كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

مُقَدّمَةُ الْمُؤَلّفِ
[ ص 35 ] حَسْبِي اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ وَلَا عُدْوَانَ إلّا عَلَى الظّالِمِينَ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ إلَهُ الْأَوّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَقَيّومُ السّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَالِكُ يَوْمِ الدّينِ الّذِي لَا فَوْزَ إلّا فِي طَاعَتِهِ وَلَا عِزّ إلّا فِي التّذَلّلِ لِعَظَمَتِهِ وَلَا غِنًى إلّا فِي الِافْتِقَارِ إلَى رَحْمَتِهِ وَلَا هُدًى إلّا فِي الِاسْتِهْدَاءِ بِنُورِهِ وَلَا حَيَاةَ إلّا فِي رِضَاهُ وَلَا نَعِيمَ إلّا فِي قُرْبِهِ وَلَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَلَا فَلَاحَ إلّا فِي الْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَوْحِيدِ حُبّهِ الّذِي إذَا أُطِيعَ شَكَرَ وَإِذَا عُصِيَ تَابَ وَغَفَرَ وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ وَإِذَا عُومِلَ أَثَابَ . وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالرّبُوبِيّةِ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَقَرّتْ لَهُ بِالْإِلَهِيّةِ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِهِ وَشَهِدَتْ بِأَنّهُ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ بِمَا أَوْدَعَهَا مِنْ عَجَائِبِ صَنْعَتِهِ وَبَدَائِعِ آيَاتِهِ وَسُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ . وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إلَهِيّتِهِ كَمَا لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيّتِهِ وَلَا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللّه بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَسُبْحَانَ مَنْ سَبّحَتْ لَهُ السّمَوَاتُ وَأَمْلَاكُهَا وَالنّجُومُ وَأَفْلَاكُهَا وَالْأَرْضُ وَسُكّانُهَا وَالْبِحَارُ وَحِيتَانُهَا وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَابّ وَالْآكَامُ وَالرّمَالُ وَكُلّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ [ ص 36 ] { تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الْإِسْرَاءُ : 44 ]
[ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ الشّهَادَتَيْنِ ]
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسّمَوَاتُ وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِهَا أَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتْ الْمَوَازِينُ وَوُضِعَتْ الدّوَاوِينُ وَقَامَ سُوقُ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَبِهَا انْقَسَمَتْ الْخَلِيقَةُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفّارِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجّارِ فَهِيَ مَنْشَأُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالثّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهِيَ الْحَقّ الّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْخَلِيقَةُ وَعَنْهَا وَعَنْ حُقُوقِهَا السّؤَالُ وَالْحِسَابُ وَعَلَيْهَا يَقَعُ الثّوَابُ وَالْعِقَابُ وَعَلَيْهَا نُصِبَتْ الْقِبْلَةُ وَعَلَيْهَا أُسّسَتْ الْمِلّةُ وَلِأَجْلِهَا جُرّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ وَهِيَ حَقّ اللّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَمِفْتَاحُ دَارِ السّلَامِ وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوّلُونَ وَالْآخِرُونَ فَلَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ اللّهِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ ؟ فَجَوَابُ الْأُولَى بِتَحْقِيقِ " لَا إلَهَ إلّا اللّهُ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَعَمَلًا . وَجَوَابُ الثّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ " أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً .

[ افْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَةَ الرّسُولِ ]
[ شَرْحُ آيَةِ حَسْبُك اللّهُ وَمَنْ اتّبَعَك ]
وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ وَخِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ الْمَبْعُوثُ بِالدّينِ الْقَوِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ أَرْسَلَهُ اللّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَإِمَامًا لِلْمُتّقِينَ وَحُجّةً عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ . أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنْ الرّسُلِ فَهَدَى بِهِ إلَى أَقْوَمِ الطّرُقِ وَأَوْضَحِ السّبُلِ وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَمَحَبّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ وَسَدّ دُونَ جَنّتِهِ الطّرُقَ فَلَنْ [ ص 37 ] وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ وَجَعَلَ الذّلّةَ وَالصّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ . فَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُنِيبٍ الْجَرْشِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُعِثْتُ بِالسّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السّاعَةِ حَتّى يُعْبَدَ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذّلّةُ وَالصّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ وَكَمَا أَنّ الذّلّةَ مَضْرُوبَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ فَالْعِزّةُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عِمْرَانَ 139 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ الْمُنَافِقُونَ 8 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ } [ مُحَمّد : 35 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الْأَنْفَالُ 64 ] . أَيْ اللّهُ وَحْدَهُ كَافِيك وَكَافِي أَتْبَاعَك فَلَا تَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى أَحَدٍ . وَهُنَا تَقْدِيرَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً ل " مَنْ " عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ وَيَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إعَادَةِ الْجَارّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ وَشُبَهُ الْمَنْعِ مِنْهُ وَاهِيَةٌ . وَالثّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ " مَعَ " وَتَكُونَ " مَنْ " فِي مَحَلّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ " فَإِنّ حَسْبَك " فِي مَعْنَى " كَافِيك " أَيْ اللّهُ يَكْفِيك وَيَكْفِي مَنْ اتّبَعَك كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ قَالَ الشّاعِرُ إذَا كَانَتْ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقّتْ الْعَصَا فَحَسْبُكَ وَالضّحّاكَ سَيْفٌ مُهَنّدٌ
[ ص 38 ] وَفِيهَا تَقْدِيرٌ ثَالِثٌ أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ وَمَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمْ اللّهُ .
[ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتّأْيِيدِ ]
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ رَابِعٌ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللّهِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى : حَسْبُك اللّه وَأَتْبَاعُك وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُ النّاسِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَإِنّ " الْحَسْبَ " و " الْكِفَايَةَ " لِلّهِ وَحْدَهُ كَالتّوَكّلِ وَالتّقْوَى وَالْعِبَادَةِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِي أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [ الْأَنْفَالُ 62 ] . فَفَرّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتّأْيِيدِ فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ وَجَعَلَ التّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ وَأَثْنَى اللّه سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ فَقَالَ تَعَالَى: { الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عِمْرَانَ 173 ] . وَلَمْ يَقُولُوا : حَسْبُنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ وَمَدَحَ الرّبّ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ اللّهُ وَأَتْبَاعُك حَسْبُك وَأَتْبَاعُهُ قَدْ أَفْرَدُوا الرّبّ تَعَالَى بِالْحَسْبِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي حَسْبِ رَسُولِهِ ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ وَأَبْطَلْ الْبَاطِلِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التّوْبَةُ 59 ] . فَتَأَمّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الْحَشْرُ 59 ] . وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ فَلَمْ يَقُلْ وَقَالُوا : حَسْبُنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التّوْبَةُ 59 ] . وَلَمْ يَقُلْ وَإِلَى رَسُولِهِ بَلْ جَعَلَ الرّغْبَةَ إلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ } [ الِانْشِرَاحُ 87 ] . فَالرّغْبَةُ وَالتّوَكّلُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ لِلّهِ وَحْدَهُ كَمَا أَنّ الْعِبَادَةَ وَالتّقْوَى وَالسّجُودَ لِلّهِ وَحْدَهُ وَالنّذْرُ وَالْحَلِفُ لَا يَكُونُ إلّا لِلّهِ سُبْحَانَهُ [ ص 39 ] { أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزّمَرُ 36 ] . فَالْحَسْبُ هُوَ الْكَافِي فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ أَتْبَاعَهُ مَعَ اللّهِ فِي هَذِهِ الْكِفَايَةِ ؟ وَالْأَدِلّةُ الدّالّةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التّأْوِيلِ الْفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هَاهُنَا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرّسُولِ تَكُونُ الْعِزّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنّصْرَةُ كَمَا أَنّ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنّجَاةُ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ عَلّقَ سَعَادَةَ الدّارَيْنِ بِمُتَابَعَتِهِ وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى وَالْأَمْنُ وَالْفَلَاحُ وَالْعِزّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنّصْرَةُ وَالْوِلَايَةُ وَالتّأْيِيدُ وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِمُخَالِفِيهِ الذّلّةُ وَالصّغَارُ وَالْخَوْفُ وَالضّلَالُ وَالْخِذْلَانُ وَالشّقَاءُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَقَدْ أَقْسَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتّى يَكُونَ هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ وَأَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ مَنْ لَا يُحَكّمُهُ فِي كُلّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ ثُمّ يَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمّا حَكَمَ بِهِ ثُمّ يُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا وَيَنْقَادُ لَهُ انْقِيَادًا . [ ص 40 ] وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ 36 ] . فَقَطَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التّخْيِيرَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولَهُ فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا بَعْدَ أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ إذَا أَمَرَ فَأَمْرُهُ حَتْمٌ وَإِنّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إذَا خَفِيَ أَمْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَبِسُنّتِهِ فَبِهَذِهِ الشّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا وَاجِبَ الِاتّبَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ اتّبَاعُ قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ بَلْ غَايَتُهُ أَنّهُ يَسُوغُ لَهُ اتّبَاعُهُ وَلَوْ تَرَكَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِلّهِ وَرَسُولِهِ . فَأَيْنَ هَذَا مِمّنْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلّفِينَ اتّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ ؟ فَلَا حُكْمَ لِأَحَدِ مَعَهُ وَلَا قَوْلَ لِأَحَدِ مَعَهُ كَمَا لَا تَشْرِيعَ لِأَحَدِ مَعَهُ وَكُلّ مَنْ سِوَاهُ فَإِنّمَا يَجِبُ اتّبَاعُهُ عَلَى قَوْلِهِ إذَا أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَمّا نَهَى عَنْهُ فَكَانَ مُبَلّغًا مَحْضًا وَمُخْبِرًا لَا مُنْشِئًا وَمُؤَسّسًا فَمَنْ أَنْشَأَ أَقْوَالًا وَأَسّسَ قَوَاعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأُمّةِ اتّبَاعُهَا وَلَا التّحَاكُمُ إلَيْهَا حَتّى تُعْرَضَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ فَإِنْ طَابَقَتْهُ وَوَافَقَتْهُ وَشُهِدَ لَهَا بِالصّحّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ وَإِنْ خَالَفَتْهُ وَجَبَ رَدّهَا وَاطّرَاحُهَا فَإِنْ لَمْ يَتَبَيّنْ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً وَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ وَالْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَرْكُهُ وَأَمّا أَنّهُ يَجِبُ وَيَتَعَيّنُ فَكَلّا وَلَمّا.
[ الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ فِي وَرَبّك يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ هُوَ الِاصْطِفَاءُ ]
وَبَعْدُ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [ الْقَصَصُ 68 ] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالِاخْتِيَارِ الْإِرَادَةُ الّتِي يُشِيرُ إلَيْهَا الْمُتَكَلّمُونَ بِأَنّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ - وَهُوَ سُبْحَانُهُ - كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الِاخْتِيَارُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَإِنّهُ لَا يَخْلُقُ إلّا بِاخْتِيَارِهِ وَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مَا يَشَاءُ فَإِنّ الْمَشِيئَةَ هِيَ الِاخْتِيَارُ وَإِنّمَا الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا : الِاجْتِبَاءُ وَالِاصْطِفَاءُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ بَعْدَ الْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارُ الْعَامّ اخْتِيَارٌ قَبْلَ الْخَلْقِ فَهُوَ أَعَمّ وَأَسْبَقُ وَهَذَا أَخَصّ وَهُوَ مُتَأَخّرٌ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَوّلُ اخْتِيَارٌ لِلْخَلْقِ . وَأَصَحّ الْقَوْلَيْنِ أَنّ الْوَقْفَ التّامّ عَلَى قَوْلِهِ وَيَخْتَار.
[ مَا فِي مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ لِلنّفْيِ ]
وَيَكُونُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ نَفْيًا أَيْ لَيْسَ هَذَا الِاخْتِيَارُ إلَيْهِمْ بَلْ هُوَ إلَى الْخَالِقِ وَحْدَهُ فَكَمَا أَنّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْلُقَ وَلَا أَنْ يَخْتَارَ سِوَاهُ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ وَمَحَالّ رِضَاهُ وَمَا يَصْلُحُ لِلِاخْتِيَارِ مِمّا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ .
[ الرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ مَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مَفْعُولُ وَيَخْتَارُ ]
وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَلَا تَحْصِيلَ إلَى أَنّ " مَا " في قَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مَفْعُولٌ " وَيَخْتَارُ " أَيْ وَيَخْتَارُ الّذِي لَهُمْ الْخِيَرَةُ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ الصّلَةَ حِينَئِذٍ تَخْلُو مِنْ الْعَائِدِ لِأَنّ " الْخِيرَةَ " مَرْفُوعٌ بِأَنّهُ اسْمُ " كَانَ " وَالْخَبَرُ " لَهُمْ " فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الّذِي كَانَ الْخِيَرَةَ لَهُمْ وَهَذَا التّرْكِيبُ مُحَالٌ مِنْ الْقَوْلِ . فَإِنْ قِيلَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا وَيَكُونَ التّقْدِيرُ وَيَخْتَارُ الّذِي كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ فِيهِ أَيْ وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الّذِي كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ فِي اخْتِيَارِهِ . قِيلَ هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الّتِي يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُ الْعَائِدِ فَإِنّهُ إنّمَا يُحْذَفُ مَجْرُورًا إذَا جُرّ بِحَرْفِ جُرّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِهِ مَعَ اتّحَادِ الْمَعْنَى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: { يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ } [ الْمُؤْمِنُونَ 33 ] وَنَظَائِرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَاءَنِي الّذِي مَرَرْت وَرَأَيْت الّذِي رَغِبْت وَنَحْوَهُ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَنَصَبَ " الْخِيَرَةَ " وَشَغَلَ فِعْلَ الصّلَةِ بِضَمِيرِ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ فَكَأَنّهُ يَقُولُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ أَيْ الّذِي كَانَ هُوَ عَيْنَ الْخِيَرَةِ لَهُمْ وَهَذَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ الْبَتّةَ مَعَ أَنّهُ كَانَ وَجّهَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ . الثّالِثُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يَحْكِي عَنْ الْكُفّارِ اقْتِرَاحَهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ وَإِرَادَتَهُمْ [ ص 42 ] تَكُونَ الْخِيَرَةُ لَهُمْ ثُمّ يَنْفِي هَذَا سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَيُبَيّنُ تَفَرّدَهُ هُوَ بِالِاخْتِيَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّا وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ } [ الزّخْرُفُ 32 . 31 ] فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ تَخَيّرَهُمْ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَ أَنّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمْ بَلْ إلَى الّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ الْمُتَضَمّنَةَ لِأَرْزَاقِهِمْ وَمُدَدِ آجَالِهِمْ وَكَذَلِكَ هُوَ الّذِي يَقْسِمُ فَضْلَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الِاخْتِيَارِ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِمّنْ لَا يَصْلُحُ وَهُوَ الّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٌ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَدَرَجَاتِ التّفْضِيلِ فَهُوَ الْقَاسِمُ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا غَيْرُهُ وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ بَيّنَ فِيهَا انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الْأَنْعَامُ 124 ] أَيْ اللّهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلّ الّذِي يَصْلُحُ لِاصْطِفَائِهِ وَكَرَامَتِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالرّسَالَةِ وَالنّبُوّةِ دُونَ غَيْرِهِ . الرّابِعُ أَنّهُ نَزّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمّا اقْتَضَاهُ شِرْكُهُمْ مِنْ اقْتِرَاحِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فَقَالَ { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَى عَمّا يُشْرِكُونَ } [ الْقَصَصُ 68 ] وَلَمْ يَكُنْ شِرْكُهُمْ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ خَالِقٍ سِوَاهُ حَتّى نَزّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ فِي غَايَةِ اللّطْفِ . الْخَامِسُ أَنّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [ الْحَجّ 73 - 76 ] : { إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } ثُمّ قَالَ { اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي [ الْقَصَصِ 69 ] { وَرَبّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } وَنَظِيرُ قَوْلِهِ فِي [ الْأَنْعَامِ 124 ] { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فَأَخْبَرَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ عَنْ عِلْمِهِ [ ص 43 ] دُونَ غَيْرِهَا فَتَدَبّرْ السّيَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدْهُ مُتَضَمّنًا لِهَذَا الْمَعْنَى زَائِدًا عَلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . السّادِسُ أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عُقَيْب قَوْلِهِ { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [ الْقَصَصُ 65 - 68 ] فَكَمَا خَلَقَهُمْ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ اخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَكَانُوا صَفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَكَانَ هَذَا الِاخْتِيَارُ رَاجِعًا إلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَا إلَى اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَاقْتِرَاحِهِمْ فَسُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمّا يُشْرِكُونَ .

فَصْلٌ [ الِاخْتِيَارُ دَالّ عَلَى رُبُوبِيّتِهِ سُبْحَانَهُ ]
وَإِذَا تَأَمّلْت أَحْوَالَ هَذَا الْخَلْقِ رَأَيْتَ هَذَا الِاخْتِيَارَ وَالتّخْصِيصَ فِيهِ دَالّا عَلَى رُبُوبِيّتِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيّتِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنّهُ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هو فَلَا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ وَيَخْتَارُ كَاخْتِيَارِهِ وَيُدَبّرُ كَتَدْبِيرِهِ فَهَذَا الِاخْتِيَارُ وَالتّدْبِيرُ وَالتّخْصِيصُ الْمَشْهُودُ أَثَرُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيّتِهِ وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ فَنُشِيرُ مِنْهُ إلَى يَسِيرٍ يَكُونُ مُنَبّهًا عَلَى مَا وَرَاءَهُ دَالّا عَلَى مَا سِوَاهُ . فَخَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا مِنْهَا فَجَعَلَهَا مُسْتَقَرّ الْمُقَرّبِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَاخْتَصّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ كُرْسِيّهِ وَمِنْ عَرْشِهِ وَأَسْكَنَهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فَلَهَا مَزِيّةٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ السّمَوَاتِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا قُرْبُهَا مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَهَذَا التّفْضِيلُ وَالتّخْصِيصُ مَعَ تَسَاوِي مَادّةِ السّمَوَاتِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَأَنّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [ ص 44 ] وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ سُبْحَانَهُ جَنّةَ الْفِرْدَوْسِ عَلَى سَائِرِ الْجِنَانِ وَتَخْصِيصُهَا بِأَنْ جَعَلَ عَرْشَهُ سَقْفَهَا وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ غَرَسَهَا بِيَدِهِ وَاخْتَارَهَا لِخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ " . وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ عَلَى سَائِرِهِمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ اللّهُمّ رَبّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِك إنّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِكَمَالِ اخْتِصَاصِهِمْ وَاصْطِفَائِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللّهِ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ غَيْرِهِمْ فِي السّمَوَاتِ فَلَمْ يُسَمّ إلّا هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ . فَجِبْرِيلُ صَاحِبُ الْوَحْيِ الّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحُ وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الْقَطْرِ الّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ وَإِسْرَافِيلُ صَاحِبُ الصّورِ الّذِي إذَا نَفَخَ فِيهِ أَحْيَتْ نَفْخَتُهُ بِإِذْنِ اللّهِ الْأَمْوَاتَ وَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ .
[ بَيَانُ الِاخْتِيَارِ مِنْ الْبَشَرِ ]
وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصّلَاةُ [ ص 45 ] ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرّ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَاخْتِيَارُهُ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ وَهُمْ خَمْسَةٌ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ والشّورَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الْأَحْزَابُ 7 ] وَقَالَ تَعَالَى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلَا تَتَفَرّقُوا فِيهِ } [ الشّورَى : 13 ] وَاخْتَارَ مِنْهُمْ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلّمَ . وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ ثُمّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ ثُمّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا ثُمّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ثُمّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 46 ] وَكَذَلِكَ اخْتَارَ أَصْحَابُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَهْلَ بَدْرٍ وَأَهْلَ بَيْعَةِ الرّضْوَانِ وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنْ الدّينِ أَكْمَلَهُ وَمِنْ الشّرَائِعِ أَفْضَلَهَا وَمِنْ الْأَخْلَاقِ أَزْكَاهَا وَأَطْيَبَهَا وَأَطْهَرَهَا . وَاخْتَارَ أُمّتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ كَمَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ مُوفُونَ سَبْعِينَ أُمّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللّهِ قَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ وَأَحْمَدُ حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ صَحِيحٌ . وَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الِاخْتِيَارِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنّةِ وَمَقَامَاتِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَإِنّهُمْ أَعْلَى مِنْ النّاسِ عَلَى تَلّ فَوْقَهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَيْهِمْ وَفِي التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاَلّذِي فِي " الصّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَدِيثِ بَعْثِ النّارِ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنّةِ [ ص 47 ] يُقَالَ هَذَا أَصَحّ وَإِمّا أَنْ يُقَالَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَمِعَ أَنْ تَكُونَ أُمّتُهُ شَطْرَ أَهْلِ الْجَنّةِ فَأَعْلَمَهُ رَبّهُ فَقَالَ إنّهُمْ ثَمَانُونَ صَفّا مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ صَفّا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ تَفْضِيلِ اللّهِ لِأُمّتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَهَا أَنّهُ وَهَبَهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمّةِ سِوَاهَا وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيث ِ أَبِي الدّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إنّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ : إنّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمّةً إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبّونَ حَمِدُوا وَشَكَرُوا وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ قَالَ يَا رَبّ كَيْفَ هَذَا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ ؟ قَالَ أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي

[ اخْتِيَارُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَبَيَانُ خَصَائِصِهِ ]
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الْأَمَاكِنِ وَالْبِلَادِ خَيْرَهَا وَأَشْرَفَهَا وَهِيَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَهُ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَهُ مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِتْيَانَ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ فَلَا يَدْخُلُونَهُ إلّا مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَشّعِينَ مُتَذَلّلِينَ كَاشِفِي رُءُوسِهِمْ مُتَجَرّدِينَ عَنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدّنْيَا.
وَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ وَلَا تُعْضَدُ بِهِ شَجَرَةٌ [ ص 48 ] خَلَاهُ وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ لِلتّمْلِيكِ بَلْ لِلتّعْرِيفِ لَيْسَ إلّا وَجَعَلَ قَصْدَهُ مُكَفّرًا لِمَا سَلَفَ مِنْ الذّنُوبِ مَاحِيًا لِلْأَوْزَارِ حَاطّا لِلْخَطَايَا كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ وَلَمْ يَرْضَ لِقَاصِدِهِ مِنْ الثّوَابِ دُونَ الْجَنّةِ فَفِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنّةِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلّا الْجَنّةَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَلَدُ الْأَمِينُ خَيْرَ بِلَادِهِ وَأَحَبّهَا إلَيْهِ وَمُخْتَارَهُ مِنْ الْبِلَادِ لَمَا جَعَلَ عَرَصَاتِهَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قَصْدَهَا وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ وَأَقْسَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } [ التّينُ 3 ] [ ص 49 ] وَقَالَ تَعَالَى : { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [ الْبَلَدُ 1 ] وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بُقْعَةٌ يَجِبُ عَلَى كُلّ قَادِرٍ السّعْيُ إلَيْهَا وَالطّوَافُ بِالْبَيْتِ الّذِي فِيهَا غَيْرَهَا وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ وَاسْتِلَامُهُ وَتُحَطّ الْخَطَايَا وَالْأَوْزَارُ فِيهِ غَيْرَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرّكْنِ الْيَمَانِيّ . وَثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الصّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " و " الْمُسْنَدِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلِذَلِكَ كَانَ شَدّ الرّحَالِ إلَيْهِ فَرْضًا وَلِغَيْرِهِ مِمّا يُسْتَحَبّ وَلَا يَجِبُ وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتّرْمِذِيّ وَالنّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ مِنْ مَكّةَ يَقُولُ وَاَللّهِ إنّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللّهِ وَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْت قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . [ ص 50 ]
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ تَحْرِيمَ اسْتِقْبَالِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَاسْتِدْبَارِهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ حَتّى فِي الْبُنْيَانِ ]
وَمِنْ خَوَاصّهَا أَيْضًا أَنّهُ يَحْرُمُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ دُونَ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ . وَأَصَحّ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَالْبُنْيَانِ لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَيْسَ مَعَ الْمُفَرّقَ مَا يُقَاوِمُهَا الْبَتّةَ مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِي مِقْدَارِ الْفَضَاءِ وَالْبُنْيَانِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ مِنْ الطّرَفَيْنِ .
[ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ ]
وَمِنْ خَوَاصّهَا أَيْضًا أَنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي ذَر ّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَوّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمّ أَيّ ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ عَامًا وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُرَادَ بِهِ فَقَالَ مَعْلُومٌ أَنّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ هُوَ الّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إبْرَاهِيمَ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ عَامٍ وَهَذَا مِنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَإِنّ سُلَيْمَانَ إنّمَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَجْدِيدُهُ لَا تَأْسِيسُهُ وَاَلّذِي أَسّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ صَلّى اللّه عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلّمَ بَعْدَ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ [ ص 51 ] أَخْبَرَ أَنّهَا أُمّ الْقُرَى فَالْقُرَى كُلّهَا تَبَعٌ لَهَا وَفَرْعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ أَصْلُ الْقُرَى فَيَجِبُ أَلّا يَكُونَ لَهَا فِي الْقُرَى عَدِيلٌ فَهِيَ كَمَا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ( الْفَاتِحَةِ أَنّهَا أُمّ الْقُرْآنِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيّةِ عَدِيلٌ .
[ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ دُخُولِهَا لِغَيْرِ أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ الْمُتَكَرّرَةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ]
وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَنّهَا لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا لِغَيْرِ أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ الْمُتَكَرّرَةِ إلّا بِإِحْرَامِ وَهَذِهِ خَاصّيّةٌ لَا يُشَارِكُهَا فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَلَقّاهَا النّاسُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ بِإِسْنَادِ لَا يُحْتَجّ بِهِ مَرْفُوعًا لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكّةَ إلّا بِإِحْرَامِ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ذَكَرَهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيّ وَلَكِنّ الْحَجّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ فِي الطّرِيقِ وَآخَرُ قَبْلَهُ مِنْ الضّعَفَاءِ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ النّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ هُوَ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ هُوَ قَبْلَهَا فَمَنْ قَبْلَهَا لَا يُجَاوِزُهَا إلّا بِإِحْرَامِ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلَانِ الْأَوّلَانِ لِلشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ .
[ الْمُعَاقَبَةُ فِيهِ عَلَى الْهَمّ بِالسّيّئَاتِ ]
وَمِنْ خَوَاصّهِ أَنّهُ يُعَاقَبُ فِيهِ عَلَى الْهَمّ بِالسّيّئَاتِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الْحَجّ 25 ] فَتَأَمّلْ [ ص 52 ] كَيْفَ عَدّى فِعْلَ الْإِرَادَةِ هَاهُنَا بِالْبَاءِ وَلَا يُقَالُ أَرَدْتُ بِكَذَا إلّا لِمَا ضُمّنَ مَعْنَى فِعْلِ " هَمّ " فَإِنّهُ يُقَالُ هَمَمْت بِكَذَا فَتَوَعّدَ مَنْ هَمّ بِأَنْ يَظْلِمَ فِيهِ بِأَنْ يُذِيقَهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ .
[ مُضَاعَفَةَ مَقَادِيرِ السّيّئَاتِ فِيهِ ]
وَمِنْ هَذَا تَضَاعُفُ مَقَادِيرِ السّيّئَاتِ فِيهِ لَا كَمّيّاتُهَا فَإِنّ السّيّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيّئَةٌ لَكِنْ سَيّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا وَصَغِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا فَالسّيّئَةُ فِي حَرَمِ اللّهِ وَبَلَدِهِ وَعَلَى بِسَاطِهِ آكَدُ وَأَعْظَمُ مِنْهَا فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ مِنْ دَارِهِ وَبِسَاطِهِ فَهَذَا فَصْلُ النّزَاعِ فِي تَضْعِيفِ السّيّئَاتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ انْجِذَابُ الْأَفْئِدَةِ إلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ ]
وَقَدْ ظَهَرَ سِرّ هَذَا التّفْضِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ فِي انْجِذَابِ الْأَفْئِدَةِ وَهَوَى الْقُلُوبِ وَانْعِطَافِهَا وَمَحَبّتِهَا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ جَذْبِ الْمِغْنَاطِيسِ لِلْحَدِيدِ فَهُوَ الْأَوْلَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ محَاسِنُهُ هَيُولَى كُلّ حُسْنٍ وَمِغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرّجَالِ
وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ مَثَابَةٌ لِلنّاسِ أَيْ يَثُوبُونَ إلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا بَلْ كُلّمَا ازْدَادُوا لَهُ زِيَارَةً ازْدَادُوا لَهُ اشْتِيَاقًا . لَا يَرْجِعُ الطّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا حَتّى يَعُودَ إلَيْهَا الطّرْفُ مُشْتَاقًا
فَلَلّهِ كَمْ لَهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ وَجَرِيحٍ وَكَمْ أُنْفِقَ فِي حُبّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ وَرِضَى الْمُحِبّ بِمُفَارَقَةِ فِلَذِ الْأَكْبَادِ وَالْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ وَالْأَوْطَانِ مُقَدّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَتَالِفِ وَالْمَعَاطِفِ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ يَسْتَلِذّ ذَلِكَ كُلّهُ وَيَسْتَطِيبُهُ وَيَرَاهُ - لَوْ ظَهَرَ سُلْطَانُ الْمَحَبّةِ فِي قَلْبِهِ - أَطْيَبُ مِنْ نِعَمِ الْمُتَحَلّيَةِ وَتَرَفِهِمْ وَلَذّاتِهِمْ وَلَيْسَ مُحِبّا مَنْ يُعَدّ شَقَاؤُهُ عَذَابًا إذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبِيبُهُ
وَهَذَا كُلّهُ سِرّ إضَافَتِهِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ { وَطَهّرْ بَيْتِيَ } [ الْحَجّ 26 ] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ الْخَاصّةُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَالتّعْظِيمِ وَالْمَحَبّةِ مَا [ ص 53 ] أَضَافَهُ الرّبّ تَعَالَى إلَى نَفْسِهِ فَلَهُ مِنْ الْمَزِيّةِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ مَا أَوْجَبَ لَهُ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ ثُمّ يَكْسُوهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ تَفْضِيلًا آخَرَ وَتَخْصِيصًا وَجَلَالَةً زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ وَلَمْ يُوَفّقْ لِفَهْمِ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ سَوّى بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَزَعَمَ أَنّهُ لَا مَزِيّةَ لِشَيْءِ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ وَإِنّمَا هُوَ مُجَرّدُ التّرْجِيحِ بِلَا مُرَجّحٍ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَيَكْفِي تَصَوّرُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فِي فَسَادِهِ فَإِنّ مَذْهَبَنَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَوَاتُ الرّسُلِ كَذَوَاتِ أَعْدَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنّمَا التّفْضِيلُ بِأَمْرِ لَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِصَاصِ الذّوَاتِ بِصِفَاتِ وَمَزَايَا لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْبِقَاعِ وَاحِدَةً بِالذّاتِ لَيْسَ لِبُقْعَةِ عَلَى بُقْعَةٍ مَزِيّةٌ الْبَتّةَ وَإِنّمَا هُوَ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ فَلَا مَزِيّةَ لِبُقْعَةِ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَالْمَشَاعِرِ عَلَى أَيّ بُقْعَةٍ سَمّيْتهَا مِنْ الْأَرْضِ وَإِنّمَا التّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْبُقْعَةِ لَا يَعُودُ إلَيْهَا وَلَا إلَى وَصْفٍ قَائِمٍ بِهَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَدّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ } قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الْأَنْعَامُ 124 ] أَيْ لَيْسَ كُلّ أَحَدٍ أَهْلًا وَلَا صَالِحًا لِتَحَمّلِ رِسَالَتِهِ بَلْ لَهَا مَحَالّ مَخْصُوصَةٌ لَا تَلِيقُ إلّا بِهَا وَلَا تَصْلُحُ إلّا لَهَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَحَالّ مِنْكُمْ . وَلَوْ كَانَتْ الذّوَاتُ مُتَسَاوِيَةً كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَدّ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامُ 53 ] أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ فَيَخْتَصّهُ بِفَضْلِهِ وَيَمُنّ عَلَيْهِ مِمّنْ لَا يَشْكُرُهُ فَلَيْسَ كُلّ مَحَلّ يَصْلُحُ لِشُكْرِهِ وَاحْتِمَالِ مِنّتِهِ وَالتّخْصِيصِ بِكَرَامَتِهِ . فَذَوَاتُ مَا اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَغَيْرِهَا [ ص 54 ] وَلِأَجْلِهَا اصْطَفَاهَا اللّهُ وَهُوَ سُبْحَانُهُ الّذِي فَضّلَهَا بِتِلْكَ الصّفَاتِ وَخَصّهَا بِالِاخْتِيَارِ فَهَذَا خَلْقُهُ وَهَذَا اخْتِيَارُهُ { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [ الْقَصَصُ 67 ] وَمَا أَبْيَنَ بُطْلَانِ رَأْيٍ يَقْضِي بِأَنّ مَكَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مُسَاوٍ لِسَائِرِ الْأَمْكِنَةِ وَذَاتَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ حِجَارَةِ الْأَرْضِ وَذَاتَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسَاوِيَةٌ لِذَاتِ غَيْرِهِ وَإِنّمَا التّفْضِيلُ فِي ذَلِكَ بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ الذّاتِ وَالصّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْجِنَايَاتِ الّتِي جَنَاهَا الْمُتَكَلّمُونَ عَلَى الشّرِيعَةِ وَنَسَبُوهَا إلَيْهَا وَهِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ اشْتِرَاكِ الذّوَاتِ فِي أَمْرٍ عَامّ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنّ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي أَمْرٍ عَامّ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي صِفَاتِهَا النّفْسِيّةِ وَمَا سِوَى اللّهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَاتِ الْمِسْكِ وَذَاتِ الْبَوْلِ أَبَدًا وَلَا بَيْنَ ذَاتِ الْمَاءِ وَذَاتِ النّارِ أَبَدًا وَالتّفَاوُتُ الْبَيّنُ بَيْنَ الْأَمْكِنَةِ الشّرِيفَةِ وَأَضْدَادِهَا وَالذّوَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَضْدَادِهَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التّفَاوُتِ بِكَثِيرِ فَبَيْنَ ذَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَام وَذَاتِ فِرْعَوْنَ مِنْ التّفَاوُتِ أَعْظَمُ مِمّا بَيْنَ الْمِسْكِ وَالرّجِيعِ وَكَذَلِكَ التّفَاوُتُ بَيْنَ نَفْسِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ بَيْتِ السّلْطَانِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التّفَاوُتِ أَيْضًا بِكَثِيرِ فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْبُقْعَتَانِ سَوَاءً فِي الْحَقِيقَةِ وَالتّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ هُنَاكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالدّعَوَاتِ ؟ وَلَمْ نَقْصِدْ اسْتِيفَاءَ الرّدّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَرْدُودِ الْمَرْذُولِ وَإِنّمَا قَصَدْنَا تَصْوِيرَهُ وَإِلَى اللّبِيبِ الْعَادِلِ الْعَاقِلِ التّحَاكُمُ وَلَا يَعْبَأُ اللّهُ وَعِبَادُهُ بِغَيْرِهِ شَيْئًا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَصّصُ شَيْئًا وَلَا يُفَضّلُهُ وَيُرَجّحُهُ إلّا لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ وَتَفْضِيلَهُ نَعَمْ هُوَ مُعْطِي ذَلِكَ الْمُرَجّحَ وَوَاهِبُهُ فَهُوَ الّذِي خَلَقَهُ ثُمّ اخْتَارَهُ بَعْدَ خَلْقِهِ { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ }

[ التّفْضِيلُ بَيْنَ الْأَزْمِنَةِ ]
وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ عَلَى بَعْضٍ فَخَيْرُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمُ النّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي " السّنَنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَفْضَلُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمُ النّحْرِ ثُمّ يَوْمُ الْقَرّ [ ص 55 ] وَقِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ قَالُوا : لِأَنّهُ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ وَصِيَامُهُ يُكَفّرُ سَنَتَيْنِ وَمَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللّهُ فِيهِ الرّقَابَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَلِأَنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ ثُمّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ . وَالصّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوّلُ لِأَنّ الْحَدِيثَ الدّالّ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ وَالصّوَابُ أَنّ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ } [ التّوْبَةُ 3 ] وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَذّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النّحْرِ لَا يَوْمَ عَرَفَةَ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " بِأَصَحّ إسْنَادٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ [ ص 56 ] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدّمَةٌ لِيَوْمِ النّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنّ فِيهِ يَكُونُ الْوُقُوفُ وَالتّضَرّعُ وَالتّوْبَةُ وَالِابْتِهَالُ وَالِاسْتِقَالَةُ ثُمّ يَوْمُ النّحْرِ تَكُونُ الْوِفَادَةُ وَالزّيَارَةُ وَلِهَذَا سُمّيَ طَوَافُهُ طَوَافَ الزّيَارَةِ لِأَنّهُمْ قَدْ طَهُرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ ثُمّ أَذِنَ لَهُمْ رَبّهُمْ يَوْمَ النّحْرِ فِي زِيَارَتِهِ وَالدّخُولِ عَلَيْهِ إلَى بَيْتِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ ذَبْحُ الْقَرَابِينِ وَحَلْقُ الرّءُوسِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَمُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجّ وَعَمَلُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَالطّهُورِ وَالِاغْتِسَالِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْيَوْمِ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيّامِ فَإِنّ أَيّامَهُ أَفْضَلُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا مِنْ أَيّامٍ الْعَمَلُ الصّالِحُ فِيهَا أَحَبّ إلَى اللّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيّامِ الْعَشْرِ قَالُوا : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءِ وَهِيَ الْأَيّامُ الْعَشْرُ الّتِي أَقْسَمَ اللّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [ الْفَجْرُ 12 ] وَلِهَذَا يُسْتَحَبّ فِيهَا الْإِكْثَارُ مِنْ التّكْبِيرِ وَالتّهْلِيلِ وَالتّحْمِيدِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَكْثِرُوا فِيهِنّ مِنْ التّكْبِيرِ وَالتّهْلِيلِ وَالتّحْمِيدِ [ ص 57 ] سَائِرِ الْبِقَاعِ . وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشّهُورِ وَتَفْضِيلُ عَشْرِهِ الْأَخِيرِ عَلَى سَائِرِ اللّيَالِي وَتَفْضِيلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ . فَإِنْ قُلْت : أَيّ الْعَشْرَيْنِ أَفْضَلُ ؟ عَشْرُ ذِي الْحِجّةِ أَوْ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ ؟ وَأَيّ اللّيْلَتَيْنِ أَفْضَلُ ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ ؟
[ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ عَشْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَشْرِ ذِي الْحِجّةِ ]
قُلْت : أَمّا السّؤَالُ الْأَوّلُ فَالصّوَابُ فِيهِ أَنْ يُقَالُ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ وَأَيّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيّامِ عَشْرِ رَمَضَانَ وَبِهَذَا التّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ لَيَالِيَ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ إنّمَا فُضّلَتْ بِاعْتِبَارِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَهِيَ مِنْ اللّيَالِي وَعَشْرُ ذِي الْحِجّةِ إنّمَا فُضّلَ بِاعْتِبَارِ أَيّامِهِ إذْ فِيهِ يَوْمُ النّحْرِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ التّرْوِيَةِ .

[ جَوَابُ ابْنِ تَيْمِيّةَ عَنْ التّفْضِيلِ بَيْنَ لَيْلَتَيْ الْقَدْرِ وَالْإِسْرَاءِ ]
وَأَمّا السّؤَالُ الثّانِي فَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَقَالَ آخَرُ بَلْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ فَأَيّهُمَا الْمُصِيبُ ؟ فَأَجَابَ الْحَمْدُ لِلّهِ أَمّا الْقَائِلُ بِأَنّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ تَكُونَ اللّيْلَةُ الّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَظَائِرُهَا مِنْ كُلّ عَامٍ أَفْضَلَ لِأُمّةِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَامُهَا وَالدّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلَ [ ص 58 ] أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاطّرَادِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . هَذَا إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ تُعْرَفُ عَيْنُهَا فَكَيْفَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا وَلَا عَلَى عَشْرِهَا وَلَا عَلَى عَيْنِهَا بَلْ النّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ بِهِ وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللّيْلَةِ الّتِي يُظَنّ أَنّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِقِيَامِ وَلَا غَيْرِهِ بِخِلَافِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ تَحَرّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وَأَنّهُ أَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنّ اللّيْلَةَ الْمُعَيّنَةَ الّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَصَلَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْرَعَ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ وَلَا عِبَادَةٍ فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ إذَا أَعْطَى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضِيلَةً فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الزّمَانُ وَالْمَكَانُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ . هَذَا إذَا قُدّرَ أَنّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ إنْعَامَ اللّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ إنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النّعَمِ الّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا . وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَقَادِيرِ النّعَمِ الّتِي لَا تُعْرَفُ إلّا بِوَحْيِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَكَلّمَ فِيهَا بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنّهُ جَعَلَ لِلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهَا لَا سِيّمَا [ ص 59 ] كَانَ الصّحَابَةُ وَالتّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَلَا يَذْكُرُونَهَا وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ أَيّ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُشْرَعْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الزّمَانِ وَلَا ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعِبَادَةِ شَرْعِيّةٍ بَلْ غَارُ حِرَاءٍ الّذِي اُبْتُدِئَ فِيهِ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَكَانَ يَتَحَرّاهُ قَبْلَ النّبُوّةِ لَمْ يَقْصِدْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ النّبُوّةِ مُدّةَ مُقَامِهِ بِمَكّةَ وَلَا خُصّ الْيَوْمُ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْوَحْيُ بِعِبَادَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا خُصّ الْمَكَانَ الّذِي اُبْتُدِئَ فِيهِ بِالْوَحْيِ وَلَا الزّمَانُ بِشَيْءِ وَمَنْ خَصّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ مِنْ عِنْدِهِ بِعِبَادَاتِ لِأَجْلِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ جَعَلُوا زَمَانَ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ مَوَاسِمَ وَعِبَادَاتٍ كَيَوْمِ الْمِيلَادِ وَيَوْمِ التّعْمِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ . وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَمَاعَةً يَتَبَادَرُونَ مَكَانًا يُصَلّونَ فِيهِ فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مَكَانٌ صَلّى فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصّلَاةُ فَلْيُصَلّ وَإِلّا فَلْيَمْضِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّاسِ إنّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي حَقّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْأُمّةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَهَذِهِ اللّيْلَةُ فِي حَقّ الْأُمّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ وَلَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فِي حَقّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْضَلُ لَهُ .
[ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ يَوْمَيْ الْجُمْعَةِ وَعَرَفَةَ ]
فَإِنْ قِيلَ فَأَيّهُمَا أَفْضَلُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ ؟ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ يَوْمُ
الْجُمْعَةِ [ ص 60 ]
[ مَزِيّةُ وَقْفَةِ الْجُمْعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ ]
قِيلَ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَفْضِيلِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ مُحْتَجّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنّ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالصّوَابُ أَنّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النّحْرِ أَفْضَلُ أَيّامِ الْعَامِ وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَيْلَةُ الْجُمْعَةِ وَلِهَذَا كَانَ لِوَقْفَةِ الْجُمْعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيّةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَيّامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدّدَةٍ . أَحَدُهَا : اجْتِمَاعُ الْيَوْمَيْنِ اللّذَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَيّامِ . الثّانِي : أَنّهُ الْيَوْمُ الّذِي فِيهِ سَاعَةٌ مُحَقّقَةُ الْإِجَابَةِ وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ أَنّهَا آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ كُلّهُمْ إذْ ذَاكَ وَاقِفُونَ لِلدّعَاءِ وَالتّضَرّعِ . الثّالِثُ مُوَافَقَتُهُ لِيَوْمِ وَقْفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . الرّابِعُ أَنّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْخَلَائِقِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِلْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اجْتِمَاعَ أَهْلِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَيَحْصُلُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي [ ص 61 ] عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَيَحْصُلُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي [ ص 61 ] الْخَامِسُ أَنّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَوْمُ عِيدٍ وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفَةَ وَلِذَلِكَ كُرِهَ لِمَنْ بِعَرَفَةَ صَوْمُهُ وَفِي النّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ فَإِنّ مَهْدِيّ بْنَ حَرْبٍ الْعَبْدِيّ لَيْسَ بِمَعْرُوفِ وَمَدَارُهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمّ الْفَضْلِ " أَنّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمِ فَأَرْسَلْت إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ
[ الْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ]
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَقَوّى عَلَى الدّعَاءِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ - مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ - الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنّهُ عِيدٌ لِأَهْلِ عَرَفَة َ فَلَا يُسْتَحَبّ صَوْمُهُ لَهُمْ قَالَ وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الّذِي فِي " السّنَنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النّحْرِ وَأَيّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ [ ص 62 ] قَالَ شَيْخُنَا : وَإِنّمَا يَكُونُ يَوْمُ عَرَفَةَ عِيدًا فِي حَقّ أَهْلِ عَرَفَة َ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَإِنّهُمْ إنّمَا يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النّحْرِ فَكَانَ هُوَ الْعِيدَ فِي حَقّهِمْ وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ إذَا اتّفَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ جُمْعَةٍ فَقَدْ اتّفَقَ عِيدَانِ مَعًا . السّادِسُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ إكْمَالِ اللّهِ تَعَالَى دِينَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَال : جَاءَ يَهُودِيّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ تَقْرَءُونَهَا فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ لَاِتّخَذْنَاهُ عِيدًا قَالَ أَيّ آيَةٍ ؟ قَالَ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } [ الْمَائِدَةُ 3 ] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : إنّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ وَالْمَكَانَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ السّابِعُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللّهَ خَيْرًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ وَلِهَذَا شَرَعَ اللّهُ [ ص 63 ] كَانَ الْمَبْدَأُ وَفِيهِ الْمَعَادُ وَلِهَذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِهِ سُورَتَيْ ( السّجْدَةَ ) و ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ) لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ خَلْقِ آدَمَ وَذِكْرِ الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ وَدُخُولِ الْجَنّةِ وَالنّارِ فَكَانَ يُذَكّرُ الْأُمّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِمَا كَانَ فِيهِ وَمَا يَكُونُ فَهَكَذَا يَتَذَكّرُ الْإِنْسَانُ بِأَعْظَمِ مَوَاقِفِ الدّنْيَا - وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ - الْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ بَيْنَ يَدَيْ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَتَنَصّفُ حَتّى يَسْتَقِرّ أَهْلُ الْجَنّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَهْلُ النّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ . ا لثّامِنُ أَنّ الطّاعَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَيّامِ حَتّى إنّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْفُجُورِ يَحْتَرِمُونَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَتَهُ وَيَرَوْنَ أَنّ مَنْ تَجَرّأَ فِيهِ عَلَى مَعَاصِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ عَجّلَ اللّهُ عُقُوبَتَهُ وَلَمْ يُمْهِلْهُ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اسْتَقَرّ عِنْدَهُمْ وَعَلِمُوهُ بِالتّجَارِبِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَشَرَفِهِ عِنْدَ اللّهِ وَاخْتِيَارِ اللّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَيّامِ وَلَا رَيْبَ أَنّ لِلْوَقْفَةِ فِيهِ مَزِيّةً عَلَى غَيْرِهِ . التّاسِعُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْجَنّةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْجَنّةِ فِي وَادٍ أَفْيَحَ وَيُنْصَبُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ فَيَنْظُرُونَ إلَى رَبّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَتَجَلّى لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ عِيَانًا وَيَكُونُ أَسْرَعُهُمْ مُوَافَاةً أَعْجَلَهُمْ رَوَاحًا [ ص 64 ] وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْإِمَامِ فَأَهْلُ الْجَنّةِ مُشْتَاقُونَ إلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فِيهَا لِمَا يَنَالُونَ فِيهِ مِنْ الْكَرَامَةِ وَهُوَ يَوْمُ جُمْعَةٍ فَإِذَا وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ كَانَ لَهُ زِيَادَةُ مَزِيّةٍ وَاخْتِصَاصٍ وَفَضْلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ . الْعَاشِرُ أَنّهُ يَدْنُو الرّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ ثُمّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ أُشْهِدُكُمْ أَنّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوّهِ مِنْهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الّتِي لَا يَرُدّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ خَيْرًا فَيَقْرُبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتّضَرّعِ إلَيْهِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ تَعَالَى نَوْعَيْنِ مِنْ الْقُرْبِ أَحَدُهُمَا : قُرْبُ الْإِجَابَةِ الْمُحَقّقَةِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ وَالثّانِي : قُرْبُهُ الْخَاصّ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ وَمُبَاهَاتُهُ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمُورَ فَتَزْدَادُ قُوّةً إلَى قُوّتِهَا وَفَرَحًا وَسُرُورًا وَابْتِهَاجًا وَرَجَاءً لِفَضْلِ رَبّهَا وَكَرَمِهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا فُضّلَتْ وَقْفَةُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا [ ص 65 ] وَأَمّا مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامّ بِأَنّهَا تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجّةً فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ خَصَائِصُ الطّيّبِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ ]
وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَ مِنْ كُلّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْيَبَهُ وَاخْتَصّهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنّهُ تَعَالَى طَيّبٌ لَا يُحِبّ إلّا الطّيّبَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالصّدَقَةِ إلّا الطّيّبَ فَالطّيّبُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ هُوَ مُخْتَارُهُ تَعَالَى. وَأَمّا خَلْقُهُ تَعَالَى فَعَامّ لِلنّوْعَيْنِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ فَإِنّ الطّيّبَ لَا يُنَاسِبُهُ إلّا الطّيّبُ وَلَا يَرْضَى إلّا بِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلّا إلَيْهِ وَلَا يَطْمَئِنّ قَلْبُهُ إلّا بِهِ فَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْكَلِمُ الطّيّبُ الّذِي لَا يَصْعَدُ إلَى اللّهِ تَعَالَى إلّا هُوَ وَهُوَ أَشَدّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْ الْفُحْشِ فِي الْمَقَالِ وَالتّفَحّشِ فِي اللّسَانِ وَالْبَذَاءِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنّمِيمَةِ وَالْبُهْتِ وَقَوْلِ الزّورِ وَكُلّ كَلَامٍ خَبِيثٍ . وَكَذَلِكَ لَا يَأْلَفُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلّا أَطْيَبَهَا وَهِيَ الْأَعْمَالُ الّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السّلِيمَةُ مَعَ الشّرَائِعِ النّبَوِيّةِ وَزَكّتْهَا الْعُقُولُ الصّحِيحَةُ فَاتّفَقَ عَلَى حُسْنِهَا الشّرْعُ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ مِثْلُ أَنْ يَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ عَلَى هَوَاهُ وَيَتَحَبّبَ إلَيْهِ جَهْدَهُ وَطَاقَتَهُ وَيُحْسِنَ إلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ فَيَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُحِبّ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ وَيُعَامِلُوهُ بِهِ وَيَدَعُهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ يَدَعُوهُ مِنْهُ وَيَنْصَحُهُمْ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَحْكُمُ لَهُمْ بِمَا يُحِبّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِهِ وَيَحْمِلُ أَذَاهُمْ وَلَا يُحَمّلُهُمْ أَذَاهُ وَيَكُفّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ وَلَا يُقَابِلُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْ عِرْضِهِ وَإِذَا رَأَى لَهُمْ حَسَنًا أَذَاعَهُ وَإِذَا رَأَى لَهُمْ سَيّئًا كَتَمَهُ وَيُقِيمُ أَعْذَارَهُمْ مَا اسْتَطَاعَ فِيمَا لَا يُبْطِلُ شَرِيعَةً وَلَا يُنَاقِضُ لِلّهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا [ ص 66 ] وَلَهُ أَيْضًا مِنْ الْأَخْلَاقِ أَطْيَبُهَا وَأَزْكَاهَا كَالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ وَالسّكِينَةِ وَالرّحْمَةِ وَالصّبْرِ وَالْوَفَاءِ وَسُهُولَةِ الْجَانِبِ وَلِينِ الْعَرِيكَةِ وَالصّدْقِ وَسَلَامَةِ الصّدْرِ مِنْ الْغِلّ وَالْغِشّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالتّوَاضُعِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعِزّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللّهِ وَصِيَانَةِ الْوَجْهِ عَنْ بَذْلِهِ وَتَذَلّلِهِ لِغَيْرِ اللّهِ وَالْعِفّةِ وَالشّجَاعَةِ وَالسّخَاءِ وَالْمُرُوءَةِ وَكُلّ خُلُقٍ اتّفَقَتْ عَلَى حُسْنِهِ الشّرَائِعُ وَالْفِطَرُ وَالْعُقُولُ . وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْمَطَاعِمِ إلّا أَطْيَبَهَا وَهُوَ الْحَلَالُ الْهَنِيءُ الْمَرِيءُ الّذِي يُغَذّي الْبَدَنَ وَالرّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْمَنَاكِحِ إلّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا وَمِنْ الرّائِحَةِ إلّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا وَمِنْ الْأَصْحَابِ وَالْعُشَرَاءِ إلّا الطّيّبِينَ مِنْهُمْ فَرُوحُهُ طَيّبٌ وَبَدَنُهُ طَيّبٌ وَخُلُقُهُ طَيّبٌ وَعَمَلُهُ طَيّبٌ وَكَلَامُهُ طَيّبٌ وَمَطْعَمُهُ طَيّبٌ وَمَشْرَبُهُ طَيّبٌ وَمَلْبَسُهُ طَيّبٌ وَمَنْكَحُهُ طَيّبٌ وَمَدْخَلُهُ طَيّبٌ وَمَخْرَجُهُ طَيّبٌ وَمُنْقَلَبُهُ طَيّبٌ وَمَثْوَاهُ كُلّهُ طَيّبٌ . فَهَذَا مِمّنْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النّحْلُ 32 ] وَمِنْ الّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنّةِ { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزّمَرُ 72 ] وَهَذِهِ الْفَاءُ تَقْتَضِي السّبَبِيّةَ أَيْ بِسَبَبِ طِيبِكُمْ اُدْخُلُوهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ } [ النّورُ 26 ] وَقَدْ فُسّرَتْ الْآيَةُ بِأَنّ الْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثِينَ وَالْكَلِمَاتِ الطّيّبَاتِ لَلطّيّبِينَ وَفُسّرَتْ بِأَنّ النّسَاءَ الطّيّبَاتِ لِلرّجَالِ الطّيّبِينَ وَالنّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرّجَالِ الْخَبِيثِينَ وَهِيَ تَعُمّ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنّسَاءُ الطّيّبَاتُ لِمُنَاسِبِهَا مِنْ الطّيّبِينَ وَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنّسَاءُ الْخَبِيثَةُ لِمُنَاسِبِهَا مِنْ الْخَبِيثِينَ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الطّيّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنّةِ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بِحَذَافِيرِهِ فِي النّارِ فَجَعَلَ الدّورَ ثَلَاثَةً دَارًا أُخْلِصَتْ لَلطّيّبِينَ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ الطّيّبِينَ وَقَدْ جَمَعَتْ كُلّ طَيّبٍ وَهِيَ الْجَنّةُ وَدَارًا أُخْلِصَتْ لِلْخَبِيثِ وَالْخَبَائِثِ [ ص 67 ] وَقَعَ الِابْتِلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِسَبَبِ هَذَا الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيّةِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ مَعَادِ الْخَلِيقَةِ مَيّزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطّيّبِ فَجَعَلَ الطّيّبَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى دَارَيْنِ فَقَطْ الْجَنّةِ وَهِيَ دَارُ الطّيّبِينَ وَالنّارِ وَهِيَ دَارُ الْخَبِيثِينَ وَأَنْشَأَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الْفَرِيقَيْنِ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فَجَعَلَ طَيّبَاتِ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ نَعِيمِهِمْ وَلَذّاتِهِمْ أَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِ النّعِيمِ وَالسّرُورِ وَجَعَلَ خَبِيثَاتِ أَقْوَالِ الْآخَرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ عَذَابِهِمْ وَآلَامِهِمْ فَأَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَعِزّةً بَاهِرَةً قَاهِرَةً لِيُرِيَ عِبَادَهُ كَمَالَ رُبُوبِيّتِهِ وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ وَعِلْمَهُ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلِيَعْلَمَ أَعْدَاؤُهُ أَنّهُمْ كَانُوا هُمْ الْمُفْتَرِينَ الْكَذّابِينَ لَا رُسُلُهُ الْبَرَرَةُ الصّادِقُونَ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } [ النّحْلُ 38-39 ] . وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَعَلَ لِلسّعَادَةِ وَالشّقَاوَةِ عُنْوَانًا يُعْرَفَانِ بِهِ فَالسّعِيدُ الطّيّبُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلّا طَيّبٌ وَلَا يَأْتِي إلّا طَيّبًا وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلّا طَيّبٌ وَلَا يُلَابِسُ إلّا طَيّبًا وَالشّقِيّ الْخَبِيثُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلّا الْخَبِيثُ وَلَا يَأْتِي إلّا خَبِيثًا وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلّا الْخَبِيثُ فَالْخَبِيثُ يَتَفَجّرُ مَنْ قَلْبِهِ الْخُبْثُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ وَالطّيّبُ يَتَفَجّرُ مِنْ قَلْبِهِ الطّيبُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ . وَقَدْ يَكُونُ فِي الشّخْصِ مَادّتَانِ فَأَيّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ أَرَادَ اللّهَ بِهِ خَيْرًا طَهّرَهُ مِنْ الْمَادّةِ الْخَبِيثَةِ قَبْلَ الْمُوَافَاةِ فَيُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُطَهّرًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَطْهِيرِهِ بِالنّارِ فَيُطَهّرُهُ مِنْهَا بِمَا يُوَفّقُهُ لَهُ مِنْ التّوْبَةِ النّصُوحِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ حَتّى يَلْقَى اللّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَيُمْسِكُ عَنْ الْآخَرِ مَوَادّ [ ص 68 ] الْقِيَامَةِ بِمَادّةِ خَبِيثَةٍ وَمَادّةٍ طَيّبَةٍ وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى تَأْبَى أَنْ يُجَاوِرَهُ أَحَدٌ فِي دَارِهِ بِخَبَائِثِهِ فَيُدْخِلَهُ النّارَ طُهْرَةً لَهُ وَتَصْفِيَةً وَسَبْكًا فَإِذَا خَلَصَتْ سَبِيكَةُ إيمَانِهِ مِنْ الْخَبَثِ صَلُحَ حِينَئِذٍ لِجِوَارِهِ وَمُسَاكَنَةِ الطّيّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ . وَإِقَامَةُ هَذَا النّوْعِ مِنْ النّاسِ فِي النّارِ عَلَى حَسَبِ سُرْعَةِ زَوَالِ تِلْكَ الْخَبَائِثِ مِنْهُمْ وَبُطْئِهَا فَأَسْرَعُهُمْ زَوَالًا وَتَطْهِيرًا أَسْرَعُهُمْ خُرُوجًا وَأَبْطَؤُهُمْ أَبْطَؤُهُمْ خُرُوجًا جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبّك بِظَلّامِ لِلْعَبِيدِ . وَلَمّا كَانَ الْمُشْرِكُ خَبِيثَ الْعُنْصُرِ خَبِيثَ الذّاتِ لَمْ تُطَهّرْ النّارُ خُبْثَهُ بَلْ لَوْ خَرَجَ مِنْهَا لَعَادَ خَبِيثًا كَمَا كَانَ كَالْكَلْبِ إذَا دَخَلَ الْبَحْرَ ثُمّ خَرَجَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ حَرّمَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِ الْجَنّةَ . وَلَمّا كَانَ الْمُؤْمِنُ الطّيّبُ الْمُطَيّبُ مُبَرّئًا مِنْ الْخَبَائِثِ كَانَتْ النّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَطْهِيرَهُ بِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ وَشَهِدَتْ فِطَرُ عِبَادِهِ وَعُقُولُهُمْ بِأَنّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَرَبّ الْعَالَمِينَ لَا إلَهَ إلّا هُوَ .
فَصْلٌ [ اضْطِرَارُ الْعِبَادِ إلَى مَعْرِفَةِ الرّسُولِ ]
وَمِنْ هَاهُنَا تَعْلَمُ اضْطِرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلّ ضَرُورَةٍ إلَى مَعْرِفَةِ الرّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ فَإِنّهُ لَا سَبِيلَ إلَى السّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ لَا فِي الدّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إلّا عَلَى أَيْدِي الرّسُلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الطّيّبِ وَالْخَبِيثِ عَلَى التّفْصِيلِ إلّا مِنْ جِهَتِهِمْ وَلَا يُنَالُ رِضَا اللّهِ الْبَتّةَ إلّا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَالطّيّبُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَيْسَ إلّا هَدْيَهُمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ فَهُمْ الْمِيزَانُ الرّاجِحُ الّذِي عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ وبمتابعتهم يَتَمَيّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضّلَالِ فَالضّرُورَةُ إلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَدَنِ إلَى رُوحِهِ وَالْعَيْنِ إلَى نُورِهَا وَالرّوحِ إلَى حَيَاتِهَا [ ص 69 ] غَابَ عَنْك هَدْيُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَسَدَ قَلْبُك وَصَارَ كَالْحُوتِ إذَا فَارَقَ الْمَاءَ وَوُضِعَ فِي الْمِقْلَاةِ فَحَالُ الْعَبْدِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ قَلْبِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرّسُلُ كَهَذِهِ الْحَالِ بَلْ أَعْظَمُ وَلَكِنْ لَا يُحِسّ بِهَذَا إلّا قَلْبٌ حَيّ
وَمَا لِجُرْحِ بِمَيّتِ إيلَامُ
وَإِذَا كَانَتْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدّارَيْنِ مُعَلّقَةً بِهَدْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلّ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَحَبّ نَجَاتَهَا وَسَعَادَتَهَا أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْجَاهِلِينَ بِهِ وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ وَالنّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
فَصْلٌ [ إشَارَةُ الْمُصَنّفِ إلَى تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فِي السّفَرِ مَعَ تَشَتّتِ الْقَلْبِ وَفَقْدِ الْكِتَابِ ]
وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ يَسِيرَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَعْرِفَتِهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى هِمّةٍ إلَى مَعْرِفَةِ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ اقْتَضَاهَا الْخَاطِرُ الْمَكْدُودُ عَلَى عُجَرِهِ وَبُجَرِهِ مَعَ الْبِضَاعَةِ الْمُزْجَاةِ الّتِي لَا تَنْفَتِحُ لَهَا أَبْوَابُ السّدَدِ وَلَا يَتَنَافَسُ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ مَعَ تَعْلِيقِهَا فِي حَالِ السّفَرِ لَا الْإِقَامَةِ وَالْقَلْبُ بِكُلّ وَادٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ وَالْهِمّةُ قَدْ تَفَرّقَتْ [ ص 70 ] شَذَرٌ مَذَرٌ وَالْكِتَابُ مَفْقُودٌ وَمَنْ يَفْتَحْ بَابَ الْعِلْمِ لِمُذَاكَرَتِهِ مَعْدُومٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَعَوْدُ الْعِلْمِ النّافِعِ الْكَفِيلِ بِالسّعَادَةِ قَدْ أَصْبَحَ ذَاوِيًا وَرُبْعُهُ قَدْ أَوْحَشَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَادَ مِنْهُمْ خَالِيًا فَلِسَانُ الْعَالِمِ قَدْ مُلِئَ بِالْغُلُولِ مُضَارَبَةً لِغَلَبَةِ الْجَاهِلِينَ وَعَادَتْ مَوَارِدُ شِفَائِهِ وَهِيَ مَعَاطِبُهُ لِكَثْرَةِ الْمُنْحَرِفِينَ وَالْمُحَرّفِينَ فَلَيْسَ لَهُ مُعَوّلٌ إلّا عَلَى الصّبْرِ الْجَمِيلِ وَمَا لَهُ نَاصِرٌ وَلَا مُعِينٌ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

