كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

فصل باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية
قال أبو البركات بعد أن فرغ من حكاية حجة أرسطو : فأما قول التابعين في هذه المسألة والمشيدين لما قيل فيها والمستفيدين بحججها وبراهينها فأقصى ما وقفنا عليه منه وأجمعه لما تبدد في غيره وهو ما قال الشيخ الرئيس وهذه عبارته

نقل ابن ملكا لكلام ابن سينا في النجاة
قال : وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة وذلك محال إذ لا يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير والأصول السالفة تبطل هذا ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا ويتوسط ذلك بأشخاصها
قال : ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات
قال : ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة
قال : ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له فكذلك إثبات كثير من التعلقات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وهذا من العجائب
قلت : تقسيم ابن سينا صفاته إلى مقومة للذات وعرضية بناء على أصلهم الفاسد في المنطق : من أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما تكون مقومة للذات داخلة فيها يقولون : هي أجزاء للذات سابقة لها سبقا عقليا وإلى ما تكون خارجة عن الذات عارضة لها بعد تحققها وإن كانت لازمة لها بوسط أو بغير وسط
وهذا التقسيم قد بين فساده في غير هذا الموضع وبين أن الصفات اللازمة للموصوف لا يجوز تقسيمها إلى هذين القسمين ولا يجوز جعل الذات مركبة من أحد الصنفين دون الآخر بل لا يجوز جعل الذات مركبة أصلا منها إلا أن يعنى بالتركيب اتصاف الذات بها وقيامها بالذات أو لزوم الذات لها ونحو ذلك مما تشترك فيه جميع الصفات اللازمة للموصوف
فأما جعل بعضها داخلا في حقيقة الموصوف الثابتة في الخارج وبعضها خارج عن حقيقته الثابتة في الخارج - فكلام في غاية الفساد وغايتهم أن يجعلوا ذلك تركبا مما يتصوره المتصور من صفات الموصوف وهذا أمر يزيد وينقص ويدخل في المتصور ويخرج منه بحسب تصور المتصور لا بحسب الحقيقة الثابتة في الخارج وإن ادعوا أن الحقيقة من حيث هي هي مركبة من ذلك وأن تلك الحقيقة لا تحقق لها إلا في الأذهان لا في الأعيان كما يقوله من يقوله منهم كان هذا من أدل الأشياء على فساد قولهم وضلالهم في تصورهم
قال أبو البركات : فهذا ما قاله الشيخ الرئيس
قال : فقوله : إنه إذا عقل الأشياء من الأشياء كان على أحد وجهين : أحدهما : أن تتقوم ذاته بما تعقل أو يكون عارضا لها أن تعقل وأنه على كلا الوجهين لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته
جوابه : أما في التقويم فالفرض فيه محال لأن العاقل لا يتقوم بما يعقله لأن يعقل هو يفعل ويفعل : إنما يكون بعد أن توجد بعدية بالذات فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات ؟
وأما كونها عارضا لها أن تعقل وإلزامه منه أنه لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته فكأنه من مدح الشعراء أو من كلام محسني الألفاظ بالتخيلات من الخطب والمدائح وإلا فما معنى : من جميع جهاته ؟
فإن كونه مبدأ أولا بل كونه مبدأ مطلقا يلزم فيه ما لزم في هذا وهو أنه : إما أن يتقوم بكونه مبدأ أولا أو يكون ذلك عارضا له فلا يكون واجد الوجود من جميع جهاته أي لا يكون واجب الوجود في كونه مبدأ أولا لزيد وعمرو وغيرهما من الموجودات
والذي ألزمنا البرهان أنه واجب الوجود بذاته فأما هذا من جميع جهاته إن كان من جهات وجوده فذلك وأما في إضافاته ومناسباته فلا إذ بطل بما قيل
قلت : وهذا الذي قاله أبو البركات ردا على ابن سينا قد صرح به ابن سينا في موضع آخر يناقض ما قاله هنا فإنه قال في كتابه المسمى بـ الشفاء في مسألة العلم : ولا تبالي أن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود فإنها من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاتها وهذا يوافق ما قاله أبو البركات
قال أبو البركات : فإما أن لا يكون مبدأ أولا وإما أن لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته أعني من جهة إضافاته إلى ما وجوده بعد وجوده بالذات
وأما قوله : لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال كذا فكذلك لولا المخلوقات لم يكن مبدأ أولا لكن ليس ذلك بمحال وقد رد على طريقي المساعدة والمخالفة
وأما قوله : وتكون له حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره فقول باطل وذلك أن العلم إضافة لزمت عن ذاته بالنسبة إلى مخلوقاته ومخلوقاته لزمت عن ذاته ولازم لازم الذات لازم الذات فما لزمت عن غيره كما قيل ولو لزمت لما لزم المحال وإلا فبأي حجة تلزم ؟
وهم فلم يوردوا على ذلك حجة بل أوردوه كالبين بنفسه وليس ببين بل مردود وباطل على ما قيل
وأما قوله : فيكون لغيره فيه تأثير أما في وجوده ووجوب وجوده فلا وأما في إضافته ونسبه فأي أصول أبطلته ما بطل ولا يبطل وإنما تمت المغالطة بلفظ التأثير حيث يتوهمه السامع متأثرا مستحيلا وليس العلم استحالة على ما علمت
وأما قوله : ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك لأشخاصها - فهو حق وغير مردود فإنه يعقل ويدرك على كل وجه من وجوه العقل وجهة من جهات الإدراك فهو سميع بصير وبالجملة مدرك عالم حكيم مقدر مدبر يسع كل شيء علما : غيبا وشهادة قبل ومع وبعد
وأما قوله : ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات - فقد أجبنا عنه في جواب كلام أرسطو طاليس ولم يبعد فتحسن إعادته
وأما قوله : ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة - ففيه الكلام وقد سلف في علم النفس وما رد عليه في قوله : إن الصور الجسمانية والأشكال الوضعية لا تدركها إلا قوة جسمانية وأعاد أبو البركات مناقضته في ذلك
قلت : ما ذكره أبو البركات من أن العاقل لا يتقوم بما يعقله وأن فرض ذلك محال لأن كونه يعقل تابع لذاته وهو بعده بعدية بالذات فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات ؟ فهذا كلام صحيح وهو مطرد في جميع الصفات اللازمة للموصوف : أن ذاته لا تتقوم بشيء منها ولا تكون صفة الموصوف جزءا مقوما متقدما عليه بالذات إذا كانت الصفة تابعة للموصوف فهي إلى أن تكون بعده بالذات أولى من أن تكون قبله بالذات
فإن قدر أن هنا ترتيبا عقليا تكون فيه الصفة الذاتية قبل الموصوف أو بعده فإنها لا تكون إلا بعده
وإن قيل : لا ترتيب هنا أصلا بل كلاهما ملازم للآخر مقترن به
لم يتقدم أحدهما الآخر وليس بينهما ترتيب عقلي كما ليس بينهما ترتيب زماني فليس أحدهما قبل الآخر بل الموصوف وصفته اللازمة له موجودان معا لم يسبق أحدهما الآخر سواء قدر أن الموصوف قديم أزلي واجب بنفسه وصفته لازمة له أو قدر أنه محدث مخلوق وصفته لازمة له
وقد تكلمنا على هذا لما تكلمنا على ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الصفة الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفة اللازمة للماهية والصفة التي يزعمون أنها لازمة لوجودها وكلاهما خارج عن الماهية
وذكرنا ما ذكروه من الفرق بين اللازم الداخل واللازم الخارج واعترافهم بانتفاء ما ذكروه من الفرق واعتراض بعضهم على بعض في هذا المقام وبيان أن ما ذكروه من الفرق لا يعود إلى فرق حقيقي موجود في الخارج ولا معقول في الذهن إلا إذا جعل الذاتي ما هو لازم للذات المفروضة في الذهن
فأما إذا تصورنا شيئا وعبرنا عنه فمن الصفات ما هو داخل في معلومنا ومذكورنا بالذات ومنه ما هو داخل بالعرض وهو اللازم الخارج
وهذا كما يقولونه في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع المعنى الذي عناه المتكلم ودلالة التضمن دلالة اللفظ على ما هو داخل في ذلك المعنى ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على ما هو لازم لذلك المعنى خارج عن مفهوم اللفظ
فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع هذه الماهية التي عناها المتكلم بلفظه وهو دلالة على تمام الماهية وذلك المدلول عليه بالمطابقة هو مقول في جواب ما هو إذا قيل ما هو بحسب الاسم وإذا سئل عما هو المراد بهذا اللفظ ذكر مجموع ما دل عليه بالمطابقة فالمدلول فهو خارج عن حقيقته عرض لازم له فهذا تقسيم معقول ولكنه يعود إلى قصد المتكلم ومراده باللفظ
وأما كون الموجود في الخارج تنقسم صفاته اللازمة له التي لا يكون موجودا إلا بها : إلى ما هو داخل في حقيقته مقوم لها متقدم عليها بالذات وإلى ما تكون خارجة عن حقيقته عرضى لها فهذا باطل عند جماهير العقلاء من متكلمي أهل الإسلام وغيرهم
وقد بينا فساد ذلك في مواضع وكذلك بين فساده غير واحد من أهل الكلام والفلاسفة وتكلمنا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات وغيرها وبينا تناقضه وتناقض غيره في الفرق بين الذاتيات والعرضيات اللازمة إذا جعلا لازمين للحقائق الموجودة في الخارج وما ذكره في مسألة العلم مبني على ذلك الأصل الفاسد حيث قال : لو كان واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء لكانت ذاته : إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارضا لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من جميع الجهات

كلام ابن سينا باطل من وجوه الوجه الأول
ثم نقول : هذا الكلام باطل من وجوه :
ما ذكرناه من نفي تقوم شيء بصفته

الوجه الثاني
أن يقال : إذا قدر تقوم الموصوف بصفته فهو متقوم بنفس علمه بالأشياء أو بنفس الأشياء المعلومة والثاني باطل وهو إنما ذكر الثاني حيث قال : فذاته متقومة بما يعقل
وهذا باطل فإنا إذا قدرنا العالم متقوما بعلمه فليس المقوم له المعلوم إنما المقوم له علمه بالمعلوم والمعلوم قد يكون منفصلا عنه فلا يكون قائما به فضلا عن كونه لازما له : لا ذاتيا ولا عرضيا فكيف يكون مقوما له ؟
وإن قال قائل : يعني بالتقوم أنه لولا المعلوم لما كان العلم قيل له : هذا ليس مراده ولو كان مراده لكان باطلا لأنه على هذا التقدير لا يكون العلم إلا مقوما فلا يقال : إما أن يكون مقوما وإما أن يكون عارضا وهو قد جعل هذا أحد القسمين
وأيضا فإنه على هذا التقدير يكون هذا سؤال الاستكمال بالمعلوم الذي ذكره أرسطو وقد عرف جوابه من عدة أوجه
أحدها : أن ذلك الغير هو مفعوله فلم يحتج إلى غيره بوجه من الوجوه
الثاني : أنه لو قدر وجود موجود مستغن عنه كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه فإن العلم صفة كمال والملك والبشر إذا علموا ما هو مستغن عنهم كان أكمل لهم من أن لا يعلموه
الثالث : أنه لو قدر موجود غيره واجب بنفسه أو موجود عن ذلك الواجب بنفسه وذات العالم هي التي اقتضت العلم به - لكان هذا كمالا له على هذا التقدير لم يكن هذا مما ينفيه وجوب وجوده
الرابع : أن هذا وإن قدر أنه استكمال بالغير فلا دليل لهم على نفيه لا من جهة الوجوب ولا من جهة استحقاق الكمال ولا من غير ذلك بل الأدلة تقتضي ثبوته

الوجه الثالث
عن شبهة ابن سينا أن يقال : قوله : ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارضا لها أن تقعل فلا تكون واجبة الوجود من كل وجه
يقال له : قولك : يعقل الأشياء من الأشياء أتريد به أن الأشياء تجعله عاقلا فتعلمه العلم بها ؟ أم تريد أن علمه بالأشياء لا يكون إلا مع تحقق المعلوم ؟ أم تعني به أن علمه بالأشياء يكون بعد وجود المعلوم ؟
أما الأول فلا يقوله مسلم بل المسلمون متفقون على أن الله مستغن عما سواه في علمه بالأشياء في غير ذلك بل هو المعلم لكل من علم سواه من علمه
وقد قال تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [ البقرة : 255 ]
وقال : { علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 4 - 5 ]
وقال : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ]
وقال : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 2 - 3 ]
وقال : { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } [ الرحمن : 1 - 4 ]
وقال : { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ]
وقال : { وعلمناه من لدنا علما } [ الكهف : 65 ]
وقال : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } [ البقرة : 282 ]
وقال : { وعلم آدم الأسماء كلها } إلى قول الملائكة : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 31 - 32 ]
وقال : { تعلمونهن مما علمكم الله } [ المائدة : 4 ]
وإن أراد بعقله الأشياء من الأشياء : أنه لا يكون عالما إلا مع تحقق معلوم بعلم فهذا حق لكن لا يمكن ثبوت إلا كذلك وإلا فإذا قدر علم لا يطابق معلومه كان جهلا لا علما وحينئذ الأمر إلى سؤال الاستكمال وقد تقدم
وإن أراد بذلك أنه يعلم الأشياء بعد وجودها فلا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون ثم إذا كان : فهل يتجدد له علم آخر ؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا ؟ هذا فيه نزاع بين النظار وأي القولين كان صحيحا حصل به الجواب
وإذا قال قائل : القول الأول هو الذي يدل عليه صريح المعقول والثاني باطل والإشكال يلزم على الأول
قيل له : وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول وعليه دل القرآن في أكثر من عشرة مواضع وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف وما أورد عليه من الإشكال فهو باطل كما قد بين في موضعه

الوجه الرابع
أن يقال : قوله : إما متقومة بما يعقل وإما عارض لها إن يعقل
يقال له : بعد أن ذكرنا أن هذا التقسيم باطل أي تقسيم الصفة اللازمة إلى مقوم وعارض باطل وأن علمه لازم لذاته
هب أن الأمر كذلك فلم قلت : إن العلم لا يكون ذاتيا على اصطلاحكم ؟
فإذا قال : يلزم من ذلك أن يكون مركبا من الصفات الذاتية والمركب مفتقر إلى جزئه
قيل : هذا أصل حجتكم على نفي الصفات وقد بين فساده من غير وجه وهذه الحجة لا تختص العلم بل ينفون بها جميع الصفات وهي من أفسد الحجج كما قد بين غير مرة وإن كانت قد أشكلت على طوائف من النظار وقادتهم إلى أقوال من أقوال أهل النار وقد تبين فسادها من جهة أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة بل هو اتصاف ذات بصفات لازمة لها وأن لفظ الجزء ليس المراد به اجتماع بعد افتراق ولا إمكان افتراق ولا انفصال شيء من شيء وإنما المراد به ثبوت معان متعددة وهذا مورد النزاع ولا دليل على نفيه بل على ثبوته
ولفظ الافتقار يراد به التلازم وهو هنا حق لا محذور فيه ويراد به افتقار المعلول غلى علة فاعلة وهو باطل وإذا أريد به افتقار الصفة إلى محلها ويسمونه هم افتقار المعلول إلى علة قابلة فهذا لا محذور فيه
ولفظ الغيرين يراد به المتباينان وهو هنا ممتنع ويراد به ما يمكن العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وهو حق وثبوت هذا الغير لا بد منه

الوجه الخامس
أن يقال : هب أن هذه الصفة عرضية باصطلاحكم فيقال له : إذا كان العلم لازما لذاته أو لوجود لذاته إن قدر أن الوجود زائد على الذات لم يكن ثبوت لوازمه مفتقرا إلى غيره فلم يكن هذا منافيا لوجوب الموجود من جميع جهاته فإن المحذور إنما يحصل لو كان حصول العلم ليس من لوازم ذاته بل حصل بسبب غيره فيكون ثبوت الصفة مفتقرا إلى ذلك الغير
أما إذا كان علمه من لوازم ذاته كان واجبا بوجود ذاته وهم يقولون : هو واجب بذاته مع كونه مستلزما للمفعولات المنفصلة ولم يقدح كونها لازمة له في وجوب ذاته فإن لا يقدح لزوم علمه له بطريق الأولى والأحرى

الوجه السادس
أن يقال : لنظار المسلمين في علم الرب قولان : أحدهما : أن علمه واحد بالعين يعلم به جميع المعلومات أزلا وأبدا وعلى هذا التقدير فهو واجب الوجود بصفاته أزلا وأبدا فليس علمه متوقفا على وجود شيء من المعلومات بل إذا وجدت تعلقت المعلومات به
لكن قد يقول أكثر العقلاء من الفلاسفة وغيرهم إن هذا لا يمكن بل علمه بهذا غير علمه بهذا
فيقال : القول الثاني : إن علمه واحد بالنوع وإنه يتعدد بتعدد المعلومات وعلى هذا القول فهل يكون علمه بأن قد كان الشيء هو نفس علمه بأن سيكون ؟ على قولين
ومن النظار من قال : العلم إضافة محضة وأن ذات الرب مقتضية لها بشرط المضاف وسنبين إن شاء الله ما هو الصواب في هذا الباب
وعلى كل تقدير فذاته هي الموجبة لكونه عالما لا أن شيئا من الموجودات جعله عالما وإن كان العلم بأن قد كان مشروطا بوجود المعلوم كما أن رؤيته وسمعه مشروط بوجود المرئي والمسموع فذاك لا يمنع وجوب وجوده بنفسه أزلا وأبدا ولكن عروض هذا السمع والرؤية والعلم بأن قد كان نظير عروض الإضافات له وقد ثبت بصريح العقل واتفاق العقلاء وجوب تجدد الإضافات له
وإذا قيل : الإضافة ليست وجودية والعلم والسمع والبصر أمور وجودية
كان الجواب على هذا القول إلغاء هذا الفرق كما قد قرر في موضعه
ومعلوم أن كون الرب بكل شيء عليما هو أظهر في الأدلة الشرعية والعقلية من كونه لا تقوم به الأمور المتجددة فلو قدر أن لهذا أدلة تعارض تلك وكان ثبوت العلم مستلزما لثبوت الأمور المتجددة للزوم القول بثبوت العلم فإن ثبوت العلم حق ولازم الحق حق فكيف إذا كان ما يمنع الأمور المتجددة إنما هو من أضعف الأدلة ؟
أما المتفلسفة فلا يمكنهم أن يقولوا : قيام الحوادث به يستلزم حدوثه فإن القديم عندهم تحله الحوادث وإنما ظن من ظن منهم أن قيام ذلك يمنع وجوب وجوده وهو غلط ظاهر فإنه لا يمنع وجوب وجوده المعلوم الذي قام عليه الدليل وإنما يمنع ما يختلف في وجوب الوجود حيث ظنوا أن واجب الوجود لا يفعل شيئا باختياره ولا يقوم به شيء باختياره وذلك خطأ محض

الوجه السابع
ويظهر هذا بالوجه السابع وهو أن يقال : قول القائل : أنه واجب الوجود من جميع جهاته - إذا أريد به : أنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه فهذا حق فإنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه
وإن أراد به أن كل ما ثبت له من الأحوال فهو واجب الوجود بمعنى أنه نفسه مقتض لذلك لا يحتاج في ثبوته له إلى غيره فهذا أيضا حق
فإن كل ما ثبت للرب تعالى من الصفات والأفعال فلا يحتاج فيه إلى غيره بل هو الموجب لذلك لكن ما كان لا يمكن وجوده إلا باختياره من الأفعال ولوازم الأفعال فهذا يمتنع كونه بعينه أزليا بل يجب تأخره سواء قيل : إنه عالم بذاته أو قيل : إنه منفصل عنه وهو الموجب له عند وجوده لا موجب له في غيره
وإن قيل : واجب الوجود من جميع جهاته بمعنى أنه لا يجوز أن يتأخر عنه شيء مما يضاف إليه بل كل ذلك يجب أن يكون أزليا - فهذا باطل لا دليل عليه بل الدليل يدل على نقيضه فإنا نشاهد المحدثات دائما وهي حادثة عنه سواء قيل : إنها حدثت بواسطة أو بلا واسطة وحدوثها يستلزم حدوث ما به صارت محدثة وإلا فإذا قدر حال الذات قبلها وبعدها سواء
قيل : حدوث الحوادث ترجيح بلا مرجح وإذا أمكن أن يحدث من غير تجدد أمر يقوم بالفاعل بل نفس الخلق يكون نسبة وإضافة أمكن أن لا يتجدد إلا تعلق العلم القديم بالمعلوم ولا يتجدد إلا نسبة وإضافة بقدر ذلك

الوجه الثامن
وهو أن يقال : لا ريب في تجدد المفعولات شيئا بعد شيء فليس كونه محدثا للحادث المعين بالفعل أمرا لازما لذاته بل صار محدثا له بعد أن لم يكن وهذا خروج لهذه الفاعلية عن القوة إلى الفعل فإما أن يكون كونه فاعلا إضافة محضة ولم يقم بذاته فعل يكون به فاعلا كما يقوله من يقول : الخلق هو المخلوق
وإما أن يقال : بل كونه فاعلا أمر وجودي يقوم بنفسه والخلق غير المخلوق كما هو قول الجمهور من أهل السنة وغيرهم
فإن قيل بالأول فمعلوم أنه إذا قيل : إن كونه فاعلا أمر إضافي أمكن أن يقال : كونه عالما أمر إضافي
ثم للناس على هذا التقدير في الفاعلية قولان : منهم من يقول المكونات حادثة بتكوين قديم وإما عند وجود المكون فلا يحدث شيء
ومنهم من يقول : ليست الفاعلية إلا إضافة محضة أزلا وأبدا فعلى هذا القول يمكن أن يقال في العلم كذلك
وعلى الآخر يمكن أن يقال : بل العلم قديم العين ولكن تتجدد له الإضافات كما يقوله ابن كلاب
وهؤلاء جعلوا العلم ثابتا في الأزل دون التكوين فإذا ثبت أن كونه فاعلا لا يقتضي تكوينا قائما بذاته مع تجدد التكوينات الإضافية فهؤلاء إذا أثبتوا علما قديما وقالوا بتجدد تعلقاته كانوا أبعد عن الامتناع
وأما من جعل الفاعلية أمرا قائما بالفاعل وقال : إنه يتجدد عند تجدد المفعولات فإنه إذا قال بتجدد عالمية بعد وجود المعلوم مع قوله : إنه علم ما سيكون قبل أن يكون كان اقتضاء ذاته لهذه العالمية كاقتضائها لتلك الفاعلية وإذا كان واجب الوجود مع تلك الفاعلية فكذلك مع هذه العالمية

الوجه التاسع
أنه إذا قدر واجب الوجود يقدر على الأفعال الحادثة شيئا فشيئا وقدر آخر لا يمكنه إحداث شيء - قضى صريح العقل أن من أمكنه الإحداث شيئا بعد شيء هو أكمل ممن لا يمكنه إحداث شيء
وإذا قال القائل : هذا كان فيه شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا شيئا فشيئا وذاك كله بالفعل ليس فيه شيء بالقوة
قيل له : كل ما لهذا بالفعل هو للآخر فإن ذاته وصفاته التي يمكن قدمها لازمة له وأما الحوادث التي لا يمكن وجودها إلا شيئا فشيئا فهذا يمتنع أن تكون بالفعل قديمة أزلية فلا تكون بالفعل في الأزل بل لا يمكن أن تكون إلا بالقوة ثم تخرج إلى الفعل بحسب الإمكان شيئا فشيئا وإذا لم يمتز من قدر عدم هذه له بوصف كمال بل المتصف بها أكمل كان نفى هذه عن واجب الوجود نفي صفة كمال لا إثبات كمال له
وهؤلاء النفاة المعطلة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية يظنون أن ما نفوه عن الرب هو كمال له وهو تعظيم له وذلك من جهلهم بل إثبات ما نفوه هو الكمال الذي يكون مثبته معظما للرب
ولكن هم في ذلك نظير إخوانهم من معطلة النبوات الذين قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء وقالوا : الله أعظم من أن يرسل رسولا من البشر
قال تعالى : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس : 2 ]
أو لم يعلموا أن إرسال رسول من البشر يبلغهم رسالات ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم أبلغ في قدرة الرب ورحمته بعباده وإحسانه إليهم وأعظم إثباته للكمال من كون ذلك عنه ممكن له ومن امتناعه عن فعله ؟
وكذلك كونه يخلق الأشياء شيء بعد شيء أبلغ من كونه لا يمكنه إحداث شيء بل عند كثير من الناس - أو أكثرهم - كونه يخلق أكمل من كونه لا يخلق كما قال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ]
وحينئذ فإذا قيل : جنس الفعل لازم وإنما الحادث أعيانه كان أن يقال : جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى بل إذا قيل : جنس الخلق حادث
أمكن أن يقال : نفس العلم لازم سواء قيل بحدوث شيء معين عند وجود المعلومات أم لا فذاك أبعد عن منافاة وجوب الوجود من كونه فاعلا لما لم يكن فاعلا له

الوجه العاشر
قوله : إذ يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال يقال له : الضمير في هو : إن كان عائدا إلى الله كان معنى الكلام : لولا تلك الأمور الخارجة لم يكن هو تقدير ارتفاع اللازم يوجب ارتفاع الملزوم لكن ارتفاع اللازم محال وهم يقولون لو ارتفع المعلول لارتفعت العلة فليس في هذا محذور
وإن كان الضمير عائدا إلى العلم أي : لولا المعلوم لم يكن العلم فهذا أولى أن لا يكون ممتنعا
وإنما حصلت الشبهة أن قول القائل : لولا أمور من خارج لم يكن هو يحتمل شيئين :
أحدهما أن تلك الأمور فاعلة له أو جزء من الفاعل أو هو محتاج إليها بوجه من الوجوه وهذا باطل
والثاني : أن تكون تلك الأمور لازمة لإرادته اللازمة له أو لغير ذلك من لوازم اللوازم وعلى هذا فهي المخلوقة المحتاجة إليه من كل وجه
فإذا قيل : لولا تلك الأمور لم يكن
كان معناه أنه إذا قدر ارتفاعها لزم ارتفاع ملزومها وهذا فرض محال

الوجه الحادي عشر
قوله : ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغير فيه تأثير الأمور السالفة تبطل هذا
فيقال : ذلك الحال إذا قدر تجدده بعد الحادث فإنه لا يلزم عن نفسه فإن العلم أو غيره مما يقوم بنفسه إنما هو لازم عن ذاته لا عن غيره لكن لزومه عن نفسه قد يقال : إنه يكون عند إحداثه لتلك المحدثات على قول من يقول بذلك وأي محذور في هذا ؟ فإن هذا لا ينافي وجوب وجوده بنفسه
هذا لو كان ذلك الغير مخلوقا لغيره فكيف وهو مخلوق له ؟ فكلاهما لازم عنه ما قام به وما انفصل عنه وليس لغيره فيه تأثير إذ كانت نفسه هي الموجبة للجميع
ولا ريب أن العباد يدعون الله فيجيبهم ويطيعونه فيرضى عنهم ويعصونه فيغضب عليهم ويفرح بتوبة التائب كما دلت على ذلك النصوص
وهو سبحانه الخالق لكل ما سواه فليس في الوجود ما يؤثر فيه سبحانه وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق كل شيء
وأما على قول القدرية الذين يقولون بحدوث حوادث بدون خلقه وإرادته فإنهم وإن كانوا ضالين فهؤلاء الفلاسفة النفاة لعلمه أضل منهم
وهم على قولين : منهم من يقول بتجدد أحوال له ومنهم من ينفي ذلك فمن أثبت ذلك قال لهؤلاء - كما قال لهم أبو البركات - فما الدليل على أنه لا يحصل به حال من الأحوال بسبب هؤلاء ؟ ولم قلتم : إن ذلك ينافي وجوب وجوده ؟
وهؤلاء يقولون : أفعال العباد توجب له داعيا إلى الثواب والعقاب

الوجه الثاني عشر
قوله : وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له فكذلك إثبات كثير من التعلقات
فيقال له : إن أردت بالأفاعيل ما وجد فليس في إثبات فعله للموجودات نقص له كيف وهو فاعل لها بالاتفاق ؟ سواء كان فاعلا لبعضها بوسط أو بغير وسط وإذا كان فاعلا لها على وجه التفصيل فيجب أن يكون عالما بها على وجه التفصيل
ومعلوم أنه إذا لم يلحقه بفعلها نقص فأن لا يلحقه بعلمها نقص بطريق الأولى فإن علم العالم بما لا يفعله لا نقص فيه وإن كان المعلوم خسيسا فكيف علمه بما فعله ؟ وإذا كانت لا توجد إلا مفصلة معينة فيجب أن يعلم كذلك وإلا لم يعلم على ما هي عليه
وإن عنى بقوله : إن كثيرا من الأفاعيل لواجب الوجود نقص ما لم يفعله فقياس هذا أن يقول : علمه بما لم يفعله نقص وليس الكلام فيه

الوجه الثالث عشر
أن يقال : أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران
فطائفة تقول : ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع بل كل ممكن ففعله جائز عليه وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له لا لكونه نقصا
وهذا قول الجهمية والأشعرية وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم وعلى هذا لا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص وإذا منعوا هذا في الفعل ففي العلم أولى وأحرى
والقول الثاني : قول من يقول : بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر كالكرامية وغيرهم من المعتزلة وغيرهم نفاة القدر وهو قول كثير من أهل المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية والعامة وغيرهم
وعلى هذا القول فلا نسلم أن ما ينزه عن أن يفعله يجب أن يتنزه عن علمه به فإن العلم يتعلق بالواجب والممكن والممتنع والموجود والمعدوم وأما الفعل فلا يتعلق إلا بما يراد ولا يراد إلا ما هو ممكن في نفسه وما تكون إرادته حكمة على قول هؤلاء
ومعلوم أن الواحد من الناس يحمد بأنه لا يفعل القبيح ولا يحمد بأن لا يعلمه ويعلم حسن فعله ويعلم قبحه ولم يقل أحد قط : إن علمنا بقصص المكذبين للرسل وما فعلوه من السيئات نقص كما أن تلك الأفعال نقص بل المعرفة بالخير والشر من صفات الكمال
وإن قيل : مراده أن العلم يلزم منه التغير أو التكثر
فيقال له : معلوم أن هذا اللازم لفعله المتكثرات والمتغيرات ألزم فإن فعله للمتكثرات والمتغيرات يلزم منه قيام معان في ذاته فليس ذلك نقصا ولا يكون في علمه بها مع هذه اللوازم نقص
وإن قيل : بل فعله للمتغيرات والمتكثرات لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة في ذاته
فيقال : إن كان هذا حقا فعلمه بها أولى أن لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة فإنه من المعلوم بصريح العقل أن اقتضاء الأفعال المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الفاعلة أولى من اقتضاء المعلومات المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات العالمة فإن كل عاقل لفعل محكم عالم به وليس كل علام به فاعلا له
وهؤلاء وإن كانوا قد قالوا في فعله أقوالا باطلة لظنهم أنه لا يصدر عنه ابتداء إلا واحد بشرط فقد لزمهم أن يجعلوا كل شيء مفعول له بوسط أو بغير وسط فكان الواجب أن يقولوا : إنه علام بكل شيء جرى كما هو فاعل لكل شيء جرى إذ الكليات لا توجد في الأعيان إلا جزئية معينة

