كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

[ بالِاخْتِلَافُ فِيمَا يَنْقَضِي بِهِ أَجَلُ الْعِدّةِ ]
وَقَوْلُكُمْ لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللّهِ لِلْغُسْلِ مَعْنَى . فَيُقَالُ كِتَابُ اللّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَعَرّضْ لِلْغُسْلِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنّمَا عَلّقَ الْحِلّ وَالْبَيْنُونَةَ بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ فِيمَا يَنْقَضِي بِهِ الْأَجَلُ فَقِيلَ بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ . وَقِيلَ بِالْغُسْلِ أَوْ مُضِيّ صَلَاةٍ أَوْ انْقِطَاعِهِ لِأَكْثَرِهِ . وَقِيلَ بِالطّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ وَحُجّةُ مَنْ وَقَفَهُ عَلَى الْغُسْلِ قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : عُمَرُ وَعَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ حَتّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ . قَالُوا : وَهُمْ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللّهِ وَحُدُودِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَة وَأَبِي الدّرْدَاءِ حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ . وَمِنْ هَاهُنَا قِيلَ إنّ مَذْهَبَ الصّدّيقِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَنّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ . قَالُوا : وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ حَظّ وَافِرٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنّ الْمَرْأَةَ إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الطّاهِرَاتِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ الْحُيّضِ مِنْ وَجْهٍ وَالْوُجُوهُ الّتِي هِيَ فِيهَا فِي حُكْمِ الْحُيّضِ أَكْثَرُ مِنْ الْوُجُوهِ الّتِي هِيَ فِيهَا فِي حُكْمِ الطّاهِرَاتِ فَإِنّهَا فِي حُكْمِ الطّاهِرَاتِ فِي صِحّةِ الصّيَامِ وَوُجُوبِ الصّلَاةِ وَفِي حُكْمِ الْحُيّضِ فِي تَحْرِيمِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ مَنْ حَرّمَهُ عَلَى الْحَائِضِ وَاللّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ وَالطّوَافِ بِالْبَيْتِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَتَحْرِيمِ الطّلَاقِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَاحْتَاطَ الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصّحَابَةِ لِلنّكَاحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهَا مِنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلّا بِقَيْدِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ ثُبُوتُ حُكْمِ الطّاهِرَاتِ فِي [ ص 568 ] حَائِضًا فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مَنْ جَعْلِهَا حَائِضًا فِي بَقَاءِ الزّوْجِيّةِ وَثُبُوتِ الرّجْعَةِ وَهَذَا مِنْ أَدَقّ الْفِقْهِ وَأَلْطَفِهِ مَأْخَذًا . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُ الْأَعْشَى :
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
فَغَايَتُهُ اسْتِعْمَالُ الْقُرُوءِ فِي الطّهْرِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُهُ .

[ الرّدّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالِاسْمِ ]
قَوْلُكُمْ إنّ الطّهْرَ أَسْبَقُ مِنْ الْحَيْضِ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْمِ فَتَرْجِيحٌ طَرِيفٌ جِدّا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ أَوْلَى بِالِاسْمِ إذَا كَانَ سَابِقًا فِي الْوُجُودِ ؟ ثُمّ ذَلِكَ السّابِقُ لَا يُسَمّى قَرْءًا مَا لَمْ يَسْبِقْهُ دَمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ مَنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ وَهَلْ يُقَالُ فِي كُلّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ إنّ أَسْبَقَ مَعَانِيهِ إلَى الْوُجُودِ أَحَقّ بِهِ فَيَكُونُ عَسْعَسَ مِنْ قَوْلِهِ { وَاللّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } [ التّكْوِيرَ 17 ] أَوْلَى بِكَوْنِهِ لِإِقْبَالِ اللّيْلِ لِسَبْقِهِ فِي الْوُجُودِ فَإِنّ الظّلَامَ سَابِقٌ عَلَى الضّيَاءِ .

[ الرّدّ عَلَى ادّعَاءِ تَفْسِيرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقُرُوءَ بِالْأَطْهَارِ ]
وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسّرَ الْقُرُوءَ بِالْأَطْهَارِ فَلَعَمْرُ اللّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا سَبَقْتُمُونَا إلَى الْقَوْلِ بِأَنّهَا الْأَطْهَارُ وَلَبَادَرْنَا إلَى هَذَا الْقَوْلِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَهَلْ الْمُعَوّلُ إلّا عَلَى تَفْسِيرِهِ وَبَيَانِهِ تَقُولُ سُلَيْمَى لَوْ أَقَمْتُمْ بِأَرْضِنَا وَلَمْ تَدْرِ أَنّي لِلْمُقَامِ أَطُوفُ
فَقَدْ بَيّنّا مِنْ صَرِيحِ كَلَامِهِ وَمَعْنَاهُ مَا يَدُلّ عَلَى تَفْسِيرِهِ لِلْقُرُوءِ بِالْحِيَضِ وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ .
فَصْلٌ فِي الْأَجْوِبَةِ عَنْ اعْتِرَاضِكُمْ عَلَى أَدِلّتِنَا
قَوْلُكُمْ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَإِنّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كَوَامِلَ أَيْ بَقِيّةُ الطّهْرِ قَرْءٌ كَامِلٌ فَهَذَا تَرْجَمَةُ الْمَذْهَبِ وَالشّأْنُ فِي كَوْنِهِ [ ص 569 ] لِسَانِ الشّارِعِ أَوْ فِي اللّغَةِ فَكَيْفَ تَسْتَدِلّونَ عَلَيْنَا بِالْمَذْهَبِ مَعَ مُنَازَعَةِ غَيْرِكُمْ لَكُمْ فِيهِ مِمّنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ كَمَا تَقَدّمَ ؟ وَلَكِنْ أَوْجِدُونَا فِي لِسَانِ الشّارِعِ أَوْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنّ اللّحْظَةَ مِنْ الطّهْرِ تُسَمّى قَرْءًا كَامِلًا وَغَايَةُ مَا عِنْدَكُمْ أَنّ بَعْضَ مَنْ قَالَ الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ لَا كُلّهُمْ يَقُولُونَ بَقِيّةُ الْقَرْءِ الْمُطْلَقِ فِيهِ قَرْءٌ وَكَانَ مَاذَا ؟ كَيْفَ وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ الطّهْرِ بَعْضُ طُهْرٍ بِلَا رَيْبٍ ؟ فَإِذَا كَانَ مُسَمّى الْقَرْءِ فِي الْآيَةِ هُوَ الطّهْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْضَ قَرْءٍ يَقِينًا أَوْ يَكُونَ الْقَرْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَمِيعِ وَالْبَعْضِ وَقَدْ تَقَدّمَ إبْطَالُ ذَلِك وَأَنّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .

[ الرّدّ عَلَى قَوْلِهِمْ إنّ الْعَرَبَ تُوقِعُ اسْمَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ ]
قَوْلُكُمْ إنّ الْعَرَبَ تُوقِعُ اسْمَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ .
[ الْفَرْقُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ وَصِيَغِ الْعَدَدِ ]
أَحَدُهَا : أَنّ هَذَا إنْ وَقَعَ فَإِنّمَا يَقَعُ فِي أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ الّتِي هِيَ ظَوَاهِرُ فِي مُسَمّاهَا وَأَمّا صِيَغُ الْعَدَدِ الّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي مُسَمّاهَا فَكَلّا وَلَمّا وَلَمْ تَرِدْ صِيغَةُ الْعَدَدِ إلّا مَسْبُوقَةً بِمُسَمّاهَا كَقَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ } [ التّوْبَةَ 36 ] . وَقَوْلُهُ { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الْكَهْفَ 25 ] . وَقَوْلُهُ { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ الْبَقَرَةَ 196 ] . وَقَوْلُهُ { سَخّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا } [ الْحَاقّةَ 7 ] وَنَظَائِرُهُ مِمّا لَا يُرَادُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ مُسَمّاهُ مِنْ الْعَدَدِ . وَقَوْلُهُ { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } اسْمُ عَدَدٍ لَيْسَ بِصِيغَةِ جَمْعٍ فَلَا يَصِحّ إلْحَاقُهُ بِأَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ اسْمَ الْعَدَدِ نَصّ فِي مُسَمّاهُ لَا يَقْبَلُ التّخْصِيصَ الْمُنْفَصِلَ بِخِلَافِ الِاسْمِ الْعَامّ فَإِنّهُ يَقْبَلُ التّخْصِيصَ الْمُنْفَصِلَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التّوَسّعِ فِي الِاسْمِ الظّاهِرِ التّوَسّعُ فِي الِاسْمِ الّذِي هُوَ نَصّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ . الثّانِي : أَنّ اسْمَ الْجَمْعِ يَصِحّ اسْتِعْمَالُهُ فِي اثْنَيْنِ فَقَطْ مَجَازًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَحَقِيقَةً عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَصِحّةُ اسْتِعْمَالِهِ فِي اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ أَوْلَى بِخِلَافِ [ ص 570 ] قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمّهِ السّدُسُ } [ النّسَاءَ 11 ] حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَخَوَيْنِ وَلَمّا قَالَ { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } [ النّورَ 6 ] لَمْ يَحْمِلْهَا أَحَدٌ عَلَى مَا دُونَ الْأَرْبَعِ . وَالْجَوَابُ الثّانِي : أَنّهُ وَإِنْ صَحّ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ فِي اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ إلّا أَنّهُ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى وَفْقِ اللّفْظِ وَإِذَا دَارَ اللّفْظُ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِهِ . الْجَوَابُ الثّالِثُ أَنّهُ إنّمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ فِي اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ فِي أَسْمَاءِ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ وَالْأَعْوَامِ خَاصّةً لِأَنّ التّارِيخَ إنّمَا يَكُونُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ فَتَارَةً يُدْخِلُونَ السّنَةَ النّاقِصَةَ فِي التّارِيخِ وَتَارَةً لَا يُدْخِلُونَهَا . وَكَذَلِكَ الْأَيّامُ وَقَدْ تَوَسّعُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَوَسّعُوا فِي غَيْرِهِ فَأَطْلَقُوا اللّيَالِيَ وَأَرَادُوا الْأَيّامَ مَعَهَا تَارَةً وَبِدُونِهَا أُخْرَى وَبِالْعَكْسِ . الْجَوَابُ الرّابِعُ أَنّ هَذَا التّجَوّزَ جَاءَ فِي جَمْعِ الْقِلّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ { الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [ الْبَقَرَةَ 197 ] . وَقَوْلُهُ { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } جَمْعُ كَثْرَةٍ وَكَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُقَالَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ إذْ هُوَ الْأَغْلَبُ عَلَى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ النّحَاةِ وَالْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْقِلّةِ إلَى صِيغَةِ الْكَثْرَةِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ وَنَفْيِ التّجَوّزِ فِي هَذَا الْجَمْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةً وَلَا يَظْهَرُ غَيْرُهَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا .

[ يُطْلَقُ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ فِيمَا يَقْبَلُ التّبْعِيضَ ]
الْجَوَابُ الْخَامِسُ أَنّ اسْمَ الْجَمْعِ إنّمَا يُطْلَقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ فِيمَا يَقْبَلُ التّبْعِيضَ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالشّهْرُ وَالْعَامُ وَنَحْوُ ذَلِكَ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُهُ وَالْحَيْضُ وَالطّهْرُ لَا يَتَبَعّضَانِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ عِدّةُ الْأَمَةِ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ قَرْأَيْنِ كَامِلَيْنِ بِالِاتّفَاقِ وَلَوْ أَمْكَنَ تَنْصِيفُ الْقَرْءِ لَجُعِلَتْ قَرْءًا وَنِصْفًا هَذَا مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلتّبْعِيضِ فَأَنْ لَا يَجُوزَ التّبْعِيضُ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلتّكْمِيلِ أَوْلَى وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْقَرْءَ لَيْسَ لِبَعْضِهِ حُكْمٌ فِي الشّرْعِ . الْجَوَابُ السّادِسُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيِسَةِ وَالصّغِيرَةِ { فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } [ ص 571 ] كَوَامِلُ وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ فَتَكْمِيلُ الْمُبْدَلِ أَوْلَى . قَوْلُكُمْ إنّ أَهْلَ اللّغَةِ يُصَرّحُونَ بِأَنّ لَهُ مُسَمّيَيْنِ الْحَيْضَ وَالطّهْرَ لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ وَلَكِنّ حَمْلَهُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى لِلْوُجُوهِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْمُشْتَرَكُ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ قَرَائِنُ تُرَجّحُ أَحَدَ مَعَانِيهِ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الرّاجِحِ .

[ الرّدّ عَلَى ادّعَائِهِمْ أَنّ الطّهْرَ الّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ دَمٌ هُوَ قَرْءٌ ]
قَوْلُكُمْ إنّ الطّهْرَ الّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ دَمٌ قَرْءٌ عَلَى الْأَصَحّ فَهَذَا تَرْجِيحٌ وَتَفْسِيرٌ لِلَفْظِهِ بِالْمَذْهَبِ وَإِلّا فَلَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَطّ أَنّ طُهْرَ بِنْتِ أَرْبَعِ سِنِينَ يُسَمّى قَرْءًا وَلَا تُسَمّى مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا فَثَبَتَ أَنّ الدّمَ دَاخِلٌ فِي مُسَمّى الْقَرْءِ وَلَا يَكُونُ قَرْءًا إلّا مَعَ وُجُودِهِ .

[ بَيَانُ مَجِيءِ الْقَرْءِ عَلَى لِسَانِ الشّارِعِ لِلْحَيْضِ ]
قَوْلُكُمْ إنّ الدّمَ شَرْطٌ لِلتّسْمِيَةِ كَالْكَأْسِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ تَنْظِيرٌ فَاسِدٌ فَإِنّ مُسَمّى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مَشْرُوطَةٌ بِشُرُوطِ وَالْقَرْءُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطّهْرِ وَالْحَيْضِ يُقَالُ عَلَى كُلّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً فَالْحَيْضُ مُسَمّاهُ حَقِيقَةً لَا أَنّهُ شَرْطٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي أَحَدِ مُسَمّيَيْهِ فَافْتَرَقَا .

[ تَقْوِيَةُ حَدِيثِ " دَعِي الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِك " ]
قَوْلُكُمْ لَمْ يَجِئْ فِي لِسَانِ الشّارِعِ لِلْحَيْضِ قُلْنَا قَدْ بَيّنّا مَجِيئَهُ فِي كَلَامِهِ لِلْحَيْضِ بَلْ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِهِ لِلطّهْرِ الْبَتّةَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ أَيّوبَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَن أُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَدَعُ الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِهَا قَوْلُكُمْ إنّ الشّافِعِيّ قَالَ مَا حَدّثَ بِهَذَا سُفْيَانُ قَطّ جَوَابُهُ أَنّ الشّافِعِيّ لَمْ يَسْمَعْ سُفْيَانَ يُحَدّثُ بِهِ فَقَالَ بِمُوجَبِ مَا سَمِعَهُ مِنْ سُفْيَانَ أَوْ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللّيَالِي وَالْأَيّامِ الّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنّ مِنْ الشّهْر وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ سُفْيَانَ مَنْ لَا يُسْتَرَابُ بِحِفْظِهِ وَصِدْقِهِ وَعَدَالَتِهِ . وَثَبَتَ فِي السّنَنِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَكَتْ إلَيْهِ الدّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَى قَرْؤُك فَلَا تُصَلّي وَإِذَا مَرّ [ ص 572 ] صَلّي مَا بَيْنَ الْقَرْءِ إلَى الْقَرْءِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ فَذَكَرَ فِيهِ لَفْظَ الْقَرْءِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ فِي كُلّ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ الْحَيْضَ لَا الطّهْرَ وَكَذَلِكَ إسْنَادُ الّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ صَحّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفّاظِ . وَأَمّا حَدِيثُ سُفْيَانَ الّذِي قَالَ فِيهِ لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللّيَالِي وَالْأَيّامِ الّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنّ مِنْ الشّهْرِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّفْظِ الّذِي احْتَجَجْنَا بِهِ بِوَجْهِ مَا حَتّى يُطْلَبَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بَلْ أَحَدُ اللّفْظَيْنِ يَجْرِي مِنْ الْآخَرِ مَجْرَى التّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْقَرْءَ اسْمٌ لِتِلْكَ اللّيَالِي وَالْأَيّامِ فَإِنّهُ إنْ كَانَا جَمِيعًا لَفْظَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الظّاهِرُ - فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ بِالْمَعْنَى فَلَوْلَا أَنّ مَعْنَى أَحَدِ اللّفْظَيْنِ مَعْنَى الْآخَرِ لُغَةً وَشَرْعًا لَمْ يَحِلّ لِلرّاوِي أَنْ يُبْدِلَ لَفْظَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُبْدِلَ اللّفْظَ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَلَا يَكُونُ مُرَادِفًا لِلَفْظِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا سِيّمَا وَالرّاوِي لِذَلِكَ مَنْ لَا يُدْفَعُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَالصّدْقِ وَالْوَرَعِ وَهُوَ أَيّوبُ السّخْتِيَانِيّ وَهُوَ أَجَلّ مِنْ نَافِعٍ وَأَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ الْكَاتِب حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ جَاءَتْ خَالَتِي فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إنّي أَخَافُ أَنْ أَقَعَ فِي النّارِ أَدَعُ الصّلَاةَ السّنَةَ وَالسّنَتَيْنِ قَالَتْ انْتَظِرِي حَتَى يَجِيءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاءَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : هَذِهِ فَاطِمَةُ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَ قُولِي لَهَا فَلْتَدَعْ الصّلَاةَ فِي كُلّ شَهْرٍ أَيّامَ قَرْئِهَا قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ الْكَاتِبُ بَصْرِيّ ثِقَةٌ عَزِيزُ الْحَدِيثِ يُجْمَعُ حَدِيثُهُ قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَتَكَلّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَفِيهِ أَنّهُ تَابَعَه ُ الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاة [ ص 573 ] ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . وَفِي " الْمُسْنَدِ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ إذَا أَقْبَلَتْ أَيّامُ أَقْرَائِكِ فَأَمْسِكِي عَلَيْكِ الْحَدِيثَ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ عَدِيّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَدَعُ الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِهَا ثُمّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلّي وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا : أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَكَتْ إلَيْهِ الدّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَى قَرْؤُك فَلَا تُصَلّي فَإِذَا مَرّ قَرْؤُكِ فَتَطَهّرِي ثُمّ صَلّي مَا بَيْنَ الْقَرْءِ إلَى الْقَرْءِ وَقَدْ تَقَدّمَ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا اُسْتُحِيضَتْ فَأَمَرَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَدَعَ الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِهَا وَتَعْلِيلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنّ هَذَا مِنْ تَغْيِيرِ الرّوَاةِ رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَرّجُ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَتْ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلّلَهَا لَأَعَادَ ذِكْرَهَا وَأَبْدَاهُ وَشَنّعَ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْيَأْسَ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطًا فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُرُوءُ هِيَ الْحِيَضَ ؟ قُلْنَا : لِأَنّهُ جَعَلَ الْأَشْهُرَ الثّلَاثَةَ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ الثّلَاثَةِ وَقَالَ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } [ الطّلَاقَ 4 ] فَنَقَلَهُنّ إلَى الْأَشْهُرِ عِنْدَ تَعَذّرِ مُبْدَلِهِنّ وَهُوَ الْحَيْضُ [ ص 574 ] فَدَلّ عَلَى أَنّ الْأَشْهُرَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ الّذِي يَئِسْنَ مِنْهُ لَا عَنْ الطّهْرِ وَهَذَا وَاضِحٌ .

