلك ابن أبي موسى وغيره وأما القاضي أبو بكر فإنه يقول : باق بغير بقاء ووافقه على ذلك أبو يعلى وأبو المعالي وغيرهما
والثاني عندهم : مثل كونه حيا وعليما وقديرا ونحو ذلك
وتقسيم هؤلاء اللازمة إلى ذاتي ومعنوي كلام ليس هذا موضع بسطه فإنهم لم يعنوا بالذاتي ما يلزم الذات إذ الجميع لازم للذات ولا عنوا بالذاتي : المقوم للذات كاصطلاح المنطقيين : فإن هؤلاء ليس عندهم في الذوات ما هو مركب من الصفات : كالجنس والفصل ولا يقسمون الصفات إلى مقوم داخل في الماهية هو جزء منها وإلى عرضي خارج عنها ليس مقوما بل هذا التقسيم عندهم وعند جمهور العقلاء خطأ كما هو خطأ في نفس الأمر إذ التفريق بين الذاتي المقوم واللازم الخارج تفريق باطل لا يعود إلا إلى مجرد تحكم يتضمن التفريق بين المتامثلين كما قد بسط في موضعه
ولهذا يعترف حذاق أئمة أهل المنطق كابن سينا وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما بانه لا يمكن ذكر فرق مطرد بين هذا وهذا وذكر ابن سينا ثلاثة فروق مع اعترافه بانه ليس واحد منها صحيحا واعترض أبو البركات على ما ذكره ابن سينا بما يبين فساد الفرق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم
وأبو البركات لما كان معتبرا لما ذكره أئمة المشائين لا يقلدهم ولا يتعصب لهم كما يفعله غيره مثل ابن سينا وأمثاله نبه على أن ما ذكره أرسطو وأصحابه في هذا الموضع مما لم تعرف صحته ولا منفعته
وغير أبي البركات بين فساده وتناقضه وصنف مصنفات في الرد على أهل المنطق كما صنف أبو هاشم و ابن النوبختي والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم
وهؤلاء الكلابية الذين يفرقون بين الصفات الذاتية والمعنوية هم أصح نظرا من هؤلاء المنطقيين وهم ينكرون ما ذكر المنطقيون من الفرق فلا يعود تفريقهم إلى تفريق المنطقيين بل تفريقهم يعود إلى ما ذكروه هم من أن الصفات الذاتية عندهم مالا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها والصفات المعنوية ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها كالحياة والعلم والقدرة فإنه يمكن تصور الذات مع نفي هذه الصفات ولا يمكن تصور الذات مع نفي كونها قائمة بالنفس وموجودة وكذلك لا يمكن ذلك مع نفي كونها قديمة عند أكثرهم
وابن كلاب والأشعري في أحد قوليه جعل القدم كالعلم والقدرة والبقاء فيه نزاع بين الأشعري ومن أتبعه كأبي علي بن أبي موسى وأمثاله وبين القاضي أبي بكر ومن أتبعه كالقاضي أبي يعلي وأمثاله
وهؤلاء أيضا تفريقهم باطل فإن قولهم : لا يمكن تصور الذات مع نفي تلك الصفة
يقال لهم : لفظ التصور مجمل يراد به تصور ما وهو الشعور بالمتصور من طريق الوجود ويراد به التصور التام وما من متصور إلا وفوقه تصور أتم منه
ومن هذا دخل الداخل على هؤلاء المنطقيين الغالطين وعلى هؤلاء فإن عنوا به التصور التام للذات الثابتة في الخارج التي لها صفات لازمة لها فهذه لا يمكن تصورها كما هي عليه مع نفي الصفات فإذا عني بالماهية ما يتصوره المتصور في ذهنه فهذا يزيد وينقص بحسب تصور الأذهان
وإن عنوا به ما في الخارج فلا يوجد بدون جميع لوازمه وإن عني بذلك أنه لا يمكن تصورها بوجه من الوجوده مع نفي هذه الصفات فهذا يرد عليهم فيما جعلوه ذاتيا مثل كونه قائما بنفسه وكونه قديما ونحو ذلك
فإنه قد يتصور الذات تصورا ما من لا يخطر بقلبه هذه المعاني بل من ينفي هذه المعاني أيضا وإن كان ضالا في نفيها كما أن من نفي الحياة والعلم والقدرة كان ضالا في نفيها
وإذا قيل : لا يمكن وجود الفعل إلا من ذات قائمة بنفسها قديمة
قيل : ولا يمكن إلا من ذات حية عالمية قادرة
فإذا قيل : هذه يمكن بعض العقلاء أن يتصور كونها فاعلا مع انتفاء هذه الصفات قيل : هذا تصور باطل والتصورات الباطلة لا ضابط لها فقد يمكن ضال آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس فإن الفرق إذا عاد إلى اعتقاد المعتقدين لا إلى حقائق موجودة في الخارج كان فرقا ذهنيا اعتباريا لا فرقا حقيقا من جنس فرق أهل المنطق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم فإنه يعود إلى ذلك حيث جعلوا الذاتي مالا تتصور الماهية بدون تصوره والعرضي ما يمكن تصورها بدون تصوره وليس هذا بفرق في نفس الأمر وإنما يعود إلى ما تقدره الأذهان فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه فإن أريد بالتصور مطلق الشعور بالشيء فيمكن الشعور به بدون الصفات التي جعلوها ذاتيه فإنه قد يشعر بالإنسان من لا يخطر بباله انه حيوان ناطق أو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق
وإن أرادوا التصور التام فقول القائل : حيوان ناطق لا يوجب التصور التام للموصوف بل ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه فغن صفات الموصوف ليست منحصرة فيما ذكروه
وإن قالوا : نريد به التصور التام للصفات الذاتية عادت المطالبة بالفرق فيبقى الكلام دورا
وهذا كما انهم يقولون : ماهية الشيء هي المركبة من الصفات الذاتية ثم يقولون : الصفات الذاتية هي التي يتوقف تحقق الماهية عليها أو يقف تصور الماهية عليها فلا تعقل الصفة الذاتية حتى تعقل الماهية ولا تعقل الماهية حتى تعقل الصفة الذاتية لها فيبقى الكلام دورا