الوجه الرابع عشر
قوله : بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وهذا من العجائب
فيقال : إن عنيت أنه لا يعزب عنه من حيث هو كلي فهل في هذا ما يقتضي أنه يعلم شيئا من الجزئيات ؟ فإن العلم بالكلي من حيث هو كلي لا يوجب علما بشيء من المعينات الموجودة فمن علم أن كل إنسان حيوان لم يوجب ذلك أن يعلم إنسانا بعينه ولا شيئا من تعيناته ولا عدد الأناسي بل ولا يعلم حيوانا بعينه
وإن عنيت أنه لا يعزب عنه شيء من المعينات فهذا مع قولك : إنما يعقلها على وجه كلي باطل
وقد قال قبل هذا : إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة
فقد ذكر أنها إذا عقلت بالماهية المجردة وما يتبعها فلم تعقل عينها المعينة وإن عقلت معينة فهي محسوسة لا معقولة فالمعينات عنده لا تكون إلا محسوسة لا معقولة وعنده لا توصف بالحس فكيف يقول : إنه لا يعزب شيء شخصي مع قوله : إنه لا يعلم شيئا عن المشخصات المتغيرة ؟

الوجه الخامس عشر
أنه قال : فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا ويتوسط ذلك في أشخاصها
فقد أثبت هنا أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها وذلك كالأفلاك والكواكب مع ما يثبتونه من العقول والنفوس
ثم قال : وإن عقلت الفاسدات بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة
وقد قال : إنه يعقلها بأعيانها فسمى العلم بالأجسام المعينة تارة عقلا وتارة قال : هو حس أو تخيل ليس بعقل وأثبت أنه يعلمها تارة ونفى ذلك أخرى لكونه حسا لا عقلا
وليس الكلام هنا في إدراكها متغيرة أو غير متغيرة بل في إدراك الأجسام المعينة هل يعلمها معينة أم لا ؟ وهل ذلك عقل أو حس ؟ فقد أثبت أنه يعقلها وعلل غيرها بعلة تقتضي أنه لا يعقلها وهذا تناقض بين
ولا ريب أن كلامه هنا إنما ينفي كونه يعلمها متغيرة لئلا يكون متغير الذات ثم يعلل ذلك بأنه لا يعلم الحسيات
لكنه في موضع آخر قال : إن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما يدركها المدرك بآله متجزئة وإن مدرك الجزئيات لا يكون عقلا بل قوة جسمانية
وهنا قد ذكر أن واجب الوجود الجسمانيات التامة بأعيانها فيلزم أحد الأمرين إما أنه جسم يدركها بقوة جسمانية وإما أنه لا يدركها كما قاله أرسطو وإما أن تكون الأجسام تدرك بقوة غير جمسانية كما قاله أبو البركات وقد ناقضه أبو البركات في هذا الفصل وسنذكر إن شاء الله كلامهما
فكلام ابن سينا في العلم متناقض فإنه يثبت أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها وهذا يناقض جميع ما ذكره في نفي العلم أو حصول التغير ولم يذكر على نفي كونه عالما بالجزئيات إلا حصول التغير وأما التعدد فقد التزمه

الوجه السادس عشر
فيقال : الوجه السادس عشر : أن يقال : ابن سينا يثبت علمه بأعيان الباقيات مع كثرتها كما سنذكر لفظه إن شاء الله وما ذكره من الحجة على نفي علمه بالمتغيرات مثل كونه إما متقوم وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة وقوله : تكون حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ونحو ذلك - يلزم من العلم بأعيان الباقيات وأنواع المتغيرات كما يلزم في المتغيرات وإنما يختص بالمتغيرات بحدوث شيء آخر وذاك ليس عنده ما ينفيه بخصوصه فإنه يجوز في القديم أن تحله الحوادث وإنما منع حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله وكل ذلك فضيحة من الفضائح ما يظن بأضعف الناس عقلا أن يقول بمثل ذلك
ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان
وهذه ألفاظ ابن سينا في الإشارات بعد أن قرر بطلان قول من يقول باتحاد العاقل والمعقول : فيظهر لك من هذا أن كل ما يعقل بأنه ذات موجودة تتقرر فيها القضايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر قال : تنبيه : الصورة العقلية قد يجوز بوجه ما أن تستفاد من الصور الخارجية مثلا كما تستفيد صورة السماء من السماء وقد يجوز أن تسبق الصورة الأولى إلى القوة العاقلة ثم يصير لها وجود من خارج مثلما تعقل شكلا ثم تجعله موجودا ويجب أن يكون بما يعقل واجب الوجود من الكل على الوجه الثاني
ثم قال : تنبيه : كل واحد من الوجهين قد يجوز أن يحصل من سبب عقلي متصور لوجود الصورة في الأعيان أو غير موجودها بعد في جوهر قابل للصور المعقولة ويجوز أن يكون للجوهر العقلي من ذاته لا من غيره ولولا ذلك لذهبت العقول المفارقة إلى غير النهاية وواجب الوجود يجب أن يكون له ذلك من ذاته
قلت : فقد بين أن علم الرب هو من نفسه لا من غيره وأن علمه بالمعقولات ليس مستفادا بها بل علمه بها سبب لوجودها وحينئذ فلا يكون علمه مفتقرا إلى معلومه بل معلومه مفتقرا إلى علمه سواء كان المعلوم متغيرا أو غير متغير
ثم قال : إشارة : واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق ويعقل ما بعده من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده ويعقل سائر الأشياء من حيث حدثها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا
ثم قال : إشارة : إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته هو أفضل أنحاء كون الشيء مدركا ومدركا ويتلوه إدراك الجواهر العقلية اللازمة للأول بإشراق الأول ولما بعده منه من ذاته وبعدهما الإدراكات النفسانية التي هي نقش ورسم عن طابع عقلي متبدد المبادئ والمناسب
ثم قال : وهم وتنبيه : ولعلك تقول : إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض لما ذكرت ثم سلمت أن الواجب الوجود يعقل كل شيء فليس واحدا حقا بل هناك كثرة فنقول : إنه لما كان تعقل ذاته بذاته لم يلزم قيوميته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة جاءت الكثرة لازمة متأخرة لا داخلة في الذات مقومة بها وجاءت أيضا على ترتيب وكثرة اللوازم من الذات مباينة أو غير مباينة لا تثلم الوحدة والأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب وبسبب ذلك كثرة أسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته
قلت : فقال : هذا الكلام صريح في ثبوت صفات الله قائمة به ليس إضافية ولا سلوب كما قال : تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب
وهذا مما اعترف به الشارحون لكلامه المنتصرون له وغير المنتصرين

كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرحه : أقول هذا سؤال جيد وتقديره : أنك إذا قلت : الله يعلم جميع الماهيات والعلم عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم فقد حصل في ذاته صور المعلومات بأسرها ثم زعمت أن العالم لا يتحد بالعلم فلزم أن تكون ذات الله محلا لتلك الصورة الكثيرة الغير المتناهية
قال : وحاصل جوابه أنه التزم ذلك وبين أنه لا يلزم منه محذور لأن الدلالة إنما دلت على تنزيه ذات الله عن الكثرة فأما أنه لا يكون في لوازمه كثرة فذلك مما لم يثبت بالدلالة أصلا وقد بينا أن علمه بالأشياء من لوازم علمه بذاته فتكون الكثرة الحاصلة بسبب علمه بالأشياء كثرة في لوازم ذاته وكثرة اللوازم لا توجب الكثرة في الملزوم فإن الوحدة التي هي أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة يلزمها لوازم غير متناهية من كونها نصفا للإثنين وثلثا للثلاثة وربعا للأربعة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له
ثم قال بعد ذلك : فالأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب وبسبب ذلك كثرة أسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانيته ذاته
قال الرازي : وأقول : إن هذا الكلام يدل على رجوع الشيخ عن مذهب الفلاسفة في مسألتين من أمهات المسائل : أحدهما : أن المشهور من قولهم إن البسيط لا يكون قابلا وفاعلا وهنا اعترف بأن المؤثر في تلك الصور العقلية ذاته والقابل لها أيضا ذاته فالبسيط هناك فاعل وقابل
وثانيتهما : أن المشهور من مذهبهم أنه ليس لله من الصفات إلا السلوب والإضافات وهاهنا اعترف أن لله كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب فأثبت لله صفات ثبوتية غير إضافية وكيف يمكنه أن لا يعرف بذلك ؟ وعنده أن الله عالم بالماهيات والعلم بالأشياء عنده عبارة عن حصول صورة في العالم وتلك الصورة ليست مجرد إضافات لأن مذهبه أن الصورة الحاصلة عند العقل مساوية لماهية المعقول والمساوي للجواهر والكميات والكيفيات في تمام ماهيتها كيف يكون مجرد إضافات ؟
فظهر أن الفلاسفة لا يمكنهم ادعاء تنزه الله عن الصفات الحقيقية

كلام الآمدي
وكذلك الآمدي قال : واعلم أن من أثبت لواجب الوجود من الفلاسفة علما وفسر العلم بانطباع صورة المعلوم في النفس فقد أثبت لواجب الوجود صفة وجودية زائدة على ذاته وناقض أصله في نفي الصفات الوجودية الزائدة لذات واجب الوجود ضرورة لأن انطباع صورة المعلوم في النفس أمر وجودي زائد على الذات

كلام الطوسي في شرح الإشارات
ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ابن سينا ومع هذا فلما شرح هذا الفصل قال : تقرير الوهم أن يقال : إنك ذكرت أن المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها ببعض بل هي صور متباينة منفردة في جوهر العاقل وذكرت أن الأول الواجب يعقل كل شيء فإذن معقولاته صور متباينة متقررة في ذاته ويلزمك على ذلك أن لا تكون ذات الأول الواجب واحدا حقا بل تكون مشتملة على كثرة
قال : وتقرير التنبيه أن يقال : إن الأول لما عقل ذاته بذاته وكانت ذاته علة للكثرة لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته بذاته فتعقله للكثرة لازم معلوم له فصور الكثرة التي هي معقولاته هي معلولاته ولوازمه مترتبة ترتب المعلولات فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة وذاته ليست بمتقومة بها ولا بغيرها بل هي واحدة وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علمها الملزومة إياها سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة لها فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته المتقدم عليها بالعلية والوجود لا يقتضي تكثره والحاصل أن الواجب واحد ووحدته لا تزول بكثرة الصور المعقولة المقررة فيه
قال : فهذا تقرير التنبيه وباقي الفصل ظاهر
قال : ولا شك في أن القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا وقول بكون الأول موصوفا بصفات غير إضافية ولا سلبية على ما ذكره الفاضل الشارح يعني الرازي
وقول بكونه محلا لمعلولاته الممكنة المتكثرة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقول بأن معلوله الأول غير مباين لذاته وبأنه تعالى لا يوجد شيئا مما يباينه بذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه تعالى وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل بالمعقول إنما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني
قال : ولولا أني اشترطت على نفسي في صدر هذه المقالات أني لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفا لما أعتقده لبينت وجه التقصي عن هذه المضايق وغيرها بيانا شافيا لكن الشرط أملك ومع ذلك فلا أجد في نفسي رخصة أن لا أشير في هذا الموضع إلى شيء من ذلك أصلا فأشرت إليه إشارة خفيفة يلوح الحق منها لمن هو ميسر لذلك
قال : فأقول : العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو واعتبر في نفسك : أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك لك هذه الحال فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه ؟
قال : ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها فإنك تعقل ذاتك مع كونك لست بمحل لها بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة الذي هو شرط تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك
ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة من غير أن تحل فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه
وإذ تقدم هذا فأقول : قد علمت أن الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلا في اعتبار المعتبرين على ما مر وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول فإذا حكمت بكون العلتين : أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا : أعني المعلول الأول وعقل الأول له شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول والثاني متقررا فيه وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك
ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأول الواجب ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة
قال : فهذا أصل إن حققته وبسطته انكشفت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكلية والجزئية إن شاء الله تعالى و { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } [ المائدة : 54 ] ولولا أن تلخيص هذا البحث على هذا الوجه الشافي يستدعي كلاما بسيطا لا يليق أن نورد أمثاله على سبيل الحشو لذكرت ما فيه كفاية لكن الاقتصار هنا على هذا الإيماء أولى

الرد على كلام الطوسي من وجوه
قلت : فليتدبر العاقل الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل وما قاله غيرهم كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى لما كان ابن سينا - وهو أفضل متأخريهم - قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح مع موافقته للنقل الصحيح فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به ما يظهر لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدميين وأشبه الأشياء بأقوال المجانين
ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها لما ألحدت في صفات الله تعالى وأرادت نصر التعطيل وقعت في هذا الجهل الطويل فجعل نفس الحقائق المعلومة الموجودة المباينة للعالم هي نفس علم العالم بها ولا ريب أن هذا أفسد من قول من جعل العلم نفس العالم كما يقوله طائفة من النفاة كابن رشد ونحوه وقول أبي الهذيل خير منه
ولا ريب أن من جعل نفس المخلوقات نفس علم الخالق بها فقد أتى من السفسطة بما هو من أعظم الأشياء فرية على الخالق تعالى وعلى مخلوقاته وما هو من أظهر الأقوال فسادا عند كل من تدبره
والحمد لله الذي جعل أقوال الملحدين يظهر فسادها لكل ذي عقل كما علم إلحادهم كل ذي دين هذا مع تعظيم أتباعهم لهم ونسبتهم لهذا ونحوه إلى التحقيق في المعارف الحكمية والعلوم الإلهية
ثم إن هذه اللوازم الظاهرة لفساد بناها على مقدمة ستسلفها ممن سلمها له من أشباهه وأقرب الأشياء شبها بهذا القول قول أهل الوحدة الذين يقولون : وجود المخلوق عين وجود الخالق فإن أولئك جعلوا الوجودين وجودا واحدا وهذا جعل نفس علم الخالق ووجود المخلوق شيئا واحدا فتلك وحدة في وجوده وهذه وحدة في علمه مع وجود المخلوقات
ولا ريب أن قول النصارى بالاتحاد والحلول أقرب إلى المعقول من قول هؤلاء فإن أولئك يجعلون الكلمة التي هي عندهم جوهر قد تجدد له اتحاد بالمسيح وهؤلاء جعلوا نفس علمه اللازم له الذي لم يزل ولا يزال هو نفس المخلوقات كلها
ونحن نبين فساد مقدماته التي استسلفها وفساد نتائجه التي استنتجها
أما قوله : العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة تلك الصادر التي بها هو هو

الوجه الأول
فيقال : كلا المقدمتين ممنوع فلا نسلم أنه لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته ولا نسلم أنه إذا كان كذلك لا يحتاج في إدراك ما يصدر عنه إلى صورة غير صورة الصادرة عنه
والمقدمة الأولى له فيها سلف وعليها بنى طائفة من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين كالسهروردي المقتول كلامهم في مسألة العلم وإن كان جماهير العقلاء من بني آدم يقولون : إن فساد هذا معلوم بالضرورة
حتى قال الرازي : وأعلم أنه لولا ولوع الناس بكل كلام هائل لا يخلصون حقيقته لما احتيج إلى الكلام على قولهم : إن الشيء الأحدى الذات عقل وعاقل ومعقول من غير تعدد صفاته وأما هذه الثانية فما علمت له فيها سلفا
فنقول في الأولى التي ذهب إليها بعض سلفه لم قلت : إن العالم إذا علم نفسه لم يكن علمه بنفسه إلا مجرد نفسه ؟ وما الدليل على ذلك ؟ وهل هذه إلا مجرد الدعوى ؟
ثم إنها دعوى معلومة الفساد بالضرورة وبالأدلة فإن الإنسان حاله قبل أن يعرف نفسه خلاف حاله إذا عرفها : يعلم أنه حصل له علم لم يكن مع أن نفسه لم تزل ويعلم أنه إذا قال : علمت نفسي كان في هذا زائد على قوله : كانت نفسي
وإذا قال : علمي بنفسي موجود علم أن هذا زائد على قوله : نفسي موجودة وقوله : علمت نفسي كقوله : أحببت نفسي وظلمت نفسي ورأيت نفسي فهل يكون حبه لها وظلمه لها ورؤيته لها هو ذاتها ؟ !

الوجه الثاني
ومن الأقوال المشهورة عند الناس : من عرف نفسه عرف ربه فلو كانت معرفته بنفسه هو نفسه لكان كل أحد عارفا بنفسه وبربه
ثم إن العاقل يتبين له كل وقت من أحوال نفسه ما لم يكن متبينا له قبل ذلك فيزداد عقلا ومعرفة وتبينا لنفسه ويجد ذلك فيه وجودا ضروريا كما يجد علومه الضرورية فكيف يكون علمه بنفسه ليس فيه زيادة على مجرد نفسه التي كانت قبل العلم بها ؟
وقول القائل : العاقل لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو
يقال له : من المعلوم بالضرورة أن إدراك ذاته ليس هو عين ذاته بل إذا قدر ذاته بدون إدراكها وقدر ذاته مع إدراكها كان إدراكها قدرا زائدا على ذاته بدون إدراكها وهذا الإدراك غير الذات الخلية عن إدراك فهذا معلوم بالحس والضرورة
ثم إن كان القائل ممن يقول : الإدراك هو انطباع صورة المعقول في العاقل أو يقول : الإدراك هو نفس تلك الصورة أو هو إدراك تلك الصورة أو يقول : ليس هناك صورة بل الإدراك علم بالمدرك بلا صورة أو يقول : هو نسبة بين المدرك والمدرك بلا صورة فأي قول في هذه الأقوال قاله فلا بد له أن يجعل الإدراك ليس هو المدرك فليس العلم هو نفس المعلوم كما أنه ليس هو العالم بل يعقل بالضرورة الفرق بين العالم والمعلوم والعلم كما يعقل الفرق بين المريد والمراد والإرادة والمرئي والرائي والرؤية والمسموع والسامع والسمع والمحبوب والمحب والمحبة
لكن إن كان الواحد هو العالم والمعلوم والمحب والمحبوب بحيث يقال : إنه يعرف نفسه ويحب نفسه فهنا مع كونها العالم والمعلوم والمحب والمحبوب فليس علمها بنفسها وحبها نفسها هو ذات نفسها بل يمكن تقديرها غير عالمه بنفسها ولا محبة لنفسها ويمكن تقديرها مع علمها وحبها
ويعلم أنه مع تقديرها الوجود هناك أمر موجود زائد على تقدير العدم هذا مع أن جهة كونه عالما غير جهة كونه معلوما وإن كانت الذات واحدة وأما نفس العلم فليس هو لا ذات العالم ولا ذات المعلوم
وقول القائل : الشيء لا يضاف إلى نفسه كلام مجمل فإن عنى به أنه لا يضاف في اللفظ فهذا ليس بحثا عقليا مع أنه ممنوع فإنه قال : نفسه وذاته وليس الكلام في هذه
وإن أراد بذلك ما نحن فيه وهو أن ذاته لا تتعلق بها الصفات الثبوتية الإضافية كالعلم والحب والظلم فلا يكون عالما بنفسه ولا محبا لها ولا ظالما لها - فهذا مكابرة
ثم لو قدر أن إدراكه لذاته ليس فيه صورة عقلية غير صورة ذاته التي بها هو فلم قلت : إنه يلزم مثل ذلك في إدراك كل شيء ؟ والذين فرقوا قالوا : ذاته لا تضاف إلى ذاته وهذا الفرق منتف فيما سواهما
قالوا : ليس بينه وبين ذاته واسطة أقرب من ذاته إلى ذاته وهذا منتف فيما سوى ذاته
وقالوا : العلم هو العالم وليس هو المعلوم فعلمه بذاته هو نفس ذاته بخلاف علمه بغيره
وبالجملة فهم قد ذكروا فروقا إن كانت صحيحة بطل الجمع وإن كانت باطلة منع الحكم في الأصل
أما كون الحكم في الأصل يوجد مسلما مع قياس العلم بما سواه على العلم بنفسه في أن كل عالم بمعلوم هو نفس المعلوم وليس هناك علم زائد على المعلوم - فهذا مردود بصريح العقل ومجرد تصوره التام كاف في العلم بفساده

الوجه الثالث
أن يقال : قوله : فلا يحتاج في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو قضية معلومة الفساد بالضرورة فإن الإنسان يجد من نفسه أنه إذا أراد أن تصدر عنه صورة خارجية من قول أو فعل فإنه يتصور في ذهنه ما يريد أن يظهره قبل أن يظهره ويميز بين الصورة التي في ذهنه وبين ما يظهره بقوله وفعله
والفلاسفة مع سائر العقلاء متفقون على هذا ويقولون : أول الفعلة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك ويقولون : العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود وجمهور العقلاء يقولون : السابق هو تصور العلة الغائية وإرادتها
وأما ابن سينا ونحوه من الفلاسفة فيقولون : بل نفس العلة هي السابقة في الذهن ويقولون : العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية
وجمهور العقلاء لا يجعلونها علة فاعلية بل يقولون : تصور الفاعل لها وإرادته لها به صار فاعلا فلولا تصور الغاية والإرادة لها لما كان فاعلا فتصورها وإرادتها شرط في كون الفاعل فاعلا وهي مقدمة في التصور والإرادة وإن تأخرت في الوجود
ففي الجملة العاقل الفاعل فعلا باختياره يتصور ما يريد أن يفعله في نفسه ثم يوجده في الخارج فتلك الصورة الموجودة في الخارج بفعله ليست هي الصورة المعقولة في ذهنه كمن أراد أن يصنع شكلا مثلثا أو مربعا أو يصنف خطبة أو يبني دارا أو يغرس شجرا أو يسافر إلى مدينة فإنه يتصور ما يريده ابتداء فتكون له صورة عقلية في نفسه قبل صورته التي توجد في الخارج وهو معنى قولهم : أول البغية آخر الدرك أي أول ما تبغيه فتريده وتطلبه هو آخر ما تدركه وتناله
وهذا العلم هو العلم الفعلي المشروط في الفعل وعلم الرب عندهم فعلي فكيف يكون نفس علمه به هو نفس المعلوم الذي أبدعه في الخارج ؟ وهل يقول هذا من يتصور ما يقول ؟

الوجه الرابع
قوله : واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك إلى قوله : وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه ؟
فيقال له : هذا تلبيس لا يروج إلا على جاهل أو متجاهل فإن هنا أمرين : أحدهما : الشيء الموجود في الخارج وهذا هو الذي يقال : إن تعقله ارتسام صورته في العالم والثاني : نفس الصورة العلمية التي في العاقل المطابقة لهذا المعلوم فهذه الصورة لم يقل أحد : إنها تفتقر إلى صورة أخرى فإن هذه هي العلم
وهم قالوا : إن العلم صورة مطابقة للمعلوم والعلم من حيث هو علم لا يجب أن تكون له صورة غير نفسه في العقل تطابقه اللهم إلا إذا قيل : إن ذلك العلم صار معلوما فتكون له صورة من حيث هو معلوم لا من حيث هو علم
وقوله : إنك تعقل شيئا بصورة تتصورها وتستحضرها فهي صادرة عنك وأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها
فيقال : قوله : صادرة عنك إنما تعرف فيما يفعله الإنسان أما حصول الصورة العلمية في نفسه فهذا قد يكون ضروريا حصل بغير فعل منه وإن كان نظريا فهو ضروري بعد وجود سببه
ولهذا من يقول : المتولدات ليست مكتسبة يجعل جمهورهم العلوم كلها ضرورية كما قال أبو المعالي : والمختار عندنا أن العلوم كلها ضرورية وحينئذ فلا تكون تلك الصورة العقلية صادرة عنه بل هي حاصلة في ذاته بغير اختياره
وعلم الرب القديم اللازم لذاته كعلمه بنفسه لا يقال : إنه صادر عنه ولا مفعول له بل هو كحياته ولكن ما يتجدد من سمع وبصر وعلم بالكائن كائنا فهذا من أثبته فإنه يمكن أن يجعله صادرا عنه
وأما علمه بالأشياء التي يريد أن يفعلها قبل فعلها فهذا للناس فيه كلام بحسب تنازعهم في هذا الأصل
وعلى كل قول وبكل تقدير ليست صورة المعلوم التي خلقها وأبدعها هي نفس علمه به وإذا سمي العلم صورة عقلية فليس هذا هو ذاك
وإذا قيل : إن عقل العاقل للصورة الموجودة لا يكون إلا بصورة عقلية لم نقل : إن الصورة العقلية لها صورة أخرى
ولكن للناس هنا نزاع وهو أن العلم بالعلم هل يحصل بالعلم أم لا بد من علم ثان ؟ وكذلك العلم الثاني هل يفتقر إلى ثالث ؟ فمن أثبت ذاك بطلت الحجة على قوله ومن نفي ذاك قال : العلم يعلم به غيره فلأن يعلم هو بنفسه بطريق الأولى كالنور الذي يرى به غيره ويرى هو بنفسه فلا يلزم إذا احتاج ما ليس بعلم إلى صورة عقلية أن يحتاج نفس العلم إلى صورة عقلية غير العلم بل من علم شيئا علما تاما علم أنه عالم ومن نصر القول الأول يقول : قد يعلم المعلوم ويذهل عن كونه عالما به
فإن قيل : هذا لا يتصور في حق الله تعالى فإنه يعلم المخلوقات ويعلم أنه عالم بها فإذا كان العلم بكونه عالما ليس هو العلم بالمعلوم المنفصل لزم وجود علوم لا تتناهى
وهذا هو الذي احتج به الطوسي فيقال : علمه بنفسه يوجب كونه عالما بصفاتها ومن صفاتها كونه عالما بهذا وهذا فعلمه بنفسه يتضمن العلم بكونه عالما بالمعلومات وهذا العلم ليس هو العلم بالمعلومات المخلوقات لكن هو مستلزم له فعلمه تعالى بنفسه مستلزم للعلم بجميع صفاته يمتنع وجود أحدهما دون الآخر فليس هناك علمان متباينان بخلاف علمه ومخلوقه المعلوم فإن هذا مباين لهذا
والعلم محله نفسه المقدسة والمخلوق ليس بمباين له فكيف يكون هو إياه ؟ وهو سبحانه يعلم الشيء قبل وجوده فيكون العلم به موجودا والمعلوم لم يوجد بعد
وهذا بخلاف علمه وعلمه بعلمه فإنه يمتنع وجود أحدهما دون الآخر فيمكن أن يقال : علمه بنفسه يتضمن العلم بعلمه فلا يوجد بدونه كما يوجد علمه بالمخلوقات قبل وجود المخلوق

الوجه الخامس
قوله : بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب
فيقال : تضاعف هذا الاعتبار هو الذي يريده من يقول بتضاعف الصور فإن مقصودهم أن العلم بالعلم بالشيء ليس هو العلم بالشيء ثم كون العلم صورة المعلوم في العالم أو إدراك الصورة أو إدراكه بلا صورة أو نسبة أو غير ذلك - نزاع في حقيقة العلم
والمقصود هنا أن علم العالم بالمعلوم ليس هو المعلوم وهو يريد أن يقرر أن العلم بالمعلوم عين المعلوم كما أن العلم بالعلم بالمعلوم هو نفس العلم المعلوم وجوابه إما بالمنع وإما بالفرق
فإن كان العلم بالعلم زائدا على العلم منع الحكم في الأصل وإن لم يكن زائدا فالفرق حاصل وهو يريد التسوية بين العلم بالعلم وبين العلم بالمعلوم
ونقول : إذا كان ذاك المعلوم هو نفس العلم فكل معلوم نفس العلم وكلا المقدمتين ممنوعة ولقد قرر أنه لم تنحل هذه الشبهة فنحن نعلم علما ضروريا أن هذا سفسطة وأن من جعل نفس المعلوم الموجود المخلوق هو نفس علم العالم به فهو مكابر جاحد للخالق

الوجه السادس
قوله : ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها فإنك تعقل ذاتك مع أنك لست بمحل لها بل إنسا كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك الذي هو شرط في تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول
فيقال : هنا صورتان : الصورة الموجودة في الخارج والصورة المعقولة المطابقة لتلك المسماة بالعلم
فإن أريد أن كونه محلا للصورة العقلية ليس شرطا في تعقل الصورة العقلية فهذا باطل فإن تعقلها لا يكون إلا بحصولها له والصورة العقلية لا تحصل له إلا إذا قامت به بل الصورة العقلية لا تكون إلا حالة في الإنسان لا تكون حاصلة له بدون الحلول أبدا
وكذلك كل عالم لا بد أن يكون العلم قائما به وحصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع فإن العلم لا يقوم بنفسه ولو قدر قيامه بنفسه لم تختص به ذات دون ذات فلا تكون الذات عالمة علما إن لم يكن ذلك العلم قائما بها
وهذا مما رد به على جهم حيث قال : إن الرب عالم بعلم لا يقوم به لامتناع قيام الصفات به
كما رد به على البصريين من المعتزلة قولهم : مريد بإرادة لا تقوم به
وقول هذا الطوسي شر من قول جهم فإن جهما وإن قال : إنه عالم بعلم لا يقوم به - فالعلم عنده ليس هو المعلوم
وهذا يجعله عالما بعلم منفصل عنه ويجعل العلم هو المعلوم
فإن حقيقة قول النفاة للصفات من الفلاسفة من جنس قول النفاة لها من الجهمية فيشتركان في التعطيل ويفترقان في مسائل الحدوث والقدم
ولهذا وصى ابن سينا بملازمة قول النفاة للصفات فإن القول بالحدوث ممتنع على أصلهم فالنفي حجة له عليهم بخلاف مثبتة الصفات فإن فساد قول الدهرية على قولهم ظاهر
وإن أراد أن تعقل الموجود في الخارج ليس مشروطا بحصول الصورة العقلية فقد اعترف هو بثبوت الصورة العقلية وادعى أنها صورة المفعول
ثم نقول : مقصودنا لا يتوقف إلا على إثبات علم قائم بالعالم سواء سمي صورة عقلية أو لم يسم فعقل الوجود في الخارج لا يكون إلا إذا قام بالعاقل عقل له وذلك العقل ليس هو العقل الموجود في الخارج المباين للعاقل وإذا سمي ذلك العقل صورة عقلية وقيل : إن التعقل ليس مشروطا بها كان معناه أن وجود العلم ليس مشروطا بوجود العلم
ومعلوم أن الشيء لا يثبت بدون لازمه فكيف يثبت الشيء مع انتفائه ؟ وهل هذا إلا جمع بين النقيضين : وجوده وعدمه ؟
وحينئذ فكون العالم محلا للعلم شرط في حصول العلم فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع فلا يكون العقل الذي هو العلم حاصلا للعاقل إلا إذا كان العاقل الذي هو العالم محلا لذلك العقل الذي هو العلم كما أن المحب لا يكون محبا إلا إذا كانت المحبة قائمة به وكذلك في الإرادة والكلام وسائر الصفات
وهذا أصل مطرد لأهل السنة : أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يتصف بتلك الصفة غير ذلك المحل
ولهذا قالوا : لو كان كلام الله مخلوقا لكان المتكلم به هو المحل الذي خلق فيه وطرد أئمتهم وجمهورهم هذا في الصفات الفعلية وآخرون كالأشعري ونحوه فرقوا بينهما فرقا كانوا به متناقضين عند جمهور الناس من المثبتة والنفاة
وأما من يقول : عالم لا بعلم يقوم به ومريد لا بإرادة تقوم به ومتكلم لا بكلام يقوم به - فهذا كلام الجهمية النفاة ومن وافقهم من المعتزلة
وهذا الطوسي وأمثاله هم الجهمية النفاة المتفلسفة الملاحدة وهو في التعطيل شر من المعتزلة وغيرهم
وكذلك ابن سينا وأمثاله هم من أتباع الملاحدة النفاة وكان هذا الطوسي من أعوان الملاحدة الذين بالألموت ثم صار من أعوان المشركين الترك لما استولوا على البلاد
وكذلك ابن سينا وقد ذكر سيرته فيما ذكره عنه أصحابه فذكر أن أباه كان بلخيا وأنه تزوج بقرية من قرى بخارى في أيام نوح بن منصور بامرأة منها فولد بها وأنهم انتقلوا إلى بخارى
قال : وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ومقدمهم وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي وكانا ربما تذاكروا ذلك بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه وابتدأوا يدعونني إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي وكان يدعي الفلسفة وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه
ثم ذكر قراءته عليه المنطق وإقليدس والمجسطي
ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين - بني عبيد الباطنية - كالحاكم وأمثاله الذين هم سادة أهل بيته من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه و سلم نسبا ودينا بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول فليس لهم سمع ولا عقل
وقولهم في الصفات صريح قول جهم بل وشرا منه وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم تلقيا عن سلفهم الدهرية وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول صلى الله عليه و سلم
فأصحاب الإشارات هم من جنس هؤلاء لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد
وأما قوله : فإنك تعقل ذاتك ولست بمحل لها
فيقال : ليس من شرط الموجود المعلوم أن يكون هو نفسه حالا في العالم بل أن يكون العلم به حالا في العالم ومن عرف نفسه فلابد أن يقوم في نفسه علم بنفسه فيكون العلم بنفسه حالا في نفسه لا أن تكون نفسه حالة في نفسه ولكن هو يريد أن يسوي بين العلم والمعلوم فيجعل ما لا يشترط في المعلوم لا يشترط في العلم ويجعل العلم نفس المعلوم وهذا باطل كما تقدم