[ الْجَوَابُ عَنْ تَضْعِيفِ حَدِيثِ " عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ " ]
قَوْلُكُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا مَعْلُولٌ بِمُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُخَالَفَةِ عَائِشَةَ لَهُ فَنَحْنُ إنّمَا احْتَجَجْنَا عَلَيْكُمْ بِمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا فِي كَوْنِ الطّلَاقِ بِالنّسَاءِ لَا بِالرّجَالِ فَكُلّ مَنْ صَنّفَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ فِي طَرِيقِ الْخِلَافِ أَوْ اسْتَدَلّ عَلَى أَنّ طَلَاقَ الْعَبْدِ طَلْقَتَانِ احْتَجّ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَالَ جَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلَاقَ الْعَبْدِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَاعْتَبَرَ الطّلَاقَ بِالرّجَالِ لَا بِالنّسَاءِ وَاعْتَبَرَ الْعِدّةَ بِالنّسَاءِ فَقَالَ وَعِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ . فَيَا سُبْحَانَ اللّهِ يَكُونُ الْحَدِيثُ سَلِيمًا مِنْ الْعِلَلِ إذَا كَانَ حُجّةً لَكُمْ فَإِذَا احْتَجّ بِهِ مُنَازِعُوكُمْ عَلَيْكُمْ اعْتَوَرَتْهُ الْعِلَلُ الْمُخْتَلِفَةُ فَمَا أَشْبَهَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ يَكُونُ أُجَاجًا دُونَكُمْ فَإِذَا انْتَهَى إلَيْكُمْ تَلَقّى نَشْرَكُمْ فَيَطِيبُ
فَنَحْنُ إنّمَا كِلْنَا لَكُمْ بِالصّاعِ الّذِي كِلْتُمْ لَنَا بِهِ بَخْسًا بِبَخْسِ وَإِيفَاءً بِإِيفَاءِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مُظَاهِرًا مِمّنْ لَا يُحْتَجّ بِهِ لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَضَدَ بِحَدِيثِهِ وَيُقَوّى بِهِ وَالدّلِيلُ غَيْرُهُ . وَأَمّا تَعْلِيلُهُ بِخِلَافِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لَهُ فَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِكُمْ أَنّ مُخَالَفَةَ الرّاوِي لَا تُوجِبُ رَدّ حَدِيثِهِ وَأَنّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَاهُ لَا بِمَا رَآهُ وَتَكَثّرِكُمْ مِنْ الْأَمْثِلَةِ الّتِي أَخَذَ النّاسُ فِيهَا بِالرّوَايَةِ دُونَ مُخَالَفَةِ رَاوِيهَا لَهَا كَمَا أَخَذُوا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ الْمُتَضَمّنَةِ لِبَقَاءِ النّكَاحِ مَعَ بَيْعِ الزّوْجَةِ وَتَرَكُوا رَأْيَهُ بِأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمّا رَدّكُمْ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَقَرْؤُهَا حَيْضَتَان بِعَطِيّةِ الْعَوْفِيّ فَهُوَ وَإِنْ ضَعّفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَقَدْ احْتَمَلَ النّاسُ حَدِيثَهُ وَخَرّجُوهُ فِي السّنَنِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ عَبّاسٍ الدّورِيّ عَنْهُ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيّ رَحِمَهُ اللّهُ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ [ ص 575 ] وَأَمّا رَدّكُمْ الْحَدِيثَ بِأَنّ ابْنَ عُمَرَ مَذْهَبُهُ أَنّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ فَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا رَوَاهُ لَا بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ رَدّكُمْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِمَذْهَبِهَا وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْأَحَادِيثِ بِمُخَالَفَةِ الرّوَاةِ لَهَا .

[ الْجَوَابُ عَنْ عِدّةِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةِ ]
وَأَمّا رَدّكُمْ لِحَدِيثِ الْمُخْتَلِعَةِ وَأَمْرِهَا أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةِ فَإِنّا لَا نَقُولُ بِهِ فَلِلنّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ أَحَدُهُمَا : أَنّ عِدّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ كَقَوْلِ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالثّانِي : أَنّ عِدّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَبِهِ يَقُولُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فِي الدّلِيلِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهِ لَا مُعَارِضَ لَهَا وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ حُكْمًا وَسَنُبَيّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ ذِكْرِ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِدّةِ الْمُخْتَلِعَةِ . قَالُوا : وَمُخَالَفَتُنَا لِحَدِيثِ اعْتِدَادِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةِ فِي بَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ جَوَازِ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةِ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَكُمْ فِي مُخَالَفَةِ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ أَنّ الْقُرُوءَ الْحِيَضُ فَنَحْنُ وَإِنْ خَالَفْنَاهُ فِي حُكْمٍ فَقَدْ وَافَقْنَاهُ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنّ الْقَرْءَ الْحَيْضُ وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا هَذَا مَعَ أَنّ مَنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ وَيَقُولُ الْمُخْتَلِعَةُ تَعْتَدّ بِحَيْضَةِ قَدْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ فَمَاذَا تَرُدّونَ بِهِ قَوْلَهُ ؟

[ الرّدّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدّةِ ]
وَأَمّا قَوْلُكُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدّةِ إنّ الْعِدّةَ وَجَبَتْ قَضَاءً لِحَقّ الزّوْجِ فَاخْتُصّتْ بِزَمَانِ حَقّهِ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ وَرَاءَهُ فَإِنّ حَقّهُ فِي جِنْسِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالطّهْرِ وَلَيْسَ حَقّهُ مُخْتَصّا بِزَمَنِ الطّهْرِ وَلَا الْعِدّةُ مُخْتَصّةٌ بِزَمَنِ الطّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ وَكِلَا الْوَقْتَيْنِ مَحْسُوبٌ مِنْ الْعِدّةِ وَعَدَمُ تَكَرّرِ [ ص 576 ] يَكُونَ طُهْرًا مُحْتَوِشًا بِدَمَيْنِ كَقَرْءِ الْمُطَلّقَةِ فَتَبَيّنَ أَنّ الْفَرْقَ غَيْرُ طَائِلٍ . قَوْلُكُمْ إنّ انْضِمَامَ قَرْأَيْنِ إلَى الطّهْرِ الّذِي جَامَعَ فِيهِ يَجْعَلُهُ عَلَمًا جَوَابُهُ أَنّ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنْ تَكُونَ الْعِدّةُ قَرْأَيْنِ حَسْبُ فَإِنّ ذَلِكَ الّذِي جَامَعَ فِيهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا الدّالّ الْقَرْآنِ بَعْدَهُ وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ النّصّ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْأَقْرَاءِ الْحِيَضَ فَإِنّ الْحَيْضَةَ وَحْدَهَا عَلَمٌ وَلِهَذَا اُكْتُفِيَ بِهَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ . قَوْلُكُمْ إنّ الْقَرْءَ هُوَ الْجَمْعُ وَالْحَيْضُ يَجْتَمِعُ فِي زَمَانِ الطّهْرِ فَقَدْ تَقَدّمَ جَوَابُهُ وَأَنّ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَلّ لَا فِي الْمَهْمُوزِ . قَوْلُكُمْ دُخُولُ التّاءِ فِي ثَلَاثَةٍ يَدُلّ عَلَى أَنّ وَاحِدَهَا مُذَكّرٌ وَهُوَ الطّهْرُ جَوَابُهُ أَنّ وَاحِدَ الْقُرُوءِ قَرْءٌ وَهُوَ مُذَكّرٌ فَأَتَى بِالتّاءِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مُسَمّاهُ حَيْضَةً وَهَذَا كَمَا يُقَالُ جَاءَنِي ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَهُنّ نِسَاءٌ بِاعْتِبَارِ اللّفْظِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ قَوْلُ مَنْ سَوّى بَيْنَ عِدّةِ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ ]
وَقَدْ احْتَجّ بِعُمُومِ آيَاتِ الْعِدَدِ الثّلَاثِ مَنْ يَرَى أَنّ عِدّةَ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ قَالَ أَبُو مُحَمّدِ ابْنُ حَزْمٍ : وَعِدّةُ الْأَمَةِ الْمُتَزَوّجَةِ مِنْ الطّلَاقِ وَالْوَفَاةِ كَعِدّةِ الْحُرّةِ سَوَاءً بِسَوَاءِ وَلَا فَرْقَ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى عَلّمَنَا الْعِدَدَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [ الْبَقَرَةَ 288 ] وَقَالَ { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ الْبَقَرَةَ 234 ] وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطّلَاقَ 4 ] وَقَدْ عَلِمَ اللّهُ تَعَالَى إذْ أَبَاحَ لَنَا زَوَاجَ الْإِمَاءِ أَنّهُ يَكُونُ [ ص 577 ] عَزّ وَجَلّ بَيْنَ حُرّةٍ وَلَا أَمَةٍ فِي ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّك نَسِيّا . وَثَبَتَ عَمّنْ سَلَفَ مِثْلُ قَوْلِنَا : قَالَ مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللّهُ . مَا أَرَى عِدّةَ الْأَمَةِ إلّا كَعِدّةِ الْحُرّةِ إلّا أَنْ يَكُونَ مَضَتْ فِي ذَلِكَ سُنّةٌ فَالسّنّةُ أَحَقّ أَنْ تُتّبَعَ . قَالَ وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنّ قَوْلَ مَكْحُولٍ : إنّ عِدّةَ الْأَمَةِ فِي كُلّ شَيْءٍ كَعِدّةِ الْحُرّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا هَذَا كَلَامُهُ .

[ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ عِدّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدّةِ الْحُرّةِ ]
وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُمّةِ فَقَالُوا : عِدّتُهَا نِصْفُ عِدّةِ الْحُرّةِ هَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَالْقَاسِم وَسَالِمٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَالزّهْرِيّ وَمَالِكٍ وَفُقَهَاءِ أَهْلِ مَكّةَ كَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ وَغَيْرِهِمَا وَفُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَقَتَادَةَ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَالثّوْرِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمْ اللّهُ . وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاق وَالشّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر ٍ رَحِمَهُمْ اللّهُ وَغَيْرِهِمْ وَسَلَفُهُمْ فِي ذَلِكَ الْخَلِيفَتَانِ الرّاشِدَانِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا صَحّ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَعِدّةُ الْحُرّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَمَا رَوَاهُ الزّهْرِيّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَعِدّةُ الْحُرّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ . وَرَوَى حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثّقَفِيّ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَ عِدّةَ الْأَمَةِ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْت فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا شَهْرًا وَنِصْفًا . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ جَعَلَ لَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَيْضَتَيْنِ يَعْنِي : الْأَمَةَ الْمُطَلّقَةَ . وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ [ ص 578 ] عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَيُطَلّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرَيْنِ أَوْ قَالَ فَشَهْرًا وَنِصْفًا . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا : عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ يَكُونُ عَلَيْهَا نِصْفُ الْعَذَابِ وَلَا يَكُونُ لَهَا نِصْفُ الرّخْصَةِ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ نَافِعًا وَابْنَ قُسَيْطٍ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ وَالتّابِعِينَ قَالُوا : عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ . قَالُوا : وَلَمْ يَزَلْ هَذَا عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالَ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ . قَالَ الْقَاسِمُ مَعَ أَنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَا نَعْلَمُهُ سُنّةً عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ قَدْ مَضَى أَمْرُ النّاسِ عَلَى هَذَا وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ فِيهِ لِرَسُولِ الْأَمِيرِ قُلْ لَهُ إنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . قَالُوا : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلّا قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ لَكَفَى بِهِ . وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا نِصْفَ الْعَذَابِ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا نِصْفَ الرّخْصَةِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الصّحَابَةِ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْمَعَانِي وَإِلْحَاقِ النّظِيرِ بِالنّظِيرِ . وَلَمّا كَانَ هَذَا الْأَثَرُ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الظّاهِرِيّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ طَعَنَ ابْنُ حَزْمٍ [ ص 579 ] وَقَالَ لَا يَصِحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ وَهَذَا بَعِيدٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُرْضِ النّاسِ فَكَيْفَ عَنْ مِثْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ؟ وَإِنّمَا جَرّأَهُ عَلَى الطّعْنِ فِيهِ أَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ عَنْهُ رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللّهِ وَلَكِنّ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللّهِ كَعَلْقَمَةَ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ إذَا قُلْتُ قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَقَدْ حَدّثَنِي بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْهُ وَإِذَا قُلْت : قَالَ فُلَانٌ عَنْهُ فَهُوَ عَمّنْ سَمّيْت أَوْ كَمَا قَالَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ اللّهِ أَئِمّةً ثِقَاتٍ لَمْ يُسَمّ قَطّ مُتّهَمًا وَلَا مَجْرُوحًا وَلَا مَجْهُولًا فَشُيُوخُهُ الّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَئِمّةٌ أَجِلّاءٌ نُبَلَاءُ وَكَانُوا كَمَا قِيلَ سُرُجُ الْكُوفَةِ وَكُلّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي الْحَدِيثِ إذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ قَالَ عَبْدُ اللّهِ لَمْ يَتَوَقّفْ فِي ثُبُوتِهِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِمّنْ فِي طَبَقَتِهِ لَوْ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ لَا يَحْصُلُ لَنَا الثّبْتُ بِقَوْلِهِ فَإِبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ نَظِيرُ ابْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ عُمَرَ وَنَظِيرُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنّ الْوَسَائِطَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ إذَا سَمّوْهُمْ وُجِدُوا مِنْ أَجَلّ النّاسِ وَأَوْثَقِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ وَلَا يُسَمّونَ سِوَاهُمْ الْبَتّةَ وَدَعْ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ يُخَالِفُ عُمَرَ وَزَيْدًا وَابْنَ عُمَرَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللّهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ وَيُخَالِفُ عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَى قَوْلِ صَاحِبٍ الْبَتّةَ وَلَا إلَى حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ بَلْ إلَى عُمُومٍ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمّةِ لَيْسَ هُوَ مِمّا تَخْفَى دَلَالَتُهُ وَلَا مَوْضِعُهُ حَتّى يَظْفَرَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ دُونَ سَائِرِ النّاسِ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ . وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ الْآثَارَ عَنْ التّابِعِينَ بِتَنْصِيفِ عِدّةِ الْأَمَةِ لَطَالَتْ جِدّا ثُمّ إذَا تَأَمّلْتَ سِيَاقَ الْآيَاتِ الّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِدَدِ وَجَدْتهَا لَا تَتَنَاوَلُ الْإِمَاءَ وَإِنّمَا تَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلّ لَهُنّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ إِنْ كُنّ يُؤْمِنّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] إلَى أَنْ قَالَ { وَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ الْبَقَرَةَ 229 ] [ ص 580 ] وَهَذَا فِي حَقّ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ فَإِنّ افْتِدَاءَ الْأَمَةِ إلَى سَيّدِهَا لَا إلَيْهَا . ثُمّ قَالَ { فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } [ الْبَقَرَةَ 230 ] فَجُعِلَ ذَلِكَ إلَيْهِمَا وَالتّرَاجُعُ الْمَذْكُورُ فِي حَقّ الْأَمَةِ وَهُوَ الْعَقْدُ إنّمَا هُوَ إلَى سَيّدِهَا لَا إلَيْهَا بِخِلَافِ الْحُرّةِ فَإِنّهُ إلَيْهَا بِإِذْنِ وَلِيّهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي عِدّةِ الْوَفَاةِ { وَاَلّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةَ 234 ] وَهَذَا إنّمَا هُوَ فِي حَقّ الْحُرّةِ وَأَمّا الْأَمَةُ فَلَا فِعْلَ لَهَا فِي نَفْسِهَا الْبَتّةَ فَهَذَا فِي الْعِدّةِ الْأَصْلِيّةِ . وَأَمّا عِدّةُ الْأَشْهُرِ فَفَرْعٌ وَبَدَلٌ . وَأَمّا عِدّةُ وَضْعِ الْحَمْلِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالتّابِعُونَ وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللّهِ فِي تَنْصِيفِ الْحَدّ عَلَيْهَا وَلَا يُعْرَفُ فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ وَفَهْمُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ اللّهِ أَوْلَى مِنْ فَهْمِ مَنْ شَذّ عَنْهُمْ مِنْ الْمُتَأَخّرِينَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَلَا تُعْرَفُ التّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْعِدّةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ إلّا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمَكْحُولٍ . فَأَمّا ابْنُ سِيرِينَ فَلَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَأْيِهِ وَعَلّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى عَدَمِ سُنّةٍ تُتّبَعُ . وَأَمّا قَوْلُ مَكْحُولٍ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا وَإِنّمَا حَكَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الظّاهِرِ وَلَا يَصِحّ فَلَمْ يَبْقَ مَعَكُمْ أَحَدٌ مِنْ السّلَفِ إلّا رَأْيَ ابْنِ سِيرِينَ وَحْدَهُ الْمُعَلّقَ عَلَى عَدَمِ سُنّةٍ مُتّبَعَةٍ وَلَا رَيْبَ أَنّ سُنّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مُتّبَعَةٌ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

[ عِدّةُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْبَالِغَةِ ]
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَدّعُونَ إجْمَاعَ الصّحَابَةِ وَجَمَاهِيرِ الْأُمّةِ وَقَدْ صَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ عِدّةَ الْأَمَةِ الّتِي لَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَصَحّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَرَبِيعَةَ وَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ [ ص 581 ] وَالزّهْرِيّ وَبَكْرِ بْنِ الْأَشَجّ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنّ الْأَشْهُرَ فِي حَقّ الْآيِسَةِ وَالصّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنْ الْأَقْرَاءِ الثّلَاثِ فَدَلّ عَلَى أَنّ بَدَلَهَا فِي حَقّهَا ثَلَاثَةٌ . فَالْجَوَابُ أَنّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ الْقَائِلُونَ إنّ عِدّتَهَا حَيْضَتَانِ وَقَدْ أَفْتَوْا بِهَذَا وَهَذَا وَلَهُمْ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ لِلشّافِعِيّ وَهِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ . فَأَكْثَرُ الرّوَايَاتِ عَنْهُ أَنّهَا شَهْرَانِ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ذَكَرَهَا الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ . وَحُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ عِدّتَهَا بِالْأَقْرَاءِ حَيْضَتَانِ فَجُعِلَ كُلّ شَهْرٍ مَكَانَ حَيْضَةٍ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : إنّ عِدّتَهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيّ وَهَذَا قَوْلُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَر وَابْنِ الْمُسَيّبِ وَأَبِي حَنِيفَة وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ . وَحُجّتُهُ أَنّ التّنْصِيفَ فِي الْأَشْهُرِ مُمْكِنٌ فَتَنَصّفَتْ بِخِلَافِ الْقُرُوءِ . وَنَظِيرُ هَذَا : أَنّ الْمُحْرِمَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي جَزَاءِ الصّيْدِ نِصْفُ مُدّ أَخْرَجَهُ فَإِنْ أَرَادَ الصّيَامَ مَكَانَهُ لَمْ يُجْزِهِ إلّا صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ أَنّ عِدّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَوَامِلُ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشّافِعِيّ وَهُوَ فِيمَنْ ذَكَرْتُمُوهُ . وَالْفَرْقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِالْأَقْرَاءِ وَبَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِالشّهُورِ أَنّ الِاعْتِبَارَ بِالشّهُورِ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَقّ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا لِأَنّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ ثُمّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ وَهُوَ الطّوْرُ الثّالِثُ الّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ الْحَمْلُ وَهُوَ بِالنّسْبَةِ إلَى الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْأَقْرَاءِ فَإِنّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ عَلَمٌ ظَاهِرٌ عَلَى [ ص 582 ] أَخَذَتْ شَبَهًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَصَارَتْ أَشْرَفَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ فَجُعِلَتْ عِدّتُهَا بَيْنَ الْعِدّتَيْنِ . قَالَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَمَنْ رَدّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصّحَابَةِ لِأَنّهُمْ اخْتَلَفُوا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوّلَيْنِ وَمَتَى اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنّهُ يُفْضِي إلَى تَخْطِئَتِهِمْ وَخُرُوجِ الْحَقّ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ . قُلْت : وَلَيْسَ فِي هَذَا إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ بَلْ هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ ذَكَرَهَا ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ بِهِ مِنْ التّابِعِينَ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ وَغَيْرُهُمْ .