كما يجعلون الصفات الذاتية أجزاء للماهية مقومة لها سابقة لها في الحقيقة في الوجودين الذهني والخارجي مع العلم بان الذات أحق بأن تكون سابقة من الصفات إن قدر أن هناك سبقا وإلا فهما متلازمان
وإذا قيل هي أجزاء
قيل إن كانت جواهر كان الوهر الواحد جواهر كثيرة وإن كانت اعراضا فهي صفات
فإذا قيل الإنسان حيوان ناطق
قيل : إن كانت الحيوانية والناطقية أعراضا فهي صفات الإنسان وإن كانت جواهر هو حساس وجوهر هو نام ومعلوم فساد هذا
وحقيقة الأمر أنها صفات لما يتصور في الإذهان وصفات لما هو موجود في الأعيان وأن الذات هي أحق بتقويم الصفات من الصفات بتقويم الذات
وأيضا فإن أرادوا تصور الصفات مفصلة فمعلوم أن قولهم حيوان ناطق لا يوجب تصور سائر الذاتيات مفصلا فإن كونه جسما ناميا وحساسا ومتحركا بالإرادة لا يدل عليه اسم الحيوان دلالة مفصلة بل مجملة وإن أرادوا بالتصور التصور سواء كان مجملا أو مفصلا فمعلوم أن لفظ الإنسان يدل على الحيوان والناطق كما يدل لفظ الحيوان على الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة فيكون اسم الإنسان كافيا في تعريف صفات الإنسان مثل ما أن لفظ الحيوان كاف في تعريف صفات الحيوان
فإذا كانوا في تعريف الإنسان لا يأتون إلا بلفظ يدل على صفاته الذاتية دلالة مجملة وهذا القدر حاصل بلفظ الإنسان كان تعريفهم من جنس التعريف بالأسماء وكان ما جعلوه حدا من جنس ما جعلوه اسما
فإن كان أحدهما دالا على الذات فكذلك الآخر وإلا فلا فلا يجوز جعل أحدهما مصورا للحقيقة دون الآخر غاية ما يقال إن في هذا الكلام من تفصيل بعض الصفات ما ليس في الآخر
فإن قول القائل : حيوان ناطق فيه من الدلالة على معنى النطق باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الإنسان
فيقال : وكذلك في لفظ النامي من الدلالة على النمو باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الحيوان وأنتم لا توجبون ذلك
وكذلك لفظ الحساس والمتحرك بالإرادة فعلم أن كلامهم لا يرجع إلى حقيقة موجوده معقولة وإنما يرجع إلى مجرد وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية وهذا مبسوط في موضعه
وكذلك الذين فرقوا بين الصفات الذاتية وبين المعنوية اللازمة للذات من الكلابية وأتباعهم يعود تفريقهم إلى وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية لا إلى حقيقة ثابتة في الخارج ولهذا يضطربون في الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية
فهذا يقول إنه قديم بقدم باق ببقاء وهذا ينازع في هذا أو في هذا
والنافي يقول : هو عالم بذاته قادر بذاته كما يقول هؤلاء إنه باق بذاته قديم بذاته
وإذا أراد بذلك أن علمه من لوازم ذاته لا يفتقر إلى شيء آخر فقد أصاب وإن أراد أنه يمكن كونه حيا عالما قادرا بدون حياة وعلم وقدرة فقد أخطأ وذاته حقيقتها هي الذات المتسلزمة لهذه المعاني فتقدير وجودها بدون هذه المعاني تقدير باطل لا حقيقة له ووجود ذات منفكه عن جميع الصفات إنما يمكن تقديره في الأذهان لا في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في موضعها
والمقصود هنا أن التعريف بالحدود والتعريف بالأدلة قد يتضمن إيضاح الشيء بما هو اخفى منه وقد يكون الخفاء والظهور من الأمور النسبية الإضافية فقد يتضح لبعض الناس أو للإنسان في بعض الأحوال ما لا يتضح لغيره أو له في وقت آخر فينتفع حينئذ بشيء من الحدو والأدلة لا ينتفع بها في وقت آخر
وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء وذكره أشد وأكثر كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر وكانت الأسماء المعرفة له أكثر وكانت على معانيه أدل
فالمخلوق الذي يتصوره الناس ويعبرون عنه اكثر من غيره تجد له من الأسماء والصفات عندهم ما ليس لغيره كالأسد والداهية والمخمر والسيف ونحو ذلك فلكل من هذه المسميات في اللغة من الأسماء أسماء كثيرة وهذا الاسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر كما يقولون في السيف : صارم ومهند وأبيض وبتار ومن ذلك أسماء الرسول صلى الله عليه و سلم وأسماء القرآن قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ] وقال أنا الضحوك القتال انا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ومن أسمائه المزمل والمدثر والرسول النبي
ومن أسماء القرآن : الفرقان والتنزيل والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان وغير ذلك
ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه وله سبحانه في كل لغة أسماء واه في اللغة العربية أسماء كثيرة
والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها دخل الجنة ] معناه أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون أسما فإنه في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه [ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي ]
وثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده 5 اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت صفاته فأخبر أنه صلى الله عليه و سلم لا يحصى ثناء عليه ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18