الوجه السابع
قوله : بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك الذي هو شرط في تعقلك إياها فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك
هذا كلام متناقض فإن كونه محلا لتلك الصورة : إذا كان شرطا في حصول تلك الصورة امتنع وجود المشروط بدون شرطه فلا تحصل الصورة له إلا بحلولها فيه لأن الحلول شرط فيها فدعواه بعد هذا أنه يمكن حصولها له بدون الحلول جمع بين النقيضين
وكان ينبغي أن يقول : إنما كان كونك محلا للصورة سببا في حصولها لك والحصول يحصل بهذا السبب تارة وبغيره أخرى ومع هذا فلو قال ذلك كان باطلا أيضا لكن هو يعلم أن هذا الحلول شرط في تعقل العبد وإنما يدعي أنه ليس بشرط في علم الرب

الوجه الثامن
أن يقال : حصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع فإذا كانت الصورة العقلية هي العلم أو كان العلم مستلزما لها لا يوجد إلا بوجودها لكونها شرطا فيه امتنع حصول العلم وحصول الصورة العقلية التي هي العلم أو شرطه أو لازمه للعالم بدون حلولها فيه كما يمتنع مثل ذلك في سائر صفات الحي فيمتنع أن يحصل له علم أو قدرة أو حب أو بغض أو رضى أو سخط أو فرح أو ألم أو لذة أو غير ذلك من صفات الحي بدون حلول ذلك في الحي ولا يحصل ذلك له إلا بحلوله فيه لا مع وجوده مباينا له

الوجه التاسع
أن يقال : مراده بالصورة الحاصلة بلا حلول : إن كان هو مجرد الصورة الموجودة وهو لم يرد ذلك كان حقيقته أن العلم يحصل بمجرد وجود المعلوم فلا يكون هنا علم قائم بالعالم ولا صورة عقلية وهذا مع ظهور فساده فهو يسلم بطلانه في العبد ويقول : إن كونه محلا لتلك الصورة شرط في حصول تلك الصورة الذي هو شرط في تعقله إياها فيجعل الحلول شرطا في الحصول الذي هو شرط في التعقل ويثبت الصورة العقلية القائمة بقلب الإنسان فيمتنع أن يريد بالصورة الحاصلة بلا حلول الصورة العقلية الحاصلة للإنسان
وإن أراد بذلك الصورة الموجودة فلا ريب أنها تحصل من غير حلول بل الحلول فيها ممتنع لكن يقال : ليس في مجرد حصولها للإنسان ما يوجب أن يكون الإنسان عاقلا لها إذا لم يكن في نفسه علم بها بل الحصول الخالي عما يقوم بالعالم من العلم ليس معه علم ضرورة فإن ادعى حصول الصورة العقلية بلا حلول فيمتنع وإن ادعى حصول الصورة الموجودة بلا حلول فهو ممكن لكن وجود العلم بمجرد ذلك من غير شعور يقوم بالشاعر بها ممتنع
وهذا أمر معلوم بالضرورة واتفاق العقلاء لكن هؤلاء القوم يدعون أن علم الله بالأشياء بلا علم يقوم به ويسمونه عاقلا ويفرقون بين عقل وعقل مع جعل العقل جنسا واحدا وهو تناقض بين وقول بلا علم بل مما يعلم بطلانه

الوجه العاشر
أن يقال : قوله : فإذا حصلت تلك الصورة بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله
فيقال : حصول الشيء لغيره بدون حلول فيه لفظ مجمل قد يراد به حصوله في ملكه وقد يراد به حصوله عنده وفي يده وقد يراد به حصوله لينتفع به بوجه معاونا له ومشاركا
فإنه يقال لك : هذا المال وهذه الدار وهذا المملوك ويقال : حصل لك هذا لتستعيره أو تستأجره وقد يقال : حصلت لك هذه المرأة لتتزوجها وهذا الرفيق أو الشريك لترافقه وتشاركه وحصل لك هذا المعلم لتتعلم منه وحصل لك هذا العدو في يديك وقبضتك وأمثال ذلك
ومعلوم أنه ليس في هذه الأنواع من الحصول ما يوجب أن يكون هذا الحصول موجبا للعلم بدون شعور يقوم بالعالم بل إن لم يقم بالحي شعور قائم بنفسه بما حصل له وإلا لم يكن شاعرا بها والشعور أول درجات العلم والعقل فمن لم يكن شاعرا بالشيء كيف يكون عالما به وعاقلا له ؟
فقوله : إذا حصلت تلك الصورة بوجه غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك كلام لا دليل عليه وهو باطل ويكفيه المنع المجرد وهو أن يقال : لا نسلم أن الحصول الخالي عن حلول يكون تعقلا من غير حلول أو يوجب التعقل من غير حلول ونعني بالحلول ما بيناه من حلول نفس الشعور بالشاعر سواء كان هناك صورة عقلية أو لم يكن فكيف وقد رأينا الحصول من غير شعور لا يكون علما في عامة أنواع الحصول ؟

الوجه الحادي عشر
قوله : ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة من غير أن تحل فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه
يقال له : لا ريب أن كونها مفعولة مخلوقة فيه مغاير لكونها قائمة به لكن يجب أن نعرف أنه لم يقل عاقل : إن العلم بالمخلوقات يقتضي حلول المخلوقات بذات الخالق كما أن خلقه لها نفس إبداع ذواتها فلم يقل عاقل : إن الذي هو مخلوق مفعول هو نفس الذي هو حال مقبول حتى نفرق بينهما بأن أحدهما حصول للفاعل والآخر حصول للقابل بل الحاصل للفاعل هو نفس الأشياء المخلوقة كالسماوات والأرض وما بينهما وأما القبول القائم بالقابل فهو العلم بها الذي يسمونه صورة عقلية لا نفسها الموجودة
ولا يقول عاقل يتصور ما يقول : إن العلم حصول نفس الموجودات في العالم فإن كل عاقل يعلم أنه إذا علم النار والشمس والقمر لم تكن هذه الحقائق في نفسه وإن قدر أن أحدا قال ذلك أو قال : إن الحاصل في نفسه مثل حقائقها الموجودة في الخارج في الحد والحقيقة حتى يقول : إن من علم الشمس صار في نفسه شمسا مساوية في الحد والحقيقة للشمس التي في السماء ومن علم النار حصل في نفسه نار مساوية في الحقيقة للنار التي تحرق فهذا القول ظاهر الفساد
وإنما الذي قد يقال : إنه تحصل صورة عقلية تطابق تلك الحقيقة مطابقة ما في النفس لما في الخارج ولهذا يمثلون ذلك بمطابقة الوجه لما في المرآة
فنقول : حصول الصورة العلمية في العالم كحصول الصورة المرئية في المرآة أو في الماء ونحو ذلك ومعلوم أنه لم تحل في المرآة والماء نفس الشمس والوجه ولا ما يساويهما في الحد والحقيقة ولكن صورة تحكيهما وليست هذه الصورة كالصورة التي تحصل في الشمع والطين من طبع الخاتم والرسم فإن تلك عرض منقوش حل في جسم يشبه الآخر بخلاف ما في المرآة فإنه عرض والشمس والوجه جسم وكذلك العلم الذي في القلب والمعلوم القائم بنفسه كالسماء والأرض جواهر فليس هذا مثل هذا
وبالجملة فنحن ليس غرضنا في هذا المقام إلا إثبات قيام العلم بالعالم فإنه أمر موضع الكلام فيه إذ كل أحد يميز بين شعوره بالشيء وعدم شعوره به
أما كون ذلك بانطباع صورة عقلية مطابقة أو مشابهة أو غير ذلك - فليس هذا موضع الكلام فيه إذ المقصود هنا أن ذلك العلم هو المسمى بالصورة العقلية وهو حال في العالم
وليس هذا هو الصورة الموجودة في الخارج ولا فاعل هذا فاعل ذاك ولا قابل هذا هو قابل ذاك فإن العلم بقلبه - قلب العالم - فهو صفة قائمة بالعالم وفاعله هو ما أحدثه فيه
وعلم الله القديم اللازم لذاته قائم به وليس له فاعل وإن كان له موصوف به يسمى محلا ويسمى قابلا
وأما الصورة الموجودة في الخارج فالله سبحانه خالقها والإنسان قد يكون له فعل في بعض الصور ومحلها - إن كانت عرضا - الجسم الذي قامت به كما أن محل الصياغة هو الذهب والفضة ومحل النجارة هو الخشب ومحل صورة الدرهم والدينار والخاتم هو الذهب والفضة ومحل الخياطة الثوب ومحل النساجة الغزل وأمثال ذلك
فقول القائل : حصول الشيء لفاعله غير حصوله لقابله يقتضي أن الشيء الحاصل للفاعل هو الشيء الحاصل للقابل وإنما اختلف الحصولان
وليس كذلك فإن حصول الشيء لفاعله هو حصول نفسه المخلوقة الموجودة كحصول العالمين لرب العالمين فإن كل المخلوقات حاصلة له حصول المفعول لفاعله بل حصولا لا يماثله فيه أحد فإن أحدا لا يخلق كخلقه
وأما حصول المقبول لقابله فإنما المراد به هنا حصول العلم بهذه المخلوقات للعالم بها فإن العلم يحصل له حصول المقبول لقابله لا يراد به أنها نفسها حصلت له حصول المقبول لقابله بحيث حلت فيه وكان محلا لها فهذا هذا

الوجه الثاني عشر
أن يقال : وإذا كان هذا الحصول غير هذا الحصول فأي مقصود يحصل لك بذلك ؟ وأي دليل في ذلك على أن المعلولات - التي هي المخلوقات - إذا كانت حاصلة للخالق الذي خلقها من غير أن يقوم به شعور بها أصلا بل ذاته مع عدم العلم بها كذاته مع وجود العلم بها فيكون عالما بها من غير حلول شيء فيه ؟
وقوله : فهو عاقل إياها من غير أن تكون حالة فيه
يقال له : لم يشترط أحد حلول ذواتها فيه فإن كان هذا الشخص رد قول من أدخل فيه ما يماثلها في الحد والحقيقة فنحن نساعده على ذلك ولا حاجة إلى ما ذكره
ولم يقل أحد من المسلمين : إن الله لا يعلم المخلوقات حتى تحل في ذاته أو يحل في ذاته ما هو مماثل في الحقيقة لهذه المخلوقات فإن كان في سلفه الملاحدة من قال نحو هذا فدونه وإياه وأما سلفنا المسلمون فلم يقل أحد منهم شيئا من هذا
وإن أراد بقوله : من غير أن تكون حالة فيه من غير أن يقوم به علم بها بل يكون حال ذاته مع العلم بها كحالها إذا قدر عدم العلم بها فهذا باطل معلوم الفساد بالضرورة وإذا أثبت علما بجميع المخلوقات يتصف به الرب غير المخلوقات المعلومة حصل المقصود في هذا المقام ويبقى المقام في تفصيل ذلك له مقام آخر

الوجه الثالث عشر
قوله : وإذ تقدم هذا فأقول : قد علمت أن الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود لا في اعتبار المعتبرين على ما مر وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله المعلول الأول فإذا حكمت بكون العلتين : أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا : أعني المعلول الأول وعقل الأول له شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول والثاني متقررا فيه وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك
فيقال : كلا المقدمتين ممنوعة باطلة : التلازمية والاستثنائية المشبه والمشبه به الأصل والفرع
أما قوله : حكمت بكون ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود فهذا لم يحكم به أحد من مثبتة الصفات الذين هم سلف الأمة وأئمتها وجماهيرها على تنوع أصنافهم فلم يقل منهم أحد : إن علمه بنفسه هو عين نفسه وإنما يحكي ما يشبه هذا عن المعطلة الجهمية من أهل الكلام والفلسفة كابن رشد ونحوه بل علمه بنفسه في كونه ليس هو نفسه كعلمه بسائر المعلومات فليس العلم نفس العالم عند أحد من أهل الإثبات للصفات
ولكن هل يقال : إنه غيره ؟ هذا فيه نزاع لفظي
منهم من يقول : إن علمه غيره
ومنهم من يقول : لا هو هو ولا هو غيره
ومنهم من يقول : لا نقول : لا هو هو ولا هو غيره فأنفيهما جميعا بل أقول : ليس هو إياه منفردا وأقول : ليس هو غيره مفردا ولا أجمع بينهما فأقول : لا هو هو ولا هو غيره
وأما السلف والأئمة ك أحمد بن حنبل وغيره فلم يقولوا شيئا من ذلك بل امتنعوا من إطلاق القول بأنه غيره كما لم يطلقوا أنه هو ولم يقولوا : إنه لا هو هو ولا غيره فينفوهما جميعا : لا مجتمعين ولا منفردين بل منعوا من إطلاق لفظ الغير لأن لفظ الغير مجمل يراد به المباين ويراد به ما ليس هو إياه
والجهمي إذا سأل أ دهم عن القرآن : أهو الله أو غيره ؟ فإن قال : هو غيره قال : كل ما هو غير الله مخلوق
ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في المحنة عن القرآن : أهو الله أو غيره ؟ وإذا كان غيره كان مخلوقا - عارضهم بالعلم فسكتوا وقد تكلم على لفظ الغير في الرد على الجهمية
والقول الذي قبله قول الأشعري وطائفة والذي قبلهما قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وطائفة والأول قول الكرامية وطائفة
ومما يدل على قول الأئمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ]
وثبت عنه الحلف بعزة الله والحلف بقوله : لعمر الله فلو كان الحلف بصفاته حلفا بغير الله لم يجز فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم لأن الحلف بالصفة اللازمة حلف بالموصوف سبحانه وتعالى
وقول القائل : الصفات زائدة على الذات ليس كقوله : صفات الله زائدة على الله لأن مسمى اسم الله يدخل في صفاته فإذا قال : الله دخل فيه صفاته فإذا قال : هي غيره أوهم مباينة لله لم تدخل في اسمه
وأما لفظ الذات فقد يراد بها الذات التي يقدر أنها مجردة عن الصفات والصفات زائدة على لفظ الذات
ولفظ الغيرين يراد بهما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر وعلى هذا فالصفة ليست مغايرة للموصوف ويراد بهما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف والعلم غير العالم وهذا هو لغة هؤلاء فنخاطبهم بلغتهم
فإذا قال : الأول عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود
قيل : هذا ممنوع بل عقله لذاته ليس هو ذاته بل هو مفهوم مغاير لمفهوم الذات وإن كانا متلازمين واعتبار المعتبرين : إن كان مطابقا للحقيقة وإلا كان خطأ
وكون الشيء لا يتميز عن الشيء من وجه لا يقتضي أنه لا يتميز عنه من وجه آخر فالطعم لا يتميز عن اللون باللمس ولكن يتميز أحدهما عن الآخر بالرؤية والذوق فلو قدرنا عدم القوة المميزة لم يمتنع الامتياز في نفس الأمر
وكذلك إذا قدرنا صفة لازمة لموصوفها لم نشعر بأحدهما منفكا عن الآخر لم يدل ذلك على أنهما شيء واحد في نفس الأمر
وكذلك الصفات العامة والخاصة في الموصوف الواحد مثل كون الإنسان حيوانا وناطقا وكون الجسم جسما ونباتا وكون اللون سوادا وبياضا وإن لم يتميز هذا من هذا ببعض أنواع الإدراك فإنه يتميز بنوع آخر

الوجه الرابع عشر
قوله : وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول فإذا حكمت بكون العلتين : أعني ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين شيئا واحدا
فيقال : أما كون ذاته علة فمعناه أنها مبدعة فاعلة لمفعولها وأما كون عقله لذاته علة لعقله فليس معناه أن عقل ذاته أبدع عقل مفعوله بل معناه أن عقله لذاته مستلزم لعقله لمفعوله فإن كونه فاعلا له من لوازم ذاته والعلم التام بالملزوم يقتضي العلم بلوازمه فكونه هنا علة بمعنى كونه ملزوما وهناك بمعنى كونه فاعلا
ولفظ العلة فيه اشتراك كثير بحسب اصطلاحات الناس ينبغي لمن خاطب به أن يعرف مقصود المخاطب به فقد رأيت من غلط الناس بسبب اشتراك هذا اللفظ لتعدد الاصطلاحات فيه ما لا يمكن إحصاؤه ها هنا
وإذا كان كذلك لم يلزم من كون ذاته الفاعلة وعلمه بنفسه شيئا واحدا - إذا قدر أن الأمر كذلك - أن يكون مخلوقه المباين له وعلمه بهذا المخلوق شيئا واحدا لأن المخلوق مباين له وعلم الخالق صفة للخالق قائمة به فلم يكن العلم قائما بالمخلوق كما كان عقله لذاته قائما بذاته
وهناك إنما جعل من جعل عقله عين ذاته لكون العلم هو العالم عندهم لا لكون العلم هو المعلوم عندهم لكن هناك كان ذات العلم والمعلوم واحدة ولم يبق إلا العلم وعندهم العلم ليس بزائد على الذات فقالوا : ذاته وعقله لذاته شيء واحد
وأما هنا : فالعالم مباين للمعلوم والعلم صفة للعالم قائمة به ليس صفة للمعلوم قائمة به فلم يكن جعل المخلوق الذي يسمونه المعلول الأول وعلم الخالق به شيئا واحدا

الوجه الخامس عشر
أن يقال بأن العلم بالمخلوق ليس هو المخلوق علم ضروري لا يمكن دفعه بالشبهات بل القدح فيه سفسطة فإن كان من لوازم هذا كون علمه بنفسه ليس هو نفسه فلازم الحق حق والتزام هذا هو من التزام كون المخلوق هو نفس علم الخالق وإن لم يكن من لوازم هذا كون علمه بنفسه هو نفسه فقد بطلت الحجة
وهذا بين جدا إذا تصور الإنسان نتيجة مقدماته وهو قوله : فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه فهل يقول هذا من يتصور ما يقول ؟ ويقول مع ذلك : إن الله أبدع شيئا من الأشياء فيقول : إن نفس مبدعه المفعول المصنوع المخلوق المباين له هو نفس علمه
وطرد هذا أن تكون السموات والأرض هي نفس علمه بالسموات والأرض والإنسان هو علم الله بالإنسان
والإنسان مولود كان في بطن أمه فيكون علم الله مولودا كان في بطن أمه فهل قالت النصارى مثل هذا القول الباطل ؟ !

الوجه السادس عشر
قوله : فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك
فيقال له : ليس كل أحد يقول : إنه يحتاج إلى صورة مستأنفة بل من يقول : إنه يعلم الأشياء قبل وقوعها وأن علمه بها بعد الوجود هو ذلك الأول لا يقول : إنه تكون هناك صورة مستأنفة فهؤلاء لا يلزمهم ما ذكرت
فإن قلت : قول هؤلاء ضعيف لأن العلم بأن الشيء سيكون ليس هو العلم بأن قد كان
قلت لك : معلوم أن قولك : إن نفس علم الخالق هو نفس المخلوق أشد امتناعا في العقل من هذا فعجل العلم بأن سيكون هو العلم بأن قد كان إن كان باطلا فهو أقرب إلى العقل من جعل العلم نفس المخلوق وإذا كان أقرب إلى العقل كان التزامه - إن كان تجدد العلم محذورا - أولى من التزام ذاك وإن لم يكن محذورا التزم ذاك

الوجه السابع عشر
أن يقال : لم قلت إن استئناف علم يحل ذات الأول بعد وجود المخلوق محال ؟
وقولك : إنه يتعالى عن ذلك فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ومنازعك يقول : إنك أنت الظالم المفتري على الله الذي سلبته صفات الكمال ووصفته بصفة الجهل وقلت فيه المحال وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال
وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين وما فطر الله عليه عباده أجمعين وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين ووصفوا ربهم بأنه يسمع كلامهم ويرى أعيانهم ويسمع سرهم ونجواهم
وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك ولم تجعل له علما سوى المخلوقات والمخلوقات ليست علما باتفاق أهل الفطر السليمات فتعالى الملك الحق عن قولك وقول أمثالك المفترين الملحدين أعداء الأنبياء شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
وأنت فليس لك دليل أصلا ينفي ذلك فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته لا دليل لك على نفيه إلا ما تنفي به الصفات كما نفيت العلم
ومعلوم أن هذا من أفسد أقوال الآدميين وغاية ما تقوله أنت وأصحابك : إن ذلك يستلزم التكثر والتغير وهما لفظان مجملان فذاك لا يستلزم تكثر الآلهة بل الرب إله واحد وإنما يستلزم تكثر علمه وكلماته وهذا حق وهو من أعظم كمالاته
وأما التغير فليس المراد به استحالته وإنما المراد أنه يتكلم بمشيئته وقدرته ويحدث الحوادث بقدرته ومشيئته
ومعلوم أن من كان قادرا على أن يفعل بمشيئته وقدرته ما شاء كان أكمل ممن لا يقدر على فعل يختاره يفعل به المخلوقات ولا كلام يتكلم به بمشيئته ولا يرضى على من أطاعه ولا يغضب على من عصاه وهم يعلمون أن الفعل الاختياري القائم بالفاعل صفة كمال بل الحركة عندهم صفة كمال فبأي دليل ينفون ذلك مع تجويزهم حوادث لا أول لها بل إيجابهم لذلك ؟

الوجه الثامن عشر
قوله : ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأول الواجب ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها
فيقال : مضمون هذا الكلام أن الجواهر العقلية لما عقلت الأول لزم أن تعقل كل شيء لأن ما سواه معلول له وأن تكون جميع صور الوجود حاصلة فيها
وفي هذا الكلام من الباطل أنواع :
منها أن يقال : ومن أين لكم أن مخلوق الرب يعلمه علما تاما بحيث لا يخفى عليه من أحوال الرب شيء ؟ بل يعلم الرب كما يعلم نفسه حتى يكون علمه بالرب متضمنا للعلم بكل موجود ؟ وما الدليل على هذا والكتب الإلهية والدلائل العقلية تناقض ذلك ؟
قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [ البقرة : 255 ]
وقال عن الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ]
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } [ الأنبياء : 26 - 28 ]
وقال : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض } [ الأعراف : 187 ] : أي خفي علمها على أهل السماوات والأرض
وقال تعالى : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } [ طه : 15 ] أي أخفيها من نفسي فكيف أطلعكم عليها ؟
وقال : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [ النمل : 65 ]
وقال عن الملائكة : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ]
وقال : { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } [ طه : 98 ] إلى قوله : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } [ طه : 108 - 110 ]
ومنها أن الأول الواجب لم يثبتوا له علما محققا بجزئيات المخلوقات بل ولا بكلياتها فكيف يستفاد من العلم بنفسه العلم بتفاصيلها وهو عندهم لا يعلم تفاصيلها ؟ فإذا لم يستفد العلم بتفاصيلها إلا من العلم به لكونه مبدأ امتنع ذلك
ومنها أن يقال : حصول جميع صور الموجودات الجزئية والكلية على ما هي عليه : إن كان صفة الكمال فالرب أحق بها من مخلوقاته وإن كان صفة نقص فلا موجب لوصف العقول بها
فإن قلتم : أثبتناها للعقول لتعلم جميع الأشياء
قيل : إن كان العلم بجميع الأشياء يمكن بدون حصول صورها في العالم أمكن ذلك في العقل كما أمكن في الأول وإن لم يمكن ذلك وجب إثباتها للأول وكان أحق بذلك من مفعوله فإن الأول إذا كان علمه بالمخلوق نفس المخلوق كان علم العقل به يفيده العلم بالمخلوق من غير قيام صورة المخلوق عنده بل يكفيه ارتسام صورة المخلوق
ومنها : أن يقال : إذا كان العقل المعلول إنما يستفيد علمه بالموجودات من علمه بالأول وهي ليست متصورة في ذات الأول فكيف يتصور في ذات العقل ما لم يتصور في ذات معلومة ؟ وكيف يكون الفرع أكمل من أصله ؟
فإن قيل : علمه بالأول ومعلولاته يوجب الارتسام فاستفاد ذلك من علمه بوجوده لا من علمه بعلمه
قيل : إذا كان هذا صفة كمال فالأول أحق به وإن كان نقصا وجب تنزيه العقل عنه

الوجه التاسع عشر
قوله : والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة
فيقال له : ما هي الصورة التي يعقلها مع الجواهر ؟ أهي / صورة عقلية قائمة به ؟ فهذا عندك باطل وليس عندك إلا الموجودات
أم صور أخرى منفصلة عنه مقارنة للموجودات فيكون علمه بها خارجا عن ذاته مقارنا لها ؟ وهذا أيضا باطل كما تقدم
أم تعني بالصور الماهيات التي تدعي أنت وسلفك أنها ماهيات غير مجعولة مقارنة للموجودات ؟ فتلك لم تذكرها وكيف نعلمها وهي عندك غير مجعولة له حتى يكون جعله لها يوجب العلم بها كما ذكرت ؟ ولم يرد شيئا من ذلك وإنما أراد بالصور : الصور العقلية القائمة بالجواهر أي تعقل الجواهر وتعقل عقلها للموجودات ومن جملة عقلها للموجودات عقلها له فهو يعلم علمها له ولكل شيء وهو نفسه ليس له علم عنده إلا وجود المخلوقات فهل هذا القول إلا من أعظم الأقوال فسادا في العقل والدين ؟
ثم قوله : يعقل تلك الجواهر بأعيان تلك الجواهر من العجب فإنه ليس عنده موجود إلا تلك الجواهر فما العقل الذي يكون به ؟ أهو عقل يتصف به ؟ فعنده لا يتصف بعقل يقوم به بل عقله نفس مخلوقاته
فحقيقة قوله : إنه يعقل تلك الجواهر التي هي عقله وهي معقوله ليس له عقل يقوم به

الوجه العشرون
أن يقال : حقيقة القول هذا الرجل هو قول غلاة النفاة للعلم من سلفه وهو أن الخالق تعالى لا يعلم شيئا : لا نفسه ولا غيره فإن العلم لا يكون إلا بقيام صفة به وإذا كان قيام الصفات به ممتنعا عندهم امتنع كونه عالما بنفسه وبغيره فهذا حقيقة ما قاله
وأما كون المخلوقات هي العلم فكلام لا حقيقة له وإن كان يظن من يجهل معناه أن فيه إثباتا لعلم الله فمن تصوره حق التصور علم أنه ليس فيه إثبات لعلم الله وعلم بذلك أن ابن سينا و ابن رشد و أبا البركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء
ومعلوم أنه إنما دعاهم إلى ذلك القول بنفي الصفات والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه
ونفي هذين هو الذي أوقع نفاة العلم في نفيه فإنهم رأوا إثبات العلم لا يمكن إلا مع إثبات الصفات اللازمة والأحوال العارضة وظنوا وجوب نفي هذين
وإذا كان العلم مستلزما لهذين فلازم الحق حق لا سيما ومهما قدر من توهم تنزيه وتعظيم في نفي لوازم العلم - لأن ثبوت العلم مستلزم ما يظن نقصا من تجسيم وحلول حوادث وغير ذلك - فنفي العلم فيه من النقص والعيب ما هو أحق بتنزيه عنه من لوازم العلم ونفي ما يناقض العلم هو أولى بالنفي من نفي لوازم العلم
والأدلة العقلية الصريحة مع النقلية الصحيحة إنما تدل على إثبات العلم ولوازمه لا يدل شيء منها على نقيض ذلك بل كل ما يظن من لوازم العلم أنه منفي بدليل العقل يوجب ثبوته لا نفيه ولكن هم استسلفوا مقدمات باطلة ظنوها عقلية واحتاجوا إلى القول بلوازمها فألجأهم ذلك إلى الأقوال الباطلة المخالفة لصريح العقول وصحيح المنقول مع أنها من أعظم الفرية على رب العالمين وأعظم الجهل بما هو عليه سبحانه من نعوت الكمال دع ما في ذلك من تكذيب رسله والإلحاد في أسمائه وآياته
والمقدمات الفاسدة التي بنوا عليها أقوالهم هي نفيهم صفاته سبحانه وظنهم أنه لا تقوم به المعاني وإن كانت قديمة النوع أو العين ولهذا كان من تكلم منهم مع التزام هذا الأصل فكلامه ظاهر البطلان مع ما فيه من التناقض
وقد تكلم في ذلك السهروردي المقتول صاحب التلويحات و حكمة الإشراق وغيرهما مع تألهه على طريقتهم ومع أنه في حكمة الإشراق سلك طريقا لم يقلد فيها المشائين بل بين فساد أقوالهم فيها في مواضع وكان كلامه في مواضع متعددة خيرا من كلامهم وإن كانت سمة الإلحاد تتناولهم كلهم
فالمقصود بيان الحق وإذا كان بعضهم ينازع بعضا ويرد عليه وكان أحدهما أقرب إلى الحق في ذلك الموضع من الآخر كان بيان رد بعضهم على بعض بما قاله من الباطل مما يؤيد الله به الحق
فرد عليهم دعواهم أن العقول عشرة وهؤلاء المتأخرون يقولون : إنها الملائكة بلسان أهل الملل ويسميها صاحب حكمة الإشراق الأنوار ويقول : إن قدماء الفلاسفة وفلاسفة الفرس والهند يقولون : هي كثيرة أكثر مما أثبته المشاؤون مع أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما أثبته المشاؤون من العقول لا حقيقة له في الخارج البتة وإنما الحق ما أثبته الله ورسوله من الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء ودلت عليها الدلائل العقلية
والمقصود هنا مسألة العلم