فَصْلٌ[ عِدّةُ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ ]
[ حَدّ الْإِيَاسِ ]
[ الرّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَدّ الْإِيَاسِ ]
وَأَمّا عِدّةُ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ فَقَدْ بَيّنَهَا سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطّلَاقَ 4 ] وَقَدْ اضْطَرَبَ النّاسُ فِي حَدّ الْإِيَاسِ اضْطِرَابًا شَدِيدًا فَمِنْهُمْ مَنْ حَدّهُ بِخَمْسِينَ سَنَةً وَقَالَ لَا تَحِيضُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَهَذَا قَوْلُ إسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدّ الْحُيّضِ
وَحَدّهُ طَائِفَةٌ بِسِتّينَ سَنَةً وَقَالُوا : لَا تَحِيضُ بَعْدَ السّتّينَ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ الْفَرْقُ بَيْنَ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فَحَدّهُ سِتّونَ فِي نِسَاءِ الْعَرَبِ وَخَمْسُونَ فِي نِسَاءِ الْعَجَمِ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسّتّينَ دَمٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ تَصُومُ وَتُصَلّي وَتَقْضِي الصّوْمَ الْمَفْرُوضَ وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيّ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ خَامِسَةٌ أَنّ الدّمَ إنْ عَاوَدَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَتَكَرّرَ فَهُوَ حَيْضٌ وَإِلّا فَلَا .

[مَذْهَبُ الشّافِعِيّ فِي حَدّ الْإِيَاسِ ]
وَأَمّا الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فَلَا نَصّ لَهُ فِي تَقْدِيرِ الْإِيَاسِ بِمُدّةِ وَلَهُ قَوْلَانِ بَعْدُ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يُعْرَفُ بِيَأْسِ أَقَارِبِهَا . وَالثّانِي : أَنّهُ يُعْتَبَرُ بِيَأْسِ جَمِيعِ النّسَاءِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ هَلْ الْمُعْتَبَرُ جَمِيعُ أَقَارِبِهَا أَوْ نِسَاءُ عَصَبَاتِهَا أَوْ نِسَاءُ بَلَدِهَا خَاصّةً ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ثُمّ إذَا قِيلَ يُعْتَبَرُ بِالْأَقَارِبِ فَاخْتَلَفَتْ عَادَتُهُنّ فَهَلْ يُعْتَبَرُ بِأَقَلّ عَادَةٍ مِنْهُنّ أَوْ بِأَكْثَرِهِنّ عَادَةً أَوْ بِأَقْصَرِ امْرَأَةٍ فِي الْعَالَمِ عَادَةً ؟ عَلَى - 583 - ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَالْقَوْلُ الثّانِي لِلشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَنّ الْمُعْتَبَرَ جَمِيعُ النّسَاءِ . ثُمّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ لِذَلِكَ حَدّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ حَدّ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصّهِ .
وَالثّانِي : لَهُ حَدّ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ سِتّونَ سَنَةً قَالَهُ أَبُو الْعَبّاسِ بْنُ الْقَاصّ وَالشّيْخُ أَبُو حَامِدٍ .
وَالثّانِي : اثْنَانِ وَسِتّونَ سَنَةً قَالَهُ الشّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ فِي " الْمُهَذّبِ " وَابْنُ الصّبّاغِ فِي " الشّامِلِ " . وَأَمّا أَصْحَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ فَلَمْ يَحُدّوا سِنّ الْإِيَاسِ بِحَدّ الْبَتّةَ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ : الْيَأْسُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النّسَاءِ وَلَيْسَ لَهُ حَدّ يَتّفِقُ فِيهِ النّسَاءُ . وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنّ يَأْسَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ نَفْسِهَا لِأَنّ الْيَأْسَ ضِدّ الرّجَاءِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَرْجُهُ فَهِيَ آيِسَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَرْبَعُونَ أَوْ نَحْوُهَا وَغَيْرُهَا لَا تَيْأَسُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَمْسُونَ . وَقَدْ ذَكَرَ الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ : أَنّ بَعْضَهُمْ قَالَ لَا تَلِدُ لِخَمْسِينَ سَنَةً إلّا عَرَبِيّةٌ وَلَا تَلِدُ لِسِتّينَ سَنَةً إلّا قُرَشِيّةٌ . وَقَالَ إنّ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ وَلَدَتْ مُوسَى بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَلَهَا سِتّونَ سَنَةً .

وَقَدْ صَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ طُلّقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمّ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ أَنّهَا تَتَرَبّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ وَإِلّا اعْتَدّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَقَدْ وَافَقَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى هَذَا مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ فِي الْقَدِيمِ . قَالُوا : تَتَرَبّصُ غَالِبَ مُدّةِ الْحَمْلِ ثُمّ تَعْتَدّ عِدّةَ الْآيِسَةِ ثُمّ تَحِلّ لِلْأَزْوَاجِ وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ آيِسَةً عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَأَنّ الْيَأْسَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ وَقْتًا مَحْدُودًا لِلنّسَاءِ بَلْ مِثْلُ هَذِهِ تَكُونُ آيِسَةً وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ ثَلَاثِينَ وَغَيْرُهَا لَا تَكُونُ آيِسَةً وَإِنْ بَلَغَتْ خَمْسِينَ . وَإِذَا كَانُوا فِيمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ جَعَلُوهَا آيِسَةً بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَاَلّتِي تَدْرِي مَا رَفَعَهُ إمّا بِدَوَاءِ يُعْلَمُ أَنّهُ لَا يَعُودُ مَعَهُ وَإِمّا بِعَادَةِ مُسْتَقِرّةٍ لَهَا مَنْ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ آيِسَةً . وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْخَمْسِينَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَفَعَ لِمَرَضِ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ حَمْلٍ فَإِنّ هَذِهِ لَيْسَتْ آيِسَةً فَإِنّ ذَلِكَ يَزُولُ . [ ص 584 ] فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثَةٌ . أَحَدُهَا : أَنْ تَرْتَفِعَ لِيَأْسِ مَعْلُومٍ مُتَيَقّنٍ بِأَنْ تَنْقَطِعَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ وَيَتَكَرّرَ انْقِطَاعُهُ أَعْوَامًا مُتَتَابِعَةً ثُمّ يُطْلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذِهِ تَتَرَبّصُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِنَصّ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَ أَرْبَعِينَ أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَرَ وَهِيَ أَوْلَى بِالتّرَبّصِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الّتِي حَكَمَ فِيهَا الصّحَابَةُ وَالْجُمْهُورُ بِتَرَبّصِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ ثَلَاثَةً فَإِنّ تِلْكَ كَانَتْ تَحِيضُ وَطُلّقَتْ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِذَا حُكِمَ فِيهَا بِحُكْمِ الْآيِسَاتِ بَعْدَ انْقِضَاءِ غَالِبِ مُدّةِ الْحَمْلِ فَكَيْفَ بِهَذِهِ ؟ وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " : إذَا كَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ الْيَأْسَ مَعَ الرّيبَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } [ الطّلَاقَ 4 ] ثُمّ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَفْظٌ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنّهُ قَالَ أَيّمَا امْرَأَةٍ طُلّقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمّ ارْتَفَعَتْ حَيْضَتُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهَا فَإِنّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ تَعْتَدّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَلَمّا كَانَتْ لَا تَدْرِي مَا الّذِي رَفَعَ الْحَيْضَةَ كَانَ مَوْضِعَ الِارْتِيَابِ فَحُكِمَ فِيهَا بِهَذَا الْحُكْمِ وَكَانَ اتّبَاعُ ذَلِكَ أَلْزَمَ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنّ الرّجُلَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَيَرْتَفِعُ حَيْضُهَا وَهِيَ شَابّةٌ أَنّهَا تَبْقَى ثَلَاثِينَ سَنَةً مُعْتَدّةً وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَخَالَفَ مَا كَانَ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الّذِي مَضَوْا لِأَنّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِالْأَبِ مَا دَامَتْ الْمَرْأَةُ فِي عِدّتِهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ إنّ الرّجُلَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا أَحْكَامُ الزّوْجَاتِ مَا دَامَتْ فِي عِدّتِهَا مِنْ الْمُوَارَثَةِ وَغَيْرِهَا ؟ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدِ لَمْ يَلْحَقْهُ وَظَاهِرُ عِدّةِ الطّلَاقِ أَنّهَا جُعِلَتْ مِنْ الدّخُولِ الّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُعْتَدّةً وَالْوَلَدُ لَا يَلْزَمُ ؟ قُلْت : هَذَا إلْزَامٌ مِنْهُ لِأَبِي حَنِيفَة َ فَإِنّ عِنْدَهُ أَقْصَرُ مُدّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ [ ص 585 ] عِدّتِهَا لَا تَزَالُ فِي عِدّةٍ حَتّى تَبْلُغَ سِنّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدّ بِهِ وَهُوَ يَلْزَمُ الشّافِعِيّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ سَوَاءً إلّا أَنّ مُدّةَ الْحَمْلِ عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ . فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَهَا لَمْ يَلْحَقْهُ وَهِيَ فِي عِدّتِهَا مِنْهُ .

قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيل ُ وَالْيَأْسُ يَكُونُ بَعْضُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْقُنُوطُ وَكَذَلِكَ الرّجَاءُ وَكَذَلِكَ الظّنّ وَمِثْلُ هَذَا يَتّسِعُ الْكَلَامُ فِيهِ فَإِذَا قِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ أُنْزِلَ عَلَى قَدْرِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْمَعْنَى فِيهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ قَدْ يَئِسْتُ مِنْ مَرِيضِي إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عِنْدَهُ أَنّهُ لَا يَبْرَأُ وَيَئِسْت مِنْ غَائِبِي إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عِنْدَهُ أَنّهُ لَا يَقْدَمُ وَلَوْ قَالَ إذَا مَاتَ غَائِبُهُ أَوْ مَاتَ مَرِيضُهُ قَدْ يَئِسْتُ مِنْهُ لَكَانَ الْكَلَامُ عِنْدَ النّاسِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ إلّا أَنْ يَتَبَيّنَ مَعْنَى مَا قَصَدَ لَهُ فِي كَلَامِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كُنْتُ وَجِلًا فِي مَرَضِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ فَلَمّا مَاتَ وَقَعَ الْيَأْسُ فَيَنْصَرِفُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ إلّا أَنّ أَكْثَرَ مَا يُلْفَظُ بِالْيَأْسِ إنّمَا يَكُونُ فِيمَا هُوَ الْأَغْلَبُ عِنْدَ الْيَأْسِ أَنّهُ لَا يَكُونُ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْيَائِسِ وَالطّامِعِ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنّ ذَلِكَ الشّيْءَ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاءِ اللّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النّورَ 60 ] وَالرّجَاءُ ضِدّ الْيَأْسِ وَالْقَاعِدَةُ مِنْ النّسَاءِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُزَوّجَ غَيْرَ أَنّ الْأَغْلَبَ عِنْدَ النّاسِ فِيهَا أَنّ الْأَزْوَاجَ لَا يَرْغَبُونَ فِيهَا . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } [ الشّورَى : 28 ] وَالْقُنُوطُ شِبْهُ الْيَأْسِ وَلَيْسَ يَعْلَمُونَ يَقِينًا أَنّ الْمَطَرَ لَا يَكُونُ وَلَكِنّ الْيَأْسَ دَخَلَهُمْ حِينَ تَطَاوَلَ إبْطَاؤُهُ . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { حَتّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } [ يُوسُفَ 110 ] فَلَمّا ذَكَرَ أَنّ الرّسُلَ هُمْ الّذِينَ اسْتَيْأَسُوا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ يَأْسٌ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ اسْتَيْقَنُوهُ لِأَنّ الْيَقِينَ فِي ذَلِكَ إنّمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ كَمَا قَالَ فِي قِصّةِ نُوحٍ { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ هُودًا : 36 ] وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ { فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّا } [ يُوسُفَ 80 ] فَدَلّ الظّاهِرُ عَلَى أَنّ يَأْسَهُمْ لَيْسَ بِيَقِينِ وَقَدْ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدّثَنَا مَالِكٌ [ ص 586 ] هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ تَعْلَمُنّ أَيّهَا النّاسُ أَنّ الطّمَعَ فَقْرٌ وَأَنّ الْيَأْسَ غِنَى وَأَنّ الْمَرْءَ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَجَعَلَ عُمَرُ الْيَأْسَ بِإِزَاءِ الطّمَعِ وَسَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدّلِ يُنْشِدُ شِعْرًا لِرَجُلِ مِنْ الْقُدَمَاءِ يَصِفُ نَاقَةً
صَفْرَاءُ مِنْ تَلْدِ بَنِي الْعَبّاس
صَيّرْتُهَا كَالظّبْيِ فِي الْكِنَاس
تَدِرّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْإِبْسَاس
فَالنّفْسُ بَيْنَ طَمَعٍ وَيَاس
فَجَعَلَ الطّمَعَ بِإِزَاءِ الْيَأْسِ . وَحَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَلّامِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ سَمِعَ حَبّةَ بْنَ خَالِدٍ وَسَوَاءَ بْنَ خَالِدٍ أَنّهُمَا أَتَيَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَا : عَلّمْنَا شَيْئًا ثُمّ قَالَ " لَا تَيْأَسَا مِنْ الْخَيْرِ مَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا فَإِنّ كُلّ عَبْدٍ يُولَدُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ ثُمّ يَرْزُقُهُ اللّهُ وَيُعْطِيهِ وَحَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ يَا أَبَا حَازِمٍ مَا مَالُك . قَالَ خَيْرُ مَالٍ ثِقَتِي بِاَللّهِ وَيَأْسِي مِمّا فِي أَيْدِي النّاسِ . قَالَ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى انْتَهَى .

قَالَ شَيْخُنَا : وَلَيْسَ لِلنّسَاءِ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ مُسْتَمِرّةٌ بَلْ فِيهِنّ مَنْ لَا تَحِيضُ وَإِنْ بَلَغَتْ وَفِيهِنّ مَنْ تَحِيضُ حَيْضًا يَسِيرًا يَتَبَاعَدُ مَا بَيْنَ أَقْرَائِهَا حَتّى تَحِيضَ فِي السّنَةِ مَرّةً وَلِهَذَا اتّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنّ أَكْثَرَ الطّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ لَا حَدّ لَهُ وَغَالِبُ النّسَاءِ يَحِضْنَ كُلّ شَهْرٍ مَرّةً وَيَحِضْنَ رُبُعَ الشّهْرِ وَيَكُونُ طُهْرُهُنّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ . وَمِنْهُنّ مَنْ تَطْهُرُ الشّهُورَ الْمُتَعَدّدَةَ لِقِلّةِ رُطُوبَتِهَا وَمِنْهُنّ مَنْ يُسْرِعُ إلَيْهَا الْجَفَافُ [ ص 587 ] كَانَ لَهَا دُونَ الْخَمْسِينَ بَلْ وَالْأَرْبَعِينَ . وَمِنْهُنّ مَنْ لَا يُسْرِعُ إلَيْهَا الْجَفَافُ فَتُجَاوِزُ الْخَمْسِينَ وَهِيَ تَحِيضُ . قَالَ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا السّنّةِ تَحْدِيدُ الْيَأْسِ بِوَقْتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيِسَةِ مِنْ الْمَحِيضِ مَنْ لَهَا خَمْسُونَ سَنَةً أَوْ سِتّونَ سَنَةً أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَقِيلَ وَاَللّائِي يَبْلُغْنَ مِنْ السّنّ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ يَئِسْنَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُمْ جَعَلُوا مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَائِسَةً كَمَا تَقَدّمَ . وَالْوُجُودُ مُخْتَلِفٌ فِي وَقْتِ يَأْسِهِنّ غَيْرُ مُتّفِقٍ وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ وَاَللّائِي يَئِسْنَ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءً فِي مَعْرِفَةِ يَأْسِهِنّ وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ خَصّ النّسَاءَ بِأَنّهُنّ اللّائِي يَئِسْنَ كَمَا خَصّهُنّ بِقَوْلِهِ وَاَللّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَاَلّتِي تَحِيضُ هِيَ الّتِي تَيْأَسُ وَهَذَا بِخِلَافِ الِارْتِيَابِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ إنْ ارْتَبْتُم وَلَمْ يَقُلْ إنْ ارْتَبْنَ أَيْ إنْ ارْتَبْتُمْ فِي حُكْمِهِنّ وَشَكَكْتُمْ فِيهِ فَهُوَ هَذَا لَا هَذَا الّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ التّفْسِيرِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِه ِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَمُوسَى بْنِ أَعْيَنَ وَاللّفْظُ لَهُ عَنْ مُطَرّفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ نَاسًا بِالْمَدِينَةِ يَقُولُونَ فِي عِدَدِ النّسَاءِ مَا لَمْ يَذْكُرْ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ الصّغَارَ وَالْكِبَارَ وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ فَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السّورَةِ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطّلَاقَ 4 ] فَأَجَلُ إحْدَاهُنّ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَقَدْ قَضَتْ عِدّتَهَا . وَلَفْظُ جَرِيرٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الّتِي فِي الْبَقَرَةِ فِي عِدّةِ النّسَاءِ قَالُوا : لَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَدِ النّسَاءِ عِدَدٌ لَمْ يُذْكَرْنَ فِي الْقُرْآنِ الصّغَارُ وَالْكِبَارُ الّتِي قَدْ انْقَطَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ وَذَوَاتُ الْحَمْلِ قَالَ فَأُنْزِلَتْ الّتِي فِي النّسَاءِ الْقُصْرَى { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ } [ الطّلَاقَ 4 ] - 588 - ثُمّ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } يَعْنِي الْآيِسَةَ الْعَجُوزَ الّتِي لَا تَحِيضُ أَوْ الْمَرْأَةَ الّتِي قَعَدَتْ عَنْ الْحَيْضَةِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ الْقُرُوءِ فِي شَيْءٍ . وَفِي قَوْلِهِ إنْ ارْتَبْتُم فِي الْآيَةِ يَعْنِي إنْ شَكَكْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ : إنْ ارْتَبْتُمْ لَمْ تَعْلَمُوا عِدّةَ الّتِي قَعَدَتْ عَنْ الْحَيْضِ أَوْ الّتِي لَمْ تَحِضْ { فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } يَعْنِي : إنْ سَأَلْتُمْ عَنْ حُكْمِهِنّ وَلَمْ تَعْلَمُوا حُكْمَهُنّ وَشَكَكْتُمْ فِيهِ فَقَدْ بَيّنّاهُ لَكُمْ فَهُوَ بَيَانٌ لِنِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ طَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيَزُولَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الشّكّ وَالرّيْبِ بِخِلَافِ الْمُعْرِضِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ . وَأَيْضًا فَإِنّ النّسَاءَ لَا يَسْتَوِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ بَلْ مِنْهُنّ مَنْ تَحِيضُ لِعَشْرِ أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِينَ فِي آخِرِ سِنّ الْحَيْضِ الّذِي هُوَ سِنّ الْيَأْسِ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنّهُمْ تَنَازَعُوا فِيمَنْ بَلَغَتْ وَلَمْ تَحِضْ هَلْ تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ بِالْحَوْلِ كَاَلّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . قُلْت : وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنّهَا تَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلصّغَرِ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِدَادِ بِهَا حَدّا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونُ لِلْكِبَرِ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِدَادِ بِالشّهُورِ حَدّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلِلّهِ الْحَمْدُ .

