كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

كلام السهرودي المقتول في التلويحات
وذلك كقول السهروري المقتول في تلويحاته فإنه قال : واجب الوجود لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن فإنه إن كان المرجح هو نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي في فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف فواجب الوجود لا تسنح له إرادة وحال كل ما يتجدد حال ما لأجله التجدد في استدعاء مرجح حادث وليس قبل جميع الوجود وقت يتوقف عليه الفعل ولا يمتاز في العدم البحث حال يكون الأولى به أن يصدر عنه شيء أو بالشيء أن يحصل عنه فلو حصل فيه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته ولتسلسل الحوادث فيها إلى غير النهاية وهو محال ففعله دائم

الرد عليه من وجوه الوجه الأول
وجواب هذا من وجوه
الوجه الأول
أن يقال له : ما تعني بقولك : لا يصدر عنه بعد أن لم يكن ؟
إن عنيت له أنه لا يصدر عنه شيء من أعيان الحوادث بعد أن لم يكن ذلك المحدث فهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن هذا خلاف قولكم وقول أهل الملل فإن الحوادث متجددة شيئا بعد شيء سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة وإذا قلتم : الحركة هي السبب فيها فكل جزء من أجزاء الحركة صادر عنه بعد أن لم يكن
الثاني : أن ما ذكرته من الحجة لا ينفي ذلك فإن كون ذاته تقتضي دوام الترجيح لا يوجب أن تقتضي دوام ترجيح كل ممكن ولا كل مفعول بل يكفي أن توجب دوام ترجيح أمر ما كما تقولون أنتم : إن الذي رجحه هو الأفلاك والعناصر دون أعيان الحوادث
وإن عنيت أنه لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن شيء من الأشياء صادرا عنه وهذا هو مراده
فيقال : غاية ما في هذا دوام فعله وحينئذ فهذا لا يستلزم دوام المفعول المعين لا الفلك ولا غيره بل يجوز تعاقب الأفعال القائمة به وتعاقب المفعولات المحدثة شيئا بعد شيء على قولك وتعاقبها جميعا
وعلى التقديرات الثلاثة فحدوث الأفلاك ممكن فيبطل استدلالك على قدمها

الوجه الثاني
أن يقال : حدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به : إما أن يكون ممكنا وإما ألا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم بأن سبب الحوادث هو حركات الفلك وإن كان ممكنا أمكن حدوث حوادث متعاقبة الفلك واحد منها كما أخبرت بذلك الأنبياء وهو قول قدماء الفلاسفة وأساطينهم

الوجه الثالث
أن يقال : دوام حدوث الحوادث إما أن يكون ممتنعا أو ممكنا كما ذكرت فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأجسام وحركاتها ودخل في ذلك الفلك وغيره وإن كان ممكنا لم يجب أن يكون الفلك دائما بل يجوز أن يكون حادثا بعد حوادث قبله كما تقدم

الوجه الرابع
أن يقال : قولكم : إما أن يكون المرجح نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي
لأهل الملل هنا جوابان :
أحدهما : قول من يقول : إنه لم يزل يقوم به الفعل والكلام بقدرته ومشيئته وعلى هذا فيمكن دوام الترجيح ولا يجب قدم شيء من المفعولات فضلا عن قدم الأفلاك
والجواب الثاني : قول من يقول : يمتنع وجود المفعول في الأزل
وعلى هذا فإذا قلت لهؤلاء : إذا قلتم : لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف
قالوا : فعل واجب الوجود لما فعله من المفعولات المختلفة الحادثة : إما أن يجوز صدوره عنه من غير فعل قائم به وإما ألا يجوز فإن لم يجز ذلك بطل قولك وإن جاز ذلك فحاله حين حدوث الطوفان كحاله حين إرسال محمد صلى الله عليه و سلم وقد وجد منه في أحد الزمانين من المفعولات ما لا يوجد في الزمان الآخر مع تماثل حاله بالنسبة إلى الزمانين
وإذا قيل : إن ذلك لأجل الحوادث المختلفة كالحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية
قيل : الكلام في الحوادث التي أوجبت حدوث الطوفان كالقول في الحوادث حين المبعث وغيره من الحوادث المختلفة
فإذا كان الفاعل حاله مماثل في جميع الأزمنة واللوازم عنه كذلك كان اختصاص أحد الزمانين بما يخالف الزمان الآخر ترجيحا بلا مرجح فإن كان ذلك جائزا جاز أن تحدث عنه الحوادث بعد أن لم تكن
وإذا نسبت الحوادث إلى الحركة الفلكية قيل : إن كانت الحركة الدائمة متماثلة لزم تماثل الحوادث وإن كان مختلفة كان قد اختص أحد الزمانين بما لم يوجد في الزمان الآخر بل قد يقال : الفاعل إن قيل : إنه يلزمه مفعولات مختلفة دائمة متعاقبة من غير فعل يقوم به ولا صفة له كان كذلك أبعد في العقل من أن يقال : إنه فعل مفعولات مختلفة في وقت دون وقت فإن هذا بعض ذاك فكان المحذور الذي هو في هذا هو في ذاك وزيادة

الوجه الخامس
أن يقال : قولك : وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف غايته أنه يستلزم امتناع كونه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا لازم لك
لكن نقول : لم قلت : إنه لم يزل يفعل شيئا بعد شيء ؟
فإن قلت : هذا يستلزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث شيئا بعد شيء جائز عندكم فبتقدير أنه لا يزال يفعل شيئا بعد شيء كان كل ما سواه حادثا مع التسلسل الجائز وذلك جائز عندك وهو موجب دليلك
فإن كان باطلا بطل مذهبك وإن كان حقا فيقال : ما المانع أن يفعل ما لم يكن فاعلا لحدوث حادث وذلك موقوف على حادث آخر لا إلى نهاية وتكون تلك الحوادث صادرة عنه ؟
ثم يقال : إما أن يكون كل ما حدث يجوز حدوثه بلا فعل يقوم به أو لا بد من فعل يقوم به وعلى التقديرين لا يلزم صحة قولك
فإن قلت : مقصودي أنه لم يزل فاعلا وقد حصل قيل : لا يلزم أن يكون فاعلا لمعقول معين بل ولا يلزم أن يكون هو الفاعل على قولك
فإنك تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أمر يحدث فيه ومنه وعندك يحدث الحادث المخالف لما قبله كالطوفان وغيره من غير أن يحدث منه ما لم يكن حدث قبل ذلك فأنت تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أن يحدث منه شيء يخص حادثا من الحوادث

الوجه السادس
أن يقال : قولك : لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال ففعله دائم
جوابه أن يقال : حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته وإما أن لا يقف فإن لم يقف بطل قولك : لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته وتسلسلت فيها الحوادث فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته فلا يكون حدوث الحوادث مستلزما لحدوث شيء في ذاته
وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفا على حدوث شيء في ذاته لم يكن في ذلك بمحذور فإن حدوث الحوادث مشهودة وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى ولكن أحدث امتناعه مسلما
وتسميتك لذلك تغيرا ليس بحجة عقلية فإن لفظ التغير مشترك وهنا لا يراد به الاستحالة بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيرا بهذا الاعتبار وتجوز على القديم أن يكون محلا للحوادث
وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان :
أحدهما : التسلسل في الفعل مطلقا
والثاني : التسلسل في فعل شيء معين
فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئا من الأشياء أصلا حتى يحدث شيئا فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق ولا يفعل حتى يفعل ولا يحدث حتى يحدث وهذا ممتنع بالضرورة وهذا في حقيقة دور وليس بتسلسل فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء فيلزم الجمع بين النقيضين فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد لزم أن يكون معدوما موجودا
وأما إذا قيل : لا يفعل شيئا إلا بشرط يقارنه ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه فهذا التسلسل في تمام التأثير وليس بتسلسل أمور متعاقبة وهذا هو التسلسل في تمام التأثير والأول تسلسل في أصل التأثير وكلاهما ممتنع
والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل : إذا لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث شيء : إما قدرة وإما إرادة وإما علم وإما أمر من الأمور ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول فإن هذا الثاني أيضا لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثا معه فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجودا حين التأثير لا يكفي وجوده قبله
وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين :
أحدهما : أن يقال لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يفعل شيئا حتى يفعل شيئا فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع
والثاني : أن يقال : لا يحدث مفعولا إلا بحدوث قدرة أو إرادة أو علم أو نحو ذلك ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه فيلزم أن لا يحدث شيئا فإن هذا تسلسل في تمام التأثير والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثرا إلا عن مؤثر ولا يؤثر إلا عن مؤثر وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلا إلا بوجود أمر ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر إلى غير غاية فهذا أيضا ممتنع باتفاق العقلاء
وأما إذا قيل لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر فهذا فيه النزاع المشهور وهو تسلسل الآثار المعينة لا تسلسل في أصل التأثير فيجب تصور الفرق بين الأمرين
وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ حكمة الإشراق وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده ولم يقلد فيه المشائين بل بين فيه خطأهم في مواضع وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند
كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ الحكمة المشرقية ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده وكذلك الرازي في المباحث المشرقية

كلام السهرودي المقتول في حكمة الإشراق
فقال السهروردي : نور الأنوار والأنوار القاهرة يعني واجب الوجود والعقول : لا يحصل منهم شيء بعد أن لم يحصل إلا على ما سنذكره فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد وإلا هو مما لا يتصور وجوده أو توقف على غيره فما كان هو الذي يتوقف عليه وقد فرض أن التوقف عليه وهو محال وكل ما سوى نور الأنوار لما كان منه فلا يتوقف على غيره كما يتوقف شيء من أفعالنا على وقت أو زوال مانع أو وجود شرط فإن لهذه مدخلا في أفعالنا ولا وقت مع نور الأنوار متقدم على جميع ما عدا نور الأنوار فإن نفس الوقت أيضا من الأشياء التي هي غير نور الأنوار فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة فيدوم بدوامه ما فيه لعدم توقفه على أمر منتظر ولا يمكن في العدم البحث قرض تجدد مع أن كل ما تجدد يعود الكلام إليه
فنور الأنوار والأنوار القاهرة : ظلالها وأضواؤها المجردة دائمة وقد علمت أن الشعاع المحسوس هو من النير لا النير من الشعاع وكلما يدوم النير الأعظم يدوم الشعاع مع أنه منه
ثم قال : كل هيئة أي عرض لا يتصور ثباتها هي الحركة وكل ما لم يكن زمانا ثم حصل فهو حادث وكل حادث إذا حدث شيء مما يتوقف عليه هو حادث إذ لا يقتضي الحادث وجود نفسه إذ لا بد من مرجح في جميع الممكنات ثم مرجحه إن دام مع جميع ما له مدخل في الترجيح لدام الشيء فلم يكن حادثا ولما كان حادثا فشيء مما يتوقف عليه هذا الحادث حادث
ويعود الكلام إلى ذلك الشيء فلا بد من التسلسل والسلسلة الغير المتناهية مجتمعة وجودها محال فلا بد من سلسلة غير متناهية لا تجمع آحادها ولا تنقطع وإلا يعود الكلام إلى أول حادث بعد الانقطاع فينبغي أن يكون الوجود حادث متجدد لا ينقطع وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة
وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة وأنها حركة الأفلاك

الرد عليه من وجوه الوجه الأول
فيقال له عن هذا أجوبة :
أن يقال : كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد إلى قوله : وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره إلى آخره
ما تعني بقولك : ما كان من نور الأنوار ؟ تعني : الله فلا يتوقف على غيره ؟ أتعني به : أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله ؟ أم تعني به : لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته ؟
أما الأول : فلا ينفعك لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته وحينئذ فلا يلزم قدمه بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثا فالمعلق به أولى أن يكون حادثا فإنه لا يكون قبله وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثا
وإن قلت : إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه فهذا محل النزاع وأنت لم تذكر دليلا على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل وتوقف المعلول على اقتضاء العلة والعلة شيء واقتضاؤها المعلول شيء وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة لم يحصل المشروط قبل الشرط وأنت لم تقم دليلا إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها ومعلول معلولها فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلا وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة

الوجه الثاني
أن يقال : ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره أم لا ؟
فإن قلت بالثاني لزم قدم جميع الممكنات الموجودة حتى الحوادث وهو مكابرة وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك : ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره وإيضاح ذلك :

الوجه الثالث
وهو أن يقال : إذا قدر الغير الذي هو شرط هو من الله أيضا وتوقف أحد الفعلين على الآخر لم يكن في ذلك محذور فإن الله جعل بعض الأشياء شرطا في وجود بعض غاية ما في هذا أن يقال : هذا يقتضي التسلسل فيقال : وهذا عندك جائز فلا يتعين قدم شيء من الأفلاك ولا غيرها

الوجه الرابع
أن يقال : إن كان التسلسل باطلا بطل مذهبك وإن كان جائزا بطلت حجتك

الوجه الخامس
أن يقال أنت وقد أوجبت التسلسل في الحوادث بإيجاب حركة دائمة لا تنقطع وقلت أيضا : فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة فيدوم بدوامه ما منه لعدم توقفه على أمر منتظر
وإذا كان قولك وقول إخوانك يتضمن هذا وهذا فيقال لكم : الحركة الدائمة إما أن تكون منه بواسطة أو بغير واسطة وإما أن لا تكون منه فإن لم تكن منه لزم حدوث الحوادث بدون واجب الوجود وهذا هو القول بحدوث الحوادث بلا محدث وإن كانت الحركة منه بواسطة أو بغير واسطة وهو قولهم
فيقال : فحينئذ قد كان منه ما لا يدوم بدوامه فإن كل جزء من أجزاء الحركة حادث وعندكم أنه حدث عن تصور حادث وشوق حادث فهذه أمور من واجب الوجود وليست دائمة بدوامه فهذا ينقض قولكم : إن كل ما منه يدوم بدوامه
ثم أيضا من المعلوم أن كل واحد من الحوادث منه بواسطة أو غير واسطة وهو كان بعد أن لم يكن ويعدم بعد أن كان فهو منه وليس مقارنا له ولا دائما بدوامه فعلم بذلك أنه لا يجب في كل ما كان منه أن يدوم بدوامه فلا يجب في الفلك وغيره من الأعيان المشهودة أن تدوم بدوامه وهو المطلوب
وإذا قال : الذي يدوم بدوامه هو جنس الأفعال والمفعولات أو جنس الحوادث شيء بعينه
قيل : فهذا يبطل حجتك على قدم شيء بعينه ويناقض مذهبك في قدم شيء بعينه

كلام ابن سينا في الإشارات
وقال ابن سينا : في إشاراته في ذكر هذه الحجة : تنبيه : وجود المعلول يتعلق بالعلة من حيث هي على الحال التي بها تكون علة من طبيعة أو إرادة أو غير ذلك أيضا من أمور يحتاج أن تكون من الخارج ولها مدخل في تتميم كون العلة بالفعل مثل الآلة : كحاجة النجار إلى القدوم أو المادة : كحاجة النجار إلى الخشب أو المعادن : كحاجة النشار إلى نشار آخر أو وقت : كحاجة الآدمي إلى الصيف أو الداعي : كحاجة الآكل إلى الجوع أو زوال مانع : كحاجة الغسال إلى زوال الدجن
وعدم المعلول يتعلق بعدم كون العلة على الحالة التي هي بها علة بالفعل سواء كان ذاتها موجودا على غير تلك الحالة أو لم يكن موجودا أصلا فإذا لم يكن شيء معوق من خارج وكان الفاعل بذاته موجودا ولكن ليس لذاته علة توقف وجود المعلول على وجود الحالة المذكورة التي إذا وجدت كانت طبيعة أو إرادة جازمة أو غير ذلك - وجب وجود المعلول وإن لم توجد وجب عدمه وأيهما فرض أبدا كان ما بإزائه أبدا أو وقتا ما كان وقتا ما وإذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال في كل شيء وله معلول لم يبعد أن يجب عنه سرورا فإن لم يسم هذا مفعولا بسبب أن لم يتقدمه عدم فلا مضايقة في الأسماء بعد ظهور المعنى

تعليق ابن تيمية
فيقال له : هذا كلام مقدر على شيء مضمونه : أن العلة التامة التي لا يقف اقتضاؤها على أمر منفصل عنها يلزم من وجودها وجود معلولها بجلاء بخلاف ما يتوقف اقتضاؤها على أمور منفصلة كالآلة والمادة والداعي وغير ذلك وأنه إذا فرض شيء متشابه الحال في كل شيء وله معلول لم يبعد عنه سرمدا
لكن الشأن في تحقيق هذا المقدر فإنه يقال لك : هذا غايته أن يكون إبطالا لقول من يجعل الرب خالقا للعالم من غير حدوث سبب أصلا وهذا قول طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى الملل وليس هذا قول أئمة أهل الملل وجمهورهم القائلين بأن الله خالق كل شيء وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام
وإذا كان كذلك فهؤلاء يلزموك ويقولون : هذه العلة الموصوفة هل يجوز أن يصدر عنها - بوسط أو بغير وسط - أمور مختلفة حادثة أو لا يجوز ؟
فإن لم تجوز ذلك بطل قولك ولزم أن لا يكون للحوادث فاعل وهو معدوم الفساد بالضرورة
وإن جوزت ذلك قيل لك : فإذا كان الفاعل واحدا بسيطا موجودا لا يتوقف فعله على شيء خارج عنه فلم وجدت عنه المختلفات ؟ ولم تأخرت عنه الحوادث ؟ فما كان جوابك عن هذا كان جوابا لهم عن الحوادث وأولى وأما من قال : إن الواجب بنفسه تقوم به الأفعال المتعلقة بقدرته ومشيئته فيقولون : حدوث ما حدث يتوقف على تلك الأفعال موقوفة على ما قبلها فإن التسلسل جائز عندك
ثم يقال : إما أن يكون التسلسل جائزا وإما أن لا يكون فإن كان جائزا أمكن أن تتسلسل الأفعال التي يقف عليها وجود تلك المفعولات وإن لم يكن جائزا لزم حدوث جنس المحدثات ويبطل القول بحوادث لا أول لها وهو نقيض قولكم
وأيضا قوله : إذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال لا يخلو : إما أن يجوز أن تصدر عنه الأمور المختلفة الحادثة بوسط أو بغير وسط وإما أن لا يجوز فإن لم يجز ذلك لزم أن لا تكون هذه الحوادث صادرة عن علة بسيطة لا بوسط ولا بغير وسط وهذا يبطل قولهم
وحينئذ فإما أن يقال : إن هذه الحوادث لا محدث لها وهو معلوم الفساد بالضرورة وإما أن يقال : ليس المحدث مجردا عن الصفات والأفعال بل له صفات وأفعال كما يقوله المسلمون وهو الحق
وإن جاز أن تصدر المختلفات والمحدثات عن بسيط أمكن أن يحدث عنه ما لم يكن حادثا عنه وحينئذ فلا يلزم أن يكون معلولا له لازما له

كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرح هذا الكلام اعلم أن الغرض من هذا الفصل التنبيه على الحجة لا يزال القائلون بالقدم يتمسكون بها ويعولون عليها وهي أن الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري تعالى في العالم إما أن تكون بأسرها أزلية وإما أن لا تكون والثاني باطل إذ لو كان شيء منها حادثا لافتقر حدوثه إلى المؤثر والكلام في كونه مؤثرا في ذلك الآخر كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال فإذا كل الأمور المعتبرة في مؤثرية الله تعالى في العالم أزلية
وأيضا فمن الظاهر أن المؤثر متى حصل مستجمعا جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية وجب أن يترتب الأثر عليه لأنه إن جاز تخلف الأثر عنه كان صدور الأثر عن العلة المستجمعة لجميع تلك الأمور المعتبرة في المؤثرية ولا صدور عنها على السواء ولو كان كذلك لما ترجح الصدور على أن لا صدور إلا بمرجح آخر فلم تكن جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية حاصلا قبل حصول هذا الزائد وكنا قد قد فرضنا أن الأمر كذلك هذا خلف
قال : وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري قد أفعاله هذا تحرير هذه الحجة
قال : ولقائل أن يقول : هذا الكلام إنما يلزم في الموجب بالذات أما الفاعل المختار فلا لاحتمال أنه يقال : إنه كان في الأزل مريدا لإحداث العالم في وقت دون وقت فإذا قالوا : فلم أراد إحداثه في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده ؟ كان الكلام فيه طويلا وهو مذكور في سائر كتبنا على الاستقصاء

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الجواب الذي أجاب به هو جواب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم وقد عرف الطعن في هذا الجواب وأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح وأن ما ذكر في القسم الأول هو حصول الموثرية التامة في الأزل مع تأخر الأثر وأن مضمونه تخلف الشيء عن موجبه التام كما قد بسط في موضعه

الجواب عن هذه الحجة بوجوه الوجه الأول
قوله : يلزم التسلسل وهو محال ليس كذلك فإن التسلسل جائز عند من يقول بموجب هذه الحجة فإن ذلك تسلسل في الآثار لا في المؤثرات ولا يصح القول بموجبها إلا بذلك فقولهم : التسلسل محال باطل على أصلهم وهذا الموضع مما يشتبه على كثير من الناس فإن التسلسل في الآثار : تارة يعني به التسلسل في أعيان الآثار مثل كونه فاعلا لهذا بعد هذا ولهذا بعد هذا وأنه لا يفعل هذا إلا بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا وهلم جرا فهذا التسلسل جائز عند الفلاسفة وعند أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث
وعلى هذا التقدير فقول القائل فقول القائل : الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري في العالم : إما أن تكون بأسرها أزلية وإما أن لا تكون أتريد به التي يتم بها مؤثريته في كل واحد واحد من آحاد العالم ؟ أو في جملة العالم ؟
إن إردت الأول لم تكن بأسرها أزلية وكان حدوث كل واحد منها مفتقرا إلى حادث قبله وهذا التسلسل جائز عندهم
وإن أردت الثاني قيل لك : ليس جملة العالم متوقفا على أمور معينة حتى يرد عليها هذا التقسيم بل بعض العالم يتوقف على أمور وبعض آخر يتوقف على أمور أخرى وكل بعض يتوقف على أمور حادثة وتلك الأمور تتوقف على أمور أخرى ويلزم من ذلك التسلسل في نوع الحادث وهو جائز عندكم
وأما أن أريد بالتسلسل في الآثار التسلسل في جنس التأثير وهو أن يكون جنس التأثير متوقفا على جنس التأثير بحيث لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا فهذا باطل لا ريب فيه وهو تسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا وهو من جنس التسلسل في المؤثر
لكن بطلان هذا يستلزم أنه لم يفعل بعد أن لم يكن فاعلا لشيء فيلزم دوام نوع الفاعلية لا دوام مفعول معين وحينئذ فلا يدل على قدم شيء من العالم وهذا بين لمن تدبره
ويراد بالتسلسل معنى ثالث وهو أن فاعليته للحادث المعين لا تحصل حتى يحصل تمام المؤثر لهذا الحادث المعين فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد وهذا ممتنع أيضا باتفاق العقلاء
فهذا تسلسل في تمام تأثر المعنى وذاك في أصل التأثير وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء
فتبين أن حججهم الهائلة التي أرعبت قلوب النظار ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم البتة فقولهم بقدم شيء من العالم : الأفلاك أو غيرها قول بلا حجة أصلا بل هو قول باطل كما بين في موضع آخر
نعم هذه الحجج إنما أرعبت قلوب أهل الكلام المبتدع المحدث في الإسلام الذي هو كلام الجهمية والقدرية ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكرامية ومن تبعهم أو قلدهم من المتفقه وغيرهم فما ذكره الفلاسفة إنما يبطل قول هؤلاء الذي زعموا أن الرب لم يزل معطلا عن أن يفعل بمشيئته أو يتكلم بمشيئته ثم يفعل أو يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء
وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه فإذا ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتب والسنة بل ولا مذهب السلف والأئمة وهو المطلوب
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه وبين التسلسل في الآثار يظهر صحة الدليل الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة على أن كلام الله غير مخلوق مثل سفيان بن عيينة
وبيان ذلك : أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئا إلا بكن فلو كانت كن مخلوقة لزم أن يخلق بكن أخرى وتلك الثانية بثالثة وذلك هو من التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء فإنه تسلسل في أصل التأثير فإنه لا يخلق شيئا إلا بكن فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئا ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن فيلزم الدور الممتنع وهو المستلزم للجمع بين النقيضين وهو أن تكون موجودة معدومة
وأيضا فإذا قدر أنه خلق الأولى بالثانية والثانية بالثالثة وهلم جرا فلا بد من وجود جميعها في آن واحد فإن كل واحد منها شرط في الثانية وهي من الأمور الوجودية المشروطة في التأثير فلا بد أن تكون موجودة عند وجود الأثر كالاستطاعة والقدرة وحياة الفاعل وعلمه وسائر شروط الفعل فإنها كلها لا بد من وجودها عند وجود الفعل
ولهذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الاستطاعة لا بد أن تكون مع الفعل وتنازعوا في جواز وجودها قبله ودوام وجودها إلى حين الفعل في حق المخلوق على قولين وأما في حق الخالق فاتفقوا على بقائها ودوامها إلى حين الفعل
والصحيح الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء أنها تكون موجودة قبل الفعل وتبقى إلى حين الفعل ولهذا يجوز عندهم وجود الاستطاعة بدون الفعل كما في حق العصاة ولولا هذا لم يكن أحد ممن كفر وعصى الله إلا غير مستطيع لطاعة الله وهو خلاف الكتاب والسنة
قال تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ] وقال : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] وقال : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } [ النساء : 91 ]
ومعلوم أنه ليس المنفي هنا استطاعة لا تكون إلا مع الفعل فإنه قد يكون حينئذ معنى الكلام فمن لم يفعل فعليه صيام شهرين متتابعين وكذلك يكون الأمر بالتقوى لمن اتقى لا لمن لم يتق وإيجاب الحج على من حج دون من لم يحج وهذا باطل
فعلم أن المراد استطاعة توجد بدون الفعل وما كانت موجودة بدون الفعل أمكن وجودها قبله بطريق الأولى
وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح الفعل واتفاق العقلاء وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين والخلق والخالقين فيمتنع أن يكون للخالق خالق وللخالق خالق إلى غير نهاية
ولهذا بين النبي صلى الله عليه و سلم أن هذا من وسوسة الشيطان فقال في الحديث الصحيح : [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] وفي رواية أخرى : [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليتعوذ بالله ولينته ]
وكذلك إذا قيل : لا يخلق شيئا إن لم يخلق كذا ولا يخلق كذا إن لم يخلق كذا كان هذا ممتنعا لأنه منع وجود الخالق بالكلية حتى يوجد تمام كونه مؤثرا وتمام كونه مؤثرا موقوف على تمام آخر فيلزم ألا يوجد تمام كونه خالقا فيلزم ألا يخلق شيئا قط فإذا علم أنه لا يخلق شيئا إلا بكن فلو كان كن مخلوقا بكن أخرى وهلم جرا كان كل واحدة من ذلك بها يصير خالقا ولم يوجد شيء من ذلك فيمتنع أن يصير خالقا
وهذا بخلاف ما إذا قيل : يخلق هذا بكن وهذا قبله أو بعده بكن وهلم جرا فإن هذا يقتضي أنه لا يوجد الثاني إلا بعد وجود الأول والتوقف ها هنا على الشرط هو فعله لهذا المعين لا أصل الفعل فلهذا كان في هذا نزاع مشهور بخلاف الأول
ومعلوم أن الأدلة العقلية لا تدل على قدم شيء من العالم وإنما غايتها أن تدل على دوام الفاعلية وامتناع كونه فاعلا بعد أن لم يكن
فإذا قالوا : التسلسل باطل فإن عنوا به تسلسل الآثار ووجود شيء بعد شيء فهذا خلاف قولهم ولم يقيموا دليلا على بطلانه
وإن أرادوا به التسلسل الخاص وهو التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا فهذا مسلم أنه ممتنع لكن امتناع لا يدل على فعله لشيء معين بل على أصل الفعل وهذا لا ينفعهم بل يضرهم

الوجه الثاني
أن يقال : أما التسلسل في أصل الفاعلية فلا ينفعهم وإنما فيه إبطال قول الجهمية والقدرية وأما التسلسل في الأفعال المعينة فإن كان جائزا لم يصح احتجاجهم به بل تبطل الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول فيبطل قول القائلين بقدم العالم وإذا بطل هذا القول بطلت حجته بالضرورة فيلزم بطلان هذه الحجة على التقديرين وذلك يقتضي أنها فاسدة في نفس الآمر

الوجه الثالث
أن يقال : كل حادث من الحوادث المشهودة إما أن تكون مؤثريته حاصلة في الأزل وإما ألا تكون فإن كان الأول لزم حصول الحوادث عن الموثر القديم من غير تجدد شيء وبطلت الحجة
وإن كان الثاني فحصول كمال المؤثرية فيه بعد أن لم تكن أمر حادث فيقف كمال مؤثريته في هذا الكمال
وحينئذ فحال الفاعل إما أن يكون عند كمال التأثير في الحادث الثاني كحاله عند كمال التأثير في الأول وإما ألا يكون فإن قدر الأول لزم أن يحدث هذا الحادث الثاني والذي بعده والذي بعده من غير حدوث سبب أوجب هذا الحدوث لأن الذات الفاعلة حالها عند الأول كحالها عند الثاني والثالث وحينئذ فإذا كانت عند الأول لا تفعل الثاني فعند الثاني لا تفعل الثالث لأنه لم يتجدد ما يوجب حدوثه
وأيضا فالذات نفسها ليست موجبا تاما في الأزل لشيء من الحوادث وهي لم تزل على ما كانت عليه فيلزم ألا تكون موجبة لشيء من الحوادث في الأبد وإلا لزم الإحداث بلا سبب حادث
وهؤلاء فروا من حدوث الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب وادعوا دوام حدوثها بلا سبب فكان الذي فروا إليه شرا من الذي فروا منه كالمستجير من الرمضاء بالنار
وأما إن قيل : إن الفاعل نفسه تقوم به إرادات وأفعال توجب تخصيص كل وقت بما أحدثه فيه كان هذا مبطلا لحجتهم إذ يمكن والحال هذه أن يحدث شيئا بعد شيء مع دوام فاعليته بل هذا مبطل لمذهبهم
فإن من تصور هذا الفاعل علم يقينا امتناع مقارنة شيء من أفعاله ومفعولاته له وعلم أن كل واحد من أفعاله ومفعولاته لا يكون إلا حادثا لا مساوقا له أزلا وأبدا وإن كان هذا معلوما في كل ما يقدر أنه فاعل فهو فيما يقدر أنه فاعل بمشيئته وقدرته وأفعاله تقوم به أظهر وأظهر
ثم يقال : إما أن يكون تسلسل كمال المؤثرات ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا لزم حدوث كل ما سوى الله وأنه لم يكن فاعلا ثم صار فاعلا وهو مبطل لقولهم وإن كان ممكنا لم يلزم إلا دوام كونه مؤثرا في شيء بعد شيء وهذا لا حجة لهم فيه بل هو مبطل لحجتهم ومذهبهم كما تقدم والقول في الثاني كالقول في الأول فيلزم التسلسل في الآثار وإذا كان ذلك لازما كان جائزا بطريق الأولى وإذا كان جائزا بطل القول بأنه محال فبطلت الحجة