فَصْلٌ فِي نَسَبِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِنَسَبِهِ مِنْ الشّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا شَهِدَ لَهُ بِهِ عَدُوّهُ إذْ ذَاكَ أَبُو سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرّومِ فَأَشْرَفُ الْقَوْمِ قَوْمُهُ وَأَشْرَفُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ وَأَشْرَفُ الْأَفْخَاذِ فَخِذُهُ . فَهُوَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَة َ بْنَ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَبْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ إلَى هَاهُنَا مَعْلُومُ الصّحّةِ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النّسّابِينَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ الْبَتّةَ وَمَا فَوْقَ " عَدْنَانَ " مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ أَنّ " عَدْنَانَ " مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيل َ [ ص 71 ] وَإِسْمَاعِيلَ : هُوَ الذّبِيحُ عَلَى الْقَوْلِ الصّوَابِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
[ بُطْلَانُ الْقَوْلِ بِأَنّ الذّبِيحَ هُوَ إسْحَاقُ ]
وَأَمّا الْقَوْلُ بِأَنّهُ إسْحَاقُ فَبَاطِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ إنّمَا هُوَ مُتَلَقّى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ أَنّهُ بَاطِلٌ بِنَصّ كِتَابِهِمْ فَإِنّ فِيهِ إنّ اللّهَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ بِكْرَهُ وَفِي لَفْظٍ وَحِيَدَهُ وَلَا يَشُكّ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَنّ إسْمَاعِيلَ هُوَ بِكْرُ أَوْلَادِهِ وَاَلّذِي غَرّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ فِي التّوْرَاةِ الّتِي بِأَيْدِيهِمْ اذْبَحْ ابْنَك إسْحَاقَ قَالَ وَهَذِهِ الزّيَادَةُ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ وَكَذِبِهِمْ لِأَنّهَا تُنَاقِضُ قَوْلَهُ اذْبَحْ بِكْرَك وَوَحِيدَك وَلَكِنّ الْيَهُودَ حَسَدَتْ بَنِي إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذَا الشّرَفِ وَأَحَبّوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَأَنْ يَسُوقُوهُ إلَيْهِمْ وَيَحْتَازُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ الْعَرَبِ وَيَأْبَى اللّهُ إلّا أَنْ يَجْعَلَ فَضْلَهُ لِأَهْلِهِ . وَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إنّ الذّبِيحَ إسْحَاقُ وَاَللّهُ تَعَالَى قَدْ بَشّرَ أُمّ إسْحَاقَ بِهِ وَبِابْنِهِ يَعْقُوبَ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ إنّهُمْ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ لَمّا أَتَوْهُ بِالْبُشْرَى : { لَا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هُود : 7071 ] فَمُحَالٌ أَنْ يُبَشّرَهَا بِأَنّهُ يَكُونُ لَهَا وَلَدٌ ثُمّ يَأْمُرُ بِذَبْحِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ يَعْقُوبَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ دَاخِلٌ فِي الْبِشَارَةِ فَتَنَاوُلُ الْبِشَارَةِ لِإِسْحَاقِ وَيَعْقُوبَ فِي اللّفْظِ وَاحِدٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ . فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكَانَ " يَعْقُوبُ " مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى [ ص 72 ] إسْحَاقَ فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أَيْ وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ . قِيلَ لَا يَمْنَعُ الرّفْعُ أَنْ يَكُونَ يَعْقُوبُ مُبَشّرًا بِهِ لِأَنّ الْبِشَارَةَ قَوْلٌ مَخْصُوصٌ وَهِيَ أَوّلُ خَبَرٍ سَارّ صَادِقٍ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } جُمْلَةٌ مُتَضَمّنَةٌ لِهَذِهِ الْقُيُودِ فَتَكُونُ بِشَارَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْبِشَارَةِ هِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيّةُ . وَلَمّا كَانَتْ الْبِشَارَةُ قَوْلًا كَانَ مَوْضِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نَصْبًا عَلَى الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ كَأَنّ الْمَعْنَى : وَقُلْنَا لَهَا : مِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبُ وَالْقَائِلُ إذَا قَالَ بَشّرْتُ فُلَانًا بِقُدُومِ أَخِيهِ وَثِقَلِهِ فِي أَثَرِهِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ إلّا بِشَارَتُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . هَذَا مِمّا لَا يَسْتَرِيبُ ذُو فَهْمٍ فِيهِ الْبَتّةَ ثُمّ يُضْعِفُ الْجَرّ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ ضَعْفُ قَوْلِك : مَرَرْت بِزَيْدٍ وَمِنْ بَعْدِهِ عَمْرٍو وَلِأَنّ الْعَاطِفَ يَقُومُ مَقَامَ حَرْفِ الْجَرّ فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْرُورِ كَمَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَ حَرْفِ الْجَرّ وَالْمَجْرُورِ . وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا ذَكَرَ قِصّةَ إبْرَاهِيمَ وَابْنَهُ الذّبِيحِ فِي سُورَةِ ( الصّافّاتِ ) قَالَ { فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَا إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [ الصّافّاتُ 103 - 111 ] . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } [ الصّافّاتُ 112 ] . فَهَذِهِ بِشَارَةٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى لَهُ شُكْرًا عَلَى صَبْرِهِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا فِي أَنّ الْمُبَشّرَ بِهِ غَيْرُ الْأَوّلِ بَلْ هُوَ كَالنّصّ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ فَالْبِشَارَةُ الثّانِيَةُ وَقَعَتْ عَلَى نُبُوّتِهِ أَيْ لَمّا صَبَرَ الْأَبُ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَأَسْلَمَ الْوَلَدُ لِأَمْرِ اللّهِ جَازَاهُ اللّه عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَعْطَاهُ النّبُوّةَ . قِيلَ الْبِشَارَةُ وَقَعَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ عَلَى ذَاتِهِ وَوُجُودِهِ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيّا وَلِهَذَا نُصِبَ " نَبِيّا " عَلَى الْحَالِ الْمُقَدّرِ أَيْ مُقَدّرًا نُبُوّتَهُ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبِشَارَةِ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَصْلِ ثُمّ تُخَصّ بِالْحَالِ التّابِعَةِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْفَضْلَةِ هَذَا مُحَالٌ مِنْ الْكَلَامِ بَلْ إذَا وَقَعَتْ الْبِشَارَةُ عَلَى نُبُوّتِهِ فَوُقُوعُهَا عَلَى وُجُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى [ ص 73 ] كَانَ بِمَكّةَ وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ الْقَرَابِينُ يَوْمَ النّحْرِ بِهَا كَمَا جُعِلَ السّعْيُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ تَذْكِيرًا لِشَأْنِ إسْمَاعِيلَ وَأُمّهِ وَإِقَامَةً لِذِكْرِ اللّهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ إسْمَاعِيلَ وَأُمّهُ هُمَا اللّذَانِ كَانَا بِمَكّةَ دُونَ إسْحَاقَ وَأُمّهِ وَلِهَذَا اتّصَلَ مَكَانُ الذّبْحِ وَزَمَانُهُ بِالْبَيْتِ الْحَرَام ِ الّذِي اشْتَرَكَ فِي بِنَائِهِ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَكَانَ النّحْرُ بِمَكّةَ مِنْ تَمَامِ حَجّ الْبَيْتِ الّذِي كَانَ عَلَى يَدِ إبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إسْمَاعِيلَ زَمَانًا وَمَكَانًا وَلَوْ كَانَ الذّبْحُ بِالشّامِ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقّى عَنْهُمْ لَكَانَتْ الْقَرَابِينُ وَالنّحْرُ بِالشّامِ لَا بِمَكّةَ . وَأَيْضًا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَمّى الذّبِيحَ حَلِيمًا . لِأَنّهُ لَا أَحْلَمَ مِمّنْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِلذّبْحِ طَاعَةً لِرَبّهِ . وَلَمّا ذَكَرَ إسْحَاقَ سَمّاهُ عَلِيمًا فَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } [ الذّارِيَاتُ 24 25 ] إلَى أَنْ قَالَ { قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } [ الذّارِيَاتُ 28 ] وَهَذَا إسْحَاقُ بِلَا رَيْبٍ لِأَنّهُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ الْمُبَشّرَةُ بِهِ وَأَمّا إسْمَاعِيلُ فَمِنْ السّرّيّةِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُمَا بُشّرَا بِهِ عَلَى الْكِبَرِ وَالْيَأْسِ مِنْ الْوَلَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ إسْمَاعِيلَ فَإِنّهُ وُلِدَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ الْبَشَرِيّةَ أَنّ بِكْرَ الْأَوْلَادِ أَحَبّ إلَى الْوَالِدَيْنِ مِمّنْ بَعْدَهُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمّا سَأَلَ رَبّهُ الْوَلَدَ وَوَهَبَهُ لَهُ تَعَلّقَتْ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ بِمَحَبّتِهِ وَاَللّهُ تَعَالَى قَدْ اتّخَذَهُ خَلِيلًا وَالْخُلّةُ مَنْصِبٌ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْمَحْبُوبِ بِالْمَحَبّةِ وَأَنْ لَا يُشَارِكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِيهَا فَلَمّا أَخَذَ الْوَلَدُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِ الْوَالِدِ جَاءَتْ غَيْرَةُ الْخُلّةِ تَنْتَزِعُهَا مَنْ قَلْبِ الْخَلِيلِ فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْمَحْبُوبِ فَلَمّا أَقْدَمَ عَلَى ذَبْحِهِ وَكَانَتْ مَحَبّةُ اللّهِ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ مَحَبّةِ الْوَلَدِ خَلَصَتْ الْخُلّةُ حِينَئِذٍ مِنْ شَوَائِبَ الْمُشَارَكَةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الذّبْحِ مَصْلَحَةٌ إذْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ إنّمَا هِيَ فِي الْعَزْمِ وَتَوْطِينِ النّفْسِ عَلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَنُسِخَ الْأَمْرُ وَفُدِيَ الذّبِيحُ وَصَدّقَ الْخَلِيلُ الرّؤْيَا وَحَصَلَ مُرَادُ الرّبّ . [ ص 74 ] حَصَلَ عِنْدَ أَوّلِ مَوْلُودٍ وَلَمْ يَكُنْ لِيَحْصُلَ فِي الْمَوْلُودِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوّلِ بَلْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ الْمَوْلُودِ الْآخَرِ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْخُلّةِ مَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِذَبْحِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ . وَأَيْضًا فَإِنّ سَارَةَ امْرَأَةُ الْخَلِيلِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ وَابْنِهَا أَشَدّ الْغَيْرَةِ فَإِنّهَا كَانَتْ جَارِيَةً فَلَمّا وَلَدَتْ إسْمَاعِيلَ وَأَحَبّهُ أَبُوهُ اشْتَدّتْ غَيْرَةُ " سَارَةَ " فَأَمَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبْعِدَ عَنْهَا " هَاجَرَ " وَابْنَهَا وَيُسْكِنَهَا فِي أَرْضِ مَكّةَ لِتَبْرُدَ عَنْ " سَارَةَ " حَرَارَةُ الْغَيْرَةِ وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَرَأْفَتِهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهَا وَيَدَعَ ابْنَ الْجَارِيَةِ بِحَالِهِ هَذَا مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ لَهَا وَإِبْعَادِ الضّرَرِ عَنْهَا وَجَبْرِهِ لَهَا فَكَيْفَ يَأْمُرُ بَعْدَ هَذَا بِذَبْحِ ابْنِهَا دُونَ ابْنِ الْجَارِيَةِ بَلْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَأْمُرَ بِذَبْحِ وَلَدِ السّرّيّةِ فَحِينَئِذٍ يَرِقّ قَلْبُ السّيّدَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا وَتَتَبَدّلُ قَسْوَةُ الْغَيْرَةِ رَحْمَةً وَيَظْهَرُ لَهَا بَرَكَةُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا وَأَنّ اللّهَ لَا يُضِيعُ بَيْتًا هَذِهِ وَابْنُهَا مِنْهُمْ وَلِيُرِيَ عِبَادَهُ جَبْرَهُ بَعْدَ الْكَسْرِ وَلُطْفَهُ بَعْدَ الشّدّةِ وَأَنّ عَاقِبَةَ صَبْرِ " هَاجَرَ " وَابْنِهَا عَلَى الْبُعْدِ وَالْوَحْدَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالتّسْلِيمِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ آلَتْ إلَى مَا آلَتْ إلَيْهِ مِنْ جَعْلِ آثَارِهِمَا وَمَوَاطِئِ أَقْدَامِهِمَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُتَعَبّدَاتٍ لَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذِهِ سُنّتُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يُرِيدُ رَفْعَهُ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَمُنّ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِضْعَافِهِ وَذُلّهِ وَانْكِسَارِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [ الْقَصَصُ 5 ] وَذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُاَللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
[ مَوْلِدُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ سِيرَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَدْيِهِ وَأَخْلَاقِهِ لَا خِلَافَ أَنّهُ وُلِدَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَوْفِ مَكّةَ وَأَنّ مَوْلِدَهُ كَانَ عَامَ الْفِيلِ وَكَانَ أَمْرُ الْفِيلِ تَقْدِمَةً قَدّمَهَا اللّهُ لِنَبِيّهِ وَبَيْتِهِ وَإِلّا فَأَصْحَابُ الْفِيلِ كَانُوا نَصَارَى أَهْلَ كِتَابٍ وَكَانَ دِينُهُمْ خَيْرًا مِنْ دِينِ أَهْلِ مَكّةَ إذْ ذَاكَ لِأَنّهُمْ كَانُوا عُبّادَ أَوْثَانٍ فَنَصَرَهُمْ اللّهُ عَلَى [ ص 75 ] وَتَقْدِمَةً لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي خَرَجَ مِنْ مَكّةَ وَتَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ الْحَرَام .ِ
[ وَفَاةُ أَبِيهِ ]
وَاخْتُلِفَ فِي وَفَاةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ هَلْ تُوُفّيَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمْلٌ أَوْ تُوُفّيَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحّهُمَا : أَنّهُ تُوُفّيَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمْلٌ . وَالثّانِي : أَنّهُ تُوُفّيَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ . وَلَا خِلَافَ أَنّ أُمّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ " بِالْأَبْوَاءِ " مُنْصَرَفَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ وَلَمْ يَسْتَكْمِلْ إذْ ذَاكَ سَبْعَ سِنِينَ . وَكَفَلَهُ جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَتُوُفّيَ وَلِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوَ ثَمَانِ سِنِينَ وَقِيلَ سِتّ وَقِيلَ عَشْرٌ ثُمّ كَفَلَهُ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍ وَاسْتَمَرّتْ كَفَالَتُهُ لَهُ فَلَمّا بَلَغَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً خَرَجَ بِهِ عَمّهُ إلَى الشّامِ وَقِيلَ كَانَتْ سِنّهُ تِسْعَ سِنِينَ وَفِي هَذِهِ الْخَرْجَةِ رَآهُ بَحِيرَى الرّاهِبُ وَأَمَرَ عَمّهُ أَلّا يَقْدَمَ بِهِ إلَى الشّامِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ الْيَهُودِ فَبَعَثَهُ عَمّهُ مَعَ بَعْضِ غِلْمَانِهِ إلَى مَكّةَ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ أَنّهُ بَعْثُ مَعَهُ بِلَالًا وَهُوَ مِنْ الْغَلَطِ الْوَاضِحِ فَإِنّ بِلَالًا إذْ ذَاكَ لَعَلّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَإِنْ كَانَ فَلَمْ يَكُنْ مَعَ عَمّهِ وَلَا مَعَ أَبِي بَكْر ٍ . وَذَكَرَ الْبَزّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَقُلْ وَأَرْسَلَ مَعَهُ عَمّهُ بِلَالًا وَلَكِنْ قَالَ رَجُلًا . فَلَمّا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً خَرَجَ إلَى الشّامِ فِي تِجَارَةٍ فَوَصَلَ إلَى [ ص 76 ] " بُصْرَى " ثُمّ رَجَعَ فَتَزَوّجَ عَقِبَ رُجُوعِهِ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ . وَقِيلَ تَزَوّجَهَا وَلَهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً . وَقِيلَ إحْدَى وَعِشْرُونَ وَسِنّهَا أَرْبَعُونَ وَهِيَ أَوّلُ امْرَأَةٍ تَزَوّجَهَا وَأَوّلُ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مِنْ نِسَائِهِ وَلَمْ يَنْكِحْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا وَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهَا السّلَامَ مِنْ رَبّهَا . ثُمّ حَبّبَ اللّهُ إلَيْهِ الْخَلْوَةَ وَالتّعَبّدَ لِرَبّهِ وَكَانَ يَخْلُو ب " غَارِ حِرَاءٍ " يَتَعَبّدُ فِيهِ اللّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَبُغّضَتْ إلَيْهِ الْأَوْثَانُ وَدِينُ قَوْمِهِ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ .

[ نُبُوّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَلَمّا كَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ النّبُوّةِ وَأَكْرَمَهُ اللّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ وَبَعَثَهُ إلَى خَلْقِهِ وَاخْتَصّهُ بِكَرَامَتِهِ وَجَعَلَهُ أَمِينَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ . وَلَا خِلَافَ أَنّ مَبْعَثَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَاخْتُلِفَ فِي شَهْرِ الْمَبْعَثِ . فَقِيلَ لِثَمَانِ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعِ الْأَوّلِ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنْ عَامِ الْفِيلِ هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَقِيلَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ وَاحْتَجّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } الْبَقَرَةُ 185 ] قَالُوا : أَوّلُ مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ [ ص 77 ] أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يَحْيَى الصّرْصَرِيّ حَيْثُ يَقُولُ فِي نُونِيّتِهِ
وَأَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ فَأَشْرَقَتْ
شَمْسُ النّبْوَةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ
وَالْأَوّلُونَ قَالُوا : إنّمَا كَانَ إنْزَالُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى بَيْتِ الْعِزّةِ ثُمّ أُنْزِلَ مُنَجّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ فِي شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَفُرِضَ صَوْمُهُ . وَقِيلَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْمَبْعَثِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ .
[مَرَاتِبُ الْوَحْيِ ]
وَكَمّلَ اللّهُ لَهُ مِنْ مَرَاتِبَ الْوَحْيِ مَرَاتِبَ عَدِيدَةً
إحْدَاهَا : الرّؤْيَا الصّادِقَةُ وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ . الثّانِيَةُ مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي رَوْعِهِ وَقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ فَإِنّ مَا عِنْدَ اللّهِ لَا يُنَالُ إلّا بِطَاعَتِهِ
[ ص 78 ] [ ص 77 ] الثّالِثَةُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَمَثّلُ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُخَاطِبَهُ حَتّى يَعِيَ عَنْهُ مَا يَقُولُ لَهُ وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصّحَابَةُ أَحْيَانًا . الرّابِعَةُ أَنّهُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَكَانَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ فَيَتَلَبّسُ بِهِ الْمَلَكُ حَتّى إنّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصّدُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشّدِيدِ الْبَرْدِ وَحَتّى إنّ رَاحِلَتَهُ لِتَبْرُك بِهِ إلَى الْأَرْضِ إذَا كَانَ رَاكِبَهَا . وَلَقَدْ جَاءَ الْوَحْيُ مَرّةً كَذَلِكَ وَفَخْذُهُ عَلَى فَخْذِ [ ص 79 ] فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَتّى كَادَتْ تَرُضّهَا . الْخَامِسَةُ أَنّهُ يَرَى الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ الّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا فَيُوحِي إلَيْهِ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يُوحِيَهُ وَهَذَا وَقَعَ لَهُ مَرّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ اللّهُ ذَلِكَ فِي [ النّجْمِ 713 ] . السّادِسَةُ مَا أَوْحَاهُ اللّهُ وَهُوَ فَوْقَ السّمَوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ الصّلَاةِ وَغَيْرِهَا . السّابِعَةُ كَلَامُ اللّهِ لَهُ مِنْهُ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ كَمَا كَلّمَ اللّهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى قَطْعًا بِنَصّ الْقُرْآنِ وَثُبُوتُهَا لِنَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ . وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ مَرْتَبَةً ثَامِنَةً وَهِيَ تَكْلِيمُ اللّهِ لَهُ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ السّلَفِ وَالْخَلَفِ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الصّحَابَةِ بَلْ كُلّهُمْ مَعَ عَائِشَةَ كَمَا حَكَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيّ إجْمَاعًا لِلصّحَابَةِ
[ ص 79 ] [ ص 80 ]

فَصْلٌ فِي خِتَانِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
أَحَدُهَا : أَنّهُ وُلِدَ مَخْتُونًا مَسْرُورًا وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَصِحّ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيّ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصّهِ فَإِنّ كَثِيرًا مِنْ النّاسِ يُولَدُ مَخْتُونًا . وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ مَسْأَلَةٌ سُئِلْتُ عَنْهَا : خَتّانٌ خَتَنَ صَبِيّا فَلَمْ يَسْتَقْصِ ؟ قَالَ إذَا كَانَ الْخَتّانُ جَاوَزَ نِصْفَ الْحَشَفَةِ إلَى فَوْقٍ فَلَا يُعِيدُ لِأَنّ الْحَشَفَةَ تَغْلُظُ وَكُلّمَا غَلُظَتْ ارْتَفَعَ الْخِتَانُ . فَأَمّا إذَا كَانَ الْخِتَانُ دُونَ النّصْفِ فَكُنْتُ أَرَى أَنْ يُعِيدَ . قُلْت : فَإِنّ الْإِعَادَةَ شَدِيدَةٌ جِدّا وَقَدْ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعَادَةِ ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي ثُمّ قَالَ لِي فَإِنّ هَاهُنَا رَجُلًا وُلِدَ لَهُ ابْنٌ مَخْتُونٌ فَاغْتَمّ لِذَلِكَ غَمّا شَدِيدًا فَقُلْت لَهُ إذَا كَانَ اللّهُ قَدْ كَفَاك الْمُؤْنَةَ فَمَا غَمّكَ بِهَذَا ؟ انْتَهَى . وَحَدّثَنِي صَاحِبُنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْخَلِيلِيّ الْمُحَدّثُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنّهُ وُلِدَ كَذَلِكَ وَأَنّ أَهْلَهُ لَمْ يَخْتِنُوهُ وَالنّاسُ يَقُولُونَ لِمَنْ وُلِدَ كَذَلِكَ خَتَنَهُ الْقَمَرُ وَهَذَا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ .
الْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهُ خُتِنَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ شَقّ قَلْبَهُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ظِئْرِهِ حَلِيمَةَ .
الْقَوْلُ الثّالِثُ أَنّ جَدّهُ عَبْدَ الْمُطّلِبِ خَتَنَهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَصَنَعَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمّاهُ مُحَمّدًا . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرّ : وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ غَرِيبٌ حَدّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَحْمَدَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْن عِيسَى حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ الْعَلّافُ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي السّرِيّ الْعَسْقَلَانِيّ حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ خَتَنَ [ ص 81 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ سَابِعِهِ وَجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمّاهُ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَحْيَى بْن أَيّوبَ طَلَبْت هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ أَجِدْهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِمّنْ لَقِيته إلّا عِنْدَ ابْنِ أَبِي السّرِيّ وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاضِلَيْنِ صَنّفَ أَحَدُهُمَا مُصَنّفًا فِي أَنّهُ وُلِدَ مَخْتُونًا وَأَجْلَبَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الّتِي لَا خِطَامَ لَهَا وَلَا زِمَامَ وَهُوَ كَمَالُ الدّينِ بْنُ طَلْحَةَ فَنَقَضَهُ عَلَيْهِ كَمَالُ الدّينِ بْنُ الْعَدِيمِ وَبَيّنَ فِيهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُتِنَ عَلَى عَادَة الْعَرَبُ وَكَانَ عُمُومٌ هَذِهِ السّنّة لِلْعَرَبِ قَاطِبَةً مُغْنِيًا عَنْ نَقْلٍ مُعَيّنٍ . فِيهَا وَاَللّه أَعْلَم .

فَصْلٌ فِي أُمّهَاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّاتِي أَرْضَعْنَهُ
فَمِنْهُنّ ثُوَيْبَةَ مَوْلَاةِ أَبِي لَهَب ٍ أَرْضَعَتْهُ أَيّامًا وَأَرْضَعَتْ مَعَهُ أَبَا سَلَمَة عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ بِلَبَنِ ابْنِهَا مَسْرُوحٍ وَأَرْضَعَتْ مَعَهُمَا عَمّهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَاخْتَلَفَ فِي إسْلَامهَا فَاَللّهُ أَعْلَم . ثُمّ أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ السّعْدِيّةُ بِلَبَنِ ابْنِهَا عَبْدِ اللّهِ أَخِي أُنَيْسَةَ وَجُدَامَةَ وَهِيَ الشّيْمَاءُ أَوْلَادُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ رِفَاعَةَ السّعْدِيّ وَاخْتُلِفَ فِي إسْلَامِ أَبَوَيْهِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَرْضَعَتْ مَعَهُ ابْنَ عَمّهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَانَ عَمّهُ حَمْزَةُ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْر ٍ [ ص 82 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ أُمّهِ فَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ ثُويبة وَمِنْ جِهَةِ السّعْدِيّةِ .

فَصْلٌ فِي حَوَاضِنِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْهُنّ أُمّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ . وَمِنْهُنّ ثُويبة وَحَلِيمَةُ وَالشّيْمَاءُ ابْنَتُهَا وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمّهَا وَهِيَ الّتِي قَدِمَتْ عَلَيْهِ فِي وَفْدِ هَوَازِنَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ رِعَايَةً لِحَقّهَا . وَمِنْهُنّ الْفَاضِلَةُ الْجَلِيلَةُ أُمّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ الْحَبَشِيّة ُ وَكَانَ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ دَايَتَهُ وَزَوّجَهَا مِنْ حِبّهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ وَهِيَ الّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْر وَعُمَر ُ بَعْدَ مَوْتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَا : يَا أُمّ أَيْمَن َ مَا يُبْكِيك فَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ؟ قَالَتْ إنّي لَأَعْلَمُ أَنّ مَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ وَإِنّمَا أَبْكِي لِانْقِطَاعِ خَبَرِ السّمَاءِ فَهَيّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَبَكَيَا .

فَصْلٌ فِي مَبْعَثِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَوّلُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ
بَعَثَهُ اللّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنّ الْكَمَالِ . قِيلَ وَلَهَا تُبْعَثُ الرّسُلُ وَأَمّا مَا يُذْكَرُ عَنْ الْمَسِيحِ أَنّهُ رُفِعَ إلَى السّمَاءِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً فَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَثَرٌ مُتّصِلٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْه . وَأَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَمْرِ النّبُوّةِ الرّؤْيَا فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ [ ص 83 ] قِيلَ وَكَانَ ذَلِكَ سِتّةَ أَشْهُرٍ وَمُدّةُ النّبُوّةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فَهَذِهِ الرّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النّبُوّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . ثُمّ أَكْرَمَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالنّبُوّةِ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ وَكَانَ يُحِبّ الْخَلْوَةَ فِيهِ فَأَوّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ } [ الْعَلَقُ 1 ] هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَالْجُمْهُورِ . وَقَالَ جَابِرٌ : أَوّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } وَالصّحِيحُ قَوْلُ ع َائِشَةَ ل ِوُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ قَوْلَهُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ لَمْ يَقْرَأْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا . الثّانِي : الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي التّرْتِيبِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ فَإِنّهُ إذَا قَرَأَ فِي نَفْسِهِ أُنْذِرَ بِمَا قَرَأَهُ فَأَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوّلًا ثُمّ بِالْإِنْذَارِ بِمَا قَرَأَهُ ثَانِيًا .
الثّالِثُ أَنّ حَدِيثَ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ أَوّلُ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } قَوْلُ جَابِرٍ وَعَائِشَةُ أَخْبَرَتْ عَنْ خَبَرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ . [ ص 84 ] الْمَلَكِ عَلَيْهِ أَوّلًا قَبْلَ نُزُولِ يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ فَإِنّهُ قَالَ فَرَفَعْت رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الّذِي جَاءَنِي بِحِرَاء ٍ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي فَقُلْت : زَمّلُونِي دَثّرُونِي فَأَنْزَلَ اللّهُ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنّ الْمَلَكَ الّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءٍ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ } فَدَلّ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلَى تَأَخّرِ نُزُولِ يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ وَالْحُجّةُ فِي رِوَايَتِهِ لَا فِي رَأْيِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الدّعْوَةِ
وَلَهَا مَرَاتِبُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : النّبُوّةُ .
الثّانِيَةُ إنْذَارُ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ .
الثّالِثَةُ إنْذَارُ قَوْمِهِ .
الرّابِعَةُ إنْذَارُ قَوْمٍ مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِهِ وَهُمْ الْعَرَبُ قَاطِبَةً .
الْخَامِسَةُ إنْذَارُ جَمِيعِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ .
فَصْلٌ [ الْجَهْرُ بِالدّعْوَةِ ]
وَأَقَامَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ يَدْعُو إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ نَزَلَ عَلَيْهِ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الْحَجَر : 94 ] . فَأَعْلَنَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالدّعْوَةِ وَجَاهَرَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَاشْتَدّ الْأَذَى عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَذِنَ اللّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَتَيْنِ .

فَصْلٌ فِي أَسْمَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكُلّهَا نُعُوتٌ لَيْسَتْ أَعْلَامًا مَحْضَةً لِمُجَرّدِ التّعْرِيفِ بَلْ أَسْمَاءٌ مُشْتَقّةٌ مِنْ [ ص 85 ] فَمِنْهَا مُحَمّدٌ وَهُوَ أَشْهَرُهَا وَبِهِ سُمّيَ فِي التّوْرَاةِ صَرِيحًا كَمَا بَيّنّاهُ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ فِي كِتَابِ جَلَاءُ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصّلَاةِ وَالسّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَهُوَ كِتَابٌ فَرْدٌ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يُسْبَقْ إلَى مِثْلِهِ فِي كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَغَزَارَتِهَا بَيّنّا فِيهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصّلَاةِ وَالسّلَامِ عَلَيْهِ وَصَحِيحَهَا مِنْ حَسَنِهَا وَمَعْلُولِهَا وَبَيّنّا مَا فِي مَعْلُولِهَا مِنْ الْعِلَلِ بَيَانًا شَافِيًا ثُمّ أَسْرَارَ هَذَا الدّعَاءِ وَشَرَفِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ ثُمّ مُوَاطِنَ الصّلَاةِ عَلَيْهَا وَمُحَالّهَا ثُمّ الْكَلَامِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَتَرْجِيحِ الرّاجِحِ وَتَزْيِيفِ الْمُزَيّفِ وَمَخْبَرُ الْكِتَابِ فَوْقَ وَصْفِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ اسْمَهُ مُحَمّدٌ فِي التّوْرَاةِ صَرِيحًا بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ كُلّ عَالِمٍ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ . وَمِنْهَا أَحْمَد وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي سَمّاهُ بِهِ الْمَسِيحُ لِسِرّ ذَكَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ . وَمِنْهَا الْمُتَوَكّلُ وَمِنْهَا الْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفّي وَنَبِيّ التّوْبَةِ وَنَبِيّ الرّحْمَةِ وَنَبِيّ الْمَلْحَمَةِ وَالْفَاتِحُ وَالْأَمِينُ . وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الشّاهِدُ وَالْمُبَشّرُ وَالْبَشِيرُ وَالنّذِيرُ وَالْقَاسِمُ وَالضّحُوكُ وَالْقَتّالُ وَعَبْدُ اللّهِ وَالسّرَاجُ الْمُنِيرُ وَسَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَصَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ لِأَنّ أَسْمَاءَهُ إذَا كَانَتْ أَوْصَافَ مَدْحٍ فَلَهُ مِنْ كُلّ وَصْفٍ اسْمٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُخْتَصّ بِهِ أَوْ الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَيُشْتَقّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ وَبَيْنَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ يَخُصّهُ .
[ ص 86 ] وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ : سَمّى لَنَا رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ : أَنَا مُحَمّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الّذِي يَمْحُو اللّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمِي وَالْعَاقِبُ الّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ وَأَسْمَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا : خَاصّ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الرّسُلِ كَمُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْعَاقِبِ وَالْحَاشِرِ وَالْمُقَفّي وَنَبِيّ الْمَلْحَمَةِ . وَالثّانِي : مَا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الرّسُلِ وَلَكِنْ لَهُ مِنْهُ كَمَالُهُ فَهُوَ مُخْتَصّ بِكَمَالِهِ دُونَ أَصْلِهِ كَرَسُولِ اللّهِ وَنَبِيّهِ وَعَبْدِهِ وَالشّاهِدِ وَالْمُبَشّرِ وَالنّذِيرِ وَنَبِيّ الرّحْمَةِ وَنَبِيّ التّوْبَة . وَأَمّا إنْ جُعِلَ لَهُ مِنْ كُلّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ اسْمٌ تَجَاوَزَتْ أَسْمَاؤُهُ الْمِائَتَيْنِ كَالصّادِقِ وَالْمَصْدُوقِ وَالرّءُوفِ الرّحِيمِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَفِي هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ النّاسِ إنّ لِلّهِ أَلْفُ اسْمٍ وَلِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْفُ اسْمٍ قَالَهُ أَبُو الْخَطّاب بْنُ دِحْيَة َ وَمَقْصُودُهُ الْأَوْصَافُ .