فَصْلٌ وَأَمّا عِدّةُ الْوَفَاةِ فَتَجِبُ بِالْمَوْتِ
سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ اتّفَاقًا كَمَا دَلّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ وَاتّفَقُوا عَلَى أَنّهُمَا يَتَوَارَثَانِ قَبْلَ الدّخُولِ وَعَلَى أَنّ الصّدَاقَ يَسْتَقِرّ إذَا كَانَ مُسَمّى لِأَنّ الْمَوْتَ لَمّا كَانَ انْتِهَاءَ الْعَقْدِ اسْتَقَرّتْ بِهِ الْأَحْكَامُ فَتَوَارَثَا وَاسْتَقَرّ الْمَهْرُ وَوَجَبَتْ الْعِدّةُ .

وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمّى فَأَوْجَبَهُ أَحْمَدُ َ أَبُو حَنِيفَة وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَلَمْ يُوجِبْهُ مالِك وَالشّافِعِيّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَقَضَى بِوُجُوبِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا جَاءَ فِي السّنّةِ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ مِنْ حَدِيثِ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ تَقَدّمَ . وَلَوْ لَمْ تَرِدْ بِهِ السّنّةُ لَكَانَ هُوَ مَحْضَ الْقِيَاسِ لِأَنّ الْمَوْتَ أُجْرِيَ مَجْرَى الدّخُولِ فِي تَقْرِيرِ الْمُسَمّى وَوُجُوبِ الْعِدّةِ . [ ص 589 ]

[هَلْ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرّبِيبَةِ بِمَوْتِ الْأُمّ ]
وَالْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ هَلْ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرّبِيبَةِ بِمَوْتِ الْأُمّ كَمَا يَثْبُتُ بِالدّخُولِ بِهَا ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلصّحَابَةِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الْعِدّةَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ فَإِنّهَا تَجِبُ قَبْلَ الدّخُولِ بِخِلَافِ عِدّةِ الطّلَاقِ .

[الِاخْتِلَافُ فِي حِكْمَةِ عِدّةِ الْوَفَاةِ مَنْ قَالَ هِيَ لِبَرَاءَةِ الرّحِمِ]
وَقَدْ اضْطَرَبَ النّاسُ فِي حِكْمَةِ عِدّةِ الْوَفَاةِ وَغَيْرِهَا فَقِيلَ هِيَ لِبَرَاءَةِ الرّحِمِ وَأُورِدَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ . مِنْهَا : وُجُوبُهَا قَبْلَ الدّخُولِ فِي الْوَفَاةِ وَمِنْهَا : أَنّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ وَبَرَاءَةُ الرّحِمِ يَكْفِي فِيهَا حَيْضَةٌ كَمَا فِي الْمُسْتَبْرَأَةِ وَمِنْهَا : وُجُوبُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَقّ مَنْ يُقْطَعُ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا .
[مَنْ قَالَ هُوَ تَعَبّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ ]
وَمِنْ النّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ تَعَبّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ فِي الشّرِيعَةِ حُكْمٌ إلّا وَلَهُ حِكْمَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْهَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ . الثّانِي : أَنّ الْعِدَدَ لَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ بَلْ فِيهَا مِنْ الْمَصَالِحِ رِعَايَةُ حَقّ الزّوْجَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالنّاكِحِ .

[حِكْمَةُ عِدّةِ الْوَفَاةِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيّةَ ]
قَالَ شَيْخُنَا : وَالصّوَابُ أَنْ يُقَالَ أَمّا عِدّةُ الْوَفَاةِ فَهِيَ حَرَمٌ لِانْقِضَاءِ النّكَاحِ وَرِعَايَةً لِحَقّ الزّوْجِ وَلِهَذَا تُحِدّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا فِي عِدّةِ الْوَفَاةِ رِعَايَةً لِحَقّ الزّوْجِ فَجُعِلَتْ الْعِدّةُ حَرِيمًا لِحَقّ هَذَا الْعَقْدِ الّذِي لَهُ خَطَرٌ وَشَأْنٌ فَيَحْصُلُ بِهَذِهِ فَصْلٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَوّلِ وَنِكَاحِ الثّانِي وَلَا يَتّصِلُ النّاكِحَانِ أَلَا تَرَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا [ ص 590 ] نِسَاؤُهُ بَعْدَهُ وَبِهَذَا اُخْتُصّ الرّسُولُ لِأَنّ أَزْوَاجَهُ فِي الدّنْيَا هُنّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنّهُ لَوْ حَرُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا تَضَرّرَتْ الْمُتَوَفّى عَنْهَا وَرُبّمَا كَانَ الثّانِي خَيْرًا لَهَا مِنْ الْأَوّلِ . وَلَكِنْ لَوْ تَأَيّمَتْ عَلَى أَوْلَادِ الْأَوّلِ لَكَانَتْ مَحْمُودَةً عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبّا لَهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ بِالْوُسْطَى وَالسّبّابَةِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ وَحَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَى لَهَا حَتّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا . وَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيمِهَا قَائِمًا فَلَا أَقَلّ مِنْ مُدّةٍ تَتَرَبّصُهَا وَقَدْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ تَتَرَبّصُ سَنَةً فَخَفّفَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّب ِ مَا بَالُ الْعَشْرِ ؟ قَالَ فِيهَا يُنْفَخُ الرّوحُ فَيَحْصُلُ بِهَذِهِ الْمُدّةِ بَرَاءَةُ الرّحِمِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَضَاءُ حَقّ الزّوْجِ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ .

فَصْلٌ [حِكْمَةُ عِدّةِ الطّلَاقِ ]
وَأَمّا عِدّةُ الطّلَاقِ فَهِيَ الّتِي أَشْكَلَتْ فَإِنّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِذَلِكَ لِأَنّهَا إنّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَلِأَنّ الطّلَاقَ قَطْعٌ لِلنّكَاحِ وَلِهَذَا يَتَنَصّفُ فِيهِ الْمُسَمّى وَيَسْقُطُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ . فَيُقَالُ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ - عِدّةُ الطّلَاقِ وَجَبَتْ لِيَتَمَكّنَ الزّوْجُ فِيهَا مِنْ الرّجْعَةِ فَفِيهَا حَقّ لِلزّوْجِ وَحَقّ لِلّهِ وَحَقّ لِلْوَلَدِ وَحَقّ لِلنّاكِحِ الثّانِي . فَحَقّ الزّوْجِ لِيَتَمَكّنَ مِنْ الرّجْعَةِ فِي الْعِدّةِ وَحَقّ اللّهِ لِوُجُوبِ مُلَازَمَتِهَا الْمَنْزِلَ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحَقّ الْوَلَدِ لِئَلّا يَضِيعَ نَسَبُهُ وَلَا يُدْرَى لِأَيّ الْوَاطِئِينَ . وَحَقّ الْمَرْأَةِ لِمَا لَهَا مِنْ النّفَقَةِ زَمَنَ الْعِدّةِ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً تَرِثُ وَتُورَثُ وَيَدُلّ عَلَى أَنّ الْعِدّةَ حَقّ لِلزّوْجِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا } [ ص 591 ] { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْعِدّةَ لِلرّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] فَجُعِلَ الزّوْجُ أَحَقّ بِرَدّهَا فِي الْعِدّةِ وَهَذَا حَقّ لَهُ . فَإِذَا كَانَتْ الْعِدّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ طَالَتْ مُدّةُ التّرَبّصِ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ هَلْ يُمْسِكُهَا أَوْ يُسَرّحُهَا كَمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْلِي تَرَبّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ هَلْ يُمْسِكُ وَيَفِيءُ أَوْ يُطَلّقُ وَكَانَ تَخْيِيرُ الْمُطَلّقِ كَتَخْيِيرِ الْمُؤْلِي لَكِنّ الْمُؤْلِيَ جَعَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا جَعَلَ مُدّةَ التّسْيِيرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ .

[مَعْنَى بُلُوغِ الْأَجَلِ فِي الْعِدّةِ ]
[هَلْ الِاغْتِسَالُ مِنْ الْحَيْضِ وَمِنْ تَمَامِ الْعِدّةِ شَرْطٌ فِي عَقْدِ النّكَاحِ وَفِي الْوَطْءِ]
وَمِمّا يُبَيّنُ ذَلِكَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَإٍذَا طَلّقْتُمْ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلَا تَعْضُلُوهُنّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةَ 231 ] وَبُلُوغُ الْأَجَلِ هُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إلَيْهِ وَبُلُوغُ الْأَجَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُجَاوَزَتُهُ وَفِي قَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفِ } مُقَارَبَتُهُ وَمُشَارَفَتُهُ ثُمّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ حَدّ مِنْ الزّمَانِ وَهُوَ الطّعْنُ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ أَوْ انْقِطَاعُ الدّمِ مِنْهَا أَوْ مِنْ الرّابِعَةِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهَا وَقِيلَ بَلْ هُوَ فِعْلُهَا وَهُوَ الِاغْتِسَالُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الصّحَابَةِ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ بِالِاغْتِسَالِ يَحِلّ لِلزّوْجِ وَطْؤُهَا وَيَحِلّ لَهَا أَنْ تُمَكّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَالِاغْتِسَالُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي النّكَاحِ الّذِي هُوَ الْعَقْدُ وَفِي النّكَاحِ الّذِي هُوَ الْوَطْءُ . وَلِلنّاسِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ شَرْطًا لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الظّاهِرِ . وَالثّانِي : أَنّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الصّحَابَةِ كَمَا تَقَدّمَ حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ . وَالثّالِثُ أَنّهُ شَرْطٌ فِي نِكَاحِ الْوَطْءِ لَا فِي نِكَاحِ الْعَقْدِ كَمَا قَالَهُ مَالِك ٌ وَالشّافِعِيّ . وَالرّابِعُ أَنّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْحُكْمُ بِالطّهْرِ بِمُضِيّ وَقْتِ صَلَاةٍ وَانْقِطَاعِهِ لِأَكْثَرِهِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَة َ فَإِذَا ارْتَجَعَهَا قَبْلَ غُسْلِهَا كَانَ غُسْلُهَا لِأَجْلِ وَطْئِهِ لَهَا وَإِلّا كَانَ لِأَجْلِ حِلّهَا لِغَيْرِهِ وَبِالِاغْتِسَالِ [ ص 592 ]

[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُوءِ الثّلَاثَةِ يُخَيّرُ الزّوْجُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ أَوْ التّسْرِيحِ ]
يَتَحَقّقُ كَمَالُ الْحَيْضِ وَتَمَامُهُ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } [ الْبَقَرَةَ 222 ] وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَإِذَا مَضَتْ الثّلَاثَةُ فَقَدْ بَلَغَتْ أَجَلَهَا وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَقُلْ إنّهَا عَقِيبَ الْقَرْأَيْنِ تَبِينُ مِنْ الزّوْجِ خُيّرَ الزّوْجُ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالتّسْرِيحِ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ كَمَا فَهِمَهُ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُوءِ الثّلَاثَةِ يُخَيّرُ الزّوْجُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ بُلُوغُ الْأَجَلِ فِي الْقُرْآنِ وَاحِدًا لَا يَكُونُ قِسْمَيْنِ بَلْ يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُدّةِ وَاسْتِكْمَالِهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ أَهْلِ النّارِ { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الّذِي أَجّلْتَ لَنَا } [ الْأَنْعَامَ 128 ] وَقَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةَ 234 ] . وَإِنّمَا حَمَلَ مَنْ قَالَ إنّ بُلُوغَ الْأَجَلِ هُوَ مُقَارَنَتُهُ أَنّهَا بَعْدَ أَنْ تَحِلّ لِلْخُطّابِ لَا يَبْقَى الزّوْجُ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنّمَا يَكُونُ أَحَقّ بِهَا مَا لَمْ تَحِلّ لِغَيْرِهِ فَإِذَا حَلّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوّجَ بِهَا صَارَ هُوَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطّابِ . وَمَنْشَأُ هَذَا ظَنّ أَنّهَا بِبُلُوغِ الْأَجَلِ تَحِلّ لِغَيْرِهِ وَالْقُرْآنُ لَمْ يَدُلّ عَلَى هَذَا بَلْ الْقُرْآنُ جَعَلَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَرَبّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَذَكَرَ أَنّهَا إذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا فَإِمّا أَنْ تُمْسَكَ بِمَعْرُوفِ وَإِمّا أَنْ تُسَرّحَ بِإِحْسَانٍ . وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْإِمْسَاكَ أَوْ التّسْرِيحَ عَقِيبَ الطّلَاقِ فَقَالَ { الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ الْبَقَرَةَ 229 ] ثُمّ قَالَ { وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلَا تَعْضُلُوهُنّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ } [ الْبَقَرَةَ 232 ] وَهَذَا هُوَ تَزَوّجُهَا بِزَوْجِهَا الْأَوّلِ الْمُطَلّقِ الّذِي كَانَ أَحَقّ بِهَا فَالنّهْيُ عَنْ عَضْلِهِنّ مُؤَكّدٌ لِحَقّ الزّوْجِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنّهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ تَحِلّ لِلْخُطّابِ بَلْ فِيهِ أَنّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ إمّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرّحَ بِإِحْسَانِ فَإِنْ سَرّحَ بِإِحْسَانِ حَلّتْ حِينَئِذٍ لِلْخُطّابِ وَعَلَى هَذَا فَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ بَيّنَةٌ أَنّهَا إذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا وَهُوَ انْقِضَاءُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِانْقِطَاعِ الدّمِ فَإِمّا أَنْ يُمْسِكَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ فَتَغْتَسِلَ عِنْدَهُ وَإِمّا أَنْ يُسَرّحَهَا فَتَغْتَسِلَ وَتَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ وَبِهَذَا يُعْرَفُ قَدْرُ فَهْمِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَأَنّ مَنْ بَعْدَهُمْ إنّمَا يَكُونُ [ ص 593 ] فَهِمُوهُ وَيَعْرِفَ مَا قَالُوهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمُدّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ فَلِمَ قَيّدَ التّخْيِيرَ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ ؟ قِيلَ لِيَتَبَيّنَ أَنّهَا فِي مُدّةِ الْعِدّةِ كَانَتْ مُتَرَبّصَةً لِأَجْلِ حَقّ الزّوْجِ وَالتّرَبّصُ الِانْتِظَارُ وَكَانَتْ مُنْتَظِرَةً هَلْ يُمْسِكُهَا أَوْ يُسَرّحُهَا ؟ وَهَذَا التّخْيِيرُ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ أَوّلِ الْمُدّةِ إلَى آخِرِهَا كَمَا خُيّرَ الْمُؤْلِي بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَعَدَمِ الطّلَاقِ وَهُنَا لَمّا خَيّرَهُ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ كَانَ تَخْيِيرُهُ قَبْلَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى لَكِنّ التّسْرِيحَ بِإِحْسَانِ إنّمَا يُمْكِنُ إذَا بَلَغَتْ الْأَجَلَ وَقَبْلَ ذَلِكَ هِيَ فِي الْعِدّةِ .
[التّسْرِيحُ هُوَ إرْسَالُهَا إلَى أَهْلِهَا ]
وَقَدْ قِيلَ إنّ تَسْرِيحَهَا بِإِحْسَانٍ مُؤَثّرٌ فِيهَا حِينَ تَنْقَضِي الْعِدّةُ وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ التّسْرِيحَ بِإِحْسَانِ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا التّرْكَ ثَابِتٌ مِنْ أَوّلِ الْمُدّةِ فَالصّوَابُ أَنّ التّسْرِيحَ إرْسَالُهَا إلَى أَهْلِهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ وَرَفْعِ يَدِهِ عَنْهَا فَإِنّهُ كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَهَا مُدّةَ الْعِدّةِ فَإِذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا فَحِينَئِذٍ إنْ أَمْسَكَهَا كَانَ لَهُ حَبْسُهَا وَإِنْ لَمْ يُمْسِكْهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَرّحَهَا بِإِحْسَانِ وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [ الْأَحْزَابَ 49 ] فَأَمَرَ بِالسّرَاحِ الْجَمِيلِ وَلَا عِدّةَ فَعُلِمَ أَنّ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهَا إرْسَالُهَا كَمَا يُقَالُ سَرّحَ الْمَاءَ وَالنّاقَةَ إذَا مَكّنَهَا مِنْ الذّهَابِ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ وَالسّرَاحِ يَكُونُ قَدْ تَمّ تَطْلِيقُهَا وَتَخْلِيَتُهَا وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْإِطْلَاقُ تَامّا وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا وَأَنْ يُسَرّحَهَا وَكَانَ مَعَ كَوْنِهِ مُطْلِقًا قَدْ جُعِلَ أَحَقّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ مُدّةَ التّرَبّصِ وَجُعِلَ التّرَبّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِأَجْلِهِ وَيُؤَيّدُ هَذَا أَشْيَاءُ . أَحَدُهَا : أَنّ الشّارِعَ جَعَلَ عِدّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةً كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ السّنّةُ وَأَقَرّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَابْنُ عَبّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَحَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ فِي " نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ " إجْمَاعَ الصّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ إسْحَاقَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ دَلِيلًا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قُرْبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . فَلَمّا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ رَجْعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدّةٌ بَلْ [ ص 594 ] وَبَانَتْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَقّ بِإِمْسَاكِهَا فَلَا مَعْنَى لِتَطْوِيلِ الْعِدّةِ عَلَيْهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا فَيَكْفِي مُجَرّدُ الِاسْتِبْرَاءِ . وَالثّانِي : أَنّ الْمُهَاجِرَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ جَاءَتْ السّنّةُ بِأَنّهَا إنّمَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ ثُمّ تُزَوّجُ كَمَا سَيَأْتِي . الثّالِثُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ لَهَا طَلَاقًا بَائِنًا بَعْدَ الدّخُولِ إلّا الثّالِثَةَ وَكُلّ طَلَاقٍ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهَا فَرَجْعِيّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنّمَا ذَكَرَ الْقُرُوءَ الثّلَاثَةَ فِي هَذَا الطّلَاقِ الّذِي شَرَعَهُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ . وَأَمّا الْمُفْتَدِيَةُ فَلَيْسَ افْتِدَاؤُهَا طَلَاقًا بَلْ خُلْعًا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنْ الثّلَاثِ وَالْمَشْرُوعُ فِيهِ حَيْضَةٌ . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِصُورَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : بِمَنْ اسْتَوْفَتْ عَدَدَ طَلَاقِهَا فَإِنّهَا تَعْتَدّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَتَمَكّنُ زَوْجُهَا مِنْ رَجْعَتِهَا . الثّانِيَةُ بِالْمُخَيّرَةِ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ حُرّ أَوْ عَبْدٍ فَإِنّ عِدّتَهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ بِالسّنّةِ كَمَا فِي السّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدّ عِدّةَ الْحُرّةِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَلَا رَجْعَةَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا

[الْحِكْمَةُ مِنْ بَقَاءِ الْمَبْتُوتَةِ فِي بَيْتِ الزّوْجِ فِي الْعِدّةِ]
فَالْجَوَابُ أَنّ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ لِلزّوْجَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ التّرَبّصُ لِأَجْلِ رَجْعَةِ [ ص 595 ] لَأَمْكَنَ أَنْ يَتَزَوّجَهَا الثّانِي وَيُطَلّقَهَا بِسُرْعَةِ إمّا عَلَى قَصْدِ التّحْلِيلِ أَوْ بِدُونِهِ فَكَانَ تَيْسِيرُ عَوْدِهَا إلَى الْمُطَلّقِ وَالشّارِعُ حَرّمَهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الثّالِثَةِ عُقُوبَةً لَهُ لِأَنّ الطّلَاقَ الّذِي أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللّهِ إنّمَا أَبَاحَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَهُوَ الثّلَاثُ وَحَرّمَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الثّالِثَةِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ أَنّهَا لَا تَنْكِحُ حَتّى تَتَرَبّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهَذَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا بِهِ فَإِنّهَا فِي كُلّ مَرّةٍ مِنْ الطّلَاقِ لَا تَنْكِحُ حَتّى تَتَرَبّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَكَانَ التّرَبّصُ هُنَاكَ نَظَرًا فِي مَصْلَحَتِهِ لَمّا لَمْ يُوقِعْ الثّلَاثَ الْمُحَرّمَةَ وَهُنَا التّرَبّصُ بِالثّلَاثِ مِنْ تَمَامِ عُقُوبَتِهِ فَإِنّهُ عُوقِبَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَنْ حُرّمَتْ عَلَيْهِ حَبِيبَتُهُ وَجُعِلَ تَرَبّصُهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ إلَيْهِ حَتّى يَحْظَى بِهَا غَيْرُهُ حُظْوَةَ الزّوْجِ الرّاغِبِ بِزَوْجَتِهِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا وَفِي كُلّ مِنْ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُؤْلِمَةٌ عَلَى إيقَاعِ الْبَغِيضِ إلَى اللّهِ الْمَكْرُوهِ لَهُ . فَإِذَا عَلِمَ أَنّهُ بَعْدَ الثّالِثَةِ لَا تَحِلّ لَهُ إلّا بَعْدَ تَرَبّصٍ وَتَزَوّجٍ بِزَوْجِ آخَرَ وَأَنّ الْأَمْرَ بِيَدِ ذَلِكَ الزّوْجِ وَلَا بُدّ أَنْ تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا عَلِمَ أَنّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْهَا فَلَا تَعُودَ إلَيْهِ إلّا بِاخْتِيَارِهَا لَا بِاخْتِيَارِهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ الزّوْجَ الثّانِيَ إذَا كَانَ قَدْ نَكَحَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ وَهُوَ النّكَاحُ الّذِي شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِمَصَالِحِهِمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَسَبَبًا لِحُصُولِ الرّحْمَةِ وَالْوِدَادِ فَإِنّهُ لَا يُطَلّقُهَا لِأَجْلِ الْأَوّلِ بَلْ يُمْسِكُ امْرَأَتَهُ فَلَا يَصِيرُ لِأَحَدِ مِنْ النّاسِ اخْتِيَارٌ فِي عَوْدِهَا إلَيْهِ فَإِذَا اتّفَقَ فِرَاقُ الثّانِي لَهَا بِمَوْتِ أَوْ طَلَاقٍ كَمَا يَفْتَرِقُ الزّوْجَانِ اللّذَانِ هَمّا زَوْجَانِ أُبِيحَ لِلْمُطَلّقِ الْأَوّلِ نِكَاحُهَا كَمَا يُبَاحُ لِلرّجُلِ نِكَاحُ مُطَلّقَةِ الرّجُلِ ابْتِدَاءً وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُحَرّمْهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي الشّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْمُهَيْمِنَةِ عَلَى جَمِيعِ الشّرَائِعِ بِخِلَافِ الشّرِيعَتَيْنِ قَبْلَنَا فَإِنّهُ فِي شَرِيعَةِ التّوْرَاةِ قَدْ قِيلَ إنّهَا مَتَى تَزَوّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ لَمْ تَحِلّ لِلْأَوّلِ أَبَدًا . وَفِي شَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ قَدْ قِيلَ إنّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلّقَهَا أَلْبَتّةَ فَجَاءَتْ هَذِهِ الشّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا وَأَصْلَحِهَا لِلْخَلْقِ وَلِهَذَا لِمَا كَانَ التّحْلِيلُ مُبَايِنًا لِلشّرَائِعِ كُلّهَا [ ص 596 ]

[مَذْهَبُ ابْنِ اللّبّانِ فِي عِدّةِ الْمَبْتُوتَةِ الّتِي مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالْآيِسَةِ وَالصّغِيرَةِ]
وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعْنُ الْمُحَلّلِ وَالْمُحَلّلِ لَه . وَلَعْنُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمَا إمّا خَبَرٌ عَنْ اللّهِ تَعَالَى بِوُقُوعِ لَعْنَتِهِ عَلَيْهِمَا أَوْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمَا بِاللّعْنَةِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَنّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ إيجَابَ الْقُرُوءِ الثّلَاثِ فِي هَذَا الطّلَاقِ مِنْ تَمَامِ تَأْكِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَوّلِ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَذَهَبَ ابْنُ اللّبّانِ الْفَرَضِيّ صَاحِبُ " الْإِيجَازِ " وَغَيْرِهِ إلَى أَنّ الْمُطَلّقَةَ ثَلَاثًا لَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ اسْتِبْرَاءٍ بِحَيْضَةِ ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فَقَالَ مَسْأَلَةٌ إذَا طَلّقَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ الدّخُولِ فَعِدّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَالَ ابْنُ اللّبّانِ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَلَمْ يَقِفْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَعَلّقَ تَسْوِيغَهُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ فَقَالَ إنْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى الْمُعْتَقَةِ الْمُخَيّرَةِ إلّا الِاسْتِبْرَاءُ قَوْلًا مُتَوَجّهًا ثُمّ قَالَ وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ الْآيِسَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى عِدّةٍ بَعْدَ الطّلْقَةِ الثّالِثَةِ . قَالَ وَهَذَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ أَبُو الْحُسَيْنِ فَقَالَ مَسْأَلَةٌ إذَا طَلّقَ الرّجُلُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَكَانَتْ مِمّنْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرِ أَوْ هَرَمٍ فَعِدّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ خِلَافًا لِابْنِ اللّبّانِ أَنّهُ لَا عِدّةَ عَلَيْهَا دَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاَللّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللّائِي لَمْ يَحِضْنَ } . قَالَ شَيْخُنَا : وَإِذَا مَضَتْ السّنّةُ بِأَنّ عَلَى هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهَا وَلَوْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ السّنّةِ إجْمَاعٌ ؟ قَالَ وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : اعْتَدّي قَدْ فَهِمَ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ أَنّهَا تَعْتَدّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَإِنّ الِاسْتِبْرَاءَ قَدْ يُسَمّى [ ص 597 ]

[عِدّةُ الْفَسْخِ وَالْخُلْعِ ]
عِدّةً . قُلْت : كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَنّهُ فَسّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ } بِالسّبَايَا ثُمّ قَالَ أَيْ فَهُنّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهُنّ فَجَعَلَ الِاسْتِبْرَاءَ عِدّةً . قَالَ فَأَمّا حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ . فَإِنّ مَذْهَبَ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ . قُلْتُ وَمَنْ جَعَلَ أَنّ عِدّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى تَكُونُ عِدّةُ الْفُسُوخِ كُلّهَا عِنْدَهُ حَيْضَةً لِأَنّ الْخُلْعَ الّذِي هُوَ شَقِيقُ الطّلَاقِ وَأَشْبَهُ بِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ الِاعْتِدَادُ عِنْدَهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فَالْفَسْخُ أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَجْعَلُ الْخُلْعَ طَلَاقًا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُهُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ لِرَضَاعِ وَنَحْوِهِ . الثّانِي : أَنّ أَبَا ثَوْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ إنّ الزّوْجَ إذَا رَدّ الْعِوَضَ وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِرِدّهِ وَرَاجَعَهَا فَلَهُمَا ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفَسْخِ . الثّالِثُ أَنّ الْخُلْعَ يُمْكِنُ فِيهِ رُجُوعُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا فِي عِدّتِهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بِخِلَافِ الْفَسْخِ لِرَضَاعِ أَوْ عَدَدٍ أَوْ مَحْرَمِيّةٍ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهَا إلَيْهِ فَهَذِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى يَكْفِيهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مُجَرّدَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا كَالْمَسْبِيّةِ وَالْمُهَاجِرَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ وَالزّانِيَةِ عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا دَلِيلًا وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ .

فَصْلٌ [الْفَرْقُ بَيْنَ عِدّةِ الرّجْعِيّةِ وَالْبَائِنِ ]
وَمِمّا يُبَيّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ عِدّةِ الرّجْعِيّةِ وَالْبَائِنِ أَنّ عِدّةَ الرّجْعِيّةِ لِأَجْلِ الزّوْجِ وَلِلْمَرْأَةِ فِيهَا النّفَقَةُ وَالسّكْنَى بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنّ سُكْنَاهَا هَلْ هِيَ كَسُكْنَى الزّوْجَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمُطَلّقُ حَيْثُ شَاءَ أَمْ يَتَعَيّنُ عَلَيْهَا الْمَنْزِلُ فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تُخْرَجُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَهَذَا الثّانِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد َ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْقُرْآنُ . وَالْأَوّلُ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . [ ص 598 ] وَالصّوَابُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَإِنّ سُكْنَى الرّجْعِيّةِ مِنْ جِنْسِ سُكْنَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا وَلَوْ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِهَا لَمْ يَجُزْ كَمَا أَنّ الْعِدّةَ فِيهَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْبَائِنِ فَإِنّهَا لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا عَلَيْهَا فَالزّوْجُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى

[هَلْ الرّجْعَةُ حَقّ لِلزّوْجِ ] ؟
وَأَمّا الرّجْعَةُ فَهَلْ هِيَ حَقّ لِلزّوْجِ يَمْلِكُ إسْقَاطَهَا بِأَنْ يُطَلّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً أَمْ هِيَ حَقّ لِلّهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهَا ؟ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً وَقَعَتْ رَجْعِيّةً أَمْ هِيَ حَقّ لَهُمَا فَإِنْ تَرَاضَيَا بِالْخُلْعِ بِلَا عِوَضٍ وَقَعَ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَا رَجْعَةَ فِيهِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . فَالْأَوّلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد َ . وَالثّانِي : مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَالرّوَايَةُ الثّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّالِثُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالرّوَايَةُ الثّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ . وَالصّوَابُ أَنّ الرّجْعَةَ حَقّ لِلّهِ تَعَالَى لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَتّفِقَا عَلَى إسْقَاطِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً وَلَوْ رَضِيَتْ الزّوْجَةُ كَمَا أَنّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِفَسْخِ النّكَاحِ بِلَا عِوَضٍ بِالِاتّفَاقِ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد َ وَهَلْ هَذَا إلّا اتّفَاقٌ مِنْ الزّوْجَيْنِ عَلَى فَسْخِ النّكَاحِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؟ قِيلَ إنّمَا يُجَوّزُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ الْخُلْعَ بِلَا عِوَضٍ إذَا كَانَ طَلَاقًا فَأَمّا إذَا كَانَ فَسْخًا فَلَا يَجُوزُ بِالِاتّفَاقِ قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ . قَالَ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَتّفِقَا عَلَى أَنْ يَبِينَهَا مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ عَدَدُ الطّلَاقِ وَيَكُونُ الْأَمْرُ إلَيْهِمَا إذَا أَرَادَا أَنْ يَجْعَلَا الْفُرْقَةَ بَيْنَ الثّلَاثِ جَعَلَاهَا وَإِنْ أَرَادَا لَمْ يَجْعَلَاهَا مِنْ الثّلَاثِ وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا إذَا قَالَتْ فَادْنِي بِلَا طَلَاقٍ أَنْ يَبِينَهَا بِلَا طَلَاقٍ وَيَكُونُ [ ص 599 ] شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ رَجْعِيّا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ بَائِنًا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنّ مَضْمُونَهُ أَنّهُ يُخَيّرُ إنْ شَاءَ أَنْ يُحَرّمَهَا بَعْدَ الْمَرّةِ الثّالِثَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُحَرّمْهَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُخَيّرَ الرّجُلُ بَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ الشّيْءُ حَلَالًا وَأَنْ يَجْعَلَهُ حَرَامًا وَلَكِنْ إنّمَا يُخَيّرُ بَيْنَ مُبَاحَيْنِ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُبَاشِرَ أَسْبَابَ الْحِلّ وَأَسْبَابَ التّحْرِيمِ وَلَيْسَ لَهُ إنْشَاءُ نَفْسِ التّحْلِيلِ وَالتّحْرِيمِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ إنّمَا شَرّعَ لَهُ الطّلَاقَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُشَرّعْ لَهُ إيقَاعَهُ مَرّةً وَاحِدَةً لِئَلّا يَنْدَمَ وَتَزُولَ نَزْغَةُ الشّيْطَانِ الّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى الطّلَاقِ فَتَتْبَعُ نَفْسُهُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَجِدُ إلَيْهَا سَبِيلًا فَلَوْ مَلّكَهُ الشّارِعُ أَنّ يُطَلّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ هَذَا الْمَحْذُورُ بِعَيْنِهِ مَوْجُودًا وَالشّرِيعَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَأْبَى ذَلِكَ فَإِنّهُ يَبْقَى الْأَمْرُ بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ رَاجَعَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَلَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطّلَاقَ بِيَدِ الزّوْجِ لَا بِيَدِ الْمَرْأَةِ رَحْمَةً مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَمُرَاعَاةً لِمَصْلَحَةِ الزّوْجَيْنِ . نَعَمْ لَهُ أَنْ يُمَلّكَهَا أَمْرَهَا بِاخْتِيَارِهِ فَيُخَيّرُهَا بَيْنَ الْقِيَامِ مَعَهُ وَفِرَاقِهَا . وَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ الْأَمْرُ عَنْ يَدِ الزّوْجِ بِالْكُلّيّةِ إلَيْهَا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ مِنْ الرّجْعَةِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِك فَإِنّ الشّارِعَ إنّمَا يُمَلّكُ الْعَبْدَ مَا يَنْفَعُهُ مَلّكَهُ وَلَا يَتَضَرّرُ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَلّكْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا مَلّكَهُ جَمْعَ الثّلَاثِ وَلَا مَلّكَهُ الطّلَاقَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالطّهْرِ الْمَوَاقِعِ فِيهِ وَلَا مَلّكَهُ نِكَاحَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ وَلَا مَلّكَ الْمَرْأَةَ الطّلَاقَ وَقَدْ نَهَى سُبْحَانَهُ الرّجَالَ أَنْ يُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَهُمْ قِيَامًا فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ أَمْرَ الْأَبْضَاعِ إلَيْهِنّ فِي الطّلَاقِ وَالرّجْعَةِ فَكَمَا لَا يَكُونُ الطّلَاقُ بِيَدِهَا لَا تَكُونُ الرّجْعَةُ بِيَدِهَا فَإِنْ شَاءَتْ رَاجَعَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَلَا فَتَبْقَى الرّجْعَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى اخْتِيَارِهَا وَإِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ الطّلَاقَ الْبَائِنَ فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ ابْتِدَاءً أَوْلَى وَأَحْرَى لِأَنّ النّدَمَ فِي الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْبَائِنِ . فَمَنْ قَالَ إنّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَانَةَ وَلَوْ أَتَى بِهَا لَمْ تَبِنْ كَمَا هُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ إنّهُ لَا يَمْلِكُ الثّلَاثَ الْمُحَرّمَةَ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَأَنّ لَهُ رَجْعَتَهَا . وَإِنْ أَوْقَعَهَا كَانَ لَهُ رَجْعَتُهَا . وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ [ ص 600 ] [ ص 601 ] وَاحِدَةً بَائِنَةً فَإِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ الرّجْعَةِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ إثْبَاتَ التّحْرِيمِ الّذِي لَا تَعُودُ بَعْدَهُ إلّا بِزَوْجِ وَإِصَابَةٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ فَلَازِمٌ هَذَا أَنّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَوْ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ قُلْنَا : لَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ مَلّكَهُ الطّلَاقَ عَلَى وَجْهٍ مُعَيّنٍ وَهُوَ أَنْ يُطَلّقَ وَاحِدَةً وَيَكُونُ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدّتُهَا ثُمّ إنْ شَاءَ طَلّقَ الثّانِيَةَ كَذَلِكَ وَيَبْقَى لَهُ وَاحِدَةٌ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ أَوْقَعَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَلَا تَعُودُ إلَيْهِ إلّا أَنْ تَتَزَوّجَ غَيْرَهُ وَيُصِيبَهَا وَيُفَارِقَهَا فَهَذَا هُوَ الّذِي مَلّكَهُ إيّاهُ لَمْ يُمَلّكْهُ أَنْ يُحَرّمَهَا ابْتِدَاءً تَحْرِيمًا تَامّا مِنْ غَيْرِ تَقَدّمٍ تَطْلِيقَتَيْنِ . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ [عِدّةُ الْمُخْتَلِعَةِ]
قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُخْتَلِعَةِ أَنّهَا تَعْتَدّ بِحَيْضَة وَأَنّ هَذَا مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا شَيْخُنَا . وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ بِذَلِكَ بِإِسْنَادِهَا . قَالَ النّسَائِيّ فِي " سُنَنِهِ الْكَبِيرِ " : بَابٌ فِي عِدّةِ الْمُخْتَلِعَةِ . أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيّ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيّ حَدّثَنَا شَاذَان عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُثْمَانَ أَخُو عَبْدَانَ حَدّثَنَا أَبِي حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ رُبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذٍ بْنِ عَفْرَاءَ أَخْبَرَتْهُ أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فَجَاءَ أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى ثَابِتٍ فَقَالَ خُذْ الّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلّ سَبِيلَهَا فَقَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَتَرَبّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا أَخْبَرْنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدّثَنِي عَمّي قَالَ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ حَدّثَنِي عُبَادَة بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَة بْنِ الصّامِتِ [ ص 602 ] رُبَيّعَ بِنْتِ مُعَوّذٍ قَالَ قُلْتُ لَهَا : حَدّثِينِي حَدِيثَك قَالَتْ اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي ثُمّ جِئْتُ عُثْمَانَ فَسَأَلْتُ مَاذَا عَلَيّ مِنْ الْعِدّةِ قَالَ لَا عِدّةَ عَلَيْكِ إلّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِك فَتَمْكُثِينَ حَتّى تَحِيضِي حَيْضَةً . قَالَتْ وَإِنّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَرْيَمَ الْمُغَالِيَةِ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِدّتَهَا حَيْضَةً رَوَاهُ أَبُو داود عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحِيمِ الْبَزّاز عَنْ عَلِيّ بْنِ بَحْرٍ الْقَطّانِ عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ . وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحِيمِ بِهَذَا السّنَدِ بِعَيْنِهِ . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَهَذَا كَمَا أَنّهُ مُوجِبُ السّنَةِ وَقَضَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمُوَافِقٌ لِأَقْوَالِ الصّحَابَةِ فَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فَإِنّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِمُجَرّدِ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ فَكَفَتْ فِيهِ حَيْضَةٌ كَالْمَسْبِيّةِ وَالْأَمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ وَالْحُرّةِ وَالْمُهَاجِرَةِ وَالزّانِيَةِ إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَنْكِحَ . وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ الشّارِعَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ عِدّةَ الرّجْعِيّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِمَصْلَحَةِ الْمُطَلّقِ وَالْمَرْأَةِ لِيَطُولَ زَمَانُ الرّجْعَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ النّقْصُ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ . [ ص 603 ]

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاعْتِدَادِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا فِي مَنْزِلِهَا الّذِي تُوُفّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ وَأَنّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِحُكْمِهِ بِخُرُوجِ الْمَبْتُوتَةِ وَاعْتِدَادِهَا حَيْثُ شَاءَتْ
ثَبَتَ فِي " السّنَنِ " : عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقُدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي فَإِنّي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ فَخَرَجْتُ حَتّى إذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ كَيْفَ قُلْتِ ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصّةَ الّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِيّ قَالَتْ فَقَالَ " اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَتْ فَلَمّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْته فَقَضَى بِهِ وَاتّبَعَهُ قَالَ التّرْمِذِي ّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ فَإِنّ زَيْنَبَ هَذِهِ مَجْهُولَةٌ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَهَا غَيْرُ سَعْدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فِيهِ [ ص 604 ] سَعْدُ بْنُ إسْحَاق َ وَسُفْيَانُ يَقُولُ سَعِيدٌ . وَمَا قَالَهُ أَبُو مُحَمّدٍ غَيْرُ صَحِيحٍ فَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَأَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطّئِهِ " وَاحْتَجّ بِهِ وَبَنَى عَلَيْهِ مَذْهَبَهُ . وَأَمّا قَوْلُهُ إنّ زَيْنَبَ بِنْتَ كَعْبٍ مَجْهُولَةٌ فَنَعَمْ مَجْهُولَةٌ عِنْدَهُ فَكَانَ مَاذَا ؟ وَزَيْنَبُ هَذِهِ مِنْ التّابِعِيّاتِ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي سَعِيدٍ رَوَى عَنْهَا سَعْدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنُ كَعْبٍ وَلَيْسَ بِسَعِيدِ وَقَدْ ذَكَرَهَ ا ابْنُ حِبّانَ فِي كِتَابِ الثّقَاتِ . وَاَلّذِي غَرّ أَبَا مُحَمّدٍ قَوْلُ عَلِيّ بْنِ الْمَدِينِيّ : لَمْ يَرْوِ عَنْهَا غَيْرُ سَعْدِ بْنِ إسْحَاق َ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " : حَدّثَنَا يَعْقُوبُ حَدّثَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ اشْتَكَى النّاسُ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَامَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَطِيبًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيّا فَوَاَللّهِ إنّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَهَذِهِ امْرَأَةٌ تَابِعِيّةٌ كَانَتْ تَحْتَ صَحَابِيّ وَرَوَى عَنْهَا الثّقَاتُ وَلَمْ يُطْعَنْ فِيهَا بِحَرْفِ وَاحْتَجّ الْأَئِمّةُ بِحَدِيثِهَا وَصَحّحُوهُ . وَأَمّا قَوْلُهُ إنّ سَعْدَ بْنَ إسْحَاقَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ فَقَدْ قَالَ إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : ثِقَةٌ . وَقَالَ النّسَائِيّ أَيْضًا وَالدّارَ قُطْنِيّ أَيْضًا : ثِقَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبّانَ فِي كِتَابِ الثّقَاتِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ النّاسُ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الدّرَاوَرْدِيّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمَالِكٌ بْنُ أَنَسٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ وَالزّهْرِيّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَحَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَدَاوُد بْنُ قَيْسٍ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَئِمّةِ وَلَمْ يُعْلَمْ فِيهِ قَدْحٌ وَلَا جَرْحٌ الْبَتّةَ وَمِثْلُ هَذَا يُحْتَجّ بِهِ اتّفَاقًا .

[اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ]
[مَنْ أَفْتَى بِخُرُوجِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَمَنْ قَالَ تَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ [ ص 605 ] عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . أَنّهَا كَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا بِالْخُرُوجِ فِي عِدّتِهَا وَخَرَجَتْ بِأُخْتِهَا أُمّ كُلْثُومٍ حِينَ قُتِلَ عَنْهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ إلَى مَكّةَ فِي عُمْرَةٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرّزّاقِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ إنّمَا قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ تَعْتَدّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَمْ يَقُلْ تَعْتَدّ فِي بَيْتِهَا فَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهَذَا الْحَدِيثُ سَمِعَهُ عَطَاءٌ مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَإِنّ عَلِيّ بْنَ الْمَدِينِيّ : قَالَ حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَلَمْ يَقُلْ يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنّ تَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَت قَالَ سُفْيَانُ قَالَهُ لَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا أَخْبَرَنَا . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ تَعْتَدّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعْبِيّ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ يُرَحّلُ الْمُتَوَفّى عَنْهُنّ فِي عِدّتِهِنّ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ وَعَطَاءٍ قَالَا جَمِيعًا : الْمَبْتُوتَةُ وَالْمُتَوَفّي عَنْهَا تَحُجّانِ وَتَعْتَمِرَانِ وَتَنْتَقِلَانِ وَتَبِيتَانِ . [ ص 606 ] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ لَا يَضُرّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا أَيْنَ اعْتَدّتْ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الشّعْثَاءِ قَالَا جَمِيعًا : الْمُتَوَفّى عَنْهَا تَخْرُجُ فِي عِدّتِهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ الثّقَفِيّ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلّمِ قَالَ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا أَتَحُجّانِ فِي عِدّتِهِمَا ؟ قَالَ نَعَمْ . وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ حُنَيْنِ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنّ امْرَأَةَ مُزَاحِمٍ لَمّا تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بخناصرة سَأَلْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَأَمْكُثُ حَتّى . تَنْقَضِيَ عِدّتِي ؟ فَقَالَ لَهَا : بَلْ الْحَقِي بِقَرَارِك وَدَارِ أَبِيك فَاعْتَدّي فِيهَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَأَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ أَنّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ تُوُفّيَ بِالْإِسْكَنْدَرِيّةِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَلَهُ بِهَا دَارٌ وَلَهُ بِالْفُسْطَاطِ دَارٌ فَقَالَ إنْ أَحَبّتْ أَنْ تَعْتَدّ حَيْثُ تُوُفّيَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدّ وَإِنْ أَحَبّتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ زَوْجِهَا وَقَرَارِهِ بِالْفُسْطَاطِ فَتَعْتَدّ فِيهَا فَلْتَرْجِعْ [ ص 607 ] قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْر بْنِ الْأَشَجّ قَالَ سَأَلْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَةِ يَخْرُجُ بِهَا زَوْجُهَا إلَى بَلَدٍ فَيُتَوَفّى ؟ قَالَ تَعْتَدّ حَيْثُ تُوَفّي عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ تَرْجِعُ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ . وَلِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ حُجّتَانِ احْتَجّ بِهِمَا ابْنُ عَبّاسٍ وَقَدْ حَكَيْنَا إحْدَاهُمَا وَهِيَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا أَمَرَهَا بِاعْتِدَادِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِمَكَانِ مُعَيّنٍ . وَالثّانِيَةُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمّدٍ الْمَرْوَزِيّ حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قَالَ عَطَاءٌ إنْ شَاءَتْ اعْتَدّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وَصِيّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا } قَالَ عَطَاءٌ ثُمّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السّكْنَى تَعْتَدّ حَيْثُ شَاءَتْ

[مَنْ قَالَ تَعْتَدّ فِي مَنْزِلِهَا الّتِي تُوُفّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَعْتَدّ فِي مَنْزِلِهَا الّتِي تُوُفّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ قَالَ وَكِيعٌ : حَدّثَنَا الثّوْرِيّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ عُمَرَ رَدّ نِسْوَةً مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة ِ حَاجّاتٍ أَوْ مُعْتَمِرَاتٍ تُوُفّيَ عَنْهُنّ أَزْوَاجُهُنّ [ ص 608 ] وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْد الْأَعْرَجُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَرْجِعَانِهِنّ حَاجّاتٍ وَمُعْتَمِرَاتٍ مِنْ الْجُحْفَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكَ عَنْ أُمّهِ مُسَيْكَة أَنّ امْرَأَةً مُتَوَفّى عَنْهَا زَارَتْ أَهْلَهَا فِي عِدّتِهَا فَضَرَبَهَا الطّلّقُ فَأَتَوْا عُثْمَانَ فَقَالَ احْمِلُوهَا إلَى بَيْتِهَا وَهِيَ تَطْلُقُ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ تَعْتَدّ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ بِالنّهَارِ فَتَتَحَدّثُ إلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ اللّيْلُ أَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَيْتِهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَان أَنّ عُمَرَ رَخّصَ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَهَا بَيَاضَ يَوْمِهَا وَأَنّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يُرَخّصْ لَهَا إلّا فِي بَيَاضِ يَوْمِهَا أَوْ لَيْلِهَا وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ نِسَاءً مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إلَيْهِنّ أَزْوَاجُهُنّ فَقُلْنَ إنّا نَسْتَوْحِشُ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : تَجْتَمِعْنَ بِالنّهَارِ ثُمّ تَرْجِعُ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْكُنّ إلَى بَيْتِهَا بِاللّيْلِ [ ص 609 ] وَذَكَرَ الْحَجّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنّ امْرَأَة بُعِثَتْ إلَى أُمّ سَلَمَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إنّ أَبِي مَرِيضٌ وَأَنَا فِي عِدّةٍ أَفَآتِيهِ أُمَرّضْهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ بَيّتِي أَحَدَ طَرَفَيْ اللّيْلِ فِي بَيْتِك وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا هُشَيْم أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعْبِيّ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتَوَفّى عَنْهَا : أَتَخْرُجُ فِي عِدّتِهَا ؟ فَقَالَ كَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشَدّ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ لَا تَخْرُجُ وَكَانَ الشّيْخُ - يَعْنِي عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يُرَحّلُهَا وَقَالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ : أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنّ أَبَاهُ قَالَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدّ فِي بَيْتِهَا إلّا أَنْ يَنْتَوِيَ أَهْلُهَا فَتَنْتَوِي مَعَهُمْ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا هُشَيْم أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيّ أَنّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ قَالُوا فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا : لَا تَبْرَحُ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرٍ كِلَاهُمَا قَالَ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا : لَا تَخْرُجُ وَذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا : لَا بَأْسَ أَنْ تَخْرُجَ بِالنّهَارِ وَلَا تَبِيتُ عَنْ بَيْتِهَا وَذَكَرَ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيّوبَ السّخْتِيَانِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنّ امْرَأَةً تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَنَقَلَهَا أَهْلُهَا ثُمّ سَأَلُوا فَكُلّهُمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ تُرَدّ [ ص 610 ] قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : فَرَدَدْنَاهَا فِي نَمَطٍ وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللّهُ وَأَصْحَابِهِمْ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ . قَال أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَبِهِ تَقُولُ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ . وَحُجّةُ هَؤُلَاءِ حَدِيثُ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ وَقَدْ تَلَقّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِالْقَبُولِ وَقَضَى بِهِ بِمَحْضَرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَلَقّاهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنّ أَحَدًا مِنْهُمْ طَعَنَ فِيهِ وَلَا فِي رِوَاتِهِ وَهَذَا مَالِكٌ مَعَ تَحَرّيهِ وَتَشَدّدِهِ فِي الرّوَايَةِ . وَقَوْلُهُ لِلسّائِلِ لَهُ عَنْ رَجُلٍ أَثِقَةٌ هُوَ ؟ فَقَالَ لَوْ كَانَ ثِقَةً لَرَأَيْته فِي كُتُبِي : قَدْ أَدْخَلَهُ فِي " مُوَطّئِهِ " وَبَنَى عَلَيْهِ مَذْهَبَهُ . قَالُوا : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ النّزَاعَ بَيْنَ السّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنّ السّنّةَ تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : أَمّا السّنّةُ فَثَابِتَةٌ بِحَمْدِ اللّهِ . وَأَمّا الْإِجْمَاعُ فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ مَعَ السّنّةِ لِأَنّ الِاخْتِلَافَ إذَا نَزَلَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَتْ الْحُجّةُ فِي قَوْلِ مَنْ وَافَقَتْهُ السّنّةُ . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ أَخَذَ الْمُتَرَخّصُونَ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا وَأَخَذَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَالْوَرَعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ

[هَلْ مُلَازَمَةُ الْمَنْزِلِ حَقّ عَلَى الْمُعْتَدّةِ أَوْ حَقّ لَهَا ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ مُلَازَمَةُ الْمَنْزِلِ حَقّ عَلَيْهَا أَوْ حَقّ لَهَا ؟ قِيلَ بَلْ هُوَ حَقّ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ لَهَا الْوَرَثَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ كَانَ الْمَسْكَنُ لَهَا فَلَوْ حَوّلَهَا الْوُرّاثُ أَوْ طَلَبُوا مِنْهَا الْأُجْرَةَ لَمْ يَلْزَمْهَا السّكَنُ وَجَازَ لَهَا التّحَوّلُ . [ ص 611 ] شَاءَتْ أَوْ يَلْزَمُهَا التّحَوّلُ إلَى أَقْرَبِ الْمَسَاكِنِ إلَى مَسْكَنِ الْوَفَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ خَافَتَ هَدْمًا أَوْ غَرَقًا أَوْ عَدُوّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ حَوّلَهَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لِكَوْنِهِ عَارِيَةً رَجَعَ فِيهَا أَوْ بِإِجَارَةِ انْقَضَتْ مُدّتُهَا أَوْ مَنَعَهَا السّكْنَى تَعَدّيًا أَوْ امْتَنَعَ مِنْ إجَارَتِهِ أَوْ طَلَبَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ لَمْ تَجِدْ مَا تَكْتَرِي بِهِ أَوْ لَمْ تَجِدْ إلّا مِنْ مَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ لِأَنّهَا حَالُ عُذْرٍ وَلَا يَلْزَمُهَا بَذْلُ أَجْرِ الْمَسْكَنِ وَإِنّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهَا فِعْلُ السّكْنَى لَا تَحْصِيلُ الْمَسْكَنِ وَإِذَا تَعَذّرَتْ السّكْنَى سَقَطَتْ وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ .

[هَلْ الْإِسْكَانُ حَقّ عَلَى الْوَرَثَةِ يُقَدّمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ الْإِسْكَانُ حَقّ عَلَى الْوَرَثَةِ تُقَدّمُ الزّوْجَةُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَعَلَى الْمِيرَاثِ أَمْ لَا حَقّ لَهَا فِي التّرِكَةِ سِوَى الْمِيرَاثِ ؟ قِيلَ هَذَا مَوْضُوعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ . فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا سُكْنَى لَهَا فِي التّرِكَةِ وَلَكِنْ عَلَيْهَا مُلَازَمَةُ الْمَنْزِلِ إذَا بُذِلَ لَهَا كَمَا تَقَدّمَ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ . وَالثّانِي : أَنّ لَهَا السّكْنَى حَقّ ثَابِتٌ فِي الْمَالِ تُقَدّمُ بِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا تُبَاعُ الدّارُ فِي دَيْنِهِ بَيْعًا يَمْنَعُهَا سُكْنَاهَا حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا وَإِنْ تَعَذّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا سَكَنًا مِنْ مَالِ الْمَيّتِ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ إلّا لِضَرُورَةٍ . وَإِنْ اتّفَقَ الْوَارِثُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى نَقْلِهَا عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنّهُ يَتَعَلّقُ بِهَذِهِ السّكْنَى حَقّ اللّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَجُزْ اتّفَاقُهُمَا عَلَى إبْطَالِهَا بِخِلَافِ سُكْنَى النّكَاحِ فَإِنّهَا حَقّ لِلّهِ تَعَالَى لِأَنّهَا وَجَبَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِدّةِ وَالْعِدّةُ فِيهَا حَقّ لِلزّوْجَيْنِ . وَالصّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنّ سُكْنَى الرّجْعِيّةِ كَذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ اتّفَاقُهُمَا عَلَى إبْطَالِهَا هَذَا مُقْتَضَى نَصّ الْآيَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنّ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا السّكْنَى بِكُلّ حَالٍ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا فَصَارَ فِي مَذْهَبِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ [ ص 612 ] دُونَ الْحَائِلِ هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي سُكْنَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا .

وَأَمّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِيجَابُ السّكْنَى لَهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَإِيجَابُ السّكْنَى عَلَيْهَا مُدّةَ الْعِدّةِ قَالَ أَبُو عُمَرَ : فَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ بِكِرَاءِ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : هِيَ أَحَقّ بِسُكْنَاهُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَهُوَ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمُتَوَفّى إلّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَقْدٌ لِزَوْجِهَا وَأَرَادَ أَهْلُ الْمَسْكَنِ إخْرَاجَهَا . وَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ لَزَوْجِهَا لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِهِ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا انْتَهَى كَلَامُهُ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : هِيَ أَحَقّ بِالسّكْنَى مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ إذَا كَانَ الْمِلْكُ لِلْمَيّتِ أَوْ كَانَ قَدْ أَدّى كِرَاءَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدّى فَفِي " التّهْذِيبِ " : لَا سُكْنَى لَهَا فِي مَالِ الْمَيّتِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَرَوَى مُحَمّدٌ عَنْ مَالِكٍ : الْكِرَاءُ لَازِمٌ لِلْمَيّتِ فِي مَالِهِ وَلَا تَكُونُ الزّوْجَةُ أَحَقّ بِهِ وَتُحَاصّ الْوَرَثَةُ فِي السّكْنَى وَلِلْوَرَثَةِ إخْرَاجُهَا إلّا أَنْ تُحِبّ أَنْ تَسْكُنَ فِي حِصّتِهَا وَتُؤَدّيَ كِرَاءَ حِصّتِهِمْ .