كلام السهرودي في حكمة الإشراق
قال السهروردي : فصل لما تبين أن الإبصار ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء بل كفى عدم الحجاب بين الباصر والمبصر فنور الأنوار ظاهر لذاته فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا يحجبه شيء عن شيء فعلمه وبصره واحد ونوره قدرته إذ النور مباين لذاته
قال : والمشاؤون وأتباعهم قالوا : علم واجب الوجود ليس بزائد عليه بل هو عدم غيبته من ذاته المجردة عن المادة وقالوا : وجود الأشياء عن علمه بها
قال : فيقال لهم : إن علم لزم من العلم شيء فيقدم العلم على الأشياء وعلى عدم الغيبة فإن عدم الغيبة عن الأشياء يكون بعد تحققها فكما أن معلوله غير ذاته فالعلم بمعلوله غير العلم بذاته
قال : وأما ما يقال : إن علمه بلازمه منطو في علمه بذاته فكلام لاطائل تحته فإن علمه سلبي عنده فكيف يندرج العلم بالأشياء في السلب ؟ والتجرد عن المادة سلبي وعدم الغيبة أيضا سلبي فإن عدم الغيبة لا يجوز أن يعني به الحضور إذ الشيء لا يحضر عند ذاته فإن الذي حضر غير من يكون عنده الحضور فلا يقال إلا في شيئين - بل أعم فكيف يندرج العلم بالغير في السلب ؟ ثم الضاحكية غير الإنسانية فالعلم بها غير العلم بالإنسانية والضاحكية علمها عندنا ما انطوى في الإنسانية فإنها ما دلت مطابقة أو تضمنا عليها بل دلالة خارجية فإذا الضاحكية التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى ودون تلك الصورة إنما هي معلومة لنا بالقوة
قال : وما ضربوه من المثال في الفرق بين العلم التفصيلي بمسائل وبين العلم بالقوة بها كمسائل ذكرت فوجد الإنسان من نفسه ملكة وقدرة على الجواب لهذه المسائل المذكورة فهذه القوة أقرب مما كانت قبل السؤال فإن القوة مراتب ولا يكون عالما بجواب كل واحدة على الخصوص ما لم يكن عنده صورة كل واحد وواجب الوجود منزه عن هذه الأشياء ثم إذا كان ج غير باء فسلب باء كيف يكون علما بهما وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام وإن كان علمه بالأشياء هو العلم المتقدم ؟
قال : فإذا الحق في العلم هو قاعدة الإشراق وهو أن علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إما أنفسها أو متعلقاتها التي هي مواضع الشعور المستمر للمدبرات العلوية وذلك إضافة وعدم الحجاب سلبي
قال : والذي يدل على أن هذا القدر كاف هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب فإضافته إلى كل ظاهر له إبصار إدراك له وتعدد الإضافات العقلية لا يوجب تكثرا في ذاته
قال : وأما العناية فلا حاصل لها

الرد عليه
فيقال : قد بين هو بطلان قولهم وما أختاره هو أيضا باطل فإن قوله : علمه بذاته كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته علمه بالأشياء كونها ظاهرة له وذلك إضافة وعدم الحجاب أمر سلبي
يقال له : هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض أو يتضمن أمرا ثبوتيا فإن كان عدما محضا لم يكن هناك علم أصلا فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدما محضا بل نعلم أن قولنا : لا يعلم هو العدم فنعلم أن نفي العلم عدم وإثباته وجود
ومما يبين ذلك أن ثبوت العلم ونفيه يتناقضان فإن كان ثبوته عدما فنفيه ثبوت فيلزم إذا قيل : لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئا ومعلوم أن هذا قلب للحقائق
وأما قوله : والذي يدل على أن هذا القدر كاف هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب
فيقال : إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمرا وجوديا مخالفا لحالة عدم الرؤية كما يجد من نفسه ذلك في العلم
فدعوى كون الرؤية أمرا عدميا مثل دعوى كون العلم أمرا عدميا ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي
ومعلوم أن من لم يشهد شيئا ولم يعلمه فقد عدم الرؤية والعلم فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم فلا فرق بين أن يرى ويعلم وبين أن لا يرى ولا يعلم وهذا تسوية بين الأعمى والبصير العالم والجاهل
وأصدق الكلام كلام الله الذي قال : { وما يستوي الأعمى والبصير } [ فاطر : 19 ] وقال : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى والعالم أكمل من الجاهل
ومعلم هؤلاء أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول وأثبتوا له أمرا حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما
وأيضا فيقال له : قولك : علمه بذاته كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إن أردت بقولك : كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته أي كونه مرئيا لذاته ومعلوما لذاته - كان حقيقة الكلام : علمه بذاته كونه معلوما لذاته وهذا أمر معلوم ليس فيه قدر زائد على ما دل عليه قولنا : هو عالم بذاته
وإن أردت بذلك : أن علمه بذاته كونه في نفسه بحيث يظهر لذاته نورا يتجلى لذاته - كان المعنى أن علمه بذاته معناه : أن ذاته متصفة بما يجب لأجله أن يظهر لذاته فهي متصفة بما يوجب أن تكون معلومة له ظاهرة
وكذلك إن أردت أنها متصفة بما يوجب أن تكون عالمة ظاهرا لها غيرها وكذلك إن فسر بما يوجب كونها عالمة معلومة فسواء فسر ذلك بنفس كونه عالما أو معلوما أو مجموعهما أو رائيا أو مجموعهما إنما يوجب أحد هذه الأمور الستة
فهذا كله لا يمنع كون العلم صفة ثبوتية ولا يقتضي أن العلم مجرد نسبة عدمية بل إذا فسره بمجرد أمر عدمي كان هذا بمنزلة القول الذي رده وهو قولهم : إنه ليس بزائد عليه بل هو عدم غيبته عن ذاته المجردة عن المادة فإذا كان يجعل الظهور الذي أثتبه أمرا عدميا فهو بمعنى عدم الغيبة الذي أثبتوه وأكثر ما يقال إنهم جعلوا العلم نفس عدم الغيبة وأنا أجعله نسبة تستلزم عدم الغيبة فهم فسروه بعدم الغيبة وأنا أفسره بالنسبة
فيقال له : هذه النسبة : إن لم تكن موجودة فهي من جنس عدم الغيبة
ويقال للجميع : عدم الغيبة يكون معه علم بنفسه أو مجرد عدم الغيبة عن نفسه هو العلم ؟
فإذا قالوا بالأول أصابوا وهو قول الرسل وإن قالوا : بل نفس عدم الغيبة هو نفص العلم كان هذا معلوم البطلان فإنه ما من موجود من الموجودات إلا وليس هو غائبا عن نفسه مع كونه كثير منها ليس عالما بنفسه فعلم أن حقيقة العلم أمر مغاير لحقيقة عدم الغيبة
وإن قالوا : إنما قلنا : هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل : الجواب من وجوه :
أحدها : أن حقيقةالعلم : إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم فإن العلم يتعلق بكل معلوم وكل شيء يمكن أن يكون معلوما وهو غير غائب عن ذاته فيجب أن يكون كل شيء معلوما لنفسه ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره
الثاني : أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره فإن كان العلم عدم الغيبة فكل ما كان حاضرا لشيء يجب أن يكون عالما به
الثالث : أن يقال : عدم غيبته عن ذاته المجردة ما تعنون بقولكم : المجردة ؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالما أو معلوما أو يمكن كونه عالما أو معلوما كان معنى الكلام : أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك
ومعلوم أن هذا أيضا عدم فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة إذا لم تغب ذاته عن ذاته كان عالما بها وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك وإن أمكنا معا فعدم الغيبة يستلزم العلم وعدم الغيبة مستلزم للعلم لا أنه نفس العلم
وإن قال : أعني بالمجردة أنها ليست جسما ولا مدبرة لجسم
فيقال : أولا : هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف وجمهور العقلاء ينكرون هذا - حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين : أرسطو وأتباعه لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلا - إما أن يقولوا : ليس قائما بنفسه إلاالجسم كما يقوله ابن حزم وغيره
وإما أن يقولوا : الفرق بين النفس والعقل ليس إلا فرقا عارضا كنفس الإنسان التي هي حال مقارنتها للبدن : نفس وحال مفارقتها : عقل كما يقوله أبو البركات وغيره
وإما أن يقولوا : هذه العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا تزيد على العقل الذي هو عرض قائم بعاقل وإثبات عقل هو قائم بنفسه ليس جسما هو باطل وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر
والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه أو بما لا دليل على صحته
الوجه الرابع : أن يقال : هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي يدعونه لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطا بكونه مجردا ولا مجرد كونه مجردا موجب للعلم بنفسه فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي لم يكن شاعرا فضلا عن أن يعلم أنه عالم
وإذا قيل : كل مجرد حي
قيل : فلا بد أن يقال هذا بالدليل فإن هذا ليس معلوما بنفسه وأيضا فكل حي شاعر سواء قيل : إنه مجرد أو قيل : إنه ليس بمجرد فبدن الإنسان يشعر بأمور كثيرة مع كونه جسما غير مجرد عن المادة على اصطلاحهم
وأما ما اعترض به على قولهم : إن وجوده بالأشياء عن علمه بها وأن هذا يوجب كون الأشياء معلومة له قبل وجودها فتكون ثابتة في علمه وهي أشياء في علمه فيلزم كون علمه أمرا ثبوتيا ويلزم التعدد في علمه - فاعتراض متوجه
وكذلك إذا فسروا العلم بعدم الغيبة عنها فعدم الغيبة لا يكون إلا بعد تحققها فيلزم أن يكون عالما بها بعد تحققها وأن ذلك مغاير لعلمه بها قبل وجودها فإن ذلك العلم سبب وجودها بخلاف الثاني
وكذلك قوله : كما أن معلوله غير ذاته فالعلم به غير العلم بذاته وهذا لازم لأنهم إنما نفوا كون العلم ثبوتيا لما يستلزم من تكثر العلوم وتغيرها إذ كان العلم بهذا غير العلم بهذا
وإذا قالوا : إنه يعلم معلوله ويعلم نفسه لزم أن يكون هذا العلم ليس هذا العلم
وأما قولهم : إن علمه بالمعلول يندرج في علمه بالعلة فقد رده بأمور :
أحدها : أن العلم عندهم سلبي وكذلك التجرد عن المادة وكذلك عدم الغيبة والسلب لا يتضمن العلم بالأشياء وهذا الذي قاله صحيح مع ما تقدم من أن ذلك السبب ليس هو علما فلا هو علم ولا متضمن لعلم
وإذا قدر أن ذلك السلب علم كان تقديرا باطلا وحينئذ فهل يقال : إنه يتضمن غيره من السلوب هذا مما قد ينازعونه فيه ولكن له أن يقول : إن السلب إنما يتضمن غيره غذا كان أعم منه وليس هنا سلب عام ليتضمن سلبا خاصا بل السلب عندهم نفي معنى زائد على نفسه أو نفي المادة عنه أو نفي الغيبة عنه وكل هذا سلب خاص لا يتضمن سلبا عاما
الأمر الثاني : أنه قد بين لهم أن المندرج في غيره هو ما يدل عليه بالتضمن لا بالالتزام فالدال على غيره بالالتزام لا بالتضمن لا يكون مشتملا عليه ولا يكون الثاني مندرجا فيه ومثل ذلك اللوازم الخارجة عن الماهية على أصلهم كالضاحكية فإن الإنسانية ما انطوت على الضاحكية ولا انطوى علم الضاحكية في علم الإنسانية فإنها ما دلت عليها مطابقة ولا تضمنا بل دلالة خارجية فإن هذه اللوازم التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى إنما هي معلومة لنا بالقوة لا بالفعل
فإذا جعلوا علمه بمفعولاته كذلك لزم أن يكون عالما بها بالقوة لا بالفعل وهم قد يضربون لقولهم مثالا وهو العلم بالأشياء جملة مع العلم بها تفصيلا فإن العلم بالمفصل يندرج في العلم بالمجمل وإن كان العلم بالمجمل متضمن تلك التفاصيل وشبهوا ذلك بمن سئل عن مسائل فقد يستحضر العلم بجوابها مفصلا وقد يجد من نفسه علما بجوابها مجملا لم يستحضر العلم بجوابها مفصلا وقد يجل من نفسه علما بجوابها مجملا لم يستحضر تفصيله فيما بعد فأجاب بأن هذا علم بالقوة والقوة مراتب فهو بعد السؤال حصل له من القوة على الجواب أعظم مما كان حاصلا قبله وأما العلم بجواب كل مسألة بخصوصها فلا يحصل إن لم يكن عنده صورة العلم بجواب كل واحدة
ثم ادعى الأصل الذي شاركهم فيه وهو قوله : وواجب الوجود منزه عن ذلك بناء على أنه عندهم لا تقوم به المعاني والصفات المتعددة ومن هذا الأصل منشأ ضلالهم
قال : وإذا كان أحد الشيئين غير الآخر فكيف يكون سلب أحدهما علما بهما وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام ؟ وذلك أنهم يقولون : هو وجود مجرد عن المادة والمجردات غير الماديات فكيف يكون سلب المادة علما بالمجرد والمادة وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام ؟ كيف وهم يقولون : إنه وجود مشروط بسلب كلام ثبوتي فهو وجود بسلب كل ما يعرف من الحقائق وتلك الحقائق مغايرة له فكيف يكون سلبها عنه علما به وبها ؟ وعناية بكيفية ما يجب أن تكون الحقائق معه عليه ؟
فحقيقة قولهم : إنهم جعلوا العلم به والعلم بكل واحد واحد من المخلوقات وعنايته بالمخلوقات المتضمنة لإرادته وحكمته التي باعتبارها انتظمت المخلوقات - جعلوا هذا كله أمرا سلبيا وهو التجرد أو عدم الغيبة أو العقل الذي ليس بمعنى زائد على ذاته وهو عندهم وجود مقيد بسلب جميع الحقائق عنه وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه في الخارج
فإن الموجودين لا يكون المميز بينهما عدما محضا ولو قدر ثبوت هذا لكان كل موجود خيرا منه لأنه امتاز بوصف ثبوتي ومن قال من متأخريهم : له وجود خاص غير هذا الوجود فلم يعرف حقيقة قولهم فإن الوجود الخاص إن امتاز بأمر وجودي فليس هو قولهم وإن لم يميز إلا بالسلب فيكون هذا هو الموجود قد شارك الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنه بالسلب فتكون سائر الموجودات خيرا منه لو كان له وجود
وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك

فصل تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قال ابن سينا في تمام مسألة العلم : ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة
فيقال له : هذا إن كان حقا فهو منتقض على أصلك بعلمه بالأفلاك والكواكب فإنها محسوسة وعندك أنه يعلمها بأعيانها
وقد قال في بيان أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة وأن مدرك الجزئيات لا يكون عقلا بل قوة جسمانية : أما المدرك من الصور الجزئية كما تدركه الحواس الظاهرة على هيئة غير تامة التجريد والتعرية عن المادة ولا نجرده أصلا عن علائق المادة فالأمر فيه واضح سهل وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد موجودة حاضرة والجمس الحاضر الموجود إنما يكون موجودا حاضرا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم فإنه لا نسبة له غلى قوة تفرده من جهة الحضور والغيبة فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه بل الحضور لا يقع إلا مع وضع وقرب أو بعد للحاضر عند المحضور وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما او في المحضور وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما أو في جسم
قال : وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة وعدم تجريد البتة من العلائق كالخيال فهو لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم ارتساما مشتركا بينه وبين الجسم
قال : ولتفرض الصورة المرتسمة في الخيال : صورة زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه بعضها عند بعض فنقول : إن تلك الأجزاء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم في جسم وتختلف جهات تلك الصورة في جهات ذلك الجسم وأجزاؤها في أجزائه
قال : ولننقل صورة زيد غلى صورة مربع ثم فرض مربعين متساويين من كل جهة وقرر أنه لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بمحله

معارضة ابن ملكا لابن سينا
وقد اعترض عليه أبو البركات بما مضمونه أن الأجسام المرئية والمتخيلة كثيرة ومحل ذلك في الجسم لا يكون أكثر من مجموع جسم الإنسان وجسم الإنسان لا يسع مقادير هذه الأجسام
قال أبو البركات : أول المعارضة أن نناقض فنقول وندعي نقيض المسألة المصدر بها وهو أن مدرك الجزئيات فينا من المبصرات والمسموعات وسائر المحسوسات ليس بقوة جسمانية وإذا ثبت في هذه التي هي الأظهر صار بطلانه في النقيض الأخفى والأضعف يقينا
قال : وذلك أن القوة الجسمانية فينا لا يكون محلها أكبر من جسم الإنسان الواحد بجملته وقد قالوا : إنه جزء صغير من أجزائه حيث جعلوا محل القوة الخيالية جزءا من جوهر الدماغ الذي في البطن المقدم من الرأس أو جزءا من الروح الدماغي وهو الذي يختص بهذا الجزء منه ونحن فندرك من المتخيلات ونتصور من الموجودات الجزئية أشياء كثيرة محفوظة في أذهاننا وملحوظة بها يكون الواحد منها أضعافا كثيرة لجسمنا بأسره فكيف للجزء المذكورة من بعض أجزائه ؟
قال : وهو فقد طلب في احتجاحه الأخير جسما يتخيل به السواد والبياض ليثبت كلا منهما في جزء منه غير الجزء الذي أثبت فيه الآخر فكيف أعرض عن المقدار ؟ ونحن إنما ندرك الألوان في الأجسام مع مقاديرها حتى غذا رأيناها مرة أخرى على قدر مخالف عرفنا أنها زادت أو نقصت فلو لم نكن أدركنا المقدار الأول لما حفظناه ولو لم نحفظه لم نعرف الزيادة والنقصان هذا في شخص واحد في تمثله وتخيله فكيف في أشخاص كثيرة جدا نحفظها بأشكالها وصورها ومقاديرها وأوضاعها لا تسعها خزانة من خزائن تسع عدة من أشخاص الناس ؟ بل ولا بلدة من أكبر البلدان ؟ فإن من جملة ما نحفظه في ذلك صورة بلدة مع مقدارها الكبير وأوضاع أجزائها حتى لو صغرت أو كبرت عن ذلك شعرنا بموضع الزيادة والنقصان مقيسا إلى ما استثبتناه وحفظناه
قال : ففي هذا كفاية لمن تأمله بذهن سليم ونظر ثابت
قال : وأما ما قاله من أن المدرك بالحواس الظاهرة فالأمر فيه سهل واضح لأن هذه الصورة إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم فإنه لا نسبة للجسم إلى قوة مفردة من جهة الحضور والغيبة فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه
قال : وأعجب ما في هذا القول استسهاله أذ قال : إن الأمر فيه واضح سهل ولو كان هذا القول حقا على ما قيل لبطلت علائق النفوس الناطقة بالأبدان فإنها ينسب إليها بفي ومع وعند ومقارنة ومفارقة وغيبة وحضور كما ينسب المدرك غلى مدركه ثم لو كان هذا حقا لما أدركنا بعقولنا معنى شيء مما ندركه بحواسنا البتة فإن رأيه هو أن البصر يرفع صورة المبصر غلى الخيال وهو جسماني فالعقل إن أدركها في الخيال فقد أدركها جسمانية أيضا وإن إدركها قوة جسمانية في الخيال نقلها إلى قوة أخرى فأدركها العقل فيها - كان القول كذلك أيضا ولو كانت الوسائط ما كانت إذ كان أو لما يلقاها إما أن يلقاها في قوة جسمانية فيكون حكمها حكم الأولى وإما أن يلقاها في قوة مجردة فحكمها حكم العقل
فإن قيل : إن العقل لا يدركها في القوة الجسمانية بل يرفعها إليه وينتزعها منه أو يجردها فكل تلك العبارات المقولة تقتضي لقاء من الرافع للمرفوع إليه وحضورا من المرفوع عند الرافع وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه والمجرد عند المجرد عنه فلولا نسبة لقاء وحضور وما شئت سمه للنفس إلى البدن لما كان آلة لها وإلى المدركات لما أدركها ولو لم يدركها لما عقلها كلية ولا جزئية وكيف والشيء المدرك واحد في معناه والكلية تعرض له بعد كونه مدركا باعتبار ونسبة وإضافة بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين وهو هو بعينه ؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كليا ولا جزئيا وإنما يدرك من حيث هو موجود لا من حيث هو كلي ولا جزئي وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كليا وجزئيا

تعليق ابن تيمية
فيقال : ما ذكره أبو البركات يدل على تناقض ابن سينا حيث زعم أنه ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه وذكر أن الأمر في ذلك واضح سهل فإن هذا مناقض لقوله : إن النفس ليست جسما مع أن الجسم حاضر عندها لكن هذا التناقض يدل على بطلان أحد قوليه : إما قوله : إن النفس ليس جسما وإما قوله : ما ليس في مكان لا يكون للمكان إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه القضية هي الكاذبة بل قد تكون الكاذبة قوله : إن النفس ليس إلا جسما
ونظير هذا التناقض قوله : إن واجب الوجود يعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها فيعقل الموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها ويتوسط ذلك أشخاصها فإنه إذا كان واجب الوجود يعقل الأفلاك بأعيانها وهي أجسام وقد قال : إن الجسم لا يرتسم إلا في جسم لزم أن يكون جسما
ومع قوله : ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنده
ومع قوله : الجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم
فهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسما وأن تكون النفس على أقواله أيضا جسما
وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك وإنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار والمدرك إذا كان جسما أو قوة في جسم فهو صغير لا يسعها
وهذه حجة ضعيفة فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون : إن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج كما أنهم لا يقولون : إن المرتسم حقيقته مساوية لحقيقة الموجود في الخارج
وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم بأنه لو كان من أدرك النار وجب أن يسخن ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد ومن أدرك الرحى وجب أن يدور ونحو ذلك مما لا يقوله عاقل
ولهذا صاروا يتعجبون بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلا في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج
أما حقيقته فلأن غايته أن يكون عرضا في المرآة والمرئي الخارج يكون جسما موجودا كالسماء والشمس والإنسان وغير ذلك مما يرى في المرآة
وكذلك الإدراك فإنه عرض قائم بالمدرك والمدرك نفسه يكون عينا قائمة بنفسها سواء كان مرئيا أو معلوما بالقلب
وأما قدره فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة رئي كبيرا وإذا كانت صغيرة رئي صغيرا وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج
فكذلك إذا قيل : إن المدرك يتمثل في المدرك لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه
ولهذا يقال : للشيء وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي
ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني هي مطابقة العلم للمعلوم ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج فإن هذا لا يقوله عاقل بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه وبين الحقائق الموجودة في الخارج
ومن أظهر ذلك الخيال فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه وفي حال تغميض عينيه ونومه ويعلم قطعا أنه خياله ومثاله وأنه مشابه له ويعلم قطعا أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج سواء قيل : إنه منطبع في النفس أو في جزء من البدن أو فيهما وسواء قيل : إن النفس تدركه أو قيل : إن المدرك له هو البدن
فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقا ضروريا بين حقيقة ذلك المثال وبين حقيقة الموجود في الخارج وأنه لا يماثله : لا في ذاته ولا صفاته ولا مقداره ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار
وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض ويجتمع فيه المثلان كالسوادين ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع وما له وجود في الخارج وما ليس وجود في الخارج فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي
لكن تلك الأمور مثل خيالية ليست حقائق موجوده في أنفسها وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه فيظنه موجودا في الخارج وطائفة من فلاسفة الصوفية كابن عربي يسمي هذا أرض الحقيقة ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه
وذلك أن الخيال لا حد له بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج أعظم من أن تحصر
فهؤلاء الضالون قالوا : هذا أرض الحقيقة وهو عالم الخيال وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم كما يتخيل للنائم ويتخيل لأحدهم أنه صار إلها ونبيا أو أنه المهدي أو خاتم الأولياء غلى غير ذلك مما يطول وصفه ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه
ومن قال من المتفلسفة : إن النفس ليست جسما وأنكر معاد البدن فمنهم من يقول : إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعما خياليا وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية وقد يقال : إنه أعظم منها كما ذكر ذلك ابن سينا
فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذي جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة
ونحن لا ننكر وجود الخيالات فإن هذا لا ينكره عاقل لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس
والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد ولا يقول أحد : إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها
فقد تبين أن ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية ليس منافيا لعلم الله بالجزئيات بل فيه ما هو دليل على ذلك
ولكن غاية ما فيه تناقضهم حيث يثبتون الشيء دون لوازمه كما أثبت ابن سينا علمه بأعيان الموجودات التامة وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم
وأدلته الصحيحة توجب علمه بالمتغيرات وأنه يعلم الكليات والجزئيات كما سنذكر ألفاظه
وكذلك أبو البركات أثبت علمه بالكليات والجزئيات والمتغيرات لكنه قال في القدر وفي علمه بما لا يتناهى قولا منكرا سنذكره إن شاء الله
وكل من قال في مسألة العلم قولا يخالف النصوص النبوية من أهل الكلام والفلسفة فلا بد أن يكون قوله مناقضا لأصوله الصحيحة مخالفا لصريح المعقول ولهذا كثر اضطراب هؤلاء في مسألة العلم

فصل عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قد تقدم ما ذكرناه من أقوال ابن سينا في تقرير أنه سبحانه عالم بمفعولاته حيث قال : واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق ويعقل ما بعده من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا
فقد ذكر هنا أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته وأما تقرير كونه عالما بنفسه فسيجيء إن شاء الله تعالى

كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا
قال الطوسي في شرح هذا الفصل : لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي ذاتي أشار إلى إحاطته بجميع الموجودات فذكر أنه يعقل ذاته بذاته لكونه عاقلا لذاته معقولا لذاته على ما تحقق قبل ذلك ويعقل ما بعده يعني المعلول الأول من حيث هو علة لما بعده والعلم التام بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول فإن العلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بكونها مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها وهذا العلم يتضمن العلم بلوازمها التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأول من حيث وقوعها في سلسلة المعلولية النازلة من عنده إما طولا : كسلسلة المعلومات المترتبة المنتهية إليه في ذلك الترتيب أو عرضا : كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه لكنها تنتهي إليه من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه وهو احتياج عرضي تتساوى جميع آحاد السلسلة فيه بالنسبة إليه تعالى
قلت : أما قوله : لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي إشارة إلى إحاطته بجميع الموجودات فذكر أنه يعقل ذاته بذاته ويعقل ما بعده
فيقال : علمه بذاته لا يمكن أن يكون فعليا وإنما يكون فعليا علمه بخلقه فإن علمه له تأثير في فعل خلقه وليس له تأثير في وجود نفسه وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فهمه ولعله ما أراد إلا هذا
فإن القدرية من أهل الكلام يقولون : العلم تابع للمعلوم مطابق له لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة وكثير من المتفلسفة يقولون : علم الرب فعلي وقد يجعلون نفس علمه إبداعه
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر وبينا أن العلم نوعان : علم العالم بما يريد أن يفعله فهذا علم فعلي هو شرط في وجود المعلوم إذ وجود المعلوم بدونه ممتنع
ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع من غير قدرة وإرادة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة فإن هذا باطل كما قد بين في موضعه
والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعليا لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطا في وجوده كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه فهذا علم تابع للمعلوم مطابق له ليس فعليا بوجه من الوجوه
وعلم الرب بنفسه من هذا الباب لكن إذا سمي علميا انفعاليا فلا بأس فإنه علم حادث وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة لم يحدث فليس انفعاليا بهذا الاعتبار لكنه مطابق للمعلوم موافق له فعلمه تابع لنفسه ومخلوقاته تابعة لعلمه
والمقصود هنا أنه إذا كان عالما بنفسه لزم أن يكون عالما بخلقه وهذه قضية صحيحة ويمكن تقريرها بطرق :
أحدها : أنه لا يكون عالما بنفسه علما تاما إلا إذا كان عالما بلوازمها والخلق من لوازم مشيئته التي هي من لوازم نفسه فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومشيئته من لوازم نفسه
والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم : إنه علة تامة والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول
ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي والمعنى صحيح فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده فما شاء كان فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه
وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره لا من جهة أن كونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب
ففي الجملة لا يكون عالما بنفسه إن لم يكن عالما بلوازمها وقدرته وإرادته من لوازمها ومراده من لوازم الإرادة فالمفعولات لازمة للإرادة اللازمة لذاته ولازم اللازم لازم ومجرد النظر إلى كونه مستلزما لمفعوله يوجب العلم مع قطع النظر عن توسط الإرادة لكن هي ثابتة في نفس الأمر وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها
وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون : إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته
وأما القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها أو يقولون : أحدث إرادة لا في محل فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق
وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله : { ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] ودلالة الآية تقرر بطريق ثان وهو أن يقال : خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة والإرادة مشروطة بالعلم فإرادة ما لا يشعر به محال وإذا كان إنما يخلق بإرادته وإنما يريد ما يصوره لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه
وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين والقرآن قد دل عليها والعقل الصريح يدرك صحتها وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئا لأنه لا يحيط علما بجزيئات أفعاله فلا يكون خالقا لها وإن كان شاعرا بها من بعض الوجوه ومريدا لها من بعض الوجوه فهو فاعل لها من ذلك الوجه
وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها الأشعري في كون العبد ليس خالقا لفعل نفسه
قال : لو كان خالقا لها لكان محيطا بتفاصيلها واللازم منتف لكن الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة
وطائفة أخرى قالوا : لا يحتاج إلى فرض في العاقل بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علما بتفاصيل أفعاله لكنه يشعر بها من حيث الجملة ولهذا كان العبد لا يريد شيئا إلا بعد شعوره به فهو يتصور المراد تصورا مجملا وإن لم يكن مفصلا وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب ولا علمهم كعلمه كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقا لها
وهذا القول الوسط وهو إثبات كون الرب خالقا لكل شيء ومع كون أفعال العباد مخلوقة له ومع كونها أفعالا للعباد أيضا وأن قدرة العباد لها تأثير فيه كتأثير الأسباب في مسبباتها وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب وليس شيء من الأسباب مستقلا بالفعل بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه وإلى دفع موانع تعارضه ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد
وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله
الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته أن يقال : كل ما كان من صفات الرب وأفعاله فليس هو موقوفا على شيء سواه فلا شريك له بوجه من الوجوه فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته فإذا كان عالما بنفسه لم يكن أن يكون عالما بذاته دون صفاته فإن ذلك ليس علما بنفسه فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته ولا وجود لها وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله وإلا لم يكن عالما بصفاته لأنه إذا علم أنه خالق للعالم لم يعلم كونه خالقه إن لم يعلم العالم وإلا فالعلم بكونه خالقا للعالم مع عدم العلم بالعالم بمنزلة كونه خالقا للعالم بدون وجود العالم وهذا ممتنع فذاك ممتنع
ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقا للعالم يوجب العلم بالعالم وهم يعبرون عن ذلك بكونه علة ومبدأ ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون
وكونه مبدعا وفاعلا فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلا وإلا لم يكن عالما بنفسه والعلم بكونه فاعلا يوجب العلم بالمفعول كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلا لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم بدون كونها فاعلة ممتنع ووجود فعلها بدون العالم ممتنع وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى وكون العلم قديما أو حادثا واحدا أو متعددا فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود إذ كل موجود مفعوله وهذا يتناول علمه بكل موجود وكل موجود جزئي فهو يقتضي علمه بكل جزئي
قال تعالى : { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 13 - 14 ] وقد استدل طوائف من أهل السنة بهذه الآية على أنه خالق أقوال العباد وما في صدورهم
وهذه الآية تدل على كونه عالما بالجزئيات من طرق :
أحدها : من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق
والثاني : من جهة كونه في نفسه لطيفا خبيرا وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وحفيها
ثم يقال : اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره وعلمه بنفسه مستلزم لعلمه بلوازم ذاته كما تقدم فقد تضمن الآية هذه الطرق الثلاثة