فَصْل فِي شَرْحِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 87 ] اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ مُحَمّدٌ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْخِصَالِ الّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغ مِنْ مَحْمُودٍ فَإِنّ مَحْمُودًا مِنْ الثّلَاثِيّ الْمُجَرّدِ وَمُحَمّدٌ مِنْ الْمُضَاعَفِ لِلْمُبَالَغَةِ فَهُوَ الّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنْ الْبَشَرِ وَلِهَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - سُمّيَ بِهِ فِي التّوْرَاةِ لِكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي وُصِفَ بِهَا هُوَ وَدِينُهُ وَأُمّتُهُ فِي التّوْرَاةِ حَتّى تَمَنّى مُوسَى عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ هُنَاكَ وَبَيّنّا غَلَطَ أَبِي الْقَاسِم السّهَيْلِيّ حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَأَنّ اسْمَهُ فِي التّوْرَاةِ أَحْمَد.
[ هَلْ أَحْمَدُ تَفْضِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٌ ]
وَأَمّا أَحْمَدُ فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التّفْضِيلِ مُشْتَقّ أَيْضًا مِنْ الْحَمْدِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ حَمْدُهُ لِلّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ فَمَعْنَاهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ وَرَجّحُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنّ قِيَاسَ أَفْعَلَ التّفْضِيلِ أَنْ يُصَاغَ مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ قَالُوا : وَلِهَذَا لَا يُقَالُ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا وَلَا زَيْدُ أَضْرَبَ مِنْ عَمْرٍو بِاعْتِبَارِ الضّرْبِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ وَلَا : مَا أَشْرَبَهُ لِلْمَاءِ وَآكَلَهُ [ ص 88 ] وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا : يَجُوزُ صَوْغُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ وَمِنْ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكَثْرَةُ السّمَاعِ بِهِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلّةِ عَلَى جَوَازِهِ تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا أَشْغَلَهُ بِالشّيْءِ وَهُوَ مِنْ شَغَلَ فَهُوَ مَشْغُولٌ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ مَا أَوْلَعَهُ بِكَذَا وَهُوَ مِنْ أَوْلَعَ بِالشّيْءِ فَهُوَ مُولِعٌ بِهِ مَبْنِيّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ إلّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا أَعْجَبَهُ بِكَذَا فَهُوَ مِنْ أُعْجِبَ بِهِ وَيَقُولُونَ مَا أَحَبّهُ إلَيّ فَهُوَ تَعَجّبٌ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ وَكَوْنُهُ مَحْبُوبًا لَكُ وَكَذَا : مَا أَبْغَضَهُ إلَيّ وَأَمْقَتَهُ إلَيّ . وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَهِيَ أَنّك تَقُولُ مَا أَبْغَضَنِي لَهُ وَمَا أَحَبّنِي لَهُ وَمَا أَمْقَتَنِي لَهُ إذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُبْغِضَ الْكَارِهَ وَالْمُحِبّ الْمَاقِتَ فَتَكُونُ مُتَعَجّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ وَتَقُولُ مَا أَبْغَضنِي إلَيْهِ وَمَا أَمْقَتَنِي إلَيْهِ وَمَا أَحَبّنِي إلَيْهِ إذَا كُنْت أَنْتَ الْبَغِيضُ الْمَمْقُوتُ أَوْ الْمَحْبُوبُ فَتَكُونُ مُتَعَجّبًا مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ فَمَا كَانَ بِاللّامِ فَهُوَ لِلْفَاعِلِ وَمَا كَانَ ب إلَى فَهُوَ لِلْمَفْعُولِ . وَأَكْثَرُ النّحَاةِ لَا يُعَلّلُونَ بِهَذَا . وَاَلّذِي يُقَالُ فِي عِلّتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ إنّ اللّامَ [ ص 89 ] فَيُقَالُ لِزَيْدٍ فَيُؤْتَى بِاللّامِ . وَأَمّا إلَى فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى فَتَقُولُ إلَى مَنْ يَصِلُ هَذَا الْكِتَابَ ؟ فَتَقُولُ إلَى عَبْدِ اللّهِ وَسِرّ ذَلِكَ أَنّ اللّامَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِحْقَاقِ إنّمَا يَكُونُ لِلْفَاعِلِ الّذِي يَمْلِكُ وَيَسْتَحِقّ وَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالْغَايَةُ مُنْتَهَى مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ فَهِيَ بِالْمَفْعُولِ أَلْيَقُ لِأَنّهَا تَمَامُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ وَمِنْ التّعَجّبِ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم فَلَهُوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُه وَقِيلَ إنّكَ مَحْبُوسٌ وَمَقْتُولٌ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ بِبَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
فَأَخْوَفُ هَاهُنَا مِنْ خِيفَ فَهُوَ مَخُوفٌ لَا مِنْ خَافَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا أَجَنّ زَيْدًا مِنْ جُنّ فَهُوَ مَجْنُونٌ هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ . قَالَ الْبَصْرِيّونَ : كُلّ هَذَا شَاذّ لَا يُعَوّلُ عَلَيْهِ فَلَا نُشَوّشُ بِهِ الْقَوَاعِدُ وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى الْمَسْمُوعِ قَالَ الْكُوفِيّونَ : كَثْرَةُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَنَظْمًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الشّذُوذِ لِأَنّ الشّاذّ مَا خَالَفَ اسْتِعْمَالَهُمْ وَمُطّرِدَ كَلَامِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ قَالُوا : وَأَمّا تَقْدِيرُكُمْ لُزُومَ الْفِعْلِ وَنَقْلَهُ إلَى فَعُلَ فَتَحَكّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَمَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ مِنْ التّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ إلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ وَالْهَمْزَةُ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَيْسَتْ لِلتّعْدِيَةِ وَإِنّمَا هِيَ لِلدّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التّعَجّبِ وَالتّفْضِيلِ فَقَطْ كَأَلِفِ فَاعِلٍ وَمِيمِ مَفْعُولٍ وَوَاوهُ وَتَاءِ الِافْتِعَالِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الزّوَائِدِ الّتِي تَلْحَقُ الْفِعْلَ الثّلَاثِيّ لِبَيَانِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى مُجَرّدِهِ فَهَذَا هُوَ السّبَبُ الْجَالِبُ لِهَذِهِ الْهَمْزَةُ لَا تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ . قَالُوا : وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ الْفِعْلَ الّذِي يُعَدّى بِالْهَمْزَةِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدّى [ ص 90 ] بَاءَ التّعْدِيَةِ نَحْوُ أَكْرِمْ بِهِ وَأَحْسِنْ بِهِ وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْفِعْلِ بَيْنَ تَعْدِيَتَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُمْ يَقُولُونَ مَا أَعْطَاهُ لِلدّرَاهِمِ وَأَكْسَاهُ لِلثّيَابِ وَهَذَا مِنْ أَعْطَى وَكَسَا الْمُتَعَدّي وَلَا يَصِحّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إلَى عطو : إذَا تَنَاوَلَ ثُمّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التّعْدِيَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى فَإِنّ التّعَجّبَ إنّمَا وَقَعَ مِنْ إعْطَائِهِ لَا مِنْ عَطْوِهِ وَهُوَ تَنَاوُلُهُ وَالْهَمْزَةُ الّتِي فِيهِ هَمْزَةُ التّعَجّبِ وَالتّفْضِيلِ وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ الّتِي فِي فِعْلِهِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ هِيَ لِلتّعْدِيَةِ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ عُدّيَ بِاللّامِ فِي نَحْوِ مَا أَضْرَبَهُ لِزَيْدٍ . . . إلَى آخِرِهِ فَالْإِتْيَانِ بِاللّامِ هَاهُنَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ وَإِنّمَا أُتِيَ بِهَا تَقْوِيَةً لَهُ لَمّا ضَعُفَ بِمَنْعِهِ مِنْ التّصَرّفِ وَأُلْزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً خَرَجَ بِهَا عَنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ فَضَعُفَ عَنْ اقْتِضَائِهِ وَعَمَلِهِ فَقَوِيَ بِاللّامِ كَمَا يَقْوَى بِهَا عِنْدَ تَقَدّمِ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَرْعِيّتِهِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرّاجِحُ كَمَا تَرَاهُ . فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ تَقْدِيرُ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِ الْأَوّلِينَ أَحْمَدُ النّاسِ لِرَبّهِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَحَقّ النّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِأَنْ يَحْمَدَ فَيَكُونُ كَمُحَمّدٍ فِي الْمَعْنَى إلّا أَنّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنّ مُحَمّدًا هُوَ كَثِيرُ الْخِصَالِ الّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَأَحْمَدُ هُوَ الّذِي يَحْمَدُ أَفْضَلَ مِمّا يَحْمَدُ غَيْرُهُ فَمُحَمّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمّيّةِ وَأَحْمَدُ فِي الصّفَةِ وَالْكَيْفِيّةِ فَيَسْتَحِقّ مِنْ الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمّا يَسْتَحِقّ غَيْرُهُ وَأَفْضَلَ مِمّا يَسْتَحِقّ غَيْرُهُ فَيُحْمَدُ أَكْثَرَ حَمْدٍ وَأَفْضَلَ حَمْدٍ حَمِدَهُ الْبَشَرُ . فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنَى . وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِل لَسُمّيَ الْحَمّادَ أَيْ كَثِيرُ الْحَمْدِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبّهِ فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمّادُ كَمَا سُمّيَتْ بِذَلِكَ أَمَتُهُ . وَأَيْضًا : فَإِنّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إنّمَا اُشْتُقّا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَخَصَائِصِهِ [ ص 91 ] لِأَجْلِهَا اسْتَحَقّ أَنْ يُسَمّى مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحْمَدُ وَهُوَ الّذِي يَحْمَدُهُ أَهْلُ السّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ الدّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةُ لِكَثْرَةِ خَصَائِلِهِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي تَفُوقُ عَدّ الْعَادّينَ وَإِحْصَاءَ الْمُحْصِينَ وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً اقْتَضَتْهَا حَالُ الْمُسَافِرِ وَتَشَتّتُ قَلْبِهِ وَتَفَرّقُ هِمّتِهِ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ .
[ تفسير معنى المتوكل ]

وَأَمّا اسْمُهُ الْمُتَوَكّلُ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَرَأْت فِي التّوْرَاةِ صِفَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ عَبْدِي وَرَسُولِيُ سَمّيْتُهُ الْمُتَوَكّلَ لَيْسَ بِفَظّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسّيّئَةِ السّيّئَةَ بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَقّ النّاسِ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنّهُ تَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فِي إقَامَةِ الدّينِ تَوَكّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
[ تَفْسِيرُ الْمَاحِي ]
وَأَمّا الْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقَفّي وَالْعَاقِبُ فَقَدْ فُسّرَتْ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ فَالْمَاحِي : هُوَ الّذِي مَحَا اللّهُ بِهِ الْكُفْرَ وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ كَفّارٌ إلّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبّا وَلَا مَعَادًا وَبَيْنَ عُبّادِ الْكَوَاكِبِ وَعُبّادِ النّارِ وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يُقِرّونَ بِهَا فَمَحَا اللّهُ سُبْحَانَهُ [ ص 92 ] ظَهَرَ دِينُ اللّهِ عَلَى كُلّ دِينٍ وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشّمْسِ فِي الْأَقْطَار .
[ تَفْسِيرُ الْحَاشِرِ ]
وَأَمّا الْحَاشِرُ فَالْحَشْرُ هُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ فَهُوَ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمِهِ فَكَأَنّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النّاس .
[ تَفْسِيرُ الْعَاقِبِ ]
وَالْعَاقِبُ الّذِي جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ فَإِنّ الْعَاقِبَ هُوَ الْآخِرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ وَلِهَذَا سُمّيَ الْعَاقِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ جَاءَ بِعَقِبِهِمْ .
[ تَفْسِيرُ الْمُقَفّي ]
وَأَمّا الْمُقَفّي فَكَذَلِكَ وَهُوَ الّذِي قَفّى عَلَى آثَارٍ مَنْ تَقَدّمِهِ فَقَفّى اللّهُ بِهِ عَلَى آثَارِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ الرّسُلِ وَهَذِهِ اللّفْظَةُ مُشْتَقّةٌ مِنْ الْقَفْوِ يُقَالُ قَفَاهُ يَقْفُوهُ إذَا تَأَخّرَ عَنْهُ وَمِنْهُ قَافِيَةُ الرّأْسِ وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ فَالْمُقَفّي : الّذِي قَفّى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرّسُلِ فَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَآخِرَهُمْ .
[ نَبِيّ التّوْبَة ]
وَأَمّا نَبِيّ التّوْبَةِ فَهُوَ الّذِي فَتَحَ اللّهُ بِهِ بَابَ التّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَتَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَهُ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْثَرُ النّاسِ اسْتِغْفَارًا وَتَوْبَةً حَتّى كَانُوا يَعُدّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرّة ٍ رَبّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيّ إنّكَ أَنْتَ التّوّابُ الْغَفُورُ وَكَانَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ تُوبُوا إلَى اللّهِ رَبّكُمْ فَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرّةٍ وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَأَسْرَعُ [ ص 93 ] وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ حَتّى كَانَ مِنْ تَوْبَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمّا هَذِهِ الْأُمّةُ فَلِكَرَامَتِهَا عَلَى اللّهِ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتَهَا النّدَمَ وَالْإِقْلَاعَ .
[ نَبِيّ الْمَلْحَمَة ]
وَأَمّا نَبِيّ الْمَلْحَمَةِ فَهُوَ الّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللّهِ فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيّ وَأُمّتَهُ قَطّ مَا جَاهَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُمّتُهُ وَالْمَلَاحِمُ الْكِبَارُ الّتِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمّتِهِ وَبَيْنَ الْكُفّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ فَإِنّ أُمّتَهُ يَقْتُلُونَ الْكُفّارَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِمِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ أُمّةٌ سِوَاهُمْ .
[ نَبِيّ الرّحْمَة ]
وَأَمّا نَبِيُ الرّحْمَةِ فَهُوَ الّذِي أَرْسَلَهُ اللّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ أَمّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنْ الرّحْمَةِ وَأَمّا الْكُفّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ وَأَمّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمّتُهُ فَإِنّهُمْ عَجّلُوا بِهِ إلَى النّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنْ الْحَيَاةِ الطّوِيلَةِ الّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إلّا شِدّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .
[ الْفَاتِح ]
وَأَمّا الْفَاتِحُ فَهُوَ الّذِي فَتَحَ اللّهُ بِهِ بَابَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْتَجًا وَفَتَحَ بِهِ الْأَعْيُنَ الْعُمْيَ وَالْآذَانَ الصّمّ وَالْقُلُوبَ الْغُلْفَ وَفَتَحَ اللّهُ بِهِ أَمْصَارَ الْكُفّارِ وَفَتَحَ بِهِ أَبْوَابَ الْجَنّةِ وَفَتَحَ بِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ النّافِعِ وَالْعَمَلِ الصّالِحِ فَفَتَحَ بِهِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَمْصَارَ .
[ الْأَمِين ]
وَأَمّا الْأَمِينُ فَهُوَ أَحَقّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاسْمِ فَهُوَ أَمِينُ اللّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَدِينِهِ وَهُوَ أَمِينُ مَنْ فِي السّمَاءِ وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمّونَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ الْأَمِينَ .
[ الضّحُوكَ الْقَتّال ]
وَأَمّا الضّحُوكُ الْقَتّالُ فَاسْمَانِ مُزْدَوَجَانِ لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ [ ص 94 ] اللّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ .
[ الْبَشِيرُ ]
وَأَمّا الْبَشِيرُ فَهُوَ الْمُبَشّرُ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِالثّوَابِ وَالنّذِيرُ الْمُنْذِرُ لِمَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ وَقَدْ سَمّاهُ اللّهُ عَبْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهَا قَوْلُه : { وَأَنّهُ لَمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } [ الْجِنّ : 20 ] وَقَوْلُهُ { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الْفُرْقَانُ : 1 ] وَقَوْلُهُ { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النّجْمُ 10 ] وَقَوْلُهُ { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ الْبَقَرَةُ 23 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ [ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] وَلَا فَخْرَ وَسَمّاهُ اللّهُ سِرَاجًا مُنِيرًا وَسَمّى الشّمْسَ سِرَاجًا وَهّاجًا .
[ الْمُنِير ]
وَالْمُنِيرُ هُوَ الّذِي يُنِيرُ مِنْ غَيْرِ إحْرَاقٍ بِخِلَافِ الْوَهّاجِ فَإِنّ فِيهِ نَوْعُ إحْرَاقٍ وَتَوَهّجٍ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرَى الْهِجْرَتَيْنِ الْأُولَى وَالثّانِيَةُ
[ ص 95 ] وَخَافَ مِنْهُمْ الْكُفّارُ اشْتَدّ أَذَاهُمْ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِتْنَتُهُمْ إيّاهُمْ فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ وَقَالَ إنّ بِهَا مَلِكًا لَا يَظْلِمُ النّاسَ عِنْدَهُ فَهَاجَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ خَرَجَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامُوا فِي الْحَبَشَةِ فِي أَحْسَنِ جِوَارٍ فَبَلَغَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا أَسْلَمَتْ وَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ كَذِبًا فَرَجَعُوا إلَى مَكّةَ فَلَمّا بَلَغَهُمْ أَنّ الْأَمْرَ أَشَدّ مِمّا كَانَ رَجَعَ مِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ وَدَخَلَ جَمَاعَةٌ فَلَقُوا مِنْ قُرَيْشٍ أَذًى شَدِيدًا وَكَانَ مِمّنْ دَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ .
[ الْحَصْرُ فِي الشّعْبِ ثُمّ وَفَاةُ خَدِيجَةَ فَعَمّهِ فَخُرُوجُهُ لِلطّائِفِ ]
ثُمّ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ ثَانِيًا إلَى الْحَبَشَةِ فَهَاجَرَ مِنْ الرّجَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا إنْ كَانَ فِيهِمْ عَمّار ُ فَإِنّهُ يُشَكّ فِيهِ وَمِنْ النّسَاءِ ثَمَانِ عَشْرَةَ امْرَأَةً فَأَقَامُوا عِنْدَ النّجَاشِيّ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَأَرْسَلُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فِي جَمَاعَةٍ لِيَكِيدُوهُمْ عِنْدَ النّجَاشِيّ فَرَدّ اللّهُ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ فَاشْتَدّ أَذَاهُمْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَصَرُوهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي الشّعْبِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثَ سِنِينَ وَقِيلَ سَنَتَيْنِ وَخَرَجَ مِنْ الْحَصْرِ وَلَهُ تِسْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَمَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَبَعْدَ ذَلِكَ بِأَشْهُرٍ مَاتَ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍ وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَفِي الشّعْبِ وُلِدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ فَنَالَ الْكُفّارُ مِنْهُ أَذًى شَدِيدًا ثُمّ مَاتَتْ خَدِيجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ فَاشْتَدّ أَذَى الْكُفّارِ لَهُ فَخَرَجَ إلَى الطّائِفِ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَدْعُو إلَى اللّهِ تَعَالَىُ وَأَقَامَ بِهِ أَيّامًا فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَآذَوْهُ وَأَخْرَجُوهُ وَقَامُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ فَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى أَدْمَوْا كَعْبَيْهِ فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ وَفِي طَرِيقِهِ لَقِيَ عَدّاسًا النّصْرَانِي ّ فَآمَنَ بِهِ وَصَدّقَهُ وَفِي طَرِيقِهِ أَيْضًا بِنَخْلَةَ صُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ سَبْعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَأَسْلَمُوا وَفِي طَرِيقِهِ تِلْكَ أَرْسَلَ اللّهُ إلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَأْمُرُهُ [ ص 96 ] مَكّةَ وَهُمَا جَبَلَاهَا إنْ أَرَادَ فَقَالَ : لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلّ اللّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا
[ الْإِسْرَاءُ ]
وَفِي طَرِيقِهِ دَعَا بِذَلِكَ الدّعَاءِ الْمَشْهُورِ اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي . . . الْحَدِيثُ ثُمّ دَخَلَ مَكّةَ فِي جِوَارِ الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيّ ثُمّ أُسْرِيَ [ ص 97 ] الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى فَوْقِ السّمَوَاتِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَاطَبَهُ وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصّلَوَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ مَرّةً وَاحِدَةً هَذَا أَصَحّ الْأَقْوَالِ . وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ مَنَامًا وَقِيلَ بَلْ يُقَالُ أُسْرِيَ بِهِ وَلَا يُقَالُ يَقَظَةً وَلَا مَنَامًا . وَقِيلَ كَانَ الْإِسْرَاءُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَقَظَةً وَإِلَى السّمَاءِ مَنَامًا . وَقِيل : كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ مَرّةً يَقَظَةً وَمُرّةً مَنَامًا . وَقِيلَ بَلْ أُسَرِيّ بِهِ ثَلَاثَ مَرّاتُ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِالِاتّفَاقِ . وَأَمّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فَهَذَا مِمّا عُدّ مِنْ أَغْلَاطِ شَرِيكِ الثّمَانِيَةِ وَسُوءِ حِفْظِهِ لِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ . وَقِيلَ إنّ هَذَا كَانَ إسْرَاءَ الْمَنَامِ قَبْلَ الْوَحْيِ . وَأَمّا إسْرَاءُ الْيَقَظَةُ فَبَعْدَ النّبُوّةِ وَقِيلَ بَلْ الْوَحْيُ هَاهُنَا مُقَيّدٌ وَلَيْسَ بِالْوَحْيِ الْمُطْلَقِ الّذِي هُوَ مَبْدَأُ النّبُوّةِ وَالْمُرَادُ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِ الْإِسْرَارِ فَأُسْرِيَ بِهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدّمِ إعْلَامٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ دَعْوَةُ الْقَبَائِلِ وَالْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَة ]
فَأَقَامَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ مَا أَقَامَ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلّ مَوْسِمٍ أَنْ يُؤْوُوهُ حَتّى يُبَلّغَ رِسَالَةَ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَمْ تَسْتَجِبْ لَهُ قَبِيلَةٌ وَادّخَرَ اللّهُ ذَلِكَ كَرَامَةً لِلْأَنْصَارِ فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى إظْهَارَ دِينِهِ وَإِنْجَازَ وَعْدِهِ وَنَصْرَ نَبِيّهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ وَالِانْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ سَاقَهُ إلَى الْأَنْصَارِ لَمّا أَرَادَ بِهِمْ مِنْ الْكَرَامَةِ فَانْتَهَى إلَى نَفَرٍ مِنْهُمْ سِتّةٌ وَقِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَهُمْ يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عِنْدَ عَقَبَةِ مِنًى فِي الْمَوْسِمِ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ [ ص 98 ] الْمَدِينَةِ فَدَعَوْا قَوْمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى فَشَا فِيهِمْ وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَأَوّلُ مَسْجِدٍ قُرِئَ فِيهِ الْقُرْآنُ بِالْمَدِينَةِ مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ ثُمّ قَدِمَ مَكّةَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ السّتّةِ الْأَوّلِينَ فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ وَهُمْ أَهْلُ الْعَقَبَةِ الْأَخِيرَةِ فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فَتَرْحَلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إلَيْهِمْ وَاخْتَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَأَذِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجُوا أَرْسَالًا مُتَسَلّلِينَ أَوّلُهُمْ فِيمَا قِيل : أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ وَقِيلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَدِمُوا عَلَى الْأَنْصَارِ فِي دُورِهِمْ فَآوَوْهُمْ وَنَصَرُوهُمْ وَفَشَا الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ ثُمّ أَذِنَ اللّهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَخَرَجَ مِنْ مَكّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَقِيلَ فِي صَفَرٍ وَلَهُ إذْ ذَاكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيق ُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الأُرَيْقِط اللّيثِيُ فَدَخَلَ غَارَ ثَوْرٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثًا ثُمّ أَخَذَا عَلَى طَرِيقِ السّاحِلِ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ نَزَلَ بقُبَاء فِي أَعْلَى الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ . وَقِيلَ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الهدم . وَقِيلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ وَالْأَوّلُ أَشْهَرُ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَسّسَ مَسْجِدَ قُبَاءَ ثُمّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمٍ [ ص 99 ] كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِائَةٌ ثُمّ رَكِبَ نَاقَتَهُ وَسَارَ وَجَعَلَ النّاسَ يُكَلّمُونَهُ فِي النّزُولِ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذُونَ بِخِطَامِ النّاقَةِ فَيَقُولُ خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ فَبَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ غُلَامَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّار ِ فَنَزَلَ عَنْهَا عَلَى أَبِي أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ بَنَى مَسْجِدَهُ مَوْضِعَ الْمِرْبَدِ بِيَدِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْجَرِيدِ وَاللّبِنِ ثُمّ بَنَى مَسْكَنَهُ وَمَسَاكِنَ أَزْوَاجِهِ إلَى جَنْبِهِ وَأَقْرَبُهَا إلَيْهِ مَسْكَنُ عَائِشَة َ ثُمّ تَحَوّلَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ دَارِ أَبِي أَيّوبَ إلَيْهَا وَبَلَغَ أَصْحَابَهُ بِالْحَبَشَةِ هِجْرَتُهُ إلَى الْمَدِينَةِ فَرَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ [ ص 100 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ ثُمّ هَاجَرَ بَقِيّتُهُمْ فِي السّفِينَةِ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ .

فَصْلٌ فِي أَوْلَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَوّلُهُمْ الْقَاسِم ُ وَبِهِ كَانَ يُكَنّى مَاتَ طِفْلًا وَقِيلَ عَاشَ إلَى أَنْ رَكِبَ الدّابّةَ وَسَارَ عَلَى النّجِيبَةِ . ثُمّ زَيْنَب وَقِيلَ هِيَ أَسَنّ مِنْ الْقَاسِمِ ثُمّ رُقَيّة ُ وَأُمّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَة ُ وَقَدْ قِيلَ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ إنّهَا أَسَنّ مِنْ أُخْتَيْهَا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رُقَيّةَ أَسَنّ الثّلَاثِ وَأُمّ كُلْثُومٍ أَصْغَرُهُنّ . [ ص 101 ] أَعْلَمُ . وَهَؤُلَاءِ كُلّهُمْ مِنْ خَدِيجَة َ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ مِنْ زَوْجَةِ غَيْرِهَا . ثُمّ وُلِدَ لَهُ إبْرَاهِيم بِالْمَدِينَةِ مِنْ سُرّيّتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَبَشّرَهُ بِهِ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَاهُ فَوَهَبَ لَهُ عَبْدًا وَمَاتَ طِفْلًا قَبْلَ الْفِطَامِ وَاخْتَلَفَ هَلْ صَلّى عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَكُلّ أَوْلَادِهِ تُوُفّيَ قَبْلَهُ إلّا فَاطِمَةَ فَإِنّهَا تَأَخّرَتْ بَعْدَهُ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ فَرَفَعَ اللّهُ لَهَا بِصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا مِنْ الدّرَجَاتِ مَا فُضّلَتْ بِهِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ . وَفَاطِمَةُ أَفْضَلُ بَنَاتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقِيلَ إنّهَا أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَقِيلَ بَلْ أُمّهَا خَدِيجَةُ وَقِيلَ بَلْ عَائِشَةُ وَقِيلَ بَلْ بِالْوَقْفِ فِي ذَلِكَ .

فَصْلٌ فِي أَعْمَامِهِ وَعَمّاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْهُمْ أَسَدُ اللّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ سَيّدُ الشّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَالْعَبّاس وَأَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزّى وَالزّبَيْر وَعَبْدُ الْكَعْبَةِ وَالْمُقَوّم وَضِرَارُ وَقُثمُ وَالْمُغِيرَةُ وَلَقَبُهُ حِجْلٌ وَالْغَيْدَاقُ وَاسْمُهُ [ ص 102 ] وَقِيلَ نَوْفَلٌ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَوَامّ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إلّا حَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ . وَأَمّا عَمّاتُهُ فَصَفِيّةُ أُمّ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّام ِ وَعَاتِكَةُ وَبَرّةُ وَأَرْوَى وَأُمَيْمَةُ وَأُمّ حَكِيمِ الْبَيْضَاءِ . أَسْلَمَ مِنْهُنّ صَفِيّةُ وَاخْتُلِفَ فِي إسْلَامِ عَاتِكَةَ وَأَرْوَى وَصَحّحَ بَعْضُهُمْ إسْلَامَ أَرَوَى . وَأَسَنّ أَعْمَامِهِ الْحَارِثُ وَأَصْغَرُهُمْ سِنّا : الْعَبّاسُ وَعَقَبَ مِنْهُ حَتّى مَلَأَ أَوْلَادُهُ الْأَرْضَ . وَقِيلَ أُحْصُوا فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ فَبَلَغُوا سِتّمِائَةِ أَلْفٍ وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ لَا يَخْفَى وَكَذَلِكَ أَعْقَبَ أَبُو طَالِبٍ وَأَكْثَرَ وَالْحَارِثُ وَأَبُو لَهَبٍ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْحَارِثَ وَالْمُقَوّمَ وَاحِدًا وَبَعْضُهُمْ الْغَيْدَاقَ وَحِجْلًا وَاحِدًا .