وَأَمّا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ : فَإِنّ لَهُ فِي سُكْنَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : لَهَا السّكْنَى حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا . وَالثّانِي : لَا سُكْنَى لَهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَيَجِبُ عِنْدَهُ مُلَازَمَتُهَا لِلْمَسْكَنِ فِي الْعِدّةِ بَائِنًا كَانَتْ أَوْ مُتَوَفّى عَنْهَا وَمُلَازِمَةُ الْبَائِنِ لِلْمَنْزِلِ عِنْدَهُ آكَدُ مِنْ مُلَازَمَةِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا فَإِنّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْبَائِنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْقَدِيمُ وَلَا يُوجِبُهُ فِي الرّجْعِيّةِ بَلْ يَسْتَحِبّهُ . وَأَمّا أَحْمَدُ فَعِنْدَهُ مُلَازَمَةُ الْمُتَوَفّى عَنْهَا آكَدُ مِنْ الرّجْعِيّةِ وَلَا يُوجِبُهُ فِي الْبَائِنِ . وَأَوْرَدَ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى نَصّهِ بِوُجُوبِ مُلَازَمَةِ الْمَنْزِلِ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا مَعَ نَصّهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنّهُ لَا سُكْنَى لَهَا سُؤَالًا . وَقَالُوا : كَيْفَ يَجْتَمِعُ النّصّانِ وَأَجَابُوا بِجَوَابَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا مُلَازَمَةُ الْمَسْكَنِ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ لَكِنْ لَوْ أُلْزِمَ الْوَارِثُ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ وَجَبَتْ عَلَيْهَا [ ص 613 ] الْمُلَازَمَةُ حِينَئِذٍ وَأَطْلَقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ الْجَوَابَ هَكَذَا . وَالثّانِي : أَنّ مُلَازَمَةَ الْمَنْزِلِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِيهِ ضَرَرٌ بِأَنْ تُطَالِبَ بِالْأُجْرَةِ أَوْ يُخْرِجَهَا الْوَارِثَ أَوْ الْمَالِكَ فَتَسْقُطُ حِينَئِذٍ . وَأَمّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ لِلْمُطَلّقَةِ الرّجْعِيّةِ وَلَا لِلْبَائِنِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَأَمّا الْمُتَوَفّى عَنْهَا فَتَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللّيْلِ وَلَكِنْ لَا تَبِيتُ فِي مَنْزِلِهَا قَالُوا : وَالْفَرْقُ أَنّ الْمُطَلّقَةَ نَفَقَتُهَا فِي مَالِ زَوْجِهَا . فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ كَالزّوْجَةِ بِخِلَافِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا فَإِنّهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا فَلَا بُدّ أَنْ تَخْرُجَ بِالنّهَارِ لِإِصْلَاحِ حَالِهَا قَالُوا : وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي الْمَنْزِلِ الّذِي يُضَافُ إلَيْهَا بِالسّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَالُوا : فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ دَارِ الْمَيّتِ لَا يَكْفِيهَا أَوْ أَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ نَصِيبِهِمْ انْتَقَلَتْ لِأَنّ هَذَا عُذْرٌ وَالْكَوْنُ فِي بَيْتِهَا عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ قَالُوا : فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ كِرَاءِ الْبَيْتِ الّذِي هِيَ فِيهِ لِكَثْرَتِهِ فَلَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى بَيْتٍ أَقَلّ كِرَاءً مِنْهُ وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ يَدُلّ عَلَى أَنّ أُجْرَةَ السّكَنِ عَلَيْهَا وَإِنّمَا يَسْقُطُ السّكَنُ عَنْهَا لِعَجْزِهَا عَنْ أُجْرَتِهِ وَلِهَذَا صَرّحُوا بِأَنّهَا تَسْكُنُ فِي نَصِيبِهَا مِنْ التّرِكَةِ إنْ كَفَاهَا وَهَذَا لِأَنّهُ لَا سُكْنَى عِنْدِهِمْ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَإِنّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَلْزَمَ مَسْكَنَهَا الّذِي تُوُفّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ لَيْلًا لَا نَهَارًا فَإِنّ بَذَلَهُ لَهَا الْوَرَثَةُ وَإِلّا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهَا فَهَذَا تَحْرِيرُ مَذَاهِبِ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ فِيهَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَلَقَدْ أَصَابَ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظِيرُ مَا أَصَابَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْس ٍ فِي حَدِيثِهَا فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَازِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا أَمَرَهَا بِالِاعْتِدَادِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْمَنْزِلِ . وَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وُجُوبَ الْمَنْزِلِ وَأَفْتَتْ الْمُتَوَفّى عَنْهَا بِالِاعْتِدَادِ حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا أَنْكَرَتْ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَأَوْجَبَتْ السّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ . وَقَالَ بَعْضُ مَنْ نَازَغَ فِي حَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ قَدْ قُتِلَ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ [ ص 614 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَيَوْمَ مُؤْتَةَ وَغَيْرِهَا وَاعْتَدّ أَزْوَاجُهُمْ بَعْدَهُمْ فَلَوْ كَانَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْهُنّ تُلَازِمُ مَنْزِلَهَا زَمَنَ الْعُدّةِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَظْهَرْ الْأَشْيَاءِ وَأَبْيَنِهَا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ ابْنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ فَكَيْفَ خَفِيَ هَذَا عَلَيْهِمَا وَعَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الصّحَابَةِ الّذِينَ حَكَى أَقْوَالَهُمْ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ بِهِ اسْتِمْرَارًا شَائِعًا هَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ ثُمّ لَوْ كَانَتْ السّنّةُ جَارِيَةً بِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ الْفُرَيْعَةُ تَسْتَأْذِنُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا وَلَمّا أُذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ ثُمّ يَأْمُرُ بِرَدّهَا بَعْدَ ذَهَابِهَا وَيَأْمُرُهَا بِأَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُسْتَمِرّا ثَابِتًا لَكَانَ قَدْ نُسِخَ بِإِذْنِهِ لَهَا فِي اللّحَاقِ بِأَهْلِهَا ثُمّ نُسِخَ ذَلِكَ الْإِذْنُ بِأَمْرِهِ لَهَا بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا فَيُفْضِي إلَى تَغْيِيرِ الْحُكْمِ مَرّتَيْنِ وَهَذَا لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشّرِيعَةِ فِي مَوْضِعٍ مُتَيَقّنٍ . قَالَ الْآخَرُونَ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ رَدّ هَذِهِ السّنّةِ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ الّتِي تَلَقّاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَأَكَابِرُ الصّحَابَةِ بِالْقَبُولِ وَنَفّذَهَا عُثْمَانُ وَحَكَمَ بِهَا وَلَوْ كُنّا لَا نَقْبَلُ رِوَايَةَ النّسَاءِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَذَهَبَتْ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ أَنّهُ رَوَاهَا عَنْهُ إلّا النّسَاءُ وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْبَغِي وُجُوبُ الِاعْتِدَادِ فِي الْمَنْزِل حَتّى تَكُونَ السّنّةُ مُخَالِفَةً لَهُ بَلْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِحُكْمِ سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ وَمِثْلُ هَذَا لَا تُرَدّ بِهِ السّنَنُ وَهَذَا الّذِي حَذّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَيْنِهِ أَنْ تُتْرَكَ السّنّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ نَظِيرُ حُكْمِهَا فِي الْكِتَابِ . وَأَمّا تَرْكُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ - فَلَعَلّهُ لَمْ يَبْلُغْهَا وَلَوْ بَلَغَهَا فَلَعَلّهَا تَأَوّلَتْهُ وَلَوْ لَمْ تَتَأَوّلْهُ فَلَعَلّهُ قَامَ عِنْدَهَا مُعَارِضٌ لَهُ وَبِكُلّ حَالٍ فَالْقَائِلُونَ بِهِ فِي تَرْكِهِمْ لِتَرْكِهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ أَعْذَرُ مِنْ التّارِكِينَ لَهُ لِتَرْكِ أُمّ الْمُؤْمِنِين َ لَهُ فَبَيْنَ التّرْكَيْنِ فَرْقٌ عَظِيمٌ . وَأَمّا مَنْ قُتِلَ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَاتَ فِي حَيّاتِهِ فَلَمْ يَأْتِ قَطّ أَنّ نِسَاءَهُمْ كُنّ يَعْتَدِدْنَ حَيْثُ شِئْنَ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُنّ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ حَدِيثِ فُرَيْعَةَ الْبَتّةَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ السّنّةِ الثّابِتَةِ لِأَمْرِ لَا يُعْلَمُ كَيْفَ كَانَ وَلَوْ عُلِمَ أَنّهُنّ كُنّ يَعْتَدِدْنَ حَيْثُ [ ص 615 ] كَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذّمّةِ وَعَدَمَ الْوُجُوبِ . وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَالَ مُجَاهِدٌ : اُسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْنَ إنّا نَسْتَوْحِشُ يَا رَسُولَ اللّهِ بِاللّيْلِ فَنَبِيتُ عِنْدَ إحْدَانَا حَتّى إذَا أَصْبَحْنَا تَبَدّدْنَا فِي بُيُوتِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَدّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنّ مَا بَدَا لَكُنّ فَإِذَا أَرَدْتُنّ النّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُلّ امْرَأَةٍ إلَى بَيْتِهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَالظّاهِرُ أَنّ مُجَاهِدًا إمّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ تَابِعِيّ ثِقَةٍ أَوْ مِنْ صَحَابِيّ وَالتّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ مَعْرُوفًا فِيهِمْ وَهُمْ ثَانِي الْقُرُونِ الْمُفَضّلَةِ وَقَدْ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْهُمْ وَهُمْ خَيْرُ الْأُمّةِ بَعْدَهُمْ فَلَا يُظَنّ بِهِمْ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا الرّوَايَةُ عَنْ الْكَذّابِينَ وَلَا سِيّمَا الْعَالِمُ مِنْهُمْ إذَا جَزَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالرّوَايَةِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَ وَنَهَى فَيَبْعُدُ كُلّ الْبُعْدِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذّابًا أَوْ مَجْهُولًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَرَاسِيلِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَكُلّمَا تَأَخّرَتْ الْقُرُونَ سَاءَ الظّنّ بِالْمَرَاسِيلِ وَلَمْ يُشْهَدْ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا الْمُرْسَلِ وَحْدَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إحْدَادِ الْمُعْتَدّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ حُمَيْد بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثّلَاثَةَ قَالَت ْ زَيْنَبُ : دَخَلَتْ عَلَى أُمّ حَبِيبَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ تُوُفّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ أُمّ حَبِيبَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمّ مَسّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمّ قَالَتْ وَاَللّهِ مَالِي بِالطّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ [ ص 616 ] لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدّ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَتْ زَيْنَبُ : ثُمّ دَخَلَتْ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبِ فَمَسّتْ مِنْهُ ثُمّ قَالَتْ وَاَللّهِ مَالِي بِالطّيّبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدّ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ وَعَشْرًا قَالَتْ زَيْنَبُ : وَسَمِعْت أُمّي أُمّ سَلَمَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بِنْتِي تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا " مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ " لَا " ثُمّ قَالَ إنّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنّ فِي الْجَاهِلِيّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتّى يَمُرّ بِهَا سَنَةٌ ثُمّ تُؤْتَى بِدَابّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضّ بِهِ فَقَلّمَا تَفْتَضّ بِشَيْءِ إلّا مَاتَ ثُمّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةٌ فَتَرْمِي بِهَا ثُمّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ . قَالَ مَالِكٌ تَفْتَضّ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا أَنّ امْرَأَةً تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنّ تَكُونُ فِي شَرّ بَيْتِهَا أَوْ فِي شَرّ أَحْلَاسِهَا فِي بَيْتِهَا حَوْلًا فَإِذَا مَرّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةِ فَخَرَجَتْ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ ص 617 ] الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَمّ عَطِيّةَ الْأَنْصَارِيّةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُحِدّ الْمَرْأَةُ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلّا ثَوْبَ عَصَبٍ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسّ طِيبًا إلّا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثّيَابِ وَلَا الْمُمَشّقَةَ وَلَا الْحُلِيّ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ الضّحّاكِ يَقُولُ أَخْبَرَتْنِي أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ أَسِيدٍ عَنْ أُمّهَا أَنّ زَوْجَهَا تُوَفّي وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَيْهَا فَتَكْتَحِلُ بِالْجَلَاءِ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ رَحِمَهُ اللّهُ الصّوَابُ بِكُحْلِ الْجَلَاءِ فَأَرْسَلَتْ مُوَلّاةً لَهَا إلَى أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ فَقَالَتْ لَا تَكْتَحِلِي بِهِ إلّا مِنْ أَمْرٍ لَا بُدّ مِنْهُ يَشْتَدّ عَلَيْك [ ص 618 ] قَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ تُوُفّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنَيّ صَبْرًا فَقَالَ " مَا هَذَا يَا أُمّ سَلَمَةَ ؟ فَقُلْت : إنّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ . فَقَالَ " إنّهُ يَشُبّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلّا بِاللّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنّهَارِ وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطّيبِ وَلَا بِالْحِنّاءِ فَإِنّهُ خِضَابٌ " قَالَتْ قُلْت : بِأَيّ شَيْءٍ امْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ " بِالسّدْرِ تُغَلّفِينَ بِهِ رَأْسَك

[وُجُوبِ الْإِحْدَادِ وَجَوَازِهِ ]
وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنّةُ أَحْكَامًا عَدِيدَةً . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْدَادُ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلّا الزّوْجَ وَحْدَهُ . وَتَضَمّنَ الْحَدِيثُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِحْدَادَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ وَالْجِوَازِ فَإِنّ الْإِحْدَادَ عَلَى الزّوْجِ وَاجِبٌ وَعَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ .

[مُدّةُ الْإِحْدَادِ ]
الثّانِي : مِنْ مِقْدَارِ مُدّةِ الْإِحْدَادِ فَالْإِحْدَادُ عَلَى الزّوْجِ عَزِيمَةٌ وَعَلَى غَيْرِهِ رُخْصَةٌ وَأَجْمَعَتْ الْأُمّةُ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا إلّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ . أَمّا الْحَسَنُ فَرَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْد عَنْهُ أَنّ الْمُطَلّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَكْتَحِلَانِ وَتَمْتَشِطَانِ وَتَتَطَيّبَانِ وَتَخْتَضِبَانِ وَتَنْتَقِلَانِ وَتَصْنَعَانِ مَا شَاءَتَا وَأَمّا الْحَكَمُ فَذَكَرَ عَنْهُ شُعْبَةُ : أَنّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا لَا تُحِدّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَاحْتَجّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثُمّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ السّلَامِ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدّثْنَا شُعْبَةُ حَدّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 619 ] قَالَ لِامْرَأَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا كَانَ ثَلَاثَةُ أَيّامٍ فَالْبَسِي مَا شِئْت أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ شُعْبَةُ شَكّ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدّثَنَا الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَدّادٍ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ اسْتَأْذَنَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَبْكِيَ عَلَى جَعْفَرٍ وَهِيَ امْرَأَتُهُ فَأَذِنَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ثُمّ بَعَثَ إلَيْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ أَنْ تَطَهّرِي وَاكْتَحِلِي قَالُوا : وَهَذَا نَاسِخٌ لِأَحَادِيثِ الْإِحْدَادِ لِأَنّهُ بَعْدَهَا فَإِنّ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا رَوَتْ حَدِيثَ الْإِحْدَادِ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهَا بِهِ إثْرَ مَوْتِ أَبِي سلمَةَ وَلَا خِلَافَ أَنّ مَوْتَ أَبِي سَلَمَةَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . وَأَجَابَ النّاسُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ فَإِنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا رَآهُ فَكَيْفَ يُقَدّمُ حَدِيثُهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الْمُسْنَدَةِ الّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا ؟ وَفِي الْحَدِيثِ الثّانِي : الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَلَا يُعَارِضُ بِحَدِيثِهِ حَدِيثَ الْأَئِمّةِ الْأَثْبَاتِ الّذِينَ هُمْ فُرْسَانُ الْحَدِيثِ .

فَصْلٌ [ تَبَعِيّةُ الْإِحْدَادِ لِلْعِدّةِ ]
الْحُكْمُ الثّانِي : إنّ الْإِحْدَادَ تَابِعٌ لِلْعِدّةِ بِالشّهُورِ أَمّا الْحَامِلُ فَإِذَا انْقَضَى حَمْلُهَا سَقَطَ وُجُوبُ الْإِحْدَاد عَنْهَا اتّفَاقًا فَإِنّ لَهَا أَنْ تَتَزَوّجَ وَتَتَجَمّلَ وَتَتَطَيّبَ لَزَوْجِهَا وَتَتَزَيّنَ لَهُ مَا شَاءَتْ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا زَادَتْ مُدّةُ الْحَمْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَهَلْ يَسْقُطُ وُجُوبُ الْإِحْدَادِ أَمْ يَسْتَمِرّ إلَى حِينِ الْوَضْعِ ؟ قِيلَ بَلْ يَسْتَمِرّ الْإِحْدَادُ إلَى حِينِ الْوَضَعِ فَإِنّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْعِدّةِ وَلِهَذَا قُيّدَ بِمُدّتِهَا وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدّةِ [ ص 620 ] فَكَانَ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا .

فَصْلٌ [تَسْتَوِي الزّوْجَاتُ بِالْإِحْدَادِ حَتّى الْكَافِرَةُ وَالْأَمَةُ وَالصّغِيرَةُ ]
الْحُكْمُ الثّالِثُ أَنّ الْإِحْدَادَ تَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الزّوْجَاتِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ وَالْحُرّةِ وَالْأَمَةِ الصّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٍ . إلّا أَنّ أَشْهَبَ وَابْنَ نَافِعٍ قَالَا لَا إحْدَادَ عَلَى الذّمّيّةِ رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا إحْدَادَ عِنْدَهُ عَلَى الصّغِيرَةِ . وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ الْإِحْدَادَ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرَةُ وَلِأَنّهَا غَيْرُ مُكَلّفَةٍ بِأَحْكَامِ الْفُرُوعِ . قَالُوا : وَعُدُولُهُ عَنْ اللّفْظِ الْعَامّ الْمُطْلَقِ إلَى الْخَاصّ الْمُقَيّدِ بِالْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ وَوَاجِبَاتِهِ فَكَأَنّهُ قَالَ مَنْ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ فَهَذَا مِنْ شَرَائِعِهِ وَوَاجِبَاتِهِ . وَالتّحْقِيقُ أَنّ نَفْيَ حِلّ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ حُكْمِهِ عَنْ الْكُفّارِ وَلَا إثْبَاتَ لَهُمْ أَيْضًا وَإِنّمَا يَقْتَضِي أَنّ مَنْ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ وَشَرَائِعَهُ فَهَذَا لَا يَحِلّ لَهُ وَيَجِبُ عَلَى كُلّ حَالٍ أَنْ يَلْزَمَ الْإِيمَانَ وَشَرَائِعَهُ وَلَكِنْ لَا يُلْزِمُهُ الشّارِعُ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ إلّا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ وَهَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتْرُكَ الصّلَاةَ وَالْحَجّ وَالزّكَاةَ فَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ ذَلِكَ حِلّ لِلْكَافِرِ وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتّقِينَ فَلَا يَدُلّ أَنّهُ يَنْبَغِي لِغَيْرِهِمْ . وَكَذَا قَوْلُهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعّانًا وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ شَرَائِعَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْإِيجَابِ إنّمَا شُرِعَتْ لِمَنْ الْتَزَمَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَخُلّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ فَإِنّهُ يُخَلّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ [ ص 621 ] أَصْلِهِ مَا لَمْ يُحَاكِمْ إلَيْنَا وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ عُذْرُ الّذِينَ أَوْجَبُوا الْإِحْدَادَ عَلَى الذّمّيّةِ أَنّهُ يَتَعَلّقُ بِهِ حَقّ الزّوْجِ الْمُسْلِمِ وَكَانَ مِنْهُ إلْزَامُهَا بِهِ كَأَصْلِ الْعُدّةِ وَلِهَذَا لَا يُلْزِمُونَهَا بِهِ فِي عِدّتِهَا مِنْ الذّمّيّ وَلَا يُتَعَرّضُ لَهَا فِيهَا فَصَارَ هَذَا كَعُقُودِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهُمْ يُلْزِمُونَ فِيهَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرّضْ لِعُقُودِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمَنْ يُنَازِعُهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ الْإِحْدَادُ حَقّ لِلّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَوْ اتّفَقَتْ هِيَ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْمُتَوَفّى عَلَى سُقُوطِهِ بِأَنْ أَوْصَاهَا بِتَرْكِهِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَزِمَهَا الْإِتْيَانُ بِهِ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْعِبَادَاتِ وَلَيْسَتْ الذّمّيّةُ مِنْ أَهْلِهَا فَهَذَا سِرّ الْمَسْأَلَةِ .

فَصْلٌ [ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا أُمّ الْوَلَدِ ]
الْحُكْمُ الرّابِعُ أَنّ الْإِحْدَادَ لَا يَجِبُ عَلَى الْأُمّةِ وَلَا أُمّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيّدُهُمَا لِأَنّهُمَا لَيْسَا بِزَوْجَيْنِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لَهُمَا أَنْ تُحِدّا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ؟ قِيلَ نَعَمْ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنّ النّصّ إنّمَا حَرّمَ الْإِحْدَادَ فَوْقَ الثّلَاثِ عَلَى غَيْرِ الزّوْجِ وَأَوْجَبَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى الزّوْجِ فَدَخَلَتْ الْأَمَةُ وَأُمّ الْوَلَدِ فِيمَنْ يَحِلّ لَهُنّ الْإِحْدَادُ لَا فِيمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِنّ وَلَا فِيمَنْ يَجِبُ .