الوجه الرابع
أن يقال : حدوث الحوادث من المؤثر القديم من غير تجدد شيء إما أن يكون جائزا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان جائزا بطلت المقدمة الثانية من الحجة وإن كان ممتنعا لزم حدوث ما به يتم التأثير في هذه الحوادث إذ لو لم يحدث ما به يتم التأثير لكانت قد حدثت عن المؤثر القديم من غير تجدد شيء والتقدير أنه ممتنع
ثم القول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث أثره ويلزم التسلسل في الآثار وذلك يبطل القول بامتناع التسلسل مطلقا
فإن كان هذا هو المراد في المقدمة كما يريده طائفة ممن يصوغ هذه الحجة فهو ممتنع وإن كان المراد به ما ينبغي أن يراد وهو التسلسل في تمام أصل التأثير فهذا إذا امتنع إنما يستلزم دوام كونه فاعلا لا فاعلا لشيء معين وذلك لا ينفعهم بل يضرهم فيلزم فساد إحدى المقدمتين على تقدير أحد النقيضين وفساد الأخرى على تقدير النقيض الآخر ولا بد من ثبوت أحد النقيضين فيلزم فساد إحدى المقدمتين قطعا فتفسد الحجة

الوجه الخامس
أن نقول : قوله : وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري تعالى قدم أفعاله أتعني به جميع أفعاله أو فعلا ما من أفعاله أم قدم نوع أفعاله ؟
أما الأول فباطل قطعا لأنه خلاف المشاهدة
وأما الثاني فلا دليل في الحجة عليه فإنها لا تدل على قدم شيء معين لا فعل ولا مفعول
وأما الثالث فلا يفيد قدم السموات لجواز أن يكون هناك فعل قائم بالذات بعده فعل أو مفعول بعد مفعول أو كلاهما
وهذه الحجة قد ذكرها الآمدي والأبهري وغيرهما وأجابوا عنها بالمعارضة بالحوادث اليومية

كلام الآمدي في دقائق الحقائق
فقال الآمدي في دقائق الحقائق في الاحتجاج لهم : لو كان ما وجد عن الواجب بذاته محدثا موجودا بعد العدم فهو لذاته : إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو ممكنا
القول بالوجوب ممتنع وإلا لما كان معدوما والقول بالامتناع ممتنع وإلا لما وجد فلم يبق إلا أن يكون ممكنا لذاته
وعند ذلك فحدوثه إن كان لا لمحدث ومرجح فقد ترجح أحد طرفي الممكن لا لمرجح وهو محال
وإن كان لمحدث ومرجح فالمرجح إما قديم أو حادث فإن كان حادثا فالكلام فيه كالكلام في الأول والتسلسل والدور محال فلم يبق إلا أن يكون المرجح قديما أو منتهيا إلى مرجح قديم والمرجح القديم إما أن يكون قد تحقق معه في القدم كل ما لا بد منه في الإيجاد أو بقي شيء منتظر فإن بقي شيء منتظر فالكلام في حدوثه كالكلام في الأول ويلزم في التسلسل أو الدور وهو ممتنع وإن كان القسم الأول فيلزم من قدم العلة قدم المعلول وكذلك الحكم فيما وجب عن الواجب بالواجب لذاته
وقال الآمدي في الجواب : إنه يلزم منها وجود شيء من الحوادث إذ الكلام في كل حادث يفرض بالنسبة إلى علته كالكلام في معلول واجب الوجود وهو خلاف المعقول والمحسوس وما هو الجواب فيما اعترف به من الحوادث فهو الجواب فيما نحن فيه ولا بد من التفاتهم في ذلك إلى الإرادة النفسانية وبيان انتفائها عن واجب الوجود وقد عرف ما فيه

تعليق ابن تيمية
قلت : قد يظنون أنهم يجيبون عن هذه المعارضة بأن الحوادث اليومية مشروطة بحدث بعد حادث وهذا يقتضي التسلسل في الآثار والتسلسل في الآثار عندهم ليس بمحال
وحقيقة قولهم : إن المرجح القديم هو دائم الترجيح والحوادث المنفصلة عنه تحدث شيئا بعد شيء ثم قد يعينون ذلك بحركة الفلك فيقولون : هي الحادثة شيئا بعد شيء ومن حذق منهم كابن سينا علم أن هذا جواب باطل وأن حدوث حادث بعد حادث عن القديم من غير تجدد شيء ممتنع فادعى ما هو أفسد من ذلك فقال : إن الحركة لا توجد شيئا بعد شيء وإنما هي شيء موجود دائما وأن ما يوجد شيئا بعد شيء لا وجود له في الخارج بل في الذهن وهذه مكابرة بينة قد بسط الكلام عليها في شرح الأصبهانية
وقد اعترف حذاقهم بأن حدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن ذات لا يقوم بها حادث مما تنكره العقول
وأما من اعترف منهم بقيام الأمور الاختيارية بذاته فيقال لهم : هذا أدل على حدوث المفعولات ويقال للطائفتين : إذا جوزتم ذلك لم يكن لكم دليل على قدم شيء من العالم فظهر بطلان حجتكم
لكن هذا الجواب الذي عارض به هؤلاء لأولئك لا يمكن أن يقال في أول الحوادث لأنه ليس قبل أول الحوادث حادث يشترط في الحوادث المستقبلة
فهذا فرق هؤلاء الفلاسفة بين ما يثبتونه من الحوادث اليومية التي تشاهد وما ينفونه من أن للحوادث أولا ابتدأت منه وبهذا يتبين بطلان قول الطائفتين : هؤلاء وهؤلاء وأن كل طائفة أقامت برهانا على بطلان قول الأخرى لا على صحة قولها إذ لا يلزم من بطلان أحد القولين صحة الآخر إلا إذا انحصر الحق فيهما وليس الأمر كذلك

كلام الآمدي في أبكار الأفكار
وذكرها الآمدي أيضا في كتابه أبكار الأفكار قال : وجوابها : أنها باطلة من جهة أن الحس والعيان والبرهان شاهد بوجود حوادث كائنة بعد ما لم تكن وما ذكروه من الشبهة يلزم منه امتناع وجود الحوادث والقول بامتناع وجود الحوادث ممتنع وكل دليل لزم عنه الممتنع فهو باطل في نفسه وبيان الملازمة هو أن ما ذكروه من الترديد والتقسيم في حدوث العالم بعينه لازم في حدوث كل حادث وكل ما هو جواب لهم في حدوث الحوادث بعينه يكون جوابا في القول بحدوث العالم بجملته
وهذا الذي ذكره يجيبون عنه بما تقدم وهو أن هذه الحجة إنما كانت حجة على من يقول ببطلان التسلسل في الآثار من أهل الكلام وأما نحن فنجوز التسلسل في الآثار فتكون الحوادث موقوفة على حوادث قبلها لا إلى أول
وهذا الجواب منتف في جملة العالم لأنه ليس قبله حادث نقف عليه عند الطائفتين
وحقيقة جوابهم أن التسلسل الذي نفوه في هذه الحجة ليس هو التسلسل في الحوادث التي تحدث شيئا بعد شيء فإنها لا تدل على بطلان هذا وهم لا يقولون ببطلانه وإنما دلت على بطلان التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا
ومن قال بكونه فاعلا لا يقول بتوقف فاعليته على غيره : لا حادث ولا غير حادث فلا يلزمهم هذا

الجواب عن حجتهم من وجوه الوجه الأول
ونحن قد ذكرنا الأجوبة القاطعة لهذه الحجة في غير موضع من وجوه :
أن يقال : إن كان التسلسل في الآثار ممتنعا لزم القول بأن للحوادث أولا وبطل المذهب فبطلت حجته وإن كان ممكنا بطلت الحجة لإمكان دوام كونه فاعلا ليس بعد شيء مع أن كل ما سواه مخلوق حادث هذا إذا أريد بالتسلسل الممتنع تسلسل أصل الفاعلية وأما إذا أريد تسلسل الآثار فإنه يظهر بطلانها

الوجه الثاني
أن يقال : غاية الحجة أنه لا بد لكل حادث أن يكون قبله حادث وحينئذ فقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء وجمهور المسلمين وغيرهم على أن المخلوق ليس هو الخلق بل الخلق قائم بذات الله فتكون السموات والأرض وما بينهما محدثة بحوادث قبلها والحوادث محدثة بما يقوم بذات الله من مقدوراته ومراداته سبحانه وتعالى

الوجه الثالث
أن يقال : إما أن تقولوا بأن كل ما صدر عن الواجب بذاته لازم لذاته أو لازم للازم بذاته أو منه ما ليس بلازم بذاته
فإن قلتم بالأول كان مكابرة للحس ولم يقل بذلك أحد من الناس وهو الذي أنكره المعارضون لهم وجعلوه لازم حجتهم
وإن قالوا : إن منه ما ليس بلازم لواجب الوجود ولا لازم للازمه بل هو متأخر عنه
فيقال : فالسموات والأرض وما بينهما الذي أخبرت به الرسل عن الله أنه خلق ذلك في ستة أيام : لم لا يجوز أن تكون من الحوادث المتأخرة كغير ذلك من الحوادث ؟

الوجه الرابع
أن يقال : إذا كان العالم صادرا عن علة مستلزمة له لا يتأخر عنها موجبها لزم ألا يكون لشيء من الحوادث فاعل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها ولا لشيء من معلولاتها فلزم أن تكون الحوادث لا فاعل لها أو يكون فاعلها ليس هو بل يكون فاعل كل محدث محدثا وهلم جرا ويلزم تسلسل الفاعلين وهذا مع اتفاق العقلاء على فساده ففساده معلوم بالضرورة من وجوه كثيرة كما بين في غير هذا الموضع

فصل
ومنشأ ضلال هاتين الطائفتين هو نفي صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه فإنهم لما نفوا ذلك ثم أرادوا إثبات صدور الممكنات عنه مع ما يشاهدون من حدوثها لم يبق هناك ما يصلح أن يكون هو المرجح لوجود الممكنات - إلا لما شوهد حدوثه منها - ولا لغير ذلك
وصارت المتفلسفة تحتج على هؤلاء المتكلمة بالحجج التي توجب تناقض قولهم فيجيبوهم بما يتضمن الترجيح بلا مرجح مثل إسنادهم الترجيح إلى القدرة أو الإرادة القديمة التي لا اختصاص لها بوقت دون وقت
فيقول لهم أولئك : إسناد التخصيص والترجيح إلى مرجح لا فرق بالنسبة إليه بين وقت دون وقت وبين مفعول ومفعول كإسناد التخصيص والترجيح إلى ترجح الذات المجردة عن الصفات
لكن كل ما تحتج به المتفلسفة يلزمهم نظيره وما هو أشد فسادا منه فإن قولهم أعظم تناقضا من قول هؤلاء المتكلمين وما من محذور يلزم أولئك إلا ويلزم المتفلسفة ما هو مثله أو أعظم منه فإنهم يسندون وجود الممكنات المختلفات كالأفلاك والعناصر وما يسمونه العقول والنفوس مع ما يتعاقب على ذلك من الحوادث المختلفات أيضا إلى ذات مجردة بسيطة لا صفة لها ولا فعل ويقولون : إنها لم تزل ولا تزال مجردة عن الصفات والأفعال وهي مع ذلك لا تزال تصدر عنها الأمور المختلفة والمحدثات المختلفة المتعاقبة
وهذا مما يظهر فيه من الفساد والتناقض أعظم مما يظهر في قول أولئك وإذا دفعوا ذلك بما يجعلونه صادرا عن الأول من اللازم لذاته كالعقل الأول ولوازمه لم يكن هذا دافعا لما يلزم قولهم من الفساد فإن ما كان لازما لذاته مع وحدته يقال فيه ما يقال فيه من امتناع صدور الأمور المختلفة والحوادث الدائمة عنه ولهذا ينتهون إلى إثبات العقل الفعال ويقولون : إنه صدر عنه فلك القمر ونفسه والعناصر التي تحته مع اختلاف أنواعها وصفاتها وأقدارها وهو في نفسه بسيط ثم يقولون : إنه بسبب حركات الأفلاك حصلت استعدادات مختلفة لما يفيض منه
والكلام في تلك الحركات المختلفة كالكلام في غيرها فلا بد لهم من إسناد الأمور المختلفة الأنواع والأقدار والصفات والحوادث المختلفة الأنواع والأقدار والصفات إلى ذات بسيطة مجردة عن كل صفة وفعل يقوم بها مستلزمة لكل ما يصدر عنها وهذا فيه من التناقض والفساد أضعاف ما في قول أولئك
ومن سلم من الفلاسفة أن الرب تقوم به الصفات والأفعال الاختيارية فهؤلاء حدوث كل ما سوى الله على قولهم أظهر وقدم شيء من العالم على قولهم أبعد
ولهذا كان القائلون بهذا الأصل من الأساطين لا يعرف عنهم القول بقدم صورة الأفلاك إذ أول من عرف عنه القول بقدم صورة الأفلاك هو أرسطو لكن يحكى عن بعضهم القول بقدم المادة وقد يريدون قدم جنسه لا قدم شيء معين ومنهم من يقول بقدم شيء معين
وأما أبو البركات فإنه من المثبتين للصفات والأفعال القائمة بذاته وهو لم يقم حجة على قدم شيء من العالم وإنما أبطل قول من قال بأنه فعل بعد أن لم يفعل
والذي تقتضيه حججه العقلية الصحيحة وحجج سائر العقلاء إنما هو موافق لما أخبرت به الرسل لا مخالف لها وكأن القول الوسط لم يعرفه كما لم يعرفه الرازي وأمثاله ولو عرفوه لكان هو المتصور عندهم دون غيره وإنما استطال ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة الدهرية على أولئك بما وافقوهم عليه من نفي الصفات ولهاذ تجد ابن سينا يذكر قول إخوانه وقول أولئك المتكلمين فقط
ومعلوم أن فساد أحد القولين لا يستلزم صحة القول الآخر إلا أن تنحصر القسمة فيهما فأما إذا أمكن أن يكون هناك قول ثالث هو الحق لم يلزم من فساد أحد القولين صحة القول الآخر وهذا مضمون ما ذكره في كتبه كلها وما ذكره سائر هؤلاء الفلاسفة

كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه
وملخص ذلك ما ذكره في الإشارات التي هي مصحف هؤلاء الفلاسفة قال : أوهام وتنبيهات قال قوم : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى : { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ] فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما
قلت : هذا القول هو قول الدهرية المحضة من الفلاسفة وغيرهم الذين ينكرون صدور العالم عن فاعل أو علة مستلزمة له وهو الذي أظهر فرعون وغيره وإليه يرجع عند التحقيق قول القائلين بوحدة الوجود من قدماء الفلاسفة ومن هؤلاء الفلاسفة الذين يدعون التحقيق والتوحيد والمعرفة كابن عربي وابن سبعين ونحوهما فإن هؤلاء لا يثبتون موجودين متباينين أحدهما أبدع الآخر بل كل وجود في الوجود فهو الوجود الواجب عندهم ثم لما رأوا أن الموجودات فيها اختلاف وتفرق وفيها ما حدث بعد وجوده احتاجوا إلى أن يجمعوا بين كون الوجود واحدا بالعين وبين ما يوجد فيه من التفرق والاختلاف فتارة يقولون : الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فيجمعون بين كون المعدوم شيئا ثابتا في العدم غنيا عن الله تعالى كما قال ذلك من قاله من المعتزلة والشيعة ويضمون إلى ذلك أن وجوده وجود الخالق تعالى وهذا لم يقله أحد من أهل الملل بل ولا من الفلاسفة الإلهيين وهذا حقيقة قول ابن عربي
وتارة يجعلون الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق والأعيان هي الممكنات كما يقوله صاحبه القونوي
وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي وهذا أفسد من ذاك فإن المطلق بشرط إطلاقه لا وجود له في الخارج وبتقدير وجوده فهو يعم ما تحته عموم الجنس والعرض العام والعالم بشرط سلبه عن كل أمر ثبوتي هو وجود مقيد بالعدم وسلب الوجود هذا أبعد عن الوجود من المقيد بسلب الوجود والعدم فإن ما قيد بانتفاء الوجود والعدم أقرب إلى العدم والامتناع مما قيد بسلب الوجود والعدم
ومع هذا فهذا المطلق لا يوجد إلا بوجود الأعيان لا يتصور أن يكون مبدعا لها ولا علة لها بل غايته أن يكون صفة لها أو جزءا منها فيكون الوجود الواجب صفة للمكنات أو جزءا منها وما كان جزءا من الممكن أو صفة له أولى أن يكون ممكنا فإما أن ينفوه أو يجعلوه محتاجا إلى المخلوقات والمخلوقات مستغنية عنه
وتارة يجعلونه مع الممكنات كالمادة في الصورة أو الصورة في المادة نحو ذلك مما يقوله ابن سبعين ونحوه
وتارة لا يثبتون شيئا آخر بل هو عين الموجودات وهي أجزاء له وأبعاض كما قد يقوله التلمساني وأمثاله وهذا محض قول الدهرية المحضة الذين يجعلون هذا المحسوس واجبا بنفسه
لكن طريقة ابن سينا وأتباعه في الرد عليه مبينة على أصله في توحيد واجب الوجود ونفي صفاته وهي طريقة ضعيفة كما بين فسادها في غير هذا الموضع
فلا يمكن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالفلاسفة الإلهية الرد على أولئك الدهرية الطبيعية بمثل هذه الطريق بل بيان كون المشاهدات ليس واجبة بنفسها بل مفتقرة غلى غيرها يمكن بوجوه كثيرة كما قد بسط في موضعه إذ المقصود هنا ذكر كلامه في أفعال الرب تعالى وما ذكره في قدم العالم
قال : وقال آخرون : بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء فقد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل واجب الوجود لضدين أو لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك هؤلاء في حكم الذي قبلهم
قلت : هؤلاء كالمجوس القائلين بأن له أصلان : النور والظلمة وهما قديمان فإن هذا أحد قوليهم والآخر أن الظلمة محدثة والقائلون بالقدماء الخمسة كديمقراطيس ومن اتبعه كابن زكريا الطبيب الملحد يقولون بقدم الباري والنفس والمادة والدهر والخلاء
فهؤلاء يجعلون الواجب أكثر من واحد وهم مع هذا يقولون بأن أصله غير معلول وطينته معلولة
وأما من جعل المبدع أكثر من اثنين فهذا لا يعرف
فقوله : منهم من زعم أن أصله وطينته معلولة يتناول هذا القول كما يتناوله قول من جعل وجوب الوجود لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك وقد يحكى عن طائفة من القدماء أنهم قالوا : كانت أجزاء العالم مبثوثة ثم إن الباري ألفها لكن هؤلاء قد يقولون : إنها معلولة عن الواجب بنفسه فإن هذا القول الذي قاله أئمة الفلاسفة وقدماؤهم وأساطينهم وهو أن المادة العالم قديمة وصنعته محدثة لم يذكره ابن سينا فإن هؤلاء لا يقولون : إن المادة غير معلولة بل يقولون : هي مبدعة مفعولة للباري
وهذا القول الذي هو قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم لم يتعرض لحكايته ولا لرده وإبطاله وليس في كلامه ما يبطله وقد قالوا : إن أول من قال بقدم صنعة العالم من هؤلاء الفلاسفة هو أرسطو فهذا كلامه في حكاية مذاهبهم وأما رده الأقوال التي حكاها بامتناع وجود واجبين فهو بناء على نفي الصفات وهو توحيده الذي قد علم فساده وبين ذلك في غير هذا الموضع
ثم أخذ بعد ذلك في ذكر مقالة من قال بحدوث العالم من نفاة الأفعال القائمة به ومن قال بقدمه فلم يذكر إلا هذين القولين مع تلك الأقوال الثلاثة فكان مجموع ما ذكره خمسة أقوال

كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرح ذلك : المسألة العاشرة في مذاهب أهل العلم في إمكان العالم وحدوثه ثم ذكر كلام ابن سينا وقال في شرحه : أقول : أهل العالم فريقان : منهم من أثبت أكثر من واجب وجود واحد ومنهم من لم يقل إلا بالواجب الواحد أما الفريق الأول فقد تحزبوا إلى ثلاث فرق : أحدها : الذين زعموا أن هذا العالم المحسوس واجب لذاته على ما هو عليه من الشكل والمقدار والهيئة قال الشيخ : لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا ثم استدل الرازي بما يدل على أن الأجسام ممكنة وقد ذكرت هذه الأدلة وضعفها في غير هذا الموضع
ولهذا قال الرازي لما ذكرها : هذا مجموع ما يدل على أن الأجسام ممكنة وقد عرفت ما في كل واحد منها المقالة الثانية : أن العالم له ذات وصفات فأما الذات فهي للأجسام وهي واجبة لذواتها ومنهم من قال : الذات هي الهيولى التي هي محل الجسمية وهي واجبة لذاتها فأما الصفات وهي الشكل والمقدار والتحيز والحركة والسكون فكل ذلك من الممكنات
قال : وهذه المقالة أيضا باطلة بالأدلة المذكورة على فساد المقدمة الأولى قال : والمقالة الثالثة : أن هذا العالم ممكن الوجود بذاته وصفاته لكن واجب الوجود مع ذلك أكثر من واحد ثم هؤلاء أيضا فرق : منهم من أثبت إلهين واجبين لذاتيهما أحدهما خير والآخر شرير ومنهم من قال : خمسة أشياء واجبة لذواتها : الباري والنفس والهيولى والدهر والخلاء قال : وفساد هذه الأقاويل وأشباهها إنما يظهر بالأدلة المذكورة على أن واجب الوجود يستحيل أن يكون أكثر من واحد

تعليق ابن تيمية
قلت : فقد تداخلت المقالتان في كلامه كما تداخل في كلام الآخر وذلك أن من قال : الأجسام أو الهيولى التي هي محل الجسمية واجبة لذاتها وصفاتها ممكنة فهو من جنس من قال بخمسة أشياء واجبة إذ كلاهما يقول : إن الباري أحدث التأليف والصنعة بخلاف من قال بإلهين : الخير والشر : فإنه يقول : كلاهما فاعل وليس في هذه الأقوال قول من يجعل وجوب الوجود لعدة أشياء وجعل ما سواها مفعولا لها كما يقوله القائلون بالأصلين : النور والظلمة من المجوس
لكن القائلون بقدم النفس يقولون : إنها أحبت الهيولى ولم يمكن تخليصها منها إلا بإحداث العالم والقائلون بقدم المادة فقط لا يقولون بذلك
والقائلون بقدم الهيولى أو بعض الأجسام أو نحو ذلك لا يلزمهم أن يقولوا : إنها واجبة الوجود بنفسها بل قد يقولون : إنها مبدعة مفعولة للواجب بنفسه وهذا المشهور عن قدماء الفلاسفة
والرازي قد ذكر في شرح الإشارات من كتبه : أن هؤلاء يقولون إن الباري هو الواجب بذاته وأن النفس وغيرها معلولة له وذكر هنا عنهم : أنهم يصفون الجميع بوجوب الوجود وهذا تناقض في نقل أقوالهم ثم إبطال هذه الأقوال بناء على توحيدهم الذي مضمونه نفي الصفات لكون الواجب لا يكون إلا واحدا قد عرف فساده
قال الرازي : فأما القائلون بأن واجب الوجود واحد فقد اختلفوا على قولين : منهم من قال : إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلا ثم صار فيما لا يزال فاعلا وهم المليون بأسرهم ومنهم من قال : أنه كان في الأزل فاعلا وهم أكثر الفلاسفة
قلت : القول الذي حكاه عن المليين بأسرهم هو قول طوائف من أهل الكلام المحدث منهم الذين ذمهم السلف والأئمة ولا يعرف هذا القول عن نبي مرسل ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يقل أحد من هؤلاء : إن الله لم يكن فاعلا ثم صار فاعلا وإنما المعروف عنهم ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن وهذا هو الذي نطق به الكتاب والسنة واتفق عليه أهل الملل وكذلك نقله عن جمهور الفلاسفة : إن الله لم يزل فاعلا كلام مجمل فجماهير الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم وأول من ظهر عنه منهم القول بقدمه هو أرسطو ولا يلزم من قال : إنه لم يزل فاعلا أن يقول بقدم شيء من العالم إذ يمكنه مع ذلك أن يقول : لم يزل فاعلا لشيء بعد شيء فكل ما سواه مخلوق محدث وهو لم يزل فاعلا
وقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأن الله كان ولم يكن قبله شيء وكان حينئذ عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض
وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف هذا القول الذي حكاه عن أهل الملل كلهم بل صرح أئمة الإسلام بأن الله لم يزل متكلما إذا شاء قادرا على ما يشاء فاعلا يقوم به الفعل الذي يشاؤه بل وصرحوا أنه لم يزل فاعلا وأن الحي لا يكون إلا فعالا يقوم به الفعل
ولفظ بعضهم : أن الحي لا يكون متحركا وعبارة بعضهم : كان محسنا فيما لم يزل عالما بما لم يزل إلى ما لم يزل وعبارة بعضهم : كان غفورا رحيما عزيزا حكيما ولم يزل كذلك
فنقل الرازي لمقالة أهل الملل كنقل ابن سينا لمقالات الفلاسفة فكلا الرجلين لم يذكر في هذا المقام أقوال أئمة الفلاسفة المتقدمين الأساطين ولا أقوال الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الصحابة والتابعين كأئمة المسلمين وعلماء الدين بل هذه الخمسة الأقوال التي ذكرها هذان وأتباعهما ليست قول هؤلاء ولا قول هؤلاء ولهذا كان جميع ما ذكروه من الأقوال التي ينصرونها ويزيفونها أقوالا يظهر فسادها وتناقضها

كلام ابن سينا في الإشارات
قال ابن سينا : ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم : إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وجود شيء عنه ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منهما وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا : وذلك محال وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية لها فيكون موقوفا على ما لا نهاية له فيقطع إليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الأحوال وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له ؟
ومن هؤلاء من قال : إن العالم وجد حين كان أصلح لوجوده ومنهم من قال : لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال : لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم ؟
فهؤلاء هؤلاء وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون : إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأولية وإنه لن يتميز في العدم الصريح حال أولى به فيها ألا يوجد شيئا أو بالأشياء ألا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع ولا أن تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال ما تجدد كحال ما تمهد له التجدد فيتجدد ؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حال ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا كحسن من الفعل وقتا ما تيسر أو وقت معين أو غير ذلك مما عد أو لقبح كان يكون له أو كان قد زال أو عائق أو غير ذلك كان فزال
قالوا : فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والوجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي ضعيف قد انكشف لذي الإنصاف ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال أولى بإيجاب السبق من حال
وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود لغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال : الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحتمل الإمكان على الكل كما يحمل على كل واحد
قالوا : ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيئا بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أقل وأكثر ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له واحتياج شيء منها إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب
فإن معنى قولنا : توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يمكن البتة ولا في وقت من الأوقات يصح أن يقال : إن الأخير كان متوقفا على وجود ما لا نهاية له أو محتاجا إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية ففي جميع الأوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه أنه ممكن أو غير ممكن فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه ؟ أبان يغير لفظها بتغير لا يتغير به المعنى ؟ قالوا : فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من اختلافات تلزم عندها فيتبعها التغير فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا

شرح الرازي لكلام ابن سينا
قلت : والرازي قد شرح هذا الكلام إلى أن وصل إلى آخره وهو قوله : وإليك الاختيار بعقلك دون هواك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا وقال : فاعلم أن الغرض منه الوصية بالتصلب في مسألة التوحيد ولكنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة القدم والحدوث وإن كان الغرض منه إنما هي المقدمة التي منها يظهر الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون : ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى الواجب بذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتتنية فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد

تعليق ابن تيمية
قلت : لقائل أن يقول : بل ابن سينا عرف أن قوله لا يتم إلا بما ادعاه من التوحيد الذي مضمونه نفي صفات الرب وأفعاله القائمة بنفسه كما وافقه على ذلك من وافقه من المعتزلة وبموافقتهم له على ذلك استطال عليهم وظهر تناقض أقوالهم وإن كان قوله أشد تناقضا من وجه آخر لكنه صار يحتج على بطلان قولهم بما اشتركوا هم وهو فيه من نفي صفات الله الذي هو أصل الجهمية وهكذا هو الأمر فإن حجة القائلين بقدم العالم التي اعتمدها أرسطو طاليس وأتباعه كالفارابي وابن سينا وأمثالهما لا تتم إلا بنفي أفعال الرب القائمة بنفسه بل وتبقى فاته وإلا فإذا نوزعوا في هذا الأصل بطلت حجتهم وإذا سلم لهم هذا الأصل صار لهم حجة على من سلمه لهم كما أن عليهم حجة من جهة أخرى
ولهذا كان مآل القائلين بنفي أفعال الرب الاختيارية القائمة به في مسألة قدم العالم : إما إلى الحيرة والتوقف وإما إلى المعاندة والسفسطة فيكونون إما في الشك وإما في الإفك ولهذا كان الرازي يظهر منه التوقف في هذه المسألة في منتهى بحثه ونظره كما يظهر في المطالب العالية أو يرجح هذا القول تارة كما رجح القدم في المباحث المشرقية وهذا تارة كما يرجح الحدوث في الكتب الكلامية
وابن سينا وصى بالأصل المتضمن نفي صفات الرب وأفعاله القائمة به ثم ذكر القولين في قدم العالم وحدوثه مع ترجيحه القدم مفوضا إلى الناظر الاختيار بعد أن يسلم الأصل الذي به يحتج على القائلين بالحدوث
ونحن نبين إن شاء الله أن قوله مع تسليم نفي الصفات والأفعال القائمة بالله أشد فسادا وتناقضا من قول القائلين بالحدوث فإن كان في قول هؤلاء ما يناقض صريح العقل ففي قول أصحابه من مناقضة المعقول الصريح ما هو أشد من ذلك وذلك أنه إذا كانت الذات بسيطة ليس لها فعل يقوم بها أصلا بل كان امتناع صدور الأمور المختلفة والحادثة عنها بوسط أو بغير وسط دائما أشد امتناعا من صدور ذلك بعد أن لم يصدر فإنه إن أمكن أن يحدث عنها حادث بلا سبب محدث منها أمكن حدوث الحوادث عنها بعد أن لم تحدث وإن لم يمكن كان حدوث الحوادث المختلفة عنها بوسط أو غير وسط دائما من غير فعل منها هو أبعد في الامتناع من صدور المختلفات عنها بعد أن لم تصدر
ولهذا كان أرسطو طاليس مقدم هؤلاء لم يذكر علة فاعلة لحدوث الحركة وإنما ذكر أن سبب الحوادث الحركة الفلكية وما يحدث عنها وذكر لذلك علة غائية فذكر أن كل متحرك فلا بد له من محرك يحركه وجعل الأول يحرك الفلك كما يحرك الإمام المقتدى به المشبه به للمأموم المقتدى المتشبه وقد يشبه ذلك كما يحرك المعشوق عاشقه
ومعلوم أن هذا التحريك ليس هو بفعل من المحرك ولا قصد وتلك الحركة حادثة بعد أن لم تكن فنسأل عن الفاعل لتلك الأجسام الممكنة فإن الممكن وإن كان قديما لا بد له من فاعل فما الفاعل لها ؟ ونسأل عن العلة الفاعلة لتلك الحوادث فإن المتحرك ممكن فالمحرك إذا كان أمورا تحدث في ذاته كما يقولونه في تصورات النفس الفلكية وشوقها قيل لهم : فما المحدث لتلك التصورات والارادات شيئا بعد شيء وهي أمور ممكنة كانت بعد أن لم تكن وهي قائمة بممكن هو مفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه معلوم أن الحركة لا يكفي في حدوثها العلة الغائية بل لا بد من العلة الفاعلية ومعلوم أن افتقار الفعل إلى الفاعل إن لم يكن مثل افتقاره إلى الغاية لم يكن دونها بل العقل يعلم افتقار الفعل الحادث إلى الفاعل قبل علمه بافتقاره إلى الغاية
وأرسطو وأتباعه إنما زعموا افتقاره إلى الغاية المنفصلة عنه ولم يذكروا احتياجه إلى الفاعل المنفصل عنه
ومعلوم أن الموجب لحدوث الحركة يحدثها شيئا بعد شيء فلا بد له من محدث منفصل كما أنه لا بد له من غاية منفصلة بطريق الأولى فإن جوز المجوز أن يكون هو المحدث لفعله من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا فلنجوز أن يكون هو غاية لنفسه من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا وذلك ممتنع عندهم
وأيضا فمن المعلوم أن الممكن الذي ليس له شيء من نفسه بل ذاته نفسها من غيره يمتنع أن يكون شيء من أفعاله من نفسه بدون افتقاره في ذلك إلى غيره كما يمتنع أن تكون صفاته وأبعاضه من نفسه من غير افتقار في ذلك إلى غيره
فإن ما به يعلم أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون بنفسه موجودا يعلم أن سائر ما يحصل له من الصفات والأفعال لا تكون بنفسه فإن ما لا يوجد بنفسه بل بغيره كيف يكون موجدا لغيره بنفسه بدون غيره ؟
والكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في مسألة خلق أفعال العباد فكلما نعلم أن الله خالق أفعال العباد نعلم أنه خالق حركات الفلك إذا قدر أنها اختيارية وإن قدر أنها اختيارية كان الأمر أولى وأولى فإن القدرية تنازع في الأول لا تنازع في الثاني
وليس القائل أن يقول : إن هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه قد يسلكون في حركات الأفلاك الاختيارية مسلك القدرية الذين لا يقولون : إن الله خالق أفعال العباد
لأنه يقال : أولا : ليس هذا مذهبهم بل عندهم أن أفعال الحيوان وغير ذلك من الممكنات صادرة عن واجب الوجود وهذا هو الموجود في كتب الذين نقلوا مذهبهم كابن سينا وأمثاله
وأيضا فيقال لهم : إما تجوزوا على الحي أن يحدث الأفعال من غير سبب من خارج يقتضي حدوث تلك الأفعال لست أعني من غير مقصور يحدث بل من غير مقتض للفعل وإما ألا تجوزوه
فإن لم تجوزوا على الحي ذلك لزمكم أن الفلك الحي عندكم لا تحدث حركته إلا بسبب منفصل يكون مقتضيا لفعل الحدوث لا يكفي أن يكون ذلك متشبها به ثم القول في حدوث اقتضاء ذلك المقتضى كالقول في حدوث حركة الفلك فيلزم أن يكون فوق الفلك سبب فاعل للحوادث وذلك يبطل قولهم فإنه ليس عندهم فوق الفلك حركة ولا فعل بوجه من الوجوه
وإن جوزوا على الحي أن يحدث الأفعال بغير سبب حادث من غيره لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره

كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه
فذكر أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة وهو العلم الإلهي الذي هو أصل حكمتهم نهاية فلسفتهم فيما حكاه عنه ثابت بن قرة فإنه قال في كتاب تلخيص ما أتى به أرسطو طاليس فيما بعد الطبيعة : إن أرسطو طاليس يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيها إغماض يرمي فيها إلى غرض واحد إذا وفى حقه من الشرح والبيان قبل على هذه الجهة مما جرى الأمر فيه على صناعة البرهان سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع
وقال : إنما عنون أرسطو كتابه هذا بما بعد الطبيعة لأن قصده فيه : البحث عن جوهر غير متحرك وغير قابل للشوق إلى شيء خرج عن ذاته
وقال : إن الجوهر الجسماني كله الوجود مبتدأ لمتكون إنما قوامه بطبيعته الخاصة به وطبيعته الخاصة به إنما قوامها بصورته الخاصة به وصورته الخاصة به المقومة لذاته إنما قوامها بحركته الخاصة به وكل متحرك بحركة خاصة به فإنما يتحرك إلى تمام وتمام كل واحد من الأشياء ملائم لطبيعته وموافق لها وكل متحرك إلى ما لاءمه ووافق طبيعته فبالشوق والمحبة والتوق منه إليه يتحرك والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتنساق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك كما بين أرسطو ذلك في كتابه المعروف بـ السماع الطبيعي
لأنه وإن وجد بعضها يحرك بعضا فالمتحرك الأقصى متحرك عن محرك غير متحرك والمحرك الأول علة الصورة المقومة لجوهر كل واحد من الأشياء المتحركة حركة خاصية فقوام جوهر كل واحد من الأشياء المتحركة ليس له في ذاته لكنه من الشيء الذي هو السبب الأول في حركته
فيقال لهم : هب أن الحركة الإرادية لا تتصور إلا بمحبوب منفصل عنها لكن إذا كان المتحرك ليس واجبا بنفسه لا هو ولا حركته فما الموجب له ولحركته ؟ وأنتم لم تجعلوا المحرك الأول محركا إلا من جهة كونه محبوبا معشوقا لا من جهة أنه فعل شيئا أصلا
قال ثابت : وكذلك ما يقول أرسطو طاليس : إن كل ما يتحرك فحركته بالشوق إلى شيء والصورة الأولى فيما هو في الكون وفيما هو موجود الحركة الخاصة به فالمحرك الأول إذن هو المبدأ والعلة في وجود صور الجواهر الجسمانية كلها وبقائها إذ كنا متى توهمنا ارتفاع وجود الحركة الطبيعية وإن شئت أن تقول : القوي من كل واحد من الأجسام التي له فسد جوهره لا محالة
ثم ذكر سؤالا وجوابا مضمونه : إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به
قال : فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه انحل إلى شيء آخر أبسط منه ليس في طبيعته حركة خاصة به فيكون حينئذ في ذاته لا معلول لكن المركب فيه معلول
فأرسطو طاليس يقول : إن هذا الظن باطل محال لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط فأما في خاصة نفسه مفردا فلا وجود له بالحقيقة لا قوام لذاته وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم إذا توهمنا فساد صورته تلك قبول صورة أخرى فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول
فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط قلنا : فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل وجب أن تبطل ذاته يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول فإن قيل أيضا : إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول وليس يمكن أن ينحل هذا دائما إلى ما لا نهاية له
قال : فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع
قلت : فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى التي هي المبدأ الذي يسميه المتأخرون : واجب الوجود بذاته وهي طريقة المتقدمين من المشائين وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين : وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب فهذه هي التي سلكها ابن سينا ومتبعوه ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين : مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية لا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالا بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته بانحلاله إلى شيء أبسط منه فلا يكون المحرك علة لذاته بل علة للتركيب فقط
وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأجاب أتباعه بجواب ثان وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول والقبول حركة
وهذا الجواب ساقط فإنه إذا قدر أن فيه قبولا لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب بل يستلزم وجود فاعل مبدع وهم لم يثبتوا ذلك
وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية مع أن في تقدير هذا كلاما ليس هذا موضع بسطه لكن بتقدير أن هذا سلم له فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقرا إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به فيكون وجوده شرطا في وجوده بأن يقال : لا قوام للجسم إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق فغاية ما في هذا أنه لابد من وجود محبوب معشوق ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته ولا في وجود طبيعته ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك ولا دليلا على وجود المبدع لذلك كله بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل
وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم الذي ينقله أصحابه عنهم فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده فكيف إذا أخذ الكلام أولئك على وجهه ؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له
ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم فكل بالنبوات أعلم وإليها أقرب كان عقله ونظره أصح
ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات
ثم إنهم مع أنهم لم يذكروا المبدع للأجسام الممكنة المتحركة اللهم إلا أن يكون هؤلاء قائلين بأن الأجسام الفلكية المتحركة واجبة الوجود بنفسها وأنها مع ذلك مفتقرة إلى المحرك الأول وهذا حقيقة قول أرسطو فهذا أعظم في التناقض فإنه إذا قدر إن الأجسام الفلكية واجبة الوجود بنفسها وهي متحركة حركة تفتقر فيها إلى غيرها كان واجب الوجود متحركا مفتقرا في حركته إلى غيره
وحينئذ فكونه متحركا لا يفتقر في حركته إلى غيره أولى فإنهم حينئذ يكونون قد أثبتوا واجبا بنفسه لا يتحرك أصلا وواجبا بنفسه يفتقر في الحركة إلى محبوب غيره لا قوام له إلا به
وحينئذ فإثبات واجب يتحرك لا يفتقر في الحركة إلى غيره أولى بالإمكان من هذا فإن كلاهما متحرك لكن هذا يفتقر إلى غيره وهذا مستغن عنه
هم قد جعلوا على هذا التقدير واجب الوجود بنفسه اثنين : واجبا لا يفتقر إلى غيره وواجبا يفتقر إلى غيره فإذا قدر واجبا يتحرك بنفسه لنفسه من غير افتقار إلى غيره كان أولى بالجواز ولم يكن في ذاك محذور إلا لزمهم فيما أثبتوه ما هو أشد منه وسيأتي تمام كلامهم في ذلك وقولهم : إن الجسم لا يجوز أن يتحرك بنفسه حركة لا نهاية لها
فهذا فصل وهنا فصل ثان وهو أنهم مع إثباتهم لكون الفعل معلولا إنما أثبتوه بكونه محتاجا إلى معشوق يكون هو مبدأ الحركة الإرادية من جهة كونه غاية لا فاعلا وليس في هذا ما يدل على أن الفلك له علة مبدعة فاعلة له كما لا يخفى على عاقل
ثم ادعوا أن ذلك المعشوق الذي هو العلة الغائية لا يجوز أن يكون متحركا ولا له حركة أصلا ومن هنا قالوا بقدم العالم إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول لئلا يكون فيه تغير وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل وكلامهم في ذلك في غاية التناقض وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم
فلما قال : فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم
قلت وقد عرف أنه لم يبين إن سلم له ما ذكره من المقدمات إلا أنه لا بد للحركة من محرك ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها
فقال في بيان ذلك : ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود فيما علة وجوده شيء غيره ولا كل الأنظام أقدم من النظام ولا كل بسيط أقدم من المركب لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره فإن قوام غيره به وبسببه أو وجود غيره عنه وجب أن يكون متقدمه في الزمان وكذلك ما يقول أرسطو طاليس : إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود وسبب بقاء كل باق منذ الأبد من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان وبعد أن لم يكن كذلك إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به
وقال : وذلك أنه لم يزل ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول يعني المحرك الأول إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره التي بارتفاعها يرتفع وجوده فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة
قال : فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان
فيقال له : أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلا بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه بل ادعيت ذلك دعوى نعم : إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد أما أن كون المراد منفصلا عن المتحرك أو غير منفصل فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه وكونه شرطا في وجودها لا يقتضي كونه مبدعا لها وفاعلا لها إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة وواتفاق العقلاء وهم لم يدعوا ذلك
لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلا قلنا : نعم لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلا للحوادث مبدعا لها وهم يأبون ذلك حيث يكون فيه جهتان : جهة كونه مرادا محبوبا وجهة كونه فاعلا مبدعا وهذا إذا قيل : إنه حق أفسد أصولهم ومذهبهم
والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه فهو من جهة كونه ربا هو الخالق المبدع الفاعل ومن جهة كونه إلها هو المعبود المألوه المحبوب
لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه وعلى ما يقوله المسلمون
فتبين أن قوله : إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود كلام مبني على محض الدعوى والكذب
أما الدعوى : فإنه ادعى أن المتحرك لا بد له من معشوق منفصل
وأما الكذب : فقوله : إن ذلك هو العلة في وجود المتحرك وإنما هو مجرد شرط وغايته أن يكون جزءا من أجزاء العلة في وجوده فهذا إذا سلمت المقدمات كلها وهو أن الفلك يتحرك بالإرادة وأن المتحرك بالإرادة لا وجود له إلا بحركته وأن حركته لا بد لها من معشوق منفصل - لم يثبت إلا مجرد كون ذلك شرطا في وجوده لا علة تامة لوجوده فكيف إذا قيل : إن المقدمات الثلاث باطلة كما هو مذكور في موضعه ؟
ثم قال : فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود هذا العالم في زمان
قال : وكان يجب من هذا أن الأشياء الموجودة لم يكن لها بتة وجود ثم أخرجت إلى الوجود فيلزم من ذلك أن يكون لوجود العالم علة أخرى مشاركة للعلة الأولى فيه أو فوق العلة الأولى لأنه إن لم يكن للعلة الأولى في إخراج العالم إلى الوجود أمر من الأمور ولا ها هنا علة تعين أو تدعو العلة الأولى إلى إخراج العالم إلى الوجود غير ذاتها ولا علة ترتبها وتعوقها فليس لتأخر وجود العالم عن وجود ذات العلة الأولى سبب يوجبه فكيف يمكن أن يتأخر وجود زمانا بلا نهاية ثم يخرج إلى الوجود كحال من كان نائما فانتبه ؟
فيقال لهؤلاء الذين مثلهم كما قال عبد الله بن عمر لما سأله بعض الناس عن المحرم يقتل البعوض : انظروا إلى هؤلاء يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم !
وكما يقال عن بعض الناس إنه كان يزني بامرأة وهو صائم فقال لها : غطي وجهك فقد كره العلماء القبلة للصائم
وكما يقال عن بعض النصارى إذ قال لبعض المسلمين : أنتم تقولون : إن راعيا هو رسول الله فيقال له : أنتم تقولون : إن جنينا في بطن أمه هو الله
ونظائر هذه الأمثال كثيرة التي ينكر فيها الرجل شيئا وقد التزم ما هو أولى بالإنكار منه
فإن هؤلاء قالوا : إذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن لزم افتقار العالم إلى شيء غير العلة الأولى وهم لم يذكروا أن العلة الأولى أبدعت العالم أصلا بل قولهم مضمونه : إن العالم أبدعه غيرها أو هو واجب آخر بنفسه ليس هو مبدع ولكن هو محتاج إليها احتياج المحب إلى محبوبه وهم لم يثبتوا هذا الاحتياج إلا بمقدمات إذا حقق الأمر عليهم فيها ظهر جهلهم وتناقضهم فغاية ما أثبتوه ليس فيه أن العالم إبداع الأول أصلا مع أنهم ينكرون على من جعله محدثا للعالم لكون الحادث يفتقر إلى سبب حادث فهل يكون أعظم تناقضا من مثل هذا القول ؟ !
ثم يقال : الأجسام المتحركة : إما أن تكون - أو شيء منها - واجب الوجود بذاته وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته
فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه وهو العلة الأولى لا يمكن أن يتحرك إذ كان على هذا التقدير قد قيل : إن شيئا واجبا بنفسه هو متحرك
وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركا
وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلا مبدعا لها سواء قيل : إنها قديمة أو حادثة فإن الممكن لا بد له من فاعل سواء قيل بقدمه أو حدوثه إذ كان لا يكون بنفسه
ولو قيل : إنه لا فاعل له ولا مبدع كان واجبا بنفسه فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه وإما أن يكون وجوده بغيره فالأول هو الممكن بنفسه والثاني هو الواجب بنفسه
وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب بل لا بد من تأخره عنه
لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب مع كونه معلولا موجبا له صادرا عنه وهم يسمون الواجب علة ومبدعا وفاعلا وقد يسمونه محدثا لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم لئلا يخالف المسلمين في الظاهر كما فعل ذلك ابن سينا وغيره
لكن بكل حال لا بد للمكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه بل يوجب صفاته وحركاته لا يكفي في وجوده مجرد وجوده محبوبه بل لا بد من موجب لذاته وصفاته بل وموجب لنفس حبه
ثم إذا قيل : إنه محب لشيء منفصل عنه لزم احتياجه إلى المحبوب وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له الموجب لذاته وصفاته وأفعاله من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب بل لمحض كونه محبوبا - فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده
وهم وكل عاقل يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية ولا بد من علة فاعلية فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية لزم كونه مبدعا له وهو المطلوب وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم
وإن لم يجعلوه مبدعا له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم وقيل لهم : افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته أبين من افتقاره إلى محبوب له
قال ثابت بن قرة : وأرسطو طاليس ينكر هذا الرأي المجدد والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو : أن العالم أبدي أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه - ظن كاذب
فيقال له : الذين يظنون هذا يقولون : إن هذا لازم لأرسطو لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له وإن كان مقارنا لها بل إنما أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله وليس مجرد كون الشيء محبوبا يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبة فلهذا ألزموه ذلك
ثم هذا اللازم له : إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله لأن إذا كان العالم واجبا بنفسه ليس له مبدع مع كونه مفتقرا إلى محبوب له كما يقوله أرسطو لزم كون الواجب بنفسه مفتقرا إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته
وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم لم يكن باطلا على هذا القول الذي يلزم أرسطو
وأيضا فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركا لغيره فلأن يكون متحركا لنفسه أولى وأحرى وأرسطو أبطل كون الأول متحركا بحجج تنقض مذهبه
قال ثابت : وأرسطو طاليس يقول : فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداء زمانيا فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجودا زمانا بلا نهاية ؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك ؟ وما كانت العلة المرتبة ؟
فيقال له : هذا كله يبين فساد قولك فإنه يقال : إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث وحركته المتحددة وتحريكه لما يحركه ؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على ذلك ؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة ؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة ؟
فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جوابا له
فإن قال : ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث وحينئذ فيجوز أن يقال : إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم إذ كان فعل الواجب بنفسه على هذا التقدير قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث
وإن قال : إن العالم ممكن
قيل له : فلا بد له من واجب فعله وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما يحدث من الحوادث ؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن ؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك ؟
وأيضا فيقال لهم : إن كان ممكنا صادرا عن الواجب فما الذي أوجب الأول أن يفعله ؟ وما الذي دعاه إلى ذلك ؟
فإن قالوا : مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك
قيل : فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة وجب اقتران كل ما صدر عنها بها ووجب اقتران الصادر عن الصادر به فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم بل يكون كله بجميع أجزائه قديما ملازما للذات المجردة وهو خلاف الحس والمشاهدة
وأيضا فيقال له : فعل الأول إما أن يقف على داع وإما أن لا يقف على داع فإن وقف على داع قيل لك : ما الداعي الموجب لإبداعه للعالم على ما هو عليه من الأمور المختلفة والحادثة ؟ وإن لم يقف على داع جاز أن يحدث ما حدث بلا داع ولم يجب أن يكون لفعله علة
قال ثابت : ويلزم أهل هذا الرأي أن يكون في المبدأ الأقصى الذي عنده يتناهى الأبد في ابتداء كل فعل ما هو بالقوة وما بالقوة ليس يخرجه ما هو له بالقوة بغير علة داخلة عليه من خارج يصير معلولا لها في تلك الجهة لأنه إن كان ليس لإخراج ما هو له بالقوة إلى الفعل سبب غير ذاته فيجب أن يكون وجوب ذلك الأمر بالفعل مع وجود تلك الذات المخرجة له وذلك الشيء غير متأخر عن وجودها وإن كان له سبب غير ذاته فإذن تكون العلة الأولى والمبدأ الأول ليس بمبدأ أول على الحقيقة لأنه يحتاج حينئذ إن كانت تلك حاله إلى مبدأ آخر وأيضا فيلزم جوهر العلة الأولى وإن كان لها ما هو بالقوة حينا لم يخرج إلى الفعل حينا تغير وهذا أمر قد أضرب عنه سائر القدماء فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال وكما أنه ليس يمكن منه في مادة من المواد أن تؤخرها الطبيعة لحظة من غير أن يعمل منها أجود ما ينعمل من مثلها ما لم يعتور ذلك شيء من خارج كذلك يرى أرسطو طاليس أن الأمر واجب في جملة أمر العالم أي في وجود جملته إذ كان إمكانه لم يزل والإمكان له بمنزلة المادة

الرد عليه من وجوه الوجه الأول
فيقال له : جواب هذا من وجوه
أن يقال : خروج ما بالقوة إلى الفعل : إما أن يفتقر إلى علة من خارج وإما أن لا يفتقر فإن لم يفتقر بطل هذا الكلام وإن افتقر فإما أن يفتقر إلى علة خارجة فاعلة أو علة غائية أو كلاهما والافتقار إلى علة غائية وحدها غير كاف لأن ما بالقوة إذا لم يخرج إلى الفعل إلا بعلة من خارج فلا بد أن يكون علة لوجود كونه فاعلا وإلا مجرد المحبوب بدون ما به يفعل المحب مطلوبه لا يوجب وجود الفعل
ولهذا إذا كان المحب غير قادر على الفعل لم يتحرك إلى المحبوب وتحركه إلى المحبوب هو ممكن ليس بممتنع ولا واجب بنفسه والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح تام يستلزم وجود الممكن فلا بد لفاعلية الممكن من مرجح تام الفاعلية وذلك هو الفعل إذ مجرد الغاية ليس مرجحا تاما
وإن افتقر خروج ما بالقوة إلى الفعل إلى علة من خارج علة فاعلة أو علة فاعلة وغائية
قيل له : فحركة الجوهر الجسماني حينئذ يفتقر إلى فاعل خارج عنها وحينئذ فذاك الفاعل لم يكن فاعلا لتلك الفاعلية في الأزل إذ لو كان كذلك لزم وجود جميع الحركات والحوادث في الأزل لوجود فاعلها التام فتعين أنه صار فاعلا لتلك الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا
فيلزم حينئذ إذا جعل الممكن مفتقرا إلى علة خارجة أن تكون العلة صارت علة لفاعليته بعد أن لم تكن علة وهذا قد يستدل به على العلية مطلقا سواء جعلت فاعلية أو غائية
فإنه يقال : كل ما حدث من الحوادث فإنه يمتنع وجود علته التامة في الأزل فإذن قد حدثت عليته - علية الفاعل والغاية - بعد أن لم تكن فيجب أن يكون الأول قد صار علة فاعلية وغائية بعد أن لم يكن لكل ما يحدث على قلولكم وهذا يبطل ما ذكرتموه فيه
ثم يقال : إذا كان هذا جائزا فيه جاز أن يكون حدوث الأفلاك لحدوث علية حدوثها وأن تكون قبلها حوادث قائمة به أو منفصلة عنه متعاقبة ليس فيها ما هو قديم بعينه

الوجه الثاني
أن يقال : لم قلت : إن ما هو بالقوة لا يخرجه فاعله بغير علة منفصلة ؟ قوله : لأنه إن لم يكن لإخراجه سبب غير ذاته فيجب أن يكون مقارنا للذات وإن كان له سبب غير ذاته لم تكن العلة الأولى مبدأ أولا على الحقيقة
فيقال له : وأنت لم تجعل الأول مبدأ لوجود ما سواه بمعني أنه فاعل له مبدع وإنما جعلته مبدأ بمعنى أنه محبوب معشوق ومجرد كونه محبوبا معشوقا لا يوجب وجود المحب وذاته وصفاته وأفعاله فليس الأول على ما ذكروه وحده مبدأ بل ما ذكرته أبعد عن كونه مبدأ لأن كونه فاعلا يتوقف فعله على شيء من غير أقرب إلى كونه مبدأ من كونه ليس إلا مجرد كونه محبوبا

الوجه الثالث
أن يقال : ما تعني بقولك : إن كان ليس لإخراجه سبب غير ذاته ؟ أتعني به ذاتا مجردة عن فعل يقوم بها أم ذاتا موصوفة بفعل يقوم بها ؟
فإن عنيت الأول كان اللازم أن الذات المجردة عن الفعل ليست مبدأ أول ولا علة أولى وهم يلتزمون هذا فإن الذات المجردة من الفعل لا حقيقة لها عندهم وهم يمنعون أن يكون الأول كذلك
وإن عنيت الثاني لم يلزم أن يكون المبدأ الأول بمبدأ أول لأنه إذا كان مبدأ بما هو عليه من صفاته وأفعاله التي لا يحتاج فيها إلى غيره كان هو المبدأ الأول من غير احتياج إلى غيره

الوجه الرابع
أن يقال : العالم إن كان واجب الوجود بنفسه مع كونه مفتقرا إلى محبوب كان واجب الوجود معلولا من بعض الجهات فجاز حينئذ أن يكون المحبوب الأول مع وجوب وجوده بنفسه من خارج ما به يصير فاعلا فإن العالم حينئذ واجب الوجود وله من خارج ما به يصير فاعلا وإن كان ممكن الوجود بنفسه لم يوجد إلا بمبدع فاعل يبدعه فالإبداع فعل من المبدع وصنع وأنت لم تجعل الأول إلا محبوبا فقط
وأيضا فإذا كان الأول فاعلا مبدعا للعالم بما فيه من الأمور المختلفة المحدثة امتنع أن يكون صانعا بالفعل لها في الأزل لأن ذلك يستلزم وجود كل من المحدثات في الأزل وهو مكابرة للحس
فيلزم أنه كان صانعا بالقوة ثم صار صانعا بالفعل من غير سبب خارج عنه إذ الخارج عنه كله على هذا التقدير ممكن مفعول له ففعله له لو توقف على تأثير فيه لزم الدور
ومن تدبر هذه الوجوه وما يناسبها تبين له فساد قول هؤلاء في رب العالمين وأن الحق ليس إلا ما جاء عن المرسلين بالعقل الصريح المبين

الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه
وأما قوله : وأيضا فيلزم جوهر العلة الأولى تغير وهذا أضرب عنه القدماء فجوابه من وجوه

الوجه الأول
أن صدور التغير عن غير المتغير إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطلت هذه الحجة ثم يجوز أن يقال : كان بحيث لا يصدر عنه شيء ثم صدر عنه شيء من غير تغير كما يقول ذلك كثير من أهل النظر
وإن كان ممتنعا قيل له : فالعالم المتغير : إما أن يكون صادرا عنه وإما أن لا يكون فإن كان صادرا عنه لزم أن يكون متغيرا وإن لم يكن صادرا عنه فهو إما واجب بنفسه وإما ممكن
فإن كان واجبا بنفسه وهو مع ذلك متغير فقد لزم أن يكون الواجب بنفسه متغيرا وإن كان ممكنا بنفسه لزم أن يكون الممكن قد وجد بلا موجب وهذا مع واتفاق العقلاء على فساده فهو معلوم الفساد بالضرورة
ثم من جوز أن يوجد الممكن بلا فاعل فلأن يجوز تغير الواجب أولى وأحرى لأن هذا فيه مصير ما ليس بشيء شيئا من غير فاعل فلأن يصير شيئا بفاعل متغير أولى وأحرى

الوجه الثاني
قولك : هذا أمر أضرب عنه سائر القدماء لو كان هذا النقل حقا لم ينفعك لأنه لا حجة في إضراب من ليس بمعصوم وأنت لو احتج عليك محتج بنصوص الأنبياء وهو ممن يعتقد عصمتهم وقد قام الدليل عنده على ذلك لم تقبل حجته فلأن لا يقبل منك قول قوم توافقه أنت على عدم عصمتهم أولى وأحرى فكيف وهذا النقل ليس صحيحا ؟
بل كثير من القدماء ومن المتأخرين جوزوا أن تقوم بالأول أمور يشاؤها ويقدر عليها بل صرحوا بأنه متحرك وأنه تقوم به إرادات حادثة وعلوم حادثة وغير ذلك كما تقدم فإن لم يبطل قولهم بحجة عقلية لم يكن ما ذكرته حجة

الوجه الثالث
أن يقال : ما تعني بالتغير ؟ أتعني به استحالته كاستحالة الجسم من صورة إلى صورة ؟ أو تعني به كونه يفعل ما لم يكن فاعلا له ؟
فإن عنيت الأول منعت المقدمة الثانية فإن المتحركات التي يخرج منها ما بالقوة إلى الفعل كالأفلاك لا تستحيل صورتها بذلك
وإن عنيت الثاني قيل لك : هذا لا يسمى تغيرا أو لا نسميه تغيرا وإذا سميته تغيرا لم يكن في مجرد تسميتك له ولا تسميتنا له - إذا وافقناك على التسمية - ما يمنع جوازه
فإن مجرد الألفاظ لا تثبت بها المعاني العقلية فلم قلت : إن هذا المعنى ممتنع ؟
بل هذا هو نفس المتنازع فيه لكن بدلت العبارة عنه أفبأن بدلت العبارة عنه صادرت عليه وجعلته مقدمة في إثبات نفسه ؟ ونحن لا نعني بالتغير إلا كونه يفعل ما لم يكن فاعلا