فَصْلٌ فِي أَزْوَاجِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ خَدِيجَة ُ ]
أُولَاهُنّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد الْقُرَشِيّةُ الْأَسَدِيّةُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ النّبُوّةِ وَلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَمْ يَتَزَوّجْ عَلَيْهَا حَتّى مَاتَتْ وَأَوْلَادُهُ كُلّهُمْ مِنْهَا إلّا إبْرَاهِيمَ وَهِيَ الّتِي آزَرَتْهُ عَلَى النّبُوّةِ وَجَاهَدَتْ مَعَهُ وَوَاسَتْهُ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا وَأَرْسَلَ اللّهُ إلَيْهَا السّلَامَ مَعَ جِبْرِيلَوَهَذِهِ خَاصّةً لَا تُعْرَفُ لِاِمْرَأَةٍ سِوَاهَا وَمَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ .
[ سَوْدَةُ ]
ثُمّ تَزَوّجَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِأَيّامٍ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ الْقُرَشِيّةَ وَهِيَ الّتِي وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ .
[ عَائِشَةُ ]
ثُمّ تَزَوّجَ بَعْدَهَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ عَائِشَةَ الصّدّيقَةَ بِنْتَ الصّدّيق ِ الْمُبَرّأَةَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ حَبِيبَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَعَرَضَهَا عَلَيْهِ الْمَلَكُ قَبْلَ نِكَاحِهَا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَقَالَ هَذِهِ زَوْجَتُك تَزَوّجَ بِهَا فِي [ ص 103 ] الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَعُمْرُهَا تِسْعُ سِنِينَ وَلَمْ يَتَزَوّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ غَيْرَهَا وَكَانَتْ أَحَبّ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَنَزَلَ عُذْرُهَا مِنْ السّمَاءِ وَاتّفَقَتْ الْأُمّةُ عَلَى كُفْرِ قَاذِفِهَا وَهِيَ أَفْقَهُ نِسَائِهِ وَأَعْلَمُهُنّ بَلْ أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمّةِ وَأَعْلَمُهُنّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْجِعُونَ إلَى قَوْلِهَا وَيَسْتَفْتُونَهَا . وَقِيلَ إنّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِقْطًا وَلَمْ يَثْبُتْ .
[ حَفْصَةُ ]
ثُمّ تَزَوّجَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّاب ِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنّهُ طَلّقَهَا ثُمّ رَاجَعَهَا .
[ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَة ]
ثُمّ تَزَوّج زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَة بْنِ الْحَارِثِ الْقَيْسِيّةِ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ وَتُوُفّيَتْ عِنْدَهُ بَعْدَ ضَمّهِ لَهَا بِشَهْرَيْنِ .
[ أُمّ سَلَمَةَ]
ثُمّ تَزَوّجَ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمّيّةَ الْقُرَشِيّةَ الْمَخْزُومِيّة َ وَاسْمُ أَبِي أُمّيّةَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهِيَ آخِرُ نِسَائِهِ مَوْتًا . وَقِيلَ آخِرُهُنّ مَوْتًا
صَفِيّةُ .
[ مَنْ وَلِيَ تَزْوِيجَ أُمّ سَلَمَةَ ؟]
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطّبَقَاتِ : وَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَة َ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا وَلَمّا زَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أُمَامَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ الّتِي اخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ قَالَ : هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ يَقُولُ [ ص 104 ] ذَلِكَ لِأَنّ سَلَمَةَ هُوَ الّذِي تَوَلّى تَزْوِيجَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهَا ذُكِرَ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ سَلَمَةَ ثُمّ ذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أُمّ سَلَمَة عَنْ الْوَاقِدِيّ : حَدّثَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَطَبَ أُمّ سَلَمَةَ إلَى ابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَامٌ صَغِيرٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَد ِ : حَدّثَنَا عَفّانُ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدّثَنَا ثَابِتٌ قَالَ حَدّثَنِي ابْنُ عُمَرَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا لَمّا انْقَضَتْ عِدّتُهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بَعَثَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي امْرَأَةٌ غَيْرَى وَإِنّي مُصْبِيَةٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي حَاضِرًا . . . الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَتْ لِابْنِهَا عُمَرَ قُمْ فَزَوّجْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَزَوّجَهُ وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنّ عُمْرَ هَذَا كَانَ سِنّهُ لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِسْعُ سِنِينَ ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَتَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ الْعُمْرِ حِينَئِذٍ ثَلَاثُ سِنِينَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُزَوّجُ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرهُ وَلَمّا قِيلَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ مَنْ يَقُولُ إنّ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا ؟ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيّ : وَلَعَلّ أَحْمَدُ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مِقْدَارِ سِنّهِ وَقَدْ ذَكَرَ مِقْدَارَ سِنّهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤَرّخِينَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ قِيلَ إنّ الّذِي زَوّجَهَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنُ عَمّهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّاب ِ وَالْحَدِيثُ قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوّجْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم وَنَسَبُ عُمَرَ وَنَسَبُ أُمّ سَلَمَةَ يَلْتَقِيَانِ فِي كَعْبٍ فَإِنّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رُزَاحٍ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ وَأُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي [ ص 105 ] الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ فَوَافَقَ اسْمُ ابْنِهَا عُمَرَ اسْمَهُ فَقَالَتْ : قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوّجْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَظَنّ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّهُ ابْنُهَا فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَقَالَ فَقَالَتْ لَابْنِهَا وَذُهِلَ عَنْ تَعَذّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِصِغَرِ سِنّهِ وَنَظِيرُ هَذَا وَهْمُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِمْ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوّجْ أُمّك قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيّ وَمَا عَرَفْنَا هَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَإِنْ ثَبَتَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْه الْمُدَاعَبَةِ لِلصّغِيرِ إذْ كَانَ لَهُ مِنْ الْعُمْرِ يَوْمئِذٍ ثَلَاثُ سِنِينَ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمَاتَ وَلِعُمَرِ تِسْعُ سِنِينَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَفْتَقِرُ نِكَاحُهُ إلَى وَلِيّ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَشْتَرِطُ فِي نِكَاحِهِ الْوَلِيّ وَأَنّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ .
[ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ]
ثُمّ تَزَوّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَهِيَ ابْنَةُ عَمّتِهِ أُمَيْمَةَ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا } [ الْأَحْزَابُ 37 ] وَبِذَلِكَ كَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى نِسَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَقُولُ زَوّجَكُنّ أَهَالِيكُنّ وَزَوّجَنِي اللّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ . وَمِنْ خَوَاصّهَا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ هُوَ وَلِيّهَا الّذِي زَوّجَهَا لِرَسُولِهِ مِنْ فَوْقِ سَمَوَاتِهِ وَتُوُفّيَتْ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَكَانَتْ أَوّلًا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَة وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَبَنّاهُ فَلَمّا طَلّقَهَا زَيْدٌ زَوّجَهُ اللّهُ تَعَالَى إيّاهَا لِتَتَأَسّى بِهِ أُمّتُهُ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ مَنْ تَبَنّوْهُ .
[ جُويْريَة ]
وَتَزَوّجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جُويْريَة بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ المُصْطَلِقِيّة وَكَانَتْ مِنْ [ ص 106 ] بَنِي الْمُصْطَلِق ِ فَجَاءَتْهُ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهَا فَأَدّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَتَزَوّجَهَا .
[ أُمّ حَبِيبَة]
ثُمّ تَزَوّجَ أُمّ حَبِيبَةَ وَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْقُرَشِيّةُ الْأُمَوِيّةُ . وَقِيلَ اسْمُهَا هِنْدُ تَزَوّجَهَا وَهِيَ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ مُهَاجِرَةً وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ النّجَاشِيّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَسِيقَتْ إلَيْهِ مِنْ هُنَاكَ وَمَاتَتْ فِي أَيّامِ أَخِيهَا مُعَاوِيَةَ . هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالتّوَارِيخِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِهِ لِخَدِيجَةَ بِمَكّةَ وَلِحَفْصَةَ بِالْمَدِينَةِ وَلِصَفِيّةَ بَعْدَ خَيْبَر َ .
[ تَوْهِيمُ حَدِيثِ عَرْضِ أَبِي سُفْيَانَ أُمّ حَبِيبَةَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَأَمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْأَلُكَ ثَلَاثًا فَأَعْطَاهُ إيّاهُنّ مِنْهَا : وَعِنْدِي أَجْمَلُ الْعَرَبِ أُمّ حَبِيبَةَ أُزَوّجُكَ إيّاهَا . فَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ لَا خَفَاءَ بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ : وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِلَا شَكّ كَذَبَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّار ٍ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرّوَاةِ لَا شَكّ فِيهِ وَلَا تَرَدّدٍ وَقَدْ اتّهَمُوا بِهِ عِكْرِمَةَ بْنَ عَمّارٍ لِأَنّ أَهْلَ [ ص 107 ] أُمّ حَبِيبَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ وَوَلَدَتْ لَهُ وَهَاجَرَ بِهَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثُمّ تَنَصّرَ وَثَبَتَتْ أُمّ حَبِيبَةَ عَلَى إسْلَامِهَا فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى النّجَاشِيّ يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ فَزَوّجَهُ إيّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ صَدَاقًا وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَثَنَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى لَا يَجْلِسَ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ وَمُعَاوِيَةَ أَسْلَمَا فِي فَتْحِ مَكّة َ سَنَةَ ثَمَانٍ . وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ قَالَ لَهُ وَتُؤَمّرُنِي حَتّى أُقَاتِلَ الْكُفّارَ كَمَا كُنْت أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ نَعَمْ . وَلَا يُعْرَفُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّرَ أَبَا سُفْيَانَ الْبَتّةَ . وَقَدْ أَكْثَرَ النّاسُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَعَدّدَتْ طُرُقُهُمْ فِي وَجْهِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الصّحِيحُ أَنّهُ تَزَوّجَهَا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَلَا يُرَدّ هَذَا بِنَقْلِ الْمُؤَرّخِينَ وَهَذِهِ الطّرِيقَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسّيرَةِ وَتَوَارِيخِ مَا قَدْ كَانَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ سَأَلَهُ أَنْ يُجَدّدَ لَهُ الْعَقْدَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ فَإِنّهُ كَانَ قَدْ تَزَوّجَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا يُظَنّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَلِيقُ بِعَقْلِ أَبِي سُفْيَان َ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيّ وَالْمُنْذِرِيّ : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَقَعَتْ فِي بَعْضِ خُرَجَاته إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ كَافِرٌ حِينَ سَمِعَ نَعْيَ زَوْجِ أُمّ حَبِيبَةَ بِالْحَبَشَةِ فَلَمّا وَرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهِ مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يُؤَمّرَهُ حَتّى يُقَاتِلَ الْكُفّارَ وَأَنْ يَتّخِذَ ابْنُهُ كَاتِبًا قَالُوا : لَعَلّ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقَعَتَا مِنْهُ بَعْدَ الْفَتْحِ فَجَمَعَ الرّاوِي ذَلِكَ كُلّهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَالتّعَسّفُ وَالتّكَلّفُ الشّدِيدُ الّذِي فِي هَذَا الْكَلَامِ يُغْنِي عَنْ رَدّهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَرْضَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَك الْآنَ فَإِنّي قَبْلُ لَمْ أَكُنْ رَاضِيًا وَالْآنَ فَإِنّي قَدْ رَضِيتُ فَأَسْأَلُك [ ص 108 ] تَكُونَ زَوْجَتَك وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سُوّدَتْ بِهِ الْأَوْرَاقُ وَصُنّفَتْ فِيهِ الْكُتُبُ وَحَمَلَهُ النّاسُ لَكَانَ الْأَوْلَى بِنَا الرّغْبَةَ عَنْهُ لِضِيقِ الزّمَانِ عَنْ كِتَابَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ فَإِنّهُ مِنْ رُبْدِ الصّدُورِ لَا مِنْ زُبْدِهَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَمّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلّقَ نِسَاءَهُ لَمّا آلَى مِنْهُنّ أَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ ظَنّا مِنْهُ أَنّهُ قَدْ طَلّقَهَا فِيمَنْ طَلّقَ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ وَقَعَ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ مِنْ أَحَدِ الرّوَاةِ فِي تَسْمِيَةِ أُمّ حَبِيبَةَ وَإِنّمَا سَأَلَ أَنْ يُزَوّجَهُ أُخْتَهَا رَمْلَةَ وَلَا يَبْعُدُ خَفَاءُ التّحْرِيمِ لِلْجَمْعِ عَلَيْهِ فَقَدَ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى ابْنَتِهِ وَهِيَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ حِينَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ لَك فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَقَالَ أَفْعَلُ مَاذَا ؟ قَالَتْ تَنْكِحُهَا . قَالَ : أَوَتُحِبّينَ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ لَسْت لَك بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي قَالَ : فَإِنّهَا لَا تَحِلّ لِي . فَهَذِهِ هِيَ الّتِي عَرَضَهَا أَبُو سُفْيَانَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَمّاهَا الرّاوِي مِنْ عِنْدَهُ أُمّ حَبِيبَةَ . وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ كُنْيَتُهَا أَيْضًا أُمّ حَبِيبَةَ وَهَذَا الْجَوَابُ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا سَأَلَ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ هَذِهِ اللّفْظَةُ وَهْمٌ مِنْ الرّاوِي فَإِنّهُ أَعْطَاهُ بَعْضَ مَا سَأَلَ فَقَالَ الرّاوِي : أَعْطَاهُ مَا سَأَلَ أَوْ أَطْلَقَهَا اتّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ أَنّهُ أَعْطَاهُ مَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ مِمّا سَأَلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 109 ]
[ صَفِيّةُ ]
[ جَوَازُ جَعْلِ عِتْقِ الْمَرْأَةِ صَدَاقَهَا ]
وَتَزَوّجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ سَيّدِ بَنِي النّضِيرِ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ أَخِي مُوسَى فَهِيَ ابْنَةُ نَبِيّ وَزَوْجَةُ نَبِيّ وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ لَهُ مِنْ الصّفِيّ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَصَارَ ذَلِكَ سُنّةً لِلْأَمَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْتِقَ الرّجُلُ أَمَتَهُ وَيَجْعَلُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ بِذَلِكَ فَإِذَا قَالَ أَعْتَقْت أَمَتِي وَجَعَلَتْ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا أَوْ قَالَ جَعَلْت عِتْقَ أَمَتِي صَدَاقَهَا صَحّ الْعِتْقُ وَالنّكَاحُ وَصَارَتْ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ وَلَا وَلِيّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هَذَا خَاصّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مِمّا خَصّهُ اللّهُ بِهِ فِي النّكَاحِ دُونَ الْأَمَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمّةِ الثّلَاثَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَالصّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوّلُ لِأَنّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ حَتّى يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَمّا خَصّهُ بِنِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ لَهُ قَالَ فِيهَا : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الْأَحْزَابُ 50 ] وَلَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الْمُعْتَقَةِ وَلَا قَالَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَقْطَعَ تَأَسّي الْأُمّةِ بِهِ فِي ذَلِكَ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ امْرَأَةِ مَنْ تَبَنّاهُ لِئَلّا يَكُونَ عَلَى الْأُمّةِ حَرَجٌ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ مَنْ تَبَنّوْهُ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ إذَا نَكَحَ نِكَاحًا فَلِأُمّتِهِ التّأَسّي بِهِ فِيهِ مَا لَمْ يَأْتِ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ نصٌ بِالِاخْتِصَاصِ وَقَطْعِ التّأَسّي وَهَذَا ظَاهِرٌ . وَلِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَسْطِ الْحِجَاجِ فِيهَا - وَتَقْرِيرِ أَنّ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ - مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنّمَا نَبّهَنَا عَلَيْهِ تَنْبِيهًا .
[ مَيْمُونَةُ ]
ثُمّ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةَ وَهِيَ آخِرُ مَنْ تَزَوّجَ بِهَا تَزَوّجَهَا بِمَكّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ حَلّ مِنْهَا عَلَى الصّحِيحِ . وَقِيلَ قَبْلَ إحْلَالِهِ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وَوَهِمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَإِنّ السّفِيرَ بَيْنَهُمَا بِالنّكَاحِ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْقِصّةِ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنّهُ تَزَوّجَهَا حَلَالًا وَقَالَ كُنْت أَنَا السّفِيرَ بَيْنَهُمَا وَابْنُ عَبّاسٍ إذْ ذَاكَ لَهُ نَحْوُ الْعَشْرِ سِنِينَ أَوْ فَوْقَهَا وَكَانَ غَائِبًا عَنْ الْقِصّةِ لَمْ يَحْضُرْهَا وَأَبُو رَافِعٍ رَجُلٌ بَالِغٌ وَعَلَى يَدِهِ دَارَتْ الْقِصّةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَلَا يَخْفَى أَنّ مِثْلَ هَذَا التّرْجِيحِ مُوجِبٌ لِلتّقْدِيمِ [ ص 110 ] بسَرِفَ .
[ رَيْحَانَةُ ]
قِيلَ وَمِنْ أَزْوَاجِهِ رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدٍ النّضَرِيّة . وَقِيلَ الْقُرَظِيّة سُبِيَتْ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَة َ فَكَانَتْ صَفِيّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا ثُمّ طَلّقَهَا تَطْلِيقَةً ثُمّ رَاجَعَهَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ كَانَتْ أَمَتَهُ وَكَانَ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتّى تُوُفّيَ عَنْهَا فَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِي السّرَارِيّ لَا فِي الزّوْجَاتِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ اخْتِيَارُ الْوَاقِدِيّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ شَرَفُ الدّينِ الدّمْيَاطِي ّ . وَقَالَ هُوَ الْأَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنّ الْمَعْرُوفَ أَنّهَا مِنْ سَرَارِيّهِ وَإِمَائِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَهَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُ الْمَعْرُوفَاتُ اللّاتِي دَخَلَ بِهِنّ وَأَمّا مَنْ خَطَبَهَا وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا وَمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا فَنَحْوُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُنّ ثَلَاثُونَ امْرَأَةً وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا بَلْ يُنْكِرُونَهُ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ أَنّهُ بَعَثَ إلَى الجونية لِيَتَزَوّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا وَكَذَلِكَ الْكَلْبِيّةُ وَكَذَلِكَ الّتِي رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاَلّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ فَزَوّجَهَا غَيْرَهُ عَلَى سُوَرٍ مِنْ الْقُرْآنِ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَلَا خِلَافَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تُوُفّيَ عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يُقَسّمُ مِنْهُنّ لِثَمَانٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَأُمّ سَلَمَةَ وَصَفِيّةُ وَأُمّ حَبِيبَةَ وَمَيْمُونَةُ وَسَوْدَةُ وَجُوَيْرِيَة . وَأَوّلُ نِسَائِهِ لُحُوقًا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَآخِرُهُنّ مَوْتًا أُمّ سَلَمَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتّينَ فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي سَرَارِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 111 ] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ مَارِيَةُ وَهِيَ أُمّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَيْحَانَةُ وَجَارِيَةٌ أُخْرَى جَمِيلَةٌ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ السّبْيِ وَجَارِيَةٌ وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ .
فَصْلٌ فِي مَوَالِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ حِبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْتَقَهُ وَزَوّجَهُ مَوْلَاتَهُ أُمّ أَيْمَن َ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ . وَمِنْهُمْ أَسْلَمُ وَأَبُو رَافِعٍ وَثَوْبَانُ وَأَبُو كَبْشَةَ سُلَيْمٌ وَشُقْرَانُ وَاسْمُهُ صَالِحٌ وَرَبَاحٌ نُوبِيّ وَيَسَارٌ نُوبِيّ أَيْضًا وَهُوَ قَتِيلُ الْعُرَنِيّينَ وَمِدْعَمٌ وَكِرْكِرَة نُوبِيّ أَيْضًا وَكَانَ عَلَى ثَقَلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ يُمْسِكُ رَاحِلَتَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ يَوْمَ خَيْبَرَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ أَنّهُ الّذِي غَلّ الشّمْلَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقُتِلَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا وَفِي الْمُوَطّأِ أَنّ الّذِي غَلّهَا [ ص 112 ] مِدْعَمٌ وَكِلَاهُمَا قُتِلَ بِخَيْبَرِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهُمْ أنْجَشَةُ الْحَادِي وَسَفِينَةُ بْنُ فَرّوخَ وَاسْمُهُ مِهْرَانُ وَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَفِينَةَ لِأَنّهُمْ كَانُوا يُحَمّلُونَهُ فِي السّفَرِ مَتَاعَهُمْ فَقَالَ : أَنْتَ سَفِينَةُ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ أَعْتَقَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ أَعْتَقَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ . [ ص 113 ] أَبَا مِشْرَحٍ وَأَفْلَحُ وَعُبَيْدٌ وَطَهْمَانُ وَهُوَ كَيْسَانُ وَذَكْوَانُ وَمِهْرَانُ وَمَرْوَانُ وَقِيلَ هَذَا خِلَافٌ فِي اسْمِ طَهْمَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهُمْ حُنَيْنٌ وسندر وَفَضَالَةُ يَمَانِيّ ومأبور خَصِيّ وَوَاقِدٌ وَأَبُو وَاقِدٍ وقسام وَأَبُو عسيب وَأَبُو مُوَيْهِبَةَ . وَمِنْ النّسَاءِ سَلْمَى أُمّ رَافِعٍ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ سَعْدٍ وخضرة وَرَضْوَى وَرَزِينَةُ وَأُمّ ضُمَيْرَةَ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي عسيب وَمَارِيَةُ وَرَيْحَانَةُ .
فَصْلٌ فِي خُدّامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْهُمْ أَنَسُ بْن مَالِكٍ وَكَانَ عَلَى حَوَائِجِهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ نَعْلِهِ وَسِوَاكِهِ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ صَاحِبُ بَغْلَتِهِ يَقُودُ بِهِ فِي الْأَسْفَارِ وَأَسْلَعُ بْنُ شَرِيكٍ وَكَانَ صَاحِبَ رَاحِلَتِهِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ الْمُؤَذّنُ وَسَعْدٌ مَوْلَيَا أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق ِ وَأَبُو ذَرّ الْغِفَارِيّ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَأُمّهُ أُمّ أَيْمَنَ مَوْلَيَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَيْمَنُ عَلَى مِطْهَرَتِهِ وَحَاجَتِهِ .

فَصْلٌ فِي كُتّابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَعُثْمَان ُ وَعَلِي ّ وَالزّبَيْر ُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرّبِيعِ الْأُسَيْدِيّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . وَقِيلَ إنّهُ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ لَهُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَانَ أَلْزَمَهُمْ لِهَذَا الشّأْنِ وَأَخَصّهُمْ بِهِ . [ ص 114 ]

فَصْلٌ فِي كُتُبِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي كَتَبَهَا إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الشّرَائِعِ
فَمِنْهَا كِتَابُهُ فِي الصّدَقَاتِ الّذِي كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْر ٍ وَكَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسِ بْنِ مَالِك ٍ لَمّا وَجّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْجُمْهُورِ . وَمِنْهَا كِتَابُهُ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهُوَ الْكِتَابُ الّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِه ِ وَالنّسَائِيّ وَغَيْرُهُمَا [ ص 115 ] دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مُرْسَلًا وَهُوَ كِتَابٌ عَظِيمٌ فِيهِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفِقْهِ فِي الزّكَاةِ وَالدّيَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَذِكْرِ الْكَبَائِرِ وَالطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَحْكَامِ الصّلَاةِ فِي الثّوْبِ الْوَاحِدِ وَالِاحْتِبَاءِ فِيهِ وَمَسّ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَا شَكّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَهُ وَاحْتَجّ الْفُقَهَاءُ كُلّهُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ مَقَادِيرِ الدّيَاتِ . [ ص 116 ] بَنِي زُهَيْرٍ . وَمِنْهَا كِتَابُهُ الّذِي كَانَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فِي نُصُبِ الزّكَاةِ وَغَيْرِهَا .

فَصْلٌ فِي كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُلُوكِ
لَمّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ فَكَتَبَ إلَى مَلِكِ الرّومِ فَقِيلَ لَهُ إنّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إلّا إذَا كَانَ مَخْتُومًا فَاِتّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضّةٍ وَنَقَشَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللّهِ سَطْرٌ وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ إلَى الْمُلُوكِ وَبَعَثَ سِتّةَ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ .
[ الْكِتَابُ إلَى النّجَاشِيّ ]
فَأَوّلُهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ بَعَثَهُ إلَى النّجَاشِيّ وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْجَر َ وَتَفْسِيرُ أَصْحَمَةَ بِالْعَرَبِيّةِ عَطِيّةٌ فَعَظّمَ كِتَابَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النّاسِ بِالْإِنْجِيلِ وَصَلّى عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الِوَاقِدِيّ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ فَإِنّ أَصْحَمَةَ النّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ هُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ هَذَا الثّانِي لَا يُعْرَفُ إسْلَامُهُ بِخِلَافِ الْأَوّلِ فَإِنّهُ مَاتَ مُسْلِمًا . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه ِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى [ ص 117 ] كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَر َ وَإِلَى النّجَاشِيّ وَإِلَى كُلّ جَبّارٍ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ : إنّ هَذَا النّجَاشِيّ الّذِي بَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ لَمْ يُسْلِمْ وَالْأَوّلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ وَالظّاهِرُ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ .
[ الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ ]
وَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ وَاسْمُهُ هِرَقْلُ وَهَمّ بِالْإِسْلَامِ وَكَادَ وَلَمْ يَفْعَلْ وَقِيلَ بَلْ أَسْلَمَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمِ بْن حِبّانَ فِي صَحِيحِه ِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : مَنْ يَنْطَلِقُ بِصَحِيفَتِي هَذِهِ إلَى قَيْصَرَ وَلَهُ الْجَنّةُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ؟ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَل فَوَافَقَ قَيْصَرَ وَهُوَ يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَدْ جُعِلَ عَلَيْهِ بِسَاطٌ لَا يَمْشِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَرَمَى بِالْكِتَابِ عَلَى الْبِسَاطِ وَتَنَحّى فَلَمّا انْتَهَى قَيْصَرُ إلَى الْكِتَابِ أَخَذَهُ فَنَادَى قَيْصَرُ مَنْ صَاحِبُ الْكِتَابِ ؟ فَهُوَ آمِنٌ فَجَاءَ الرّجُلُ فَقَالَ أَنَا . قَالَ فَإِذَا قَدِمْتَ فَأْتِنِي فَلَمّا قَدِمَ أَتَاهُ فَأَمَرَ قَيْصَرُ بِأَبْوَابِ قَصْرِهِ فَغُلّقَتْ ثُمّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي : أَلَا إنّ قَيْصَرَ قَدْ اتّبَعَ مُحَمّدًا وَتَرَكَ النّصْرَانِيّةَ فَأَقْبَلَ جُنْدُهُ وَقَدْ تَسَلّحُوا حَتّى أَطَافُوا بِهِ فَقَالَ لِرَسُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَرَى أَنّي خَائِفٌ عَلَى مَمْلَكَتِي ثُمّ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى : أَلَا إنّ قَيْصَرَ قَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ وَإِنّمَا اخْتَبَرَكُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَارْجِعُوا فَانْصَرِفُوا وَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي مُسْلِمٌ وَبَعَثَ إلَيْهِ بِدَنَانِيرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : كَذَبَ عَدُوّ اللّهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى النّصْرَانِيّةِ وَقَسّمَ الدّنَانِير .
[ الْكِتَابُ إلَى كِسْرَى ]
وَبَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ إلَى كِسْرَى وَاسْمُهُ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ [ ص 118 ] أَنُوشِرْوَانَ فَمَزّقَ كِتَابَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : اللّهُمّ مَزّقْ مُلْكَه فَمَزّقَ اللّهُ مُلْكَهُ وَمُلْكَ قَوْمِهِ .
[ الْكِتَابُ إلَى الْمُقَوْقِسِ ]
وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقِسِ وَاسْمُهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَاءَ مَلِكُ الإسكندرية عَظِيمُ الْقِبْطِ فَقَالَ خَيْرًا وَقَارَبَ الْأَمْرَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَأَهْدَى لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَارِيَةَ وَأُخْتَيْهَا سِيرِينَ وَقَيْسَرَى فَتَسَرّى مَارِيَةَ وَوَهَبَ سِيرِينَ لِحَسّانِ بْنِ ثَابِت ٍ وَأَهْدَى لَهُ جَارِيَةً أُخْرَى وَأَلْفَ مِثْقَالٍ ذَهَبًا وَعِشْرِينَ ثَوْبًا مِنْ قَبَاطِيّ مِصْرَ وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ وَهِيَ دُلْدُلُ وَحِمَارًا أَشْهَبَ وَهُوَ عُفَيْرٌ وَغُلَامًا خَصِيّا يُقَالُ لَهُ مأبور . وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَمّ مَارِيَةَ وَفَرَسًا وَهُوَ اللّزَازُ وَقَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ وَعَسَلًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : ضَنّ الْخَبِيثُ بِمُلْكِهِ وَلَا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ
[ الْكِتَابُ إلَى مَلِكِ الْبَلْقَاءِ ]
بَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرَ الْغَسّانِيّ مَلِكِ الْبَلْقَاءِ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيّ . قِيلَ إنّمَا تَوَجّهَ لِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَم ِ . وَقِيلَ تَوَجّهَ لَهُمَا مَعًا . وَقِيلَ تَوَجّهَ لِهِرَقْلَ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَاَللّه أَعْلَمُ . [ ص 119 ] سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ بِالْيَمَامَةِ فَأَكْرَمَهُ . وَقِيلَ بَعَثَهُ إلَى هَوْذَةَ وَإِلَى ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالَ الْحَنَفِيّ فَلَمْ يُسْلِمْ هَوْذَةُ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ السّتّةُ قِيلَ هُمْ الّذِينَ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
[الْكِتَابُ إلَى عَامِلِي عُمَانَ ]
وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ إلَى جَيْفَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ ابْنَيْ الجُلَنْدَى الْأَزْدِيّيْنِ بِعُمَانَ فَأَسْلَمَا وَصَدَقَا وَخَلّيَا بَيْنَ عَمْرٍو وَبَيْنَ الصّدَقَةِ وَالْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتّى بَلَغَتْهُ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[الْكِتَابُ إلَى مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ ]
وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ قَبْلَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَقِيلَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَسْلَمَ وَصَدَقَ .
[الْكِتَابُ إلَى الْيَمَنِ ]
وَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ الْمَخْزُومِيّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ الْحِمْيَرِيّ بِالْيَمَنِ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي .
[ بُعُوثٌ أُخْرَى ]
وَبَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِي ّ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ تَبُوكَ . وَقِيلَ بَلْ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ دَاعِيَيْنِ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ عَامّةُ أَهْلِهَا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ . ثُمّ بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إلَيْهِمْ وَوَافَاهُ بِمَكّةَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ . وَبَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ إلَى ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيّ وَذِي عَمْرٍو يَدْعُوهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَا وَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ . [ ص 120 ] عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ بِكِتَابٍ وَكَتَبَ إلَيْهِ بِكِتَابٍ آخَرَ مَعَ السّائِبِ بْنِ الْعَوّامِ أَخِي الزّبَيْرِ فَلَمْ يُسْلِمْ . وَبَعَثَ إلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيّ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ . وَقِيلَ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِ وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِقَيْصَرَ بِمَعَانَ فَأَسْلَمَ وَكَتَبَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِسْلَامِهِ وَبَعَثَ إلَيْهِ هَدِيّةً مَعَ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ وَهِيَ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ يُقَالُ لَهَا : فِضّةُ وَفَرَسٌ يُقَالُ لَهَا : الظّرِبُ وَحِمَارٌ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورُ كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ وَالظّاهِرُ - وَاَللّه أَعْلَمُ - أَنّ عُفَيْرًا وَيَعْفُورَ وَاحِدٌ عُفَيْرٌ تَصْغِيرُ يَعْفُورَ تَصْغِيرَ التّرْخِيمِ . وَبَعَثَ أَثْوَابًا وَقَبَاءً مِنْ سُنْدُسٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ فَقَبِلَ هَدِيّتَهُ وَوَهَبَ لِمَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنِشًا . وَبَعَثَ عَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ بِكِتَابٍ إلَى الْحَارِثِ وَمَسْرُوحٍ وَنُعَيْمٍ بَنِي عَبْدِ كُلَالٍ مِنْ حِمْيَرَ .

فَصْلٌ فِي مُؤَذّنِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانُوا أَرْبَعَةً اثْنَانِ بِالْمَدِينَةِ بِلَالُ بْنُ رَبَاح ٍ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ أَذّنَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمْرُو بْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْقُرَشِيّ الْعَامِرِيّ الْأَعْمَى وَبِقُبَاءٍ سَعْدُ الْقَرَظِ مَوْلَى عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِمَكّةَ أَبُو مَحْذُورَةَ وَاسْمُهُ أَوْسُ بْنُ مُغِيرَةَ الْجُمَحِي ّ وَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مِنْهُمْ يُرَجّعُ الْأَذَانَ وَيُثَنّي الْإِقَامَةَ وَبِلَالٌ لَا يُرَجّعُ وَيُفْرِدُ [ ص 121 ] الْإِقَامَةَ فَأَخَذَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَهْلُ مَكّةَ بِأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَإِقَامَةِ بِلَالٍ وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَة َ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَأَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَتِهِ وَخَالَفَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إعَادَةِ التّكْبِيرِ وَتَثْنِيَةِ لَفْظِ الْإِقَامَةِ فَإِنّهُ لَا يُكَرّرُهَا .

فَصْلٌ فِي أُمَرَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْهُمْ بَاذَانُ بْنُ سَاسَانَ مِنْ وَلَدِ بَهْرَامَ جُوّرَ أَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كُلّهَا بَعْدَ مَوْتِ كِسْرَى فَهُوَ أَوّلُ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْيَمَنِ وَأَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ . ثُمّ أَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ مَوْتِ بَاذَانَ ابْنَهُ شَهْرَ بْنَ بَاذَانَ عَلَى صَنْعَاءَ وَأَعْمَالِهَا . ثُمّ قُتِلَ شَهْرٌ فَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى صَنْعَاءَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . وَوَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّة الْمَخْزُومِيّ كِنْدَةَ وَالصّدِفَ فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَسِرْ إلَيْهَا فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْر ٍ إلَى قِتَالِ أُنَاسٍ مِنْ الْمُرْتَدّينَ . [ ص 122 ] زِيَادَ بْنَ أُمَيّةَ الْأَنْصَارِيّ حَضْرَمَوْتَ . وَوَلّى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ زَبِيدَ وَعَدَنَ وَالسّاحِلَ . وَوَلّى مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الْجَنْدَ . وَوَلّى أَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ نَجْرَانَ . وَوَلّى ابْنَهُ يَزِيدَ تَيْمَاءَ . وَوَلّى عَتّابَ بْنَ أَسِيدً مَكّةَ وَإِقَامَةَ الْمَوْسِمِ بِالْحَجّ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَلَهُ دُونَ الْعِشْرِينَ سَنَةً . وَوَلّى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ الْأَخْمَاسَ بِالْيَمَنِ وَالْقَضَاءَ بِهَا . وَوَلّى عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عُمَانَ وَأَعْمَالَهَا . وَوَلّى الصّدَقَاتِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً لِأَنّهُ كَانَ لِكُلّ قَبِيلَةٍ وَالٍ يَقْبِضُ صَدَقَاتِهَا فَمِنْ هُنَا كَثُرَ عُمّالُ الصّدَقَاتِ . وَوَلّى أَبَا بَكْرٍ إقَامَةَ الْحَجّ سَنَةَ تِسْعٍ وَبَعَثَ فِي إثْرِهِ عَلِيّا يَقْرَأُ عَلَى النّاسِ سُورَةَ ( بَرَاءَةَ فَقِيلَ لِأَنّ أَوّلَهَا نَزَلَ بَعْدَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ إلَى الْحَجّ . وَقِيلَ بَلْ لِأَنّ عَادَةَ الْعَرَبِ كَانَتْ أَنّهُ لَا يَحُلّ الْعُقُودَ وَيَعْقِدُهَا إلّا الْمُطَاعُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَقِيلَ أَرْدَفَهُ بِهِ عَوْنًا لَهُ وَمُسَاعِدًا . وَلِهَذَا قَالَ لَهُ الصّدّيقُ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ ؟ قَالَ بَلْ مَأْمُورٌ وَأَمّا أَعْدَاءُ اللّهِ الرّافِضَةُ فَيَقُولُونَ عَزَلَهُ بِعَلِيّ وَلَيْسَ هَذَا بِبَدْعٍ مِنْ بَهْتِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ . [ ص 123 ] كَانَتْ هَذِهِ الْحَجّةُ قَدْ وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجّةِ أَوْ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ أَجْلِ النّسِيءِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي حَرَسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ حَرَسَهُ يَوْمَ بَدْر ٍ حِينَ نَامَ فِي الْعَرِيشِ وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَرَسَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ حَرَسَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ . وَمِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَهُوَ الّذِي كَانَ عَلَى حَرَسِهِ وَحَرَسَهُ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَلَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ } [ الْمَائِدَةَ 67 ] خَرَجَ عَلَى النّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ بِهَا وَصَرَفَ الْحَرَسَ .

