كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
ثم يقال له : إن كان هذا حقا فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلا على ذلك بل جعل ذلك مسلما وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه لم يحدث نفسه
ثم قال : ( فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال لا يعلم به أن له ناقلا مدبرا إلا بأدلة تذكر فهو لم يذكر تلك الأدلة بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل
وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه فإنه لم يقم دليلا : لا على حدوث الجسم ولا على أن المحدث لا بد له من محدث
ثم يقال : من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية أو طائف من نظار المسلمين
وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بفاعل وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري إنما قاله شرذمة لا يعتد بقولها وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث مع أنه لا يعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم طلب على هذا دليلا ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا ولا في كتاب الله وسنة ورسوله ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه : من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر فلا بد به من مرجح

فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو أبده للعقل وأرسخ في القلب وأظهر عند الخاصة والعامة مما قرره به وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض والتخصيص لا بد له من مخصص
فالأول : إن لم يكن أقوى منه وأجلى فليس هو دونه وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده
لا سيما على أصل القاضي وموافقيه من المعتزلة والأشعرية فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء
وإذا كانت النسبة مستوية فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر تخصيص بلا مخصص
وإذا قالوا : الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا وقال : من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص
وإذا قالت المعتزلة : القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد
فمن كانت هذه الأقوال أقواله وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث : أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان فلا بد للتخصيص من مخصص وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع ويجعل ذلك بديهيا ضروريا
كيف يمكنه أن يقول : إن وجود الحوادث بلا محدث والفعل بلا فاعل والصنعة بلا صانع ليس امتناعه بديهيا ضروريا ؟
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا تناقضت أقواله وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن فإنها في غاية السداد والاستقامة
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين : أحداهما : أن الإنسان محدث والثانية : أن المحدث لا بد له من محدث
فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم
وأما المقدمة الأولى : وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة فإن حدوث الحوادث مشهود
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى : إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها أو صورتها لا مادتها أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام
وأما من أنكر ذلك وهم جمهور العقلاء فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة و أبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص وهذا عند هؤلاء ضروري كافتقار الممكن إلى الواجب
ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا وهي أقرب مما بعده
فجاء من بعدهم ك الرازي ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا ثم هو و الآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة واستصعب ذلك على الآمدي حتى قال : إنه عاجز عن تمشيها وحل مايرد عليها كما ذكرناه
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة ويعدم أخرة فهو سهل متيسر معلوم ببدائه العقول
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها حتى آل الأمر بهم إلى الجهل العظيم وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا وأكثرها وأقواها أدلة وأولاها بالعلم من كل معلوم وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة دائم الحصول في القلوب حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأمثاله وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض أو قيل : إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية القريبة الصحيحة كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية

تابع كلام الأشعري في اللمع
قال أبو الحسن : ( فإن قال قائل : ما أنكرتم من أن تكون النطفة قديمة لم تزل ؟ قيل له : لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره وأن يجري عليه سمات الحدث لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة لم ينفك عن سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام )

كلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام وذلك أن الذي عناه بقوله : لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة وعن الحركة إلى السكون وكاستصلابها بعد لينها وافتراقها بعد اجتماعها وما يلحقها من تعاقب الأكوان وغير ذلك من التغيرات لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلا وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعا مثلا أو مفتقرا أومتحركا أو ساكنا أو على بعض هذه الصفات لم يجز خروجه عنه لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله : لنفسه أو لعلة أولا لنفسه ولا لعلة أن لبطلان نفسه أو لبطلان معنى فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت والخبر عن تعلقه بمخبر وغير ذلك من وجوه الفساد ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكنا أولى من تحصيله له متحركا ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجودا به لأن القديم لا يجوز عدمه ولأنه ليس بأن يكون متحركا لعدم سكونه أولى من غيره ممن يصح أن يكون متحركا
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات وإلىما هو أبعد منها
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون أولى من غيره من الأجسام لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضا فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام ؟ وفي فساد ذلك : دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه ولا لعدم معنى قديم
فلم يبق إلا وجهان : أحدهما : أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم فإن كان لم يزل ساكنا لنفسه استحال تحركه بعد سكونه لوجود نفسه في كلا الحالين ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه مع وجود نفسه التي بها كان كذلك
وإن كان لم يزل ساكنا لأجل معنى قديم استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم وإلا وجب تحركه وسكونه معا فإذا استحال ذلك واستحال عدم سكونه إذا كان قديما واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير ولا اعتمال ولا تأثير فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة به يعلم حدوث سائر الأجسام وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة
وليس الأمر كذلك بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك وحدوث أوائل ذلك كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة واتفاق العقلاء وهذا بخلاف الفلك فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسما : كالهاشمية والكرامية وغيرهم أو من لا يطلق الاسم ولكن يقولون له : ما أثبته نسميه نحن جسما أو يجب أن يكون جسما كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة
فإن قال بهذا فالمفرق يقول : حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم وكذلك حدوث ما أشبهها
وأما حدوث كل ماسميته جسما فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل وهو ضعيف على ما سنذكره
فإن قال : أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة التي منها تركبت النطفة وتألفت أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة
قيل له : الجواب من طريقتين :
أحدهما : أن يقال : هذا لا حاجة لك به
الثاني : أن يقال : ما ذكرته ليس بصحيح
فأما الطريق الأول ففيه وجوه
أحدها : أن العلم بحدوث ما يحدث والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقرا إلى أن يعلم : هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة ؟ وهل ذلك قديم أو حادث ؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثا كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثا
وإن قال : فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام
قيل له : فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة بل كان هذا تطويلا إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة به يثبت حدوث الإنسان ابتداء
وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام كان ذكر هذا ابتداء أولى من التطويل لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل
وأيضا فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا : إما عدم العلم أو حصول ضده من اعتقاد الباطل فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والإيمان موجبا لضده من الجهل والكفر
والوجه الثاني : أن يقال : فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك مبينا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان وهم لم يبنوا ذلك
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه :
فقالت طائفة : إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية
وقالت طائفة : بل فيها أجزاء لا نهاية لها وهوالمذكور عن النظام وعليه انبنى القول بطفرة النظام ولهذا يقال : ثلاثة لا يعلم لها حقيقة : طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري
وقالت طائفة : بل هي مركبة من المادة والصورة وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولا تتجزأ إلى غير غاية بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام بل كل ما وجد يقبل الانقسام لكنه يستحيل إلى جسم آخر في حال تميز جانب منه عن جانب فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع
وأذكياء المتأخرين : مثل أبي الحسين البصري و أبي المعالي الجويني و أبي عبد الله الرازي : كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك أولا
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء
الوجه الثالث : أن يقال : حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار وما يخرجه من الأرض من الزروع وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان
فإذا قيل له : هذا لم يحدث ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وجعل لها صفة غير تلك الصفة
قال : أما ما تغيرت صفاته كتغير الأبيض إلى السواد والساكن إلى الحركة والحامض إلى الحلاوة والمفرق إلى الاجتماع وتغير الجسم من شكل إلى شكل كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله وما يشبهه يشهد فيه أن العين باقية وإنما تغيرت صفاتها التي هي : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والألوان والطعوم والأشكال بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة والجنين الذي يخرج من بطن أمه والفروج الذي يخرج من البيضة فإن عاقلا لا يقول : إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقيا ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا
ومن قال : إن هذا باق في هذا كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه وحلا بعض حموضته وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق - فهو لا يتصور ما يقول أو هو معاند مسفسط فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض وهذا أصل كل ضلال وهو الجهل أو العناد والعناد وصف المغضوب عليهم والجهل وصف الضالين
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت مثل أن تصير رمادا أو ملحا ونحو ذلك ومثل كلامهم في باب الأيمان : فيما إذا حلف على فعل في جسم معين فتغير ذلك الجسم المعين فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخا أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسرا ونحوذلك
وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه : مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجا أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا
قالوا : فهنا لا يحنث لأنه زال اسمه وزالت أجزاؤه
وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم : كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا - فإنه يحنث عند جمهورهم : كأبي حنيفة و مالك و أحمد في المشهور من مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمرا
وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل فمنهم من قال : يحنث وهو مذهب مالك وهو المشهور من مذهب أحمد ومنهم من قال : لا يحنث كما هو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قالوا : لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما في مسألة البيضة والفروج
فقال لهم الأولون : عين المحلوف عليه باقية فصار كمسألة الحمل بخلاف البيضة إذا صارت فرخا فإن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم يبق عينها
مع أن في هذه المسائل كلاما ليس هذا موضعه إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر : إذا تغيرت صفاته مثل أن يجمد الدم والخمر أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم
وأما إذا استحالت العين : مثل أن يصير ذلك ملحا أو رمادا أو نحو ذلك ففيه نزاع مشهور والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلا أنها تطهر
وأما الطريق الثاني : وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول : قوله : ( إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها ) كلام مجمل قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له سواء كان نوعها لازما له أولم يكن لازما لذاته مثل الفعل والعمل سواء سمي حركة أو لم يسم : كالإتيان والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس : هل يقوم بالقديم أم لا ؟
فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف والأئمة من السلف والخلف مع كثير من طوائف الكلام وأكثر الفلاسفة : يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال فيقول هؤلاء : قول القائل : أن القديم الحاصل على صفة لا يجوز خروجه عنها إن إراد به مواقع الإجماع : مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى فهذا لا نزاع فيه
وإن أراد به أعيان الحوادث فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة لم يجز خروجه عنها ؟
وأما استدلال المستدل بقوله : لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
فيقال لك : ذلك الأمر الذي قام هو به هو معنى من المعاني ؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمرا آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين : بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك : قام به ذلك لمعنى
قوله : وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى والقديم يستحيل عدمه
يقال له : قول القائل : القديم يستحيل عدمه لفظ مجمل أتريد به : أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه ؟ فإن أراد شيئا من هذه المعاني لم يكن له فيه حجة وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة فهذا محل نزاع ولا دليل على امتناع عدمه ولم يعدم القديم هنا بل النوع القديم لم يزل ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له كالأفعال المتعاقبة شيئا بعد شيء
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده لم يكن قد عدم النوع بل كان الكلام في كونه أزليا كالكلام في كونه أبديا وكما أنه لا يزال فلا يعدم النوع وإن عدم ما يعدم من أعيانه فكذلك القول في كونه لم يزل
وأيضا فيقال له : القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلا فكونه فعل أمر موجود أو معدوم ؟
فإن قال : إنه معدوم فهذا مكابرة للحس والعقل فإن الفعل إذا كان أمرا عدميا فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل لأن العدم المحض لا يكون فعلا
وإذا لم يكن فرق بين الحالين وهو في حال ألا يفعل لا فعل فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين فيجب ألا يفعل مع كونه فعل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قال : كونه فعل أمر موجود فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل وإن تجدد شيء انتقض قوله : إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها
فإن قيل : إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته وذاك لم يزل
قيل : هب أنك عنيت هذا لكن دليلك يتناول هذا وغيره ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه لأن ما كان قديما كان لمعنى والقديم لا يزول
فالأمر المتجدد المتحول الحادث سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا وسواء كان قائما به أو بغيره بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية فإن كان هذا حقا وجب ألا يحدث شيء من الحوادث فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب وإن قال : لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل فانتقضت حجته
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته فيقال له : القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا فإنه إذا كان غير فاعل فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
وإن قال : فعله بعد أن لم يكن فاعلا ليس إلا مجرد وجود المفعولات والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما وهي عدمية
فيقال له : فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية
فإن قال : هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به وهذا لا يجوز
قيل له : هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل : القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة
وإذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل لم يكن هناك علم بالصانع بل صار حقيقة الكلام : الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثا
فيكون منتهى الكلام : مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها بنفسها مع ترك الدليل الواضح البين الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام في مثل هذا المقام ويقولون : إنا نعلم بالاضطرار : أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق ويقولون : إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل وأيضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل

عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( وأما قول أبي الحسن : إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث وما لم يسبق المحدثات كان محدثا مثلها - ففيه وجهان من الكلام :
أحدهما : أن نقول : إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون خروجا من صفة قدم إلى صفة قدم أو من صفة حدث إلى صفة حدث أو من صفة قدم إلى صفة حدث أو من صفة حدث إلى صفة قدم
والأول باطل لوجهين :
أحدهما : أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه وذلك لا يكون قديما الثاني : أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم والقديم لا يجوز عدمه )
قال : ( ويستحيل أن يكون التغيير خروجا من حال حدث لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين :
إما بحدوث تغيير القديم أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفا بعد أن لم يكن مستحقا له وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثا مثلها )
قال : ( ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه )
وقال : ( وأما الوجه الآخر : فهو أن نقول : إنما أراد بقوله : إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها : وجب له من الحدث ما وجب لها إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها إذ قد فسد أن يكون موجودا قبلها
فإن كان وجد مع وجودها وجب له من الحدث ما وجب لها وإن كان وجد بعد وجودها كان أولى بالحدوث لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثا )
قال القاضي أبو بكر : ( واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع :
أولها : الدلالة على إثبات الأعراض
والثانية : الدلالة على حدوثها وأن لها أولا تنتهي إليه
والثالثة : أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها
والرابعة : أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثا مثلها )
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك
ولما قيل له : لم قلتم : إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث ولا يوجد قبل أولها ؟
قال : ( لأدلة منها : أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها : أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة كل شيء منها إلى جنب صاحبه أوتكون متباينة متباعدة كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه وليس بين هذين منزلة
فإن كانت متماسة فذلك معنى الاجتماع وإن كانت متباينة فذلك هو معنى الافتراق )
قال : ( ومما يبين ذلك أيضا : أنا لوجاز لنا وجود جسم خاليا من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والحياة والموت والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات لم يجد إلى ذلك سبيلا ولكان ذلك ممتنعا لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام وتفسير التعاقب : أن الشيء منها يوجد بعقب غيره )