الوجه الرابع
أن يقال لك : نحن نشاهد حدوث الحوادث وأنت تسمي ذلك إخراج ما بالقوة إلى الفعل فلا بد حينئذ في حدوث الحوادث من إخراج ما بالقوة إلى الفعل فمحدثها أخرج ما بالقوة إلى الفعل والمحدث لإحداثه الذي جعله يخرج ما بالقوة إلى الفعل كذلك وهلم جرا
فإن قدرت مع هذا محدثا لفاعليته غير مخرج ما بالقوة إلى الفعل بطلت حجتك
وإن جعلت الأول أخرج ما بالقوة إلى الفعل بطل أيضا دليلك
وإن ادعيت أن بعض الفاعلين يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل دون الآخر بطل دليلك فهو باطل على كل تقدير
وذلك أنه يلزمه أحد أمرين كلاهما يبطل قوله فإنه إن أثبت فاعلا يخرج ما بالقوة إلى الفعل من غير سبب من خارج أمكن أن يكون الأول كذلك فبطل قوله
وإن لم يجوز أن يكون فاعلا يخرج ما بالقوة إلى الفعل إلا بسبب من خارج لزمه أن يكون كل فاعل للحوادث لم يحدث فاعليته إلا بسبب أخرج ما بالقوة إلى الفعل : فإن كان الأول كذلك لزم التسلسل الممتنع وإن لم يكن كذلك كان الأول مخرجا لما بالقوة إلى الفعل من غير سبب من خارج وذلك يبطل قوله
قال : فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال

الرد على كلام آخر لثابت بن قرة
فيقال له : أولا : أرسطو لم يثبت على أولى مبدعة للعالم ولا فاعلة له ولا علة فاعلة له وإنما أثبت علة غائية له ولم يقم على ذلك دليلا فهو مع أنه لم يذكر إلا جزء علة لم يقم عليه دليلا فأي تمام وكمال أثبته للعلة الأولى ؟ !
وأما أهل الإثبات فيقولون : نحن نثبت للأول غاية ما يمكن من التمام والكمال بما نثبته له من صفات الكمال وأفعاله سبحانه وتعالى فنحن أحق بوصفه بالكمال من وجوه لا تحصر
وإذا قال القائل : فلم تأخر ما تأخر من مفعولاته ؟
قلنا : هو لازم على القولين فلا يختص بجوابه
ثم يقال : الموجب لذلك ما تقول أنت في نظيره في تأخر الحوادث مثل استجماع الشروط التي بها يصلح كون الحادث مفعولا أو بها يمكن كونه مفعولا فإن عدمه قبل ذلك قد يكون لعدم الإمكان وقد يكون لعدم الحكمة الموجبة تأخره إذ لا بد في الفعل من القدرة التامة والإرادة التامة المستلزمة للحكمة
وأما قوله : كما أنه ليس يمكن أن تؤخر الطبيعة فعلها في المادة القابلة إلا لعائق فكذلك الأمر في العالم إذا كان إمكانه لم يزل والإمكان له بمنزلة المادة
فيقال : أولا أنت لم تثبت له فعلا ولا إبداعا بل الطبيعة عندك تفعل والأول لم يثبت إلا كونه محبوبا للتشبه به وأثبت ذلك بلا دليل
ويقال لك : ثانيا : إن كان مجرد الإمكان موجبا لكون الممكن مقارنا للواجب لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزليا وهذا مكابرة للحس والعقل
فإن قلت : إن بعض الممكنات توقف على شروط أو يكون له مانع
قيل لك : فحينئذ ما المانع أن يكون إبداع الأول للعل متوقفا على شروط أو له مانع مع كون الأول لم يزل يفعل أفعالا قائمة بنفسه أو مفعولات منفصلة عنه كما يقوله أساطين أصحابك من الفلاسفة المتقدمين على أرسطو أو غيرهم ؟
ويقال لك : ثالثا : إن كان العالم واجبا لنفسه فقد تأخر كثير من أفعاله فيلزم أن يتأخر ما يتأخر من فعل الواجب بنفسه وإن كان ممكنا بنفسه ففاعله قد أخر كثيرا مما فيه من الأفعال
وعلى كل تقدير فقد تأخر عن الواجب بنفسه ما تأخر من مفعولاته فعلم أنه لا يلزم مقارنة مفعولاته كلها له وإذا جاز تأخر ما يتأخر من مفعولاته فلم لا يجوز أن تكون الأفلاك من ذلك المتأخر ؟
قال : إلا أن قوما يرون أنه يجب من هذا - أعني من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى - أن لا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم كما لا صنع لها في وجود جوهرها إذ كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود جوهر العلة الأولى فيكون وجوده لازما اتباعه لوجود العلة الأولى فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له فيكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته إذ وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك لا سيما وأرسطو طاليس يقول : إن المحرك الأول هو علة حركة كل ما في الكون بالتشوق
فالأولى على ظاهر الأمر أن يكون الشيء المتشوق إليه تشوق بجهة طبيعته لا بإرادته لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه
فإذن ليس يؤثر جوهر هذه العلة أثرا ولا يفعل فعلا منقلبا عن قصدها وإرادتها ولا دون إرادتها إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوق جوهرها أمر تقتبس منه ازدياد في شيء من حاله ولا يعرض لها أمر تحتاج إلى استدفاعه فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء ولا قبول لتغيير ولا لحدوث شأن متجدد له
فليس يوجد إذن أمر يحدث هذه الذات بالطبع وبغير إرادة وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات في حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه
وبالجملة فكل ما كان له ما هو الطبع على الجهة الطبيعية التي ينحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق له والشيء المشوق له مبدأ له في ذلك الشوق ومن جهة أنه هو له علة تمامية من جهة من الجهات
وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة

فساد كلام آخر له من وجوه الوجه الأول
هذا كلامه ولقائل أن يقول : هذا الكلام قد كشف فيه قوله ومذهبه وقد تبين في ذلك من التناقض والفساد ما يطول ذكره بالوصف والتعداد وذلك من وجوه :
قول أرسطو : إن المحرك الأول هو علة كل ما في الكون بالتشوق والمتشوق إليه إنما تشوق بجهة طبيعته لا إرادته ولأنه قد يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يوجد شيء عليه فإذن ليس يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا لا عن إرادتها ولا بدون إرادتها إلى آخر كلامه
فيقال له : قد صرحتم في كلامكم بأن الأول ليس له فعل بإرادة ولا بدون إرادة ولا تأثير في العالم أصلا إلا من جهة كونه معشوقا متشوقا إليه والمعشوق المتشوق إليه لا يجب أن يكون شاعرا بالعاشق ولا مريدا له ولا قادرا على فعل يفعله به بل الجمادات تحب ويشتاق إليه كما يشتاق الجائع إلى الطعام والعطشان إلى الشراب والبردان إلى الثياب والضاحي في الشمس إلى الظلال
ثم إنكم مع هذا لم تذكروا على ذلك دليلا صحيحا ولكن نحن نخاطبكم بما أقررتم به
فيقال : إذا كان بهذه المثابة لم يكن علة للعالم ولا مبدأ له ولا فاعلا له ولا مؤثرا فيه أثرا فبطل قولكم : إنه علة العلل وإنه المبدأ الأول
قولكم : إنه علة طبيعية للعالم ومتممة له غاية ما في الباب أن العالم يكون محتاجا إليه من كونه مشتاقا إليه والشيء المشتاق إليه لا يجب أن يكون هو المبدع المشتاق ولا الفاعل له ولا يكون مؤثرا فيه كما اعترفتم به وكما هو معلوم لكل عاقل
فإن كون الشيء علة غائية لا يستلزم أن يكون على فاعلية لا سيما وإنما هو علية من جهة أن الفلك يحب التشبه به فهذا مع ما فيه من جحد وجود واجب الوجود المبدع للعالم فيه من تناقض قولكم ما قد تبين
وسنبين إن شاء الله فرقهم بين العلة الأولى وبين العالم القديم بأنه جسم وأن الجسم لا تكون فيه قوة غير متناهية وما ذكروه في ذلك

الوجه الثاني
أن يقال : هذا القول الذي قلتموه يبطل حجتكم على قدم العالم أيضا فإنه إذا لم يكن مؤثرا في العالم وعلة له ومبدأ ومحركا له إلا من جهة كونه محبوبا شائقا معشوقا أمكن تأخر وجود العالم عن وجوده فإن الشيء المشتاق إليه قد يتأخر عنه ما يشتاقه والشيء المشتاق إليه هو مستلزم لوجود المشتاق بل الأمر بالعكس فالمشتاق إليه غني عن المشتاق والمشتاق محتاج إلى المشتاق إليه
وحينئذ فيكم وجود الأول المشتاق إليه بدون وجود العالم المشتاق ثم بعد هذا يوجد العالم المشتاق ولا يقدح ذلك في كمال المشتاق إليه
فإن قلتم : فما الموجب لوجود العالم بعد هذا ؟
قيل لكم : هو الموجب لوجوده قبل هذا على أصلكم فإنكم لم تثبتوا للعالم مبدعا فاعلا وحينئذ فلا فرق بين تقدم وجوده وبين تأخره إلا أن تقولوا إنه واجب الوجود بنفسه
وإذا قلتم : إن العالم مع احتياجه إلى المعشوق الغني عنه واجب الوجود بنفسه كان قولكم أعظم تناقضا

الوجه الثالث
ونحن نبي ذلك بالوجه الثالث : فنقول : إذا أثبتم للعالم وعلته المعشوقة له التي يجب التشبه بها وتتحرك لاستخراج ما فيه من الأيون والأوضاع لأن ذلك غاية التشبه بها فإما أن تقولوا : هذا واجب الوجود بنفسه أو تقولوا : إن أحدهما ممكن بنفسه لا يوجد إلا بالواجب بنفسه
فإن قلتم بالأول ثبت أن العالم المحتاج إلى محبوبه واجب الوجود بنفسه مع كونه معلولا من هذه الجهة وكونه ذي إرادة وشوق وكونه يؤثر آثارا ويفعل أفعالا بالإرادة
وقد قلتم : إن هذا لو كان في الأول لكان نقصا يحتاج فيه إلى تمام من خارج فقد أثبتم في الواجب بنفسه نقصا يحتاج فيه إلى تمام من الخارج فإن كان هذا جائزا في الواجب بنفسه لم يمتنع هذا في الأول المعشوق بل جاز مع وجوبه بنفسه أن يكون أيضا عاشقا مريدا مؤثرا فاعلا فيه على أصلكم نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج
وإذا كان هذا غير ممتنع في الواجب بنفسه بطل ما ذكرتموه من امتناع ذلك عليه
وأيضا فإذا جاز ذلك عليه لم يكن أحدهما بكونه عاشقا والآخر معشوقا أولى من العكس بل يمكن أن يكون كلاهما محبا للآخر مشتاقا إليه
وبتقدير أن يكون هو المحب للعالم المريد له يكون هو المحدث لما فيه من الحركات
ثم على هذا التقدير لا يجب أن تكون الأفلاك هي الواجبة بنفسها بل يمكن أن يقال هناك واجب بنفسه غيرها ثم إن أحد الواجبين أحدث الأفلاك لما حدث له من الشوق كما تقولون فيما يحدث بحركة الفلك
وفي الجملة إذا قالوا : إن العالم واجب الوجود بنفسه نقضوا كل ما ذكره في المبدأ الأول ولم يكن لهم حجة على الطبيعية الذين ينكرون الأول
والطبيعة الذين يقولون : العالم واجب بنفسه قولهم أفسد من قول هؤلاء الإلهيين منهم كلهم كما قد بين فساد قولهم في غير هذا الموضع
لكن فساد أقوالهم يظهر من وجه آخر من غير التزام صحة قول الإلهيين بل قول كلا الطائفتين باطل متناقض يعلم بطلانه وتناقضه بصريح العقل
وإن قال هؤلاء الإلهيون : إن العالم ممكن الوجود بنفسه فلا بد أن يكون هناك واجب هو علة فاعلة له لا يكفي في وجوده ما هو مشتاق إليه فإن ما لا وجود له من نفسه ليس له من نفسه لا صفة ولا شوق ولا حركة ولا شيء من الأشياء فلا بد لكم من إثبات مبدع للممكن قبل إثبات شوقه إلى غيره ثم يبقى النظر بعد ذلك في قدمه وحدوثه نظرا ثانيا

الوجه الرابع
أن يقال : قولهم أولا : إن قوما يرون أنه يجب من هذا أي من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى ألا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم كما لا صنع لها في وجود جوهرها إذا كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود العلة الأولى إلى آخره
فيقال لكم : إرادة العلة الأولى إما أن يستلزم تأخر فعلها للعالم أو يجوز مع ذلك تقدم فعلها للعالم فإن كانت الإرادة تستلزم تأخر المراد لزم تأخر العالم المشتاق صاحب الإرادة والشوق فإن العالم عندكم قديم له إرادة وشوق قديم فإن كان القديم لا يكون له شوق وإرادة بطل قولكم بقدم العالم مع القول بشوقه
وإن كان القديم يمكن أن يكون له إرادة وشوق أمكن أن يكون الأول له إرادة وشوق مع قدمه وأن يكون صانعا للعالم صنعا إراديا وهذا أيضا يبطل قولكم

الوجه الخامس
أن يقال : القديم : إما أن يجوز أن يكون له إرادة وإما ألا يجوز فإن لم يجز امتنع كون العالم قديما مريدا وحينئذ فلا يبقى لكم حجة على إثبات المبدأ الأول فإنكم إنما أثبتموه بأنه معشوق للعالم المتحرك بالإرادة مع قدم العالم فإذا امتنع كون القديم مريدا لم يلزم أن يكون هناك معشوق قديم فلا يبقى دليل على ثبوته وإن جاز أن يكون القديم مريدا جاز كون الأول مريدا وبطل قولكم : إنه لا صنع إرادي للعلة الأولى
فأنتم بين أمرين : إما سلب الإرادة عن العالم القديم وإما إثباتها للأول القديم وأيهما قلتم بطل قولكم ببطل قولكم وسنتكم إن شاء الله على فرقهم

الوجه السادس
بل يقال في الوجه السادس : إنكم لو أثبتم الإرادة للأول القديم وسلبتموها عن الفلك كما يقول ذلك من يقوله من أهل الملل كان أقرب إلى المعقول من إثباتها للفلك ونفيها عن العلة الأولى فإن صريح العقل يعلم أن العلة والمبدأ الأول أولى أن يكون مريدا من المعلول الثاني فإن الفعل إن لم يستلزم إرادة لم تستلزم حركة الفلك إرادة وإن استلزم إرادة فالعلة الفاعلة أولى بالإرادة من المعلول المفعول
ألا ترى أن المعلولات قد تكون جامدة كالعناصر والنباتات التي لا إرادة لها ؟
يبين ذلك أن الحركات ثلاثة : الطبيعية والقسرية والإرادية فالقسرية تابعة للقاسر والطبيعية لا تكون إلا إذا خرج الجسم عن مركزه فيميل بطبعه إلى مركزه فكلاهما عارضة وإنما الحركة الأصلية هي الإرادية
وإذا كان كذلك فالمعلول المفعول يحتاج إلى إرادة فاعلة أعظم من حاجته إلى كونه هو مريدا فإنه إذا كانت جميع الحركات مستندة إلى الإرادة فمن المعلوم أن احتياجها إلى إرادة الفاعل أعظم من احتياجها إلى إرادة المفعول
فإن قالوا : الفلك عندنا ليس بمعلول عن واجب مبدع بل هو قديم واجب بنفسه كان ما يلزمهم على هذا التقدير مثل جعل الواجب بنفسه جسما متحيزا تحله الحوادث مفتقرا إلى علة يتشبه بها وسائر اللوازم أعظم مما فروا منه

الوجه السابع
أن يقال : الممكن لا يوجد إلا بفاعل ويمكن وجوده بدون كونه مشتاقا فوجوده مشروط بالفاعل له ليس مشروطا بكونه مشتاقا فكيف يجوز إثبات ما لا يحتاج الممكن في وجوده إليه وإلغاء ما لا يكون موجودا إلا بوجوده ؟

الوجه الثامن
أن يقال : قولكم : فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له ويكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته أو وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك لا سيما وأرسطو يقول : إن المتحرك الأول إنما يحرك كل ما في الكون بالشوق وهو شوق المتحرك إليه إلى آخره
فيقال : هذا كلام متهافت متناقض وذلك أن ما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته هو عندكم مريد له مع أن وجوده مع وجود الفلك وقد شبهتم فعل الأول بفعل الفلك ثم قلتم إن الأول ليس له إرادة ولا تأثير فهذا التمثيل يناقض هذا التفريق

الوجه التاسع
أن يقال : الفلك إما أن يكون فاعلا بالإرادة وإما ألا يكون فإن كان الأول وهو قولكم : ووجود فعله مع وجوده لزم أن يكون الفعل الإرادي يجوز مساوقته للفاعل وألا يتأخر عنه وهذا يبطل قلوكم : إنه يجب من وجوب الفلك مع العلة الأولى أن يكون لا صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم فإنكم حينئذ أثبتم فاعلا فعلا إراديا مع كون فعله موجودا معه
وأما قولكم : كما لا صنع لها في وجود جوهرها فهذا تمثيل ساقط إلى غاية فإن الواجب بنفسه لا يكون فاعلا لنفسه وأما معلوله فلا بد أن يكون فاعلا له فكيف يقال : لا يفعل معلوله كما لا يفعل نفسه ؟
وإن لم يكن الفلك فاعلا بالإرادة بطل كونه مشتاقا عاشقا وبطل ثبوت المبدأ الأول وحينئذ فيبطل ما بنيتم عليه ثبوت الأول وقدم العالم

الوجه العاشر
قولكم : ينبغي أن ينزل أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه كلام حق لكن أنتم من أبعد الناس عنه فإنكم جعلتم أمر العلة الأولى من أنقص ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه بل جعلتموه أنقص من كل موجود شبيها بالمعدوم فإن الموجودات أقسام : أعلاها الذي يفعل غيره ولا ينفعل عن غيره وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المبدأ الأول
والقسم الثاني : الذي يفعل وينفعل كالإنسان
وثالثها : الذي ينفعل ولا يفعل كالجماد
وأما ما لا يفعل وال ينفعل فهذا لا يكون إلا معدوما وأنتم جعلتم الأول لا يفعل شيئا ولا ينفعل فإنكم قد قلتم : إنه لا يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا لا عن إرادة ولا دون الإرادة وقلتم أيضا إنه لا ينفعل عن غيره وهذا حال المعدوم
ووصفهم له بأنه معشوق لا يفيد فإن المحبوب المعشوق من الموجودات لا بد أن يكون فاعلا أو منفعلا وأما ما لا يفعل ولا ينفعل فلا يحب ولا يحب ولا حقيقة له فوصفتم الواجب الوجود المبدع لكل ما سواه بما هو أنقص من صفات سائر الموجودات ولا يتصف به إلا المعدومات

الوجه الحادي عشر
أنكم قلتم : إن المحرك الأول إنما يحرك الفلك لكون الفلك مشتاقا إليه أي إلى التشبه به وقلتم : إن المشتاق إليه إنما تحرك بجهة طبعية لا إرادية لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه
وأردتم تنزيهه أن يشبه بالنائم ونحوه وأنتم وصفتموه بدون صفة النائم فإن المحبوب الذي لم يشعر بمحبه لنومه يمكن أن يتنبه فيشعر به ويمكن أن يحب محبه
ومن المعلوم أن المحبوب الذي يمكن أن يعلم بمحبه وأن يحبه أكمل من النائم الذي لا يعلم به ولا يحبه وأنتم قد قلتم : إنه لا يمكن أن يكون منه محبة لمحبه ولا أثر ولا فعل من الأفعال
وقال أرسطو وأكثركم : إنه لا شعور له بمحبة بل قد يقولون : إنه لا شعور له بنفسه أيضا فهل هذا إلا وصف له بدون صفة النائم ونحوه من الناقصين ؟ !

الوجه الثاني عشر
أن يقال : إذا نزل أمر الأول على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه فمن المعلوم أن الموجود إذا انقسم إلى حي وميت فالحي أكمل من الميت وإذا قسم إلى ما يقبل الاتصاف بالحياة والموت وما لا يقبل فالذي يمكن اتصافه بذلك كالحيوان أكمل ممن لا يمكن اتصافه بذلك كالجماد
وإذا قسم إلى عالم وجاهل وما لا يقبل لا هذا ولا هذا وقادر وعاجز وما لا يقبل لا هذا ولا هذا كان ما يقبل واحدا منهما أكمل مما لا يقبل وما كان عالما قادرا أكمل مما كان جاهلا عاجزا
وإذا قسم إلى ما يكون فاعلا بالإرادة وما يفعل إرادة وما لا يفعل لا بهذا ولا بهذا كان ما يفعل بالإرادة أكمل مما يفعل بدون إرادة وما يفعل بدون إرادة أكمل ممن لا فعل له وأنتم جعلتموه لا يفعل لا بإرادة ولا بدون إرادة

الوجه الثالث عشر
قولكم : فإذن لا يؤثر هذه العلة أثرا ولا يفعل فعلا منقلبا عن إرادتها وقصدها ولا دون إرادتها إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوق جوهرها أمر يقتبس منه ازديادا في شيء من حاله إلى آخره
فيقال لكم : إذا قدر ذات لها فعل وتأثير بالإرادة وذات ليس لها فعل ولا تأثير لا بإرادة ولا بدونها شهد صريح العقل بأن الأول أكمل ولهذا كان الحيوان أكمل من الجماد
وقلتم أنتم : إن حركة الفلك إرادية وإن ذلك أكمل من أن تكون حركته غير إرادية وإذا قدر مع هذا أن المتحرك بالإرادة محتاج إلى تمام من خارج وهو متحرك لطلب ذلك التمام فهو أكمل من الذي لا يقبل التمام كالجماد فإذا كان الأول عندكم لا شعور له ولا إرادة ولا فعل بالإرادة ولا يمكن أن يكون له شيء من ذلك كان المتحرك بالإرادة لطلب تمامه أكمل من هذا الناقص المسلوب صفات الكمال الذي لا يمكن اتصافه به فالعميان والعرجان والصم والبكم العمي أكمل من هذا الأول الذي فرضتموه والفلك أكمل منه بكثير وفيما ذكرتموه من التناقض وغاية الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد

الوجه الرابع عشر
أن يقال : العالم : إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممكنا لم يوجد إلا بواجب يبدعه ويفعله فيلزم أن يكون للأول فعل وتأثير وذلك مناقض ما ذكرتموه ثم إذا قدر من يفعل بإرادة ومن يفعل بلا إرادة فالفاعل بالإرادة أكمل فيلزم أن يكون فاعلا له بالإرادة حيث سلمتم أنه يجب أن ينزل أمره في جوهره وسائر أموره على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه وإن كان العالم واجب بنفسه مع كونه عندكم مفتقرا إلى الأول افتقار الشيء إلى من يتشبه به ويحركه بالإرادة حركه يحصل بها تمامه - أمكن أن يكون واجب الوجود يتحرك حركة إرادية يحتاج فيها إلى تمام من خارج فثبت أنه على تقدير إمكان العالم بنفسه ووجوبه بنفسه يلزم أن يكون الواجب بنفسه له فعل وتأثير وذلك ينقض ما ذكرتموه وإن وصفه بذلك أولى من وصفه بكونه لا فعل له ولا إرادة ولا تأثير ولا يمكن اتصافه بشيء من صفات الكمال

الوجه الخامس عشر
أن يقال : أنتم فررتم من إثبات نوع من النقص له فأثبتم له من النقائص ما يكون أنقص به من جميع الموجودات فإنكم فررتم من كونه يفعل بإرادة وبغير إرادة لأن ذلك بزعمكم يستلزم نقصا يحتاج فيه إلى تمام من خارج
فيقال : إذا قدر أنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا فعل لا بإرادة ولا غير إرادة ولا يؤثر شيئا أصلا ولا يتأثر عن شيء - كان ما في الموجود أكمل منه فهذا منتهى كل نقص ومن كان فيه نقص يمكنه إتمامه من خارج كان خيرا من العدم ومن لا يمكنه إتمام نقصه

الوجه السادس عشر
أن يقال : ما هو النقص الذي نزهتموه عنه ؟ فإن النقص لا يعقل إلا عدم كمال أو وجود مناف لكمال فعدم العلم والحياة والقدرة يسمى نقصا ووجود الصم والبكم والخرس المنافي لهذه الصفات يسمى نقصا ثم ما كان قابلا للاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبلها فإذا كان عندكم لا متصفا بها ولا قابلا للاتصاف بها كان هذا غاية ما يعقل من النقص فما النقص الذي نزهتموه عنه ؟
فإن قالوا : نزهنا عن طلب تمامه من خارج فإن كون تمامه لا يحصل إلا بسبب من خارج نقص
فيقال لهم : هذا باطل من وجوه :
أحدها : أن هذا إن كان نقصا فما وصفتموه به من النقائص أعظم من هذا وأكثر
الثاني : أن يقال : فكون تمامه ممكنا وهو طالب له أكمل من كونه لا يقبل التمام ولا يطلبه
الثالث : ولم قلتم : إن هذا نقص ؟ فإن النقص إنما يكون نقصا إذا عدم ما ينبغي وجوده أو ما يمكن وجوده فإذا قدر أمر لا يمكن وجوده في الأزل أو لا يصلح وجوده في الأزل فلم قلتم : إن عدم هذا نقص ؟
الرابع : أن يقال : ظنكم أن تمامه يحتاج إلى سبب منفصل غلط كما قد بسط في موضع آخر فليس هو محتاجا في شيء من أفعاله فضلا عن صفاته وذاته إلى سبب خارج عنه

الوجه السابع عشر
أن يقال : لم قلتم : إن الأول إذا كان فاعلا مؤثرا بالإرادة لزم أن يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ؟ فإن هذا إنما يلزم لو كان المحرك له شيئا منفصلا عنه أما إذا لم يكن مبدأ فعله إلا منه لم يلزم أن يكون محتاجا إلى تمام من خارج وأنتم لم تقيموا دليلا على أن كل فاعل بالإرادة لا يكون مبدأ فعله إلا بسبب من خارج بل ادعيتم هذا دعوى مجردة ومن هنا يتبين فساد أصل كلامهم فنقول في :

الوجه الثامن عشر
أنتم لما ذكرتم أن حركة الأفلاك إرادية قلتم : إن المتحرك بالإرادة لا يكون إلا بمحبوب منفصل عنه ثم إنكم قلتم : الأول لا يتحرك بالإرادة لئلا يكون له محبوب منفصل فنحتاج إليه ولم تذكروا دليلا على أن كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون مفتقرا إلى محبوب منفصل بل ذكرتم هذا دعوى مجردة بنيتم عليها إثبات الأول وبنيتم عليها امتناع كون الأول مؤثرا ويفعل بإرادة أو غير إرادة وإذا لم يفعل بإرادة ولا غير إرادة امتنع وجود الممكنات فامتنعت حركتها بالإرادة فامتنع احتياجها إلى معشوق فبطل دليلكم على إثبات الأول فكان نفس دعواكم التي بنيتم عليها إثبات الأول وسلب أفعاله ولم تقيموا عليها دليلا هي بعينها تستلزم عدم دليلكم على ثبوت الأول فتبين أنه ليس في كلامكم لا إثبات للأول ولا نفي لشيء عنه

الوجه التاسع عشر
أن يقال : لم قلتم : إن كل فاعل بالإرادة أو كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون محتاجا إلى مراد منفصل عنه غني عنه ؟ ولم تذكروا على هذا دليلا ويقال لكم : لم لا يجوز أن يكون هو المراد المحبوب فيكون محبا لنفسه فهو المحب وهو المحبوب ؟ أو يكون مريدا محتاجا لما هو مفعول له فيكون هو مراده فلا يكون في ذلك احتياجه إلى غيره ؟
وأنتم تقولون ما هو موجود في كتبكم : إن الأول عاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ومبتهج ومبتهج به فإذا جاز عندكم أن يكون محبا محبوبا مريدا مرادا فلم لا يجوز أن يكون إذا فعل بالمحبة والإرادة هو المحبوب المراد ؟
وعلى اصطلاحكم : هو العاشق المعشوق ؟ وعلى هذا التقدير يبطل أصلا كلامكم ويمكن وصفه بصفات الكمال وبالأفعال الكاملة الإرادية التي لا يفتقر فيها إلى غيره ولا يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج

الوجه العشرون
أنكم تقولون : إن العالي لا يفعل لأجل السافل وإن حركة الفلك الإرادية لا يجوز أن تكون لأجل السفليات لكن لزم حصول ما حصل عن حركته الإرادية بالقصد الثاني وإنما مقصوده بحركته الإرادية التشبه بمحبوبه الأعلى وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكون الأول هو المريد والمراد والمحبوب والمحب ؟ وهو لا يريد شيئا لأجل شيء سواه ولكن محبته لنفسه وإرادته لها استلزم وجود المفعولات كما قلتموه فيما صدر عن الأفلاك
وإذا قيل : هو فاعل باختياره وإرادته فعلا يستلزم وجود المعلولات كان كما قلتم مثل ذلك في حركة الفلك فهذا القول جاز على أصولكم وهو أحق بالجواز إن كانت أصولكم صحيحة - مما قلتموه فيه من وصفه بغاية النقص فإذا وصفتموه بهذا كنتم قد وصفتموه بصفات الكمال مع رعاية أصولكم التي اعتقدتم صحتها ولم يكن في هذا محذور إلا كان في نفيه من المحذور ما هو أعظم منه

الوجه الواحد والعشرون
أن يقال : قولكم : فجوهرها ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء مضمونه أنها لا تحب شيئا ولا تبغضه فلم قلتم ذلك ؟
فإن قلتم : إن المحب المبغض لا يحب إلا ما يحتاج إليه من غيره ولا يبغض إلا ما يحتاج إلى دفعه عن نفسه
قيل لكم : ولم قلتم ذلك والفلك عندكم يحب بل يعشق ؟ وإذا كان يحب شيئا فإنه يبغض زواله ومع هذا فهو عندكم لا يخاف من شيء منفصل ولا يحتاج إلى دفع ضرر عن نفسه بل ولا يجوز عليه الفساد والانحلال وهو مع هذا عاشق محب طالب مشتاق فلا يلزم من كونه مشتاقا أن يكون من يعرض له أمر يحتاج إلى استدفاعه وأما كون الحب يوجب أن يكون فوقه جوهر آخر يقتبس منه فهذا إنما يلزم إذا لم يكن قادرا على حصول محبوبه فأما إذا قدر أنه ليس في ذلك حاجة إلى ما هو غني عنه لم يكن في ذلك محذور