فَصْلٌ فِيمَنْ كَانَ يَضْرِبُ الْأَعْنَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ وَالضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيّ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشّرْطَةِ مِنْ الْأَمِيرِ وَوَقَفَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِهِ بِالسّيْفِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ [ ص 124 ]

فَصْلٌ فِيمَنْ كَانَ عَلَى نَفَقَاتِهِ وَخَاتَمِهِ وَنَعْلِهِ وَسِوَاكِهِ وَمَنْ كَانَ يَأْذَنُ عَلَيْهِ
كَانَ بِلَالٌ عَلَى نَفَقَاتِهِ وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدّوْسِيّ عَلَى خَاتَمِهِ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى سِوَاكِهِ وَنَعْلِهِ وَأَذِنَ عَلَيْهِ رَبَاحٌ الْأَسْوَدُ وَأَنَسَةُ مَوْلَيَاهُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ .

فَصْلٌ فِي شُعَرَائِهِ وَخُطَبَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 125 ] كَانَ مِنْ شُعَرَائِهِ الّذِينَ يَذُبّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَى الْكُفّارِ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُعَيّرُهُمْ بِالْكُفْرِ وَالشّرْكِ وَكَانَ خَطِيبُهُ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ .

فَصْلٌ فِي حُدَاتِهِ الّذِينَ كَانُوا يَحُدّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّفَرِ
مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَأَنْجَشَةُ وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَمّهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ . الصّوْتِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : رُوَيْدًا يَا أنْجَشَةُ لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِير . يَعْنِي ضَعْفَةَ النّسَاءِ .

فَصْلٌ فِي غَزَوَاتِهِ وَبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
غَزَوَاتُهُ كُلّهَا وَبُعُوثُهُ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي مُدّةِ عَشْرِ سِنِينَ فَالْغَزَوَاتُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَقِيلَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَقِيلَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعٍ : بَدْرٍ وَأُحُد ٍ وَالْخَنْدَقِ وَقُرَيْظَةَ وَالْمُصْطَلِقِ وَخَيْبَر َ وَالْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِف ِ . وَقِيلَ قَاتَلَ فِي بَنِي النّضِير ِ وَالْغَابَةِ وَوَادِي الْقُرَى مِنْ أَعْمَالِ خَيْبَرَ . وَأَمّا سَرَايَاهُ وَبُعُوثُهُ فَقَرِيبٌ مِنْ سِتّينَ وَالْغَزَوَاتُ الْكِبَارُ الْأُمّهَاتُ سَبْعٌ : بَدْر ٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ وَخَيْبَرُ وَالْفَتْحُ وَحُنَيْنٌ وَتَبُوكُ . وَفِي شَأْنِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَسُورَةُ ( الْأَنْفَالِ سُورَةُ بَدْرٍ وَفِي أُحُد ٍ آخِرُ سُورَةِ ( آلِ عِمْرَانَ مِنْ قَوْلِهِ { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آلُ عِمْرَانَ 121 ] إلَى قُبَيْلِ آخِرِهَا بِيَسِيرٍ وَفِي قِصّةِ الْخَنْدَقِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ صَدْرُ ( سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَسُورَةِ ( الْحَشْرِ فِي بَنِي النّضِيرِ وَفِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَة ِ وَخَيْبَرَ سُورَةِ ( الْفَتْحِ وَأُشِيرَ فِيهَا إلَى الْفَتْحِ وَذُكِرَ الْفَتْحُ صَرِيحًا فِي سُورَةِ ( النّصْرِ . وَجُرِحَ مِنْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أُحُد ٌ وَقَاتَلَتْ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهَا فِي بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ وَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْخَنْدَق ِ فَزَلْزَلَتْ الْمُشْرِكِينَ وَهَزَمَتْهُمْ وَرَمَى فِيهَا الْحَصْبَاءَ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ فَهَرَبُوا وَكَانَ الْفَتْحُ فِي غَزْوَتَيْنِ : بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ . وَقَاتَلَ بِالْمَنْجَنِيقِ مِنْهَا فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الطّائِفُ وَتَحَصّنَ فِي الْخَنْدَقِ فِي وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأَحْزَابُ أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 126 ]

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ سِلَاحِهِ وَأَثَاثِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَ لَهُ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ مَأْثُورٌ وَهُوَ أَوّلُ سَيْفٍ مَلَكَهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ . وَالْعَضْبُ وَذُو الْفِقَارِ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَبِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَانَ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ وَكَانَتْ قَائِمَتُهُ وَقَبِيعَتُهُ وَحَلْقَتُهُ وَذُؤَابَتُهُ وَبَكَرَاتُهُ وَنَعْلُهُ مِنْ فِضّةٍ . وَالْقَلَعِيّ وَالْبَتّارُ والحتف وَالرّسُوبُ وَالْمِخْذَمُ وَالْقَضِيبُ وَكَانَ نَعْلُ سَيْفِهِ فِضّةً وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَلَقُ فِضّةٍ . وَكَانَ سَيْفُهُ ذُو الْفِقَارِ تَنَفّلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ الّذِي أُرِيَ فِيهَا الرّؤْيَا وَدَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكّةَ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضّةٌ . وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَدْرُعٍ ذَاتُ الْفُضُولِ وَهِيَ الّتِي رَهَنَهَا عِنْدَ أَبِي الشّحْمِ الْيَهُودِيّ عَلَى شَعِيرٍ لِعِيَالِهِ وَكَانَ ثَلَاثِينَ صَاعًا وَكَانَ الدّيْنُ إلَى سَنَةٍ وَكَانَتْ الدّرْعُ مِنْ حَدِيدٍ . وَذَاتُ الْوِشَاحِ وَذَاتُ الْحَوَاشِي وَالسّعْدِيّةُ وَفِضّةٌ وَالْبَتْرَاءُ وَالْخِرْنِقُ . وَكَانَتْ لَهُ سِتُ قِسِيّ : الزّوْرَاءُ وَالرّوْحَاءُ وَالصّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْكَتُومُ كُسِرَتْ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ وَالسّدَادُ . وَكَانَتْ لَهُ جَعْبَةٌ تُدْعَى : الْكَافُورُ وَمِنْطَقَةٌ مِنْ أَدِيمٍ مَنْشُورٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِلَقٍ مِنْ فِضّةٍ وَالْإِبْزِيمُ مِنْ فِضّةٍ وَالطّرَفُ مِنْ فِضّةٍ وَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَدّ عَلَى وَسَطِهِ مِنْطَقَةً . وَكَانَ لَهُ تُرْسٌ يُقَالُ لَهُ الزّلُوقُ وَتُرْسٌ يُقَالُ لَهُ الْفُتَقُ . قِيلَ . وَتُرْسٌ أُهْدِيَ إلَيْهِ فِيهِ صُورَةُ تِمْثَالٍ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ اللّهُ ذَلِكَ التّمْثَالَ . [ ص 127 ] وَكَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ أَرْمَاحٍ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ الْمُثْوِي وَالْآخَرِ الْمُثْنِي وَحَرْبَةٌ يُقَالُ لَهَا : النّبْعَةُ وَأُخْرَى كَبِيرَةٌ تُدْعَى : الْبَيْضَاءُ وَأُخْرَى صَغِيرَةٌ شِبْهُ الْعُكّازِ يُقَالُ لَهَا : الْعَنَزَةُ يَمْشِي بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْأَعْيَادِ تُرَكّزُ أَمَامَهُ فَيَتّخِذُهَا سُتْرَةً يُصَلّي إلَيْهَا وَكَانَ يَمْشِي بِهَا أَحْيَانًا . وَكَانَ لَهُ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقَالُ لَهُ الْمُوَشّحُ وُشِحَ بِشَبَهٍ وَمِغْفَرٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ السّبُوغُ أَوْ ذُو السّبُوغِ . وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ جِبَابٍ يَلْبَسُهَا فِي الْحَرْبِ . قِيلَ فِيهَا : جُبّةُ سُنْدُسٍ أَخْضَرَ وَالْمَعْرُوفُ أَنّ عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ كَانَ لَهُ يَلْمَقُ مِنْ دِيبَاجٍ بِطَانَتُهُ سُنْدُسٌ أَخْضَرُ يَلْبَسُهُ فِي الْحَرْبِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ يُجَوّزُ لُبْسَ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ . وَكَانَتْ لَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ يُقَالُ لَهَا : الْعُقَابُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصّحَابَةِ قَالَ رَأَيْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفْرَاءَ وَكَانَتْ لَهُ أَلْوِيَةٌ بَيْضَاءُ وَرُبّمَا جُعِلَ فِيهَا الْأَسْوَدُ . وَكَانَ لَهُ فُسْطَاطٌ يُسَمّى : الْكِنّ وَمِحْجَنٌ قَدْرُ ذِرَاعٍ أَوْ أَطْوَلُ يَمْشِي بِهِ وَيَرْكَبُ بِهِ وَيُعَلّقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَعِيرِهِ وَمِخْصَرَةٍ تُسَمّى : الْعُرْجُونَ وَقَضِيبٌ مِنْ الشّوْحَطِ يُسَمّى : الْمَمْشُوقُ . قِيلَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يَتَدَاوَلُهُ الْخُلَفَاءُ . وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ يُسَمّى : الرّيّانُ وَيُسَمّى مُغْنِيًا وَقَدَحٌ آخَرُ مُضَبّبٌ بِسِلْسِلَةٍ مِنْ فِضّةٍ . وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ قَوَارِيرَ وَقَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ بِاللّيْلِ وَرَكْوَةٌ تُسَمّى : الصّادِرُ قِيلَ وَتَوْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ يَتَوَضّأُ مِنْهُ وَمِخْضَبٌ مِنْ شَبَهٍ وَقَعْبٌ يُسَمّى : السّعَةَ وَمُغْتَسَلٌ مِنْ صُفْرٍ وَمُدّهَنٌ وَرَبْعَةٌ يَجْعَلُ فِيهَا [ ص 128 ] قِيلَ وَكَانَ الْمُشْطُ مِنْ عَاجٍ وَهُوَ الذّبْلُ وَمُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا عِنْدَ النّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلّ عَيْنٍ بِالْإِثْمِدِ وَكَانَ فِي الرّبْعَةِ الْمِقْرَاضَانِ وَالسّوَاكِ . وَكَانَتْ لَهُ قَصْعَةٌ تُسَمّى : الْغَرّاءَ لَهَا أَرْبَعُ حِلَقٍ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ بَيْنَهُمْ وَصَاعٌ وَمُدّ وَقَطِيفَةٌ وَسَرِيرٌ قَوَائِمُهُ مِنْ سَاجٍ أَهْدَاهُ لَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَفِرَاشٌ مِنْ أُدُمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ رُوِيَتْ مُتَفَرّقَةً فِي أَحَادِيثَ . وَقَدْ رَوَى الطّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمِهِ حَدِيثًا جَامِعًا فِي الْآنِيَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيْفٌ قَائِمَتُهُ مِنْ فِضّةٍ وَقَبِيعَتُهُ مِنْ فِضّةٍ وَكَانَ يُسَمّى : ذَا الْفِقَارِ وَكَانَتْ لَهُ قَوْسٌ تُسَمّى : السّدَادُ وَكَانَتْ لَهُ كِنَانَةٌ تُسَمّى : الْجَمْعَ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ مُوَشّحَةٌ بِالنّحَاسِ تُسَمّى : ذَاتَ الْفُضُولِ وَكَانَتْ لَهُ حَرْبَةٌ تُسَمّى : النّبْعَاءَ وَكَانَ لَهُ مِحْجَنٌ يُسَمّى : الدقن وَكَانَ لَهُ تُرْسٌ أَبْيَضُ يُسَمّى : الْمُوجَزَ وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ أَدْهَمُ يُسَمّى : السّكْبَ وَكَانَ لَهُ سَرْجٌ يُسَمّى : الدّاجّ وَكَانَتْ لَهُ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ تُسَمّى : دُلْدُلَ وَكَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ تُسَمّى : الْقَصْوَاءَ وَكَانَ لَهُ حِمَارٌ يُسَمّى : يَعْفُورَ وَكَانَ لَهُ بِسَاطٌ يُسَمّى : الْكِنّ وَكَانَتْ لَهُ عَنَزَةٌ تُسَمّى : الْقُمْرَةَ وَكَانَتْ لَهُ رَكْوَةٌ تُسَمّى : الصّادِرَةَ وَكَانَ لَهُ مِقْرَاضٌ اسْمُهُ الْجَامِعُ وَمِرْآةٌ وَقَضِيبٌ شَوْحَطٌ يُسَمّى : الْمَوْتَ .

فَصْلٌ فِي دَوَابّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَمِنْ الْخَيْلِ السّكْبُ . قِيلَ وَهُوَ أَوّلُ فَرَسٍ مَلَكَهُ وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْأَعْرَابِيّ الّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَشْرِ أَوَاقٍ الضّرْسَ وَكَانَ أَغَرّ مُحَجّلًا طَلْقَ الْيَمِينِ كُمَيْتًا . وَقِيلَ كَانَ أَدْهَمَ . وَالْمُرْتَجَزُ وَكَانَ أَشْهَبَ وَهُوَ الّذِي شَهِدَ فِيهِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ . وَاللّحَيْفُ وَاللّزَازُ وَالظّرِبُ وَسَبْحَةٌ وَالْوَرْدُ . فَهَذِهِ سَبْعَةٌ مُتّفَقٌ عَلَيْهَا [ ص 129 ] أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ جَمَاعَةٍ الشّافِعِيّ فِي بَيْتٍ فَقَالَ
وَالْخَيْلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحَةٌ ظَرِب
لِزَازُ مُرْتَجَزٌ وَرْدٌ لَهَا أَسْرَارُ
أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَنْهُ وَلَدُهُ الْإِمَامُ عِزّ الدّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَبُو عَمْرٍو أَعَزّهُ اللّهُ بِطَاعَتِهِ . وَقِيلَ كَانَتْ لَهُ أَفْرَاسٌ أُخَرُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَكِنْ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَكَانَ دَفّتَا سَرْجِهِ مِنْ لِيفٍ . وَكَانَ لَهُ مِنْ الْبِغَالِ دُلْدُلُ وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ . وَبَغْلَةٌ أُخْرَى . يُقَالُ لَهَا : فِضّةٌ . أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ الْجُذَامِيّ وَبَغْلَةٌ شَهْبَاءُ أَهْدَاهَا لَهُ صَاحِبُ أَيْلَةَ وَأُخْرَى أَهْدَاهَا لَهُ صَاحِبُ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ وَقَدْ قِيلَ إنّ النّجَاشِيّ أَهْدَى لَهُ بَغْلَةً فَكَانَ يَرْكَبُهَا . وَمِنْ الْحَمِيرِ عُفَيْرٌ وَكَانَ أَشْهَبَ أَهْدَاهُ لَهُ الْمُقَوْقِسُ مَلِكُ الْقِبْطِ وَحِمَارٌ آخَرُ أَهْدَاهُ لَهُ فَرْوَةُ الْجُذَامِيّ . وَذُكِرَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَعْطَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِمَارًا فَرَكِبَهُ . وَمِنْ الْإِبِلِ الْقَصْوَاءُ قِيلَ وَهِيَ الّتِي هَاجَرَ عَلَيْهَا وَالْعَضْبَاءُ وَالْجَدْعَاءُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِمَا عَضَبٌ وَلَا جَدْعٌ وَإِنّمَا سُمّيَتَا بِذَلِكَ وَقِيلَ كَانَ بِأُذُنِهَا عَضَبٌ فَسُمّيَتْ بِهِ وَهَلْ الْعَضْبَاءُ وَالْجَدْعَاءُ وَاحِدَةٌ أَوْ اثْنَتَانِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَالْعَضْبَاءُ هِيَ الّتِي كَانَتْ لَا تُسْبَقُ ثُمّ جَاءَ أَعْرَابِيّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ حَقّا عَلَى اللّهِ أَلّا يَرْفَعَ مِنْ الدّنْيَا شَيْئًا إلّا وَضَعَهُ وَغَنِمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ بَدْر ٍ جَمَلًا مَهْرِيّا لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضّةٍ فَأَهْدَاهُ يَوْمَ [ ص 130 ] الْحُدَيْبِيَةِ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ . وَكَانَتْ لَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ لِقْحَةٌ وَكَانَتْ لَهُ مَهْرِيّةٌ أَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مِنْ نَعَمِ بَنِي عَقِيلٍ . وَكَانَتْ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَكَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ كُلّمَا وَلّدَ لَهُ الرّاعِي بَهْمَةً ذَبَحَ مَكَانَهَا شَاةً وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ أَعْنُزٍ مَنَائِحَ تَرْعَاهُنّ أُمّ أَيْمَنَ .

فَصْلٌ فِي مَلَابِسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ لَهُ عِمَامَةٌ تُسَمّى : السّحَابَ كَسَاهَا عَلِيّا وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَيَلْبَسُ تَحْتَهَا الْقَلَنْسُوَةَ . وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ وَيَلْبَسُ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ . وَكَانَ إذَا اعْتَمّ أَرْخَى عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَفِي مُسْلِم ٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : ذُؤَابَةً فَدَلّ عَلَى أَنّ الذّؤَابَةَ لَمْ يَكُنْ [ ص 131 ] دَائِمًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ . وَقَدْ يُقَالُ إنّهُ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ أُهْبَةُ الْقِتَالِ وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَبِسَ فِي كُلّ مَوْطِنٍ مَا يُنَاسِبُهُ . وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ فِي الْجَنّةِ يَذْكُرُ فِي سَبَبِ الذّؤَابَةِ شَيْئًا بَدِيعًا وَهُوَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا اتّخَذَهَا صَبِيحَةَ الْمَنَامِ الّذِي رَآهُ فِي الْمَدِينَةِ لَمّا رَأَى رَبّ الْعِزّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ يَا مُحَمّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ لَا أَدْرِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ . . . الْحَدِيثُ وَهُوَ فِي التّرْمِذِيّ وَسُئِلَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فَقَالَ [ ص 132 ] قَالَ فَمِنْ تِلْكَ الْحَالِ أَرْخَى الذّؤَابَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الّذِي تُنْكِرُهُ أَلْسِنَةُ الْجُهّالِ وَقُلُوبُهُمْ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الذّؤَابَةِ لِغَيْرِهِ . وَلَبِسَ الْقَمِيصَ وَكَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ وَكَانَ كُمّهُ إلَى الرّسْغِ وَلَبِسَ الْجُبّةَ وَالْفَرّوجَ وَهُوَ شِبْهُ الْقَبَاءِ وَالْفَرَجِيّةِ وَلَبِسَ الْقَبَاءَ أَيْضًا وَلَبِسَ فِي السّفَرِ جُبّةً ضَيّقَةَ الْكُمّيْنِ وَلَبِسَ الْإِزَارَ وَالرّدَاءَ . قَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَ رِدَاؤُهُ وَبُرْدُهُ طُولَ سِتّةِ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَشِبْرٍ وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ طُولَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعَيْنِ وَشِبْرٍ .
[ النّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ ]
وَلُبْسِ حُلّةٍ حَمْرَاءَ وَالْحُلّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلَا تَكُونُ الْحُلّةُ إلّا اسْمًا لِلثّوْبَيْنِ مَعًا وَغَلِطَ مَنْ ظَنّ أَنّهَا كَانَتْ حَمْرَاءَ بَحْتًا لَا يُخَالِطُهَا غَيْرُهُ وَإِنّمَا الْحُلّةُ الْحَمْرَاءُ بُرْدَانِ يَمَانِيّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيّةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ وَإِلّا فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيّ عَنْهُ أَشَدّ النّهْيِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْر وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى [ ص 133 ] فَقَالَ مَا هَذِهِ الرّيْطَةُ الّتِي عَلَيْكَ ؟ فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ فَأَتَيْتُ أَهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنّورًا لَهُمْ فَقَذَفْتهَا فِيهِ ثُمّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ مَا فَعَلَتْ الرّيْطَةُ ؟ فَأَخْبَرْته فَقَالَ هَلّا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِك فَإِنّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلنّسَاءِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ . فَقَالَ إنّ هَذِهِ مِنْ لِبَاسِ الْكُفّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَر وَمَعْلُومٌ أَنّ ذَلِكَ إنّمَا يُصْبَغُ صَبْغًا أَحْمَرَ . وَفِي بَعْضِ السّنَنِ أَنّهُمْ كَانُوا مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى عَلَى رَوَاحِلِهِمْ أَكْسِيَةً فِيهَا خُطُوطٌ حَمْرَاءُ فَقَالَ أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ فَقُمْنَا سِرَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَفَرَ بَعْضُ إبِلِنَا فَأَخَذْنَا الْأَكْسِيَةَ فَنَزْعْنَاهَا عَنْهَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي جَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ مِنْ الثّيَابِ وَالْجُوخِ وَغَيْرِهَا نَظَرٌ . وَأَمّا كَرَاهَتُهُ [ ص 134 ] فَشَدِيدَةٌ جِدّا فَكَيْفَ يُظَنّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ الْقَانِيَ كَلّا لَقَدْ أَعَاذَهُ اللّهُ مِنْهُ وَإِنّمَا وَقَعَتْ الشّبْهَةُ مِنْ لَفْظِ الْحُلّةِ الْحَمْرَاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَلَبِسَ الْخَمِيصَةَ الْمُعْلَمَةَ وَالسّاذَجَةَ وَلَبِسَ ثَوْبًا أَسْوَدَ وَلَبِسَ الْفَرْوَةَ الْمَكْفُوفَةَ بِالسّنْدُسِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ مَلِكَ الرّومِ أَهْدَى لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ فَلَبِسَهَا فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى يَدَيْهِ تَذَبْذَبَانِ . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْمَسَاتِقُ فِرَاءٌ طِوَالُ الْأَكْمَامِ . قَالَ الْخَطّابِيّ : يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُسْتَقَةَ مُكَفّفَةً بِالسّنْدُسِ لِأَنّ نَفْسَ الْفَرْوَةِ لَا تَكُونُ سُنْدُسًا .
فَصْلٌ وَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ
وَالظّاهِرُ أَنّهُ إنّمَا اشْتَرَاهَا لِيَلْبَسَهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنّهُ لَبِسَ السّرَاوِيلَ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ السّرَاوِيلَاتِ بِإِذْنِهِ . وَلَبِسَ الْخُفّيْنِ وَلَبِسَ النّعْلَ الّذِي يُسَمّى التّاسُومَةَ . وَلَبِسَ الْخَاتَمَ وَاخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ هَلْ كَانَ فِي يُمْنَاهُ أَوْ يُسْرَاهُ وَكُلّهَا صَحِيحَةُ السّنَدِ . وَلَبِسَ الْبَيْضَةَ الّتِي تُسَمّى : الْخُوذَةَ وَلَبِسَ الدّرْعَ الّتِي تُسَمّى : الزّرَدِيّةَ وَظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ الدّرْعَيْنِ . [ ص 135 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ هَذِهِ جُبّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْرَجَتْ جُبّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ . وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدّيبَاجِ فَقَالَتْ هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتّى قُبِضَتْ فَلَمّا قُبِضَتْ قَبَضْتهَا وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا وَكَانَ لَهُ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَكِسَاءٌ أَسْوَدُ وَكِسَاءٌ أَحْمَرُ مُلَبّدٌ وَكِسَاءٌ مِنْ شَعْرٍ وَكَانَ قَمِيصُهُ مِنْ قُطْنٍ وَكَانَ قَصِيرَ الطّولِ قَصِيرَ الْكُمّيْنِ وَأَمّا هَذِهِ الْأَكْمَامُ الْوَاسِعَةُ الطّوَالُ الّتِي هِيَ كَالْأَخْرَاجِ فَلَمْ يَلْبَسْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَتّةَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسُنّتِهِ وَفِي جَوَازِهَا نَظَرٌ فَإِنّهَا مِنْ جِنْسِ الْخُيَلَاءِ . وَكَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَالْحِبَرَةُ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ . وَكَانَ أَحَبّ الْأَلْوَانِ إلَيْهِ الْبَيَاضُ وَقَالَ هِيَ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ فَالْبَسُوهَا وَكَفّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَخْرَجَتْ كِسَاءً مُلَبّدًا وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَيْنِ . [ ص 136 ] وَنَهَى عَنْ التّخَتّمِ بِالذّهَبِ ثُمّ اتّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضّةٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي دَاود أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَذَكَرَ مِنْهَا : وَنَهَى عَنْ لُبُوسِ الْخَاتَمِ إلّا لِذِي سُلْطَانٍ فَلَا أَدْرِي مَا حَالُ الْحَدِيثِ وَلَا وَجْهُهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ يَجْعَلُ فَصّ خَاتَمِهِ مِمّا يَلِي بَاطِنَ كَفّهِ . وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ أَنّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ وَصَحّحَهُ وَأَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُد .
[ الْإِشَارَةُ إلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الطّيْلَسَانِ ]
وَأَمّا الطّيْلَسَانُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنّهُ لَبِسَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ذَكَرَ الدّجّالَ فَقَالَ يَخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ عَلَيْهِمْ الطّيَالِسَةُ وَرَأَى أَنَسٌ جَمَاعَةً [ ص 137 ] فَقَالَ مَا أَشْبَهَهُمْ بِيَهُودِ خَيْبَرَ . وَمِنْ هَاهُنَا كَرِهَ لُبْسَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ مِنّا مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ غَيْرِنَا وَأَمّا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَ إلَى أَبِي بَكْرٍ مُتَقَنّعًا بِالْهَاجِرَةِ فَإِنّمَا فَعَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ السّاعَةَ لِيَخْتَفِيَ بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ لِلْحَاجَةِ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ التّقَنّعُ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَسٌ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ وَهَذَا إنّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِلْحَاجَةِ مِنْ الْحَرّ وَنَحْوِهِ وَأَيْضًا لَيْسَ التّقَنّعُ مِنْ التّطَيْلُسِ .
فَصْلٌ [ غَالِبُ لُبْسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ الْقُطْنُ ]
وَكَانَ غَالِبُ مَا يَلْبَسُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَا نُسِجَ مِنْ الْقُطْنِ وَرُبّمَا لَبِسُوا مَا نُسِجَ مِنْ الصّوفِ وَالْكَتّانِ وَذَكَرَ الشّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَيّوبَ قَالَ دَخَلَ الصّلْتُ بْنُ رَاشِدٍ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعَلَيْهِ جُبّةُ صُوفٍ وَإِزَارُ صُوفٍ وَعِمَامَةُ صُوفٍ فَاشْمَأَزّ مِنْهُ مُحَمّدٌ وَقَالَ أَظُنّ أَنّ أَقْوَامًا يَلْبَسُونَ الصّوفَ وَيَقُولُونَ قَدْ لَبِسَهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَقَدْ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ لَبِسَ الْكَتّانَ وَالصّوفَ وَالْقُطْنَ وَسُنّةُ نَبِيّنَا أَحَقّ أَنْ تُتّبَعَ . وَمَقْصُودُ ابْنِ سِيرِينَ بِهَذَا أَنّ أَقْوَامًا يَرَوْنَ أَنّ لُبْسَ الصّوفِ دَائِمًا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَحَرّوْنَهُ [ ص 138 ] أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ يَتَحَرّوْنَ زِيّا وَاحِدًا مِنْ الْمَلَابِسِ وَيَتَحَرّوْنَ رُسُومًا وَأَوْضَاعًا وَهَيْئَاتٍ يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُنْكَرًا وَلَيْسَ الْمُنْكَرُ إلّا التّقَيّدُ بِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْهَا .
[ السّنّةُ لُبْسُ مَا تَيَسّرَ ]
وَالصّوَابُ أَنّ أَفْضَلَ الطّرُقِ طَرِيقُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي سَنّهَا وَأَمَرَ بِهَا وَرَغّبَ فِيهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنّ هَدْيَهُ فِي اللّبَاسِ أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسّرَ مِنْ اللّبَاسِ مِنْ الصّوفِ تَارَةً وَالْقُطْنِ تَارَةً وَالْكَتّانِ تَارَةً .
[ لبس البرد ]

وَلُبْسُ الْبُرُودِ الْيَمَانِيّةِ وَالْبُرْدِ الْأَخْضَرِ وَلُبْسُ الْجُبّةِ وَالْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ وَالسّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ وَالرّدَاءِ وَالْخُفّ وَالنّعْلِ وَأَرْخَى الذّؤَابَةَ مِنْ خَلْفِهِ تَارَةً وَتَرَكَهَا تَارَةً . وَكَانَ يَتَلَحّى بِالْعِمَامَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ . وَكَانَ إذَا اسْتَجَدّ ثَوْبًا سَمّاهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ اللّهُمّ أَنْتَ كَسَوْتَنِي هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ الرّدَاءَ أَوْ الْعِمَامَةَ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهِ وَشَرّ مَا صُنِعَ لَهُ وَكَانَ إذَا لَبِسَ قَمِيصَهُ بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ . وَلَبِسَ الشّعْرَ الْأَسْوَدَ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ [ ص 139 ] وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ قُلْنَا لِأَنَسٍ أَيّ اللّبَاسِ كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ الْحِبَرَةُ . وَالْحِبَرَةُ بُرْدٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ . فَإِنّ غَالِبَ لِبَاسِهِمْ كَانَ مِنْ نَسْجِ الْيَمَنِ لِأَنّهَا قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ وَرُبّمَا لَبِسُوا مَا يُجْلَبُ مِنْ الشّامِ وَمِصْرَ كَالْقَبَاطِيّ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْكَتّانِ الّتِي كَانَتْ تَنْسِجُهَا الْقِبْطُ . وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا جَعَلَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُرْدَةً مِنْ صُوفٍ فَلَبِسَهَا فَلَمّا عَرِقَ فَوَجَدَ رِيحَ الصّوفِ طَرَحَهَا وَكَانَ يُحِبّ الرّيحَ الطّيّبَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُلَلِ وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَان . وَالْبُرْدُ الْأَخْضَرُ هُوَ الّذِي فِيهِ خُطُوطٌ خُضْرٌ وَهُوَ [ ص 140 ] سَوَاءٌ فَمَنْ فَهِمَ مِنْ الْحُلّةِ الْحَمْرَاءِ الْأَحْمَرَ الْبَحْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ إنّ الْبُرْدَ الْأَخْضَرَ كَانَ أَخْضَرَ بَحْتًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ .
[ مِخَدّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[ الرّدّ عَلَى مَنْ يَمْتَنِعُونَ عَمّا أَبَاحَ اللّهُ ]
[ النّهْيَ عَنْ لِبَاسِ الشّهْرَةِ سَوَاءٌ لِلْفَخْرِ أَوْ لِلتّزَهّدِ ]
وَكَانَتْ مِخَدّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أُدُمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَاَلّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَمّا أَبَاحَ اللّهُ مِنْ الْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ تَزَهّدًا وَتَعَبّدًا بِإِزَائِهِمْ طَائِفَةٌ قَابَلُوهُمْ فَلَا يَلْبَسُونَ إلّا أَشْرَفَ الثّيَابِ وَلَا يَأْكُلُونَ إلّا أَلْيَنَ الطّعَامِ فَلَا يَرَوْنَ لُبْسَ الْخَشِنِ وَلَا أَكْلَهُ تَكَبّرًا وَتَجَبّرًا وَكِلَا الطّائِفَتَيْنِ هَدْيُهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشّهْرَتَيْنِ مِنْ الثّيَابِ الْعَالِي وَالْمُنْخَفِضُ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلّةٍ ثُمّ تَلَهّبُ فِيهِ النّارُ وَهَذَا لِأَنّهُ قَصَدَ بِهِ الِاخْتِيَالَ وَالْفَخْرَ فَعَاقَبَهُ اللّهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ فَأَذَلّهُ كَمَا عَاقَبَ مَنْ أَطَالَ ثِيَابَهُ خُيَلَاءَ بِأَنْ خَسَفَ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي [ ص 141 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرّ شَيْئًا مِنْهَا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِزَارِ فَهُوَ فِي الْقَمِيصِ وَكَذَلِكَ لُبْسُ الدّنِيءِ مِنْ الثّيَابِ يُذَمّ فِي مَوْضِعٍ وَيُحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ فَيُذَمّ إذَا كَانَ شُهْرَةً وَخُيَلَاءَ وَيُمْدَحُ إذَا كَانَ تَوَاضُعًا وَاسْتِكَانَةً كَمَا أَنّ لُبْسَ الرّفِيعِ مِنْ الثّيَابِ يُذَمّ إذَا كَانَ تَكَبّرًا وَفَخْرًا وَخُيَلَاءَ وَيُمْدَحُ إذَا كَانَ تَجَمّلًا وَإِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللّهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ فَقَالَ لَا إنّ اللّهَ جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقّ وَغَمْطُ النّاسِ [ ص 142 ]