تعليق ابن تيمية
قلت : أما الاجتماع والافتراق : فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته
وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول : بأنه مركب من الأجزاء المفردة فيقول : تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة وهذا ليس معلوما بالبديهة ولا الحس ولا يسلمه جمهور الناس
وأما الحياة والموت : فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت : هل هو وجودي أو عدمي ؟
ثم من قال : إنه عدمي يقول كثير منهم : إن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة
وما لا يقبل الحياة والموت كالجماد لا يوصف بواحد منهما
لكن القاضي وجمهور الناس يردون على هؤلاء : بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا
ويقولون : إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظيا
ويقول القاضي وأكثر الناس : إن كل جسم فإنه يقبل الحياة
لكن الذي يقال له : الجسم لا يخلو من أن يكون حيا أو ميتا كما لا يخلو من أن يكون متحركا أو ساكنا واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ولا يمكن اتصافه بضد ذلك
وحينئذ : فلا يمكن أن يقال : إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعا ولا شخصا كما قد يقال مثل ذلك في الحركة

تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر : ( فإن قال قائل : فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم متى لم يوجد قبل أول الحوادث ولم زعمتم ذلك ؟
قيل له : الدليل على هذا قريب واضح : وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال : إما أن يكون موجودا قبل أولها أو يكون موجودا مع وجودها أو يكون موجودا بعدها
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان : إما أن يكون موجودا مع وجودها أو بعدها
فإن كان موجودا مع وجودها ولوجودها أول : فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول وحصوله عن عدم حكمها وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها
وإن كان موجودا بعدها : كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها )
فهذا منتهى كلام القاضي و أبي الحسن في إثبات الصانع وكلام أبي الحسن أجود فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم
وقول القاضي : إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولا وعلى حدوثها ثانيا - فليس كما قال بل الأشعري عدل عن هذه الطريق قصدا كما ذكره في رسالة الثغر وذم هذه الطريق وعابها
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس لا ينازع فيه عاقل سليم سواء سمي ذلك تحول عرضا أولم يسم وسواء قيل : إن ذلك العرض مغاير للجسم أوقيل ليس بمغاير له وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة : وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة بل ويقولون : إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم كما هو مذهب أهل الملل
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم : إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة ومع القول بإبطالها ويقولون : إن موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث وأنه ليس في الوجود قديم مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام وذلك قوله : ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد - أصل الدين
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة ويظنونها ضرورية ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ وما لا يسبق جنس الحوادث
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ فهو محدث بالضرورة ولا ينازع في هذا عاقل
فإن ما كان عينه حادثا فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة كما قرره لأنه إما بعده وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث بالضرورة
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جرا كما أنه يقارنه حادث بعد حادث وفان بعد فان في الأبد فيقدر ليس متقدما على جنس الحوادث ولا متأخرا عن جنس الحوادث والفانيات فهذا محل نزاع : نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين : من المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة وجعلوها ضرورية واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث
والأول ظاهر معلوم لكل احد
وأما الثاني فليس كذلك فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله وأنه به يردون على من خالف الملة وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث إلى هذه المقدمة وهي لفظ مجمل فيه عموم وإطلاق أحد نوعيه بين
فإذا ذكروا ذلك النوع البين ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر وهم لم يبينوه
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم ولا على من يعلمونه ويخاطبونه لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات ويغرقون في مثل هذه المجملات ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب والتقسيم المميز للصحيح من السقيم
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة الذين ذموا مثل هذا الكلام وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى وبحثوا معه وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال : ( فصل : فإن قال قائل من أهل الدهر الذاهبين إلى أنه : لا حركة إلا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا إلى غاية : فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلا إذ كان لا أول لوجودها ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية ؟
يقال له : أنكرنا ذلك لأمور : أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى أن يكون محدثا موجودا عن أول وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول ولا كائن عن حدوث
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم : إنها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح
وقولنا : إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول والجمع بين ذلك متناقض - محال
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية وهو قولنا : حوادث ما هو موجود لا عن أول وكائن عن عدم فالموجود لا بحدوث والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي : الماء والأرض والنار والهواء - قديمة عندكم إذ كانت موجودة لا عن عدم وكانت لا بحدوث فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا : حوادث ما هو كائن لا بحدوث موجود لا عن عدم وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضا وهذه الأعراض موجودة لا بحدوث كائنا لا عن عدم وهو مع ذلك محدث غير قديم
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم فإن لم يجز هذا ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم وما هو موجود فيها بغير حدوث
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه لأن هذين الوصفين متناقضان
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول
قال : ( وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة والقديم لا يكون محدثا ولا مجموعا من الحوادث لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث
فوجب أن للحوادث كلا وجميعا وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه وأن لم يسبقه ولم يكن قبله فواجب أن يكون محدثا مثله )
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة وهي وسائر الأجسام إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها من الاعتمال والتأثير والانقلاب و التغيير )
قال : ( وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع الذي هو عندهم أصل الدين الذي جعلوه أصلا لرد ما خالفه من النصوص النبوية ولما خالفه من مذاهب الدهرية
والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم : ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع فإن قولكم : لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجودا عن أول أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه : أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه ويراد به النوع المتعاقب شيئا بعد شيء
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث فليس فيها شيء قديم بل كل منها كائن بعد أن لم يكن
وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئا بعد شيء فليس له أول وليس هو حادثا بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث وأنت لم تذكر دليلا على امتناع هذه البتة وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم وهذا مسلم لا نزاع فيه
وقلت : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فيقال لك : كل واحد منها مستفتح مبتدأ ولكن لم قلت : إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح ؟
فإن هذا القائل يقول : إن الذي لم يزل إنما هو الجنس المتعاقب شيئا بعد شيء وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل : إنه لم يزل
فقول القائل : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء
يقال له : هم لا يقولون : إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل ولكن يقولون : إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ وهذا لا يقولون فيه : إنه لم يزل موجودا
فالذي يقولون : إنه لم يزل ليس هو الذي يقولون : إنه مستفتح مبتدأ وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات : إن كل واحد منها فان منقض والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم كما قال تعالى : { أكلها دائم } وقال : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } فالجنس دائم لا نفاذ له وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم
ولما تفطن كثير من أهل الكلام لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع ميزوا بين النوعين كما فعل ذلك أبو الحسين البصري و أبو المعالي الجويني و الشهرستاني و الرازي وغيرهم فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع
ولهذا جعل أبو الحسين و أبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على أربع مقدمات : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وإثبات استلزام الجسم لها واستحالة حوادث لا أول لها
وجعلوا النتيجة : أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم حيث جعلوا المقدمات أربعا : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وأثبات استلزام الجسم لها والرابعة : أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وهذه هي النتيجة وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا واللفظ مجمل كما ترى
لكن قد بين هؤلاء ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وغيرهما الكلام على هذا الأصل وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث والأجزاء التي هي الجواهر المفردة ونحو ذلك جنسا
ومنهم من يجعل ذلك دليلا ثابتا في المسألة كما فعله ابن عقيل و القشيري وغيرهما
وقد ذكرنا : أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم
أحدها : امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا قول أبي الهذيل و الجهم بن صفوان وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء يقولون : إن العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى ثم تعاد فلا تفنى و الجهم يقول : تفنى فناء لا تعاد بعده و أبو الهذيل يقول : تفنى حركات أهل الجنة والنار
والقول الثاني : قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل لأن الماضي قد وجد والمستقبل لم يوجد بعد وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم
والثالث : قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة
لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون : لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد وأما من يقول بوجود قديمين متحركين كمن يقول بقدم الأفلاك فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية مع أن إحداهما أكثر من الأخرى فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه وأن يكون قابلا للزيادة بخلاف الذين قبلهم فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية لم يلزم أن يكون قابلا للزيادة
وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث ؟ أقوال :
أحدها : أنه يجب أن يكون حادثا مطلقا
والثاني : لا يجب أن يكون حادثا
والثالث : أنه كان محتاجا إلى غيره وجب أن يكون حادثا وإن كان غنيا عن غيره لم يجب أن يكون حادثا
وأيضا فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثا وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثا وقد قرر هذا في موضع آخر
ومن فهم ما ذكرناه ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل وأكثر الفلاسفة أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها
ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل وغايته إذا قيل : إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة ومخاطرة عظيمة ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ودلت عليه العقليات الصريحة قابلهم من قال : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم فإن هذه عندهم فطرية ضرورية أو مكتسبة بنوع من نظر العقل
وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري أو قد يكون ضروريا خلافا لمن قال : إنه لا يحصل إلا بالنظر
وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول : إن أول الواجبات هو النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر
وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة : طريقة الأعراض ثم رجعوا عن ذلك ويقولون : إن المعرفة نظرية وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن
وكثير من الناس كانوا يقولون أولا بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأنه أول واجب على العباد ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك

كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى و ابن عقيل و أبو المعالي الجويني و الغزالي و الرازي وغيرهم فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولا الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد - : ( إذا ثبت صحة النظر ووجوبه فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى )
قلت : هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره
واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر فقال : ( أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية : خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان )
قال : ( وجه الأول : أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تسبقها وإذا كان ذلك أول الواجبات وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية )
قال : ( وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها : كتب الإيمان في قلوب المؤمنين )
قال : ( وقد قيل : أعظم النعم الدينية هي : خلق القدرة على الإيمان والأول أشبه
فإن أعظم الطاعات هو الإيمان فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك ثم قالوا : - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافا لمن قال : إن أول الواجبات المعرفة بالله وخلافا لمن قال : معرفة الله غير واجبة وأن الواجب الإقرار به والتصديق له
قال : ( والدلالة على ما ذكرنا أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه كما أن من لا يعرف زيدا لا يمكنه أن يتقرب إليه
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وليس بمشاهد لنا ولا معلوم لنا ضرورة فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه فلما لم تتم المعرفة إلا به وجب أن يكون واجبا وإذا وجب علم أنه أول الواجبات )
ثم قال : ( فصل ) : وإذا ثبت أن أول الواجبات فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله وهو حدوث الأشياء من الجواهر والأجسام وإذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكاتب والضرب بضارب لأن ذلك كله يبعد إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز محدث لامحدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي عن علي بن سري السجستاني عن الخطابي وذكر أن بعض الناس اعترض عليها
فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم وقال : ( فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك )
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز ( وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه ) ( وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ) وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقوله : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات } وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع ) إلى آخر كلامه
قال القاضي : ( وقد اعترض على هذا بعضهم فقال : هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض وليس ذلك بمعجزات الأنبياء وإنما هي الأجسام والأعراض )
قال : ( وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها وهي محدثة في أنفسها لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى وهذا شاهد على حدوثها وعلى حدوث ما لا ينفك منها )
قال : ( ومعنى قوله : انقلابها فيها انقلاب الجواهر في الأعراض ومعناه تغيره من سواد إلى بياض ومن حركة إلى سكون )
قلت : قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر فإنها تنقلب من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم ومن نوع إلى نوع : كالبياض والسواد والحركة والسكون
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا :
أحدهما : المعجزات بناء على أن الإقرار بالصانع فطري أو على المعجزات يستدل بها على الخالق وعلى صدق أنبيائه كما ذكرنا في عصا موسى
والطريق الثاني : أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية
فقال : ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
وقد نبههم الكتاب على ذلك ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم )
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره قال : ( وكقوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وبقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وما أشبه ذلك من خلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه )
قال : ( فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه )
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية وهي أدلة عقلية
و الخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض وأنها لازمة للأجسام وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها ولكن بعض الناس ذكروا : أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في قوله : { لا أحب الأفلين } قالوا : لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها
وهذا باطل لوجوه :