اعتراض الرازي على ابن سينا
وقد اعترض الرازي على ما قرره ابن سينا من كون علمه بذاته يستلزم علمه بمفعولاته فقال في شرحه : كنا قد بينا في الأبواب السالفة أنه علام بذاته وبسائر المعلومات والآن نريد أن نبحث عن كيفية حصول تلك العالمية له فنقول :
قد بينا قبل هذا الفصل أن علمه بالأشياء لا بد وأن يكون حاصلا له لذاته فنقول : إنه يجب أن يعلم ذاته بذاته ثم إذا علم ذاته فذاته علة لما بعده يجب أن يعلم من ذاته كونه علة لما بعده فإذا علم ذاته علم لا محالة معلوله ثم يلزم من علمه بمعلوله علمه بسائر المعلولات النازلة من عنده طولا وعرضا وأما طولا فكالعقول التي كل واحد منها علة للعقل الذي تحته وأما عرضا فكما إذا صدر شيئان أو أكثر عن علة واحدة كما يقال : إنه يصدر عن كل عقل : عقل ونفس وفلك معا
قال : ولقائل أن يقول : لم قلتم : إن علمه بذاته يقتضي علمه بمعلوله ؟ بيناه : أنكم إما أن تقولوا : إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعمله بمعلوله أو تقولوا إن علمه بذاته من حيث إنها علة لذلك المعلول يقتضي وجوده بذلك المعلول والأول ممنوع فلم قلتم : إن علمه بذاته المخصوصة - التي من جملة لواحقها واعتباراتها كونها علة لذلك المعلول - يقتضي العلم بذلك المعلول ؟
وظاهر أن هذه المقدمة ليست بدهية بل لا بد فيها من الدلالة وأنتم ما ذكرتم الدلالة عليها
وأما الثاني فباطل لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء والعلم بإضافة أمر إلى أمر مسبوق بالعلم بكل واحد من المضافين فلو كان العلم بذلك المعلول مستفادا من العلم بتلك الإضافة لزم الدور وأنه محال

تعليق ابن تيمية
قلت : فيقال في الجواب عما ذكره الرازي قوله : إن قلتم : إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعلمه بمعلومه فهو ممنوع وهذه المقدمة ليست بدهية فلا بد لها من الدليل
فيقال : هي بعد التصور التام بديهية وبدون التصور التام تفتقر إلى بيان وذلك لأن العلم بذاته المخصوصة لا يكون علما بها إلا مع العلم بلوازمها التي تلزم الذات بنفسها ولا تفتقر في لزومها إلى سبب منفصل فإن هذه اللوازم هي عند نظار المسلمين كلها صفات ذاتية فإنهم لا يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين الذاتي المقوم والعرضي الخارج بل الجميع عندهم ذاتي بمعنى أنه لازم لذات الموصوف لا تتحقق الذات إلا بتحققه
وأما كون بعض الصفات داخلة في الذات وبعضها خارجا فإن أريد بذلك أن بعضها داخل فيما يتصور الذهن وينطق به اللسان فهذا حق ولكن يعود الدخول والخروج إلى ما يدخل في علمه وكلامه وما يخرج عن ذلك
وإن أريد بذلك أن نفس الموجود في الخارج : بعض صفاته اللازمة داخل في حقيقته وبعضها خارج عنه فهذا باطل كما قد بسط
وأما على طريقة المنطقيين فالصفات اللازمة : إما ذاتية يتعذر معرفة الموصوف بدونها وإما لازمة لماهيته أو لازمة لوجوده وهذه اللوازم لا بد لها من لازم بغير وسط لئلا يلزم التسلسل كما قرر ذلك ابن سينا في الإشارات واللازم بوسط هو اللازم بتوسط دليل لا بتوسط علة مبنية له فجميع اللوازم للذات بغير توسط شيء في الخارج
هذا مراده وإن أريد بذلك أن من اللوازم شيئا يلزم توسط في الخارج فذلك الوسط لازم لآخر بنفسه فلا بد على كل تقدير من لازم بنفسه وللازم لازم وهلم جرا
وحينئذ فإذا عرف نفسه التي لها لوازم لا توجد إلا بها فيلزم من معرفته بها معرفته بلوازمها كما يلزم من وجودها وجود لوازمها وإلا لم تكن المعرفة معرفة بها فكما أن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فالمعرفة به بدون معرفة لازمة ممتنعة وإنما تقع الشبهة في هذا الموضع لظن الظان أن التصور الناقص معرفة به وليس كذلك فإن الشعور مراتب وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض
ونحن لا نعرف شيئا من الأشياء على الوجه التام بل لو علمنا شيئا على الوجه التام لعلمنا لوازمه ولوازم لوازمه فلا يكون علمنا بشيء من الأشياء مماثلا لعلم الرب
ولهذا لما تكلم الناس في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فاعتبر بعضهم اللزوم مطلقا واعتبر بعضهم اللزوم الذهني قالوا : لأن اللزوم الخارجي لا نهاية له لأن للازم لازما وللازم لازما فلفظ البيت إذا جل على الحيطان والأرض والسقف بالمطابقة وعلى بعض ذلك بالتضمن فهو مستلزم للأساس ولأساس الأساس وللصانع ولأب الصانع ولأب أبيه ولصانع الآلات وأمور أخر فيجب اعتبار اللزوم الذهني
فيقال لهم : اللزوم الذهني ليس له ضابط فإنه قد يخطر لهذا من اللوازم ما لا يخطر لهذا
فإن قلتم : كل ما خطر للمستمع لزومه فقد دل اللفظ عليه باللزوم وإلا فلا
قيل لهم : فحينئذ يخطر له لزوم هذا ثم لزوم هذا ويلزم ما ذكرتم من التسلسل فلا فرق
وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم فمهما شعر به من اللوازم استدل عليه باللزوم وليس لذلك حد بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم
وهذا هو الدليل فالدليل أبدا مستلزم للمدلول من غير عكس وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها فإن هذا لا ضابط له بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه وهي دلالة عقلية تابعة للدلالة الإرادية وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على التلازم بتوسط دلالته على الملزوم
وفي الجملة فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه ولا يكون الدليل إلا ملزوما ولا يكون ملزوم إلا دليلا فكون الشيء دليلا وملزوما أمران متلازمان وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك
وأما كونه علة فأخص من كونه دليلا فكل علة فهي دليل على المعلول وليس كل دليل علة
ولهذا كان قياس الدلالة أعم من قياس العلة وإن كان قياس العلة أشرف لأنه يفيد السبب العلمي والعيني وقياس الدلالة إنما يفيد السبب العلمي
ولهذا يعظمون برهان اللمية على برهان الإنية ويقولون : برهان لم أشرف من برهان إن
فمن كان علمه أكمل العلوم وقد علم علة كل موجود كيف لا يكون عالما بأكمل دليل يدل على كل موجود ؟
ولو قدر أن الواحد منا يعلم الرب على ما هو عليه لكان عليما بكل شيء لكن قوانا تعجز عن ذلك وأما هو سبحانه فهو يعلم نفسه وهي ملزمة لكل موجود وخالقة لكل شيء وموجبة بمشيئتها وقدرتها لكل شيء وبلغتهم : هي علة لكل شيء
وهو سبحانه الدليل والبرهان على كل شيء من هذه الجهة ومن جهة أنه يدل عباده بإعلامه وهدايته وكلامه فإذا كان هو سبحانه عالما بنفسه المستلزمة لك شيء التي هي دليل على كل شيء وموجبة لكل شيء وباصطلاحهم : علة لكل شيء - وجب أن يكون عالما بكل شيء وإلا لم يكن عالما بنفسه بل كان عالما ببعض أحوال نفسه والتقدير أنه عالم بنفسه
ثم يقال : الموجب لعلمه بنفسه يوجب علمه بجميع أحوال نفسه كما سيأتي تقريره ويمتنع أن يخص علمه ببعض أحوال نفسه إذ لا موجب للتخصيص بل الموجب للتعميم قائم وإذا كان عالما بجميع أحوال نفسه وجب ضرورة أن يعلم لوازمها
واعلم أن المقصود هنا : أن علمه بنفسه يستلزم علمه بخلقه ويمتنع وجوده بدونه كما يستلزم العلم بالدليل على الوجه التام العلم بالمدلول عليه ويمتنع وجوده دونه
وأما كون العلم بنفسه أوجب ذلك وكان علة في وجوده - فهذا وإن كان المتفلسف قد يقوله فلا حاجة بنا إليه بل لا يجوز أن يقال ذلك كما لا يجوز أن يقال : علمه بالدليل سبب لعلمه بالمدلول على فإن علمه سبحانه ليس باستدلالي بحيث يستفيد العلم بهذا من العلم بهذا سواء كان الدليل علة أو لم يكن
بل هذا مما يطعن به في كلام بعض هؤلاء المتفلسفة الذين جعلوا علمه من هذا الباب فإن علمه سبحانه من لوازم نفسه ونفسه المقدسة مستوجبة للعلم بكل شيء
كما دل عليه قوله تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] فإنه في نفسه لطيف خبير يمتنع أن يخفى عليه شيء
لكن المقصود هنا أن علمه بنفسه مستلزم لعلمه بخلقه فيمتنع أن يكون عالما بنفسه علما تاما بدون علمه بخلقه
وحينئذ فنحن نستدل بعلمه بنفسه على أنه عالم بخلقه كما نستدل بكل ملزوم على لازمه وإن كان هو سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الاستدلالات
ولهذا كان من القضايا الصادقة قول القائل : العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب أي العلم بالسبب التام وهو العلة التامة فإذا علمنا أن الخشبة وقع فيها نار لا تطفأ علمنا أنها تحترق
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه وهو بمشيئته وقدرته موجب لكل موجود فعلمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقاته أعظم من استلزام علم كل عالم بكل علة لكل معلول فإنه ما من علة تفرض لمعلول وموجب مقدر لموجب إلا وهو سبحانه في فعله وإيجابه أكمل من ذلك في إيجابه واقتضائه
وما من عالم يفرض علمه بعلة إلا وعلم الرب بنفسه أكمل من علم كل عالم بتلك العلة فإن علم كل حي بنفسه أكمل من علمه بغيره فكيف بعلم رب العالمين بنفسه ؟ !
وحينئذ فالعلم بهذا الدليل يستلزم العلم بمدلوله أعظم من استلزام كل علم بكل دليل لكل مدلول وعلمه بنفسه بكون هذا الموجب أو العلة أو المبدأ أو السبب يوجب العلم بموجبه ومعلوله أكمل من علم كل عالم بكل موجب وعلة
وكلما تدبر العاقل هذه المعاني ولوازمها تبين له أن كون علمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقه عند التصور التام هي من أعظم البديهيات وعند النظر والاستدلال هي من أعظم القضايا التي تقوم عليها الأدلة النظرية
ومما يبين ذلك أنه إذا كان عالما بنفسه فإن قيل : هو يفعل المخلوقات ولا يشعر بأنه يفعل فهذا يمتنع أن يكون شاعرا بنفسه فإنه ما من عالم بنفسه يقدر أنه يفعل شيئا إلا ولا بد أن يعلم أنه يفعله بل لا بد أن يتصور مفعوله مع غفلته عن نفسه فكيف مع علمه بنفسه ؟
فهو يجب أن يعلم مفعوله من جهة علمه بنفسه ومن جهة أنه يفعله بإرادته كما تقدم التنبيه على الطريقين بل العالم بنفسه لو حصل لنفسه حال من غيره لعلم به وإلا لم يكن عالما بها فكيف إذا كانت فاعلة ؟ !
وأما قول الرازي على التقدير الثاني : إن قلتم : إن علمه بذاته من حيث إنها علة لذلك المعلول يقتضي علمه بذلك المعلول لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء والعلم بالإضافة مسبوق بالعلم بالمضافين فلو كان المعلول مستفادا من العلم بتلك الإضافة لزم الدور
فيقال له : العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين ولا يجب أن يكون العلم بالمضافين متقدما عليه تقدما زمانيا بل لا يكون عالما بالإضافة إلا مع تصور المضاف والمضاف إليه ثم إذا كان المضاف هو العلة للمضاف إليه أمكن أن يكون العلم بها من جهة إنها علة لذلك المعلول مستلزما للعلم بذلك المعلول
والعلم بأنها علة للمعلول يتضمن ثلاثة أشياء : العلم بها وهي المضاف الذي هو علة والعلم بالمعلول وهو المضاف الذي هو معلول والعلم بالعلية وهي الإضافة
والثلاثة متلازمة لا يجب أن يتقدم بعضها على بعض بالزمان ولا نقول : إن العلم ببعضها يستفاد من العلم ببعض كما ذكره فإن الرب لا يحتاج أن يستدل بشيء من معلوماته على بعض وإنما يحتاج إلى ذلك من لا يكون عالما بالمدلول حتى يدله عليه الدلي وأما هو فعلمه من لوازم نفسه المقدسة
ولكن المقصود أن علمه بنفسه وبمخلوقاته متلازمان يمتنع ثبوت العلم بنفسه دون العلم بخلقه كما يمتنع ثبوت العلم بخلقه بدون العلم بنفسه
والرازي لعله رد ما قد يضاف إلى ابن سينا وحزبه من أن علمه بنفسه هو الذي أوجب علمه بخلقه وكان ذلك العلم علة لهذا العلم كعلمنا نحن بالدليل الذي يوجب حكمنا بالمدلول عليه
وما ذكره يدل على فساد قول هؤلاء فإنه إذا قيل : إن علمه بكونه علة للمعلول هو الموجب لعلمه بالمعلول لزم الدور كما ذكر فإنه لا يعلم كونه علة للمعلول حتى يعلم المعلول كما ذكره من أن العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين فلا تعلم أن هذا علة لذاك حتى تعلم هذا وذاك فلو كان علمك بذاك مستفادا من علمك بهذه الإضافة لزم الدور
ونحن قد بينا فساد هذا وقلنا : المراد إن علمه بهذا يستلزم علمه بهذا أي يمتنع تحقق هذا العلم بدون هذا العلم وإن لم يكن أحدهما هو العلة للآخر كما يمتنع تحقق إرادته دون علمه وعلمه دون قدرته وسائر صفاته المتلازمة ويمتنع تحقق ذاته دون صفاته وصفاته دون ذاته فكل منها يستلزم الآخر فيستدل بثبوت واحد منها على ثبوت سائرها إذا عرف بلازمها وإن لم يجعل هذا هو العلة في وجود هذا
ونحن مقصودنا بيان ما دل على أن الله بكل شيء عليم وبيان ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة والمتكلمين مما يدل على ذلك وإن كان قد يكون فيما يقوله الواحد من هؤلاء باطل وقد يكون قصر في بيان الحق وقد يجتمع الأمران
فنحن نستدل بعلمه بذاته على أنه لا بد أن يعلم مخلوقاته لما بينهما من التلازم الدال على أن ثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر لا نحتاج أن نجعل علمه بهذا هو الموجب لهذا
فإن قيل : فبتقدير أن لا يكون موجبا فليس معكم ما يدل على أن علمه بذاته يستلزم علمه بمخلوقاته كما أنا إذا قدرنا أن علم أحدنا بالملزوم ليس موجبا لعلمه باللازم لم يكن معنا ما يدل على أنه عالم باللازم
قيل : بل كون أحد العلمين مستلزما للآخر ثابت وإن لم يكن أحدهما موجبا للآخر فإن الملزوم أعم من أن يكون علة أو غير علة وإذا قدر أنه ليس علة لم يمتنع أن يكون ملزوما
وإذا كان في بعض الناس ملزوما وعلة لم يجب أن يكون في كل عالم ملزوما وعلة إلا إذا لم يكن للعالم طريق إلى العلم باللازم سوى عمله بعلته
وهذا باطل في حق الله ولا يمكن دعواه فلا يمكن أحدا أن يدعي أن الله لا يمكن أن يعلم شيئا من الموجودات إلا لعلمه بعلته إذ لا دليل على هذا النفي وإذا قدر أن ذاته مستلزمة لنفسها أن تعلم كل شيء لا يخفى عليها شيء أوجب ذلك أن لعلم كل شيء
وإن قدر أنه غير مفعول له كما يعلم المعدومات والممتنعات التي ليست مفعولة وكما يعلم المقدرات
كقوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] وقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]
وإن كان وجود إله غيره ممتنعا فعلمه سبحانه بما يعلمه ليس من شرطه كونه مفعولا له بل كونه مفعولا له دليل على أنه يعلمه والدليل لا ينعكس
وكذلك علمه بنفسه مستلزم لعلمه بمخلوقاته وإن لم يكن علمه بنفسه علة لعلمه بمخلوقاته
فينبغي تدبر هذه المعاني الشريفة فإنه يبين كثرة الطرق البرهانية الدالة على علمه سبحانه بخلاف من يقول : لا يمكننا إثبات علمه إلا بطريق الإرادة ونحو ذلك
وهكذا كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء فإن الله يوسع عليهم دلائل معرفته كدلائل معرفة نفسه ودلائل نبوة رسوله ودلائل ثبوت قدرته وعلمه وغير ذلك فإنها دلائل كثيرة قطعية وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسعه الله على من هداه كما أن من الناس من يعرض له شك وسفسطة في بعض الحسيات والعقليات التي لا يشك فيها جماهير الناس
والمقصود هنا أنا نحن أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا فنفتقر في حصول العلم لنا إلى أسباب غير أنفسنا ومن الأشياء ما نعلمها بمشاعرنا بلا دليل ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه
والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة وكذلك قدرته لم يستفد شيئا من صفاته المقدسة من غيره ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه بل هو الغني عن كل ما سواه
وإذا قدر أن علمه بالملزوم شرط في علمه باللازم كما أن وجود الملزوم شرط في وجود اللازم وإبداعه للملزوم شرط في إبداعه للازم كما أن خلقه للأب من حيث هو أب شرط من خلق الابن فالابن لا يكون ابنا إن لم يكن له أب فلا بد في خلق الابن من خلق الأب قبله
فهو سبحانه خالق الملزوم واللازم وعالم بالملزوم واللازم وكل ما سواه هو مما خلقه بمشيئته وقدرته فليس مفتقرا في شيء من الأمور إلى شيء سواه
وقول القائل : علمه بهذا شرط في علمه بهذا معناه أنه لا يوجد علمه بهذا إلا مع وجود علمه بهذا ليس المراد به : أنه يكون العلم بأحدهما متقدما موجودا مع عدم العلم الآخر فإن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بل لا بد من وجوده معه بخلاف العلة
فإذا قيل : ليس علمه بهذا علة لهذا وإنه لم يستفد علمه بهذا من علمه بهذا ولا استدل على هذا بهذا لم يكن في هذا نفي كون أحد العلمين شرطا في الآخر أي ملزوما له بل ولا نفي كون كل منهما شرطا في الآخر وملازما له كما أن العلم والقدرة أو الإرادة كل منهما لا يوجد إلا مع الآخر وهو ملازم له فوجوده شرط في وجوده بهذا الاعتبار وإن لم يكن أحدهما علة لوجود الآخر
وكذلك علمه بنفسه المقدسة هو مستلزم لعلمه بمخلوقاته وشرط في علمه بها فلا يكون عالما بمخلوقاته إلا وهو عالم بنفسه وإن لم يكن علمه بنفسه هو العلة لعلمه بمخلوقاته ولم يكن هو محتاجا أن يستدل بعلمه بنفسه على علمه بمخلوقاته بل نفس ذاته المقدسة اقتضت العلم بهذا وبهذا
وإن كان أحد الأمرين شرطا في الآخر فكونه شرطا في الآخر غير كونه علة فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط والعلة يجب تقدمها على المعلول والشرط لا يوجب المشروط والعلة توجب المعلول
فما علمه من مخلوقاته فعلمه به مشروط بعلمه بنفسه ويلزم من علمه بنفسه علمه به ويلزم من علمه به علمه لنفسه وإن لم يكن أحد العلمين يجب أن يقدم على الآخر ولا يكون هو العلة في وجود الآخر ولا يحتاج أن يستدل بأحد المعلومين على الآخر
فلهذا كان علمه بأنه خالق يستلزم العلم بالمخلوقات من وجهين :
من جهة أن علمه بأنه خالق لا يكون إلا مع علمه بالمخلوقات لأن العلم بالإضافة يتضمن العلم بالمتضايفين
ومن جهة أنه عالم بنفسه علما تاما
وكونه خالقا من صفات نفسه فلا يكون عالما بنفسه علما تاما إلا مع علمه بأنه خالق ولا يكون عالما بأنه خالق إلا مع علمه بالمخلوقات
ومما ينبغي أن يعرف أن كلا من المتلازمين يلزم من وجوده وجود الآخر فكل منهما يصلح في حقنا أن نستدل به على الآخر فنستدل على هذا بذاك تارة ونستدل بذاك على هذا تارة
إما أن نستدل على المجهول منهما بالمعلوم أو نستدل بالمعلوم على المعلوم لبيان أنه دليل عليه أيضا ولتقوية العلم ولحصوله في النفس تارة بهذا الدليل وتارة بهذا إذا عزب عنها علمه بالآخر فإن النفس قد تعلم الشيء ثم يعزب عنها فإذا كثرت الأدلة كان كل منها يقتضي العلم به إذا قدر عزوب غيره من الأدلة
ولهذا جاز تعدد الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد وكل ما يصلح أن يستدل به على غيره فإن علم الرب به يستلزم علمه بالمدلول عليه لامتناع العلم التام بالملزوم بدون العلم باللازم وإن كان هو سبحانه لا يحتاج أن يستدل بالعلم بأحدهما على العلم بالآخر فهذا هذا
ومرادنا بيان ما يذكره الناس من الدلالة على الحق فإن قصروا في بيان الدليل تممناه وإن قالوا بخلاف موجبه من وجه آخر أبطلناه
وهذه حال ابن سينا وأمثاله في تقرير علم الله تعالى فإن كلامه في العلم فيه تقصير عظيم من وجهين : من جهة تقصيره في بيان ما ذكره من الحق ومن جهة ما ذكره من الباطل فإنه ذكر حقا وذكر ما يستدل به عليه لكنه لم يعرف البيان حقه من جهة أنه لم يعط الدليل حقه في التزام ما يلزمه ومن جهة أن بعض المقدمات قد تقصر في بيانها وإلا فالمادة التي سلكها في الدلالة مادة جيدة مستقيمة إذا أعطيت حقها كانت مما تبين أن الله بكل شيء عليم من الجزئيات والكليات
ولهذا كان الذين قدحوا في دلالة ابن سينا كالغزالي والشهرستاني والرازي إنما يقدحون بكونه لم يقرر مقدماته أو بكونه لم يقل بموجبها ولم يلتزم لوازمها بل تناقض فيوردون عليه سؤال الممانعة والمعارضة : المنع لكونه لم يقرره والمعارضة لكونه ناقض موجبها
وهذان السؤالان إذا توجها فإنما يدلان على قصور ابن سينا لا على قصور مادة الدليل الذي استدل به بل هو من أحسن المواد وهو مما يعلم به أن الله بكل شيء عليم : بالكليات والجزئيات
ونحن نذكر من كلامهم ما يبين ما ذكرناه

كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه
قال الغزالي : مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأجناس والأنواع بنوع كلي
فنقول : أما المسلمون - يعني المتكلمين الذي هم يذبون عنده عن المسلمين - لما انحصر عندهم الموجود في حادث وقديم ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته وكان ما عداه حادثا من جهته بإرادته حصلت عندهم مقدمة ضرورية في علمه فإن المراد بالضرورة لا بد أن يكون معلوما للمريد فبنوا عليه أن الكل معلوم له لأن الكل مراد له وحادث بإرادته ولا كائن إلا وهو حادث بإرادته ولم يبق إلا ذاته ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده فهو حي بالضرورة وكل حي يعرف غيره فهو بأن يعرف ذاته أولى فصار الكل عندهم معلوما لله وعرفوه بهذا الطريق بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم
فأما أنتم إذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته فلا بد من الدليل عليه
قال : وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك في أدراج كلامه يرجع إلى فنين
قلت : ما ذكره الغزالي من الاستدلال بالإحداث على العلم طريق صحيح يوصل إلى تقرير أنه بكل شيء عليم لكن الطرق إلى ذلك كثيرة متعددة لم تنحصر في هذه الطريق لا سيما إذا أريد تقرير حدوث العالم بحدوث الأجسام وامتناع حوادث لا أول لها كما سلكه
فإن هذه الطريق مبتدعة في الإسلام باتفاق علماء الإسلام وهي باطلة عند أئمة الإسلام وجمهور العقلاء والعلم بكون الرب مريدا لا يقف على هذه الطريق بل ولا على العلم بحدوث الأجسام بل يكفي في ذلك مجرد العلم بأنه فاعل حتى أن كثيرا من الفلاسفة القائلين بقدم العالم يقول : إنه مريد وإنه عالم بالجزئيات كما ذهب إلى ذلك من ذهب إليه من الفلاسفة وهو الذي نصره أبو البركات فهؤلاء يثبتون العلم بطريق الإرادة
وأما المسلمون الذين يقولون : إن كل ما سوى الله مخلوق فأئمتهم وجمهورهم لا يثبتون ذلك بامتناع حوادث لا أول لها كما سلكه الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم بل هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة
وأيضا فالرب إذا عرف أنه علام بمخلوقاته لأنه خلقهم بإرادته علم أنه إذا كان عالما بكل ما سواه فعلمه بنفسه أولى فإن هذه المقدمة لا تحتاج إلى توسيط كونه حيا وإن كان ذلك طريقا صحيحا وإن كانت الحياة شرطا في كونه عالما لكن ليس كل ما كان شرطا في الوجود كان العلم به شرطا في الاستدلال فإنه من علم أن الله يعلم كل ما سواه ثم نظر : هل يعلم نفسه أم لا ؟ علم أن علمه بنفسه أولى من علمه بكل ما سواه قبل أن يستشعر أنه حي وأن كل حي يعرف غيره فهو بأن يعرف نفسه أولى
بل إذا كانت هذه القضية بينة وهو أن كل حي عرف غيره فهو بأن يعرف ذاته أولى قضية بينة بنفسها فهي بينة وإن لم يذكر فيها كونه حيا إذ علم الإنسان بهذه الأولوية غير مشروط بهذا وإن كانت الحياة شرطا في كل علم
كما أنا إذا علمنا أنه مريد علمنا أنه عالم بما أراده وإن لم يخطر بقلوبنا أنه حي وإن كانت الحياة شرطا في العلم والإرادة فالعلم باستلزام علمه بغيره لعلمه بنفسه لا يقف على العلم بهذه المقدمة وإن كانت هذه المقدمة تفيد هذا المطلوب أيضا
وأيضا فعلم المسلمين بأن الله بكل شيء عليم له طرق غير الاستدلال بالإرادة كما هو مذكور في موضعه
والمقصود كلامه على ما ذكره ابن سينا
قال : وحاصل ما ذكره يرجع إلى فنين : الأول : أنه عقل محض وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له
إلى أن قال : وإن عنيت بأنه عقل : أنه يعقل نفسه فربما يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره
فيقال : ولم ادعيت هذا وليس ذلك بضروري وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة فكيف تدعيه ضروريا ؟ وإن كان نظريا فما البرهان عليه ؟
إلى أن قال : الفن الثاني : قوله : إنا وإن لم نقل : إن الأول مريد للإحداث ولا إن الكل حادث حدوثا زمانيا فإنا نقول : إنه فعله وقد وجد منه إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلية فلم يزل فاعلا فلا نفارق غيرنا إلا في هذا المقدار وأما في أصل الفعل فلا وإذا وجب كون الفاعل عالما - بالاتفاق - بفعله فالكل عندنا من فعله
قال أبو حامد : والجواب من وجهين :
أحدهما : أن الفعل قسمان : إرادي : كفعل الحيوان والإنسان وطبيعي : كفعل الشمس في الإضاءة والنار في التسخين والماء في التبريد
وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي كما في الصناعات البشرية فأما في الفعل الطبيعي فلا
وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار لا بطريق الإرادة والاختيار بل لزم الكل ذاته كما يلزم النور الشمس وكما لا قدرة للشمس على كف النور ولا النار على كف التسخين فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله تعالى عن قولهم علوا كبيرا
قال : وهذا النمط وإن تجوز بتسميته فعلا فلا يقتضي علما للفاعل أصلا
فإن قيل : بين الأمرين فرق وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل ولا مبدأ له سوى العلم بالكل والعلم بالكل عين ذاته فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل بخلاف النور من الشمس
قلنا : وفي هذا خالفك إخوانك فإنهم قالوا : ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار لا من حيث هو عالم بها فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة ؟
وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور بل يتبعها النور ضرورة فليقدر ذلك في الأول ولا مانع منه
الوجه الثاني : هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل يقتضي العلم أيضا بالصادر فعندهم فعل الله واحد وهو المعلول الأول الذي هو عقل بيسط فينبغي أن لا يكون عالما إلا به والمعلول الأول يكون أيضا عالما بما صدر منه فقط فإن الكل لم يوجد من الله دفعة بل بالوسط والتولد واللزوم فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوما له ولم يصدر منه إلا شيء واحد بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي فكيف في الطبيعي ؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته من مصادمته وكسر غيره فهذا أيضا لا جواب له عنه
قال : فإن قيل : فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه لكان ذلك في غاية الشناعة فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره فكيف يكون في الشرف فوقه ؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة ؟
قلنا : فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له ولا بد من ترك الفلسفة والإعتراف بأن العالم حادث بالإرادة ثم يقال : بم تنكرون إلى آخره
قلت : ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته تقدم بيانه له وكون ابن سينا خالفهم في هذا هو من محاسنه وفضائله التي علم فيها ببعض الحق والحجة معه عليهم كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب
فكل من أعطى الأدلة حقها وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره كان ذلك مما يفضل به ويمدح وهو لم يقل : إن عقله لنفسه مستلزم لغيره بل قال : يستلزم عقله لمفعولاته كما تقدم
والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها توجب موافقتهم له في هذا الموضع كما تقدم
هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة وليس كذلك بل بينهم من يصرح بثبوتها وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم

كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه
ومنهم من يحكي إثبات الإرادة عنهم مطلقا كما اختاره ابن رشد عنهم فإنه قال في تهافت التهافت : استفتح أبو حامد هذا الفصل بأن حكى عن الفلاسفة شيئا شنيعا وهو أن الباري ليس له إرادة لا في الحادث ولا في الكل لكون فعله صادرا عن ذاته ضرورة كصدور الضوء من الشمس ثم يحكي عنهم أنهم قالوا : من كونه فاعلا يلزم أن يكون عالما
قال : والفلاسفة ليس ينفون الإرادة عن الباري تعالى ولا يثبتون له الإرادة البشرية لأن البشرية إنما هي لوجود نقص في المريد وانفعال عن المراد فإذا وجد المراد له تم النقص وارتفع ذلك الانفعال المسمى إرادة وإنما يثبتون له من معنى الإرادة أن الأفعال الصادرة عنه هي صادرة عن علم وكل ما صدر عن علم وحكمة فهو صادر بإرادة الفاعل لا ضروريا طبيعيا إذ ليس عن طبيعة العلم صدور الفعل عنه كما حكى هو عن الفلاسفة لأنا إذا قلنا : يعلم الضدين لزم أن يصدر عن الضدان معا وذلك محال فصدور أحد الضدين عنه يدل على صفة زائدة على العلم وهي الإرادة
وهكذا ينبغي أن يفهم ثبوت الإرادة في الأول عند الفلاسفة فهو عندهم : عالم مريد عن علمه ضرورة
وقال ابن رشد أيضا : وأما قول أبي حامد : إن الفعل قسمان : إما طبيعي وإما إرادي - فباطل بل فعله عند الفلاسفة : لا طبيعي بوجه من الوجوه ولا إرادي بإطلاق بل إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان وكذلك اسم الإرادة مقول عليهما باشتراك الاسم كما أن اسم العلم كذلك على العلمين : القديم والحادث فإن الإرادة في الحيوان والإنسان انفعال لاحق له عن المراد فهي معلولة عنه
هذا هو المفهوم من إرادة الإنسان والباري سبحانه منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة فلا يفهم من معنى الإرادة إلا صدور الفعل مقترنا بالعلم وأن العلم كما قلناه يتعلق بالضدين ففي العلم الأول بوجه ما علم بالضدين ففعله أحد الضدين دليل على أن هنا صفة أخرى وهي التي تسمى إرادة
قلت : ابن رشد يتعصب للفلاسفة فحكايته عنهم أنهم يقولون : إنه مريد كحكايته عنهم إنهم يقولون : إنه عالم بالمخلوقات ولا ريب أن كلاهما قول طائفة منهم وأما نقل ذلك عن جملتهم أو المشائين جملة فغلط ظاهر ولكن الذي انتصر لثبوت هذا وهذا انتصارا ظاهرا أبو البركات ونحوه و ابن رشد وهو إثبات ذلك دونه وابن سينا دونهما
ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل وفيه خطأ كثير بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير وصوابه فيه كثير
وهؤلاء المتأخرون وسعوا القول في الإلهيات وكان صوابهم فيها أكثر من صواب أوليهم لما اتصل إليهم من كلام أهل الملل وأتباع الرسل وعقول هؤلاء وأنظارهم في الإلهيات فإن بين كلام هؤلاء في الإلهيات وكلام أرسطو وأمثاله تفاوتا كثيرا
والمقصود أن ما ذكره أبو حامد من أنه إنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي فكلام صحيح وهذا يدل على أن الفعل إذا كان إراديا لزم كون الفاعل عالما بفعله فنستدل بكونه مريدا على كونه عالما وهو استدلال صحيح ويقتضي أنه إذا قدر نفي اللازم وهو العلم انتفت الإرادة وهو أيضا صحيح
وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي فإذا قدر فعل ليس بإرادي لم يلزم كون الفاعل عالما هو كلام صحيح
وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم لزم أن يكون الفعل إراديا لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم وغير الإرادي مستلزم لنفيه وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم
فالإرادة ملزومة للعلم والعلم لازم لها ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة
فإذا قدر ثبوت العلم لزم انتفاء نقيضه وهو نفي العلم ولازم نقيضه وهو انتفاء الإرادة وإذا انتفى هذا الانتفاء ثبت نقيضه وهو الإرادة
وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم فما ليس بعالم ليس بمريد وهذا الذي يسمونه عكس النقيض فإن العلم لازم للإرادة فإذا انتفى هذا اللازم وهو العلم انتفى الملزوم وهو الإرادة
وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم فإذا انتفت الإرادة في الفعل لزم نفي العلم فإذا انتفى هذا اللازم وهو نفي العلم انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة فحصلت الإرادة فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة ومن نفيه نفيها ومن ثبوتها ثبوته ومن انتفائها انتفاؤه
وهذا بين إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم ولك فعل ليس بإرادة فلا علم معه فينعكس كل منهما عكس النقيض
فيقال : كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة وكل ما معه علم فمعه إرادة فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه وهذا حق وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة
ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم فإنه إذا استدل على كونه عالما بمخلوقاته : بأن الفاعل يجب أن يكون عالما بفعله وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها - كان دليلا صحيحا كما تقدم تقريره وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلا بالإرادة فإن هذا شرط في كونه فاعلا كما أن كونه حيا شرط في كونه فاعلا وكما أن كونه عالما شرط في كونه مريدا
والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم كما يدل الدليل على كونه فاعلا بالاختيار وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالما ثم إذا علم أنه فاعل بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم فليس كما من علم من البشر شيئا علم لوازمه لقصور علم البشر بخلاف علم الخالق الذي علمه تام فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم
وإذا كان كذلك فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه
ولكن يقال له : هذه الطريق تستلزم كونه مريدا فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض وموجب الدليل شيء وفساد الدليل شيء آخر فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب دون القدح في دليله الصحيح
وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم حيث قالوا : ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار لا من حيث إنه عالم بها
وقوله : فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقهم على نفي الإرادة ؟
فيقال له : المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم نفسه فمن قال : إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته كان قوله باطلا وأما تقرير كونه عالما بنفسه فهذا مذكور في موضعه
وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع كالنار والماء فإن ذاك إنما قيل : ليس بعالم بفعله لكونه ليس عالما بنفسه ولم يقل عاقل : إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله كما لم يقل عاقل : إنه عالم بفعله دون نفسه إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر
وأما تمثيل ذلك بنور الشمس فعنه جوابان
أحدهما : أن الشمس علة تامة فاعلة للنور بل هي شرط في فيضانه وفيضانه مشروط بوجود جسم ينعكس عليه شعاعها والأول سبحانه هو وحدة مبدع لكل ما سواه
الثاني : أن الشمس إن قيل : إنها عالمة بنفسها وقيل مع ذلك : إنها مبدعة للشعاع لم نسلم أنها لا تعلم الشعاع لكن الشأن في تينك المقدمتين
وأما قوله : مهما وافقهم لازم له
فيقال : بل الصواب أن يقال : إثباتك العلم مع نفي الإرادة تناقض يلزمه منه خطؤك : إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة
وحينئذ فيقال : هؤلاء نفوا العلم والإرادة وأنت أثبت العلم دون الإرادة وهما متلازمان فيلزم خطؤك : إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة
وحينئذ فيقول : أدلتي المذكورة على ثبوت العلم صحيحة توجب ثبوت العلم وإذا كان ذلك مستلزما للإرادة كان خطئي في نفي الإرادة فهذا هو الصواب دون أن يقال : كما وافقتهم على الخطأ في نفي الإرادة فوافقهم على الخطأ في نفي العلم
وأما قوله في الوجه الثاني : إن فعل الله واحد وهو المعلول الأول فينبغي أن لا يكون عالما إلا به
فيقال : إذا ثبت أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته وجميع الممكنات مفعولة لزم أن يعلمها كلها
وأما قولهم : إنه أول ما أبدع العقل الأول فكلامهم في هذا خطأ في بيان فعله لا خطأ في إثبات وجوب كونه عالما بمفعولاته ولا ريب أن قولهم في صدور الأفعال منه خطأ لكن لا يلزم من الخطأ في ذلك الخطأ فيما به قررت كونه عالما بمفعولاته
ثم يقال : ولا يلزم أيضا على أصلهم أنه لا يعلم إلا العقل الأول بل يلزم علمه بكل شيء وذلك لأنهم تارة يقولون : صدر عنه عقل وبتوسطه عقل ونفس وفلك وتارة يجعلون الثاني صادرا عن الأول وتارة يجعلون الأول شرطا وتارة يجعلونه مبدعا للثاني ومنهم من يقول بلزوم جملة الفلك له
وعلى كل تقدير فلا ريب أن علمه بالملزوم علما تاما يستلزم علمه باللازم وكذلك العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول كما تقدم
فأقصى ما يقدر أن الأول كان علة للثاني فإذا كان عالما بالأول علما تاما لزم أن يعلم لوازمه التي منها علمه بفعله للثاني كما تقدم
فعلى كل تقدير لا يكون قول من سلبه العلم خيرا من قول من أثبته
وبهذا أجابه ابن رشد فقال : الجواب عن هذا أن الفاعل الذي هو في غاية العلم يعلم ما صدر عما صدر منه وما صدر من ذلك الصادر إلى آخر ما صدر فإن كان الأول في غاية العلم فيجب أن يكون عالما بكل ما صدر عنه بوساطة أو بغير وساطة وليس يلزم منه أن يكون علمه من جنس علمنا لأن علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم ومن فر من شناعة القول بأنه لا يعلم إلا نفسك فهو معذور في هذا الفرار
وقوله : إن هذه الشناعة لازمة في مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم فيجب ارتكابهما كما ارتكب سائر الفلاسفة ولا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة
فيقال : إذا كان هذا لازما لمن نفي الإرادة والحدوث فيجب إثبات الإرادة والحدوث فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل لا يجب إذا ترك بعض الحق أن يترك سائره بل يجب الاعتراف به كله وإلا فالاعتراف ببعضه خير من جحده كله
وقد تقدم تحقيق الأمر في تلازم العلم والإرادة
قال أبو حامد : ثم يقال : بم تنكر على من قال من الفلاسفة : إن ذلك يعني العلم ليس بزيادة شرف فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد كمالا فإنه في ذاته قاصر فشرف بالمعقولات إما ليطلع على مصالحه في العواقب في الدنيا والآخرة وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقضة وكذلك سائر المخلوقات وأما ذات الله فمستغنيه عن التكميل بل لو قدر له علم يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة وهذا كما قلت في السمع والبصر وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه وأن المتغيرات الداخلة في الزمان المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفها الأول لأن ذلك يوجب تغيرا في ذاته وتأثيرا
ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان بل هو كمال وإنما النقصان من الحواس والحاجة إليها ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به
وكذلك العلم بالحوادث الجزئية : زعمتم أنه نقصان فإذا كنا نعرف الحوادث كلها وندرك المحسوسات كلها والأول لا يعرف شيئا من الجزئيات ولا يدرك شيئا من المحسوسات ولا يكون ذلك نقصانا فالعلم بالكليات العقلية أيضا يجوز أن يثبت لغيره ولا يثبت له ولا يكون فيه نقصان وهذا لا مخرج عنه
فيقال : هذا الكلام متوجه على سبيل الإلزام والمعارضة يظهر به تناقض من أثبت له علما بمعلوم دون آخر كابن سينا وأمثاله فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما فر منه فيما نفاه فإن كان ذلك حقا فيلزم أن لا يعلم شيئا ولا نفسه وإن لم يكن حقا فيلزم أن يعلم كل شيء
ولا ريب أن هذا هو الصواب فهو يقول لهم : إن العلم : إن كان صفة كمال وشرف فمعلوم أن علمه بكل شيء أكمل من علمه ببعض الأشياء وإن لم يكن صفة كمال فلا يثبت شيء منه
واستشهد على ذلك بأنكم نفيتم عنه السمع والبصر والعلم بالمتغيرات فإن كان نفي ذلك نقصا فقد وصفتموه بالنقص وإن لم يكن نقصا لم يكن نفي غيره نقصا
وابن سينا يفرق بين علمه بالثابتات وبين علمه بالمتغيرات لئلا يلزم تغيره بتغير العلم
وقد بين أبو حامد بعد هذا أنه لا محذور في علمه بالمتغيرات بل يلزمه إثبات العلم بذلك فإثبات العلم مطلقا هو الواجب دون نفيه وكل ما لزم من إثبات العلم فلا محذور فيه أصلا بل غايته ترجع إلى مسألة نفي الصفات والأفعال والاختيارات فليس لهم في نفي العلم إلا ما ينشأ عن هذين السلبين
وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزما لثبوت هذين الأصلين كان ذلك مما يدل على صحتهما كما دل على ذلك سائر الأدلة الشرعية والعقلية فإن ثبوت العلم بكل شيء مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين ومما هو ثابت بقواطع البراهين
فإذا كان مستلزما لإبطال هذين الأصلين اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه وتصديق ما جاء به الرسول وموافقته لصريح العقل وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله بخلاف الأقوال المخالفة لذلك فإنها كلها متناقضة
وتدبر حجج النفاة فإنها كلها من أسقط الحجج كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة : إن العلم ليس بزيادة شرف فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم ويقول : إنه إذا كان عالما فقد جعل ناقصا بذاته مستكملا بغيره
أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر : أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر
ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر وأن النافي لها قال قولا منكرا في الفطرة
كقوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر تنكر على من سوى بينهما
كقوله تعالى : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } [ الأنعام : 143 ]
وقوله : { قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } [ يونس : 59 ]
وقوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ]
وقوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام : 148 ]
وكذلك قوله : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } [ النحل : 75 - 76 ]
وقوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ]
وقوله : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } [ يونس : 35 ]
وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص لا يمكن أن يكون ربا ولا معبودا ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب
كقوله تعالى عن الخليل : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [ مريم : 42 ]
وقوله تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } [ الأعراف : 148 ]
وقوله : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } [ طه : 89 ]
وقوله : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } [ النحل : 20 - 21 ]
وقوله : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ]
وقوله عن الخليل : { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 95 - 96 ]
وقوله أيضا : { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون } [ الشعراء : 72 - 73 ]
وقوله : { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } [ الأنبياء : 66 - 67 ] وأمثال ذلك كثير
والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم كون عدم العلم نقصا - هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم
وأما قول القائل : إن العلم إنما احتاج إليه غير الله ليستفيد كمالا : إما ليطلع على مصالحه وإما لتكميل ذاته المظلمة
فيقال له : هذا بعينه دليل على أن الذوات لا تكمل إلا بالعلم من جهة أنها لا تقدر أن تفعل ما تصلح إلا به ومن جهة أنها بدونه مظلمة
والرب فاعل لكل شيء وفاعل لكل فاعل فهو أحق بأن يكون عالما من كل فاعل وذاته أكمل الذوات فهي أحق بأن يكون لها غاية الكمال وأن تكون برية من كل نص
وقول القائل : ذات الله مستغنية عن التكميل كلمة حق فإنه مستغنية عن أن يكملها أحد سواها لكن ما هي ذات الله المستغنية عن التكميل : أهي ذات مسلوبة العلم وغيره من صفات الكمال فلا تعلم ولا تسمع ولا تبصر ؟ أم هي الذات المتصفة بهذه الصفات ؟
أما الأول فلا حقيقة لتلك الذات ولا وجود لها فضلا عن أن يقال : ذات الله فإن ذاتا لا تتصف بشيء من الصفات إنما تعقل في الأذهان لا في الأعيان وذاتا لا تتصف بصفات الكمال ليست خالق المخلوقات ولا وجود لها ولو قدر وجودها فهي من أنقص الذوات بل كل حيوان أكمل منها فإنا نعلم بصريح المعقول أن الحي أكمل مما ليس بحي والعالم أكمل مما ليس بعالم والقادر أكمل مما ليس بقادر
وقول القائل : لو قدر له ما يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة قول باطل من وجوه
أحدها : أن ذاته المجردة عن الصفات لا حقيقة لها أو نقول : لا نعلم ثبوتها أو نعلم أن الذات المجردة عن الكمال معدومة
ولفظ ذات لفظ مولد وهو تأنيث ذو ومعنى ذات : أي ذات علم وذات قدرة وذات حياة
فتقدير ذات بلا صفات تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة
ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجوليقي النطق بهذا اللفظ وقالوا : هذا مؤنث والرب لا يجري عليه إسم مؤنث ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم أو حقيقة ذات علم
وفي الجملة فتقدير الذات ذاتا مجردة عن الصفات هو الذي أوقعه في هذه الخيالات الفاسدة
وقوله : الذات من حيث ذاته : إن أراد به أن الذات من حيث هي لا صفة لها فهذه لا وجود لها فصلا عن أن تكون كاملة
وإن أراد من حيث حقيقتها الموجودة فهي من تلك الجهة لا تكون إلا متصفة بصفات الكمال
قوله : وهذا كما قلت في السمع والبصر والعلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه إلى قوله : وهذا لا مخرج منه
فيقال : لا ريب أنه لا مخرج لابن سينا من هذا الإلزام فإنه إذا لم يكن عنده عدم العلم بالجزئيات نقصا كذلك عدم العلم بالكليات وإن قال : عدم علمه بها كمال أمكن منازعوه أن يقولوا : نفي علمه بالثابتات كمال
وإذا قال : أنا نفيت عنه لأن إثباته يفضي إلى التغير
قالوا له : ونحن نفينا ذاك لأنه يفضي إلى التكثر
فإذا قال : ذاك التكثر ليس بممتنع
قيل له : وهذا التغير ليس بممتنع وذاك أنه جعل التكثر في الإضافات فإن كان هذا حقا أمكن أن يقال بالتغير في نفس الإضافات وذلك أنه إن قال : إن نفس العلم إضافة فالتكثر والتجدد في العلم إضافة
وإن قال : بل هو صفة مضافة والتكثر في المعلوم لا في العلم بل يعلم بعلم واحد جميع المعلومات كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما
قيل له : والتغير في المعلوم لا في العلم لأن العلم واحد لا يتعدد فضلا عن أن يتغير
وإن قال : هذا باطل فإن العلم بأن سيكون الشيء ليس هو العلم بأن قال قد كان
قيل له : وكذلك العلم بالسماء ليس هو العلم بالأرض وأنت تقول أبلغ من ذلك تقول : ليس العلم إلا العالم بل تقول : العلم والعالم شيء واحد
ومعلوم أن هذا القول أبعد عن المعقول من قول من قال : العلم بالمعلومات شيء واحد فإن هذا يقول : إن العلم ليس هو العالم ولا هو المعلوم بل هو صفة للعالم
ولا ريب أن ابن سينا يتناقض في هذه المواضع فتارة يجعل العلم زائدا على الذات العالمة وتارة لا يقول بذلك أبت

كلام ابن سينا في الإشارات ورد ابن تيمية عليه
فإنه قال : لما رد على من قال باتحاد العاقل بالمعقول : فيظهر لك من هذا أن كل ما يعقل فإنه ذات موجود تتقرر فيها الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر
فصرح بأنه يتقرر في ذات العاقل الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر وهذا خلاف قول : العاقل والمعقول والعقل شيء واحد
والمقصود قبول ما يقوله من الحق وهو ما أثبته من كون الرب عالما بالأعيان الثابتة وبيان صحة حجته على ذلك
وأما ما نفاه من علمه بالجزئيات فحجته على نفيه ضعيفة
وقد بين أبو حامد و أبو البركات وغيرهما أنه يلزمهم القول بعلمه بالجزئيات وبينوا فساد ما نفوا به ذلك
قال ابن سينا : إشارة : الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه يتخصص به كالكسوف الجزئي فإنه قد يعقل وقوعه بسبب توافق أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها ويعقلها كما يعقل الجزئيات وذلك غير الإدراك الجزئي الزماني لها الذي يحكم أنه وقع الآن وهو قبله أو يقع بعده بل مثل أن نعقل أن كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي ما وقت كذا وهو جزئي ما في مقابلة كذا ثم ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأول لأن هذا إدراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله
وذلك الأول يكون ثابتا الدهر كله وإن كان علما بجزئي وهو أن العاقل يعقل أن بين كون القمر في موضع كذا وبين كونه في موضع كذا يكون كسوف معين في وقت من زمان أول الحالين محدود عقله ذلك أمر ثابت قبل الكسوف ومعه وبعده هذا لفظه
قلت : وهذا الذي ذكره إنما يتأتى في الأمور الدائمة عنده كالشمس والقمر والكواكب والأفلاك فإنه يعلمها بأعيانه فإنها دائمة
وأما الأمور المتجددة مثل حركاتها ومثل الكسوف والخسوف والإهلال والإبدار ومثل أشخاص الناس والحيوان فهذه لا يتصور أن يعقلها إلا على وجه كلي مثل أن يعلم أنه في كل شهر يحصل إهلال وإبدار وفي كل سنة يحصل صيف وشتاء فأما العلم بإهلال معين وإبدار معين وكسوف معين فهذا جزئي حادث كائن بعد أن لم يكن زائل بعد ما كان فإن علمه بعينه لزم ما حذروه من التغير في علمه فإنه إذا علمه قبل وجوده علمه معدوما سيوجد ثم إذا وجد علمه موجودا ثم إذا زال علمه معدوما قد كان وهذا الذي فروا منه
ولو علم الجزئيات بأعيانها بعلم ثابت لزم وجود ما لا نهاية له من المعقولات دائما في ذاته
وأما قوله : مثل أن يعقل أن كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي وقت كذا وهو جزئي في مقابلة كذا ثم ربما وقع ذاك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأول لأن هذا إدراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله وذلك الأول يكون ثابتا الدهر كله وإن كان عالما بجزئي
فيقال : هذا الكسوف المعلوم أهو كسوف واحد بالعين أم بالنوع ؟ فالأول أن يعلم أن الشمس تكسف في برج الحمل في السنة الفلانية سنة الطوفان
والثاني أن يعقل أنها كلها إن حصلت في برج كذا على وجه كذا كسفت
فإن قيل : إنه كسوف معين فهذا إذا كان عقله ثابتا أبدا يكون قد عقل قبل وجوده وحينئذ يكون معدوما لا موجودا والعلم بأنه موجود جهل والعلم بأن سيوجد هو الذي فروا منه
وإن قالوا : نعلم أنه إذا حصل الشيء المعين الجزئي حصل الكسوف وإن لم نعلم متى يحصل ذاك
قيل : فمثل هذا لا يكون إلا إذا كان المعلوم كليا وهو أن نعلم أنه إذا حصل ذلك الأمر المعين على الوجه المعين حصل الكسوف وهذا العلم كلي لا جزئي
ففي الجملة الجزئي لا يكون جزئيا إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا إذا لم يكن أمرا ثابتا بل أمرا حادثا فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين
وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف فهذا كلي وإن علم أنه لا بد أن يحصل فإنه كلي من حيث الزمان فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
وقولهم مع هذا : إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض مغالطة بل لم يعلم شيئا من الأمور المعينة الحادثة البتة بل هو عازب عنه لا يدري أكان أم لم يكن فإن نفس تصور الكلي من حيث هو كلي لا يفيد تصور المعينات والوجود ليس فيه إلا المعينات فلا يكون تصور شيئا من المعينات الحادثة lأمر أمر

كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه
وقد بين ذلك شارحو كلامه فقال الطوسي : يريد التفرقة بين إدراك الجزئيات على وجه كلي لا يمكن أن يتغير وبين إدراكها على وجه جزئي يتغير بتغيرها ليبين أن الأول تعالى بل كل عاقل فهو إنما يدرك الجزئيات من حيث هو عاقل على الوجه الأول دون الثاني وإدراكها على الوجه الثاني لا يحصل إلا بالإحسان أو التخيل أو ما يجري مجراهما من الآلات الجسمانية
قال : وقبل تقرير ذلك نقول : كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها فلا تدخل التصديقات في ذلك يعني بذلك أن التصديق إنما يكون كليا أو جزئيا باعتبار ما فيه من التصور : هل هو جزئي أو كلي ؟
قال : فإن قولنا : هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت جزئي وقولنا : الإنسان يقول القول في وقت كلي ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان والقول والوقت والجزئية بالكلية
ولقائل أن يقول : بل نفس النسبة لا تكون جزئية وكلية فإنه إذا قيل : هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان الجميع جزئيا وإذا قيل : يقول أقوالا حسنة أو يقول هذا القول دائما كان الثاني كليا فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة فيه
فإن قلت : المحمول الذي هو خير المبتدأ عن أحدهما قول معين وفي الآخر قول مطلق فالجزئية والكلية إنما وقعا في التصورين
قيل إن أريد ذلك لم يكن لنا تصديق غير التصورات فلا حاجة إلى نفي الكلية عنه
ولكن المعروف أن هذا القول هو الخبر المحمول على المبتدأ المخبر به عنه وهو قول معين جزئي ونسبته إليه هو التصديق المغاير للتصورين فإن التصديق يراد به الجملة كلها فيكون التصور بعضه بعينه ويراد به النسبة الحكمية فيكون التصور شرطا فيه وإذا أريد به هذا فنسبة القول المعين إلى المعين تصديق فإن عنيت النسبة من جميع الوجوه بحيث يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فهي جزئية وإن لم يمنع ذلك فهي كلية
مثل كونه يقوله دائما أو الإخبار عنه بأنه يقوله في وقت ما فإن هذا لا يمنع كونه يقوله في هذا الوقت وفي غيره بل لا يمنع أن يقوله بالعربية وبالعجمية فهو كلي بالنسبة إلى العربية والعجمية
وبالجملة فما لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو كلي سواء كان احتمال الشركة لدخوله أشخاصا أو أزمنة أو أمكنة أو لغات أو غير ذلك من الأمور وهذا مما يبين أنه من لم يقل أن الرب يعلم الجزئيات فإنه يلزمه أن لا يعلم شيئا من الموجودات فإنه ما من موجود إلا وهو متميز عن غيره بحيث يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
ولهذا لم يمنع ابن سينا كونه يعلم الجزيئات الثابتة الدائمة على أصله كالسموات والنجوم وإنما منع علمه بالمتغيرات فرارا من قيام الحوادث به مع أن أساطين من أساطين الفلاسفة ومن وافقهم من المتأخرين يقولون : إنه تقوم به الحوادث ولا حجة له على نفي ذلك أصلا إلا ما ينفي به قيام الصفات وإثباته للعلم يستلزم إثبات الصفات كما تقدم بيانه فعلم أن إثباته للعلم بالكليات دون الجزئيات في غاية التناقض
قال الطوسي : وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه وما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل ولا يتناولها البرهان والحد بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها وما يجري مجراها من المخصصات التي لا سبيل إلى إدراكها إلا بالحس وما يجري مجراه فإن أخذت تلك الطبيعة مجردة عن تلك المخصصات صارت كلية يدركها العقل ويتناولها البرهان والحد وكان الحكم المتعلق بها - حين كونها جزئية - باقيا بحاله اللهم إلا أن يكون الحكم متعلقا بالأمور المخصصة من حيث هي مخصصة
قال : وإذا ثبت هذا فنقول : كل من أدرك علل الكائنات من حيث إنها طبائع يعني طبائع كلية وأدراك أحوالها الجزئية وأحكامها كتلاقيها وتباينها وتماسها وتباعدها وتركبها وتحللها من حيث هي متعلقة بتلك الطبائع وأدرك الأمور التي تحدث : معها وبعدها وقبلها من حيث يكون الجميع واقعا في أوقات يتحدد بعضها ببعض على وجه لا يفوقه شيء أصلا فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع كلياته وجزئياته الثابتة والمتجددة المنصرفة الخاصة بوقت دون وقت كما عليه الوجود غير مغادر إياها بشيء وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر لو حصلت في الوجود مثل هذا العالم بعينه فتكون صورة كلية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها غير متغيرة بتغيرها
هكذا يكون إدراك الجزئيات على الوجه الكلي
فيقال : فعلى هذا التقدير لا يكون الرب عالما بشيء من هذه الأمور الموجودة ولا فاعلا لها إذا كان علمه بها هو إبداعه لها فإن العلم بالجزئيات على هذا الوجه الكلي لا يتضمن العلم بشيء من المعينات ولا يكفي هذا العلم في وجودها فضلا عن أن يكون هو إيجادها
فإنا إذا علمنا أن بني آدم لا بد أن تحصل لهم شهوة الأكل فيأكلون وإذا أكلوا فلا بد أن تحصل لهم فضلة فيتغوطون ولا بد أن تحصل لهم شهوة النكاح فيجامعون ولا بد أن يحصل إنزال وحبل فتحبل النساء ويلدن ولا بد أن يموتوا - كان هذا علما كليا يتضمن أنه لا بد من وجود أكل وتخل ونكاح وإنزال وحبل وولادة وموت بحيث لو قيل : إن في الآدميين من لا يموت أو من لا يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك - كان ذلك العلم الكلي مناقضا لهذا القول
ولو قيل : إنه لم يبق من ينكح ويحبل ويلد ويموت كان ذلك العلم الكلي دافعا لهذا القول كما إذا علمنا أن نبيا لا يخبر إلا بالصدق وعلمنا أنه أخبر بأخبار لا نعرف أعيانها - علمنا أنها كلها صادقة ولم يكن في مجرد هذا العلم الكلي علم شيء منها
وإذا علمنا أن كل دليل شرعي دل على الإيجاب أو التحريم وجب إثبات موجبه من الإيجاب أو التحريم كان هذا علما كليا ولم يكن فيه علم بشيء من أعيان الأدلة الشرعية ولا بالأحكام المعينة الشرعية
وإذا علمنا أن الإهلال لا يكون إلا في أول الشهر والإبدار لا يكون إلا في وسطه وأن كسوف الشمس لا يكون إلا عند الإجتماع قبل الإهلال وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض في الإبدار - لم يكن في مجرد هذا العلم ما يوجب أن يعلم : هل الهلال طالع في هذا الوقت أم لا ؟ وهل هو مبدر أم لا ؟ وهل هو خسوف أم كسوف أم لا ؟
وكذلك إذا علمنا أن الشمس تدور ما بين رأس السرطان والجدي لا يصعد هذا غاية صعودها وهذا غاية هبوطها وفي صعودها يكون الصيف وفي هبوطها يكون الشتاء ونحن لا نعلم هل هذا الوقت صيف أو شتاء وهل هي صاعدة أو هابطة - لم يكن في هذا العلم الكلي ما يفيد معرفة ما وجد في الخارج من أحوالها لكن فيه أنها لا تخرج عن هذا القانون الكلي وهكذا سائر العلوم الكلية
لكن العلم بجميع حوادث الوجود على الوجه الكلي أعم من العلم ببعض حوادثه ومع ذلك فليس في ذلك علم بشيء من الموجودات الحادثة
وأيضا فمجرد هذا العلم الكلي لا يكفي في وجود المعينات فالمعين لا يوجد إلا بتصور معين وإرادة معينة وإلا فمن أراد أن يكرم الأبرار ويعاقب الفجار ويقبل شهادة العدول ويرد شهادة أهل الزور وهو لا يعرف أعيان هؤلاء وهؤلاء - لم يمكنه فعل شيء من ذلك الأمر الكلي الذي عزم
ومن أراد أن يأكل طعاما ويلبس ثوبا وليس له قصد من طعام بعينه وثوب بعينه إن لم يحصل له طعام معين وثوب معين بحيث تكون له إرادة معينة وتصور معين - امتنع أن يأكل ويلبس لكن قد يكون قصده للمعين هو لكونه هو الميسور المقدرور عليه ولو حصل غيره لقام مقامه ليس له إرادة في أحدهما دون الآخر إلا لكونه هو الذي تيسر وقدر عليه فهنا يكون سبب تعين الإرادة هي القدرة
وكذلك من قصده أن يعطي الزكاة للأنواع الكلية التي ذكرها الله في كتابه وليس له غرض في شخص بعينه فهو يعطي من علم أنه منهم ومن أمكنه أعطاه ومن أراد شخصا معينا فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن - فكانت إرادته لمعين
وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله فهو يقصد الطهارة بماء أي ماء كان وهذه إرادة كلية ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين يتصور تصورا معينا ويريد التطهر به إرادة معينة
وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو ومن قصده أن يشتري طعاما من شخص وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق وأمثال ذلك
فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمرا مطلقا كليا ليس غرضهم شخصا بعينه لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئا معينا وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة لا يفعلون شيئا إذ المطلق لا وجود له في الأعيان فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كليا قط فمن لم يعلم إلا الكليات لم يمكنه أن يفعل شيئا قط ولا يكون عالما بشيء من الموجودات فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي
فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئا من الموجودات بل ولا فعل شيئا من الموجودات وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول
وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها لا يصح استثناؤها فإن تلك أيضا حادثة على القول الحق ويلحقها التغير كما يلحق غيرها فيجب أذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية فهي مستلزمة للتغيرات أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة وأما المعقول فلا حقيقة لها وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم
وقد تقدم أصله : أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه
ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية مثل إيجاب الزكوات وتحريم البنات والأخوات ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به ونهيه عما نهاه الله عنه إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور إلا بعلم معين بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه وهذا الذي يسمى تحقيق المناط
إذا تبين هذا فقول القائل : كل من أدرك علل الكائنات من حيث إنها طبائع إلى آخره
يقال له : أتريد أنه أدركها كلية مثل أن يدرك أن في العالم حارا وباردا وأنهما يلتقيان على وجه كذا ؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة ؟
فإن أردت الأول لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات
وإن أردت الثاني فإنه يلزم من العلم بها العلم بلوازمها كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها وليس في المعينات إلا ما هو معلولها ولوازمها فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره سواء كان من الكل المتصل أو المنفصل
ولهذا كان قول المرسلين : إن الله أحصى كل شيء عددا فهو يعلم أوزان الجبال ودورات الزمان وأمواج البحار وقطرات المطر وأنفاس بني آدم : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ]
يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها وهي الموجب والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه
وهم يسمونه علة وهو إنما يوجد شيئا معينا لا يوجد شيئا كليا إذ الخارج ليس فيه شيء كلي فيجب أن يكون عالما بكل شيء جزئي كما انه خالق لكل شيء جزئي وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية فلا منافاة بين هذا وهذا بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات فالخالق أولى بذلك
وقوله : إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل
فيقال لهم : لا ريب أن الله سميع بصير يسمع ويرى سبحانه وتعالى
وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 143 ] ونحو ذلك قال : إلا لنرى ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية فإن المعدوم لا يرى بخلاف الموجود وإن كانت الرؤية تتضمن علما آخر
وقال الطوسي في شرح كلام ابن سينا : قوله : الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات إشارة إلى إدراكها من حيث هي طبائع مجردة عن المخصصات المذكورة وقيدها بقوله : من حيث تجب بأسبابها ليكون الإدراك لتلك الأشياء مع كونه كليا يقينيا غير ظني
ثم قال : منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه : أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك لا أنها غير موجودة في غير ذلك الشخص بل مع تجويز أنها موجودة في غيره والمراد أن تلك الأشياء إنما تجب بأسبابها من حيث هي طبائع أيضا
ثم قال : تتخصص به أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية ولا الطبيعة علة له من حيث هو كذلك
قال : وقوله : إن العاقل لأن بين كون القمر في موضع كذا إلى آخره معناه : أن من يعقل أن بين كون القمر في أول الحمل مثلا وبين كونه في أول الثور يكون كسوف معين في وقت محدود من زمانه كونه في أول الحمل كالوقت الذي سار فيه القمر من أول الحمل عشر درجات فإنما يكون تعقل ذلك العاقل لهذه الأمور أمرا ثابتا قبل وقت الكسوف ومعه وبعده
فيقال له : هذا الذي تصور هذا الكسوف تصور أنه يكون في عام معين أو تصوره مطلقا كتصوره أنه إذا كان في عشر درجات من الحمل مع أمور أخرى يكون كسوف فإن كان الأول فذاك كسوف جزئي معين وتصوره يكون قبله ومعه وبعده وإن كان الثاني فهذا يكون محققا تارة ومقدرا أخرى أما المقدور فأن يعلم أنه كلما حصل القمر في موضع كذا والشمس في موضع كذا حال القمر بين نور الشمس وبين الناس فانكسفت ولكن هذا ليس فيه علم بوقوعه لا مطلقا ولا معينا
والثاني أن يعلم أنه لا بد أن تقع هذه المحاذاة بين الأرض والقمر والشمس وإنما تقع إذا كان كذا فهذا علم كلي لا يعلم به شيء من الكسوف الموجود
ثم يقال : والعلم بهذا ممتنع إن لم يعلم الكسوفات الجزئية وذلك أن أسباب الكسوفات حركات أجسام معينة في أوقات محدودة والعلم بمجموع ذلك يوجب العلم بكل كسوف جزئي والعلم به قبل وقوعه ومع وقوعه وبعد وقوعه فلا يتصور مع العلم بأسباب الحوادث أن يعلم علم كلي إلا وتعلم الجزيئات الواقعة وإلا فلا يكون العلم بجميع الأسباب حاصلا
ولهذا لما كنا لا نعلم عامة الأسباب لم نعلم ما يكون وإذا علمنا أسباب شيء علمنا وقوعه قبل وقوعه ومعه وبعده كمن علم أنه سيبعث محمد صلى الله عليه و سلم وأنه يبعث إذا كانت أمور فإذا علم أنها لم تكن علم أنه لم يبعث وإن علم أنها كانت علم أنه بعث
وكثير مما يتكلم فيه الناس من مقدمة المعرفة يكونون قد علموا جزء السبب ولم يعلموا تمام السبب ولا علموا مانعه فيصيبون أحيانا ويكون خطأهم أكثر من صوابهم لأن ما فاتهم من العلم بتمام السبب والموانع أكثر مما علموه
وقد تقدم قول ابن سينا : قد تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه من يخصه يتخصص به
وقد قال في شرحه : أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية
فيقال : هذا الكلام بين في أنها لا تعقل على هذا الوجه إلا جزئية لا كلية لأنها إذا عقلت من حيث يجب بسببها المعين الجزئي لزم أن تعقل جزئية وأما إذا عقلت من حيث تجب بسبب كلي عقلت كلية لكن رب العالمين هو واحد معين ليس أمرا مطلقا كليا فهو يعلم نفسه علما معينا يمنع من وقوع الشركة فيه لا يعلمها علما كليا لا يمنع من وقوع الشركة فيه وحينئذ فيعلم كل ما صدر عنه على هذا الوجه وقوله : انحصر نوعه في شخصه دليل على ذلك
وقول الطوسي : قوله : منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك لأنها غير موجودة في غير ذلك الشخص بل مع تجويز أنها موجودة في غيره إنما تستقيم في طبائع المخلوقات وأما الخالق تعالى فلا يجوز أن تكون صفته ثابتة لغيره
والكلام إنما هو في أن علمه بنفسه يوجب العلم بالمخلوقات وبه تجب الممكنات وليس في الأسباب ما يوجب شيئا من الممكنات إلا وهو سبحانه وتعالى وكل ما سواه فإنما يوجب بشركة من غيره وهو سبحانه لا شريك له ثم كيف يتخصص بالمبدأ إن لم يكن مختصا كما تقدم ؟
ففي الجملة كل حجة يذكرونها هم أو غيرهم - على علمه بشيء من الأشياء يدل على علمه بالجزئيات
وقول القائل : إنه يعلم الكليات دون الجزئيات كلام متناقض يستلزم أنه لم يخلق شيئا ولا يعلم شيئا من الموجودات
وقوله مع ذلك إنه : لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء تلبيس منه كقولهم : العالم محدث يريدون به أنه معلول مع قدمه وإلا فكل ذرة من ذرات المحدثات عازبة عنه عندهم وكونها تجب وصف كلي باق أزلا وأبدا لا يوجب العلم بها كما ذكروه
ومضمون كلامه أنه يعلم ولا يعلم فهو كلام متناقض ثم الأدلة الدالة على علمه تستلزم علمه بالجزئيات وليس لابن سينا ما يبطل ذلك إلا كون ذلك يفضي إلى تغير العلم لكونه يعلم أن سيكون الشيء ثم يعلم أنه قد كان وهذا إن أبطله من جهة أنه نقص في العلم فهو باطل فإن هذا هو علم للشيء على ما هو عليه فإنه علمه معدوما لما كان موجودا وعلم أنه سيوجد ثم لما وجد علمه موجودا ثم إذا عدم بعد ذلك علم أن قد كان ثم عدم
فهذا هو العلم المطابق للمعلوم وما سوى ذلك فهو جهل لا علم وإن أنكره من جهة أنه يحدث تحول العلم بتحول المعلوم وأن ذلك تغير - فقد عرف قول المانعين من هذا الأصل وأنه في غاية الضعف والفساد مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول لا سيما ومن منع ذلك من الجهمية ومن اتبعهم إنما منعوه لاعتقادهم أن ذلك ينافي القدم
وابن سينا وإخوانه يجوزون قيام الحوادث بالقديم فلا حجة لابن سينا وأتباعه في منعه إلا حجتهم في نفي الصفات وإثبات العلم بالمعلومات المفصلة الثابتة بأعيانها مستلزم لثبوت الصفات كما تقدم بيانه وإقرار أصحابه بذلك وحينئذ فلا حجة لهم في نفي ذلك أصلا
والله تعالى قد أخبر في كتابه بعلمه بما سيكون كالأمور التي أخبر بها قبل كونها فعلم أنه يعلم الأشياء قبل وجودها وأخبر أنه إذا وجدت علمها أيضا
كقوله : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة : 143 ]
وفي القرآن من هذا بضعة عشر موضعا وقد روي عن ابن عباس وغيره : إلا لنرى وقال طائفة من المفسرين : إلا لنعلمه موجودا

رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية
ونحن نذكر كلام أبي حامد عليهم قال : مسألة في إبطال قولهم : إن الله - تعالى عن قولهم - لا يعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون قال : وقد اتفقوا على ذلك
قلت : يعني اتفاق من عرف قوله منهم وهم الذين ذكرهم ابن سينا وإلا فأبوا البركات قد حكى عنهم قولين واختار هو أنه يعلم الجزئيات
قال أبو حامد : فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه فلا يخفى هذا من مذهبه ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره وهو الذي اختاره ابن سينا فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي
فلا بد أولا من فهم مذهبهم ثم الاشتغال بالاعتراض ونبين هذا بمثال وهو أن الشمس مثلا تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تنجلي فتحصل له ثلاثة أحوال : أعني للكسوف حال هو فيها معدوم منتظر الوجود أي سيكون وحال هو فيها موجود أي هو كائن وحال ثالثة هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل
ولنا بإزاء هذه الأحوال ثلاثة علوم مختلفة فإنا نعلم أولا : أن الكسوف معدوم وسيكون وثانيا : أنه كائن وثالثا : أنه كان وليس كائنا الآن
وهذه العلوم الثلاثة متعددة ومختلفة وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كما كان قبل كان جهلا لا علما ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جاهلا فبعض هذه لا يقوم مقام بعض
فزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة فإنه يؤدي إلى التغير وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة فإن العلم يتبع المعلوم فإذا تغير المعلوم تغير العلم وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة والتغير على الله محال
ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ولكن علما يتصف به في الأزل والأبد لا يختلف مثل أن يعلم مثلا أن الشمس موجودة وأن القمر موجود وأنهما حصلا منه بوساطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولا مجردة ويعلم أنها تتحرك حركات دورية ويعلم أن بين فلكيهما تقاطعا على نقطتين : هما الرأس والذنب وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فتنكسف الشمس إذ يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين وتستتر الشمس عن الأعين وأنه إذا جاوز العقدة مثلا بمقدار كذا وهو سنة مثلا فإنه تنكسف مثلا وأن ذلك الانكساف يكون في جميعها أو ثلثها أو نصفها وإنه يمكث ساعة أو ساعتين وهكذا إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه فلا يعزب عن علمه شيء
ولكن علمه بهذا قبل الكسوف وحال الكسوف وبعد الانجلاء على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب تغيرا في ذاته وكذا علمه بجميع الحوادث فإنها إنما تحدث بأسباب وتلك الأسباب لها أسباب أخرى إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية وسبب الحركة الدورية نفس السماوات
وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين والكل معلوم له أي ينكشف له انكشافا واحدا متناسبا لا يؤثر فيه الزمان ومع هذا فحال الكسوف لا يقال : إنه يعلم أن الكسوف موجود الآن ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن وكل ما يجب في معرفته الإضافة إلى الزمان فلا يتصور أن يعلمه لأنه يوجب التغير
وهذا فيما ينقسم بالزمان وكذا مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان كأشخاص الناس والحيوانات فإنهم يقولون : لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي ويعلم عوارضه وخواصه وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركبا من أعضاء : بعضها للبطش وبعضها للمشي وبعضها للإدراك وبعضها زوج وبعضها فرد وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه وهلم جرا إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يعزب عن علمه شيء ويعلمه كليا
فأما شخص زيد فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي
فأما قولنا : هذا وهذا فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة وذلك يستحيل في حقه
قال الغزالي : وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية إذ مضمونها أن زيدا مثلا لو أطاع الله أو عصاه لم يكن الله عالما بما يتجدد من أحواله لأنه لا يعرف زيدا بعينه فإنه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقا كليا لا مخصوصا بالأشخاص بل يلزم أن يقال : تحدى محمد صلى الله عليه و سلم بالنبوة وهو لم يعرف في تلك الحال أنه تحدى بها وكذلك الحال مع كل نبي معين وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة وأن صفة أولئك كذا وكذا فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه فإن ذلك يعرف بالحس والأحوال الصادرة منه لا يعرفها لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين ويوجب إدراكها على اختلافها تغيرا
قال : فهذا ما أردنا أن نذكر من نقل مذهبهم أولا ومن تفهمه ثانيا ثم نبين ما فيه من القبائح اللازمة عليه ثالثا
قلت : قبائح مذهبهم أعظم وأكثر مما ذكره أبو حامد من وجوه كثيرة ومضمون حجتهم أن علم الرب بأحوال عباده يستلزم تنوع علمه بهم لتنوع المعلوم وأن ذلك تغير يمتنع على الله ولم يقيموا على امتناع مثل هذا المعنى حجة صحيحة : لا شرعية ولا عقلية
ولفظ التغير فيه إجمال كما ذكرناه في غير هذا الموضع والتغير الممتنع ما يكون فيه استحالة تتضمن نقصا
وأما ما ذكره من كون العلم يطابق المعلوم فيتنوع بتنوع حاله فهو صفة كمال وإلا كان العلم جهلا
وأما إذا سموا هذا تغيرا وادعوا أن ما دخل في هذا الاسم وجب نفيه فهو كتسميتهم إثبات الصفات تركيبا ودعواهم أن ما يدخل في ذلك يجب نفيه
والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم وليس في كلام الله ورسوله ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ما ينفي هذا المعنى الذي سموه تركيبا وتغيرا بل النصوص المتواترة التي جاءت بها الأنبياء عن الله كلها تدل على إثبات ما نفوه من هذه المعاني ولو لم يكن إلا إثبات علمه بكل شيء علما مفصلا
وهذا القرآن فيه من إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص المعين وكلامه المعين وفعله المعين وثوابه وعقابه المعين مثل قصة آدم ونوح وهود وصالح وموسى وغيرهم ما يبين أنهم من أعظم الناس تكذيبا لرسل الله تعالى
وكذلك أخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه و سلم وما جرى ببدر وأحد والأحزاب والخندق والحديبية وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالا وأفعالا
وأخباره أنه يعلم السر وأخفى وأنه عليم بذات الصدور وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى وعنده كتاب حفيظ وأنه يعلم ما في السموات والأرض وأن ذلك في كتاب
وأنه ما : { تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ]
وأنه يعلم ما : { تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة } [ الرعد : 8 - 9 ]
وأنه : { عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } [ لقمان : 34 ]
وأنه : { قضى أجلا وأجل مسمى عنده } [ الأنعام : 2 ]
وأنه : { يعلم ما يسرون وما يعلنون } [ النحل : 23 ]
وأنه : { أعلم بما يقولون } [ طه : 104 ]
إلى أمثال ذلك مما يطول ذكره في كتاب الله تعالى
ثم من أعظم الضلال والجهل أن ينفي النافي علم رب العالمين بمخلوقه لكون ذلك يستلزم ما يسمونه تغيرا وحلول حوادث
ثم نفي هذا المعنى لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها وإنما يوافقهم عليه الجهمية
ومن تلقاه عن الجهمية من الكلابية ونحوهم فلا يقر بنفي ذلك إلا من هو من أهل الكلام المبتدع المذموم المحدث في الإسلام ومن تلقاه عنهم جهلا بحقيقته ولوازمه
وإذا كان علم الرب مستلزما لهذا كان هذا من أعظم البراهين على ثبوته وخطأ من نفاه شرعا وعقلا فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول إثبات العلم بكل شيء من الأعيان
فإذا تبين بصريح العقل أن ذلك يستلزم قيام هذه المعاني بالرب لزم القول بذلك كيف والقرآن قد دل على أنه يعلم الشيء بعد كونه مع علمه بأن سيكون في بعض عشرة آية وقد ثبت بالدلائل اليقينية أنه يعلم كل ما فعله وأنه بكل شيء عليم وهو مقتضى حجتهم
وأما زعمهم مع هذا أنه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه
فيقال لهم : إن كان لا يعلم إلا كسوفا كليا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو لم يعلم شيئا من الكسوفات الموجودة وإن علم الكسوف الموجود فكل منها جزئي فلا يتصور أن يعلم الكسوف إلا مع علمه بالكسوفات الجزئية

كلام ابن سينا باطل من وجوه الوجه الأول
وهذا الذي قاله باطل من وجوه : من جهة دعواه أنه مع علمه بالعلة التامة لوجود كل موجود لا يعلم شيئا من المعلولات الحادثة وإنما يعلم أمرا كليا لم يحدث ولا علة لوجوده فإن الكليات لا يوجد شيء منها إلا معينا فالعلة الموجبة له لا توجب إلا معينا جزئيا فمن لم يعلمه معينا جزئيا لم يعلم معلول العلة التامة

الوجه الثاني
من جهة دعواه أنه إذا علم الكسوف على الوجه الكلي علم جميع صفاته وعوارضه وعلى هذا فيعلم وجود الإنسان علما كليا مع علمه بجميع صفاته وعوارضه وهذا باطل فإن الصفات والعوارض التي يتصف بها الإنسان وتعرض له لا يشترك فيها الإنسان بل ما من إنسان إلا وله صفات وعوارض لا يشركه فيها غيره كالسحنة والنغمة فلا يشرك اثنان في سحنة ولا نغمة
وهذا من دلائل ربوبيته وأنه بكل شيء عليم فيمتنع أن يعلم جميع ما يتصف به الإنسان ويعرض له علما كليا وكثير من ذلك بل أكثره علم يختص بالواحد من الناس جزئي لا يشركه فيه غيره وإن كان الناس يشتركون في أن لهذا رأسا ولهذا رأسا ولهذا قلبا وكبدا ولهذا قلبا وكبدا ولهذا وجها ولهذا وجها فما من شيئين من ذلك يستويان من كل وجه بل لكل من ذلك صفة تخصه فكيف يتصور أن يعلم تلك الخصائص من لا يعلم إلا الكليات المشتركة التي لا اختصاص فيها ؟

الوجه الثالث
أن هذه الجهات الحادثة من لوازم العلل التي يعلمها علما تاما فكيف يتصور مع علمه بالعلة التامة علما تاما أن لا يعلم لوازمها ؟ ! وكل حادث بعينه هو من لوازمها فأحد الأمرين لازم : إما أن العلم بالعلة التامة لا يستلزم العلم بالمعلول وإلا فلا يكون عالما علما تاما بالعلة التامة
وكلا المقدمتين يسلمون صحتها فكيف يجوز أن يسلم هاتين المقدمتين اللتين يقوم عليهما البرهان اليقيني من ينازع في نتيجتهما اللازمة عنهما بالضرورة ؟ ! وهل هذا إلا جهل بموجب البرهان القياسي في ذلك الذي هم دائما يقررونه مادة وصورة ؟ !

الوجه الرابع
أنهم يقولون : إن جميع الحوادث مستندة إلى حركة النفس الفلكية ويقولون : إن النفس الفلكية تعلم جزيئات حركات الفلك بل ادعى ابن سينا ومن اتبعه أنها تعلم جميع الحوادث لعلمها بأسبابها لأن سببها هو الحركة الفلكية والنفس الفلكية تعلم ذلك فتعلم المعلولات المسببة عنها وزعموا أن هذه النفس هي اللوح المحفوظ التي أخبرت به الأنبياء وأن المكاشفات التي تحصل في النوم واليقظة للأنبياء وغيرهم هي لاتصال نفوسهم بهذه النفس الفلكية
و أبو حامد ذكر هذا المعنى موافقة لهم في طائفة من كتبه واتبعه على ذلك طائفة من المتصوفة وصاروا يدعون الأخذ من اللوح المحفوظ ومنهم من يعرف مرادهم باللوح المحفوظ ومنهم من لا يعرف ذلك كما وقع ذلك في كلام غير واحد من متأخري الصوفية أتباع أبي حامد والمتفلسفة
هذا مع أن حركة الفلك ليست هي العلة التامة في حدوث الحوادث بل يفيض من العقل الفعال ما يفيض من الصور عند استعداد القوابل بحسب الحركة الفلكية فهل ما يقوله هؤلاء في علم الرب وعلم النفس الفلكية التي ادعوا أنها اللوح المحفوظ إلا من أعظم الأقوال تناقضا ؟ ! حيث جعلوا ما هو بزعمهم جزءا لسبب للحوادث فادعوا أن العلم به يوجب العلم بجميع الحوادث الجزئية ثم العلة التامة عندهم لكل شيء من حادث وغيره قالوا : إن العلم التام به لا يوجب العلم بكل حادث وهم في النفس الفلكية محتاجون بعد إثباتها إلى كون حركة الفلك سببا لحدوث شيء
وهذا إذا سلم أو قامت عليه حجة لا يمكن أن يدعى أنه علة تامة باتفاقهم مع اتفاق أهل الملل فكيف يجعلون العلم بما ليس بعلة تامة للحوادث موجبا للعلم بجزئياتها ؟ ويقولون : العلم التام بما هو علة لها لا يوجب العلم بها ؟
ثم إذا كانت حركة الفلك صادرة عن الرب بوسط أو بغير وسط وهو يعلم نفسه ويعلم مفعولاته ولوازمها ولوزام لوازمها وذلك كله من مفعولاته بوسط أو بغير وسط فإما أن يعلمها مفصلة معينة أو لا يعلمها مفصلة فإن علمها مفصلة علم لوازمها فعلم جميع الحوادث مفصلة معينة وإن لم يعلمها مفصلة فلا ريب أن علمه بحركات الفلك أولى من علم النفس الفلكية بكل ما يحدث في الأرض فإن هذه أكثر اختلافا من حركات الفلك فالعلم بتلك أقرب إلى العلم الكلي وهو سبحانه أكمل في خلقه لها ولو بواسطة من إحداث النفس الفلكية لحوادث الأرض
ثم علم النفس الفلكية بالحركات : إما كمال وإما نقص فإن كان نقصا فينبغي تنزيه العالم العلوي منه وإن كان كمالا فخالقها أحق بذلك منها ثم تلك الحركات وتصورات النفس وإرادتها جميعها مفعولة للرب ومعلولة له على اصطلاحهم وهو الخالق لها والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول فيجب علمه بها وإذا علمها وهي سبب الحوادث - وجب علمه بالحوادث
ودعواهم مع عدم علمه بالجزئيات أنه يعلم كل صفة في داخل الآدمي وباطنه وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يعزب عن علمه شيء ويعلمه كليا - دعوى اثنان في أمر موجود في الخارج بل ولا يتماثل شيئان من كل وجه وإن كانا يتشابهان من بعض الوجوه
فالعلم بما يتشابه فيه الناس علم ببعض صفاتهم الكلية ليس ذلك علما بجميع صفات كل واحد منهم ولا صفة كل واحد وعوارضه تماثل الآخر من كل وجه حتى يكون العلم بالقدر المشترك علما كليا يتناولهما بل لكل واحد خصائص لا يشاركه فيها غيره والعلم بالقدر المشترك لا يتناول شيئا من تلك الخصائص
والإنسان الموجود إنما كان هو الإنسان الموجود بخصائصه لا بالقدر المشترك بينه وبين غيره بل ذلك القدر المشترك إنما يكون في العلم لا يكون في الوجود فمن لم يعلم إلا الكلي - وهو القدر المشترك - لم يعلم شيئا من الموجودات البتة وإنما ننتفع نحن بالعلم الكلي في الأمور الموجودة إذا أدرجنا الموجودات في الأمر الكلي كما في علم الشرع والطب وغير ذلك فعلم الطبيب بأن السقمونيا تستخرج الصفراء وأن الدم يستخرج بالفصد والحجامة لا يوجب علما بما ينتفع به الناس إن لم يعلم أن هذا به صفراء وهذا قد زاد به الدم فإذا علم المعينات مع الكليات انتفع بعلمه وأمكن أن يكون له تأثير في الوجود ويصير علما فعليا أي هو شرط في الفعل
فأما العلم الكلي بدون العلم بالجزيئات التي يفعلها الفاعل فلا يكون علما فعليا ولا يؤثر في وجود شيء ولا في فعله
وبهذا يتبين أن قولهم : إن علم الرب تعالى فعلي مع إخراج الجزئيات الموجودة عنه تناقض يعرفه من تصور القولين
وعامة أقوال القوم متناقضة لكن ضلالهم في مسألة العلم عظيم جدا وهو من أقبح الكفر وأعظمه منافاة لصريح المعقول وما فطر الله عليه عباده
وقوله : إن شخص زيد إنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي فأما قولنا : هذا وهذا فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة
فيقال لهم : من الذي فرق في حق الخالق تعالى بين الحس والعقل حتى وصفه بالعقل دون الحس ؟ فإن كنتم تحتجون بالمعقولات التي تعرفونها فهي تبطل هذا الفرق وإن كنتم تعتصمون بالشرع فهو لم يطلق عليه اسم العقل ولا الحس لكن قال : لفظ العلم والسمع والبصر وبين أنه بكل شيء عليم وأنه سميع بصير والسمع والبصر هو مما يريدونه بلفظ الحس
فإن قلتم : أن علمه بالجزئيات المشخصة لا يمكن إلا مع رؤيته لها فلا محذور في إثبات رؤيته لكل مخلوق
وإذا قلتم : هذه المحسوسات في جهة والإحساس بها يقتضي كونها بجهة من الحاس على قرب أو بعد فهذا يناسب قولكم : إن ماليس في مكان ليس له نسبة إلى المكان
وحينئذ فيقال : أنتم تعلمون أن النفس لها تعلق للشعور والتدبير بالبدن الجزئي فإن ذلك يستلزم أن يكون الذي يحس البدن جسما فالنفس جسم وتدبير رب العالمين لمخلوقاته أعظم من تدبير النفس للبدن فإن النفس ليست مستقلة بتدبيره بل لها شركاء في قوى طبيعة وأسباب خارجية
وأما رب العالمين فلا شريك له في تدبير مخلوقاته فيكون علمه بهم ورؤيته لهم أعظم من علم النفس ببدنها وإدراكها له سواء سمي هذا وهذا حسا أو لم يسم
وما شاركتم فيه الجهمية من النفي لا ينفعكم وإنما تنفعكم الأدلة الصحيحة أو الشرعية وقد قدمنا غير مرة أنه ليس لكم دليل ينفي ما سميتموه تركيبا عن واجب الوجود ولا ما ينفي الصفات حتى أن الغزالي مع نفيه لكون الرب جسما بين أنه لا دليل لكم على ذلك وأنتم تقولون : لا دليل لنفاة المتكلمين على نفي ذلك كما قد حكي ذلك عن الفريقين في موضعه وبين ما ذكر في حجج الفريقين من الفساد العقلي والابتداع الشرعي
وأيضا فإذا كان لا يعلم إلا الأمور الكلية الأزلية الأبدية التي لا تقبل التغير فيجب أن لا يعلم أحدا من الأنبياء والرسل ولا شيئا مما أمروا به الناس فإنه ليس شيء من ذلك أزليا أبديا بل يجب أن لا يعرف وجود بني آدم ولا غيرهم من الحيوانات إلا إذا ثبت أن وجود لك لازم لوجود الأفلاك
ومعلوم أنهم ليس لهم دليل على قدم نوع من المركبات لا الإنسان ولا غيره من الحيوانات وإن اعتقدوا قدم الأفلاك فإن حدوث الحوادث السفلية هو عن حركات الأفلاك والحركات متنوعة وتحدث فيها أشكال غريبة فيجوز أن يكون حدوث ما حدث من الأنواع بسبب بعض الأشكال التي حدثت ولهذا يجوز عندهم تحول المعمور من الربع الشمالي إلى الجنوبي وغير ذلك من التغيرات العظيمة ويجب أن لا يكون له علم بالطوفانات العامة كطوفان نوح وغيره لأنه من هذا الباب بل يجب أن لا يكون عالما بشيء من أحوال الأفلاك وغيرها ما لم يثبت أن ذلك بعينه قديم أزلي
وهم لا دليل لهم على قدم شيء من العالم وإنما حججهم تدل على قدم نوع فعله لا على قدم شيء بعينه من المفعولات وقد قامت الأدلة على أن كل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن وإن قيل : إنه لم يزل متكلما فاعلا
وعلى هذا التقدير فلا يكون عالما بشيء من مخلوقاته إذ كلها حادثة وهم لا يعلمون شيئا من المحدثات ويجب أن لا يكون عالما بما يتكلم به وما يفعله مع قيام الدليل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته بل ولازم هذا القول أنه لم يفعل شيئا فإنه لا يفعل إلا بمشيئته ولا يشاء إلا مع علمه بما يشاؤه فإذا قدر أنه لم يعلم الفعل المعين والمفعول المعين لزم أنه لم يفعل شيئا ولزم أن كل من فعل بقدرته ومشيئته كان أكمل منه لأنه فعل بعلم وقدرة ومشيئة وهذا في صريح العقل أكمل ممن لا يفعل شيئا أو ممن يفعل بلا قدرة ولا مشيئة ولا علم
وأيضا فإنما يجوز أن يعلم المفعولات على وجه كلي أزلي أبدي لا يتغير أن لو كانت المخلوقات مخلوقة على هذا الوجه ولو كان كذلك لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث لأن حدوث الحادث بعد أن لم يكن إنما يكون عن حدوث تمام علته وحدوث تمام العلة لا بد له من سبب حادث وهو تمام علته التامة حتى ينتهي الأمر إليه تعالى فلا بد أن يحدث ما يكون تمام العلة التامة لحدوث الحوادث فإن قدر أنه لم يعلم إلا الأمر القديم الأزلي الأبدي امتنع أن يحدث شيئا لوجهين : أحدهما : أن الحادث لا يحدث عن قديم أزلي أبدي بدون حادث وهذا أصلهم الذي يقولون به
ثم نقول : إن جاز حدوث الحادث عن القديم جاز أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا ولزم حينئذ علمه بالمحدثات وإن لم يجز ذلك امتنع أن يحدث عن العلة القديمة التامة شيء من الحوادث فلا يحدث في العالم شيء وإذا بطل كون العالم مخلوقا عن علة أزلية لم يحدث عنها لزم أن الحوادث حدثت عند كمال الموجب لحدوثها وذلك بحدوث تمام الموجب لحدوثه وذلك يرجع إلى أمور قائمة به متعلقة بمشيئته وقدرته وحينئذ فيجب علمه بها لأنه من لوازم نفسه ولامتناع وجودها بدون العلم بها
وأيضا فلأن الحوادث إنما هي صادرة عنه سواء صدرت بوسط أو بغير وسط فإن لم يكن عالما بها على الوجه الذي حدثت عليه لم يكن عالما بعلتها التامة المستلزمة لحدوثها لأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول فإذا قدر عدم العلم بالمعلول لزم عدم العلم بالعلة التامة وإذا امتنع العلم بالعلة التامة لزم أن ينتفي العلم بعلة العلة حتى يلزم عدم علمه التام بنفسه
وإذا قدر عالما بنفسه لزم علمه بكل حادث على الوجه الذي حدث عليه ولزم علمه بكل جزئي لأنه هو الفاعل له على هذا الوجه وإن كان بطريق اللزوم فإن علمه بالملزوم كفعله للملزوم والعلم التام بالملزوم يوجب العلم بلوازمه كما تقدم بيانه