فَصْلٌ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّعَامِ
وَكَذَلِكَ كَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسِيرَتُهُ فِي الطّعَامِ لَا يَرُدّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلّفُ مَفْقُودًا فَمَا قُرّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطّيّبَاتِ إلّا أَكَلَهُ إلّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَه ُ كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الضّبّ لَمّا لَمْ يَعْتَدْهُ وَلَمْ يُحَرّمْهُ عَلَى الْأُمّةِ بَلْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ . وَأَكَلَ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَكَانَ يُحِبّهُمَا وَأَكَلَ لَحْمَ الْجَزُورِ وَالضّأْنِ وَالدّجَاجِ وَلَحْمَ الْحُبَارَى وَلَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ وَطَعَامَ الْبَحْرِ وَأَكَلَ الشّوَاءَ وَأَكَلَ الرّطَبَ وَالتّمْرَ وَشَرِبَ اللّبَنَ خَالِصًا وَمَشُوبًا وَالسّوِيقَ وَالْعَسَلَ بِالْمَاءِ وَشَرِبَ نَقِيعَ التّمْرِ وَأَكَلَ الْخَزِيرَةَ وَهِيَ حِسَاءٌ يُتّخَذُ مِنْ اللّبَنِ وَالدّقِيقِ وَأَكَلَ الْقِثّاءَ بِالرّطَبِ وَأَكَلَ الْأَقِطَ وَأَكَلَ التّمْرَ بِالْخُبْزِ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْخَلّ وَأَكَلَ الثّرِيدَ وَهُوَ الْخُبْزُ بِاللّحْمِ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْإِهَالَةِ وَهِيَ الْوَدَكُ وَهُوَ الشّحْمُ الْمُذَابُ وَأَكَلَ مِنْ الْكَبِدِ الْمَشْوِيّةِ وَأَكَلَ الْقَدِيدَ وَأَكَلَ الدّبّاءَ الْمَطْبُوخَةَ وَكَانَ يُحِبّهَا وَأَكَلَ الْمَسْلُوقَةَ وَأَكَلَ الثّرِيدَ بِالسّمْنِ وَأَكَلَ الْجُبْنَ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالزّيْتِ وَأَكَلَ الْبِطّيخَ بِالرّطَبِ وَأَكَلَ التّمْرَ بِالزّبْدِ وَكَانَ يُحِبّهُ . وَلَمْ يَكُنْ يَرُدّ طَيّبًا وَلَا يَتَكَلّفُهُ بَلْ كَانَ هَدْيُهُ أَكْلُ مَا تَيَسّرَ فَإِنْ أَعْوَزَهُ صَبَرَ حَتّى إنّهُ لَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَيُرَى الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَلَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ . وَكَانَ مُعْظَمُ مَطْعَمِهِ يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ فِي السّفْرَةِ وَهِيَ كَانَتْ مَائِدَتَهُ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَيَلْعَقُهَا إذَا فَرَغَ وَهُوَ أَشْرَفُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكْلَةِ فَإِنّ الْمُتَكَبّرَ يَأْكُلُ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَالْجَشِعَ الْحَرِيصَ يَأْكُلُ بِالْخَمْسِ وَيَدْفَعُ بِالرّاحَةِ [ ص 143 ] وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مُتّكِئًا وَالِاتّكَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ وَالثّانِي : التّرَبّعُ وَالثّالِثُ الِاتّكَاءُ عَلَى إحْدَى يَدَيْهِ وَأَكْلُهُ بِالْأُخْرَى وَالثّلَاثِ مَذْمُومَةٌ . وَكَانَ يُسَمّي اللّهَ تَعَالَى عَلَى أَوّلِ طَعَامِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ فَيَقُولُ عِنْدَ انْقِضَائِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيّ وَلَا مُوَدّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبّنَا . وَرُبّمَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ مَنّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكُلّ بَلَاءٍ حَسَنٍ أَبْلَانَا الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَ مِنْ الطّعَامِ وَسَقَى مِنْ الشّرَابِ وَكَسَا مِنْ الْعُرْيِ وَهَدَى مِنْ الضّلَالَةِ وَبَصّرَ مِنْ الْعَمَى وَفَضّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . وَرُبّمَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِيِ أَطْعَمَ وَسَقَى . وَكَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ لَعِقَ أَصَابِعَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَادِيلُ يَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَادَتُهُمْ غَسْلَ أَيْدِيهِمْ كُلّمَا أَكَلُوا . وَكَانَ أَكْثَرُ شُرْبِهِ قَاعِدًا بَلْ زَجَرَ عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَشَرِبَ مَرّةً قَائِمًا [ ص 144 ] فَقِيلَ هَذَا نَسْخٌ لِنَهْيِهِ وَقِيلَ بَلْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَاَلّذِي يَظْهَرُ فِيهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ شَرِبَ فِيهَا قَائِمًا لِعُذْرٍ وَسِيَاقُ الْقِصّةِ يَدُلّ عَلَيْهِ فَإِنّهُ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فَأَخَذَ الدّلْوَ وَشَرِبَ قَائِمًا . وَالصّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَجَوَازُهُ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنْ الْقُعُودِ وَبِهَذَا تُجْمِعُ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ إذَا شَرِبَ نَاوَلَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ أَكْبَرَ مِنْهُ [ ص 145 ] .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي النّكَاحِ وَمُعَاشَرَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَهُ
صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حُبّبَ إلَيّ مِنْ دُنْيَاكُمْ : النّسَاءُ وَالطّيبُ وَجُعِلَتْ قُرّةُ عَيْنِي فِي الصّلَاةِ هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَمَنْ رَوَاهُ حُبّبَ إلَيّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ فَقَدْ وَهِمَ وَلَمْ يَقُلْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثٌ وَالصّلَاةُ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ الدّنْيَا الّتِي تُضَافُ إلَيْهَا . وَكَانَ النّسَاءُ وَالطّيبُ أَحَبّ شَيْءٍ إلَيْهِ وَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ قُوّةَ ثَلَاثِينَ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ وَأَبَاحَ اللّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِأَحَدٍ مِنْ أُمّتِهِ . وَكَانَ يُقَسّمُ بَيْنَهُنّ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِيوَاءِ وَالنّفَقَةِ وَأَمّا الْمَحَبّةُ فَكَانَ يَقُولُ اللّهُمّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ فَقِيلَ هُوَ الْحُبّ وَالْجِمَاعُ وَلَا تَجِبُ التّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنّهُ مِمّا لَا يَمْلِكُ . وَهَلْ كَانَ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ كَانَ لَهُ مُعَاشَرَتُهُنّ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ . فَهُوَ أَكْثَرُ الْأُمّةِ نِسَاءً قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : تَزَوّجُوا فَإِنّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً [ ص 146 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَاجَعَ وَآلَى إيلَاءً مُؤَقّتًا بِشَهْرٍ وَلَمْ يُظَاهِرْ أَبَدًا وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إنّهُ ظَاهَرَ خَطَأً عَظِيمًا وَإِنّمَا ذَكَرْته هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى قُبْحِ خَطَئِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى مَا بَرّأَهُ اللّهُ مِنْهُ . وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَحُسْنَ الْخُلُقِ . وَكَانَ يُسَرّبُ إلَى عَائِشَة َ بَنَاتَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا . وَكَانَ إذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ تَابَعَهَا عَلَيْهِ وَكَانَتْ إذَا شَرِبَتْ مِنْ الْإِنَاءِ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ فِي مَوْضِعِ فَمِهَا وَشَرِبَ وَكَانَ إذَا تَعَرّقَتْ عَرْقًا - وَهُوَ الْعَظْمُ الّذِي عَلَيْهِ لَحْمٌ - أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ مَوْضِعَ فَمِهَا وَكَانَ يَتّكِئُ فِي حِجْرِهَا وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا وَرُبّمَا كَانَتْ حَائِضًا وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَتّزِرُ ثُمّ يُبَاشِرُهَا وَكَانَ يُقَبّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ مِنْ لُطْفِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ مَعَ أَهْلِهِ أَنّهُ يُمَكّنُهَا مِنْ اللّعِبِ وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ وَهِيَ مُتّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبَيْهِ تَنْظُرُ وَسَابَقَهَا فِي السّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرّتَيْنِ وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنْ الْمَنْزِلِ مَرّةً . وَكَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَكَانَ يَقُولُ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي وَرُبّمَا مَدّ يَدَهُ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فِي حَضْرَةِ بَاقِيهِنّ . [ ص 147 ] وَكَانَ إذَا صَلّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَدَنَا مِنْهُنّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنّ فَإِذَا جَاءَ اللّيْلُ انْقَلَبَ إلَى بَيْتِ صَاحِبَةِ النّوْبَةِ فَخَصّهَا بِاللّيْلِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ لَا يُفَضّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مُكْثِهِ عِنْدَهُنّ فِي الْقَسْمِ وَقَلّ يَوْمٌ إلّا كَانَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتّى يَبْلُغَ الّتِي هُوَ فِي نَوْبَتِهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا وَكَانَ يُقَسّمُ لِثَمَانٍ مِنْهُنّ دُونَ التّاسِعَةِ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ أَنّ الّتِي لَمْ يَكُنْ يُقْسِمُ لَهَا هِيَ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَإِنّمَا هِيَ سَوْدَةُ فَإِنّهَا لَمّا كَبِرَتْ وَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ وَسَبَبُ هَذَا الْوَهْمِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهُ كَانَ قَدْ وَجَدَ عَلَى صَفِيّةَ فِي شَيْءٍ فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ هَلْ لَكِ أَنْ تُرْضِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنّي وَأَهَبُ لَكِ يَوْمِي ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ إلَى جَنْبِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي يَوْمِ صَفِيّةَ فَقَالَ : إلَيْكِ عَنّي يَا عَائِشَةُ فَإِنّهُ لَيْسَ يَوْمَكِ فَقَالَتْ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَأَخْبَرَتْهُ بِالْخَبَرِ فَرَضِيَ عَنْهَا وَإِنّمَا كَانَتْ وَهَبَتْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَتِلْكَ النّوْبَةَ الْخَاصّةَ وَيَتَعَيّنُ ذَلِكَ وَإِلّا كَانَ يَكُونُ [ ص 148 ] كَانَ لِثَمَانٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَلَوْ اتّفَقَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِمَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَتَيْنِ فَوَهَبَتْ إحْدَاهُنّ يَوْمَهَا لِلْأُخْرَى فَهَلْ لِلزّوْجِ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ لَيْلَةِ الْمَوْهُوبَةِ وَلَيْلَتِهَا الْأَصْلِيّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ تَلِيهَا أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَيْلَتَهَا هِيَ اللّيْلَةَ الّتِي كَانَتْ تَسْتَحِقّهَا الْوَاهِبَةُ بِعَيْنِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْتِي أَهْلَهُ آخِرَ اللّيْلِ وَأَوّلَهُ فَكَانَ إذَا جَامَعَ أَوّلَ اللّيْلِ رُبّمَا اغْتَسَلَ وَنَامَ وَرُبّمَا تَوَضّأَ وَنَامَ . وَذَكَرَ أَبُو إسْحَاقَ السّبِيعِيّ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهُ كَانَ رُبّمَا نَامَ وَلَمْ يَمَسّ مَاءً وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدَ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَإِيضَاحَ عِلَلِهِ وَمُشْكِلَاتِهِ . وَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَرُبّمَا اغْتَسَلَ عِنْدَ كُلّ وَاحِدَةٍ [ ص 149 ] وَكَانَ إذَا سَافَرَ وَقَدِمَ لَمْ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا وَكَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَوْمِهِ وَانْتِبَاهِهِ
كَانَ يَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ تَارَةً وَعَلَى النّطْعِ تَارَةً وَعَلَى الْحَصِيرِ تَارَةً وَعَلَى الْأَرْضِ تَارَةً وَعَلَى السّرِيرِ تَارَةً بَيْنَ رِمَالِهِ وَتَارَةً عَلَى كِسَاءٍ أَسْوَدَ . قَالَ عَبّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَمّهِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى . وَكَانَ فِرَاشُهُ أُدُمًا حَشْوُهُ لِيفٌ . وَكَانَ لَهُ مِسْحٌ يَنَامُ عَلَيْهِ يُثَنّى بِثَنْيَتَيْنِ وَثُنِيَ لَهُ يَوْمًا أَرْبَعُ ثَنَيَاتٍ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ رُدّوهُ إلَى حَالِهِ الْأَوّلِ فَإِنّهُ مَنَعَنِي صَلَاتِي اللّيْلَةَ وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ نَامَ عَلَى الْفِرَاشِ وَتَغَطّى بِاللّحَافِ وَقَالَ لِنِسَائِه : مَا أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنّ غَيْرَ عَائِشَةَ وَكَانَتْ وِسَادَتُهُ أُدُمًا حَشْوُهَا لِيفٌ . [ ص 150 ] وَكَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ لِلنّوْمِ قَالَ بِاسْمِكَ اللّهُمّ أَحْيَا وَأَمُوتُ وَكَانَ يَجْمَعُ كَفّيْهِ ثُمّ يَنْفُثُ فِيهِمَا وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا : " قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ " ثُمّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ . وَكَانَ يَنَامُ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ وَيَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدّهِ الْأَيْمَنِ ثُمّ يَقُول : اللّهُمّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ وَكَانَ يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِه : الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ [ ص 151 ] اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبّنَا وَرَبّ كُلّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبّ وَالنّوَى مُنْزِلَ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ أَنْتَ الْأَوّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنّا الدّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ وَكَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ فِي اللّيْلِ قَالَ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللّهُمّ إنّي أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَك اللّهُمّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إذْ هَدَيْتنِي وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ وَكَانَ إذَا انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِه قَال : الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُورُ ثُمّ يَتَسَوّكُ وَرُبّمَا قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ قَوْلِهِ { إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى آخِرِهَا [ آلِ عِمْرَانَ [ ص 190 ] وَقَالَ اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيّمُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقّ وَوَعْدُكَ الْحَقّ وَلِقَاؤُكَ حَقّ وَالْجَنّةُ حَقّ وَالنّارُ حَقّ وَالنّبِيّونَ حَقّ وَمُحَمّدٌ حَقّ وَالسّاعَةُ حَقّ اللّهُمّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْت وَعَلَيْكَ تَوَكّلْت وَإِلَيْكَ أَنَبْت وَبِكَ خَاصَمْت وَإِلَيْكَ حَاكَمْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدّمْت وَمَا أَخّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ وَكَانَ يَنَامُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَقُومُ آخِرَهُ وَرُبّمَا سَهِرَ أَوّلَ اللّيْلِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ . وَكَانَ إذَا نَامَ لَمْ يُوقِظُوهُ حَتّى يَكُونَ هُوَ الّذِي يَسْتَيْقِظُ . وَكَانَ إذَا عَرّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَعَ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ وَإِذَا عَرّسَ قُبَيْلَ الصّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفّهِ هَكَذَا قَالَ التّرْمِذِيّ . وَقَالَ [ ص 153 ] كَانَ إذَا عَرّسَ بِاللّيْلِ تَوَسّدَ يَمِينَهُ وَإِذَا عَرّسَ قُبَيْلَ الصّبْحِ نَصَبَ سَاعِدَهُ وَأَظُنّ هَذَا وَهْمًا وَالصّوَابُ حَدِيثُ التّرْمِذِيّ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَالتّعْرِيسُ إنّمَا يَكُونُ قُبَيْلَ الصّبْحِ . وَكَانَ نَوْمُهُ أَعْدَلَ النّوْمِ وَهُوَ أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنْ النّوْمِ وَالْأَطِبّاءُ يَقُولُونَ هُوَ ثُلُثُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ ثَمَانُ سَاعَاتٍ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّكُوبِ
رَكِبَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَرَكِبَ الْفَرَسَ مُسْرَجَةً تَارَةً وَعَرِيّا أُخْرَى وَكَانَ يُجْرِيهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَكَانَ يَرْكَبُ وَحْدَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَرُبّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَرُبّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ وَأَرْكَبَ أَمَامَهُ وَكَانُوا ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْدَفَ الرّجَالَ وَأَرْدَفَ بَعْضَ نِسَائِهِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَرَاكِبِهِ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ . وَأَمّا الْبِغَالُ فَالْمَعْرُوفُ أَنّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا بَغْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَلَمْ تَكُنْ الْبِغَالُ مَشْهُورَةً بِأَرْضِ الْعَرَبِ بَلْ لَمّا أُهْدِيَتْ لَهُ الْبَغْلَةُ قِيلَ أَلّا نُنَزّيَ الْخَيْلَ عَلَى الْحُمُرِ ؟ فَقَالَ إنّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

فَصْلٌ [ اتّخَاذُ الْغَنَمِ وَالرّقِيقِ ]
وَاِتّخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَنَمَ . وَكَانَ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَكَانَ لَا يُحِبّ أَنْ تَزِيدَ عَلَى مِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ بَهْمَةٌ ذَبَحَ مَكَانَهَا أُخْرَى عُتَقَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْعَبِيدِ أَكْثَرُ مِنْ الْإِمَاءِ وَاِتّخَذَ الرّقِيقَ مِنْ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ .
[ عُتَقَاؤُهُ مِنْ الْعَبِيدِ أَكْثَرَ مِنْ الْإِمَاءِ ]
وَكَانَ مَوَالِيهِ وَعُتَقَاؤُهُ مِنْ الْعَبِيدِ أَكْثَرَ مِنْ الْإِمَاءِ
[ الْمَوَاضِعُ الّتِي تَكُونُ فِيهَا الْأُنْثَى عَلَى النّصْفِ مِنْ الذّكَرِ ]
وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي جَامِعِهِ [ ص 154 ] أَبِي أُمَامَة َ وَغَيْرِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَيّمَا امْرِئٍ أَعْتَقَ امْرءًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النّارِ يُجْزِئُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النّارِ يُجْزِئُ كُلّ عُضْوَيْنِ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْه وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ عِتْقَ الْعَبْدِ أَفْضَلُ وَأَنّ عِتْقَ الْعَبْدِ يَعْدِلُ عِتْقَ أَمَتَيْنِ فَكَانَ أَكْثَرُ عُتَقَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْعَبِيدِ وَهَذَا أَحَد الْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ الّتِي تَكُونُ فِيهَا الْأُنْثَى عَلَى النّصْفِ مِنْ الذّكَرِ
وَالثّانِي : الْعَقِيقَةُ فَإِنّهُ عَنْ الْأُنْثَى شَاةٌ وَعَنْ الذّكَرِ شَاتَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ عِدّةُ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ . وَالثّالِثُ الشّهَادَةُ فَإِنّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ .
وَالرّابِعُ الْمِيرَاثُ .
وَالْخَامِسُ الدّيَةُ .

فَصْلٌ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعُقُودِ
وَبَاعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاشْتَرَى وَكَانَ شِرَاؤُهُ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَيْعِهِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَكَادُ يُحْفَظُ عَنْهُ الْبَيْعُ إلّا فِي قَضَايَا يَسِيرَةٍ أَكْثَرُهَا لِغَيْرِهِ كَبَيْعِهِ الْقَدَحَ وَالْحِلْسَ فِيمَنْ يَزِيدُ وَبَيْعِهِ يَعْقُوبَ الْمُدَبّرَ غُلَامَ أَبِي مَذْكُورٍ وَبَيْعِهِ عَبْدًا أَسْوَدَ بِعَبْدَيْنِ . وَأَمّا شِرَاؤُهُ فَكَثِيرٌ وَآجَرَ وَاسْتَأْجَرَ وَاسْتِئْجَارُهُ أَكْثَرُ مِنْ إيجَارِهِ وَإِنّمَا يُحْفَظُ عَنْهُ أَنّهُ أَجّرَ نَفْسَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ وَأَجّرَ نَفْسَهُ مِنْ خَدِيجَةَ فِي سَفَرِهِ بِمَالِهَا إلَى الشّامِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُضَارَبَةً فَالْمَضَارِبُ أَمِينٌ وَأَجِيرٌ وَوَكِيلٌ وَشَرِيكٌ [ ص 155 ] ظَهَرَ فِيهِ الرّبْحُ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِه ِ مِنْ حَدِيثِ الرّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ آجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفْسَهُ مِنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِد ٍ سَفْرَتَيْنِ إلَى جَرَشَ كُلّ سَفْرَةٍ بِقَلُوص ٍ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . قَالَ فِي النّهَايَةِ : جُرَشُ بِضَمّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرّاءِ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَهُوَ بِفَتْحِهِمَا بَلَدٌ بِالشّامِ . قُلْت : إنْ صَحّ الْحَدِيثُ فَإِنّمَا هُوَ الْمَفْتُوحُ الّذِي بِالشّامِ وَلَا يَصِحّ فَإِنّ الرّبِيعَ بْنَ بَدْرٍ هَذَا هُوَ عُلَيْلَةٌ ضَعّفَهُ أَئِمّةُ الْحَدِيثِ . قَالَ النّسَائِيّ وَالدّارَقُطْنِيّ وَالْأَزْدِيّ مَتْرُوكٌ وَكَأَنّ الْحَاكِمَ ظَنّهُ الرّبِيعَ بْنَ بَدْرٍ مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ . وَشَارَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ قَالَ : أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ أَمَا كُنْتَ شَرِيكِي ؟ فَنِعْمَ الشّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي . وَتُدَارِئُ بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْمُدَارَأَةِ وَهِيَ مُدَافَعَةُ الْحَقّ فَإِنْ تُرِكَ هَمْزُهَا صَارَتْ مِنْ الْمُدَارَاةِ وَهِيَ الْمُدَافَعَةُ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَوَكّلَ وَتَوَكّلَ وَكَانَ تَوْكِيلُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَوَكّلِهِ . وَأَهْدَى وَقَبِلَ الْهَدِيّةَ وَأَثَابَ عَلَيْهَا وَوَهَبَ وَاتّهَبَ [ ص 156 ] فَقَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ جَارِيَةٌ : هَبْهَا لِي فَوَهَبَهَا لَهُ فَفَادَى بِهَا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَدَانَ بِرَهْنٍ وَبِغَيْرِ رَهْنٍ وَاسْتَعَارَ وَاشْتَرَى بِالثّمَنِ الْحَالّ وَالْمُؤَجّلِ .
[الضّمَان ]
وَضَمِنَ ضَمَانًا خَاصّا عَلَى رَبّهِ عَلَى أَعْمَالٍ مَنْ عَمِلَهَا كَانَ مَضْمُونًا لَهُ بِالْجَنّةِ وَضَمَانًا عَامّا لِدُيُونِ مَنْ تُوُفّيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً أَنّهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُوفِيهَا وَقَدْ قِيلَ إنّ هَذَا الْحُكْمَ عَامّ لِلْأَئِمّةِ بَعْدَهُ فَالسّلْطَانُ ضَامِنٌ لِدُيُونِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُخْلِفُوا وَفَاءً فَإِنّهَا عَلَيْهِ يُوَفّيهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَالُوا : كَمَا يَرِثُهُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَكَذَلِكَ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ . وَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضًا كَانَتْ لَهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ وَتَشَفّعَ وَشُفّعَ إلَيْهِ وَرَدّتْ بِرَيْرَةُ شَفَاعَتَهُ فِي مُرَاجَعَتِهَا مُغِيثًا فَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهَا وَلَا عَتَبَ وَهُوَ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ وَحَلَفَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ [ ص 157 ] { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ لَحَقّ } [ يُونُسُ 53 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ } [ سَبَأٌ 3 ] وَقَالَ تَعَالَى : { زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } التّغَابُنُ 7 ] وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي يُذَاكِرُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ دَاوُد الظّاهِرِيّ وَلَا يُسَمّيهِ بِالْفَقِيهِ فَتَحَاكَمَ إلَيْهِ يَوْمًا هُوَ وَخَصْمٌ لَهُ فَتَوَجّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد فَتَهَيّأَ لِلْحَلِفِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ أَوَتَحْلِفُ وَمِثْلُك يَحْلِفُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ فَقَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْحَلِفِ وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ تَعَالَى نَبِيّهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ أَيْنَ ذَلِكَ ؟ فَسَرَدَهَا لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ جِدّا وَدَعَاهُ بِالْفَقِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
[الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَثْنِي فِي يَمِينِهِ تَارَةً وَيُكَفّرُهَا تَارَةً وَيَمْضِي فِيهَا تَارَةً وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ وَالْكَفّارَةُ تُحِلّهَا بَعْدَ عَقْدِهَا وَلِهَذَا سَمّاهَا اللّهُ تَحِلّةً .
[الْمِزَاحُ ]
وَكَانَ يُمَازِحُ وَيَقُولُ فِي مِزَاحِهِ الْحَقّ وَيُوَرّي وَلَا يَقُولُ فِي تَوْرِيَتِهِ إلّا الْحَقّ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ جِهَةً يَقْصِدُهَا فَيَسْأَلُ عَنْ غَيْرِهَا كَيْفَ طَرِيقُهَا ؟ وَكَيْفَ مِيَاهُهَا وَمَسْلَكُهَا ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَكَانَ يُشِيرُ وَيَسْتَشِيرُ . وَكَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيُجِيبُ الدّعْوَةَ وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالضّعِيفِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَسَمِعَ مَدِيحَ الشّعْرِ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الْمَدِيحِ فَهُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدّا مِنْ مَحَامِدِهِ وَأَثَابَ عَلَى الْحَقّ . وَأَمّا مَدْحُ غَيْرِهِ مِنْ النّاسِ فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِالْكَذِبِ فَلِذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يُحْثَى فِي وُجُوهِ الْمَدّاحِينَ التّرَابُ [ ص 158 ]