بطلان استدلال الفلاسفة
أحدها : أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب
والثاني : أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب
الثالث : أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده بل المنافي هو الأفول
الرابع : أن إبراهيم لم يكن معنيا بقوله : { هذا ربي } أنه رب العالمين عل أي وجه قاله ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه ربا لينال بذلك أغراضه كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك وكان قومه من هؤلاء لم يكونوا جاحدين للصانع بل مشركين به
ولهذا قال لهم : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
وقال في آخر قوله : { إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } وقد بسط هذا في موضع آخر
والمقصود هنا : أن القاضي كان أولا يقول بطريقة من يقول : إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام ثم رجع القاضي عن ذلك ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة وقالوا : إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة وإن كان النظر واجبا في غيرها من الطرق الصحيحة
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله : ( الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء العالم بها قبل تكوينها والقادر عليها قبل أنشائها جاعل العلامات وناصب الدلالات ومبين الآيات الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار أرسل الرسل بالإنذار وأنزل الكتب بالأنوار وباعث النبيين ومنقذ العمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وأمينه المرتضى أنزل عليه كتابه الهدى نورا لمن التمسه وضياء لمن اقتبسه ودليلا لمن طبله دلهم فيه على معاني حكمته ولطيف صنعته وبيان جلاله أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا معقب لأمره ولا راد لفضله تعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا )
ثم قال : ( وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركا به ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله : الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار )
قال : ( وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب )
قلت : وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذي يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة بل ولا دل على صحتها بل ما أخبر به يناقض موجبها وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلا في معرفة الصانع وصفاته وصدق رسله فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولا : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة وهو أول الواجبات لما ذكروا قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قالوا : - واللفظ للقاضي في الفطرة - : ( ما الفطرة هنا ؟ على روايتين عن أحمد :

كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة
أحداهما : الإقرار بمعرفة الله تعالى وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه
قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول )
قال : ( وليس الفطرة ها هنا الإسلام لأمرين :
أحدهما : أن معنى الفطرة : ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا : الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب ألا يصح استرقاقه ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم )
قال : ( وهذا تأويل ابن قتيبة ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة
قال : ( وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال : الفطرة الأولى التي فطر الله عليها فقال له الميموني : الفطرة : الدين ؟ قال : نعم )
قال القاضي : ( وأراد أحمد بالدين : المعرفة التي ذكرناها )
قال : ( والرواية الثانية : الفطرة هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )
قال : لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم )
قال : ( ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة فقال : على الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : هي التي فطر الناس عليها : شقي أو سعيد
وكذلك نقل حنبل عنه قال : الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة )
قال : ( وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )

تعليق ابن تيمية
قلت : أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير هذا موضع : إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه
واستدل بهذا الحديث : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
فدل على أنه فسر الحديث : بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث : ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث
وقوله في موضع آخر : يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى
والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره
وإنما قال الأئمة : ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس
ولهذا قالوا ل مالك بن أنس : إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال : احتجوا عليهم بآخره وهو قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره بل هو تهود وتنصر باختياره لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأن الله وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك
كما في الحديث الصحيح : ( إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا )
فقوله : طبع أي طبع في الكتاب أي قدر وقضي لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد فهو مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر كما طبع كتابه يوم طبع
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار [ عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره قال : [ بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا : يا رسول الله : أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : أو ليس خياركم أولادكم المشركين ؟ ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ] فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه و سلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله : [ أو ليس خياركم أولاد المشركون ؟ ] معناه : لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث ولكن معناه : إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } قالوا : يا رسول الله : أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي الصحيح : قال الزهري : يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط و [ إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وفي الصحيح من رواية الأعمش : [ ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ] وفي رواية أبي معاوية عنه : إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك
قال ابن عبد البر في التمهيد : ( روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وغيره فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب و أبو سلمة بن عبد الرحمن و حميد بن عبد الرحمن و أبو صالح السمان و عبد الرحمن الأعرج و سعيد بن أبي سعيد و محمد بن سيرين )

كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة
قال : ( ورواه ابن شهاب واختلف في إسناده منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي : كل هذه صحاح عن ابن شهاب محفوظة )
قال ابن عبد البر : ( وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال : نعم لأنه ولد على الفطرة )
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث : ( وقال آخرون : الفطرة ها هنا الإسلام قالوا : وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل وقد أجمعوا في تأويل قوله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } على أن قالوا : فطرة الله : دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وذكروا عن عكرمة و مجاهد و الحسن و إبراهيم و الضحاك وقتادة في قول الله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا : فطرة الله : دين الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا : لدين الله
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس يوما : ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب : إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حلالا وحراما ] الحديث
قال : ( وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث ( حنفاء مسلمين )
( قال أبو عمر : روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال : حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول : حدثني مطرف عن عياض عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] لم يقل : مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده وقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] ولم يقل مسلمين )
قال : ( فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر ( مسلمين ) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله : مسلمين وزاد ثور بإسناده والله أعلم )
قال : ( والحنيف في كلام العرب : المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام )
قال : ( وقد روي عن الحسن قال : الحنيفة : حج البيت وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام وكذلك روي عن الضحاك و السدي : ( حنفاء ) قال : حجاجا وعن مجاهد : ( حنفاء ) قال : متبعين )
قال : ( وهذا كله يدلك على أن الحنيفية : الإسلام )
قال : ( وقال أكثر العلماء : الحنيف : المخلص وقال الله عز و جل : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى :
حنفاء : مسلمين
قال الشاعر - وهو الراعي - :
( أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا )
( عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا )
فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به )
قال : ( ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث : الإسلام - قوله صلى الله عليه و سلم [ خمس من الفطرة ] ويروى [ عشرة من الفطرة ] يعني فطرة الإسلام )
قلت : الدلائل الدالة على أنه أراد : على فطرة الإسلام - كثيرة كألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله : ( على الملة ) ( وعلى هذه الملة ) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار : [ خلقت عبادي حنفاء كلهم ] وفي لفظ [ حنفاء مسلمين ] ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك وهو أعلم بما سمعوا
وأيضا فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك : ( أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ ) لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير
وكذلك قوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها
وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها
وأيضا فإن الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة
يبين ذلك أنه قال : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره ومثل قوله : { كتاب الله عليكم } وقوله : { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال : كتب الله ذلك عليكم وسن الله ذلك وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك : على إقامة الدين لله حنيفا وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم

كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول : فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفا يقول : مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول : صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا } وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة )
قال : ( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) وروي ( عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال : الإسلام فمنذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }
فهذا قول الله كان الناس أمة واحدة يومئذ فبعث الله النبيين بعد )
وروي بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد : فطرة الله قال : الدين الإسلام وقال ( ثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال : مر عمر بمعاذ بن جبل فقال : ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات : الإخلاص - وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة : وهي الملة والطاعة : وهي العصمة فقال عمر : صدقت )
قال : حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قوام هذه الأمة ؟ فذكر نحوه )
قال : ( وقوله { لا تبديل لخلق الله } : يقول : لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل )
ثم ذكر بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا تبديل لخلق الله قال : لدين الله )
وروي عن ( عبد الله بن إدريس عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول : { لا تبديل لخلق الله } فقال عكرمة : هو الخصاء فرجع إلى مجاهد فقال : أخطأ لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين ثم قرأ : { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } )
وروي عن ( وكيع عن نصر بن عربي عن عكرمة : لا تبديل لخلق الله : لدين الله )
وروي أيضا عن ( حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة : فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : الإسلام وكذلك روي ( عن وكيع عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد قال : لدين الله ) وروي ( عن سعيد عن قتادة : { لا تبديل لخلق الله } : أي لدين الله )
وكذلك روي ( عن ابن عيينة عن حميد الأعرج قال : قال سعيد بن جبير : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وكذلك عن ( المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( وكيع عن سفيان الثوري ومسعر عن قيس بن مسلم عن إبراهيم النخعي : { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( مغيرة عن إبراهيم قال : لدين الله )
وعن ( عمرو بن أبي سلمة سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه وقال : لا تبديل لخلق الله وعن حميد الأعرج قال : قال عكرمة : الإخصاء وعن حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال : الإخصاء )

تعليق ابن تيمية
قلت : مجاهد وعكرمة : روي عنهما القولان إذ لا منافاة بينهما كما قال تعالى : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه والخصاء وقطع الأذن أيضا تغيير لخلقه
ولهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما بالآخر في قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ]
فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون : كل مولود يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن أبواه يضلانه

الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
والحديث حجة عليهم من وجهين :
أحدهما : أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين : لم يولد أحد على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع بين القدرية ولكن هو دعاهما إلى الأسلام وأزاح علتهما وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المعتزلة وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة فهذا أحد الوجهين
الثاني : أنهم يقولون : إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى
وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين ؟ أو يغيرونها فيصيرون كفارا ؟
وإن احتجت القدرية بقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم : أنتم تقولون : إنه لا يقدر : لا الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما فحينئذ لا حجة لكم في قوله : [ فأبواه يهودانه ]
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك : دعوة الأبوين لهما إلى ذلك وترغيبهما فيه وتربيتهما عليه ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه وذكر الأبوين بناء على الغالب إذ لكل طفل أبوان وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين وقد يقع من غير الأبوين حقيقة وحكما

عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور قال : قال ابن المبارك : يفسره آخر الحديث : قوله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
قال ابن عبد البر : هكذا ذكر عن ابن المبارك لم يزد شيئا
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال : ( كان هذا القول عن صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ) هذا ما ذكره أبو عبيد
قال ابن عبد البر : ( أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل )
قال : ( وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه : إما لإشكاله عليه أو لجهلة به أولما شاء الله وأما قوله : إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطة فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم فقف عليه فإنه أمر جسيم من أصول الدين
وقول محمد بن الحسن : إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد )
وروي بإسناده ( عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان ؟ فقال رجل : أو ليس إنما هو أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه ]
قال : وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزني والعلاء بن زياد والسري بن يحيى وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال : وهو حديث بصري صحيح قال : وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين ]
قلت : أما ما ذكره عن ابن المبارك و مالك فيمكن أن يقال : إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) على نفي القدر كما احتجت به القدرية ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث
وأما قوله محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال : هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة وإذا قيل : إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده
فإن الله تعالى يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه
وهذا من قوله تعالى : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقوله : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة
قال ابن عبد البر : ( وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقالت فرقة : الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال : ( كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ) يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك )
قالوا : ( لأن الفاطر هو الخالق )
قال : ( وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار )
قلت : صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا : إنهم أولاد المشركين قال : أليس خياركم أولدا المشركين ؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان
قال : ( وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] يعني البدأة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم )
( قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبدىء والمبتدىء فكأنه قال : صلى الله عليه و سلم : يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه واحتجوا بقوله تعالى : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وروي بإسناده إلى ( ابن عباس قال : لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأئتها ) ( وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه : اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها )
قلت : حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها على هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه
وأيضا فقوله : ( على هذه الملة ) وقوله : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) يخالف هذا
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص
وقد ثبت في الصحيح أنه : قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فلو قيل : كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة
قال ابن عبد البر : ( قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال : يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين : الله أعلم بما كانوا عاملين
قال المروزي : وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال ابن عبد البر : ما رسمه مالك في موطأه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا )
قلت : أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال : ( فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في عمله أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له يدل على أنه الفطرة عنده : الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول : إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما فعنه روايتان وكان يحتج بالحديث

كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل : ( أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب : إنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
قال : وأما أهل الثغر فيقولون : إذا كان مع أبوية : إنهم يجبرونه على الإسلام )
قال : ( ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه ]
قال الخلال : أنبأ عبد الملك الميموني قال : سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال : إذا مات صلى عليه المسلمون قلت : يكره على الإسلام ؟
قال : إذا كانوا صغارا يصلون عليه أكره من يليه إلا هم وحكمه حكمهم
قلت : فإنه كان معه أبواه ؟ قال : إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره ودينه على دين أبويه
قلت : إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] :
حتى يكون أبواه ؟ قال : نعم
قال : وعمر بن عبد العزيز نادى به ؟ قال : فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم
قلت : في الحديث كان معه أبواه ؟ قال : لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه )
قال الخلال : ( ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ) ( ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال : إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت : لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما ؟ قال : نعم )
قال الخلال : ( وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال : إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه : ما رواه الجماعة )
وقال الخلال : ( ثنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد الله : إني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما ؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا : إنهم قد كتبوا إليك فقال : أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيها عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته فقال : قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه و سلم ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) هذا ليس له أبوان
قلت : يجبر على الإسلام ؟ قال : نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه و سلم )
( وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال : قال أبو عبد الله : الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام وذكر الحديث : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان : هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى ؟ قال : ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة : يهودية أو نصرانية أو مجوسية ؟ فقال : يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام لأن آباءهم مسلمون حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] يردون كلهم إلى الإسلام )
ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة : الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى
قال الخلال : ( أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه معناه : أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا ؟ فقال لي : نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون بقوله قلت لأبي عبد الله : فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب ؟ قال : إيش أقول أنا ؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى ثم قال لي : والذي يقول : كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له : فما الفطرة الأولى : هي الدين ؟ قال لي : نعم
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قلت لأبي عبد الله : فما تقول لأعرف قولك ؟ قال : أقول : ( إنه على الفطرة الأولى )
فجوابه : أنه على الفطرة الأولى وقوله : إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام
وأما جواب أحمد : أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه فقال الخلال : ( أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد )
وكذلك نقل عنه ( الفضل بن زياد و حنبل و أبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال : ( الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة )
وكذلك نقل : ( عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : على الشقاء والسعادة فإليه يرجع على ما خلق )
( وعن الحسن بن ثواب قال : سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت : إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال : هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال : كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب ارفع ذلك إلى الأصل هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة )

تعليق ابن تيمية
قلت : وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال فكان أحمد يقف فيه تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم كقوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهذا أحسن جوابيه كما نقل محمد بن الحكم عنه وسأله عن أولاد المشركين فقال : أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
ونقل عنه ( أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين فقال : كان ابن عباس يقول : ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) حتى سمع : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله
قال أحمد : ( وهي صحاح ومخرجها كلها صحاح وكان الزهري يقول : من الحديث ما يحدث بها على وجوهها )
وأما توقف أحمد في الجواب ( فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله : فأبواه يهودانه وينصرانه قال : الشأن في هذا وقد اختلف الناس ولم نقف منها على شيء أعرفه )
وقال الخلال : ( رأيت في كتاب لهارون المستملي قال أبو عبد الله : إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم فإنه أصل كل خصومه ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به قال : ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ونسكت لا نقول شيئا )
( قال المروزي : قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال : يا صبي أنت تسأل عن هذا ؟ ! )
وكذلك نقل خطاب بن بشر و حنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا فنهاه ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال : هم في النار ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي [ عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أولادها من غيره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة وهذا غلط على أحمد فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد فضلا عن الإمام أحمد
و أحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وهو في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا بعد أن كان يقول : هم مع آبائهم فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم
وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق : أنبأ معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار فيقولون : كيف ولم يأتنا رسل ؟ قال : وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وروي هذا الأثر عن أبي هريرة : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه : ( والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا ) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الأسود بن سريع أيضا قال أحمد في المسند : حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع : أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ]
وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : [ فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ]
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا وهذا تفسير قوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنةكلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذ قيل : هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب انفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول : هو أصل كل خصومه
فأما جواب النبي صلى الله عليه و سلم الذي أجاب به أحمد آخرا وهو قوله [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فإنه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة والله تعالى أعلم

تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد
و أحمد - رحمه الله - كان متبعا في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه فيما ذكره ابن عبد البر وغيره
( ثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي : سمعت أبن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر
قال يحيى بن آدم : فذكرته لابن المبارك فقال : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ فسكت
وذكر محمد بن نصر المروزي ثنا شيبان بن شيبة ثنا جرير بن حازم فذكره بإسناده وقال : لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو مواتيا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر
وذكر المروزي أيضا ثنا عمرو بن زرارة أنبأ إسماعيل بن علية عن ابن عوان قال : كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال : ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين ؟ قال : وتكلم ربيعة الرأي في ذلك ؟ فقال القاسم : إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال : فكأنما كانت نارافطفئت ؟

تعليق ابن تيمية
قلت : ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة والتحذير من أسباب الفتن ما قد نقل إلينا كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب لما كثر القراء وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة
ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقائل يقول : ألم يقل الله كذا ؟ وآخر يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاتركوه
فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى
ولهذا قال تعالى : { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق فلو صدق الإنسان فيما يقوله ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به فأولئك هم المتقون
ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله وإلى الإيمان بشرع الله فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي والوعد والوعيد فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر فأخطأوا في التكذيب به وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول : إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة ولا يسوي بين المتماثلين بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح
وهذا أصل مذهب القدرية النفاة ولهذا قالوا : إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعا وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال : الظلم ممتنع لذاته وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل حتى تعذيب الأنبياء والصالحين وتنعيم الكفار والفاسقين إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم
وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس وكذلك أمر أطفال المشركين : طائفة يقولون : يعذبهم كلهم أو يمكن تعذيبهم كلهم بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة وطائفة تقول : بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحا بناء على رحمة بلا حكمة وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار وبين من آمن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق
وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها فإن الله أكمل الدين وأتم النعمة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ]
وفي الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما ]
وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
وقال تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة
وقد قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه
وقال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن
ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس وهو قوله : إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا قال له ابن المبارك : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ وقد صدق ابن المبارك فقال له يحيى بن آدم : أفتأمر بالكلام ؟ فسكت ابن المبارك لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن بالكلام الذي وقع من الناس وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه وأما الكلام بلا علم فيذم ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم وقد يتكلم بما يظنه علما : إما برأي رآه وإما بنقل بلغه ويكون كلاما بلا علم وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا
كما ذم الله ذلك بقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فالبغي مذموم مطلقا سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم ويذمهم على تركه أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه والله يغفر لهم خطأهم فيه فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم فقد بغى عليهم لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه
وقد قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } والله تعالى قد قال : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه وإلا فالإنسان ظلوم جهول وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده ؟
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل طعموا في هؤلاء القدرية
فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل ومن الناس من يحار ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة تناقضا منه في حالين أو جمعا بين النقيضين في حال واحدة
ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع ويدخلهم في اتباع النص والإجماع والكلام على هذه المسألة له موضع آخر
والمقصود هنا تفسير قوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) وأن من قال بإثبات القدر وأن الله كتب الشقي والسعيد لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه فيعلم أنه يولد سليما ثم يتغير
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه وهو أنهم ولدوا على الفطرة ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان مستلزمة له لولا المعارض
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده ( عن موسى بن عبيده سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقال : من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بعمل أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال : وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين
وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } يقول : فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها )
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه وهو ما كتبه أنهم صائرون إليه قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدأه على الضلالة أي كتبه أنه يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر لها
كما في الحديث الصحيح : [ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ]
ولهذا قال محمد بن كعب : إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة فأثبت هذا وهذا إذ لامنافاة بينهما
ثم روى ابن عبد البر بإسناده ( عن سعيد بن جبير في قوله : { كما بدأكم تعودون } قال : كما كتب عليكم تكونون

تعليق ابن تيمية
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : شقي وسعيدا وقال غيره عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا
وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية : { كما بدأكم تعودون } قال : عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )
قلت : ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق وأن الخلق يصيرون إلى ذلك حق لا محالة كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأما كون ذلك تفسير الآية فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه
ولفظ ( بدأ الله الخلق ) : يراد به ابتداء تكوينهم وهو ظاهر القرآن وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه و سلم : [ ما كان أول أمرك ؟ قال : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي : رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]
قال : ( وقال آخرون : معنى قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم ؟ قالوا جميعا : بلى فأما أهل السعادة فقالوا : بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا : بلى كرها غير طوع
قالوا : ويصدق ذلك قوله : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } قالوا : وكذلك قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } قال محمد بن نصر المروزي : وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : يقول : ( لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج إسحاق بقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال : إسحاق : أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد : استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فقال : انظروا ألا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل )
وذكر ( حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال : وكان الظاهر ما قال موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس ؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله : فأمر بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا )
وروى إسحاق حديث أبي بن كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا ] وهذا الحديث رواه مسلم
وروى البخاري وغيره ( عن ابن عباس أنه كان يقرأها : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق : فلو ترك النبي صلى الله عليه و سلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه و سلم حكم الطفل في الدنيا فقال : [ أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] يقول : أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم
قال : ( ولقد [ سئل ابن عباس عن الولدان : ولدان المسلمين والمشركين فقال ابن عباس : حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال : إسحاق : ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وقال : مه يا عائشة وما يدريك ؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلق النار وخلق لها أهلها ] قال إسحاق : فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم )
( وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] فقال : هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم
قال ابن عبد البر : ( وقال ابن قتيبة : يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى )
قلت : مقصود حماد و إسحاق و مالك و ابن المبارك ومن اتبعهم كابن قتيبة و ابن بطة و القاضي أبي يعلى وغيرهم هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر وهذا مقصود صحيح ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف
كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ثبت عنه أنه قال : [ احتج آدم وموسى فقال موسى : ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فقال له : أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله تكليما وخط لك التوراة بيده فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق : { وعصى آدم ربه فغوى } ؟ قال : بأربعين خريفا قال : فحج آدم موسى ] فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب اضطربوا فيه : فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث ومقصودهم صحيح لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه وقول الآخر : لكونه كان قد تاب وقول الآخر : لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى وقول الآخر : حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة دون الدنيا وقول الآخر : الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى
وأيضا فموسى أعلم من أن يلوم تائبا وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون وكل كافر وفاسق
وكذلك قول من قال : إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل أو احتجاج الخاصة به سائغ فإنه قول باطل فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر ووقع العتب والملام بسبب الذنب كما حقق الله ذلك في القرآن ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة كما في الحديث : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه واجتباه ربه وهداه فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ما أخطاه لم يكن ليصيبه
كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } وقال : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }
قال طائفة من السلف : هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار
فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها فلا بد أن يصيبهم ذلك فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله
ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح : [ خدمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين فما قال لي شيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : دعوه فلو قضي شيء لكان ]
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح : [ احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان ]
والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل
وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم
وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة : إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه فهذا حق يرده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين : أحدهما : أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان
لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك
وأما قول القائل : إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى : طائع وكاره فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفيسره
قال السدي في قول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } قالوا : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي
فذلك قوله : وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال : { ألست بربكم قالوا بلى } فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة : { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز و جل : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وذلك قوله : { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني يوم أخذ الميثاق
فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه و سلم فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا ؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل لا سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار
وقول الله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل : إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال : لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه به حجة
وأما احتجاج إسحاق رحمه الله بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : نقول : لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الآية فيها قولان : أحدهما : أن معناها النهي كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي أي : لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي و الزمخشري
والثاني : ما قاله إسحاق : وهو أنه خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح
وحينئذ فيقال : المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة
وقد قال تعالى عن الشيطان : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته
وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليها إلا الله والله لا يفعله كما قال : { لا تبديل لخلق الله } ولم يقل : لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله
وأما قول القائل : لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة كما قال تعالى : { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم }
و { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }

تعليق ابن تيمية
وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فإنه يبدله دائما والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك
ومما يبين ذلك أنه قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها ؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر ؟
وقد تقدم تفسير السلف : لا تبديل لخلق الله تعالى بأنه : دين الله أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم إن المراد : لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والله تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع
وأما قوله : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا فالمراد به : كتب وختم وهذا من طبع الكتاب وإلا فاستنطاقهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } ليس هو طبعا لهم فإنه ليس بتقدير ولا خلق
ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه : إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ ولكن قال في الحديث الصحيح : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فإن كان بالغا - وقد كفر - فقد صار كافرا بلا نزاع وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول : إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة و أحمد وغيرهم - أمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا وإن كان أبواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ
فالغلام الذي قتله الخضر : إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه ولا في السنة
وقد يقال : بل في السنة ما يدل عليه ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان : إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا رواه مسلم
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به ومن قال بالأول يقول : إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه
ويقول قائل هذا القول : إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا هذا مما قد يعلمها كثير من الناس فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما الإنكار عليه
فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة أصلا وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلا ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فهذا أيضا يبين أنه قتل قبل أن يصير كافرا ومن قال هذا يقول : إنه قتل دفعا لشره
كما قال نوح : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا
وقول ابن عباس : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهره أنه كان حينئذ كافرا وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير
وأيضا فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين ؟ كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون : هم كفار كآبائهم فنقتلهم
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيرهم بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينها وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر
يبين ذلك أنه لو سباه كفار لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه
فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه وذكر صلى الله عليه و سلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ] فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه : [ إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به
ومن هنا قال من قال : إن هذا الحديث - هو قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا
وقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الآخرة إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه ؟ فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فإذا مات أبواه بقى على الفطرة
والرواية الأخرى كقول الجمهور : إنه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها
فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وأرض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه و سلم بإسلام يتامى أهل الذمة وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام أحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما
و أحمد رضي الله عنه يقول : إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايتين : إنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله والقول الآخر هو الصواب كما تقدم
والمقصود هنا أن قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد به في أحكام الدنيا بل في نفس الأمر وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب ولهذا لما قال هذا سألوه فقالوا : يا رسول الله : أرأيت من يموت من أطفال المشركين ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال : فقالت طائفة : إنهم كلهم في النار وقالت طائفة : كلهم في الجنة وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد الأول : اختاره القاضي أبي يعلى وغيره وحكوه عن أحمد وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه
والثاني : اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ومن هؤلاء من يقول : هو خدم أهل الجنة ومنهم من قال : هم من أهل الأعراف
والقول الثالث : الوقف فيهم وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة
وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة و حماد بن زيد و ابن المبارك و إسحاق بن راهويه قال : وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك وذكر أيضا في أطفال المسلمين نزاعا ليس هذه موضعه
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يعلم حكمهم فلا يتكلم فيهم بشيء وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة وقد يقال : إن كلام أحمد يدل عليه
والثاني : أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ويجوز أن يدخل جميعهم النار وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم
والثالث : التفصيل كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة ومن علم منه أن يعصي أدخله النار
ثم من هؤلاء من يقول : إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي
والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتنحهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم
وقد روي به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم حسان يصدق بعضها بعضا وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا
والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث وقد تبين ضعف قول من قال : الفطرة : الكفر والإيمان وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعا ومن هؤلاء كرها
ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره

تعليق ابن تيمية
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون : معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار
قالوا : وليست تلك المعرفة بإيمان ولا ذلك الإقرار بإيمان ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع تصديقا بما جاءت به الرسل فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون
قالوا : وتصديق ذلك قول الله عز و جل : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه ) كما تقدم
وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي ( عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله عز و جل : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إلى قوله : { أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
قال : فجعلهم جميعا أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك
قال : فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي
قال : فأخذ عهدهم وميثاقهم ورفع أباهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ؟ قال : أحببت أن أشكر
قال : والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج
وقال : وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها
قال : فهو قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }
قال : وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها )
قال : ( وذلك قوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }
قال : ( فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق قال : وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم )
فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة التي هي المعرفة بالله والإقرار به وفيه زيادة : أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم وقد فسر ( فطرة الله ) في الحديث بذلك
وأما قول صاحب هذا القول : ( إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب ) فهذا لا يضر فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية وأنه بذلك صح أن يأمرهم فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه : أدعكم إلى الله لقالوا مثل ما قال فرعون : وما رب العالمين ؟ إنكارا له وجحدا كأن يكون قولهم متوجها
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق لكن أظهر خلاف ما في نفسه كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وكما قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }
ولهذا قال تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا : { إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك }
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي والمعنى : ما في الله شك وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم لا سيما إذا كانت طرقة خفية طويلة فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق وهم جمهور الخلق بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضا إذا عرف حقيقتها
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا
واحتجوا بقوله في الحديث : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ] يعني سالمة : [ هل تحسون فيها من جدعاء ] يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال : هذه بحاير وهذه سوايب يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا : ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا
قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار
قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة : السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ومن المعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } { كل نفس بما كسبت رهينة } ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
قلت : هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال : فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبوه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف ولا حكم ذم القرآن مسيلمة والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما
ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم ؟
وأيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة ؟
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس من أن المراد : أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال : إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله فإنه صاحبه يقول : في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها لكن يقال : فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية : هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج ؟
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك
ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك وهو التهويد والتنصير والتمجيس وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج
وهذا القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة سواء قيل : إن المعرفة ضرورية فيها أو قيل : إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب
والمقتضى التام يستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الأمرين لازم : إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها وذلك ينفي مدحها
وتلخيص النكتة أن يقال : المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له وإما أن يكون ممكنا بالنسبة إليها ليس بواجب لازم لها
فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها إلا أن يعارضها معارض
فإن قيل : ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها إليها أميل مع قبولها للنكرة
قيل : فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة وجبت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها أضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل
والنبي صلى الله عليه و سلم شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن فقال له جبريل : أصبت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك
والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض
وأيضا فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له مع الكبر والشرك والنفور إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا
وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزما لمقتضاة عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وأنه مفطورة عليه لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة
وإن قيل : إنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا
وإذا قيل : هي إلىالحنيفية أميل كان كما يقال : هي إلى النصرانية أميل
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه

تعليق ابن تيمية
ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض
وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك وإذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل
فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وإن كان ذلك مذكرا ومحركا أومزيلا للمعارض المانع لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقا
وأيضا فالإقرار بالصانع بدون عبادته بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري وإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها - وهو المعرفة أيضا - جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وهو فطرة الله التي أمر الله بها
وأيضا فإذا كانت المحبة فطرية وهي مشروطة بالشعور لزم أن يكون الشعور أيضا فطرية والمحبة له أيضا فطرية لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع كما تقدم وإذا كانت في الفطرة أرجح لزم وجودها في الفطرة وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه كما في المجوسية وغيرها من الكفر فتبقى الحنيفية مع المجوسية كاليهودية مع المجوسية وهذا باطل كما تقدم
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال هذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب
قال أبو عمر : ( قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية قالوا : ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات
والقرآن قد نطق عن أهل النار : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } من غير إنكار عليهم
وقال تعالى تصديقا لذلك : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } قالوا : وكيف يخاطب الله عز و جل من لا يعقل ؟ وكيف يجيب من لا عقل له ؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه ؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه ؟
قالوا : وإنما أراد الله بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم ونبأهم فطرة : إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة : هل تقع ضرورة أو اكتسابا على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان )
قلت : ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة وإذا كان من نفاة الأول من يقول : إن هذه ضرورية فكيف بمن أثبت الثنتين وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا على ما سبق به القدر أو على ذلك وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول منهم مقر طوعا وكرها أو اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا قادرين على المعرفة وقول من يقول : ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما من التساوي وإما مع رجحان القبول للإسلام
وأما من قول من يقول : ولدوا على فطرة الإسلام أو علىالإقرار بالصانع وإن لم يكن ذلك وحده أيمانا أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها بل يحصل بها المقصود
والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله الذي هو معرفة الله والإقرار به بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم وبمقتضاها يجب حصوله فيها إذا لم يحصل ما يعوقها فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء مانع
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم لموجب الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } فأخبر أن المشركين مفترقون
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه لا تشركوه به شيئا وأنت تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]
وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }
وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }
وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده كما قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فهو يجمع أصلين :
أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أحبه وأمر به وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق وضده الشرك والبدع
والثاني : حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود وهو الوسيلة وضدها تحريم الحلال والأول كثير في النصارى والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود وهما جميعا في المشركين
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه كسورة الأنعام والأعراف يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى
وفي الحديث : [ أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ] فنعبده وحده بفعل ما أحبه ونستعين على ذلك بما أحله
كما قال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم }
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه فإنه محبوب لكل أحد فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتحليل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة

الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من أن [ كل مولود يولد على الفطرة ] مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه كما أخبر الصادق المصدوق وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك
وبيان ذلك من وجوه :
( الوجه الأول )
أن يقال : لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا وتارة ما يكون باطلا فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته وهو جلب المنفعة له وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة ولهذا [ قال صلى الله عليه و سلم : أصدق الأسماء : الحارث وهمام وأحبها إلى الله : عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها : حرب ومرة ] فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية ولا بد من أن يهم بالأمور : منها ما يهم به ويفعله ومنها ما يهم به ولا يفعله فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه
وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة وتارة تكون سيئة فلا يخلو : إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين
فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان : أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه والآخر يرجح الكذب الذي يضره فإما أن يتكافأ المرجحان أويترجح أحدهما فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وأن ينتفع وأن يكذب وتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه ؟ والثاني معلوم الفساد قطعا فتعين الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به
وأيضا فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته والثاني معلوم الفساد وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه
وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به والثاني معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده
وأيضا فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الإسلام مرجوحا أو راجحا والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين وبأدلة كثيرة فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل مثل من يعلمه ويدعوه أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما فلا يحصل بدونه البتة ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل كالقول في الأول وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين ووجود مخاطبين لا يتناهون وهو أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل دل على إمكان ذلك في الفطرة فبطل هذا التقدير : وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك وأن ذلك ليس موقوفا على مخاطب منفصل لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة
وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنيا عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع أمكن ذلك في حق كل شخص وهو المطلوب

الوجه الثاني
أن يقال : إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة : كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة : من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضى لذلك
ومعلوم أن قوله : كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ فحصول موجب الفطرة سواء توقف على سبب وذلك السبب موجود من خارج أو لم يتوقف على التقديرين يحصل المقصود ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع فلا يحصل مقصود الفطرة

الوجه الثالث
أن يقال : من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم والسبب في الموضعين واحد فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل
ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة
يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس إلا بقوة منها تقبل ذلك وتلك القوة لا تتوقف على أخرى وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين أو الدور القبلي وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيها على ما لا تعلمه لتعلمه أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده ونحو ذلك
وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك
ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائما في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له
فإن قيل : هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض بحسب ما يتفق من الأسباب كما أن بعض الناس يحصل له من يخاطبه دون بعض فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب
قيل : إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان فإن هذا خلاف الواقع والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته

الوجه الرابع
أن يقال : هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة

الوجه الخامس
أن يقال : المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم والمانع زائل إذ يجب وجود مقتضاه
والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه
وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد فإنه هذا ممتنع بل إن الفطرة تقتضى وجوده كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه
قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج وهو خلاف الواقع ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها والثاني ممتنع فتعين الأول

الوجه السادس
أن السبب الذي في الفطرة : إما أن يكون مسلتزما للمعرفة والمحبة وإما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام وعلى التقديرين يحصل المقصود

الوجه السابع
أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلوممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال : إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه وعن محبته وعدم محبته
وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها ولو لم يكن لها معارض بل هذا باطل
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها وكونها مريدة من لوازم ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة فلا بد لها من حركة إرادية وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية بل أولى
وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب فإذا لا بد لكل عبد من إله فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه
ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أنه يأله غير الله لوجوده :
منها : أن هذا خلاف الواقع
ومنها : أنه ليس هذا المخلوق بأن يكون إلها لكل الخلق بأولى من هذا
ومنها : أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل عبد كل قوم ما يستحسنوه
ومنها : أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل من الميت فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله يألهه فلو كان هذا يأله هذا وهذا يأله هذا لزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه
فإن قلت : ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله أو لكل إنسان من إله لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه لا مألوها معينا وجنس المراد لا مرادا معينا ؟
قيل : هذا ممتنع فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول مثل كون العطشان يريد ماء والسغبان يريد طعاما فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده
والمراد لذاته لا يكون نوعا لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر ماردا لذاته وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته
والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معينا فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد فضلا عما يجب أن يألهه كل واحد
فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب لذاته من كل حي ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله فلزم أن يكون هو الله وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله ومحبته مستلزمة لمعرفته فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته وهو المطلوب
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته بل المراد دفع ألم الجوع والعطش أو طلب لذة الأكل والشرب وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته فإنه لا يكون إلا معينا
أن يقال : اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة لكن بلا علم بل مع ضلال وجهل ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه
وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه وإذا كان كذلك والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا فطرته السليمة : إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به أو للعمل به دون معرفته أو لهما أو لا لواحد منهما
فإن كان الرابع : فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب والاعتقاد المطابق والفاسد وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة
وإن كان الثالث : فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل وأن تهتدي وأن تضل وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما وهوأيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة
وإن كان الثاني : فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائما إذا استوت الدواعي الخارجة هو أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر وخلاف الضرورة فبين أنه لا يستوى عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعا
وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية فعلى المجوسبة أولى ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به وهو المطلوب