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرا فأما أن يقال : إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة وشيء لا يعقله العلماء ولا يقنع الجمهور الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال : إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] فإنه ليس عند الجمهور شيء يضطرهم إلى أن يقولوا : إنه مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث
وقد تبين من قولنا : إن الحوادث التي توجب الحدوث للمحل الذي تقوم به هي الحوادث التي تغير جوهر الشيء وأما تحقيق إرادة الإله فمن علم الخواص الخاص بهم فهؤلاء أرادوا أن يفهموا الناس من الإرادة معنى غير المفهوم من معنى الإرادة المعروفة المفهومة التي صرح بها الشرع وهو معنى لا يفهمه الجمهور ولا تكيفه العقول وجعلوا ذلك أصلا من أصول الشريعة وكفروا من لم يقل به وإنما طور العلماء في هذا المقام أن يقوم البرهان عندهم أن هناك إرادة غير مكيفة لا يقال عنها : إنها إرادة قديمة يلزم عنها حادث ولا إرادة حادثة مثل التي في الشاهد بل هي إرادة العقول الإنسانية مقصرة عن تكييفها كما هي مقصرة عن تكييف سائر الصفات التي وصف بها نفسه لأنها متى كيفت أشبهت الصفات المكيفة المحدثة فوجب أن يصدق بجميعها بالدلائل البرهانية بلا كيف
قلت : أما كونها إرادة ليست مثل إرادة الخلق فهذا لا بد منه فيها وفي سائر الصفات هذا لا يختص بالإرادة كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء فصفاته كذاته
لكن مجرد نفي هذا لا ينازعه فيه أحد ومضمون كلامه الوقف عن الكلام في قدمها وحدوثها لا بيان حل الشبهة كما فعل في مسألة العلم
والفلاسفة الدهرية حائرون في هذا الموضع ومن يتكلم فيها تناقض كلامه لفساد الأصل الذي يبنون عليه وهو صدور الحوادث عن علة موجبة لمعلولها بوسط أو بغير وسط فإن هذا ممتنع بل هو جمع بين النقيضين لأن العلة التامة لا يتخلف عنها شيء من موجبها ولا موجب موجبها والحوادث متأخرة فلا يكون من موجبها ولا موجب موجبها فجعلها من موجبها أو موجب موجبها تناقض فإذا كانوا حائرين في أصل صدور الحوادث عنه فكيف في إرادته لها وعلمه بها ؟
وما ذكره من أن نفاة المتكلمين لا دليل عندهم إلا ما ذكر من أن الذي تقوم به الحوادث حادث وما ذكره من إبطال دليلهم على ذلك هو له ألزم فإن الفلاسفة يقيموا على ذلك دليلا بحال إلا ما ينفي الصفات مطلقا
وقولهم في ذلك باطل متناقض إلى الغاية كما قد بين في موضعه وكلامه يتضمن إثبات الصفات فإذا كان من أصلهم أن القديم قد يقوم به الحادث مع أنه تقوم الصفات بالواجب القديم كان ما ألزمه لنفاة المتكلمين له ألزم
قال : فإن قيل : فصفة الكلام من أين تثبت له ؟
قلنا : تثبت له من قيام الصفة العلم به وصفة القدرة على الاختراع فإن الكلام ليس شيئا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلا يدل عند المخاطب على العلم الذي في نفسه ويصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه وذلك فعل من جملة أفعال الفاعل
قلت : الكلام ليس هو من نفس التكليم فليس كل متكلم مخاطبا لغيره والنظر أولا في إثبات كونه متكلما ثم في إثبات كونه مكلما لغيره وما ذكره إنما هو في إثبات كونه مكلما لغيره ثم إنه لم يذكر إلا مجرد الإعلام والإفهام والدلالة بأي طريق كان وما يسمى إعلاما وإفهاما ويسمى تكليما مع الإطلاق أو التقييد درجات
كما قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى : 51 ] فالتكلم من وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال ملك كما أرسل جبريل بالقرآن أعظم من مجرد الإيحاء
كما قال : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } [ القصص : 7 ]
وقال : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ]
ولا ريب أن الدلالة على مراتب : أحدها : أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد فهذا الذي يسمى لسان الحال وكل ما يسمى دليلا فيسمى بهذا الإعتبار شاهدا ومعرفا وقائلا كما قال :
( امتلأ الحوض وقال قطني )
( قطني رويدا قد ملأت بطني )
وقالت : انساع بطنه
وقال الحائط للوتد : لم تشقني ؟
ولا يجوز أن يجعل تكليم الله من هذا الباب عند المسلمين وقد يجعل تكليمه من هذا الباب من يقول : إنه لا يعلم الجزئيات
والدرجة الثانية : أن يكون الدال عالما بالمدلول عليه لكنه لم يقصد إفهام مخاطب ولكن حاله دل المستدل على ما علمه كالأصوات التي تدل بالطبع مثل البكاء والضحك ونحوهما فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه مثل الحزن والفرح وكذلك صفرة الوجل وحمرة الخجل تدل على ما يعلمه المرء من فزعه وحيائه وإن لم يقصد الإعلام بذلك
ومن هذا الباب قول الشاعر :
( تحدثني العينان ما القلب كاتم ... ولا خير في الشحناء والنظر الشزر )
وقول الآخر :
( والعين تعلم من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها )
ومن هذا الباب قوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ] فهو يعلم من السيماء ومن لحن القول ما لم يقصدوا الإعلام به
وتكليم الله عند المسلمين لا يجوز أن يكون من هذا الباب اللهم إلا عند القدرية الذين يقولون : إن ما يحدث من علم العبد قد يحدث بدون إرادة الله
والدرجة الثالثة : الدلالة التي يقصدها الدال : فمنها : الإعلام بغير خطاب مسموع كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد وكإشارة الأخرس ونحو ذلك فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام
وهذا هو الذي أثبته المذكور ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علما فقد كلمه الله فإنه قد نصب دليلا أيعرفه بذلك والله عالم به وهو مريد لما وقع
ولهذا قال : وقد يكون من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه بما نصبه من الأدلة ومن الناس من قد يعرض عن ذلك ولا ينظر إلا إلى ما دله وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك مالا يعرف عليه دليلا معينا
ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به
كما قال تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ]
وقال : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } [ القصص : 7 ]
بل إيحاء النحل ليس مقتصرا على هذا فإن ذاك أيضا إيحاء بما يريد أن يفعل وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام
والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام وقد يكون طلبا منه لفعل أو لترك : إما لمصلحته وإما لمجرد إرادة الأمر وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول والأول لا يستلزم هذا فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم
وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم والذين يقولون : إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره خير من هؤلاء
وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس فإذا كان من لم يثبت لله كلاما إلا كلاما مخلوقا في غيره مع أنه حروف منظومة من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام ؟ !
وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله تعالى ولكن يقولون : ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط بل هذا يحصل لعموم الخلق
وأما تكليمه من وراء حجاب أو بإرسال رسول فهذا مخصوص بالأنبياء وهؤلاء المتفلسفة يجعلون النبوة من جنس ما يحصل لعلماء الفلاسفة الكاملين عندهم
ومن هذا صار كثير من متصوفة الفلاسفة يطمعون في النبوة أو فيما هو أعلى منها عندهم كما حدثونا عن السهروردي المقتول أنه كان يقول : لا أموت حتى يقال لي : قم فأنذر
وكذلك ابن سبعين كان يقول : لقد زرب ابن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي
و ابن عربي صاحب الفتوحات المكية كان يتكلم في خاتم الأولياء ويقول : إنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء وإن الأنبياء جميعهم يستفيدون العلم بالله من جهة هذا المسمى بخاتم الأولياء والعلم بالله عندهم هو القول بوحدة الوجود كما قد عرف من قول هؤلاء ويقول :
( مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي )
ويقول : إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي والولي يأخذ العلم العقلي المجرد ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوف أي بخطاب كان في نفسه ليس خارجا عن نفسه ويقول بعضهم كلم من سماء عقله وأحدهم يكلم بدون هذا الحجاب وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه
وصاحب خلع النعلين وأمثاله يسلكون هذا المسلك
وهؤلاء أخذوا من مشكاة الأنوار التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم
ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة كانت غايته فيما أثبته من كلام الله هو من جنس الإعلام العام الذي يشترك فيه نوع الإنسان
ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيمانا بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة فيجتمع فيه الضلالان
واليهود والنصارى آمنوا ببعض ما أنزل الله وكفروا ببعض كما قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء : 150 - 151 ]
لكن أولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الأنبياء والكتب لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما ولا يؤمنون بما فوق ذلك
وكذلك فيما أخبرت به الرسل من الغيب : يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وكذلك فيما أمروا به فهم يؤمنون ببعض نوع الرسالة ويكفرون ببعض
ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيرا منهم وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه ويكونون من هذا الوجه خيرا من اليهود والنصارى
ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى

تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي - أعني الإنسان - يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر فإنه بالحري أن يكون ذلك واجبا في الفاعل الحقيقي
قال : ولهذا الفعل شرط آخر في الشاهد وهو أن يكون بواسطة وهو اللفظ وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الفعل من الله تعالى في نفس من اصطفى من عباده بواسطة ما إلا أنه ليس يجب أن يكون لفظا ولا بد مخلوقا له بل قد يكون بواسطة ملك وقدي كون وحيا أي يغير لفظ يخلقه بل يفعل فعلا في السامع ينكشف له به ذلك المعنى وقد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه وإلى هذه الأطوار الثلاثة الإشارة بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى : 51 ]
فالوحي هو وقوع ذلك المعنى في نفس الموحى إليه بغير واسطة لفظ يخلقه بل بانكشاف ذلك المعنى له بفعل يفعله في نفس المخاطب كما قال تعالى : { فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 9 - 10 ]
وقوله : { من وراء حجاب } هو الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه وهذا هو كلام حقيقي وهو الذي خص الله به موسى ولذلك قال : { وكلم الله موسى تكليما } [ النساء : 164 ] وأما قوله : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه } [ الشورى : 51 ] فهذا هو القسم الثالث وهو الذي يكون بواسطة الملك
قال : وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء والذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين
قلت : هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاما ولا تكليما هو أمر ونهي وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام
وقوله : ولهذا الفعل شرط في الشاهد - وهو اللفظ - فيجب أن يكون من الله بواسطة وهو الملك أو جعل العبد عالما بذلك أو لفظ يخلقه في سمع المستمع فهذا شر من قول المعتزلة الذين يقولون : كلام الله مخلوق

كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه
وهو متضمن لعدة وجوه من الخطأ : منها : أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه كما أن البشر أيضا رسول ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضا فإنه قد يرسل رسولا كما يكتب كتابا والرسول مبلغ لكلام المرسل فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول والرسول قد يبلغ لفظ المرسل وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه فهذا كله يقع في البشر كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ فلا يجعل هذا من الله نوعا من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر فإن البشر تجمع بين النوعين : بين اللفظ وبين هذا فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائما مقام الإرسال من البشر لا مقام اللفظ
وأيضا فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر أما إحداث الفهم في العبد فهذا مفعول من مفعولات الله كسائر مفعولاته فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر ويقدر ويعمل
ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان قال تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 1 - 3 ] وقال موسى : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ]
فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله ؟
وأيضا فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه ولا هذا واسطة في هذا التكليم بل هذا هو نفس الواسطة وهو يثبت أمرين : أحدهما : فعل من الله هو التكليم والثاني واسطة أخرى غير الفعل
وذلك لا يصلح لأمرين : أحدهما : أن الفعل غير المفعول كما أقر بذلك غير مرة وهنا لا يثبت لله فعلا غير ما حدث في نفس الملهم
الثاني : أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده وهو مفعول الحق وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد وإثبات شروط وإزالة موانع فتلك هي شروط العلم كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك
وأما قوله : بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه
فيقال له : هذا اللفظ : إن كان موجودا في شيء خارج عن المستمع فهو قول المعتزلة الذين يقولون : إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره
وهو لم يرد هذا بل قوله وقول أصحابه شر من هذا وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه وهو أنه خلق لفظا في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفس من الأصوات وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم
ولا ريب أن إحداث المعاني العقلية المجردة في نفس الإنسان أكمل من إحداث هذه في نفسه فيكون تكليمه لموسى أنقص من إيحائه إلى سائر النبيين والله قد فضل موسى بالتكليم وعلم ذلك بالضرورة من دين المسلمين واليهود والنصارى
قال تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } [ النساء : 163 - 164 ]
وقال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } [ البقرة : 253 ]
وقال : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } إلى قوله : { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [ الأعراف : 143 - 144 ]
وقال : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } [ مريم : 52 ]
وقال : { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } [ القصص : 30 ]
وقال : { هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } [ النازعات : 15 - 16 ]
وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها : إما يقظة وإما مناما يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر من أن يحصى فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس فآحاد الناس شركاؤه في هذا فكيف بالأنبياء فكيف بالمرسلين ؟ !
ومعلوم أن الله خص موسى بالتكليم تخصيصا لم يشركه فيه : لا نوح ولا إبراهيم ولا عيسى ولا نحوهم من النبيين
وقوله : إن ذلك الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه وهذا هو كلام حقيقي وهو الذي خص به موسى كلام باطل فإن هذا ليس بالتكليم الحقيقي الذي خص به موسى بل ليس هو التكليم الحقيقي عند أحد من الأمم
ولا يعقل أحد في التكليم هذا وإنما هذا من جنس المنامات وغايته أن يكون من جنس الإيحاء والإنسان قد يرى في منامه أن الله خاطبه بكلام كثير يسمعه فإن كان هذا كلام حقيقي لله فما أكثر الكلام الحقيقي لله وما أكثر تكليمه بكلام حقيقي لآحاد الناس ! كما كلم موسى بن عمران النجي المقرب المخصوص بالتكليم
وأيضا قوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } [ الشورى : 51 ] يقتضي أن التكليم من وراء حجاب نوع غير الوحي وأن المكلم بذلك محجوب أن يرى الله لأن التكليم المسموع قد يكون مع رؤية المستمع للمتكلم وقد يكون مع كونه محجوبا عنه بخلاف الوحي فإنه يقع في قلبه فلا يحتاج أن يجعل نوعين
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ] فلو كان الكلام المسموع هو شيئا قائما بالمستمع لا وجود له في الخارج لكان من جنس الوحي الذي لا يحسن أن يقال معه : من وراء حجاب فإن صاحب هذا لم يسمع شيئا منفصلا عنه يمكن مشاهدة المتكلم به تارة وحجب المستمع عنه أخرى والكلام على هذا مبسوط في موضعه
والمقصود هنا التنبيه على ما تعرف به الأقوال الموافقة للقرآن والمخالفة له فإن هذا الباب خاض فيه طوائف من الناس وأكثر الناس يسمعون كلام هذا وهذا ولا يعرفون حقائق الأقوال ومراتبها في القرب من الحق والبعد منه

تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين وبهذه الجهة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله
أعني أن القرآن تضمن براهين عجزت العقول البشرية عنها فوجب أن يكون فاعلها هو الله وفاعل البرهان عند الناظر فيه مقطوع عنده أن فاعل ذلك متكلم
قلت : هذا بناه على ما تقدم من أن التكليم ليس إلا مجرد الإعلام فما علمه العالم بالدليل هو من هذا النمط وهذا مما يبين ضلاله فإنه من المعلوم بالإضرار أن تكليم الله لأنبيائه بالوحي الذي يخصهم أمر لا يحصل للعلماء ما ذكره في القرآن مضمونه أن القرآن فيه من البراهين ما تعجز عنه العقول فوجب أن يكون مفعولا لله على زعمه
وهو والمعتزلة يقولون : إنه مفعول أحدثه في شيء منفصل عن الرسول وعن جبريل وهؤلاء عندهم لا يكون إحداثه إلا في نفس الرسول أو جبريل عند من يسلم أن جبريل ملك منفصل عن النبي قائم بنفسه وهذا لا يقوله إلا من قرب إلى الإسلام منهم وأئمتهم لا يقولون ذلك ولا يعرفون جبريل إلا ما في نفس النبي من الخيال أو العقل الفعال فقول المعتزلة خير من قول هؤلاء بكثير
ويقال له : القرآن إذا تضمن براهين عجزت العقول عنها فمن أين وجب أن يكون مفعولا لله ؟ وما المانع من أن يكون كلاما يتكلم الله به ؟ هذا لا مانع منه إلا ما يقوله نفاة الصفات وأنتم قولكم في إثباتها ونفيها متناقض تثبتونها تارة وتنفونها أخرى ولا دليل لكم على النفي إلا ما قد عرف فساده والأدلة اليقينية توجب إثباتها أو ما يقوله من ينفي أفعاله وما يقوم به من الأمور التي يختارها ويقدر عليها كالتكليم مثلا وأنتم قد بينتم فساد هذه الحجة التي استدل بها نفاة ذلك
قال : فقد تبين لك أن القرآن - الذي هو كلام الله - قديم وأن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه وتعالى لا للبشر
فيقال له : ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن القرآن - الذي هو كلام الله - قديم فإن غاية ما ذكرته أن يكون القديم هو العلم والقرآن ليس هو مجرد العلم : لا حروفه ولا معانيه
أما حروفه فظاهر وأما معانيه فإن معاني الكلام نوعان : إنشاء وإخبار فأما الإنشاء ففيه الأمر والنهي المتضمن للطلب أو للإرادة التي بمعنى المحبة ونحو ذلك وأما الخبر فهل معناه من جنس العلم أو حقيقة أخرى غير العلم ؟ ففيه قولان معروفان
فإذا لم يكن في كلامك ما يمكن أن يكون قديما غير العلم لم يكن معنى القرآن عندك قديما ولكن بعض معناه ثم الكلام في تعدد هذه المعاني واتحادها وتعدد العلم والإرادة واتحاد ذلك لم يتكلم هو فيه وقد ذكر في غير هذا الموضع
وكذلك يقال له : ليس فيما ذكرته أن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه لا لبشر فإنك لم تذكر إلا مجرد دعوى : أنه يسمع ألفاظا في نفسه ولم تقم دليلا على ذلك ولو قدر أن مثال ذلك يسمى كلام الله كان قول القائل : إن القرآن من هذا الباب - دعوى تفتقر إلى دليل وهو لم يذكر دليلا على ذلك ولا دليل له إلا ما قد اعترف هو بضعفه كدليل ابن سينا على نفي الصفات ودليل المعتزلة والأشعرية على أن ما لم يسبق الحوادث فهو حادث أو دليل المعتزلة على نفي الصفات وهو أضعف من ذلك
فهذا مجموع ما ذكره هو وأمثاله في كتبهم وهي ترجع إلى دليل الحوادث والتعدد والاختصاص ليس لهم رابع
ثم يقال له : بتقدير تسليم ما قدمته قولك في القرآن باطل وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى فإن موسى كلمه الله تكليما فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى كما زعم المعتزلة - الذين هم خير منكم - أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الأجسام فسمعه موسى وأما القرآن فنزل به جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم لم يكلم الله به محمدا بلا واسطة
وإذا كان جبريل نزل به من الله وأنتم تقولون ليس هنا جبريل منفصل عن النبي وإنما جبريل ما يتخيل في نفسه من الصور النورانية التي تخاطبه وحينئذ فيكون من خلق في نفسه هذه الأصوات ابتداء قد كلمه الله تكليما ومن خلقت فيه بواسطة هذه الصورة نزل جبريل بها فيكون ما يحصل لآحاد الناس من الأصوات التي يسمعها في نفسه أعظم من القرآن وهي بأن تكون كلام الله أحق من القرآن وتكون التوراة أعظم من القرآن
وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن جبريل ملك حي متكلم كان ينزل على النبي صلى الله عليه و سلم بالوحي ليس هو مجرد ما يتخيل في نفسه
قال تعالى : { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } إلى قوله : { ولقد رآه بالأفق المبين } [ التكوير : 19 - 23 ] فأخبر أنه رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش وأنه مطاع هناك أمين
ومن المعلوم أن ما في نفوس البشر من الصور لا يوصف بهذا وقال تعالى : { علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 5 - 18 ] فأخبر أن معلمه معلم شديد القوى وأنه ذو مرة والناس قد تنازعوا في المرئي مرتين فقال ابن مسعود وعائشة وغيرهما : هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين كما ثبت ذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم
وقال ابن عباس وغيره : رأى ربه بفؤاده مرتين
ومن المعلوم أنه إذا كان المرئي جبريل وأنه الذي رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأموى وأنه استوى وهو بالأفق الأعلى - امتنع أن يكون جبريل ما في نفسه وإن كان المرئي هو الله فهو أعظم
ومن هؤلاء من يقول : جبريل هو العقل الفعال ويقول : ليس بضنين : أي ببخيل لأنه فياض وهذا جهل لأن قراءة الأكثرين : بظنين أي بمتهم وهو المناسب أي ما هو بمتهم على ما غاب عنا بل هو أمين في إخباره بالغيب وإذا قيل : ضنين بمعنى بخيل كان ذلك وصفا له بأنه لا ينجل بعلم الغيب بل يبين الحق ولهذا قال : على الغيب بظنين
وما يزعمونه من العقل الفعال هو عندهم تفيض منه جميع الأمور المشاهدة فليس هنا غيب وشهادة ثم من المعلوم بالاضرار من دين المسلمين أن جبريل لم يبدع الأرض والجبال والهواء والسحاب والحيوان والمعدن والنبات وهم يزعمون أن هذا العقل الفعال أبدع كل ما تحت فلك القمر وقد بسط الكلام على هذا وبين أن الملائكة التي وصفها الله في كتابه لا يصح أن تكون هي ما يذكرونه من العقول والنفوس بوجوه كثيرة
قال : وبهذا باين لفظ القرآن الألفاظ التي ينطق بها في غير القرآن أعني أن هذه الألفاظ هي فعل لنا بإذن الله وألفاظ القرآن هي خلق الله ومن لم يفهم هذا على هذا الوجه لم يفهم هذه الصورة ولا فهم كيف يقال في القرآن : إنه كلام الله
فيقال له : كلا ما يحدثه الله تعالى في نفوس الآدميين من الحروف والأصوات التي يتخيلونها في المنام واليقظة هي على قولكم بمنزلة القرآن في أنها خلق الله ومن المعلوم أن الألفاظ التي يؤلفها الفضلاء خير من أكثر الألفاظ التي يتخيلها أكثر الناس في المنام واليقظة فأي فضيلة للقرآن بهذا الإعتبار ؟ !
قال : ومن نظر إلى اللفظ دون المعنى قال : إن القرآن مخلوق ومن نظر إلى المعنى الذي يدل عليه اللفظ قال : إنه غير مخلوق والحق هو الجمع بينهما
قال : والأشعرية قد نفوا أن يكون المتكلم فعل الكلام لأنهم تخيلوا أنهم إذا سلم هذا الأصل وجب أن يعترفوا أن الله فاعل لكلامه ولما اعتقدوا أن المتكلم هو الذي يقوم الكلام بذاته ظنوا أنه يلزمهم عن هذين الأصلين أن يكون الله فاعلا للكلام في ذاته فتكون ذاته محلا للحوادث فقالوا : المتكلم ليس فاعلا للكلام وإنما هي صفة قديمة لذاته كالعلم وغير ذلك وهذا يصدق على كلام النفس ويكذب على الكلام الذي يدل على ما في النفس وهو اللفظ
والمعتزلة لما ظنوا أن الكلام هو ما فعله المتكلم قالوا : إن الكلام هو اللفظ فقط ولهذا قال هؤلاء : إن اللفظ مخلوق واللفظ عند هؤلاء من حيث هو فعل فليس من شرطه أن يقوم بفاعله والأشعرية تتمسك بأن من شرطه أن يقوم بالمتكلم وهذا صحيح في الشاهد في الكلامين معا : أعني كلام النفس واللفظ الدال عليه وأما في الخالق فكلام النفس هو الذي قام به فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه
والأشعرية لما شرطت بإطلاق أن يكون الكلام قائما بالمتكلم أنكرت أن يكون المتكلم فاعلا للكلام على الإطلاق والمعتزلة لما شرطت أن يكون المتكلم فاعلا للكلام بإطلاق أنكروا كلام النفس وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء من الباطل على ما لاح لك من قولنا
فيقال له : ليس فيما ذكرته قول الأشعرية ولا قول المعتزلة ولا جمعا بينهما و بل هو قول المتفلسفة والصابئة الذين هم شر من اليهود والنصارى
وذلك أن المعتزلة وإن قالت : إن الكلام مفعول للرب فإنها لا تجعلها محدثا في نفس المتكلم بل يقولون : إنه مفعول في جسم منفصل عن المستمع وهو آية من آيات الله التي يخلقها ومن قال بقولك كفرته المعتزلة
وأما الأشعرية فهم وإن قالوا : إنه معنى قائم بنفس المتكلم فلا يجعلونه مجرد العلم بل الكلام عندهم صفة ليست هي العلم ولا الإرادة والكلام يكون خبرا ويكون أمرا
والناس وإن خالفوهم في هذا المعنى وقالوا لا يعقل إلا العلم والإرادة وضايقوهم في جعل المعنى الواحد يكون أمرا وخبرا حتى احتاج بعضهم إلى أن جعل الكلام كله بمعنى الخبر والخبر مع المخبر كالعلم مع المعلوم وقد يضطرون إلى أن يفسروا معنى الخبر بالعلم لعدم الفرق - فهذه لوازم المذهب الذي قد يستدل بها إن كانت لازمة على فساده وليس كل من قال قولا يلتزم بوازمه
والناس لهم في الكلام ثلاثة أقوال : هل هو اسم اللفظ والمعنى جميعا ؟ كما هو قول الأكثرين أم للفظ فقد بشرط دلالته على المعنى ؟ كقول المعتزلة وكثير من غيرهم أو للمعنى المدلول عليه باللفظ كقول الكلابية ؟ ومن متأخريهم من جعله مشتركا بينهما اشتراكا لفظيا
وأما المتكلم ففيه أيضا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه من فعل الكلام ولو في غيره كما يقوله المعتزلة والثاني : من قام به الكلام وإن لم يفعله ولم يكن مقدورا مرادا له كما يقوله الكلابيه والثالث : من جمع الوصفين فقام به الكلام وكان قادرا عليه
ولا ريب أن جمهور الأمم يقولون : لا يكون متكلما إلا من قام به الكلام كما لا يكون متحركا إلا من قامت به الحركة ولا عالما إلا من قام به العلم ونحو ذلك لكن الكلابية اعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث فامتنع لهذا عندهم أن يكون الكلام مقدورا له مرادا قالوا : لأن المقدور المراد حادث لا يكون صفة لازمة له
وأنت قد بينت فساد هذا الأصل فكان يلزمك على أصلك أن تجوز قيام ذلك به فإنه لا دليل لك على نفيه إلا ما تنفى به سائر الصفات وأنت تعترف بأن حدوث الحوادث بدون ذلك مما يتعرى ويتعذر بعقله
وكذلك ما ذكرته عن المعتزلة من أن اللفظ عندهم فعل وليس من شرطه أن يقوم بفاعله وأنت مقر بالفرق بين الفعل والمفعول وأنه لا يعقل مفعول بدون فعل وهذا مما أوردته على أبي حامد في تهافت التهافت وقلت : إن حدوث العالم بدون إحداث يكون هو فعل والحادث هو المفعول محال وقد أبطلت أصل المعتزلة في أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث فكان يلزمك أن تثبت فعلا قائما بالفاعل : إما قديما وإما حادثا ويكون الكلام قائما بالمتكلم وهو فعل له فكيف وأنت وأصحابك لم تثبتوا كلاما لله إلا ما كان في نفوس البشر ؟ فالمعتزلة خير منكم
وإذا قلت : نحن نثبت المعنى أنه قديم بخلاف المعتزلة
قيل لك : المعتزلة أيضا تقر بأن الله عليم بكل شيء أعظم مما تقرون أنتم به
والمعتزلة لا تنكر هذا المعنى وهم وإن كانوا متناقضين في إثبات الصفات ونفيها فلا ريب أن قولهم أقرب إلى إثبات الصفات من قول أصحابك فما جعلته أنت قديما يمكنهم جعله قديما
وأعظم ما شنع الناس به في الصفات على المعتزلة قول رئيسهم أبي الهذيل قوله : إن الله عالم بعلم هو ذاته وليست ذاته علما
وأنت تقول : إن العلم هو العالم بل تقولون : إن العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق والعقل والعاقل والمعقول - شيء واحد فقولكم أشد نفيا وتناقضا من قولهم وهم إلى إطلاق القول بأن معنى القرآن قديم ولفظه مخلوق أقرب منكم فما في قولهم من باطل إلا وفي قولكم أفسد منه ولا في قولكم حق إلا وفي قولهم أكمل منه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18