فَصْلٌ وَسَابَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَقْدَامِ وَصَارَعَ
وَخَصَفَ نَعْلَهُ بِيَدِهِ وَرَقّعَ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ وَرَقّعَ دَلْوهُ وَحَلَبَ شَاتَهُ وَفَلّى ثَوْبَهُ وَخَدَمَ أَهْلَهُ وَنَفْسَهُ وَحَمَلَ مَعَهُمْ اللّبِنَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ تَارَةً وَشَبِعَ تَارَةً وَأَضَافَ وَأُضِيفَ وَاحْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ وَاحْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَتَدَاوَى وَكَوَى وَلَمْ يَكْتَوِ وَرَقَى وَلَمْ يَسْتَرْقِ وَحَمَى الْمَرِيضَ مِمّا يُؤْذِيهِ .
[ جَمَعَ الْقُرْآنَ لِأُصُولِ الطّبّ ]
وَأُصُولُ الطّبّ ثَلَاثَةٌ : الْحِمْيَةُ وَحِفْظُ الصّحّةِ وَاسْتِفْرَاغُ الْمَادّةِ الْمُضِرّةِ وَقَدْ جَمَعَهَا اللّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِأُمّتِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَحَمَى الْمَرِيضَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ خَشْيَةً مِنْ الضّرَرِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا } [ النّسَاءُ 43 وَالْمَائِدَةُ 6 ] فَأَبَاحَ التّيَمّمَ لِلْمَرِيضِ حِمْيَةً لَهُ كَمَا أَبَاحَهُ لِلْعَادِمِ وَقَالَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ } [ الْبَقَرَةُ 184 ] فَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ حِفْظًا لِصِحّتِهِ لِئَلّا يَجْتَمِعَ عَلَى قُوّتِهِ الصّوْمُ وَمَشَقّةُ السّفَرِ فَيُضْعِفُ الْقُوّةَ وَالصّحّةَ . وَقَالَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ فِي حَلْقِ الرّأْسِ لِلْمُحْرِمِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ الْبَقَرَةُ 196 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَيَسْتَفْرِغَ الْمَوَادّ الْفَاسِدَةَ وَالْأَبْخِرَةَ الرّدِيئَةَ الّتِي تَوَلّدَ عَلَيْهِ الْقَمْلُ كَمَا حَصَلَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَوْ تَوَلّدَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ هِيَ قَوَاعِدُ الطّبّ [ ص 159 ] فَذَكَرَ مِنْ كُلّ جِنْسٍ مِنْهَا شَيْئًا وَصُورَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ حِمْيَتِهِمْ وَحِفْظِ صِحّتِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ مَوَادّ أَذَاهُمْ رَحْمَةً لِعِبَادِهِ وَلُطْفًا بِهِمْ وَرَأْفَةً بِهِمْ . وَهُوَ الرّءُوفُ الرّحِيمُ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُعَامَلَتِهِ
[السّلَفِ فِي الْعُقُودِ ]
كَانَ أَحْسَنَ النّاسِ مُعَامَلَةً . وَكَانَ إذَا اسْتَسْلَفَ سَلَفًا قَضَى خَيْرًا مِنْهُ . وَكَانَ إذَا اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ سَلَفًا قَضَاهُ إيّاهُ وَدَعَا لَهُ فَقَالَ : بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِك إنّمَا جَزَاءُ السّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ أَرْبَعِينَ صَاعًا فَاحْتَاجَ الْأَنْصَارِيّ فَأَتَاهُ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : مَا جَاءَنَا مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ فَقَالَ الرّجُلُ وَأَرَادَ أَنْ يَتَكَلّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : لَا تَقُلْ إلّا خَيْرًا فَأَنَا خَيْرُ مَنْ تَسَلّفَ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ فَضْلًا وَأَرْبَعِينَ سُلْفَةً فَأَعْطَاهُ ثَمَانِينَ ذَكَرَهُ الْبَزّارُ . وَاقْتَرَضَ بَعِيرًا فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَمّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ : دَعُوهُ فَإِنّ لِصَاحِبِ الْحَقّ مَقَالًا [ ص 160 ] وَاشْتَرَى مَرّةً شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ فَأُرْبِحَ فِيهِ فَبَاعَهُ وَتَصَدّقَ بِالرّبْحِ عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَقَالَ : لَا أَشْتَرِي بَعْدَ هَذَا شَيْئًا إلّا وَعِنْدِي ثَمَنُهُ ذَكَرَهُ أَبُو دَاود وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الشّرَاءَ فِي الذّمّةِ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ . وَتَقَاضَاهُ غَرِيمٌ لَهُ دَيْنًا فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ فَهَمّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فَقَالَ : مَهْ يَا عُمَرُ كُنْت أَحْوَجَ إلَى أَنْ تَأْمُرَنِي بِالْوَفَاءِ . وَكَانَ أَحْوَجَ إلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصّبْرِ وَبَاعَهُ يَهُودِيّ بَيْعًا إلَى أَجَلٍ فَجَاءَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ يَتَقَاضَاهُ ثَمَنَهُ فَقَالَ : لَمْ يَحِلْ الْأَجَلُ فَقَالَ الْيَهُودِيّ : إنّكُمْ لَمَطْلٌ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهَمّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلّا حِلْمًا فَقَالَ الْيَهُودِيّ : كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ قَدْ عَرَفْته مِنْ عَلَامَاتِ النّبُوّةِ وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنّهُ لَا تَزِيدُهُ شِدّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إلّا حِلْمًا فَأَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَهَا فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيّ [ ص 161 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَشْيِهِ وَحْدَهُ وَمَعَ أَصْحَابِهِ
كَانَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا وَكَانَ أَسْرَعَ النّاسِ مِشْيَةً وَأَحْسَنَهَا وَأَسْكَنَهَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّ الشّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ وَإِنّا لَنُجْهِدَ أَنْفُسَنَا وَإِنّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا كَأَنّمَا يَنْحَطّ مِنْ صَبَب وَقَالَ مَرّةً إذَا مَشَى تَقَلّع قُلْت : وَالتّقَلّعُ الِارْتِفَاعُ مِنْ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ كَحَالِ الْمُنْحَطّ مِنْ الصّبَبِ وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعَزْمِ وَالْهِمّةِ وَالشّجَاعَةِ وَهِيَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ وَأَرْوَاحُهَا لِلْأَعْضَاءِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ مِشْيَةِ الْهَوَجِ وَالْمَهَانَةِ وَالتّمَاوُتِ فَإِنّ الْمَاشِيَ إمّا أَنْ يَتَمَاوَتَ فِي مَشْيِهِ وَيَمْشِيَ قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ وَإِمّا أَنْ يَمْشِيَ بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ أَيْضًا وَهِيَ دَالّةٌ عَلَى خِفّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ حَالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَإِمّا أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا وَهِيَ مِشْيَةُ عِبَادِ الرّحْمَنِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ { وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [ الْفُرْقَانُ : 63 ] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السّلَفِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ كَانَ كَأَنّمَا يَنْحَطّ مِنْ صَبَبٍ وَكَأَنّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ حَتّى كَانَ الْمَاشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَنّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً بِتَمَاوُتٍ وَلَا بِمَهَانَةٍ بَلْ مِشْيَةً أَعْدَلَ الْمَشَيَاتِ .
[ أَنْوَاعُ الْمَشْيِ ]
وَالْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ هَذِهِ الثّلَاثَةُ مِنْهَا وَالرّابِعُ السّعْيُ . وَالْخَامِسُ الرّمَلُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَيُسَمّى : الْخَبَبَ وَفِي الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 163 ] خَبّ فِي طَوَافِهِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا السّادِسُ النّسَلَانُ وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ الّذِي لَا يُزْعِجُ الْمَاشِيَ وَلَا يُكْرِثُهُ . وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنّ الْمُشَاةَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَشْيِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ اسْتَعِينُوا بِالنّسَلَانِ وَالسّابِعُ الْخَوْزَلَى وَهِيَ مِشْيَةُ التّمَايُلِ وَهِيَ مِشْيَةٌ يُقَالُ إنّ فِيهَا تَكَسّرًا وَتَخَنّثًا . وَالثّامِنُ الْقَهْقَرَى وَهِيَ الْمِشْيَةُ إلَى وَرَاءٍ . وَالتّاسِعُ الْجَمَزَى وَهِيَ مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيهَا الْمَاشِي وَثْبًا . وَالْعَاشِرُ مِشْيَةُ التّبَخْتُرِ وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعُجْبِ وَالتّكَبّرِ وَهِيَ الّتِي خَسَفَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا لَمّا نَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَأَعْدَلُ هَذِهِ الْمِشْيَاتِ مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتّكَفّؤِ .
[مَشْيُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ ]
وَأَمّا مَشْيُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ خَلْفَهُمْ وَيَقُولُ دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَة وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَكَانَ يَسُوقُ أَصْحَابَهُ . وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا وَكَانَ يُمَاشِي أَصْحَابَهُ فُرَادَى وَجَمَاعَةً وَمَشَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَرّةً فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ وَسَالَ مِنْهَا الدّمُ فَقَالَ
هَلْ أَنْتَ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيَتْ
وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيت
وَكَانَ فِي السّفَرِ سَاقَهُ أَصْحَابُهُ يُزْجِي الضّعِيفَ وَيُرْدِفُهُ وَيَدْعُو لَهُمْ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُلُوسِهِ وَاتّكَائِهِ
كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْحَصِيرِ وَالْبِسَاطِ وَقَالَتْ قَيْلَةُ بِنْتُ مَخْرَمَةَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ قَالَتْ فَلَمّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَالْمُتَخَشّعِ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ . وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ دَعَاهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَلْقَتْ إلَيْهِ الْجَارِيَةُ وِسَادَةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدِيّ وَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ . قَالَ عَدِيّ : فَعَرَفْتُ أَنّهُ لَيْسَ بِمَلِكٍ وَكَانَ يَسْتَلْقِي أَحْيَانًا وَرُبّمَا وَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَكَانَ يَتّكِئُ عَلَى الْوِسَادَةِ وَرُبّمَا اتّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ وَرُبّمَا اتّكَأَ عَلَى يَمِينِهِ . وَكَانَ إذَا احْتَاجَ فِي خُرُوجِهِ تَوَكّأَ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ
كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ : اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِث [ ص 164 ] الشّيْطَانِ الرّجِيمِ . وَكَانَ إذَا خَرَجَ يَقُولُ : غُفْرَانَكَ وَكَانَ يَسْتَنْجي بِالْمَاءِ تَارَةً وَيَسْتَجْمِرُ بِالْأَحْجَارِ تَارَةً وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا تَارَةً . وَكَانَ إذَا ذَهَبَ فِي سَفَرِهِ لِلْحَاجَةِ انْطَلَقَ حَتّى يَتَوَارَى عَنْ أَصْحَابِهِ وَرُبّمَا كَانَ يَبْعُدُ نَحْوَ الْمِيلَيْنِ . وَكَانَ يَسْتَتِرُ لِلْحَاجَةِ بِالْهَدَفِ تَارَةً وَبِحَائِشِ النّخْلِ تَارَةً وَبِشَجَرِ الْوَادِي تَارَةً . وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي عَزَازٍ مِنْ الْأَرْضِ - وَهُوَ الْمَوْضِعُ الصّلْبُ - أَخَذَ عُودًا مِنْ الْأَرْضِ فَنَكّتَ بِهِ حَتّى يُثَرّى ثُمّ يَبُولُ
[ هَلْ يَجُوزُ التّبَوّلُ قَائِمًا ؟ ]
وَكَانَ يَرْتَادُ لِبَوْلِهِ الْمَوْضِعَ الدّمِثَ - وَهُوَ اللّينُ الرّخْوُ مِنْ الْأَرْضِ - وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَبُولُ وَهُوَ قَاعِدٌ حَتّى قَالَتْ عَائِشَةُ : مَنْ حَدّثَكُمْ أَنّهُ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إلّا قَاعِدًا وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ [ ص 165 ] حُذَيْفَة َ أَنّهُ بَالَ قَائِمًا فَقِيلَ هَذَا بَيَانٌ لِلْجَوَازِ وَقِيلَ إنّمَا فَعَلَهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِمَأْبِضَيْهِ . وَقِيلَ فَعَلَهُ اسْتِشْفَاءً . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ : وَالْعَرَبُ تَسْتَشْفِي مِنْ وَجَعِ الصّلْبِ بِالْبَوْلِ قَائِمًا وَالصّحِيحُ أَنّهُ إنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَنَزّهًا وَبُعْدًا مِنْ إصَابَةِ الْبَوْلِ فَإِنّهُ إنّمَا فَعَلَ هَذَا لَمّا أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ وَهُوَ مَلْقَى الْكُنَاسَةِ وَتُسَمّى الْمَزْبَلَةَ وَهِيَ تَكُونُ مُرْتَفِعَةً فَلَوْ بَالَ فِيهَا الرّجُلُ قَاعِدًا لَارْتَدّ عَلَيْهِ بَوْلُهُ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَتَرَ بِهَا وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ فَلَمْ يَكُنْ بَدّ مِنْ بَوْلِهِ قَائِمًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ التّرْمِذِيّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ قَالَ رَآنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَبُولُ قَائِمًا فَقَالَ : يَا عُمَرُ لَا تَبُلْ قَائِمًا قَالَ فَمَا بُلْت قَائِمًا بَعْدُ قَالَ التّرْمِذِيّ : وَإِنّمَا رَفَعَهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِق وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُريدة عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ : ثَلَاثٌ مِنْ الْجَفَاءِ : أَنْ يَبُولَ الرّجُلُ قَائِمًا أَوْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يَنْفُخَ فِي سُجُودِه وَرَوَاهُ التّرْمِذِي ّ
وَقَالَ هُوَ غَيْرُ [ ص 166 ] وَقَالَ الْبَزّارُ : لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُريدة إلّا سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : هُوَ بَصْرِيّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ . وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَكَانَ يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ بِشِمَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُ شَيْئًا مِمّا يَصْنَعُهُ الْمُبْتَلُونَ بِالْوَسْوَاسِ مِنْ نَتْرِ الذّكَرِ وَالنّحْنَحَةِ وَالْقَفْزِ وَمَسْكِ الْحَبْلِ وَطُلُوعِ الدّرَجِ وَحَشْوِ الْقُطْنِ فِي الْإِحْلِيلِ وَصَبّ الْمَاءِ فِيهِ وَتَفَقّدِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ إذَا بَالَ نَتَرَ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا . وَرُوِيَ أَنّهُ أَمَرَ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَصِحّ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا أَمْرِهِ . قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ العُقيلي . وَكَانَ إذَا سَلّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يَبُولُ لَمْ يَرُدّ عَلَيْه ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه ِ عَنْ ابْنِ عُمَر َ . وَرَوَى الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّهُ رَدّ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ : إنّمَا رَدَدْتُ عَلَيْكَ خَشْيَةَ أَنْ تَقُولَ سَلّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيّ سَلَامًا فَإِذَا رَأَيْتَنِي هَكَذَا فَلَا تُسَلّمْ عَلَيّ فَإِنّي لَا أَرُدّ عَلَيْكَ السّلَامَ وَقَدْ قِيلَ لَعَلّ هَذَا كَانَ مَرّتَيْنِ وَقِيلَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ أَصَحّ لِأَنّهُ مِنْ حَدِيثِ الضّحّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَن ْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثُ الْبَزّارِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَجُلٌ مِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ . قِيلَ وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا : هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ [ ص 167 ] مَالِك ٌ وَغَيْرُهُ وَالضّحّاكُ أَوْثَقُ مِنْهُ . وَكَانَ إذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ ضَرَبَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ إذَا جَلَسَ لِحَاجَتِهِ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْفِطْرَةِ وَتَوَابِعِهَا
قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ هَلْ وُلِدَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْتُونًا أَوْ خَتَنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ شُقّ صَدْرُهُ لِأَوّلِ مَرّةٍ أَوْ خَتَنَهُ جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ؟ وَكَانَ يُعْجِبُهُ التّيَمّنُ فِي تَنَعّلِهِ وَتَرَجّلِهِ وَطُهُورِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ وَكَانَتْ يَمِينُهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَطَهُورِهِ وَيَسَارُهُ لِخَلَائِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى . وَكَانَ هَدْيُهُ فِي حَلْقِ الرّأْسِ تَرْكَهُ كُلّهُ أَوْ أَخْذَهُ كُلّهُ وَلَمْ يَكُنْ يَحْلِقُ بَعْضَهُ وَيَدَعُ بَعْضَهُ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ حَلْقُهُ إلّا فِي نُسُكٍ . وَكَانَ يُحِبّ السّوَاكَ وَكَانَ يَسْتَاكُ مُفْطِرًا وَصَائِمًا وَيَسْتَاكُ عِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الصّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ وَكَانَ يَسْتَاكُ بِعُودِ الْأَرَاكِ . وَكَانَ يُكْثِرُ التّطَيّبَ وَيُحِبّ الطّيبَ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَطّلِي بِالنّورَةِ [ ص 168 ] وَكَانَ أَوّلًا يَسْدُلُ شَعْرَهُ ثُمّ فَرَقَهُ وَالْفَرْقُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْرَهُ فِرْقَتَيْنِ كُلّ فِرْقَةٍ ذُؤَابَةٌ وَالسّدْلُ أَنْ يَسْدُلَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ فِرْقَتَيْنِ . وَلَمْ يَدْخُلْ حَمّامًا قَطّ وَلَعَلّهُ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَصِحّ فِي الْحَمّامِ حَدِيثٌ [ ص 169 ] وَكَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلّ لَيْلَة ٍ ثلَاثًا عِنْدَ النّوْمِ فِي كُلّ عَيْنٍ . وَاخْتَلَفَ الصّحَابَةُ فِي خِضَابِهِ فَقَالَ أَنَسٌ : لَمْ يَخْضِبْ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : خَضّبَ وَقَدْ رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْد عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْضُوبًا قَالَ حَمّادٌ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ رَأَيْت شَعْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَخْضُوبًا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا يُكْثِرُ الطّيبَ قَدْ احْمَرّ شَعْرُهُ فَكَانَ يُظَنّ مَخْضُوبًا . وَلَمْ يَخْضِبْ . وَقَالَ أَبُو رِمْثَة : أَتَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ ابْنٍ لِي فَقَالَ : أَهَذَا ابْنُكَ ؟ قُلْتُ نَعَمْ أَشْهَدُ بِهِ فَقَالَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ قَالَ وَرَأَيْت الشّيْبَ أَحْمَرَ . قَالَ التّرْمِذِي ّ : هَذَا أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَفْسَرُهُ لِأَنّ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَبْلُغْ الشّيْبَ . قَالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ : قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : أَكَانَ فِي رَأْسِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْبٌ ؟ قَالَ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ شَيْب ٌ إلّا شَعَرَاتٌ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ إذَا ادّهَنَ وَارَاهُنّ الدّهْنُ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ كَأَنّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيّات [ ص 170 ] وَكَانَ يُحِبّ التّرَجّلَ وَكَانَ يُرَجّلُ نَفْسَهُ تَارَةً وَتُرَجّلُهُ عَائِشَةُ تَارَةً . وَكَانَ شَعْرُهُ فَوْقَ الْجُمّةِ وَدُونَ الْوَفْرَةِ وَكَانَتْ جُمّتُهُ تَضْرِبُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَإِذَا طَالَ جَعَلَهُ غَدَائِرَ أَرْبَعًا قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ قَدْمَةً وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ وَالْغَدَائِرُ الضّفَائِرُ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرُدّ الطّيبَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ طَيّبُ الرّائِحَةِ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدّهُ وَلَيْسَ بِمَعْنَاهُ فَإِنّ الرّيْحَانَ لَا تَكْثُرُ الْمِنّةُ بِأَخْذِهِ وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالتّسَامُحِ فِي بَذْلِهِ بِخِلَافِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْغَالِيَةِ وَنَحْوِهَا وَلَكِنّ الّذِي ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَزْرة بْنِ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرُدّ الطّيبَ [ ص 171 ] ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ ثَلَاثٌ لَا تُرَدّ : الْوَسَائِدُ وَالدّهْنُ وَاللّبَنُ فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ رَوَاهُ التّرْمِذِي ّ وَذَكَرَ عِلّتَهُ وَلَا أَحْفَظُ الْآنَ مَا قِيلَ فِيهِ إلّا أَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَمِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمْ الرّيْحَانَ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ خَرَجَ مِنْ الْجَنّةِ وَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُكّةٌ يَتَطَيّبُ مِنْهَا وَكَانَ أَحَبّ الطّيبِ إلَيْهِ الْمِسْكَ وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ قِيلَ وَهِيَ نُورُ الْحِنّاءِ.

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَصّ الشّارِبِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : رَوَى الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُصّ شَارِبَه وَيُذْكَرُ أَنّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُصّ شَارِبَه وَوَقّفَهُ طَائِفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ . وَرَوَى التّرْمِذِيّ مِنْ [ ص 172 ] أَرْقَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنّا وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُصّوا الشّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَوَفّرُوا اللّحَى وَأَحْفُوا الشّوَارِبَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَقّتَ لَنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَصّ الشّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ أَلّا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَاخْتَلَفَ السّلَفُ فِي قَصّ الشّارِبِ وَحَلْقِهِ أَيّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِه ِ يُؤْخَذُ مِنْ الشّارِبِ حَتّى تَبْدُوَ أَطْرَافُ الشّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ وَلَا يَجُزّهُ فَيُمَثّلَ بِنَفْسِهِ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ يُحْفِي الشّارِبَ وَيُعْفِي اللّحَى وَلَيْسَ إحْفَاءُ الشّارِبِ حَلْقَهُ وَأَرَى أَنْ يُؤَدّبَ مَنْ حَلَقَ شَارِبَهُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ إحْفَاءُ الشّارِبِ وَحَلْقُهُ عِنْدِي مُثْلَةٌ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ حَدِيثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إحْفَاءِ الشّارِبِ إنّمَا هُوَ الْإِطَارُ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَعْلَاهُ . [ ص 173 ] وَقَالَ أَشْهَدُ فِي حَلْقِ الشّارِبِ أَنّهُ بِدْعَةٌ وَأَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا مَنْ فَعَلَهُ قَالَ مَالِكٌ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ نَفَخَ فَجَعَلَ رِجْلَهُ بِرِدَائِهِ وَهُوَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : السّنّةُ فِي الشّارِبِ الْإِطَارُ وَقَالَ الطّحَاوِيّ : وَلَمْ أَجِدْ عَنْ الشّافِعِيّ شَيْئًا مَنْصُوصًا فِي هَذَا وَأَصْحَابُهُ الّذِينَ رَأَيْنَا الْمُزَنِيّ وَالرّبِيعُ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا وَيَدُلّ ذَلِكَ عَلَى أَنّهُمَا أَخَذَاهُ عَنْ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ قَالَ وَأَمّا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمّدٌ فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ فِي شَعْرِ الرّأْسِ وَالشّوَارِبِ أَنّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنْ التّقْصِيرِ وَذَكَرَ ابْنُ خُويز مَنْدَادٍ الْمَالِكِيّ عَنْ الشّافِعِيّ أَنّ مَذْهَبَهُ فِي حَلْقِ الشّارِبِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُمَرَ . وَأَمّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ الْأَثْرَمُ : رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْفِي شَارِبَهُ شَدِيدًا وَسَمِعْته يُسْأَلُ عَنْ السّنّةِ فِي إحْفَاءِ الشّارِبِ ؟ فَقَالَ يُحْفِي كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْفُوا الشّوَارِبَ وَقَالَ حَنْبَلٌ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ تَرَى الرّجُلَ يَأْخُذُ شَارِبَهُ أَوْ يُحْفِيهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَأْخُذُهُ ؟ قَالَ إنْ أَحْفَاهُ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ أَخَذَهُ قَصّا فَلَا بَأْسَ . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ قُدامة الْمَقْدِسِيّ فِي الْمُغْنِي : وَهُوَ مُخَيّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحْفِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُصّهُ مِنْ غَيْرِ إحْفَاءٍ . قَالَ الطّحَاوِيّ : وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ عَلَى سِوَاكٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَهُ إحْفَاءٌ . وَاحْتَجّ مَنْ لَمْ يَرَ إحْفَاءَهُ بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَة فَذَكَرَ مِنْهَا قَصّ الشّارِبِ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ خَمْس [ ص 174 ] وَذَكَرَ مِنْهَا قَصّ الشّارِبِ . وَاحْتَجّ الْمُحْفُونَ بِأَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِالْإِحْفَاءِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَجُزّ شَارِبَهُ قَالَ الطّحَاوِيّ : وَهَذَا الْأَغْلَبُ فِيهِ الْإِحْفَاءُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ . وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ جُزّوا الشّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللّحَى قَالَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْإِحْفَاءَ أَيْضًا وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُمْ كَانُوا يُحْفُونَ شَوَارِبَهُمْ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ حَاطِبٍ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ كَأَنّهُ يَنْتِفُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ حَتّى يُرَى بَيَاضُ الْجِلْدِ . قَالَ الطّحَاوِيّ : وَلَمّا كَانَ التّقْصِيرُ مَسْنُونًا عِنْدَ الْجَمِيعِ كَانَ الْحَلْقُ فِيهِ أَفْضَلَ قِيَاسًا عَلَى الرّأْسِ وَقَدْ دَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُحَلّقِينَ [ ص 175 ] وَاحِدَةً فَجَعَلَ حَلْقَ الرّأْسِ أَفْضَلَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فَكَذَلِكَ الشّارِبُ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ وَضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْصَحَ خَلْقِ اللّهِ وَأَعْذَبَهُمْ كَلَامًا وَأَسْرَعَهُمْ أَدَاءً وَأَحْلَاهُمْ مَنْطِقًا حَتّى إنّ كَلَامَهُ لَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ وَيَسْبِي الْأَرْوَاحَ وَيَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ . وَكَانَ إذَا تَكَلّمَ تَكَلّمَ بِكَلَامٍ مُفَصّلٍ مُبَيّنٍ يَعُدّهُ الْعَادّ لَيْسَ بِهَذّ مُسْرِعٍ لَا يُحْفَظُ وَلَا مُنْقَطِعٍ تخلّلُه السّكَتَاتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْكَلَامِ بَلْ هَدْيُهُ فِيهِ أَكْمَلُ الْهَدْيِ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كَانَ يَتَكَلّمُ بِكَلَامٍ بَيّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ . وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُعِيدُ الْكَلَامَ ثَلَاثًا لِيُعْقَلَ عَنْهُ وَكَانَ إذَا سَلّمَ سَلّمَ ثَلَاثًا . وَكَانَ طَوِيلَ السّكُوتِ لَا يَتَكَلّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتَتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ وَيَتَكَلّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلَامِ فَصْل لَا فُضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ وَكَانَ لَا يَتَكَلّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَلَا يَتَكَلّمُ إلّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ وَإِذَا كَرِهَ الشّيْءَ عُرِفَ فِي وَجْهِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحّشًا وَلَا صَخّابًا . وَكَانَ جُلّ ضَحِكِهِ التّبَسّمُ بَلْ كُلّهُ التّبَسّمُ فَكَانَ نِهَايَةُ ضَحِكِهِ أَنْ تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ . وَكَانَ يَضْحَكُ مِمّا يَضْحَكُ مِنْهُ وَهُوَ مِمّا يُتَعَجّبُ مِنْ مِثْلِهِ وَيُسْتَغْرَبُ وُقُوعُهُ وَيُسْتَنْدَرُ . أَسْبَابُ الضّحِكِ وَلِلضّحِكِ أَسْبَابٌ عَدِيدَةٌ هَذَا أَحَدُهَا . وَالثّانِي : ضَحِكُ الْفَرَحِ وَهُوَ أَنْ [ ص 176 ] أَغْضَبَهُ وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِهِ .
[بُكَاؤُهُ ]
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا بُكَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ ضَحِكِهِ لَمْ يَكُنْ بِشَهِيقٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ ضَحِكُهُ بِقَهْقَهَةٍ وَلَكِنْ كَانَتْ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ حَتّى تُهْمَلَا وَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ . وَكَانَ بُكَاؤُهُ تَارَةً رَحْمَةً لِلْمَيّتِ وَتَارَةً خَوْفًا عَلَى أُمّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهَا وَتَارَةً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتَارَةً عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُوَ بُكَاءُ اشْتِيَاقٍ وَمَحَبّةٍ وَإِجْلَالٍ مُصَاحِبٌ لِلْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ . وَلَمّا مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَبَكَى رَحْمَةً لَهُ وَقَالَ تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إلّا مَا يُرْضِي رَبّنَا وَإِنّا بِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ وَبَكَى لَمّا شَاهَدَ إحْدَى بَنَاتِهِ وَنَفْسُهَا تَفِيضُ وَبَكَى لَمّا قَرَأَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ ( النّسَاءِ وَانْتَهَى فِيهَا إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [ النّسَاءُ 41 ] وَبَكَى لَمّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَبَكَى لَمّا كَسَفَتْ الشّمْسُ وَصَلّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَعَلَ يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ وَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَقُولُ رَبّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلّا تُعَذّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُك [ ص 177 ] وَكَانَ يَبْكِي أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ اللّيْلِ .
[أَنْوَاع الْبُكَاءِ ]
وَالْبُكَاءُ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : بُكَاءُ الرّحْمَةِ وَالرّقّةِ . وَالثّانِي : بُكَاءُ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ . وَالثّالِثُ بُكَاءُ الْمَحَبّةِ وَالشّوْقِ . وَالرّابِعُ بُكَاءُ الْفَرَحِ وَالسّرُورِ . وَالْخَامِسُ بُكَاءُ الْجَزَعِ مِنْ وُرُودِ الْمُؤْلِمِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ . وَالسّادِسُ بُكَاءُ الْحُزْنِ .
[الْفَرْقُ بَيْنَ بُكَاءِ الْحُزْنِ وَبُكَاءِ الْخَوْفِ]
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُكَاءِ الْخَوْفِ أَنّ بُكَاءَ الْحُزْنِ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ أَوْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ وَبُكَاءُ الْخَوْفِ يَكُونُ لِمَا يُتَوَقّعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ بُكَاءِ السّرُورِ وَالْفَرَحِ وَبُكَاءِ الْحُزْنِ أَنّ دَمْعَةَ السّرُورِ بَارِدَةٌ وَالْقَلْبُ فَرْحَانُ وَدَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارّةٌ وَالْقَلْبُ حَزِينٌ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَا يُفْرَحُ بِهِ هُوَ قُرّةُ عَيْنٍ وَأَقَرّ اللّهُ بِهِ عَيْنَهُ وَلِمَا يُحْزِنُ هُوَ سَخِينَةُ الْعَيْنِ وَأَسْخَنَ اللّهُ عَيْنَهُ بِهِ . وَالسّابِعُ بُكَاءُ الْخَوْرِ وَالضّعْفِ . [ ص 178 ] أَقْسَى النّاسِ قَلْبًا . وَالتّاسِعُ الْبُكَاءُ الْمُسْتَعَارُ وَالْمُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ كَبُكَاءِ النّائِحَةِ بِالْأُجْرَةِ فَإِنّهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : تَبِيعُ عَبْرَتَهَا وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا وَالْعَاشِرُ بُكَاءُ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَرَى الرّجُلُ النّاسَ يَبْكُونَ لِأَمْرٍ وَرَدَ عَلَيْهِمْ فَيَبْكِي مَعَهُمْ وَلَا يَدْرِي لِأَيّ شَيْءٍ يَبْكُونَ وَلَكِنْ يَرَاهُمْ يَبْكُونَ فَيَبْكِي .
[هَيْئَاتُ الْبُكَاءِ ]
وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ دَمْعًا بِلَا صَوْتٍ فَهُوَ بُكًى مَقْصُورٌ وَمَا كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ فَهُوَ بُكَاءٌ مَمْدُودٌ عَلَى بِنَاءِ الْأَصْوَاتِ . وَقَالَ الشّاعِرُ
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقّ لَهَا بُكَاهَا
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَدْعًى مُتَكَلّفًا فَهُوَ التّبَاكِي وَهُوَ نَوْعَانِ مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ فَالْمَحْمُودُ أَنْ يُسْتَجْلَبَ لِرِقّةِ الْقَلْبِ وَلِخَشْيَةِ اللّهِ لَا لِلرّيَاءِ وَالسّمْعَةِ . وَالْمَذْمُومُ أَنْ يُجْتَلَبَ لِأَجْلِ الْخُلُقِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَآهُ يَبْكِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي شَأْنِ أَسَارَى بَدْرٍ : أَخْبِرْنِي مَا يُبْكِيك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْت وَإِنْ لَمْ أَجِدْ تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفُ ابْكُوا مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي خُطْبَتِهِ
[ ص 179 ] خَطَبَ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَى الْبَعِيرِ وَعَلَى النّاقَةِ . وَكَانَ إذَا خَطَبَ احْمَرّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدّ غَضَبُهُ حَتّى كَأَنّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكُمْ وَمَسّاكُمْ وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيُقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السّبّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ أَمّا بَعْدُ فَإِنّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّه وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكَانَ لَا يَخْطُبُ خُطْبَةً إلّا افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللّهِ . وَأَمّا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنّهُ يَفْتَتِحُ خُطْبَةَ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَخُطْبَةَ الْعِيدَيْنِ بِالتّكْبِيرِ فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ سُنّةٌ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَتّةَ وَسُنّتُهُ تَقْتَضِي خِلَافَهُ وَهُوَ افْتِتَاحُ جَمِيعِ الْخُطَبِ ب الْحَمْدِ لِلّهِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا قَدّسَ اللّهُ سِرّهُ . وَكَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا وَفِي مَرَاسِيلِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ أَنّهُ كَانَ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النّاسِ ثُمّ قَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالَ الشّعْبِيّ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ . وَكَانَ يَخْتِمُ خُطْبَتَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَانَ كَثِيرًا يَخْطُبُ [ ص 180 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ : مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَؤُهَا كُلّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النّاسَ وَذَكَرَ أَبُو دَاود عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا تَشَهّدَ قَالَ : الْحَمْدُ لِلّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السّاعَةِ مَنْ يُطِعْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنّهُ لَا يَضُرّ إلّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو [ ص 181 ] يُونُسَ أَنّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ تَشَهّدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا إلّا أَنّهُ قَالَ : وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَبَلَغَنَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا خَطَبَ : كُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ لَا بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ وَلَا يُعَجّلُ اللّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ وَلَا يُخِفّ لِأَمْرِ النّاسِ مَا شَاءَ اللّهُ لَا مَا شَاءَ النّاسُ يُرِيدُ اللّهُ شَيْئًا وَيُرِيدُ النّاسُ شَيْئًا مَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَلَوْ كَرِهَ النّاسُ وَلَا مُبْعِدَ لِمَا قَرّبَ اللّهُ وَلَا مُقَرّبَ لِمَا بَعّدَ اللّهُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِإِذْنِ اللّه وَكَانَ مَدَارُ خُطَبِهِ عَلَى حَمْدِ اللّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَمَحَامِدِهِ وَتَعْلِيمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَالْمَعَادِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللّهِ وَتَبْيِينِ مَوَارِدِ غَضَبِهِ وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ فَعَلَى هَذَا كَانَ مَدَارَ خُطَبِهِ . وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطَبِهِ : أَيّهَا النّاسُ إنّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا - أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا - كُلّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدّدُوا وَأَبْشِرُوا وَكَانَ يَخْطُبُ فِي كُلّ وَقْتٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَمَصْلَحَتُهُمْ وَلَمْ [ ص 182 ] وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ كُلّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاوِيشٌ يَخْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ حُجْرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَلْبَسُ لِبَاسَ الْخُطَبَاءِ الْيَوْمَ لَا طُرْحَةً وَلَا زِيقًا وَاسِعًا .
[صِفَةُ مِنْبَرِهِ ] صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ النّاسَ أَخَذَ الْمُؤَذّنُ فِي الْأَذَانِ فَقَطْ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ لَمْ يَرْفَعْ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ الْبَتّةَ لَا مُؤَذّنٌ وَلَا غَيْرُهُ .
[التّوَكّؤُ عَلَى الْعَصَا ]
وَكَانَ إذَا قَامَ يَخْطُبُ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكّأَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو دَاود عَنْ ابْنِ شِهَابٍ . وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الثّلَاثَةُ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْيَانًا يَتَوَكّأُ عَلَى قَوْسٍ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنّهُ تَوَكّأَ عَلَى سَيْفٍ وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهَلَةِ [ ص 183 ] كَانَ يَمْسِكُ السّيْفَ عَلَى الْمِنْبَرِ إشَارَةً إلَى أَنّ الدّينَ إنّمَا قَامَ بِالسّيْفِ وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْمَحْفُوظَ أَنّهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَكّأَ عَلَى الْعَصَا وَعَلَى الْقَوْسِ . الثّانِي : أَنّ الدّينَ إنّمَا قَامَ بِالْوَحْيِ وَأَمّا السّيْفُ فَلِمَحْقِ أَهْلِ الضّلَالِ وَالشّرْكِ وَمَدِينَةُ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي كَانَ يَخْطُبُ فِيهَا إنّمَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ تُفْتَحْ بِالسّيْفِ . وَكَانَ إذَا عَرَضَ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ عَارِضٌ اشْتَغَلَ بِهِ ثُمّ رَجَعَ إلَى خُطْبَتِهِ وَكَانَ يَخْطُبُ فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْنِ أَحْمَرَيْنِ فَقَطَعَ كَلَامَهُ فَنَزَلَ فَحَمَلَهُمَا ثُمّ عَادَ إلَى مِنْبَرِهِ ثُمّ قَالَ صَدَقَ اللّهُ الْعَظِيمُ { إِنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الْأَنْفَالُ 28 ] رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا فَلَمْ أَصْبِرْ حَتّى قَطَعْتُ كَلَامِي فَحَمَلْتُهُمَا وَجَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيّ وَهُوَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ : قُمْ يَا سُلَيْكُ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوّزْ فِيِهِما ثُمّ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجوّزْ فِيهِمَا [ ص 184 ]

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21