فصل في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
قالت الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان :
أحدهما : أنها وقعت منهم ثم هؤلاء منهم من يقول : جميعهم خلقوا لها ومنهم من يقول : إنما خلق لها بعضهم
والقول الثاني : أنهم كلهم خلقوا لها ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم وهؤلاء حزبان :
حزب يقولون : إن الله لم يشأ إلا العبادة لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه
والثاني يقولون : بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها ولا يأمر إلا بذلك فمنهم من أعانة ففعل المأمور به ومنهم من لم يفعله
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وفي قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }
وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } على قول الأكثرين الذي يجعول ( لعل ) متعلقة بقوله : ( خلقكم ) كما قال { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
وقوله : { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين }
وقوله : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
وقوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }
وقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
ومنه قوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
وقوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } ونحو ذلك مما فيه : أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها ويأمر بها عباده وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم ثم منهم من يعينه على فعلها ومنهم من لا يفعلها فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس وقالوا : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
فيقال : الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل ومراد الفاعل نوعان : فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون والله تعالى يفعل ما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولكن الله يفعل ما يريد
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره لينتفع ذلك الفاعل بفعله ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به وسلاحا ليجاهدوا به ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه وينهاهم عن المنكر ليتركوه وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم كان صالحا لهم وكان ذلك محبوبا له وإن لم يفعلوا ذلك لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادرا على هدي العباد وهو خطأ عند أهل السنة وقد يكون قادرا فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته ولا يعين آخر والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به وأحبه الله منهم لا يعين آخرين لما له في ذلك من الحكمة فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له هي أحب إليه من طاعة أولئك أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم ليطيعوه ويعبدوه ويفعلوا ما أحبه وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها جاز أن يقال : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وأن يقال : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وأن يقال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم }
وأن يقال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } ونحو ذلك
وإن كان هو لم يخلق ما أمره به وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به ليعبدوه ويطيعوه ويشكروه ويذكروه ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال : إنما خلقهم ليعبدوه وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابدا له كما جاز أن يقال : وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك فإنه ليس من شرط من فعل فعلا لغاية يفعلها غيره أن يكون هو فاعلا لتلك الغاية
ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد وإن من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل ويأمر بما يأمر به لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له وهذا موجود في المخلوق والخالق فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي وإن كان يعلم أنه لا يطاع لأن نفس أمره لهم له فيه مصلحة ومنفعة وثواب وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك إذا كان له في ذلك أجرا ومثوبة ومصالح أخرى فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد وبعضهم لا يصلي فيه قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة وكان قد أزاح عن نفسه العلة بأن يقال : لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه
والخالق تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنذر العباد وأزاح عللهم وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله فلا تقوم حجة آمر على مأمور إلا وحجة الله على عباده أقوام ولا يستحق مأمور من آمره ذما ولاعقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم
وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه و سلم وجد هذا فيها أظهر من الشمس ولهذا قال في آية الصيام : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم }
وقال : { ما جعل عليكم في الدين من حرج }
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ]
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء فيسقط القيام في الصلاة والصيام في شهره والطهارة بالماء كذلك بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره وقال : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه ولا يفعله غيره وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما
وقول القائل : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
جوابه : أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده ومن فعل شيئا لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعا
وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون : لم يرد إلا المأمور وما سواه واقع بغير مراده وخلق الخلق لذلك المراد بعينه مع علمه أنه لا يكون وهذا تناقض يقولون : يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء
وأما أهل السنة الذين يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يقع إلا ما شاءه وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه فلا إشكال على قولهم
وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره وله مراد بما خلقه فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه فما حصل إلا مراده وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه
مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول ومعجزة القرآن وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش
وعلى هذا فيجوز أن يقال : إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره وبها يحصل محبوبه وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم وإن كان منهم من لم يعبده ولم يجعله عابدا له إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك
ويجوز أيضا أن يقال : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون وكلاهما مرادة له تلك مرادة بأمره والموجود منها مراد بخلقه وأمره وهذه مرادة بخلقه والمأمور منها مراد بخلقه وأمره
وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : { إلا ليعبدون } قال : معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي واعتمد الزجاج هذا القول فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : لآمرهم وأنهاهم وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس قال : ما خلقتهما إلا للعبادة
وأما من قال : المراد : المؤمنون فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال هي خاص للمؤمنين
وأمامن قال : كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها فروي الوالبي عن ابن عباس : إلا ليعبدون : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
وقال السدي : خلقهم للعبادة فمن العبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } هذا منهم عبادة وليس تنفعهم مع شركهم
وروى ابن أبي زائدة عن ابن جريج في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : إلا ليعرفون
روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي
وذكر الثعلبي عن مجاهد : إلا ليعرفون قال : ولقد أحسن في هذا القول لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ودليل هذا التأويل قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم } الآيات قال : وروى حبان عن الكلبي : إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء بيانه : قوله : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه وأقروا له بالعبودية طوعا وكرها
والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء لكن يقولون : ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به وإقرار به وعبودية له طوعا وكرها
وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعا وكرها وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم وأنه لم ينفك عنها أحد منهم مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر
وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم : إلا ليعبدون قال : جبلهم على الشقاء والسعادة
وكذلك عن وهب بن منبه : { إلا ليعبدون } قال : جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية ذكرهما ابن أبي حاتم ؟
وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره ونفوذ ميشئته فيهم وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
قال الثعلبي : ( فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل : إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه )
قلت : وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحا وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة
وأيضا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى
وأيضا فإن قوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } دليل على أنه خلقهم ليعبدوه لا ليرزقوا ويطعموا بل هو المطعم الرازق وإطعامه لهم ورزقه إياهم هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم الذي قد جعله أهل هذا القول عبادة له فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين وهذا باطل
وأيضا : فقوله { ليعبدون } يقتضي فعلا يفعلونه هم وكونه يربيهم ويخلقهم ليس فيه إلا فعله فقط ليس في ذلك فعل لهم
ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول : إنهم كلهم عبدوه أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة كما أن قول القدرية الذين يقولون : إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف
والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه وفي تفسير القرأن بغير المراد وهو مما [ نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر : هذا قول : ألم يقل الله كذا ؟ وهذا يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ]
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم ضروري فيهم وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري فيهم
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
فإن هذه الآية فيها قولان : من الناس من يقول : هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم كما نقل ذلك عن طائفة من السلف ورواه بعضهم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكره الحاكم لكن رفعه ضعيف
وإنما المرفوع الذي في السنن كأبي داود و الترمذي و موطأ مالك من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر : هو أنهم استخرجهم ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا
ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم وفي حديث عمر وغيره أنه قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة ولا يدل عليه القرآن فإن القرآن يقول فيه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده وإن كان كثيرا كما قال تمام الآية : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }
وقال تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض } وقال : { ذرية من حملنا مع نوح } وقال : { ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون } إلى قوله : { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } فاسم الذرية يتناول الكبار
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها : إقراره فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه
قال تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار
وفي حديث ماعز بن مالك : فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أي أقر أربع مرات
ومنه قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم
وقال تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم وهو إذا الشهادة على أنفسهم
ولفظ شهد فلان وأشهدته : يراد به تحمل الشهادة ويراد به أداؤها فالأول كقوله : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } والثاني كقوله : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم }
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم } من هذا الثاني ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها ولما ظن بعض المفسرين هذا قال : المراد أشهد بعضهم على بعض
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه بمعنى أداء الشهادة على نفسه وهو إقراره على نفسه فالشهادة هنا خبر
وقولهم : { بلى شهدنا } هو إقرارهم بأنه ربهم ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ولهذا قال في الآية : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فقولهم : بلى معناه : أنت ربنا وهذا إقرار بربوبيته لهم وهذا الإقرار هو شهادة على أنفسهم أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته
وقوله : ( أشهدهم ) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات كما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة }
ولهذا قال : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فهو يقول : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة فهو يذكر أخذه لهم وإشهاده إياهم على أنفسهم إذ كان سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى
فالأخذ يتضمن خلقهم والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار فإنه قال : { أشهدهم } أي جعلهم شاهدين وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة كقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم
وهنا لم يقل : أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به فيكون هذا إقرار مشهودا به غير الشهادة سواء كان شهادة بعضهم على بعض كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم
فالشهادة هي الإقرار كما قال : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وكما قيل لماعز : شهد على نفسه أربعا فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم أي مقرين له بربوبيته كما قال في تمام الكلام : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } فقولهم : بلى شهدنا هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده
كما يقول الملوك : هذا سيدي فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان فكل إنسان قد جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده
ثم قال بعد ذلك : { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين : عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية فإنهم كانوا غافلين عن هذا بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه بل لا بد أن يكون قد عرفه وإن قدر أنه نسيه ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد
كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وفي الحديث الصحيح : [ يقول الله للكافر : فاليوم أنساك كما نسيتني ]
ثم قال : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد
إحداهما : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل
والثاني : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم
وقوله : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } : وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا ؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا : نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا
وهذا لا يناقض قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإن الرسول يدعو إلى التوحيد لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة : إني كنت عن هذا غافلا ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا
والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب أحمد وغيره
طائفة تقول : إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين
وطائفة تقول : بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل وإن لم يرد سمع كما يقول ذلك المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم : أبي الخطابي وغيره
وطائفة تقول : بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ولكن لا يعاقب أحدا إلا بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وفي قوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
وقال تعالى لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }
وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم
وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع
وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم

كلام أبي محمد بن عبد البصري
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد : ( فصل في الخلق على الفطرة قال : وخلق الله الخلق على الفطرة وهو قوله سبحانه : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهي الإقرار له بالربوبية مع معرفة الوحدانية وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه فخلقهم على ما علم منهم وشاء غير مؤمنين ولا كافرين صبغة بل مقرين عارفين لا موحدين ولا جاحدين وكذلك قد روي في الأثر بقول الله تعالى : خلقت خلقي حنفاء مقرين لا منكرين ولا موحدين وذلك إثبات ونفي الجبر فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم وله التحكم فيهم وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره فيبطل بذلك الكسب وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان إذ التكليف لا يكون جبلا ولا يقع اضطرارا وجبرا ولا يكون إلا اختيارا إذ قد أمروا بها وأنزل الكتب وأرسل الرسل وكل ما منه حق غير عابث عدل غير ظالم عالم لا يخفى عليه شيء شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسبا لهم
وهو عادل في عباده : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقال عز من قائل : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } مع ما أنه لم يزل مالكا لهم وقادرا عليهم ومتصرفا فيهم لا غناء لهم عنه ولا محيص لهم منه فخلقهم عز و جل على الفطرة كما أخبر وخلق الأعمال كما ذكرنا ولم يضطر أحدا إلى شيء من ذلك ولو خلقهم كفارا صبغة لما قال لهم : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغة ويغير نفس ما خلق من غير كسب
وقال سبحانه : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } ولو خلقه كافرا لما صح منه الإيمان وكان معذورا مدليا بحجته والله تعالى يقول : { لا تبديل لخلق الله } وكان ذلك تكليف ما لا يطاق كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض والأبيض أسود وذلك مستحيل من حكيم
وأما قوله سبحانه : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } يعني : أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم وبالإخراج من العدم إلى الوجود فحقق فعله وقبل من رسله ووحد ربه ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه وأشرك به ما لا يجوز له وكذب برسله فصار كافرا بفعله
وقد روي نحو من هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ]
وقد قال تعالى : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } فلما امتثل ذلك قوم وعدل عنه آخرون كانوا هم المرادين من قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم ولم يقل : خلقكم مؤمنين : وكره إليكم الكفر فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة : كافرين ولا مؤمنين )
إلى أن قال : ( وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن ومن كان مؤمنا ثم كفر ولو كان ذلك صبغة لما انتقلوا ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل وقد قال تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } فأضافه إليهم حقيقة
وقال : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا } ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفارا نفعهم إيمانهم ؟
ولما قال فرعون ( آمنت ) لم ينفعه
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله صلى الله عليه و سلم : [ ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه على ما أمرهم به من الإيمان فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه وفعل فعلوه ونهي ارتكبوه وأمر خالفوه وهو ما أحدثوه لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له ولا خلقوا مجبولين عليه إذ لو خلقهم كفارا لكانوا إلى ذلك مضطرين ولم يقل بذلك أحد من المسلمين ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك ولم يثابوا على ذلك ؟ أعني : معرفة الربوبية وهي الفطرة ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى الإيمان ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختيارا
وقال سبحانه : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ولم يقل : منهم من خلقت مؤمنا ومنهم من خلقت كافرا
وقال سبحانه : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات وعليه توعدهم بالعقوبات وكون الكافر مخلوقا كافرا صراح بالجبر ومن قال : ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر فهو قدري رديء وقد لعنت القدرية والمرجئة وكذلك المجبرة والله لا يجبر أحدا على فعل إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة
وقد قال سفيان و أحمد وسهل و الإمام وأهل العلم : ( إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها )
إلى أن قال : ( قال سبحانه : { وما ربك بظلام للعبيد } مع كونه سبحانه فعالا لما يريد وليس معنى ( شاء ) معنى ( علم ) ولا معنى ( علم وشاء ) معنى ( خلق ) فشاءهم وعلمهم وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة وهي العواقب التي لم يزل بها عالما وعليها قادرا ولها شائيا ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفارا ولا إقرارا للزوم المطالبة والعبودية ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم ويطالبهم كما زعم أهل الإجبار من ضرار وأصحابه وسالكي البدعة والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان والمغترين المحيلين على الأقدار والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة والعواقب مشهودة وأعمالهم في القبضتين داخلة وإلى المعبود صائرون وعلى اكتسابهم محاسبون وبها مؤاخذون
قال أصدق القائلين : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان ؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم وما قضى عليهم بما وجد منهم ولا شاء ذلك في ملكه ولا خلق أعمالهم ولا أحصى سكونهم وحركاتهم ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي مكابر معتزلي مدعي الحول والقوة وأن الأمر إليه
ومن زعم أن كلفهم صبغة وجبرهم على الأفعال وجعل كسبهم مجازا وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية وأعتى المجبرة وهو الغالي في دين الله المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه وبفجوره على من تقدس عن كسبه بل تنزه عما يقول الظالمون ولم يزل عليما شائيا حكيما عادلا متفضلا منصفا محققا مجبرا خالقا آمرا ناهيا غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى ولا لها مهملا فخلق الكافر على الفطرة وخلق كفره وشاءه في ملكه ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه ولم يتوله بل تبرأ منه وتركه معه ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله وجعل له قدرة واستطاعة على كسبه وتركه مع هواه فلما دخل تحته واعتقده في نفسه واتصل به واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة والخلقة والكسب فصار بما اعتقد واكتسب كافرا وسمي فاجرا ولا هو لنفسه خالقا ولا لكفره مخترعا بل له مكتسبا وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما فصار لذلك مجانيا وخالط الكفر فصار فيه والجا فتوجه نحوه التهديد ولزمه الوعيد فألزمه ما اكتسب ورده إل ىما علم وأدخله في وعيده واستحق عقوبته وخلده بنيته : { وما ربك بظلام للعبيد }
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله عز و جل : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ]
وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه يسفر عن إيضاح ما أوردناه حنفاء عارفين على فطرته وهي معرفة ربوبيته والإقرار بوحدانيته لا يقع بذلك كفر ولا إيمان بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري فخلق الكل على الفطرة وأمر الكل بالإيمان لصحة الدعوة وعموم النصيحة وأقدر الكل على ما أمر وأراد )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الكلام يوافق قول من قال : خلقهم على الفطرة التي هي المعرفة والإقرار بالصانع وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمنا ولا كافرا وقد أبطل من يقول : إنهم خلقوا على الكفر والإيمان وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء وصاحب هذا الكلام يقول : الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره وهذا موافق لقول من قال : لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر لكن ذاك يقول : إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة لا يبدل الخلق فيخلقون على غير ذلك
وصاحب هذا الكلام يقول : لايبدل الخلق بعد ذلك أي : لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم وهو يقول : كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه وهو يثبت القدر وأن الله خالق أفعال العباد وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه
فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع وقد بينا أن مذهب الأئمة كالأوزاعي و الثوري و أحمد بن حنبل وغيرهم أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معا ومذهب الزبيدي وطائفة : نفي الجبر وإنكار إثباته فقط وهو موافق لهذا الكلام
وأما ما حكاه أحمد ونحوه : أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال : جبر وعلى من قال : لم يجبر
وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار
وأما قوله : ( إن ذلك ليس بإيمان وإن ذلك لا يمكن تحويله ) فقد قدمنا الكلام على ذلك وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية وقد بسط ذلك مستوفيا في أول كتابه
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم و أبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث كمالك و سفيان الثوري و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و عبد الرحمن بن مهدي و الشافعي و أحمد بن حنبل وأمثالهم وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد قال : ( وكان إجماع السلف والخلف وأئمة الدين وفقهاء المسلمين من شرق وغرب وسهل وجبل وسائر أقاليم الإسلام من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين : على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة : سبعة متعلقة بالشهادة وهي مما يدان بها في الدنيا وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة
فالتي في دار الدنيا : القول مع الاعتقاد بأن الإيمان : قول وعمل ونية والإيمان بالقدر خيره وشره وأن القرآن غير مخلوق وتخيير الأربعة على الترتيب وإثبات الإمامة وترك الخروج على أحد منهم والصلاة على من مات من أهل القبلة وترك المراء والجدل
والمتعلقة بالآخرة : الإيمان بأحكام البرزخ والآيات التي بين يدي الساعة والبعث بعد الموت ورؤية الله تعالى والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان وخلود الدارين فمن خالف شيئا من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم وسنتكلم على كل مسألة بذاتها ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر وبه التوفيق والمعونة وهو حسبنا ونعم الوكيل لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول فقال : { إياك نعبد وإياك نستعين } إثباتا للمجاهدة وفقرا إلى المعونة منه سبحانه
فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار )
قلت : كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين : المعتزلة ( وقال ابن كلاب وطائفة : جميعها اكتساب وقول أصحاب الحديث : إن منها اضطرارا ومنها اكتسابا وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه
فصل : في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم المخترع لأعيان الأشياء والمتمم تصويره لها على غير مثال ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه وهي ضرورة لا اختيار فيها كما لا كسب فيها ولا يتوصل إليها بالأسباب
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يعني : وما من شيء إلا يسبح قال ابن عباس : حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده
وقال عكرمة : لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته فما من شيء إلا يسبح بحمده وروي أن صرير الباب بالتسبيح
وقال سبحانه : { يا جبال أوبي معه والطير } وقد روي : سبحي
وقال سبحانه : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون } يعني : صاغرون
وقال سبحانه : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } الآية
وقوله سبحانه : { سبح لله ما في السماوات والأرض } وسبح إخبار عن ماض وآت وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده ويسجد لعظمته ويعترف بألوهيته ووحدانيته ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول وكذلك اعترافها بفضائل رسله وما استفاض من مخاطبات الجمادات له صلى الله عليه و سلم وسلامها عليه وحنينها إليه ومخاطبة الأنعام والوحوش والطير والصغار في المهود وغير ذلك
قال صلى الله عليه و سلم : [ إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث ] فذكر معرفة بارئها
وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر ولا عقول ولا اختيار ولا كسب وقد عقل معرفتها لبارئها عز و جل وثبت بالكتاب والسنة وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط لأنها حق له عز و جل ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة ثم جلاها بالأسماء فعرفت من بعد جهلها وذلك دليل الحدث فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها : وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول وكل تام بغيره معلول ولقد أحسن فيما قال وأصاب إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه الذي ارتفعت عنه تغيره الذي لولاه لم يعرف فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره إلى من ارتفعت عنه علة المجهول والغير علة والعلة لا تصحب إلا معلولا
قلت : وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي فقال : ( المعنى : أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو فصار زيد مفتقرا إلى وجود عمرو واسمه لزوال الجهالة عنه به وباسمه والمعنى : أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها بخلاف الواحد الذي لا نظير له ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته )
قال : وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه )
قال الشيخ أبو محمد بن عبد : ( فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعد ماكان مدلولا ) هكذا رأيته في الكتاب وإنما أراد : ( فيصير مدلولا بعد ما كان دليلا )
قال : ( وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة : أنا الدال على نفسي ولا دليل أدل علي مني وقد روى : كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فأظهرت خلقا وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني وهذ نص بإزالة العلل لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره كان إثباته تخييرا وتلك علل الحوادث فهو الثابت بثباته المعروف بنفسه لم يعرف من بعد جهل إذ ذاك تغيير عن الأزل فهو المعروف أزليا والعارفون محدثون كما أنه إله لم يزل والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون ولا يجوز على الإلهية تغيير ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة فتلزم مكلفا وغير مكلف )
قال : ( والفصل الثاني : معرفة الربوبية وهي خاصة للمكلفين من بني آدم وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم وهي ضرورية أيضا وهي عن رؤية وهي قوله سبحانه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } وهذا في غير وقت الكسب والتكليف فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف فأقر الكل له بتلك المعرفة إذ عاينوه جبارا قهارا وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد لأنها إقرار للضرورة وليس للكافر فيها اختيار إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها كما جحد معرفة التوحيد ولو كانت كسبية لوقع له بها إيمان وثواب بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده قال تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }
وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال سبحانه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } مع آيات كثيرة وذلك موجود منهم ضرورة وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه ويقولن : إلهنا القديم والعتيق وإله الآلهة ورب الأرباب وغير ذلك مع كفرهم
فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها وهو قوله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقول : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } يعني : معرفة ربوبيته
وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى : ( خلقت خلقي حنفاء مقرين ) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته وأقروا له بمعرفة ربوبيته وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقول صاحب الشرع : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ] لم يقل : حتى يقولوا : إن ربهم ربا إذ هم عارفون بذلك وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا وقبل ذلك الموحدون فقال في حال المؤمنين : { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } وقال في حال الكفار : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل }
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية إذ لكل معرفة مقام فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال لكان مكلفا لهم شططا إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط
وحديث الجارية فمشهور وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف )
قال : وقد [ قال له أبو ذر رضي الله عنه : يا رسول الله بماذا أقول : عرفت الله ؟ فقال : إنك إن قلت بمن فقد أشركت وإن حلت كفرت وإن وسطت واسطة ضللت ]
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : بم عرفت ربك ؟ فقال : بما عرفني نفسه لا يشبه صورة ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس
وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال : يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته ؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين
وقول الصديق الأكبر : ( سبحان من لم يجعل للخق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته )
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء والمعلوم الذي لا يجهله شيء فمن كانت معه معرفتان فهو كافر وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان وهو الفصل الثالث : وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها وبعثوا بها وكلفنا قبولها وهي قوله : { وإلهكم إله واحد } وهو قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم فكانوا يعرفون أن لهم ربا وإلها ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه وبه وقع منهم الكفر
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد ولا يزيل ضرورتهم وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف وهي ما وقفتنا الرسل عليه ودلنا عليه سبحانه ووفقنا لذلك وبها يجب الخلود في الجنة وبعدمها يجب الخلود في النار وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولا وإن كان العقل حجة فهو باطن والرسل حجة الله ظاهرة
وقد قيل لبعض العارفين : بم عرفت الله ؟ قال : بالله فقيل : فأين العقل ؟ فقال : العقل عاجز يدل على عاجز
وقد جاء في الأثر : إن الله سبحانه لما خلق العقل وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال : عرف بالعقل - فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر فقال : عزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف فتعلق الخصم بهذه الكلمة وتمام الحديث : فطفق لا ينطق فكحله بنور العزة فقال : أنت الله الذي لا إله إلا أنت فلم يعرف العقل الله إلا بالله
وإذا كان الله معروفا من طريق التوحيد بالعقل فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخبارا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم
وقال سبحانه : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم } الآية وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل فبوجود الرسل صح التكليف وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف وإن كان له ها هنا مدخل فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك
وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد وكذلك العلم فالعلم بيان الله والعقل حجة الله والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده والمخبرة بأمره والداعية إلى سبيله ولما كان سبحانه لا سبيل إليه ولا عقول تشرف عليه ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا
وليس هذا للعقل وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم وخص بمعرفة توحيده المؤمنين وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين
وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس فمن كان معه معرفتان كان كافرا ومن كان معه ثلاث فهو مسلم فإذا كان أربع كان مؤمنا فإذا كانت معه خمس كان مؤمنا عالما ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم وصدق الهمم واتباع العلم وقوة اليقين وصفاء الإخلاص وصحة المعتقد ولزوم السنة
فالعقل والعلم والنظر والاستدلال والافتكار والاعتبار يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط وأوبقه الجهل ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه وفي بعضها بالعلم وفي بعضها بالعقل وغير ذلك
فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر ومقام وحال فللكل معرفة الوحدانية والربوبية وليس للكل معرفة التوحيد
وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين فليس لكل المسلمين معرفة المزيد وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند
فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } إلى قوله : { إني بريء مما تشركون } فتلك حجة على الخصم لا له لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال : إني بريء مما تشركون ولم يحكم النظر والاستدلال ولا يقول : إني بريء مما تشركون وإني وجهت وجهي إلا عارف بربه

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه بقوله تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد وإنما الإله الذي خلقكم ولمعرفته فطركم :
هو الذي أخبر عنه بقوله : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر فإنما المراد به الاستفهام )
قلت : وذكر ابن عبد أشياء وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت وكلام مستدرك فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية
إلى أن قال : وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه ومذكرا لهم الميثاق الأول ردا لهم إلى ضرورتهم ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي فأين محل النظر والاستدلال ؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره حتى يلتبس على الخليل الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين ؟ ! نعوذ بالله من الحيرة في الدين
لا جرم وقال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولا بعقل وهو الذي لا يدركه عقل ولا يحيط به إحاطة وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير لا إلى من : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فعرفنا أن لكل أثرا مؤثرا ولك بناء بان ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك كما عرفنا اضطرارا أن السماء فوقنا والأرض تحتنا ومعرفة وجودنا وغير ذلك إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز كيف في عدمه وعجزه ؟ ! )
قال : ( والفصل الرابع : وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال وخالص الأعمال مدلول عليها وإن كان الأصل فضل الله المحض
قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقد روى : معرفة { وزدناهم هدى } { ولدينا مزيد } { لئن شكرتم لأزيدنكم } فوعد بالزيادات وأخبر عنها فكلما نصحوا فيما عرفوا كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول
وفي الحديث : [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ( جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال وعلما بلا تعلم فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله فإنه واجد ذلك كله ]
وقد روي : [ إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله سبحانه بقلبه ملكا يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه ]
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله - : ( احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون فإنه يتجلى لهم أمور صادقة ) فكلما استعمل العبد عقله وعمل بعلمه وأخلص في عمله وصفا ضميره وجال بفهمه في بصيرة العقل وذكاء النفس وفطنة الروح وذهن القلب وقوى يقينه ونفى شكه وضبط حواسه بالآداب النبوية وقام على خواطره بالمراقبة وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال وصار الصدق وطنه وذهب عنه الرياء والعجب وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده وتبرأ من حوله وقوته ولزم الخدمة وقام بحرمة الأدب وحفط الحدود والاتباع وهرب من الابتداع زيد في معرفته وقويت بصيرته وكوشف بما غاب عن الأعيان وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة ولا أيضا معرفة التوحيد إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد وعلى معرفة المزيد إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها وأقامها مع مقدرتها لم يكلفها فوق الطاقة ولا شططا فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار وذلك غلط وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب وذلك أيضا غير صواب وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم وأصحاب الحديث وأهل الظاهر فيقولون بالاضطرار والاكتساب
والأمر هو ما ذكرنا والصواب ما شرحنا لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة نصرح بإبطالها ونومي إلى تناقض الأحاديث فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده وما سواه محدث وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطرارا وجبلا وكذلك لما اضطرهم في الذر وخاطبهم كفاحا في غير زمان التكليف لم يجز أن يكون ذلك بكسب فلما أرسل رسله وأنزل كتبه وتعرف على ألسنة السفراء لم يصح أن يكون ذلك جبرا ولا ضرورة فيسقط التكليف ولا يكون ذلك موقع الحكمة ولا ثبوت حجة : { وما ربك بظلام للعبيد } وهو الفعال لما يريد ذو الحكمة البالغة والعدل الشامل والفضل الذي يختص به فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته من حيث يعرف ومن حيث توحيده ومن حيث وصف ووقف ومن حيث المزيد من حيث استعمل ووفق واختص وتفضل فلكل معرفة مقام ولكل مقام حكم فعم بالأول وأفراد بالثاني واختص بالثالث من مقامات المعارف فمعارف البلغاء بالإصابة ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام ومعرفة الفقه للعلماء والحديث للرواة والفراسة للحكماء والمزيد للأنبياء والأولياء مع مشاركتهم للغير في المعارف لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا فلما استوى الكل في كونهم أحداثا مربوبين استووا في تلك المعرفة ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص تباينوا وتفاوتوا في المعارف وما يعقل ذلك إلا عارف ولا ينكره إلا جاهل فوصل الكل إلى معرفة الربوبية ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد وهو أن يعرف الله حق معرفته
قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وقد روي : ما عرفوه حق معرفته
وقال صلى الله عليه و سلم : [ لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل وما وصل أحد إلى ذلك قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : ولا أنا الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله ]
هذا وهو أعرف الخلق بربه الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة
وقد كان يقول في مناجاته : [ اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة ومنك رهبة ] وهذا طلب الزيادة في المعرفة كما أدبه : { وقل رب زدني علما }
وقد كان الشبلي يقول : ( ما عرف الله أحد حقيقة ) يعني لو عرفوه حقيقة ما اشتغلوا بسواه
وكان الواسطي يقول : ( كما به كانوا كذلك به عرفوا ) وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته :
( به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا )
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في كلامه : [ والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ] الحديث )
قال : ( فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه ولو كان الحكم واحدا والمعرفة واحدة لاستووا وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا مع تصحيح الآثار ومذاقات ألفاظ الرجال فهو أجل أن يجهل وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف أو تبلغه بصائر ذوي البصائر : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }
ومعرفة الرب بربوبيته إذ ربوبيته ظاهرة لا يدعها جاحد ولا يقدر أن ينكرها معاند إذ هو أجل أن يخفى وأعز أن يقاس وأعظم أن تشرف عليه العقول أو يتناوله معقول ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه فعرفناه بما تعرف ووصفناه بما وصف إذ به عرفت المعارف ووجدت الدلائل فعرفنا نفسه وعرفنا رسله بما أظهر على أيديها من المعجزات والبراهين والآيات وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم لتكون المملكة معذوقة بمالكها ونوحده بما وحد به نفسه ونثني عليه بثنائه ونشكره كما علمنا على آلائه إذ هو الغني عن كل شيء وكل شيء إليه فقير قال الله : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } فلفقرنا لم نعرفه بنا ولغنائه عنا عرفناه به وجعل لنا الزيادة في الكسب والتوصل بالأسباب ومنه البداية وإليه المنتهى فكل من ألزمنا بسبب عكسنا عليه ذلك السبب وتسلسل الأمر وإلى الله ترجع الأمور : { وإليه يرجع الأمر كله } فلا مجهول فيستدل عليه ولا متوقع فيرتقب فللرسل تأثير في العبادات وللاستدلال تأثير في المكونات وللعقول تأثير في المدبرات وللرياضات تأثير في المكتسبات
وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقد روي : ليعرفون فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله ؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } فما أريد منهم أن يقع بهم علل وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف )

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال : ( فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها وأجملت وجهلت الحكم فالتبس عليها الحكم واختلفوا بما يصاب ؟ : بالعقول أو الاستدلال أو بالإمام ؟ فقال بعضهم : أصل المعرفة معرفة الإمام ومنهم من يقول : أهل البيت يعني معرفتهم والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه من حلال وحرام وفرائض ومندوبات و أحكام وسنن
وقال بعضهم : هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك
واختلفوا : أي وقت تقع ؟ فمنهم من يزعم : قبل البحث والنظر ومنهم من قال : بعد البحث والنظر وقوم يقولون : بعد البلوغ ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر وكلام يكثر ذكره ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية فجعلوا معرفته بأسباب وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية والربوبية لا تدنسها العلل ولا يقع عليها غوامض الفطر فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحا لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة
قال سبحانه : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده وقام على مراعاة ما شرعه له وتعرف به إليه واتكل في المعرفة عليه وأسند جميع أموره إليه ذكره ما سلف من الحال وكشف له عن العواقب والمآل فزهد فيما يفنى وزادت رغبته فيما يبقى وصار للإله موحدا خائفا ومصدقا راجيا ومن قصر في رعايته وخلط في سعايته وسلك محجة التفريط ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله جمت عيوبه وكثرت ذنوبه فملكه هواه فأعماه وأراده ولم يبلغ مناه فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف فحصل في جملة من خان وعاند ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار ولم يكن بخارج من ضرورته )
قال : ( وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية كمعرفة الإنسان بوجود نفسه فالربوبية أولى بذلك وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام والجمع والتفرقة وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم ومعرفة الشرع للفقهاء والمعرفة التي هي الحجة والبرهان والنور والبيان للعلماء البلغاء الحكماء ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب ويكاشفهم بالغيوب إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم وهم المكاشفون بنور اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين المخصوصون بالحقائق والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته لأهل صفوته وولايته فلكل قوم مقام ولكل مقام علم ولكل علم حكم وكذلك المعارف على أحكام ومقامات فلا يتعدى بمعرفة مقامها )
قال : ( وقد قيل لأبي الحسين النوري : كيف لا تدركه العقول ؟ فقال : كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له ؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له ؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف
وقال الواسطي : كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه وقال الشبلي : الحق لا يعرف بسواه وقال النباجي : طوبى لأهل المعرفة عرفهم نفسه قبل أن عرفوه )
قال : ( صدق أئمة الدين وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي وهو الهادي إلى معرفته والمتعرف بنفسه إلى بريته إذ ضلت العقول والفهوم والعلوم والأوهام في تيه التيه أن تتوهمه والأفكار والأضمار ان تدركه لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل حيث وتقدير وعجز عن توهمه كل فكر وضمير وردعت العقول فلم تجد مساغا فرجعت كليلة ورجع الوهم خاسئا وهو حسير )
إلى أن قال : ( بل هو المعروف بما تعرف والموصوف كما وصف فتعرف إلينا بربوبيته ووصف لنا توحيده ووحدانيته وأقسم على ذلك بقوله تعالى : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } وهو الصادق في خبره وشهادته إذ هو الواحد في الحقيقة الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء فأوقفتنا السفراء على توحيده الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه فالأصل منه ثم السفراء { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة والعلم الذي هو الحجة وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول ليكون أقوى في البرهان وأبلغ في البيان
قال سبحانه : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا وصدق الله في خبره وصدقت الرسل )
وتكلم على هذه الآية وعلى قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } بما يناسب ذلك إلى أن قال : ( قال سبحانه : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء }
وقال سبحانه : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل }
وقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } مثلا لمن عبد غيره إذ ضرب العبد مثلا لمن عبد من دونه لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك لا يقدر على شيء : لا نفعا ولا ضرا ولا خلقا ولا أمرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ومن رزقناه : جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سرا وجهرا فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون فعز من لمن يشارك في قدرته وجل من لم يرام في وحدانيته وتعظم من تفرد بالربوبية فجل أن يكون له شريك في خلقه )
إلى أن قال : ( فخلقهم على الفطرة وبعث إليهم السفراء وعلمهم العلم وركب فيهم العقل بالفكر فبالفطرة عرفوه وبالواسائل عبدوه فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته ولولا إرسال الرسول مع ما خاطبنا به ووقفنا عليه ووفقنا له ومن علينا به وكتب في قلوبنا واختصنا - ما عرفنا توحيده ولا كيف نطيعه
ولو لا ما ظهرت من الآيات والمعجزات التي أظهرها على أيدي الرسل بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها لم نعرف رسله
ولولا زوائد الأعمال وتصحيح الأحوال والعلوم والفهوم والمعارف وأسرار مقامات القوم وحلاوة أذواقهم والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد
وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته واعترف له بنعمه وإخراجه من العدم إلى الوجود ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها وكمال صورته وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده فصدق رسوله وحقق ما سلف من عهده ورجع إلى ضرورته واعترف بوحدانيته فأبطل ما سواه ولم ير إلها إلا إياه ولكن لما جهل النعمة وزاغ عن العهد ونكث في إقراره وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن وأفضل النعم : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فتركه مع هواه فكان هلاكه في مناه وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه وشكرها قبول ماجاء به الرسول : قول وعمل وإخلاص نية وإصابة سنة ولزوم قدوة وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة فكلما نصح في مزيد رفع إلى مزيد
قال سبحانه : { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
قلت : ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلا عليه وهذه هي الآية والعلامة وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم وبأن هذا ملزوم له
ولهذا قيل : إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى حتى تعرف دلالته عليه فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه بخلاف المعنى المركب فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين فنعرف أنه إذا قيل : قام فلان أنه فعل القيام القائم به فإذا قيل : زيد عرف أنه فعل القيام القائم به بخلاف مسمى زيد وأنه لا يعرف أن زيدا يدل على مسماه حتى يعرف أولا مسمى زيد فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور
وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا وتلك الأمور مستلزمة له وآيات عليه فكلما تصورت تصور المدلول عليه فيكون كما قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } تبصرة : إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولا فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف
كما قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل وتذكرة لما قد يحصل من غفلة وإن كان أصل المعرفة فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان : أقيسة وآيات فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي لا تدل على معنى معين
فإذا قيل : هذا محدث وكل محدث فله محدث قديم أو : كل ممكن فلا بد له من واجب فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه لا يدل على عينه بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة فإنه لم تعرف عينه فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق والايات تدل على عينه لكن كون الآية دليلا على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه بحيث يميز بينه وبين ما سواه كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء حتى يعلم أنه يلزم من تحقق الدليل تحققه وقد بسط هذا في موضع آخر وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه فيطلب الشعور به من وجه آخر
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود إن لم يعرف أن الحد مطابق له وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد
وكذلك الدليل القياسي إذا قيل : كل مسكر خمر وكل خمر حرام فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة وإذا كان آية على شيء معين مثل كون الكوكب الفلاني كالجدي مثلا علامة على جهة الكعبة فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي والمدلول عليه وهو جهة الكعبة لم يمكنه الاستدلال لكنه عرف أولا الدليل والمدلول عليه ثم خفى عليه المدلول وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به كمن سمع مناديا ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه وقد أضل مكانه فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك
فالآيات الدالة على الرب تعالى : آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك
ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء وعلمه بأنه عالم به شيء وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث وكذلك إرادته وحبه شيء وعلمه بأنه مريد محب له شيء وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث
فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه وإن لم يتكلم بالنية ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها وهو غالط في ذلك
وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة ثم ينظر في دلالة الخبر فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر وهو قد كان قبل النظر عالما وقد يقال : إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه وهذا مما يبين لك أن كثيرا من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا فإن كان فاسدا فهو لا يوجب العلم وهم يظنون أن العلم إنما حصل به وهم غالطون
بل العلم قد حصل بدونه وإن كان صحيحا فقد يكون مؤكدا للعلم ومحضرا له ومبينا له وإن كان العلم حاصلا بدونه
هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق وهو أجل المعارف عندهم من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلا لو كان ذلك الطريق صحيحا فكيف إذا كان فاسدا ! ؟
ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ]
فأما مجرد ذكر الاسم المفرد وهو قول القائل : ( الله الله ) فلم تأت به الشريعة وليس هو كلاما مفيدا إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه وإن كان ثابتا بأصل الفطرة وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية

كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد
والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد
قال لما ذكر التوحيد : ( الكلام بعد ذلك : المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع ؟ ) قال : ( فالذي نذهب إليه قول إمامنا : إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع ) قال : ( وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين فقال الأقلون منهم : إن المعرفة تدرك بالعقول مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها )
قال : ( والدليل على أنه تدرك بالسمع وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها : ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه يعلم ذلك كل أحد ضرورة فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح والشم لا يدرك به الشام الأصوات )
قال : ( وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلا إلى إدراك الأراييح ولا الشم سبيلا إلى إدراك المسموعات بل جعل كل واحد منهما سبيلا لإدراك ما خص به وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد والكلام في الرجل والنظر في اللسان لأن الجواهر من جنس واحد وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه و سلم
وفي الآخرة إذا أنطق الله عز و جل الجوارح بقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وبقوله : { ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة }
قال : ( فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلا إلى إدراك السواد والبياض ولا إلى إدراك المشام والطعوم بل جعل الله له سبيلا إلى التمييز بين الموجودات وإلى إدراك فهم السمعيات والفرق بين الحسن منها والقبيح والباطل منها والصحيح فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها ويعجز كل فاعل عنها وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها علم أنها مفتقرة إلى صانع غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل ووقع له فهم في السمع وتحقق صحة الخبر وعرف الله من ناحية السمع لا من ناحية العقل لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز فيبقى أن يفعل الجماد نفسه ويقتضي بالشاهد على الغائب فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع )
قال : ( والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار فقال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يعني البصائر وقال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل وقال : { ليتذكر أولو الألباب } فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلا إلى اعتباره دون غيره
ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت : أن الله عز و جل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو ولم يجعل لهم طريقا إلى علم مائيته ولا سبيل إلى إدراك كيفيته جل أن يدرك أو يحاط به علما وتعالى علوا كبيرا : { ولا يحيطون به علما } فمنع من أحاطة العلم به فلا سبيل لأحد إليه
وقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته ولا طريق له إلى علمه
ثم كلف جل إسمه سائر بريته وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو ليعرف الخلق معبودهم ويعلموا أمر إلههم وخالقهم فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعا ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته وعلم ما كلفهم من معرفته علما منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال فقال تعالى : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقال : { ذلكم الله ربكم } وقال : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وقال : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }
قال : ( ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم ماكان لهم طريق إلى علم ذلك لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل )
قال : فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه : أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء ولا إلى معرفة المسمى لو لم يرد السمع بذلك ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة )
وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه إلى أن قال : ( والمعرفة عندنا موهبة من الله وتقع استدلالا لا اضطرارا لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء )
إلى أن قال : ( فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع على ما نقول : إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم فتعرف إليهم على ألسنة رسله وأرسل الرسل بالدعاء إليه والدلاة عليه لكيلا تسقط حجج الله
وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم كقول نوح لقومه : { يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله } وكقول شعيب : { يا قوم اعبدوا الله }
وكذلك في قصص غيرهم من الرسل كل منهم يديم الدعوة لقومه فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18