الوجه الثاني العشرون
أن يقال : قولكم : فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء ولا قبول لتغيير ولا لحدوث شأن متجددة أمر لم يذكروا عليه حجة عقلية إلا ما ذكرتموه من أن هذه الذات ليس فيها نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوقها ما تزداد منه ولا يعرض لها ما يحتاج دفعه
فيقال لكم : الجوهر المتحرك أهو محتاج إلى شيء من خارج وفوقه ما يزداد منه ويعرض له ما يحتاج إليه في دفعه أم ليس كذلك ؟
فإن قلتم : إنه بهذه الصفة وهو متحرك لم يكن في ثبوت هذه الصفات ما يمنع كون الموصوف متحركا فيجوز حينئذ على الأول أن يكون متحركا قابلا لقيام الأمور الاختيارية به كما يقبله الجوهر المتحرك إذ كان كلاهما مشتركا في هذه الصفات
وإن قلتم : ليس كذلك وإن الجوهر المتحرك يعرض له ما يدفعه عن نفسه
قيل لكم : ليس هذا قولكم : وبتقدير أن يعرض له فليس فوقه ما يدفع هذا عنه إذ عندكم ليس فوقه فاعل إنما فوقه محبوب ليس بفاعل ولا مؤثر : لا بإرادة ولا بدون إرادة
وكذلك إن قلتم : إنه يحتاج إلى تمام من خارج أو فوقه جوهر يقتبس منه زيادة
قيل لكم : فمن الذي يفيده الزيادة ويزيل عنه الحاجة غيره ؟
فإن قلتم : الأول فالأول عندكم ليس يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا : لا عن إرادة ولا عن غير إرادة وكونه محبوبا لا يقتضي أنه يفعل بالمحب فعلا يزداد به إذ كان الفاعل للحب في المحبوب المحرك له إلى المحبوب ليس نفس المحبوب إذ كل عاقل يعلم أن الخبز إذا أحبه الجائع لم يفعل حركته ولا قصده كذلك المعشوق الذي لا يشعر بعاشقه ليس منه فعل ولا حركة يزيد بها المحب شيئا وإنما يضاف الفعل إليه كما يضاف إلى الجماد
كما يقال : أهلك الناس الدرهم والدينار ويقال : قتلني حب المال
ويقال للذهب : قاتول ويقال للدنيا : غرارة خداعة مكارة ونحو ذلك مما يضاف إلى ما تحبه النفوس وتهواه من غير فعل منه ولا قصد فإنما يضاف الفعل إليه لأنه كان بسببه لا أنه هو المحدث لذلك الفعل ولا الفاعل له ولا المبدع له وهذا متفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فليس في الجوهر الجسماني الفلكي إلا من جنس ما جعلتموه في الأول وهو غني كغنى الأول ومع هذا فقد جاز عليه الحركة وقيام الحوادث به فكذلك في الأول
وإذا جاز أن يقال : إن الفلك يتحرك بنفسه فلم لا يجوز أن يقال : إنه يشتاق إلى نفسه
وإذا قيل : إن الأول هو محبوب مشتاق إليه فلم لا يجوز أن يكون محبا لنفسه وحركته من المحبة لنفسه ؟
وإذا قلتم : إلى أي شيء يتحرك ؟
قيل لكم : والفلك إلى شيء يتحرك ؟
فإذا قلتم : لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعة عن الأيون والأوضاع
قيل لكم : ولم لا يجوز على هذا أن تقولوا : إن الأول يتحرك لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعة من أحواله وشؤونه ثم الحوادث المنفصلة تابعة لذلك كما قلتم مثل ذلك في الفلك ؟

الوجه الثالث العشرون
أن يقال : قولكم ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء : أتريدون به أنه ليس فيه حب لشيء أصلا : لا لنفسه ولا لغيره ؟ ولا بغض لشيء من الأشياء ؟ وسميتم الحب الباعث على الفعل شوقا ؟ أم تريدون به ليس فيه شوق إلى شيء مستغن عنه كما قلتموه في الفلك ؟
فإن كان مرادكم الثاني : لم يضر هذا مع أنكم لم تقيموا على هذا دليلا
ولو قيل لكم : بل يجوز أن يكون مشتاقا إلى غيره وغيره مشتاق إليه - لم يمكنكم الجواب لأنكم إن قلتم : إن الفلك ممكن بنفسه لزم أن يكون الأول فاعلا له ولزم أن يكون كالفلك وهو عندكم لا يفعل ولا يؤثر وإن كان الفلك واجبا كان الواجب موصوفا بالشوق إلى غيره
وأيضا فأنتم لم تذكروا دليلا على ثبوته فضلا عن غناه إذ دليلكم في ثبوته مبني على أن المتحرك بالإرادة لا تكون حركته إلا عن حب لغيره وهذا لم تقيموا عليه دليلا وهو لا يتم حتى يمتنع كون الأول فاعلا بالإرادة فإذا لا يمكنكم ثبوته حتى يمتنع كونه فاعلا بالإرادة ولا يمتنع كونه فاعلا بالإرادة حتى يعلم ثبوته فإذا لا يثبت لا هذا ولا هذا
وإن كان مرادكم الأول فيقال لكم : من أين علمتم أنه لا يكون محبا لنفسه ولا لغيره ؟
فإن قلتم : إن المحب لغيره ناقص يحتاج إلى الغير كان جوابكم من أربعة أوجه :
أحدها : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون محبا لنفسه ثم محبته لغيره تبعا ؟ كما تقولون في حب الفلك وإرادته بالقصد الأول والقصد الثاني
الثاني : أن يقال : فلم لا يجوز أن يكون محبا لغيره الذي هو مفعول مصنوع له ؟ وإذا كان مريدا كما هو مفعول مصنوع له وهو ممكن لم يكن في ذلك إرادته ومحبته إلا لمفعولاته ومبتدعاته التي هي فقيرة إليه من كل وجه فليس في هذا افتقار إلى شيء هو مستغن عنه بوجه من الوجوه ومعلوم أن هذا خير من قولكم : إن الفلك لا يحتاج إليه إلا من جهة كونه محبوبا فإن ذلك في إثبات فقر الفلك إليه من كل وجه وهذا أبلغ في الكمال
الثالث : أن يقال : ولو فرض محبا لغيره مريدا لغيره وذلك الغير أيضا محتاج إليه لكونه لا يقوم إلا به كان غاية ما في هذا أن يكون قوام كل منهما بالآخر ومعلوم أن هذا وإن كان المسلمون ينزهون الله عنه فهو خير من قولكم المتضمن أن الفلك ليس له مبدع فاعل مع كونه محتاجا إلى محبوبه لأن هذا يتضمن شيئين كل منهما فاعل له وأحدهما محب للآخر أقرب إلى العدل والإمكان إن كان ذلك ممكنا وإلا فهو أقرب إلى الامتناع لأن كلا القولين يتضمن إثبات شيئين لا فاعل لهما وأحدهما يتضمن أن المحب أحدهما والآخر محبوب والقول الثاني يتضمن أن كلاهما محب محبوب
الوجه الرابع : أن يقال : المحب المريد لأمور منفصلة عنه إذا كان قادرا عليها وهو يفعلها بحسب محبته وإرادته من غير مانع فلم قلتم : إن هذا نقص ؟ أو ليس الموصوف بهذا أكمل من الذي لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر عليه ؟ وإذا شبه الأول بالحيوان كان الثاني مشبها بالجماد والجماد أنقص

الوجه الرابع العشرون
أن يقال : إذا قدر موجودان : أحدهما محب مريد يفعل ما يريده وهو قادر على ذلك والثاني لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر على شيء محبوب مراد لكن غيره يحبه - كان إجماع العقلاء أن الأول أكمل من الثاني فإن الثاني شبيه بالخبز والماء واللباس والمساكن التي يحبها الناس ويريدونها والأول شبه بالناس الذين يحبون ذلك
ومعلوم أن الثاني أنقص من الأول والأول أقرب إلى الكمال فهؤلاء فروا بزعمهم مما توهموه نقصا فوقعوا فيما هو أعظم نقصا بلا ريب
وإيضاح هذا أن يقال : إذا قسمنا الموجودات إلى قسمين : حي وميت وعالم وجاهل وقادر وعاجز وقادر على الفعل وغير قادر عليه بل قادر على الفعل والحركة بإرادته ومحبته ومن لا إرادة له ولا قدرة له أو لا فعل له ولا حركة إلى ما يريده ونحو ذلك - كان الأول هو الموصوف بصفات الكمال دون الثاني
وأما مجرد كون الشيء مرادا محبوبا فليس بصفة كمال إلا أن يكون محبوبا لنفسه مرادا لذاته وهؤلاء سلبوا الرب جميع صفات الكمال ووصفوه بالنقائص ولم يثبتوا له شيئا من الكمال إلا مجرد كونه محبوبا ولم يقيموا حجة على ذلك ولا على أنه محبوب لنفسه فكان ما وصفوه به غاية النقص بل العدم

بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه
قال ثابت : فليس يوجد إذن أمر يجتذب هذه الذات بالطبع وبغير إرادة وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات إلى حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه
فيقال لهم : أولا : لم تقيموا دليلا على شيء من ذلك فإنكم لم تجعلوها فاعلا لشيء ولا مؤثرا فيه أصلا فليست مبدأ لشيء من الأشياء ولا علة له إلا من كونها محبوبة فقط وليس في هذه الجهة أنها تحدث شيئا ولا أنها تبدع شيئا
وإذا كان كذلك فما المانع أن يكون غيرها جاذبا لها وداعيا لها إلى شيء ؟ وما المانع أن تكون هي محبة لغيرها ؟ وأنتم لم تذكروا على امتناع ذلك حجة أصلا
والمسلمون وغيرهم من أهل الملل إذا نزهوا الله عن الحاجة إلى غيره فهم يثبتون أنه رب غيره ومليكه وخالقه وأنتم لم تثبتوا أنه رب كل ما سواه ومليكه وخالقه
وحينئذ فلا دليل لكم على انتفاء الحاجة عنه لا سيما مع أنه يلزمكم أن تجعلوا العالم واجب الوجود بنفسه مع فقره إليه فيكون الواجب بنفسه فقيرا إلى غيره أو تجعلوه ممكنا لا بد له من فاعل فيكون الأول مبدعا فاعلا لغيره والفاعل كما ذكروه يستلزم أن يكون له فعل وإرادة وهذا نقيض قولهم
ويقال لهم : ثانيا : لم لا يجوز أن يكون مفعولها المحتاج إليها هو الداعي الجاذب ؟ وليس في هذا افتقار إلى ما هو مستغن عنها وأنتم لم تقيموا دليلا على انتفاء ذلك
ويقال لهم : ثالثا : لم لا يجوز أن يكون هو المبدأ لما يفعله والداعي منه لا من غيره وهو المحب لنفسه ؟ وقد ذكر أئمتكم في كتبهم أنه عاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ به
قال : وبالجملة فكل ما كان له ما هو بالطبع على الجهة الطبيعية التي يمحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق إليه مبدأ له في ذلك الشوق ومن جهة أي هو له علة تمامية من جهة من الجهات وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة
فيقال له : الكلام على هذا من وجوه :
الأول : قولكم : إن الأول مبدأ لكل طبيعة وكل شوق وكل حركة كلام مناقض لما ذكرتموه فإنكم لم تجعلوه إلا محبوبا فقط لا فاعلا مبدعا ولا علة فاعلة ومجرد كون الشيء محبوبا لا يوجب أن يفعل شيئا في غيره وقد علم الفرق بين العلة الفاعلة والغائية
والثاني : قولكم : إن المشتاق إليه علة للمشتاق فيقال لكم : ولم يمتنع أن يكون محبا لنفسه ؟ فهو المحب المحبوب
الثالث : أن يقال : ما المانع أن يكون محبا مريدا لما هو مفعول مصنوع له ؟ وليس في هذا كونه معلولا لغيره لأن ذلك الغير هو معلوله من كل وجه مفعول له بكل طريق محتاج إليه بكل سبب
وليس في حب الشيء وإرادته لمثل ذلك نقص بل هذا من الكمال فإن من أراد ما هو مفعول له معلول له وهو قادر على ذلك المراد المحبوب كان هذا غاية الكمال بخلاف من لا يفعل شيئا منفصلا عنه ولا يريده ولا يقدر عليه بل ولا يفعل فعلا قائما بنفسه بل هو كالجماد الذي ليس له صفة كمال بل كالمعدوم
الرابع : قولكم : وليس يليق هذا البتة بالمبدأ الأول كلام بلا برهان وأنتم تدعون البرهان والحجة - وقد ذكر هذا غيركم - لم ترضوا أن تجعلوا هذا خطابة بل جعلتموه دون الخطابة وأنتم تجعلونه عمدة في مثل هذا الأمر العظيم بلا حجة أصلا مع أنكم لم تثبتوا أن الأول مبدأ ولا فاعل أصلا إلا بجهة كونه محبوبا مع أنكم لم تقيموا على ذلك دليلا
الخامس : قوله : كل ما كان ما هو له بالطبع من الجهة التي ينحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته
فيقال لهم : هذه قضية كلية لم يذكروا عليها دليلا وغاية ما يستدلون به أن يقولوا : وجدنا المتحركات بالإرادة كذلك الحيوان
فيقال لهم : وكذلك وجدتم ذلك ممكنا مفعولا مصنوعا مفتقرا إلى فاعل مبدع فقولوا : إن الأول ممكن مفعول مصنوع مفتقر إلى فاعل مبدع فإن كان الدليل قد أثبت موجودا واجبا بنفسه لا يفتقر إلى غيره فإما أن يكون ذلك هو الفلك أو أمرا فوق الفلك فإن كان هو الفلك وهو مشتاق إلى حال تملكها إرادته بطل نفيكم لهذا عن الواجب بنفسه
وإن كان الواجب بنفسه أمرا فوق الفلك كان هو الفاعل للفلك المبدع له وحينئذ فالفلك وما فيه محتاج إليه من كل وجه فليس في الوجود ما هو خارج عن ملكه حتى يقال : إنه مشتاق إلى ما تملكه إرادته
السادس : أن هذا الكلام إنما يصح أن لو كان فيه الوجود ما لا تملكه إرادة الأول فأما إذا كان كل ما سواه كائنا بإرادته ومشيئته فليس في الوجود شيء لا تملكه إرادته وأنتم لم تقيموا دليلا على امتناع إرادته وإذا كانت إرادته ممكنة على هذا الوجه كما يقول المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن - لم يمنع أن يكون مريدا على هذا الوجه
السابع : أن يقال : كونه يفعل بالطبع أو نحو ذلك ليس من عبارة المسلمين فإذا كانوا يسمون كل ما يفعل فعلا قائما بنفسه متحركا بالطبع لم ننازعهم في المعنى
لكن نقول : لم قلتم : إن من كان فاعلا فعلا يقوم به بإرادته مشتاق إلى حال لا يملكها ؟
فإذا سميتم كل ما كان كذلك فاعلا بالطبع فلم قلتم : إن كل ما كان كذلك مشتاق إلى حال لا يملكها ؟

فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
ثم قال ابن رشد : فإن قيل : فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة ؟
قلنا : الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب وجدت تنحصر في جنسين : أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله وتسمى هذه دليل العناية
والطريق الثانية : ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الخمسة والعقل ولنسم هذا دليل الاختراع
أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين : أحدهما : أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان
والأصل الثاني : أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذك مريد إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فأما كونها موافقة لوجود الإنسان فيحصل اليقين بذلك بدليل موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له والمكان الذي هو فيه أيضا وهو الأرض
وكذلك أيضا يظهر موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجمادات وجزيئات كثيرة : مثل الأمطار والأنهار والبحار وما تحمله الأرض والماء والهواء والنار
وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان أعني كونها موافقة لحياته ووجوده
وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات
قال : وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله ووجود النبات ووجود السموات وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس أحدهما : أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات
كما قال تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } الآية [ الحج : 73 ] فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هو ها هنا ومسخرة لنا والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة
قلت : هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها بل من محرك منفصل عنها حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر
وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب ومن جهة المقصود والغاية أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئا منفصلا عنها مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل : إنها عابدة لله تعالى ويقول المتفلسفة - كأرسطو وأتباعه - : إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة
وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه والطالب إلى مطلوبه وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه - فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنيا بنفسه بل يكون مفتقرا إلى ما هو منفصل عنه وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون ممكنا عبدا فقيرا محتاجا فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة
والوجه الثاني : أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه فتكون حركته من غيره والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه فليس هو وحده المحرك لسائر أنواع حركاتها بل يجب أن يكون المحرك غيره والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده بل منه ومن غيره فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك وما كان مفتقرا إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه فلا بد من محرك منفصل عنها
ومثل أن يقال : ليس شيء منها مستقلا بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون له مانع يعوقه عن مقتضاه فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه وانتفاء مانع معارض له فيمتنع أن يكون مبدعا لشريكه الغني عنه ولمانعه المضاد له وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره وذلك هو الأمر والتسخير
لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها فهي مقسورة على الخروج
وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره ويمتنع بمعارضة غيره له فيها هو مفتقر في مقصوده إلى غيره
ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه لم يكن من ذلك الوجه غنيا عن الغير بل مفتقرا إليه
ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه
والمريد لأمر إذا لم يكن قادرا على تحصيل مراده كان عاجزا وكان فقيرا إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون كماله حاصلا به بل بما هو مستغن عنه فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب
قال : وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلا مخترعا له وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } [ الأعراف : 185 ]
وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم فهذان الدليلان هما دليلا الشرع
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى
وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع :
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط فمثل قوله تعالى : { ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا } [ النبأ : 6 - 7 ] إلى قوله : { وجنات ألفافا } [ النبأ : 16 ]
ومثل قوله تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا } [ الفرقان : 61 ] إلى قوله : { أو أراد شكورا } [ القرقان : 62 ]
ومثل قوله : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الآيات [ عبس : 24 ] ومثل هذا كثير في القرآن
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى : { فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق } [ الطارق : 6 ]
ومثل قوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية : 17 ] الآية
ومثل قوله تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا } [ الحج : 73 ]
ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا } [ الأنعام : 79 ] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى
وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا بل هي الأكثر مثل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] إلى قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22 ]
وذلك أن قوله : { الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] تنبيه على دلالة الاختراع وقوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] تنبيه على دلالة العناية
ومثله قوله : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } [ يس : 33 ]
وقوله : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 191 ]
وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة
قال : فهذه الطريق هي الصراط المستقيم التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى
وإلى هذا الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم } إلى قوله : { قالوا بلى شهدنا } [ الأعراف : 172 ]
ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذي يشهدون لله بربوبيته مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له
كما قال تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } [ آل عمران : 18 ]
قال : ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ]
قلت : في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين
وقوله : إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع وغير ذلك - كلام ليس هذا موضعه بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره
قال : فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين : دلالة العناية ودلالة الاختراع
قال : وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما : طريقة الخواص ويعنى بالخواص العلماء وطريقة الجمهور وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل : أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان أعني من العناية والاختراع حتى لقد قال بعض العلماء : إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من عشرة آلاف منفعة
قال : وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعها فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط وأن لها صانعا موجودا
ومثلا العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط
وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته
قلت : فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين كأرسطو وأتباعه يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة
هذا مع أنه يقدر القرآن قدره ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق كما قد بسط في موضعه
والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله - هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالما بأحوال الرسول صلى الله عليه و سلم وأصحابه والسلف ولكل من تدبر القرآن والحديث
وكل متكلم فاضل كالأشعري وغيره يعلم ذلك كما تقدم كلام الأشعري
وأما كون هذه الطرق المعتزلية - كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص - هي برهانية أو ليست برهانية وهي تفيد العلم أو لا تفيده فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح فمن كان ذكيا طالبا للحق عرف الحق في ذلك
ولنا مقصودان : أحدهما : أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية وهذه الطرق هي التي يقال : إنها عارضت الأدلة الشرعية ويقال : إن القدح فيها قدح في أصل الشرع فإذا تبين أنها ليست أصلا للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلا لثبوته في نفسه بالاتفاق بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع وهو المطلوب
والمقصود الثاني أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها وإن لم نقل إنها أصل للعلم به وقد ذكرنا من قدح فضلاء أهل الكلام والفلسفة فيها بالأدلة العقلية ما يحصل هذا المقصود
فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي يصلح لمعارضة أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم بل إن اتفقوا على مطلوب كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلا - فهؤلاء يثبتون ذلك وينفقون التجسيم بدليل الأعراض والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي وأولئك يثبتون فساد هؤلاء فصار هذا بمنزلة من ادعى حقا وأقام عليه بينتين وعلى بينة تقدح في الأخرى وتقول : إنها كاذبة فيما شهدت به وتبدي ما يفسد شهادتها وأنها غير صادقة فلا يمكن ثبوت الحق بذلك لأنا إن صدقنا كلا منهما فيما شهدت به من الحق وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء فلا يثبت الحق وإن عينا إحدى البينتين بالقبول أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى كان تحكما
مع أنه ما من مطلوب من المطالب إلا وقد تنازع فيه أهل الكلام والفلسفة جميعا فأهل الفلسفة متنازعون في الجهة وحلول الحوادث وأهل الكلام متنازعون أيضا في ذلك والمثبتون من هؤلاء وهؤلاء يقدحون في أدلة النفاة بالقوادح العقلية
وأهل السنة وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقول النفاة فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة ولا يطلقون القول بأن الله جسم وأنه تحله الحوادث وأنه مركب ولا نحو ذلك ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول ودلت العقول عليه بل يفسرون المجملات ويوضحون المشكلات ويبينون المحتملات ويتبعون الآيات البينات ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح
وهؤلاء المتفلسفة مثل هذا الرجل وأمثاله وإن وافقوا النفاة في الباطن في بعض ما نفوه فهم معترفون بأن الشرع لم يرد بذلك ومبطلون لأدلة إخوانهم النفاة ثم يذكرون من أدلة النفي ما هو أضعف وأفسد مما ضعفوه وأفسدوه
ونحن نذكر كلامه في ذلك وذلك أنه لما تكلم على الطريق العقلية الشرعية في إثبات الصانع تكلم أيضا على إثبات التوحيد والصفات الثبوتية والسلبية والأفعال
فقال : القول في الوحدانية : فإن قيل : إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الصانع سبحانه فما طريقة معرفة وحدانيته الشرعية أيضا وهو معرفة أنه لا إله إلا هو فإن هذا النفي هو معنى زائد على الإيجاب الذي تضمنته هذه الكلمة والإيجاب قد ثبت من القول المتقدم فبماذا يصح النفي ؟
قلنا : أما نفي الألوهية عما سواه فإن طريق الشرع في ذلك هي الطريق التي نص الله عليها في كتابه
وذلك في ثلاث آيات : إحداها قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]
والثانية قوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } [ المؤمنون : 91 ]
والثالثة قوله : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ]
فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه أه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إن فعلا معا أن تفسد المدينة الواحدة إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلا وذلك منتف في صفة الإلهية فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة أو تمانع الفعل فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن واحد فهذا معنى قوله سبحانه : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]
قلت : المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلا لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولا لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره فإنه إذا كان أحدهما مستقلا به لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده فلو قدر أن الآخر كذلك للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه فضلا عن آخر مستقل فيلزم الجمع بين النقيضين : إثبات استقال أحدهما ونفي استقلاله وإثبات تفرده به ونفي تفرده به وهذا جمع بين النقيضين
ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول الذي يفعله فاعل لا يشركه فيه غيره كما لا يستقل به فإنه لو شرك فيه غيره لم يكن مفعوله بل كان بعضه مفعوله وكان مفعولا له ولغيره فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد
ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر كالمتعاونين على البناء : هذا ينقل اللبن وهذا يضعه أو على حمل الخشبة : هذا يحمل جانبا وهذا يحمل جانبا
والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضا في الأفعال فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه ثم مع احتياجه إلى المشارك له من يعارضه ويعوقه عن الفعل فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق
وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلا فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه
وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود ويقولوا : لم يصدر عنه إلا واحد بسيط وهو ما يسمونه العقل
فإن هذا القول وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحدا
وأيضا فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها ليست هي الوحدة التي يدعونها فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج إذ يثبتون وجودا مطلقا أو مشروطا بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية وهذا لا يكون إلا في الأذهان كما قد قرروا ذلك في منطقهم وهو معلوم بصريح العقل وقد بين هذا في موضعه
والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحدا يصدر عنه شيء غير الله تعالى فإذا قالوا : الشمس يصدر عنها الشعاع فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع فصار لوجوده سببان : الشمس والجسم المقابل لها ثم له مانع وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع
وهكذا النور الخارج من السراج ونحوه من النيران لا يحصل إلا بالنار وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه وارتفاع الحجب الحائلة بينهما
وكذلك تسخين النار وتبريد الماء وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك فإنه لا بد من النار ومن جسم يقبل أثرها وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم وأمثال ذلك كثيرة
وكذلك الفاعل المختار كالإنسان فإن حركته الحاصلة باختياره لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة هذا فعله في نفسه فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال : إنها متولدة عن فعله فمن الناس من يقول : ليست مفعولة له بحال بل هي مفعولة لله تعالى كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر
ومنهم من يقول بل هو مفعول له على طريق التولد كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم : أنه قال : لا فاعل لها بحال
وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل عنه فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب وبسبب آخر من الحجر والهواء
وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه الذي هو فعله وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية وما في بدنه من قوة القبول لذلك والله خالق هذا كله
وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلا فالقلب الذي هو ملك البدن وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء فلا يستقبل بتحريك إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم
وولاة الأمور المدبرون للمدائن والجيوش لا يستقل أحدهم بمفعول إن لم يكن له من يعينه عليه وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه وكل ما يصدر خارجا عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله
وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما فلا يكون شيء من المخلوقات ربا لشيء من المخلوقات ربا لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلا إذ رب الشيء من يربه مطلقا من جميع جهاته وليس هذا إلا لله رب العالمين
ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين كما قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يقل أحدكم : اسق ربك أطعم ربك ]
بخلاف إضافته إلى غير المكلفين كقول النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن عوف الجشمي : [ أرب إبل أنت أم رب شاء ؟ ] وقولهم : رب الثوب والدار
فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله فإن هذا لا يمكن فيها فإن الله فطرها على أمر لا يتغير بخلاف المكلفين فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقا للتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ولهذا لم يكن شيء يستلزم جود المفعولات إلا مشيئة الله وحده فما شاء الله كان وإن لم يشأ ذلك غيره وما لم يشأ لا يكون ولو شاءه جميع الخلق

فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وإذا عرف أنه ليس في المخلوقات ما هو مستقل بمفعول ولا معلول فليس في المخلوقات ما هو رب لغيره أصلا بل فعل كل مخلوق له فيه شريك وقد يكون له مانع وهذا مما يدل على إثبات الصانع تعالى ووحدانيته كما نبه عليه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه من المعلوم بنفسه أنه لا يكون اثنان مستقلين بفعل ولا يكون مفعول واحد قد فعله كل من الاثنين ولا يكون نفس مفعول الفاعل الواحد قد شاركه فيه غيره فحيث حصلت المشاركة لم يكن هناك مفعول واحد لفاعل واحد فإن الوحدة تناقض الشركة ومفعولات المخلوقات لا بد فيها من الاشتراك لكن لا يفعل أحد الشريكين نفس فعل الآخر فلا تفعل اليد ما تفعله العين ولا يفعل الدماغ ما يفعله القلب وإن كان كل منها مفتقرا إلى غيره في فعله
فكذلك السفينة إذا كان فيها ربانان أو كان للقرية رئيسان أو للمدينة ملكان لم يمكن أن يكون فعل هذا هو نفس فعل هذا بل يفعل هذا شيئا وهذا شيئان وما يفعله كل منهما لا يفعله الآخر
فلهذا قال هذا الرجل : إنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد وقوله : من نوع واحد - إن كان زيادة إيضاح وإلا فلا حاجة إليه فإنه لا يمكن أن يكون عن فاعلين فعل واحد سواء كان فعلهما نوعا واحدا أو نوعين مختلفين بل الامتناع هنا أظهر
وقوله : متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة أو تمانع الفاعل فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن فاعل واحد فحقيقته أن يقال : بل يمتنع الفعل والحال هذه فلا يمكن وقوعه حتى يقال : إن المحل يفسد أو لا يفسد
ولكن هو ظن - كما ظن من ظن من المتكلمين - أن الإله هو بمعنى الرب وأن دلالة الآية على انتفاء إلهين إنما دلت به على انتفاء ربين فقط وذلك يظهر بتقدير امتناع الفعل من ربين
وسنبين إن شاء الله أن الآية دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم ولا أثبت أحد إلهين متماثلين ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال ولا أثبت أحد قديمين متماثلين ولا واجبي الوجود متماثلين
ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية بعبادة غير الله تعالى واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك
فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين
وقد قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ]
وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 84 - 89 ]
وقال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف : 106 ]
والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية وذلك متضمن لتوحيد الربوبية كما قال كل منهم لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ]
وقال : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } [ الزخرف : 45 ]
وقال : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ]
وقال : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ]
وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون به وذلك وحده لا ينفع وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة يظنون أن هذا هو غاية التوحيد كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية الذين يظنون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية
وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب
فإن هذا التوحيد - الذي هو عندهم الغاية - قد كان مشركو العرب يقرون به كما أخبر الله عنهم ولكن كثير من الطوائف قصر فيه مع إثباته لأصله كالقدرية الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث
وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه كما يزعمون مثل ذلك في العقل
ومشركو العرب كانوا خيرا في التوحيد من هؤلاء فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسبابا لبعض الموجودات لكن الأسباب لا تستقل بل تفتقر إلى مشارك وانتفاء معارض وقد يثبتون أسبابا وعللا لا حقيقة لها كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها
وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولا بإلهين لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات وأما الظلمة - التي هي فاعل الشرور - فلهم فيها قولان : أحدهما : أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولا للنور لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين فجعلوه فاعلا لأصل الشر ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص وجعلوها سببا لحدوث أصل الشر
والقول الآخر قولهم : إن الظلمة قديمة كالنور
فهؤلاء أثبتوا قديمين لكن لم يجعلوها متماثلين ولا مشتركين في الفعل بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر
ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي : واجب الوجود والنفس والهيولى والدهر والخلاء وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم فتذوق ما فيه من الشرور
وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم وطولب بسبب حدوثه فأثبت نوعا من الحركات سماها الحركة الفلتية وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب وظهر الناس جهله في إلحاده فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن فيسأل عن سبب حدوثها كما يسأل عن سب حدوث حركة أخرى فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال
والمقصود أن كثيرا من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات أو حدوث بعض الحوادث إلى غير الله وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكا مساويا له في أفعاله ولا في صفاته
وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر بل تفتقر إلى مشارك معاون وانتفاء معارض مانع وجعلها مخلوقة لله - فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن ودل عليه العيان والبرهان وهو من دلائل التوحيد وآياته ليس من الشرك بسبيل فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات
والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية وهو أنه ليس للعالم خالقان ثم صار كل منهما يذكر طريقا في ذلك
فهذا الفيلسوف ابن رشد قرر هذا التوحيد كما تقدم
قال : وأما قوله تعالى : { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون : 91 ] فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال وذلك أنه يعقل في الآلهة المختلفة الأفعال التي لا يكون بعضها مطيعا لبعض أن لا يكون عنها موجود واحد بل موجودات كثيرة فكان يكون العالم أكثر من واحد وهو معنى قوله : { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون : 91 ] ولما كان العالم واحدا وجب أن لا يكون موجودا عن آلهة كثيرة متفننة الأفعال
قلت : لما قرر أولا امتناع ربين فعلهما واحد قرر امتناع أرباب تختلف أفعالهم فإن اختلافهم الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحدا والعالم واحدا
وكلامه في تفسير هذا الآية بهذا من جنس كلامه في تفسير تلك الآية بذاك
قال : وأما قوله تعالى : { لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] فهي كالآية الأولى أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد ومعنى هذه الآية : أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له لوجب أن يكون على العرش معه فكان يوجد موجودان متماثلان ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة فإن المثلين لا ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة لأنه إذا اتحدت نسبته اتحد المنسوب أعني أن يكونا بالمحل وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش ضد هذه النسبة أعني أن العرش يقوم به لا أنه يقوم بالعرش ولذلك قال : { وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ]
قلت : قد سلك في هذه الآية هذا المسلك الذي ذكره والآية فيها قولان معروفان للمفسرين : أحدهما : أن قوله : { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له
والثاني : بالممانعة والمغالبة والأول هو الصحيح فإنه قال : { لو كان معه آلهة كما يقولون } [ الإسراء : 42 ] وهم لم يكونوا يقولون : إن آلهتهم تمانعه وتغالبه بخلاف قوله : { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] فهذا في الآلهة المنفية ليس فيه أنها تعلوا على الله وأن المشركين يقولون ذلك
وأيضا فقوله : { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] يدل على ذلك فإنه قال تعالى : { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } [ المزمل : 19 ] والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته بخلاف العكس فإنه قال : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } [ النساء : 43 ] ولم يقل : إليهن سبيلا
وأيضا فاتخاذ السبيل إليه مأمور به كقوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } [ المائدة : 35 ] وقوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } [ الإسراء : 56 - 57 ]
فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة فهذا مناسب لقوله : { لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ]
وليس المقصود هنا بسط الكلام على ذلك إذ المقصود بيان ما ذكره في طرق المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية
قال : فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية وإنما الفرق بين الجمهور وبين العلماء في هذا الدليل أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم وكون أجزائه بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد أكثر مما يعلمه الجمهور من ذلك
ولهذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في آخر الآية : { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } [ الإسراء : 43 - 44 ]
قال : وأما ما يتكلفه الأشعرية - يعني والمعتزلة - من الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية وهو الذي يسمونه دليل التمانع فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية ولا الشرعية أما كونه ليس يجري مجرى الطبع فلأن ما يقولون في ذلك ليس برهانا وأما كونه ليس شرعيا لا يجري مجرى الشرع فإن الجمهور لا يقدرون على فهم ما يقولون من ذلك فضلا عن أن يقع لهم به إقناع وذلك أنهم قالوا : لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها : إما أن يتم مرداهما جميعا وإما أن لا يتم مراد أحدهما ويتم مراد الآخر وإما أن لا يتم مراد واحد منهما
قالوا : ويستحيل أن لا يتم مراد واحد منهما لأنه لو كان الأمر كذلك لكان العالم لا موجودا ولا معدوما
ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه كان يكون العالم موجودا معدوما معا
فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما ويبطل مراد الآخر والذي بطلت إرادته عاجز والعاجز ليس بإله
قال : ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياسا على المريدين في الشاهد كذلك يجوز أن يتفقا وهو الأليق بالإلهية من الاختلاف وإذا اتفقا على صناعة العالم كانا مثل الصانعين : اتفقا على صنع مصنوع ما
وإذا كان هذا هكذا فلا بد أن يقال : إن أفعالهم - ولو اتفقا - كان تتعاوق لورودهما على محل واحد إلا أن يقول قائل : ولعل هذا يفعل بعضا والآخر بعضا أو لعلهما يفعلان على المداولة إلا أنه هذا التشكيك لا يليق بالجمهور
والجواب في هذا لمن يشكك من الجدليين في هذا المعنى : أن الذي يقدر على اختراع البعض يقدر على اختراع الكل فيعود الأمر إلى قدرتهما على كل شيء فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا وكيفما كان يتعاوق الكل
وأما التداول فهو نقص في حق كل واحد منهما والأشبه أن لو كانا اثنين أن يكون العالم اثنين فإذا العالم واحد فالفاعل واحد فإن الفعل الواحد إنما يوجد عن واحد فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله : { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] من جهة اختلاف الأفعال فقط بل من جهة اتفاقهما فإن الأفعال المتفقة تتعاوق في ورودها على المحل الواحد كما تتعاوق الأفعال المختلفة
قال : وهذا هو الفرق بين ما فهمناه نحن من الآية وما فهمه المتكلمون وإن كان قد يوجد في كلام أبي المعالي إشارة إلى هذا الذي قلناه
قلت : بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين الذي سموه دليل التمانع برهان تام على مقصودهم وهو امتناع صدور العالم عن اثنين وإن كان هذا هو توحيد الربوبية
والقرآن يبين توحدي الإلهية وتوحيد الربوبية لكن المقصود هنا أن اعتراض هذا على دليل نظار المتكلمين هو اعتراض مشهور قد ذكره غيره وظنوا أنه اعتراض قادح في الدلالة كما ذكر ذلك الآمدي وغيره وحتى ظن بعض الناس أن التوحيد إنما يعرف بالسمع
وليس الأمر كما ظنه هؤلاء بل هو برهان صحيح عقلي كما قدره فحول النظار وكما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأفردت مصنفا للتوحيد
وذلك أن هؤلاء النظار قالوا : إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر وحينئذ : إما أن يحصل مراد أحدهما أو كلاهما أو لا يحصل مراد واحد منهما
والأقسام الثلاثة باطلة فيلزم انتفاء الملزوم
أما الأول : فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين وأن يكون الشيء الواحد حيا ميتا متحركا ساكنا قادرا عاجزا إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما وذلك يناقض الربوبية
وأيضا فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما لزم ارتفاع القسمين المتقابلين كالحركة والسكون والحياة والموت فيما لا يخلو عن أحدهما
وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر كان النافذ مراده هو الرب القادر والآخر عاجزا ليس برب فلا يكونان متماثلين
فلما قيل لهم : هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما فيجوز اتفاق إرادتهما
أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول يمنع استقلال الآخر به بل لا بد أن يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا وهذا معنى قوله تعالى : { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون : 91 ]
وهذا ممتنع فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطا يوجب أن الفاعل هذا ليس هو مستغنيا عن فاعل الآخر لا حتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض
وأيضا فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادرا فإنهما إذا كانا قادرين لزم جواز اختلاف الإرادة
وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة بل يجب اتفاق الإرادة كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده لآخر ويفعله لزم أن لا يكون واحد منهما قادرا إلا إذا جعله الآخر قادرا ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر
وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد منهما قادرا فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله والآخر كذلك وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين لم يكن هذا قادرا مريدا حتى يكون الآخر قادرا مريدا
وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادرا مريدا كان هذا دورا قبليا وهو دور في الفاعلين والعلل
كما لو قيل : لا يوجد هذا حتى يوجده هذا ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك وهذا يسمى الدور القبلي
بخلاف ما إذا قيل : لا يكون هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا كالأمور المتلازمة فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني
وذلك جائز كما إذا قيل : ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته وقيل : لا تكون حياته إلا مع علمه ولا علمه وحياته إلا مع قدرته ونحو ذلك
فتبين أنه يمتنع أن تكون قدرة كل منهما مستفادة من قدرة الآخر
وإن قيل : بل كل منهما قادر مريد من غير أن يستفيد أحدهما ذلك من الآخر وهو دور معي لا قبلي كان هذا أيضا باطلا
فإنه حينئذ يجب أن تكون قدرة كل منهما من لوازم ذاته فلزم أن صانع العالم لا بد أن يكون قادرا قدرة لا يحتاج فيها إلى غيره بل تكون من لوازم ذاته وهذا حق
وحينئذ فإذا قدر ربان لزم أن يكون كل منهما قادرا قدرة لازمة لذاته لا يحتاج فيها إلى غيره فيكون الفعل بتلك القدرة ممكنا فيلزم أن يكون الرب قادرا متمكنا من الفعل بمجرد قدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره
وحينئذ فيمتنع وجد ربين : كل منهما كذلك لأنه إذا كان كل منهما قادرا بنفسه على الفعل أمكنه أن يفعل دون الآخر وأمكن الآخر أن يفعل دونه وهذا ممتنع فإنه إذا فعل أحدهما شيئا امتنع أن يكون الآخر فاعلا له أو شريكا فيه مع استقلال الأول بفعله فيلزم عجز كل منهما عما يفعله الآخر ويلزم أنه لا يمكنه الفعل إن لم يمكنه الآخر منه فلا يفعله هو فيلزم أن يكون كل منهما عاجزا غير قادر على الفعل
وقد تبين أنه لا بد أن يكون كل منهما قادرا على الفعل فيلزم الجمع بين النقيضين ويلزم أيضا أنه لا يكون هذا قادرا إلا إذ كان الآخر غير قادر فيلزم أن يكون كل منهما قادرا غير قادر وهذا جمع ثان بين النقيضين
فتبين أن الخالق لا بد أن يكون قادرا بنفسه على الاستقلال بالفعل وهذا وحده برهان كاف
وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر فيلزم علو بعضهم على بعض
ولهذا بين الله تعالى في كتابه : أن كل واحد من ذهاب كل إله بما خلق ومن علو بعضهم على بعض برهان قاض بأنه ليس مع الله إله
كما قال تعالى : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ]
فجعل هنا لازمين كل منهما يدل على انتفاء الملزوم أحدهما قوله : { إذا لذهب كل إله بما خلق } فإن الإله لا بد أن يكون قادرا مستقلا بالقدرة على الفعل لا يحتاج في كونه قادرا إلى غيره كما تقدم من أنه لو كانت قدرة أحدهما يحتاج فيها إلى من يجعله قادرا كان ذلك ممتنعا
فإن الذي يجعله قادرا : إن كان مخلوقا له فهو الذي جعل المخلوق قادرا فلو كان المخلوق هو الذي جعله قادرا كان هذا دورا ممتنعا كما يمتنع أن يكون المخلوق خالقا للخالق
وإن كان قديما واجبا بنفسه مثله كان القول في قدرته كالقول في قدرة الآخر فإن كانت قدرته من لوازم ذاته لا يحتاج فيها إلى غيره ثبت المدعى
وإن كان يحتاج فيها إلى غيره لم يكن قادرا حتى يجعله ذلك الآخر قادرا وهذا دور ممتنع كما يمتنع أن لا يكون أحدهما موجودا أو عالما حتى يجعله الآخر موجودا وعالما فإنه حينئذ يكون كونه موجودا وقادرا وعالما مستفادا من الآخر ومفعولا له فلا يكون هذا حتى يكونه هذا ولا يكون هذا حتى يكونه هذا فلا يكون هذا ولا هذا
وهذا أعظم امتناعا من أن يقال : لا يكون الشيء حتى يكون نفسه فإنه ذلك يقتضي كون نفسه فاعلة لنفسه ومتقدمة عليها
وهذا وإن كان ممتنعا في صريح العقل فكونه فاعلا لفاعل نفسه ومتقدما على المتقدم على نفسه أبلغ في الامتناع
فإذا كان يمتنع أن لا يكون الواحد قادرا حتى جعل نفسه قادرا فكون كل منهما لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا - أولى بالامتناع
وذلك أنه لا يجعل نفسه قادرا حتى يكون هو قادرا فيلزم أن يكون حينئذ قادرا غير قادر
وكذلك يلزم إذا لم يكن أحدهما قادرا ألا يجعل الآخر أن يكون كل منهما قادرا غير قادر مرتين : حين جعل مجعوله قادرا وحين جعله مجعوله قادرا
ولما كان هذا من المعالم البديهية الضرورية لمن تصوره لم يحتج إلى تقرير وإذا كان ذلك الإله لا بد أن يكون قادرا على الاستقلال بالفعل فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلا له ومشاركا له فيه فيلزم أن ينفرد كل إله بما خلق ولا يحتاج فيه إلى غيره
وحينئذ يلزم أن لا يحتاج مخلوق هذا إلى مخلوق هذا لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما إلى الآخر وأنه لا يقدر أن يفعل إلا مع فعل الآخر ويكون فعل كل منهما مستلزما لفعل الآخر ملزوما له والملزوم لا يوجد بدون لازمه فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل وذلك بنفي القدرة التي هي من لوازم الربوبية
وأما البرهان الثاني : وهو لزوم علو بعضهم على بعض وذلك بمنع إلهية المغلوب فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله مع كونه فعل الأول
ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادرا فيمتنع أن يكون كل منهما قادرا على الاستقلال ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد لا بطريق استقلال أحدهما ولا بطريق اشتراكهما فيه وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادرا
وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة فإنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل لزم امتناع الفعل وانتفاء القدرة عن كل منهما
وإن لم يمكنه ذلك لزم أن لا يكون قادرا على ما يقدر عليه الآخر إذا لو كان قادرا عليه لأمكنه فعله وذلك ممتنع
وإذا لم يكن قادرا على ما يقدر عليه الآخر لم تكن قدرته مثل قدرته فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر ويقوم مقامه
وإذا امتنع تماثل القدرتين وجب كون أحدهما أقدر من الآخر وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف
وهذا معنى قوله : { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ]
فإن قيل : قد أوردوا هنا سؤالا معروفا أورده الآمدي وغيره وذكروا أنه لا جواب عنه
وهو أنه يجوز أن يكون كل منهما قادرا بشرط أن لا يفعل الآخر معه ولا يقدح ذلك في القدرة كما يكون هو قادرا على أحد الضدين بشرط عدم الآخر فإن اجتماع الضدين محال فالقدرة على فعل أحدهما ينافي القدرة على فعل الآخر معه ولا ينافي القدرة على فعل الآخر حال عدمه بل كل من الضدين مقدور بشرط عدم الآخر وهو مقدور على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فكذلك يقال في القادرين : كل منهما قادر على الفعل المعين حال عدم قدرة الآخر عليه
قيل : هذا تشبيه باطل وذلك أن القادر على الضدين يفعل كل منهما بمشيئته وإذا فعل أحدهما لم يكن عاجزا عن فعل الآخر لكنه قادر عليه إن اختاره والجمع بينهما ممتنع لذاته ليس بشيء
وذلك لا ينافي القدرة بوجه من الوجوه فإن الفاعل لأحد الضدين يختار هذا دون ذاك فلم يكن عدمه إلا لكونه لم يرده لا لأن غيره منعه منه ولا أن قدرته عاجزة عنه إذا أراد أن يفعله بخلاف القادر إذا قيل : إنه لا يمكنه الفعل إلا إذا أمكنه غيره ولم يرد أن يفعل معه ولو أراد الآخر أن يفعل ما فعله لم يقدر أن يفعله هو فإنه حينئذ لا يكون قادرا بنفسه بل يكون غير قادرا حتى يمكنه الآخر ويمتنع من أن يفعل ما يفعله
ومما يوضح هذا أن الخالق لا بد أن يكون قادرا وأن يكون قادرا بنفسه لا بقدرة استفادها من غيره ويمتنع أن يكون معه آخر قادر بنفسه فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولا لا يشركه فيه غيره فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره لم يكن قادرا بنفسه بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادرا إلا بإعانة الآخر فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر فليس واحد منهما قادرا بنفسه ومن لم يكن قادرا بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادرا فإنه إذا لم يكن القادر قادرا بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادرا بطريق الأولى فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل فيفعل وحده من غير شريك ومعين لم يكن في الوجود حادث لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه
والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل بحيث يكون كل منهما مستقلا بالفعل وحده فإنه إذا قدر ذلك فحال ما يفعل أحدهما الفعل يمتنع أن يكون الآخر قادرا على ذلك الفعل بعينه فاعلا له وحده فإنه إذا فعله أحدهما وحده لم يكن له شريك فضلا عن أن يفعله غيره مستقلا فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدورا لقادر مستقل أو مفعولا لفاعل مستقل لا يكون مقدورا ولا مفعولا لآخر مستقل
فتبين أن ما يقدر عليه يفعله القادر المستقل يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره بل يكون هذا عاجزا عما يفعله هذا ولا يكون هذا قادرا إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله فلا يكون واحد منهما قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فلا يكون واحد منهما قادرا
فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل أنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل ولا يجوز وجود قادرين مستقلين فعلم أن القادر على الخلق واحد لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق سواء اتفقا أو اختلفا وهو المطلوب
وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم وإن تنوعت العبارات عنه وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك إن لم يكن ملك هذا منفصلا عن ملك هذا وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر امتنع أن يكون كل منهما قادرا مالكا لما يقدر عليه الآخر ويملكه لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادرا على ما يقدر عليه الآخر بل فاعلا مدبرا لما يفعله الآخر ويدبره وذلك ممتنع فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له يمنع أن يكون الآخر قادرا عليه وفاعلا له إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر
فأما حال فعل الآخر له فيمتنع أن يكون الآخر فاعلا له إذا أراد فعله وإذا امتنع كون أحدهما فاعلا له إذا أراده امتنع كونه قادرا عليه فإن كونه قادرا عليه مع امتناع فعل له إذا أراده جمع بين النقيضين فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله فإذا كان لا يقدر عليه إذا أراده لم يكن قادرا عليه فامتنع أن يكون الشيء قادرا على فعل ما يفعله غيره حال كون الآخر فاعلا له ومفعول أحدهما مقدور له

فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وإذا كان حينئذ يمتنع كون الآخر فاعلا له وذلك يمنع كونه قادرا عليه امتنع أن يكونا قادرين على مقدور واحد في حال واحدة وفاعلين لمفعول واحد في حال واحد بل لا يقدر أحدهما على الفعل إلا إذا تركه الآخر يفعله وسكت عن فعله استقلالا ومشاركة ولو أراد الآخر أن يفعله كان الآخر غير قادرا على فعله فصار المانع لأحدهما من القدرة على الفعل والاستقلال به كون الآخر قادرا عليه فاعلا له
وذلك يوجب بطلان الربين من وجوه :
منها : أن الممنوع الذي منعه غيره لا يكون قادرا بخلاف من لم يفعل الفعل لكونه هو لم يرده فإن هذا لا يمنع قدرته على الآخر
فإذا كان الرجل قادرا على القيام والقعود فاختار أحدهما بدلا عن الآخر لم يكن عدم الآخر لعجزه عنه بل لأنه لم يرده وهو لا يريد اجتماعهما في حال واحدة لأن ذلك ممتنع لنفسه لا لكونه غير قادر أو لكونه عاجزا عنه فإن الممتنع بذاته ليس بشيء يتصور وقوعه
ولهذا اتفق النظار على أنه ليس بشيء فلا يدخل في قوله : { إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 20 ] بخلاف من كان لا يقدر أن يفعل فعلا لأن غيره فعله فإنه حينئذ يكون غير قادر على أن يفعل مفعول ذلك ولو أراده
ولهذا كان أحد الملكين غير قادر على أن يكون ملكا مع ملك غيره بل إنما يكون ملكا مع انتفاء ملك غيره
وأيضا فإنه إذا كان أحدهما قادرا ولم يمنعه أن يكون قادرا فاعلا للفعل إلا كون الآخر قادرا عليه فاعلا له لزم أن يكون كل منهما ممنوعا حال ما هو مانع وقادرا حال ما هو غير قادر فإن أحدهما حينئذ لا يمنعه من الفعل المعين كون الآخر قادرا عليه فاعلا له وذلك لا يكون قادرا فاعلا إلا إذا لم يكن ممنوعا ولا يكون ممنوعا إلا إذا كان المانع قادرا فيلزم ألا يكون هذا قادرا إلا إذا كان غير قادر ولا ممنوعا إلا إذا كان غير ممنوع ولا فاعلا إلا إذا كان غير فاعل وذلك جمع بين النقيضين
وهذا كله بين في فطر الناس فإنه يعلمون أن من كان أميرا أو متوليا على فعل أو إماما لقوم أو قاعدا في مكان لم يقدر غيره أن يكون أميرا أو متوليا أو إماما أو فاعلا حال كون الآخر أميرا أو متوليا أو إماما أو قاعدا
فتبين أن القادر على الفعل لا يقدر حال فعل الآخر له ولا حال قدرة الآخر عليه أما قدرته حال فعل الآخر فظاهر الامتناع وأما حال قدرة الآخر فلا يمكن أن يفعله إلا إذا سكت الآخر عن فعله وتركه وحده يفعل وأما حال فعل الآخر فلا يكون قادرا
فتبين أن اجتماع قادرين بأنفسهما ممتنع لذاته في فطر جميع الناس وحينئذ فالقادر بنفسه هو واحد فيجب أن يكون الإله العالي الغالب وما سواه مقهور مغلوب
وحينئذ فلا يكون الواحد قادرا إلا إذا كان الآخر غير قادر فإن كلا منهم قادر حال عدم قدرة الآخر فلا يكون أحدهما قادرا إلا مع كون الآخر غير قادر وكل منهما قدرته من لوازم ذاته إن كان قادرا فيلزم من ذلك أن يكون كل منهما لا يزال قادرا غير قادر فيلزم الجمع بين النقيضين
وكذلك إذا قيل : لا يكون أحدهما قادرا إلا إذا جعله الآخر قادرا أو مكنه الآخر وامتنع من منعه فإنه يلزم ألا يكون واحد منهما قادرا للدور الممتنع وهو قد جعل فاعلا فيلزم اجتماع النقيضين فيلزم ألا يكون واحد منهما قادرا مع وجوب كون الخالق قادرا ويلزم أن يكون كلا منهما غير قادر مع كونه قادرا
وهذا كله من الممتنع بصريح العقل وهو لازم من إثبات ربين قديمين واجبين بأنفسهما فدل على امتناع ذلك وسواء قدر اتفاقهما على الفعل أو اختلافهما فيه فنفس كونهما قديمين واجبين قادرين ممتنع ونفس كونهما غير قادرين ممتنع ونفس اجتماع القدرة وعدمها ممتنع ونفس اتفاقهما على مفعول واحد يستقل به كل منهما ممتنع ونفس الاشتراك بأن يفعل هذا بعضه وهذا بعضه ممتنع
وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر أو الأقدار فيعلو بعضهم على بعض ولا بد إذا كانا قادرين من أن يذهب كل إله بما خلق فإن العالي هو الإله المعبود فلا يكون معه إله بل يكون ما يقال إنه إله مملوكه وعابده
وهم مقرون بذلك لكن بين لهم فساد عبادة المخلوق والعابد لغيره كما قال : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ]
وقال : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء : 56 - 57 ]
فإنه سبحانه ينهي عن الشرك الواقع وهو اتخاذ ما سواه إلها وإن كان المشركون مقرين بأنه إله مخلوق عابد للإله الأعظم ولهذا يقول : { لو كان معه آلهة كما يقولون } [ الإسراء : 42 ]
وبين أيضا امتناع أن يكون معه إله غني عنه بقوله : { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] وبقوله : { لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون : 91 ] وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد ذكرها العلماء في كتبهم
وكذلك ما ذكره هذا الفيلسوف ذكره غير واحد من النظار وذكروا أنه بتقدير الاتفاق يمتنع أن يكون مفعول أحدهما هو مفعول الآخر والمفعول الواحد لا يكون مفعولا لفاعلين باتفاق العقلاء لكن التقدير الذي يحتاج إلى نفيه تقدير التعاون كما ذكر من فعل هذا البعض وهذا البعض وما ذكره من أن التداول نقص هو موجود في التبعيض فإن الشريكين قد يتهابان بالمكان وقد يتهابان بالزمان
وهذا التقدير قد أبطلوه بوجوه :
منها : أن هذا نقص في حق كل واحد منهما ينافي الإلهية
ومنها : أن كلا منهما إن لم يكن قادرا على الاستقلال كان عاجزا وإن كان قادرا عليه - وهو لا يمكنه مع معاونة الآخر كان ممنوعا من مقدوره وهو مثل العجز وأشد وكذلك إن لم يكن قادرا على خلاف مراد الآخر كان عاجزا وإن كان قادرا ولم يفعل إلا ما يوافق الآخر فإن كان الفعل الآخر ممكنا لا مانع له من غيره أمكن تقديره ويعود دليل التمنع وإن لم يكن ممكنا لزم تعجيزه ومنعه بغيره
وبالجملة فالدلائل العقلية على هذا متعددة وإن كان من الناس من يزعم أن دليل ذلك هو السمع لكن هذا المطلوب الذي أثبتوه هو متفق عليه بين العقلاء
ومقصود القرآن توحيد الإلهية وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس
ولهذا قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] فلم يقل : لو كان فيهما إلهان بل المقدر آلهة غير الإله المعلوم أنه إله فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلها مع كونه مملوكا له ؟
ولهذا قال : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } [ الروم : 28 ]
وقال تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ]
وقال : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر : 43 - 45 ] وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا ما ذكره هذا
قال : ويدلك على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنته الآية : أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية وذلك أن المحال الذي أفضى إليه الدليل الذي زعموا أنه دليل الآية هو أكثر من محال واحد إذ قسموا الأمر إلى ثلاثة أقسام وليس في الآية تقسيم فدليلهم الذي استعملوه هو الذي يعرفه أهل المنطق بالشرطي المنفصل ويعرفونه هم في صناعتهم بدليل السبر والتقسيم والدليل الذي هو الآية هو الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل وهو غير المنفصل ومن نظر فيه أدنى نظر في تلك الصناعة تبين له الفرق بين الدليلين
وأيضا فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم : إما لا موجودا ولا معدوما وإما أن يكون موجودا ومعدوما وإن أن يكون الإله عاجزا مغلوبا وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلا على الدوام وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص وهو أن يوجد العالم فاسدا في وقت الوجود فكأنه قال : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله ) لوجد العالم فاسدا في الآن ثم استثنى أنه غير فاسد فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد
قلت : الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين إذا أراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه ولا هو أيضا امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود
وأما الفساد فهو ضد الصلاح كما قال تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ]
وقال تعالى : { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف : 142 ]
وقال : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ]
وقال : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة 205 ]
وقال : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة : 32 ]
وقالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ]
وقال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ]
وقال : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } [ المؤمنون 71 ]
وجماع الصلاح اللآدميين هو طاعة الله ورسوله وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم والفساد بالعكس فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته وفساده بالعكس والخلق صلاحهم وسعادتهم في أن يكون الله هو معبودهم الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم ويكون ذلك غاية الغايات ونهاية النهايات
ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره وكانت أعمال الذي كفروا : { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } [ إبراهيم : 18 ]
قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ]
فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم فإن الإنسان حارث همام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] والحارث هو الكاسب والهمام هو الذي يكثر الهم الذي هو أول الإرادة فالإنسان متحرك بالإرادة وكل مريد لا بد له من مراد والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك وهكذا العالم العلوي أيضا
والحركات ثلاثة طبيعية وقسرية وإرادية لأن الحركة : إما أن يكون مبدأها من المتحرك وإما من غيره فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية وما كان مبدؤها من المتحرك فإن كان على شعور منه فهي الإرادية وإلا فهي الطبيعية
والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه كصعود الحجر والماء إلى فوق ففي طبعه الهوي والنزول فهي تابعة للقسرية فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها
فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها كانت ضارة لصاحبها مفسدة له غير نافعة ولا مصلحة له
وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته المراد لذاته المطلوب لذاته المعبود لذاته : إلا الله كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله فكما أنه لا رب غيره فلا إله إلا هو فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربا له ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها
وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال بل إذا استحق أن يحب ويراد فإنما يراد لغيره وله ما شاركه في أن يحب معه وكلاهما يجب أن يحب لله لا يحب واحد منهما لذاته إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها إذا كانت هي الغاية المطلوبة
والله فطر عباده على ذلك وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم فإن ذلك وإن كان كذلك ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته أن يكون للعالم مبدع غير الله قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [ الروم : 30 ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد ففسد إدراكها كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مرا وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه والشرك لا يغفره الله فإنه فساد لا يقبل الصلاح
ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله والحب لله فالأول شرك والثاني إيمان
قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ] فليس لأحد أن يحب شيئا مع الله
وأما الحب لله فقال تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله } [ التوبة : 24 ]
وقال صلى الله عليه و سلم في الصحيح : [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]
وفي الحديث : [ أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ]
وهذا حقيقة قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ الأنفال : 39 ]
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك ]
فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة فإن كون هذا مستقلا بكونه هو المراد المحبوب يناقض كون الآخر كذلك ومتى لم يكن المراد مستقلا بالإرادة لم يكن هو المراد بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله ومن لم يكن الله هو مراده لم يحصل صلاحه بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر بخلاف ما دونه
وأفضل الكلام قول : لا إله إلا الله والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء فهو بمعنى المألوه وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك
ولكن أهل الكلام الذي ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله : اسم فاعل وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع كما يقول الأشعري وغيره ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع
ومن قال : إن أخص وصف الإله هو القدم كما يقوله من يقوله من المعتزلة قال ما يناسب ذلك في الإلهية وهكذا غيرهم وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد وفي الطرق التي بينها القرآن فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها فجعل نفي ذلك داخلا في مسمى التوحيد وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم
وأما الأول فلا ريب أنه من التوحيد الواجب وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد بل المشركون الذي سماهم الله ورسوله مشركين وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم كانوا مقرين بأن خالق كل شيء
فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه فإنه به يعرف التوحيد الذي هو رأس الدين وأصله
وهولاء قصروا في معرفة التوحيد ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد
قال ابن رشد : فقد تبين من هذا القول الطرق التي دعا الشرع من قبلها الناس إلى الإقرار بوجود الباري تعالى ونفي الإلهية عما سواه وهما المعنيان اللذان تضمنتها كلمة التوحيد : أعني لا إله إلا الله فمن نطق بهذه الكلمة وصدق بهذين المعنيين اللذين تضمنتهما بهذه الطرق التي وصفنا فهو المسلم الحقيقي الذي عقيدته العقيدة الإسلامية ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة وإن صدق بهذه الكلمة فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم
ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال : الفصل الثالث في الصفات : أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان وهي سبعة : العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام
أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
ووجه الدلالة : أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه أعني كون صنع بعضها من أجل بعض ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالما به
مثال ذلك : إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف - تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء وهذه الصفة هي صفة قديمة إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتا ما
لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون : إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علما واحدا
وهذا أمر غير معقول إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعا للموجود ولما كان الموجود تارة يوجد فعلا وتارة يوجد قوة وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفا إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل وهذا - يعني قول المتكلمين - شيء لم يصرح الشرع به بل الذي صرح به خلافه وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها
كما قال تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ]
فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع
وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة إلا أنهم يقولون : إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث والباري تعالى لا يقوم به حادث لأن ما ينفك عن الحوادث زعموا أنه حادث
قال : والذي يقال للخواص : إن العلم القديم لا يشبه علم الإنسان المحدث فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها وانتفى التكييف إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث
قلت : هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل ولم يكن هذا مغايرا لهذا كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحدا وهذا مناقض لما تقدم من قوله يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفا
غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول : إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا ولكن يقولون : ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم ويقولون : إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات التي لا توحب حدوث المنسوب المضاف كالتيامن والتياسر
وهكذا هذا يقول : إنما تتجدد النسب والإضافات وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم لكن المتكلمون خير منه لأنهم يقولون بعلمها بعد وجودها : إما بعلم زائد عند بعضهم وإما بذلك الأول عند بعضهم
وأما هذا فلا يثبت إلا العلم الذي هو سبب وجودهما كما سيأتي كلامه وهذا عندهم حكم يعم الواجب والقديم وهذا يقول : بل ذلك حكم يخص المحدث وهو لم يأت على الفرق بحجة إلا مجرد الدعوى وقد بين ذلك في كلام أفرده في مسألة العلم وأراد أن ينتصر بذلك للفلاسفة الذين قيل عنهم : إنهم يقولون : إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي فذكر أنهم يقولون : إنه يعلم الجزئيات لكن على هذا الوجه

كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه
فقال لمن راسله : لما فقتم بجودة ذهنكم وكرم طبعكم كثيرا ممن يتعاطى هذه العلوم وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في العلم القديم مع كونه متعلقا بالأشياء المحدثة وجب علينا لمكان الحق ولمكان إزالة الشك والشبهة عنكم أن تحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره فإن لم يعرف الربط لم يقدر على الحل والشك يلزم هكذا إن كانت الأشياء كلها في علم الله تعالى قبل أن تكون فهل هي في علمه في حال كونها كما كانت عليه قبل أن توجد ؟
فإن قلنا : إنها في علم الله تعالى في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد لزم أن يكون العلم القديم متغيرا وأن تكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود فقد حدث هناك علم زائد وذلك مستحيل على العلم القديم
وإن قلنا : إن العلم القديم فيها واحد في الحالين
قيل : فهل هي في نفسها - أعني الموجودات الحادثة قبل أن توجد - كما هي حين وجدت ؟ فيجب أن يقال : ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين وجدت وإلا كان المعدوم والموجود واحدا
فإذا سلم الخصم هذا قيل له : أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه ؟
فإذا قال : نعم
قيل : فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه أن يكون العلم به يختلف وإلا فقد علم على غير ما هو عليه فإذا يجب أحد الأمرين : إما أن يختلف العلم القديم في نفسه أو تكون الحودث غير معلومة وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه
ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود وتعلق علمه بها إذا وجدت فإنه من البين بنفسه أن العلمين يتغايران وإلا كان جاهلا بوجودهما في الوقت الذي وجدت فيه وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا بأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في كونها من زمان ومكان وغير ذلك من الصفة المختصة به بوجود موجود
فإنه يقال لهم : إذا وجدت فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود ؟
فإن قالوا : لم يحدث فقد كابروا
وإن قالوا : حدث هنالك تغير
قيل لهم : فهل حدوث هذا التغير معلوم للقديم أم لا ؟ فيلزم الشك المتقدم
وبالجملة فيعسر أن ستصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد وأن العلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه فهذا هو تقرير هذا الشك
قال : وقد رام الإمام أبو حامد الغزالي حل هذا الشك في كتابه الموسوم بـ تهافت الفلاسفة بشيء ليس فيه منتفع وذلك أنه قال قولا معناه هذا وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف وكما أنه قد يتغير أحد المتضايفين ولا يتغير هذا الآخر في نفسه كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه وتعالى أعني أن تتغير في أنفسها ولا يتغير علمه سبحانه وتعالى بها
ومثال ذلك في المضاف : أنه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته وزيد بعد لم يتغير في نفسه
قال : وليس هذا بصادق فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة وإنما الذي لم يتغير موضع الإضافة أعني الحامل لها الذي هو زيد
وإن كان كذلك وكان العلم هو نفس إضافة فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم كما تتغير الإضافة : إضافته الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها في نفسها وذلك أنها عادت يسرة بعد أن كانت يمنة
قال : والذي ينحل به هذا الشك عندنا هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود بخلاف الحال في العلم المحدث مع الموجود وذلك أو وجد الموجود هو علة وسبب لعلمنا والعلم القديم هو علة وسبب للموجود فلو كان إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد فقد حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث للزم أن يكون العلم القديم معلولا للموجود لا علة له فإذا وجب أن لا يحدث هنالك تغير كما يحدث في العلم المحدث
وأنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث وهو قياس الغائب على الشاهد وقد عرف فساد هذا القياس
وكما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له أعني تغيرا لم يكن قبل ذلك كذلك لا يحدث في العلم القديم تغير عند حدوث مفعوله عنه
فإذا قد انحل هذا الشك ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير أعني في العلم القديم فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه وإنما لزم أنه لا يعلمه بعلم محدث بل لا يعلمه إلا بعلم قديم كما ظن أنه لازم من ذلك القول لأن حدوث التغير في العلم عندنا بتغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود وهو العلم المحدث
فإذا العلم القديم إنما يتعلق بالموجود على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث لا أنه غير متعلق أصلا كما حكى عن الفلاسفة أنهم لموضع هذا الشك قالوا : إنه لا يعلم الجزئيات
ولي الأمر كما توهم عليهم بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها ويعلمها بالعلم القديم الذي ليس من شرطه الحدوث بحدوثها إذا كان علة لها لا معلولا عنها كالحال في العلم المحدث
وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به فإنه إذا قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء من جهة أن صدورها عنه إنما هو من جهة أنه عالم لا من جهة أنه موجود فقط أو موجود بصفة كذا بل من جهة أنه عالم كما قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم بالمحدث فواجب أن يكون هناك بالموجودات علم آخر لا يكيف وهو العلم القديم
قال : وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات
قال : فهذا ما ظهر لنا في وجه هذا الشك وهو أمر لا مرية فيه ولا شك
قلت : لقائل أن يقول : ليس فيما ذكره جواب وذلك أن تفريقه بين العلم القديم والعلم المحدث بأن ذلك سبب للوجود وهذا سبب عنه - هو قول تقوله طائفة من الفلسفة وقد عارضهم طائفة من المتكلمين فزعموا أن ليس في العلم ما هو سبب لوجود الموجود بل العلم يطابق المعلوم على ما هو عليه فلا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة
وأولئك يقولون : علمه فعل وهؤلاء يمنعون ذلك
والتحقيق أن كلا من العلمين : علم الخالق وعلم المخلوق ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه وإلى ما لا يكون كذلك فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه فإن هذا العلم ليس سببا لهذا الموجود فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقا
وكذلك علمنا بمخلوقات الله التي لا أثر لنا فيها كالسماوات
وأما الثاني فعلم الله بمخلوقاته فإن خلق المخلوقات مشروط بالعلم بها كما قال : { ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] فالعلم بها شرط في وجودها لكن ليس هو وحده العلة في وجودها بل لا بد من القدرة والمشيئة
ومن هنا ضل هؤلاء المتفلسفة فجعلوا مجرد العلم بنظام المخلوقات موجبا لوجوده ولم يجعلوا للقدرة والمشيئة أثرا مع أن تأثير القدرة والمشيئة في ذلك أظهر من تأثير العلم مع أنهم متناقضون في ذلك فإنهم قد يثبتون العناية والمشيئة تارة وينفوها تارة
وعلم العبد بما يريد فعله من أفعاله هو أيضا شرط في وجود المعلوم فهذا العلم بهذا المحدث شرط في حصوله والمعلوم تابع للعلم المحدث هنا فليس وجود كل معلوم لنا هو علة وسببا لعلمنا مطلقا بل يفرق في ذلك بين العلم النظري والعلم العملي فبطل هذا الفرق
ثم يقال أيضا : لا ريب أن الفاعل إذا أراد أن يفعل أمرا فعلم ما يريد أن يفعل لم يكن هذا هو العلم بأن سيكون فإنه ليس كل من تصور ما يريد أن يفعل يعلم أن سيكون ما يريده بل الواحد منا يتصور أشياء يريدها ولا يعلم أنها تكون بل لا تكون ثم إذا علم العالم أن الشيء سيكون ثم كان علم أنه قد كان
فهنا في حقنا ثلاثة علوم وهو إنما ذكر في حق الله العلم المشروط في الفعل وهو الذي لا يكون المريد مريدا حتى يحصل ذلك فإن الإرادة مشروطة بتصور المراد
أما العلم بأن سيكون المراد فهذا لا يثبت بمجرد ما ذكره فإن هذا علم خبري وذاك علم طلبي ثم إذا ثبت هذا العلم جاء الشك وهو أنه هل يكون هذا العلم هو نفس العلم بوقوعه إذا وقع أم لا ؟
والمتكلمون تكلموا في هذين العلمين وأرادوا جعل أحدهما هو الآخر فكانوا أقرب إلى الصواب ممن جعل العلم بما يريده هو العلم بأن سيكون المراد وذلك هو العلم بأن قد كان
فتبين أن طريقة المتكلمين أقل إشكالا وأقرب إلى الصواب
وأيضا فيقال له : العالم بما يريد أن يفعل إذا فعله علم أنه سيكون ثم علم أن قد كان لم يخرج بذلك عن أن يكون العلم القديم شرطا في وجود المعلوم وهو من تمام علة وجوده إذا كانت نفسه مستلزمة لعلمه بالموجود بشرط فعله لها كما في سمعه وبصره لم يكن شيء من أحواله معلولا لغيره
فقوله : يلزم أن يكون العلم القديم معلولا للوجود لا علة له - ليس بلازم
وأما ما ذكره من نفي التغير فهو قد طعن في دليل المتكلمين على نفيه ولم يذكر هو دليلا على نفيه فبقي نفيه له بلا حجة أصلا إلا قوله : يلزم أن يكون العلم القديم معلولا للوجود لا علة له وليس هذا بصحيح فإنه بتقدير تجدد علم ثان لا يخرج العلم الذي به كان الفاعل فاعلا عن أن يكون علة
وأيضا فعلم الله لازم لذاته وهو الذي فعل الموجودات فإذا قيل إن ذاته أوجبت له هذا العلم بشرط فعله ما فعل لم يكن ذلك موجبا لافتقاره في العلم إلى غيره
وقوله : إنما أتى هذا من قياس الغائب على الشاهد
فيقال : جميع ما تذكره أنت وأصحابك والمتكلمون في هذا الباب لا بد فيه من مقدمة كلية تتناول الغائب والشاهد ولولا ما يوجد في الشاهد من ذلك لما تصور من الغائب شيء أصلا فضلا عن معرفة حكمه فإن أبطلت هذا بطل جميع كلامكم
وأما قوله : كما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له كذلك في العلم عند حدوث مفعوله
فيقال له : أنت قد أبطلت دليل المتكلمين على هذا الأصل الذي قاسوا عليه ولم تذكر لك عليه دليلا فإن أولئك بنوه على أن ما لا يسبق الحوادث حادث وهذا ثبت بطلانه فيجوز عندك أن تقوم الحوادث بالقديم وإذا كان كذلك لم يمتنع عندك أن يتجدد للفاعل القديم عند فعله حال من الأحوال بل أنت قد بينت في غير موضع أنه لا يعقل صدور الحوادث عن المحدث بدون هذا
وأما قوله : لا يلزمنا إذا لم يحدث هناك تغير أن لا يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه
فيقال : هذا لك ألزم منه للمتكلمين لأنك ألزمتهم أن العلم بأن ما سيكون قد كان ومعلوم أن العلم بما نريد أن نفعل ليس هو العلم بأن سيكون ولا بأن قد كان
فإن نفيت علمه بأن ستكون الموجودات قبل وجودها وعلمه بأن قد كانت بعد وجودها - كان هذا أعظم عليك وإن جعلت ذلك هو نفس علمه بما يريد فعله كان جعلهم العلم بالشيء قبل كونه واحدا أقرب إلى العقل
وأما قوله : حدوث التغير في العلم عندما يتغير الموجود هو شرط في العلم المعلول عن الموجود وهو المحدث
فيقال له : هذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أن ما ذكرته من الدليل لا يفرق
الثاني : أنه يلزم علم العبد بما يريد أن يفعله فإنه متقدم على المعلوم به الموجود وهو متغير فليس هو معلولا عن الموجود فتبين أن كونه سببا في الوجود أو تابعا له لا يمنع ما ذكر من التغير
وعلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفادا من شيء من الموجودات فإن علمه من لوازم ذاته فعلم العبد يفتقر إلى سبب يحدثه وإلى المعلوم الذي هو الرب تعالى أو بعض مخلوقاته وعلم الرب لازم له من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم والمعلوم : إما نفسه المقدسة وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها
وهذه المسألة : مسألة تعلق صفاته بالمخلوقات بعد وجودها تعلق العلم والسمع والبصر ونحو ذلك هي مسألة كبيرة
والناس متفقون على تجدد نسب وإضافات لا تقوم بذات الرب وتنازعوا فيما يقوم بذات الرب وهذا كما تنازعوا في الاستواء ونحوه : هل هو مفعول للرب يحدثه في المخلوقات من غير قيام أمر به ؟ أم يقوم به أمر ؟ على القولين
فالكلابية والمعتزلة ينفون أن يقوم بالرب شيء من ذلك وأكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام يجوزون ذلك وأما النسب والإضافات فتتجدد باتفاقهم و ابن عقيل يسمي هذه النسب والإضافات الأحوال ولعله سماها بذلك كما يسمى غيره كونه عالما وقادرا حالا معللة بالعلم والقدرة كما هي طريقة القاضي أبي بكر ومن وافقه كالقاضي أبي يعلى و ابن عقيل وغيرهما
وهؤلاء يقولون - تبعا لأبي هاشم - إن الحال لا موجودة ولا معدومة وكذلك هذه النسب والإضافات على قولهم أو أن يكون ابن عقيل شبه ذلك بالأحوال التي يثبتها أبو هاشم ويجعلها لا موجودة ولا معدومة كذلك هذه النسب والإضافات
ولأهل الحديث والتفسير والكلام وغيرهم من الكلام في هذه المسألة ما هو معروف ولهذا صار طائفة من أهل الكلام كهشام بن الحكم والجهم وأبي الحسين البصري والرازي وغيرهم - إلى إثبات أمور متجددة
والكلام على هذا متعلق بما ذكره الله في القرآن في غير موضع كقوله : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة : 143 ]
وقوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران : 142 ]
وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء } [ آل عمران : 140 ]
وقوله : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } [ آل عمران : 165 ] إلى قوله : { فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا } [ آل عمران : 165 - 166 ] الآية
وقوله : { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } [ الكهف : 12 ]
وقوله : { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } إلى قوله : { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } [ العنكبوت : 3 - 11 ]
وغير ذلك في كتاب الله هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون
وقد نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم فهو كافر ومن هؤلاء غلاة القدرية الذين ينكرون علمه بأفعال العباد قبل أن يعملوها والقائلون بالبداء من الرافضة ونحوهم
وإنما المسألة الدقيقة أنه عند وجود المسموع والمرئي والمعلوم إذا سمعه ورآه علمه موجودا فهل هذا عين ما كان موجودا قبل وجود ذلك ؟ أو هناك معنى زائد ؟
وأما قول من قال من الفلاسفة : إنه لا يعلم إلا الكليات فهذا من أخبث الأقوال وشرها ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة وهؤلاء شر من المنكرين لعلم القديم من القدرية وغيرهم
وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون : إنه لا يعلم الجزئيات بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزيئات العالم فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل وعدم معرفته بحقيقة مذهبهم فإنه دائما يتعصب لأرسطو صاحب التعاليم المنطقية والإلهية وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه ما بعد الطبيعة وقد ذكر بألفاظه أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ورد ذلك عليه أبو البركات مع تعظيمه له
وأرسطو ينكر علم الرب بشيء من الحوادث مطلقا وكلامه في ذلك وحججه من أفسد الكلام كما سنذكره إن شاء الله
ولكن ابن سينا وأمثاله زعموا أنه إنما يعلم الكليات والجزئيات : يعلمها على وجه كلي وهؤلاء فروا من وقوع التغير في علمه
وأما من قبل أرسطو من المشائين فلا ريب أن في كلامهم ما هو خير وأقرب إلى الأنبياء من كلام أرسطو ولهذا نقل عنهم أنهم كانوا يقولون بحدوث الأفلاك وأن أرسطو أول من قال بقدمها من المشائين
وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات فاستدلال ضعيف فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة قالوا : إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء و المضنون وغير ذلك من كتبه وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة يذكرون اللوح المحفوظ ومرادهم به النفس الفلكية ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه
ومن علم دين الإسلام الذي بعث الله به رسله علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام كما قد بسط في موضع آخر إذ تنزيهه هنا للفلاسفة المشائين عن أن يكون هذا كلامهم هو تعصب جسيم منه لهم
وهذا نظر سيء في نقل أقوال الناس وليس تحقيق هذا من غرضنا هنا
والفلاسفة طوائف متفرقون لا يجمعهم قول ولا مذهب بل هم مختلفون أكثر من إاتلاف فرق اليهود والنصارى والمجوس وكلام المشائين في الإلهيات كلام قليل الفائدة وكثير منه بلا حجة
والنقل المذكور موجود في كتب المتبعين لهم كابن سينا وأضرابه وقد نظرت فيما نقل عنهم من الأقوال في العلم فوجدتها عدة مقالات لكن من الناس من يحكي عنهم قولين أو ثلاثة ومن الناس من لا يحكي إلا قولا واحدا وقد وجدت أربعة مقالات منقولة عنهم صريحا في كتب متعددة
فنقل طائفة عنهم ك الشهرستاني وغيره في العلم ثلاث مقالات
قالوا : ذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات وهي غير معلومة عنده أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال
وذهب قوم منهم إلى أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات
وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعا على وجه لا يتطرق إلى علمه نقص وقصور
فهذا القول الثالث هو شبيه بالقول الذي اختاره ابن رشد وأما القول الثاني والأول فهما اللذان حكاهما الغزالي عن الفلاسفة
قال : منهم من قال : لا يعلم إلا ذاته ومنهم من يسلم أنه يعلم غير ذاته
قال : وهو الذي اختاره ابن سينا فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي لا يدخل تحت الزمان ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيرا في ذات العالم وذكر الغزالي أنهم اتفقوا على أنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون
قال : فمن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه لا يخفى فساد هذا من مذهبه ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره كما اختاره ابن سينا فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي
قلت : ول أبي البركات صاحب المعتبر مقالة في العلم رد فيها على أرسطو ونصر فيها أنه يعلم الكليات والجزئيات
وما ذكره ابن رشد عنهم من أنهم يرون أن العلم سبب الإنذار بالجزئيات
فيقال : أما الفلسفة الموجودة في كتب ابن سينا وأمثاله ففيها أن ذلك من العقل الفعال والنفس الفلكية وعندهم ذلك هو المنذر بذلك ويسمون ذلك اللوح المحفوظ ومن ذلك ينزل عندهم الوحي على الأنبياء ومن ذلك كلم موسى وكثير من المتصوفة الذين سلكوا مسلكهم قد دخل ذلك في كلامهم
فإن كان فريق غير هؤلاء المتفلسفة يجعله ذلك من علم الله فلا ريب أن من جعل الله منذرا لعباده بالجزئيات لزم أن يكون عالما بها فإن الإعلام بالشيء فرع على العلم به وهذا ما يثبت القول الثالث المحكي عنهم
وذكر أبو البركات في معتبره الأقوال الثلاثة : قول من قال : لا يعلم إلا ذاته وذكره عن أرسطو وذكر ألفاظه و ابن رشد هو يعظم أرسطو إلى الغاية وهو من أعظم الفلاسفة عنده فكيف ينفي هذا القول عنهم ؟ !
وذكر أبو البركات قول ابن سينا وذكر عنهم القول الثالث وهو أنه يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات على اختلاف الحالات مما هو كائن وما هو آت
وهذا القول ينزع إلى قولين : أحدهما : القول الذي اختاره ابن رشد الذي قربه من التغير ولم يجب عنه والثاني التزام هذا اللازم وبيان أنه ليس بمحذور وهذا قد اختاره أبو البركات كما يختاره طوائف من المتكلمين كأبي الحسين والرازي وغيرهما وكما هو معنى ما دل عليه الكتاب والسنة وذكره أئمة السنة
فصارت الأقوال للفلاسفة في علم الله أربعة أقوال بل خمسة بل ستة بل سبعة وأكثر من ذلك القول الذي ذكره ابن سينا والقول الذي اختاره ابن رشد والقول الذي اختاره أبو البركات وهذان القولان هما القولان اللذان يقولهما نظار المسلمين
وقول أرسطو و ابن سينا فلا يمكن أن يقولهما مسلم ولهذا كان ذلك مما كفرهم به الغزالي وغيره فضلا عن أئمة المسلمين ك مالك و الشافعي و أحمد فإنهم كفروا غلاة القدرية الذين أنكروا علمه بالأفعال الجزئية قبل وجودها فكيف من أنكر علمه بالجزئيات كلها قبل وجودها وبعد وجودها ؟ !
ول السهروردي المقتول قول آخر سنحكيه بعد إن شاء الله وكذلك ل الطوسي قول قريب منه مضمونه أن العلم ليس صفة له بل هو نفس المعلومات

كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه
قال أبو البركات : فأما معرفته وعلمه فقد اختلف فيه كثير من العلماء من المحدثين والقدماء يعني علماء النظار من الفلاسفة لا يعني به أتباع الأنبياء
قال : فقال قوم منهم : إنه لا يعرف ولا يعلم سوى ذاته وصفاته التي له بذاته وقال آخرون : بل يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات على اختلاف الحالات فيما هو كائن وفيما هو آت وقال آخرون : بل يعرف ذاته بذاته والصفات الكلية من مخلوقاته والذات الدائمة الوجود من معلولاته ولا يعرف الجزئيات ولا يعلم الكليات الفاسدات المتغيرات المستحيلات ولا شيئا من الحوادث من الأفعال والذات
قال : واشتهر القول بين المتفلسفة من القدماء بالمذهب الأول أعني تنزيه الذات فقط وبين المحدثين القول الثالث : وهو معرفة الكليات وضعفت بينهم حجج القائلين بمعرفة الجزئيات لتدقيق النظر وتقرير أصول لم تحرر وافقهم عليها السامعون فألزمهم بتصديقهم من حيث لا يشعرون
قال : ونحن الآن نقتص مذاهب الذين يقولون بأنه تعالى لا يعرف الجزئيات وحججهم ثم نشرع في اعتبارها والنظر فيها وفي مذهب القائلين بخلافها ونجري على العادة في توفية كل مذهب حجته مما قيل ومما لم يقل حتى ينتهي النظر إلى الحجة التي لا مرد لها ولا حجة تبطلها فنعرف الحق فيها
ثم قال : الفصل الرابع عشر : في شرح كلام من قال : إن الله لا يحيط علما بالموجودات
قال أرسطو طاليس ما هذه حكايته فيما بعد الطبيعة : فأما على أية جهة هو المبدأ الأول ففيه صعوبة فإنه إن كان عقلا وهو لا يعقل كالعالم النائم فهذا محال وإن عقل أفترى عقله في الحقيقة لشيء غيره ؟ وليس جوهره معقوله لكن فيه قوة على ذلك وبحسب هذا لا يكون جوهرا فإن كان هذا الجوهر بهذه الصفة أعني أنه عقل فليس يخلو أن يكون عاقلا لذاته أو لشيء آخر
فإن كان عاقلا لشيء آخر فلا يخلو أن يكون عقله دائما لشيء واحد أو لأشياء كثيرة
فإن كان معقوله لأشياء كثيرة فمعقوله على هذا منفصل عنه فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته لكن في عقل شيء آخر أي شيء كان
إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة
وإن كان هكذا فلا محالة أنه يلزمه الكلال والتعب في إيصال للمعقولات ومن بعد فإنه يصير فاضلا بغيره كالعقل في المعقولات فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصا ويكمل بمعقولاته
وإن كان هذا هكذا فيجب أن يهرب من هذا الاعتقاد وإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها فكمال ذلك العقل إذ كان أفضل الكمالات يجب أن يكون بذاته لها فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات
وهذا يوجد هكذا دائما دون تعرف أو حسن أو رأي أو فكر فهذا ظاهر جدا فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره فإما أن يكون شيئا واحدا دائما أو يكون علمه بما يعلمه واحدا بعد آخر
وهذه الأمور بالهيولى غير الصورة فأما في الأمور العقلية فطبيعة الأمر وكونه معقولا شيء واحد فليس العقل فيها شيئا غير المعقول
وبالجملة فجميع الأشياء العرية عن الهيولى فمعنى العقل والمعقول فيها واحد
قلت : وقد صنف أبو البركات مقالة في العلم ذكر فيها نحو ما ذكره في المعتبر وقال : هذا القول هو الذي نقل عن أرسطو طاليس في مقالة اللام من كتابه المعروف بـ ما بعد الطبيعة وقد تداولته العقلاء وتصرفت فيه العقول وأكثر فيه المفسرون والغرض منه ظاهر وهو إجلال المبدأ الأول عن أن يكون له كمال بغيره فيكون بذاته ناقصا بالقياس إلى ذلك الكمال وتكون له غيرية بإدراك الأبصار وتغير بإدراك المتغيرات وتعب باتصال إدراكها وازدحامها وخروجه من القوة إلى الفعل فيفعلها
قال : وإذا كان هذا مفهوم الكلام قد لاح عن كثب فلا حاجة إلى التطويل وهذا قول إذا تتبع بطريقة النظر المحض لم يثبت له قدم فيه وساق كلامه عليه
قال أبو البركات في المعتبر : وقد كان أرسطو قال قبل هذا ما قصد به أن ينفي عنه أن تتجدد له الأحوال ويمنع به تغيره من حال إلى حال حتى يحكم بذلك في العلوم والمعارف
قال : وليس يمكن في العلة الأولى أن تنفعل وجميع هذه هي حركات توجد بآخرة بعد الحركة المكانية وجميع هذه هي بينة على هيئة على هذه الصفة
ثم ذكر عبارة ابن سينا في هذه المسألة كما سنذكره
وكلام أرسطو فيه أربعة أمور :
أحدها : أن العلم بالغير يوجب كونه كاملا بغيره فأن لا يبصر بعض الأشياء أولى من أن يبصرها
الثاني : أن علمه بالمتغيرات يوجب تعبه وكلاله
الثالث : أن هذا نوع من الحركة يستلزم تقدم الحركة المكانية
الرابع : أن علمه الأشياء نوع حركة يوجب كثرة العلوم فيكون هو لها كالهيولى للصورة
ومدار الحجج على أن العلم يوجب الكثرة والتغير والاستكمال بالمعلوم
قال أبو البركات : الفصل الخامس عشر : في اعتبار الحجج المنقولة عن أرسطو طاليس : أما قول أرسطو بأن تعقله للغير كمال يوجب له نقصا باعتبار لا كونه فيرد بأن يقال فيه على طريق الجدال الذي يلزمه الإذعان له وهو أن يقال : إنك تعرفه مبدأ أولا وخالق الكل فنقول في خلقه مثلما قلت في تعقله
فإن قلت : الخلق لزم عن ذاته
قلنا : والتعقل لزم عن ذاته
وإن قلت : إن ذلك يمنعه عنه حتى لا يجعل له به كمالا أعني كونه يعقل الأشياء
قلنا : فامنع هذا أيضا أعني كونه يخلق الأشياء حتى لا يكون له به كمال فيما لا يخلق لا يكون خالق المخلوقات ومبدأ أول لها كما أنه بما لا يعقل لا يكون عاقل المعقولات ولو بما لا يعقل واحدا منها مثلما لا يخلق واحدا منها فإن الذي لزم في علم المعلوم يلزم مثله في خلق المخلوقات أو إبداع المبدع فإنه بقياس لا وجوده عنه ليس بخالق ولا مبدع فإن لم يوجب هذا نقصا لم يوجب ذاك وإن أوجب ذاك فقد أوجب هذا وإجلاله عن ذلك كإجلاله عن هذا وقدرته على هذا كقدرته على ذاك فلم نزهته عن ذاك ولم تنزهه عن هذا ؟ ولم خشيت عليه التعب في أن يعقل ولم تخشه عليه في أن يفعل ؟
قال : فهذا جواب كاف في رده على مذهب المجادلة
قلت : قوله على مذهب المجادلة - يعني المعارضة والنقض - التي تبطل حجة المستدل وتبين أنها فاسدة وإن لم يعلم حلها وذلك أن ما ذكره في العلم يلزم مثله بطريق الأولى في الفعل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن كون الشيء مفعولا دون كونه معلوما فإن المفعولات دون الفاعل وليس كل معلوم دون العالم فالإنسان يعلم ما هو أكمل منه ولا يفعل ما هو أكمل منه فالمفعول يجب أن يكون دون الفاعل ويجب أن يكون الفاعل أكمل من المفعول ولا يجب مثل ذلك في العالم والمعلوم بل يجوز أن يعلم العالم ما هو أكمل منه وما لا يفتقر إليه بوجه من الوجوه وأما مفعوله فهو مفتقر إليه
فإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له مما يوجب نقصا له وكمالا بها فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصا له وكمالا بها بطريق الأولى إذ كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة له فإذا كانت فاعليته لا تتم إلا بها ولم يكن ذلك نقصا فأن لا تكون عالميته التي لا يتم إلا بها نقصا بطريق الأولى
وذلك من وجوه :
أحدها : أن كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة
الثاني : أن لزوم الفعل له أولى بأن يجعل نقصا من لزوم العلم له
الثالث : أن استلزام الفاعلية المفعول أولى من استلزم العالمية لوجود المعلوم فإن العالم قد يعلم المعلوم معدوما ويعلمه ممتنعا ويعلمه قبل وجوده وأما الفعل فلا يكون إلا لما يوجد بالفعل لا لما يكون معدوما مع وجود الفعل وحينئذ فتوقف كونه فاعلا على وجودها أولى من توقف كونه عالما على وجودها
الرابع : أنه إذا قيل : فعله لها لا يوجب احتياجه إليها بل هي المحتاجة إليه من كل وجه وكماله بفعله الذي هو من ذاته لا منها قيل : وعلمه بها لا يوجب حاجته إليها بوجه بل العالم أغنى عن المعلوم من الفاعل إلى المفعول إذ لا يعقل في الشاهد فاعل إلا وهو محتاج إلى فعل بل ومفعوله ويوجد عالم لا يفتقر إلى معلوماته بل ولا إلى علمه بكثير من المعلومات وإن كان علمه بها صفة كمال وجوده أكمل منه
وإذا قدر أن بعض الأفعال لا يحتاج إليه بل هو صفة كمال
قيل : الفعل الاختياري لا يكون إلا بإرادة وحاجة الإنسان إلى وجود كل مراد مطلقا أعظم من حاجته إلى العلم بما يعلمه مطلقا تعلق النفوس بمراداتها أعظم من تعلقها بمعلوماتها
ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن علي : قيمة كل امرئ ما يحسن ولا يصح هذا عن علي ويقول أهل المعرفة : قيمة كل امرئ ما يطلب
فكمال النفوس ونقصها بمرادها أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها
بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصا وأما إرادة بعض الأشياء فيوجب لها نقصا فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصا فكيف بعلمه بذلك ؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاجا إليها مستكملا بها فكيف يوجب ذلك علمه بها ؟
ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها وأما كونه لا يعلمها فلا يعقل كونه نقصا إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم لا أن نفس العلم يذم فإذا كان فعله لبعض الموجودات ليس أكمل من فعله لها كلها ولم يكن أن لا يفعلها أكمل من أن يفعلها فكيف يكون أن لا يبصرها أفضل من أن يبصرها ؟
وإذ قيل : هو فاعل لبعضها بتوسط بعض
قيل : كيفما قدرت وجود الفعل ونفي كونه نقصا كان تقدير وجود العلم ونفي كونه نقصا أولى وأحرى
فإن قلت : فعله للمفعول الأول لازم لذاته وهلم جرا ولا يكون نقصا
قيل : إن قدر أن هناك معلولا أول يلزمه فإن علمه بنفسه إذا كان يستلزم علمه بالمعلول الأول ولوازمه لم يكن نقصا بطريق الأولى
وإذا قيل : إن في التعقلات تعبا
قيل : من لم يتعب بالفعل فأن لا يتعب بالعلم بطري الأولى فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل ؟ فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل ولكن يتعب بعلمه بالمفعول مع كونه عقلا ؟ والعقل الذي هو العلم أولى به من الفعل
وهم يعلمون - وكل عاقل - أن نفس الإنسان لا يتعب بالعلم كما يتعب بالفعل وكذلك بدنه إذا قدر فعل لا يكون استحالة وتغيرا فلأن يقدر علم به لا يكون استحالة وتغيرا بطريق الأولى وإذا قدر فعل لا يوجب حركة مكانية فالعلم به أن لا يوجب ذلك أولى وأحرى
ففي الجملة كل ما توهم المتوهم أنه نقص في العلم مثل كونه استكمالا بالغير أو كونه تغيرا أو كونه متعبا مثله في فعل ذلك لغير المعلوم بطريق الأولى وإذا كان الفعل لا نقص فيه بل هو كمال فكذلك للعلم وللغير المذكور هو مفعوله ومخلوقه الذي هو أبدعه
فإذا قيل : إن كماله به فليس كماله إلا بنفسه إذ هو المبدع له فلم تفتقر نفسه إلى غير نفسه ونحن نعقل أن ما هو غني عنا علمنا به أكمل من أن لا نعلمه وإن كان غنيا عنا فلو قدر أن في الوجود ما ليس مفعولا له كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه فكيف إذا كان هو مفعوله ؟
وهل يقال : إن من علم الأشياء بعلوم متجددة بل علمها بعد وجودها أنقص ممن لا يعلمها بحال فكيف يكون من لا يعلمها قبل وجودها وبعد وجودها ؟
ولو سمى مسم العلم بالمتغيرات تغيرا وحركة واستكمالا بالغير ومهما سماه من ذلك فإذا قيس من يعلم الإشياء إلى من لا يعلمها كان الأول أكمل بكل حال
ولهذا كان الإنسان القابل للعلم أكمل من الجماد وإن كان في علمه من التغير والحركة ما ليس في الجماد وأيضا فمن يكون حيا حساسا يقدر على الحركة أكمل ممن لا يكون كذلك وكلما كانت صفات الكمال أكمل كان الموصوف أكمل فإن الإنسان أكمل من الحيوان البهيم والحيوان أكمل من الجماد وإن قدر أن علمه وفعله مستلزم للحركة بل للحركة المكانية فهو أكمل ممن لا علم له ولا يتحرك بإرادته فالمتحرك بإرادته أكمل ممن لا يمكنه الحركة البتة هذا هو المعقول في الموجودات
وكلما تدبر الإنسان ونظر في الأدلة المعقولة تبين له أن ما ذكره عن أرسطو من الحجج لنفي العلم من أفسد الحجج بل هي الغاية في الفساد وهي مبنية على مقدمتين

ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه
إحداهما : إن العلم يستلزم أمورا
والثانية : أنه يجب نفي تلك الأمور لكونها نقصا
وهذا باطل من وجوه :
منها : المعارضة بما تقدم
ومنها : أن نفي العلم أعظم نقصا من تلك اللوازم فلو قدر أنها تتضمن ما يسمونه نقصا لكان ما يتضمنه نفي العلم من النقص أعظم فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذرا من أدناهما إذا قدر أن كلاهما قد جعله هؤلاء نقصا
ومنها : أن ما ذكره من المقدمة الأولى اللزومية مما ينازعهم فيه كثير من الناس
ومنها : أن كون تلك اللوازم نقصا مما ينازع فيه كثير من الناس
ومنها : أنه يستفصل عن الحدود المذكورة في المقدمتين فإنها ألفاظ مجملة وحينئذ فلا بد من منع الملزوم أو انتفاء اللازم فإما أن لا يسلم ما ذكروه عن اللزوم وإما أن لا يسلم ما ذكروه من انتفاء اللازم
ومنها : بيان أن لوازم العلم كلها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه
ومنها : أن ما ذكره مبني على وجوب ثبوت الكلام للرب تعالى وتنزيهه عن النقص وهذا حق كما قررناه في غير موضع وبينا أن الكمال الممكن وجوده الذي لا نقص فيه بوجه يجب إثباته لله تعالى وأن العلم من أعظم الكمالات الذي لا نقص فيه بوجه وقد وجد العلم في الوجود فثبوته له أولى من ثبوته لغيره وأن العلم من حيث هو علم لا يستلزم نقصا أصلا ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق فقد يضرها معرفة تلك الحقائق فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر
أما المقدس المنزه عن كل عيب فعلمه من تمام كماله وهو مما يحمد به ويثنى به عليه لا يستلزم الذم والنقص بوجه من الوجوه فكيف إذا علم وجود العالم وامتناع وجوده بدون العلم وامتناع كونه فاعلا لشيء إلا مع علمه به ؟ إلى غير ذلك من الدلائل البرهانية المثبتة لوجوب كونه تعالى عليما بكل شيء
لكن نحن في هذا المقام في أبطال شبه النفاة لا في بيان حجج المثبتين وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن فإن من لا يلزمه تعب ولا نقص في خلق المخلوقات فأن لا يلزمه ذلك في علمه بها أولى وأحرى
وهذا مما يبين أن قول اليهود الذين وصفوه بالتعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه استراح بعد ذلك - أقرب إلى المعقول من قول أرسطو وأتباعه الذين يقولون : لو كان عالما بهذا لتعب لكن هذه المعارضة مبنية على أنه علة فاعلة للعالم سواء قيل : إنه فاعل له بالإرادة أو موجب له بذاته بلا إرادة
وكونه مبدأ للعالم هو مما اتفق عليه الأمم من الأولين والآخرين ووافقهم على ذلك أئمة أتباع المشائين كابن سينا وأمثاله وأما أرسطو فليس في كلامه إلا أنه علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه به ليس فيه أنه مبدع للعالم
وهذا وإن كان في غاية الجهل والكفر فكلامه في علمه مني على هذا وإبطال كلامه في العلم ممكن مع تقدير هذا الأصل الفاسد أيضا من وجوه فإن حقيقة قول أرسطو وأتباعه : إن الرب ليس بخالق ولا عالم
وأول ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 1 - 5 ]
وكذلك قوله : { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 1 - 3 ]
وقوله موسى لفرعون : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] وأمثال ذلك
وهؤلاء عندهم لم يخلق شيئا ولم يعلم أحدا بل هو في نفسه ليس بعالم فكيف يعلم غيره ويهديه ؟

بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه
قال أبو البركات : فأما الجواب النظري البرهاني فهو أن نقول : ليس كماله بفعله بل فعله بكماله وعن كماله ومن فعله عقله فعقله عن كماله الذاتي الذي لا وجه لتصور النقص فيه ولا القول به فإن النقص في ذات المبدأ الأول غير متصور لأنه واحد والنقص إنما يتصور في موضع الزيادة والنقصان والزيادة والنقصان معا إنما هي من صفات الكثرة والغيرية حيث تتصور في الكثرة قلة وفي الزيادة نقصان كل واحد بقياس الآخر فأما حيث لا كثرة ولا غيرية بل وحدة محضة فلا يتصور نقص وكيف والنقص من الصفات الإضافية حيث يقال : نقص كذا كما يقال : زاد كذا ؟
فالنقص المتصور في الذات الأحدية أي نقص يكون ؟ ونقص ماذا يكون ؟ وكيف يتصور ؟ لا أقول : كيف يقال ؟ فإن القائل قد يقول ما لا يتصوره لكن العالم لا يعلم ما لا يتصوره إثباتا ولا نفيا
فإن قيل : إن النقص ها هنا متصور بقياس ذاته وهو أن لا يعقل كذا لولا كذا المعقول أي لا يعقل لولا المعقول قلنا : إن الكمال الذي له ليس هو بأن يعقل كل موجود بل كونه بحيث يعقل كل موجود فإن كان المعقول موجودا عقله وإن فرض غير موجود لزمه فرض أن لا يعقله لا لأنه لا يعقله أي لا يقدر على عقله بل النقص من جانب العدم المفروض فكماله وقدرته له بذاته ويلزم عنهما ما له بالقياس إلى موجوداته فما كمل بإيجاد مخلوقاته بل وجدت مخلوقاته عن كماله
وليس هذا القول في المبدأ الأول فقط بل وفينا أيضا فإنا لسنا نكمل بكل معقول بل إنما كمالنا بقدرتنا على أن نعقله وإنما نكمل بما نعقله بالفعل حيث نعقل بالفعل معقولات أشرف منا وذلك نوع آخر من الكمال فإن العقل له بذاته الكمال الذي هو قدرته على أن يعقل وله بأن يعقل وذلك أمر له من ذاته : عقل بالفعل أم لم يعقل وله كمال عرضي إضافي اكتسابي بما يعقل معقولات هي أشرف منه وذلك ليس للأول إذ ليس أشرف منه في الموجودات حتى يشرف ويكمل بعقله له وليس إذا ارتفع هذا عنها ارتفع ذاك فإن ذاك هو الأول والذي بالذات - أعني كونه بحيث يعقل وقدرته على أن يعقل - فهو كماله الذاتي الذي به شرف وجل وعلا عما لا يعقل والآخر هو الثاني والذي بالعرض أعني كماله بمعقولاته وشرفه بها فإن كوننا بحيث نعقل ما نعقله شرف لنا وكمال بالقياس إلى ما ليس له ذلك
وكثير من المعقولات التي نعقلها لا نشرف بها وليس الشرف الحاصل من الفعل هو الشرف الذي بالقدرة فإن الذي بالقدرة قبل الفعل ومعه وبعده والذي بالفعل يحصل مع الفعل وبه وبعده ولا يكون قبله فما شرف الله بمخلوقاته بل خلق بشرفه أعني : ما خلق فشرف بل شرف فخلق وكذلك ما علم فكمل بل كمل فعلم
قلت : ملخص هذا أن الكمال هو الذي يجب له أزلا وأبدا وهو لازم لا يتجدد منه شيء وهو كونه بحيث يفعل ويعقل لا نفس وجود الفعل المعين والعلم المعين وهذا هو القدرة على الفعل والعقل وهذا له بذاته لا يتوقف على شيء من الموجودات
ولهذا قال : إن النقص غير متصور في الذات الواحدة فإن النقص يستلزم التعدد ولا تعدد هناك
لكن قد يقال على هذا : إنه وإن كان الذات واحدة فإذا كانت الصفات متعددة كالقدرة والعلم أمكن تقدير أحدهما دون الآخر فالكمال هو بوجود الجميع والنقص معقول بعدم بعض ذلك
لكن ما قاله لازم لمن ينفي الصفات من الجهمية والفلاسفة ويقدر ذاتا لا صفة لها أو وجودا مطلقا لا يختص بأمر فهذا لا يعقل فيه كمال ولا نقص
وأرسطو من نفاة الصفات وقد قدر أنه يكمل تارة ولا يكمل أخرى وجعل أحد الأمرين أكمل له من الآخر وأصحاب أرسطو يقولون : هذا إنما يمكن تقديره في الأمور الإضافية والسلبية
فيقال لهم : أما الإضافات فإنها تتجدد عندكم فإن قلتم : إنها كمال لزم أن يتجدد له الكمال وهو خلاف أصلكم
وإن قلتم : ليست بكمال بطل تقدير الكمال لامتناع تقدير النقصان
ولكن قد يقال : تقدير النقصان في الواحد المسلوب الصفات غير متصور كما قال أبو البركات لكن يمكن تقدير كمال منتظر ونفيه وهو الذي نفاه أرسطو
و أبو البركات جعل الكمال في نفس القدرة اللازمة له لا فيما ينتظر لكن أبو البركات من مثبتة الصفات فما ذكره وهو أن عدم إمكان النقص في الواحد من كل وجه تقريرا لامتناع النقص عليه وامتناعه بوجه كماله فيكون فعله عن كماله

الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا الوجه الأول
ويقال : يمكن الجواب عن شبهة أرسطو من وجوه أخر غير ما ذكره أبو البركات
أن يقال : العلم لازم لذاته أزلا وأبدا ليس شيئا متجددا فلا يحتاج أن يقال : كماله في أن يقدر على العقل كما قال أبو البركات
بل نفس العقل الذي هو العلم في لغة المسلمين أمر لازم لذاته كما قال أبو البركات في القدرة
وحينئذ فليس كماله بغيره بل بعلمه الذي هو من لوازم ذاته الذل لم يزل ولا يزال كما أن كماله بقدرته كذلك
وكون العلم متعلقا بغيره مثل كون القدرة متعلقة بغيره وكما أن القدرة صفة كمال لا يقدح فيها أنه لا بد لها من مقدور فالعلم كذلك وأولى لأنه يتعلق بنفسه ويتعلق بغيره والقدرة لا تكون قدرة إلا على غيره

الوجه الثاني
أن ما ذكرناه من أن الأعيان الذين يتعلق بهم العلم والقدرة هم مخلوقاته الذين لم يشركه أحد في خلقهم وهم كلهم محتاجون إليه لا إلى غيره فما في الوجود إلا نفسه ومخلوقاته التي لا وجود لها إلا بنفسه فلم يكن تعلق صفاته بمخلوقاته بأعظم من تعلق ذاته بهم وكما أن تعلق ذاته بهم هو من كماله لا من نقصه فتعلق علمه وقدرته بهم كذلك ومعلوم أن وجود ذاته دون لوازم ذاته ممتنع باتفاق العقلاء فيمتنع عند المسلمين وجوده بدون علمه وقدرته
وجماهير المسلمين يقولون : إن إرادته من لوازم ذاته سواء قالوا : إنها واحدة بالعين أو متعددة وإذا كانت إرادته من لوازم ذاته فيمتنع وجوده بدون وجود مراداته التي هي مخلوقاته فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والمتفلسفة يقولون : إن وجوده بدون وجود معلولاته ممتنع ومع هذا فلم يكن كونه ملزوما لغيره نقصا فكيف يكون كون علمه ملزوما للمعلوم نقصا مع أنه هو خالق المعلومات ؟

الوجه الثالث
جواب من يقول : إنه يعلم الأشياء كلها بعلم قديم أزلي وأنه لا يتجدد عند تجدد المعلومات إلا تعلق العلم بها كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام ومن اتبعهم من الفقهاء فهؤلاء يقولون : إن العلم لا يقف على شيء أصلا بل هو حاصل أزلا وأبدا على وجه واحد

الوجه الرابع
جواب من يقول : إنه يعلم الشيء موجودا بعد أن علمه معدوما وأن هذا الثاني فيه زيادة على الأول فهؤلاء يقولون : لم يحصل المعلوم والعلم الثاني إلا بقدرته ومشيئته فما استفاد شيئا من غيره ولا كمل بغير نفسه ويقولون : إن ما لا يكون إلا بمشيئته وقدرته يمتنع وجوده في الأزل ووجوده بقدرته ومشيئته أكمل من عدم وجوده فوجوده على هذه الحال هو غاية الكمال وعدم هذا الكمال هو النقص الذي يجب تنزيهه عنه فإنه كمال ممكن الوجود لا نقص فيه وكل ما كان كذلك كان واجبا له إذ لو لم يكن واجبا له لكان : إما ممتنعا - وهو خلاف الفرض - أو ممكنا وحينئذ فالمقتضى له هو ذاته بلوازمها وقد وجد ذلك فيجب وجوده وإلا فيكون ممتنعا وهو خلاف الفرض
وبهذين الجوابين يزول ما يقدح به كلام أبو البركات حيث جعل العقل بالفعل ليس كمالا وإنما الكمال في القدرة عليه ولم يجعل الكمال إلا في عقل الأفضل لا الأدنى فإن هذا مما نازع فيه
ويقال : ما كان كمالا إذا كان بالقوة فهو إذا صار بالفعل أكمل وأكمل فكيف تكون القدرة على الفعل والعقل للأشياء الخسيسة كمالا ؟ ولا يكون خروج القوة في الفعل ونفس فعلها وعقلها كمالا ؟
ولكن يقال : ما كان يمتنع وجوده أزليا ولا يمكن أن يوجد إلا حادثا ليس الكمال إلا في إحداثه ولا في فعله في الأزل وإذا قدر أن علمه موجود لا يمكن تحققه إلا بعد وجوده كان أن يعلم موجودا بعد وجوده أكمل من أن لا يعلم موجودا وإن علم أنه سيوجد
وأما قول أبي البركات : ما كمل بفعله وعقله بل فعل وعقل بكماله فهو صحيح إذا أريد بالكمال ما هو أزلي للذات لا يمكن تجدد شيء من أفراده كما لا يتجدد نوعه
وأما إذا أريد بالكمال ما يتضمن جميع ما يمكن وجوده من الكمال على الوجه الذي يمكن
فيقال : كماله بنفسه وذاته ونفسه تتضمن ما يقوم به من صفاته وأفعاله فلم يكمل بشيء مباين له وما كان داخلا في مسمى اسمه فليس هو مباينا له ولا يطلق القول عليه بأنه مغاير له
وحينئذ فكماله بذلك مثل كماله بذاته وصفاته اللازمة وما كان حدوثه حيث تقتضي الحكمة حدوثه على الوجه الممكن فهو كمال في ذلك الوقت لا كمال في غيره وذلك إنما حصل بنفسه ولها لم يحصل بغيره ولا لغيره
وعلى هذا فإذا قيل : لو عقل لكمل له
يقال : إن أردت بقولك : كمل به إن ذلك بغير أعطاه الكمال فذلك باطل وإن أردت أنه لولا ذلك الغير لما وجد العلم به فيقال : نعم
وهذا لا يضر لوجوه
أحدها : أنه هو الذي أوجد ذلك الغير وبقدرته ومشيئته وجد وهو ولوازمه فلم يكن ما حصل له حاصلا إلا به وحده
الثاني : أنه لو قدر موجودا بغيره لكان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه
الثالث : إذا كان العلم بالغير مشروطا بالغير ولولا الغير لما حصل والغير حاصل على التقديرين : علم أو لم يعلم فوجود الغير - مع فوت الكمال الذي يمكن معه - هو النقص إذ النقص هو فوت ما يمكن وجوده لا ما لا يمكن والعلم صفة كمال والعلم بكل شيء ممكن فوجود هذا كمال وعدمه نقص

عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية
قال أبو البركات : فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الأغيار والكثرة بكثرة المدركات - فجوابه المحقق : أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافاته ومناسباته وتلك مما لا تعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت له وجوب وجوده بذاته
ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبته وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقيته وذاته وهويته ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا في مدركاته ومضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي لا معنى في نفس الذات وذلك مما لا تبطله الحجة ولم يمنعه برهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى
قلت : أرسطو إنما اعتمد على نفي التغير إذا علم شيئا بعد شيء فأما كثرة المعلومات مع قدم العلم فلم يتعرض له وكأنه عنده غير ممكن
قال أبو البركات : فأما الذي قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة في بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول : إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك المتغير حركة مكانية
قال أبو البركات : وهذا محال فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك في المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنها تكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه ؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض الذوات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيها أبدا فإن الحجر الكبير يسخن ولا يصعد ويبرد ولا يهبط بل ولا يتحرك من مكانه وإنما ذلك مما يصعد بالبخار من الماء ويدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك
والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما تتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها كما قال : إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية
وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبين وهو في مكانه لم يتحرك ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع
ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى المتغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات
فالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وإلا لكانت الأشياء كلها على حال واحدة
وهو قدم هذا على كلامه في العلم حتى يجري عليه الحكم في المعرفة والعلم فاعتبر بهذا فإن استقصى لهذا القول البحث أمكن أن يرجع إلى أصل ويصح على وجه لكنه مع ذلك لا ينتصر به القول الذي أبطلوا به معرفة الله وعلمه بالحوادث
فأما الأصل الذي يرجع إليه باستقصاء النظر في التأويل له فهو أن يقال : إن الشيء إذا تسخن بعد برده أو تبرد بعد سخونة وتبيض بعد سواد وتسود بعد بياض بسبب يقرب منه بعد بعد يؤثر فيه ذلك إما بحركته إلى السبب وإما بحركة السبب إليه فإن الماء يسخن بعد ما كان باردا بحرارة النار مثلا التي يقرب منها إما بحركة النار إليه أو بحركته هو إليها
كذلك المبيض بعد اسوداده يتحرك إلى المسود أو يتحرك المسود إليه فتتقدم الحركة المكانية بهذا البيان سائر الحركات وتتقدم الدورية المستمرة الدائمة على المستقيمة المنقطعة ذات البداية والنهاية المحدودتين فهكذا يصح أن يقال : تتقدم الحركة الدورية على سائر الحركات والتغيرات فيصح ذلك في الأجسام الداخلة تحت الكون والفساد بالتغيرات المحدودة في التكيفيات المبصرة والملموسة والأشكال والمقادير وما يتبعها ويتعلق بها فأما في النفوس والعقول وفي الله تعالى فلا يلزم شيء من ذلك بهذا البيان
قال : وأعجب من هذا قوله بأنه يتعب حيث قال : وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها المتصلة لأن طبعها لا يخالف إرادتها فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة وها هنا كثرة الأفعال واتصالها وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل
والقوة قوتان : استعداد وقدرة والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة ثم عن القدرة تصدر الأفعال والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال
ولو كانت من هذا القبيل لما جاز أن يحكم عليها بالتعب الكلال بل باللذة والكمال فإن ما بالقوة يشتاق إلى كماله الذي بالفعل ومن قبله تكون اللذة والسعادة
والكلال والتعب إنما يعرضان لنا لا من جهة اتصال أفعالنا ولا من جهة ازدحامها بل من جهة تحريك أعضائنا وأرواحنا بتقبلنا وتفكرنا حركة تخالف مقتضى الطبيعة التي في جوهرنا كما نفاه عن السماء
وليس ذلك في جهة الخلاف فإن القوى المتقاومة قد تتقاوم مدة فلا يعرض لها تعب كما لو فرضت مغناطيس علق حديدا زمانا فإنه لا يتعب ولا تضعف تلك القوة الجاذبة ولا يبطل ذلك التعلق ما لم يتجدد أمر من خارج بل لأن الحركة تحل جوهر الروح منا أعني من أعضائنا لتركيبها من لطيف وكثيف
واللطيف عرضة للانحلال والحركة تسبب ذلك له فإذا انحلت الروح التي بها تعلق القوة المحركة ضعفت القوة المحركة فينا وعجزت فيها تعبا وكلالا
وذلك إنما ارتفع عن السماء لارتفاع التركيب والانحلال لا لأن الطبيعة لا تضاد الإرادة فيها أو تضادها فإن ذلك هو سبب بعيد للتعب والكلال والقريب هو ما ذكرناه فإذا ارتفع عن السماء لذلك فلم بالحري أن يرتفع عن سماء السماء وبسيط البسائط الوحداني الذات ؟
قال : فأما قوله : فإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها - فهو أشبه ما قاله من الحجج وأقربها إلى التروج والقبول قبل التأمل وإنما ذلك يكون بالقياس إلينا على ضيق وسعنا وزماننا فيصح أن يقال : إن اشتغالنا بإبصار الأفضل أولى منه بالأخس فأما إذا كان الوسع بحيث لا يشغل فيه إدراك الأخس ولا يعوق عن إدراك الأفضل فلا
ثم هذا الخسيس إنما هو خسيس بالقياس إلينا أيضا وفي أشياء مباينة لطباعنا منافرة لحواسنا لا على الإطلاق
وبالقياس إلى كل خساس فإن طعم العذرة في فم الخنزير كطعم العسل في فم الإنسان وإذا نظرت إلى الكل لم تجد فيه خسيسا تعر معرفته أو يضر علمه أو يكون لا إدراكه أولى من إدراكه لا في الروحانيات ولا في الجسمانيات لا في السماويات ولا في الأرضيات كيف وما في الأرض وتحت السماء ليس غير الاستقصات الكائنة وما يتولد عنها بامتزاجها ! وليس في الممتزج منها سواها إلا قوى سماوية وما منها ما يضر إدراكه أو تعر معرفته اللهم إلا لشخص ينافيه ويضاده لا على الإطلاق ومن علا عن المضادة والمباينة فلا يكون ذلك بالقياس إلا مكروها
فالله تعالى وملائكته أجل من أن ينالهم الأذى بضد أو مباين من لون أو طعم أو رائحة فكيف وما في الوجود إلا ما صدر عنه تعالى ومما عنه وهو عنه الحقيقة ؟ فما لا يأنف منه أن يخلقه ويوجده لا يأنف منه أن يدركه وما لم يعره في أن فعله لا يعره في أن علمه ولا له كيفية تناسبه من لون أو طعم أو رائحة فيؤثرها وأخرى تباينه فيكرهها فلم ننتفع الآن بالقضية المشنعة أعني القائلة : فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها
ثم الإبصار إن كان عن عجز وضيق وسع فليس بأفضل من الإبصار وإن كان من نوع الالتفات والتقزز فذلك من المنافي والمؤذي وقد قلنا فيه
قال : وأما قوله : فكمال ذلك العقل إذ كان أفضل الكمالات يجب أن يكون بذاته فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات - فقول صادق صحيح على الوجه الذي قلناه لا على الوجه الذي يقصده من أن كماله بفعله الذي هو بعقل ذاته إذ قد سلم أن ذاته في غاية الكمال والشرف والجلال فليس كمالها بفعل من الأفعال : لا بعقل ذاته ولا بعقل غيرها بل تعقلها لذاتها فعل شريف كامل صدر عن شرف الذات وكمالها فكان كمال الفعل لكمال الذات لا كمال الذات لكمال الفعل وقد سبق هذا
قال : وأما قوله : وهذا يوجد هكذا دائما من دون تعرف أو حس أو رأي أو تفكر - فهذا ظاهر جدا فإن الإدراك والتعقل التام للأمر القديم الدائم من العاقل التام القديم الدائم تام قديم دائم لا محالة
وقوله : فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره فإما أن يكون شيئا واحدا دائما وإما أن يكون علمه بما يعلمه واحدا بعد آخر - فجوابه أن يعقل ذاته ويعقل غيره فيعقل الدائمات دائما ويعقل المتجددات عقلا قديما دائما من حيث قدمها النوعي والمادي والذي من جهة العلل الفاعلية والغائية فتعقلها في تغيرها على وفق تغيرها
ولا يكون ذلك التغير فيه بل فيها وهو يعقلها كلها على ما هي عليه كما نعقل نحن بعضها فنعلم عينها وأنها ستكون ومساوقتها وأنها كائنة ومعدومها بعد كونه وأنه كان لا يضيق وسعه عن ذلك ولا يتغير به ولا ينتقص ولا يكمل بل هو له كما يشاء وعلى وفق قدرته وإرادته في خلقه لا يمتنع ذلك بحجة لا من جهة التعجيز لأنه مردود بدليل الخلق
فقدرته على الخلق دليل قدرته على العلم إذ هو خالق الكل والخلق أكبر في القدرة من العلم
وإذا لم يصح التعجيز في الخلق فهو بأن لا يصح في العلم أولى وأحرى وكيف وأكثرهم يقولون : إن علم الله هو قدرته وقدرته وسعت كل شيء خلقا فلا عجب أن يسع كل شيء علما ؟ ولا بدليل التنزيه فإنه لا تعره ولا تضره معرفته بشيء من خلقه ولا ضد له فيه ولا مباين وليس به كماله بل هو بكماله على ما قيل
هذا مع أن في الجواب مساعدة ما وإلا فلو فرضنا أن له به كمالا على ما قيل لم يكن له في ذلك نقص لأن الكل منه وعنه وكماله بما منه وعنه فهو كماله بذاته في الحقيقة
والقول بأنه لولا أشياء غيره لم يكن بحال كذا من الكمال إنما كان يكون له وجه لو كانت تلك الأمور ليست منه وعنه فأما وهي منه فلا يضر لأنه كأنه قال : لولاه - أعني لولا ذاته - لم يكن بحال كذا لأن الرفع في الفرض إنما يقع من جهة العلة الأولى التي لا يرتفع المعلول إلا بارتفاعها
قلت : فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو وهو أقرب إلى تحرير النقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد و ابن رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا مع غلوه في تعظيم أرسطو وشيعته

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18