[لَا إحْدَادَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى أَوْ اسْتِبْرَاءِ إحْدَادٍ ؟ قُلْنَا : هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ أَنّهُ لَا إحْدَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لِأَنّ السّنّةَ أَثْبَتَتْ وَنَفَتْ فَخَصّتْ بِالْإِحْدَادِ الْوَاجِبِ الزّوْجَاتِ وَبِالْجَائِزِ غَيْرَهُنّ عَلَى الْأَمْوَاتِ خَاصّةً وَمَا عَدَاهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التّحْرِيمِ عَلَى الْأَمْوَاتِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ دُخُولُهُ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلّقَةِ الْبَائِنِ ؟ وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْإِمَامُ أَحْمَد ُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيّ إنّ الْبَائِنَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ وَهُوَ [ ص 622 ] الْقِيَاسِ لِأَنّهَا مُعْتَدّةٌ بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ كَالْمُتَوَفّى عَنْهَا لِأَنّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْعِدّةِ وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهَا وَلِأَنّ الْعِدّةَ تُحَرّمُ النّكَاحَ فَحَرُمَتْ دَوَاعِيَهُ . قَالُوا : وَلَا رَيْبَ أَنّ الْإِحْدَادَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنّ إظْهَارَ الزّينَةِ وَالطّيبِ وَالْحُلِيّ مِمّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إلَى الرّجَالِ وَيَدْعُو الرّجَالُ إلَيْهَا : فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَكْذِبَ فِي انْقِضَاءِ عِدّتِهَا اسْتِعْجَالًا لِذَلِكَ فَمُنِعَتْ مِنْ دَوَاعِي ذَلِكَ وَسَدّتْ إلَيْهِ الذّرِيعَةَ هَذَا مَعَ أَنّ الْكَذِبَ فِي عِدّةِ الْوَفَاةِ يَتَعَذّرُ غَالِبًا بِظُهُورِ مَوْتِ الزّوْجِ وَكَوْنِ الْعِدّةِ أَيّامًا مَعْدُودَةً بِخِلَافِ عِدّةِ الطّلَاقِ فَإِنّهَا بِالْأَقْرَاءِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلّا مِنْ جِهَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ لَهَا أَوْلَى . قِيلَ قَدْ أَنْكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ حَرّمَ زِينَتَهُ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنْ الرّزْقِ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرّمَ مِنْ الزّينَةِ إلّا مَا حَرّمَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرّمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زِينَةَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا مُدّةَ الْعِدّةِ وَأَبَاحَ رَسُولُهُ الْإِحْدَادَ بِتَرْكِهَا عَلَى غَيْرِ الزّوْجِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمٌ غَيْرَ مَا حَرّمَهُ بَلْ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ الْإِحْدَادُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِدّةِ وَلَا تَوَابِعِهَا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ وَلَا الْمَزْنِيّ بِهَا وَلَا الْمُسْتَبْرَأَةِ وَلَا الرّجْعِيّةِ اتّفَاقًا وَهَذَا الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا لِمَا بَيْنَ الْعِدّتَيْنِ مِنْ الْقُرُوءِ قَدَرًا أَوْ سَبَبًا وَحُكْمًا فَإِلْحَاقُ عِدّةِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَقْرَاءِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِ عِدّةِ الْأَقْرَاءِ بِعِدّةِ الْوَفَاةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى الزّوْجِ الْمَيّتِ مُجَرّدَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْجَالِ فَإِنّ الْعُدّةَ فِيهِ لَمْ تَكُنْ لِمُجَرّدِ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ وَلِهَذَا تَجِبُ قَبْلَ الدّخُولِ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَإِظْهَارِ خَطَرِهِ وَشَرَفِهِ وَأَنّهُ عِنْدَ اللّهِ بِمَكَانِ فَجُعِلَتْ الْعُدّةُ حَرِيمًا لَهُ وَجُعِلَ الْإِحْدَادُ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَتَأَكّدِهِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ حَتّى جُعِلَتْ الزّوْجَةُ أَوْلَى بِفِعْلِهِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَبِيهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَسَائِرِ أَقَارِبِهَا وَهَذَا مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَتَشْرِيفِهِ وَتَأَكّدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّفَاحِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَلِهَذَا شُرِعَ فِي ابْتِدَائِهِ إعْلَانُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالضّرْبُ بِالدّفّ لِتَحَقّقِ الْمُضَادّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّفَاحِ وَشَرَعَ فِي [ ص 623 ] الْعِدّةِ وَالْإِحْدَادِ مَا لَمْ يُشَرّعْ فِي غَيْرِهِ .

فَصْلٌ [الْخِصَالُ الّتِي تَجْتَنِبُهَا الْحَادّةُ ]
الْحُكْمُ السّادِسُ فِي الْخِصَالِ الّتِي تَجْتَنِبُهَا الْحَادّةُ وَهِيَ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا النّصّ دُونَ الْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ الّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ . الطّيبُ أَحَدُهَا : الطّيبُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ لَا تَمَسّ طِيبًا وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْإِحْدَادَ وَلِهَذَا لَمّا خَرَجَتْ أُمّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا مِنْ إحْدَادِهَا عَلَى أَبِيهَا أَبِي سُفْيَان َ دَعَتْ بِطِيبِ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمّ مَسّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَيَدْخُلُ فِي الطّيبِ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ وَالْكَافُورُ وَالنّدّ وَالْغَالِيَةُ وَالزّبَاد وَالذّرِيرَةُ وَالْبُخُورُ وَالْأَدْهَانُ الْمُطَيّبَةُ كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْمِيَاهِ الْمُعْتَصِرَةِ مِنْ الْأَدْهَانِ الطّيّبَةِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الْقُرُنْفُلِ وَمَاءِ زَهْرِ النّارِنْجِ فَهَذَا كُلّهُ طِيبٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزّيْتُ وَلَا الشّيْرَجُ وَلَا السّمْنُ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَدْهَانِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ .

فَصْلٌ [ تَجْتَنِبُ الْحَادّةُ الزّينَةَ فِي بَدَنِهَا ]
الْحُكْمُ السّابِعُ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . أَحَدُهَا : الزّينَةُ فِي بُدْنِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الْخِضَابُ وَالنّقْشُ وَالتّطْرِيفُ وَالْحُمْرَةُ والاسفيداج فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَصّ عَلَى الْخِضَابِ مُنَبّهًا بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الّتِي هِيَ أَكْثَرُ زِينَةً مِنْهُ وَأَعْظَمُ فِتْنَةً وَأَشَدّ مُضَادّةً لِمَقْصُودِ الْإِحْدَادِ وَمِنْهَا : الْكُحْلُ وَالنّهْيُ عَنْهُ ثَابِتٌ بِالنّصّ بِالصّرِيحِ الصّحِيحِ . ثُمّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ : لَا تَكْتَحِلُ وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهَا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَيُسَاعِدُ قَوْلَهُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ الْمُتّفَقُ عَلَيْهِ أَنّ امْرَأَةً تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَمَا أَذِنَ فِيهِ بَلْ قَالَ " لَا " مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ الْإِحْدَادِ الْبَلِيغِ سَنَةً وَيَصْبِرْنَ عَلَى ذَلِكَ أَفَلَا [ ص 624 ] وَلَا رَيْبَ أَنّ الْكُحْلَ مِنْ أَبْلَغِ الزّينَةِ فَهُوَ كَالطّيبِ أَوْ أَشَدّ مِنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ الشّافِعِيّةِ : لِلسّوْدَاءِ أَنْ تَكْتَحِلَ وَهَذَا تَصَرّفٌ مُخَالِفٌ لِلنّصّ وَالْمَعْنَى وَأَحْكَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُفَرّقُ بَيْنَ السّودِ وَالْبِيضِ كَمَا لَا تُفَرّقُ بَيْنَ الطّوّالِ وَالْقِصَارِ وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ بِالرّأْيِ الْفَاسِدِ الّذِي اشْتَدّ نَكِيرُ السّلَفِ لَهُ وَذَمّهُمْ إيّاهُ . وَأَمّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَة َ وَالشّافِعِيّ وَأَصْحَابِهِمْ فَقَالُوا : إنْ اُضْطُرّتْ إلَى الْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ تَدَاوَيَا لَا زِينَةَ فَلَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا وَحُجّتُهُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدّمُ رَضِيَ اللّه عَنْهَا فَإِنّهَا قَالَتْ فِي كُحْلِ الْجَلَاءِ لَا تَكْتَحِلُ إلّا لِمَا لَا بُدّ مِنْهُ يَشْتَدّ عَلَيْكِ فَتَكْتَحِلِينَ بِاللّيْلِ وَتَغْسِلِينَهُ بِالنّهَارِ وَمِنْ حُجّتِهِمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا الْآخَرُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَيْهَا صَبْرًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا أُمّ سَلَمَةَ ؟ فَقُلْت : صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَقَالَ إنّهُ يُشِبّ الْوَجْهَ فَقَالَ " لَا تَجْعَلِيهِ إلّا بِاللّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنّهَارِ وَهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَرّقَهُ الرّوَاةُ وَأَدْخَلَ مَالِكٌ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهُ فِي " مُوَطّئِهِ " بَلَاغًا وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي " التّمْهِيدِ " لَهُ طُرُقًا يَشُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَكْفِي احْتِجَاجُ مَالِكٍ بِهِ وَأَدْخَلَهُ أَهْلُ السّنَنِ فِي كُتُبِهِمْ وَاحْتَجّ بِهِ الْأَئِمّةُ وَأَقَلّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَلَكِنْ حَدِيثُهَا هَذَا مُخَالِفٌ فِي الظّاهِرِ لِحَدِيثِهَا الْمُسْنَدِ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ فَإِنّهُ يَدُلّ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا لَا تَكْتَحِلُ بِحَالِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُشْتَكِيَةِ عَيْنَهَا فِي الْكُحْلِ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا مِنْ ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَقَالَ " لَا " مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ إلّا أَنْ تُضْطَرّ . وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيّةَ ابْنَةِ عُبَيْدٍ أَنّهَا اشْتَكَتْ عَيْنَهَا وَهِيَ حَادّ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَرْمَصَان [ ص 625 ] قَالَ أَبُو عُمَر َ وَهَذَا عِنْدِي وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِحَدِيثِهَا الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَتِهِ بِاللّيْلِ وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " لَا " مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنّ تَرْتِيبَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنّ الشّكَاةَ الّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا لَمْ تَبْلُغْ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْهَا مَبْلَغًا لَا بُدّ لَهَا فِيهِ مِنْ الْكُحْلِ فَلِذَلِكَ نَهَاهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً مُضْطَرّةً تَخَافُ ذَهَابَ بَصَرِهَا لَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ بِاَلّتِي قَالَ لَهَا : اجْعَلِيهِ بِاللّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنّهَارِ وَالنّظَرُ يَشْهَدُ لِهَذَا التّأْوِيلِ لِأَنّ الضّرُورَاتِ تَنْقُلُ الْمَحْظُورَاتِ إلَى حَالِ الْمُبَاحِ فِي الْأُصُولِ وَلِهَذَا جَعَلَ مَالِكٌ فَتْوَى أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي الْكُحْلِ لِأَنّ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا رَوَتْهُ وَمَا كَانَتْ لِتُخَالِفَهُ إذَا صَحّ عِنْدَهَا وَهِيَ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَالنّظَرُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ لِأَنّ الْمُضْطَرّ إلَى شَيْءٍ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمُرَفّهِ الْمُتَزَيّنِ بِالزّينَةِ وَلَيْسَ الدّوَاءُ وَالتّدَاوِي مِنْ الزّينَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنّمَا نُهِيَتْ الْحَادّةُ عَنْ الزّينَةِ لَا عَنْ التّدَاوِي وَأُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَعْلَمُ بِمَا رَوَتْ مَعَ صِحّتِهِ فِي النّظَرِ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " مُوَطّئِهِ " أَنّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَرْأَةِ يُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا : إنّهَا إذَا خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا مِنْ رَمَدٍ بِعَيْنَيْهَا أَوْ شَكْوَى أَصَابَتْهَا أَنّهَا تَكْتَحِلُ وَتَتَدَاوَى بِالْكُحْلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ لِأَنّ الْقَصْدَ إلَى التّدَاوِي لَا إلَى التّطَيّبِ وَالْأَعْمَالِ بِالنّيّاتِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ الصّبْرُ يُصَفّرُ فَيَكُونُ زِينَةً وَلَيْسَ بِطِيبِ وَهُوَ كُحْلُ الْجَلَاءِ فَأَذِنَتْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لِلْمَرْأَةِ بِاللّيْلِ حَيْثُ لَا تَرَى وَتَمْسَحُهُ بِالنّهَارِ حَيْثُ يَرَى وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : وَإِنّمَا تُمْنَعُ الْحَادّةُ مِنْ الْكُحْلِ [ ص 626 ] وَنَحْوِهِمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ بَلْ يُقَبّحُ الْعَيْنَ وَيَزِيدُهَا مَرّهَا . قَالَ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصّبِرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا مِنْ بَدَنِهَا لِأَنّهُ إنّمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْوَجْهِ لِأَنّهُ يُصَفّرُهُ فَيُشْبِهُ الْخِضَابَ فَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ يُشِبّ الْوَجْهَ قَالَ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الشّعْرِ الْمَنْدُوبِ إلَى حَلْقِهِ وَلَا مِنْ الِاغْتِسَالِ بِالسّدْرِ وَالِامْتِشَاطِ بِهِ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَلِأَنّهُ يُرَادُ لِلتّنْظِيفِ لَا لِلتّطَيّبِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ النّيْسَابُورِيّ فِي " مَسَائِلِهِ " قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا تَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ إذَا أَرَادَتْ اكْتَحَلَتْ بِالصّبِرِ إذَا خَافَتْ عَلَى عَيْنِهَا وَاشْتَكَتْ شَكْوَى شَدِيدَةً .

فَصْلٌ [تَجْتَنِبُ الْحَادّةُ زِينَةَ الثّيَابِ ]
النّوْعُ الثّانِي : زِينَةُ الثّيَابِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا مَا نَهَاهَا عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْهُ وَمَا هُوَ مِثْلُهُ . وَقَدْ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ " وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا " . وَهَذَا يَعُمّ الْمُعَصْفَرَ وَالْمُزَعْفَرَ وَسَائِرَ الْمَصْبُوغِ بِالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ وَالْأَزْرَقِ الصّافِي وَكُلّ مَا يُصْبَغُ لِلتّحْسِينِ وَالتّزْيِينِ . وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثّيَابِ وَلَا الْمُمَشّقَ وَهَهُنَا نَوْعَانِ آخَرَانِ . أَحَدُهُمَا : مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ مَا نُسِجَ مِنْ الثّيَابِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ صَبْغٌ مِنْ خَزّ أَوْ قَزّ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتّانٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعَرٍ أَوْ صَبْغٍ غَزَلَهُ وَنُسِجَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبُرُودِ . وَالثّانِي : مَا لَا يُرَادُ بِصَبْغِهِ الزّينَةُ مِثْلَ السّوَادِ وَمَا صُبِغَ لِتَقْبِيحِ أَوْ لِيَسْتُرَ الْوَسَخَ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فِي الثّيَابِ زَيّنَتَانِ . إحْدَاهُمَا : جَمَالُ الثّيَابِ عَلَى اللّابِسِينَ وَالسّتْرَةُ لِلْعَوْرَةِ . فَالثّيَابُ زِينَةٌ لِمَنْ يَلْبَسُهَا وَإِنّمَا نُهِيَتْ الْحَادّةُ عَنْ زِينَةِ بَدَنِهَا وَلَمْ تُنْهَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَتِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ كُلّ ثَوْبٍ مِنْ الْبَيَاضِ لِأَنّ [ ص 627 ] كَانَ مِنْ زِينَةٍ أَوْ وَشْيٍ فِي ثَوْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تَلْبَسُهُ الْحَادّةُ وَذَلِكَ لِكُلّ حُرّةٍ أَوْ أَمَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمّيّةٍ . انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَقَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فِي هَذَا الْبَابِ نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَلْبَسُ ثَوْبَ عَصَبٍ وَلَا خَزّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَصْبُوغًا إذَا أَرَادَتْ بِهِ الزّينَةَ وَإِنْ لَمْ تُرِدْ بِلَبْسِ الثّوْبِ الْمَصْبُوغِ الزّينَةَ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَهُ . وَإِذَا اشْتَكَتْ عَيْنَهَا اكْتَحَلَتْ بِالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَشْتَكِ عَيْنَهَا لَمْ تَكْتَحِلْ .

فَصْلٌ
وَأَمّا الْإِمَامُ أَحْمَد ُ رَحِمَهُ اللّه فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَلَا تَتَزَيّنُ الْمُعْتَدّةُ وَلَا تَتَطَيّبُ بِشَيْءِ مِنْ الطّيّبِ وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلِ زِينَةٍ وَتَدّهِنُ بِدُهْنِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ وَلَا تَقْرَبُ مِسْكًا وَلَا زَعْفَرَانًا لِلطّيبِ وَالْمُطَلّقَةُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ تَتَزَيّنُ وَتَتَشَوّفُ لَعَلّهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا . وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي " مَسَائِلِهِ " : سَأَلْتُ أَحْمَدَ قَالَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُحْرِمَةُ يَجْتَنِبْنَ الطّيبَ وَالزّينَةَ . وَقَالَ حَرْبٌ فِي " مَسَائِلِهِ " : سَأَلْتُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللّه قُلْت : الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلّقَةُ هَلْ تَلْبَسَانِ الْبُرُدَ لَيْسَ بِحَرِيرٍ ؟ فَقَالَ لَا تَتَطَيّبُ الْمُتَوَفّى عَنْهَا وَلَا تَتَزَيّنُ بِزِينَةِ وَشَدّدَ فِي الطّيبِ إلّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا عِنْدَ طُهْرِهَا . ثُمّ قَالَ وَشُبّهَتْ الْمُطَلّقَةُ ثَلَاثًا بِالْمُتَوَفّى عَنْهَا لِأَنّهُ لَيْسَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ ثُمّ سَاقَ حَرْبٌ بِإِسْنَادِهِ إلَى أُمّ سَلَمَةَ قَالَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثّيَابِ وَلَا [ ص 628 ] وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَتَطَيّبُ وَلَا تَمْتَشِطُ بِطَيّبٍ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ النّيْسَابُورِيّ فِي " مَسَائِلِهِ " : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ تَنْتَقِبُ فِي عِدّتِهَا أَوْ تَدْهُنُ فِي عِدّتِهَا ؟ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ وَإِنّمَا كُرِهَ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَتَزَيّنَ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ : كُلّ دُهْنٍ فِيهِ طِيبٌ فَلَا تُدْهِنُ بِهِ فَقَدْ دَارَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللّهُ عَلَى أَنّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ مِنْ الثّيَابِ مَا كَانَ مِنْ لِبَاسِ الزّينَةِ مِنْ أَيّ نَوْعٍ كَانَ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ قَطْعًا فَإِنّ الْمَعْنَى الّذِي مُنِعَتْ مِنْ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُمَشّقِ لِأَجْلِهِ مَفْهُومٌ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَصّهُ بِالذّكْرِ مَعَ الْمَصْبُوغِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُوَ مِثْلُهُ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ فَإِذَا كَانَ الْأَبْيَضُ وَالْبُرُودُ الْمُحَبّرَةُ الرّفِيعَةُ الْغَالِيَةُ الْأَثْمَان مِمّا يُرَادُ لِلزّينَةِ لِارْتِفَاعِهِمَا وَتَنَاهِي جَوْدَتِهِمَا كَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الثّوْبِ الْمَصْبُوغِ . وَكُلّ مِنْ عَقَلَ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَسْتَرِبْ فِي ذَلِكَ لَا كَمَا قَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ : إنّهَا تَجْتَنِبُ الثّيَابَ الْمَصْبَغَةَ فَقَطّ وَمُبَاحٌ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ حَرِيرٍ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ مِنْ لَوْنِهِ الّذِي لَمْ يُصْبَغْ وَصُوفِ الْبَحْرِ الّذِي هُوَ لَوْنُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمُبَاحٌ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْمَنْسُوجَ بِالذّهَبِ وَالْحُلِيّ كُلّهِ مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْجَوْهَرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزّمُرّدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَهِيَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ تَجْتَنِبُهَا فَقَطْ وَهِيَ الْكُحْلُ كُلّهُ لِضَرُورَةِ أَوْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهَا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَتَجْتَنِبُ فَرْضًا كُلّ ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ مِمّا يُلْبَسُ فِي الرّأْسِ وَالْجَسَدِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ السّوَادُ وَالْخُضْرَةُ وَالْحُمْرَةُ وَالصّفْرَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إلّا الْعَصَبَ وَحْدَهُ وَهِيَ ثِيَابٌ مُوَشّاةٌ تُعْمَلُ فِي الْيَمَنِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَهَا . وَتَجْتَنِبُ أَيْضًا : فَرْضًا الْخِضَابَ كُلّهُ جُمْلَةً وَتَجْتَنِبُ الِامْتِشَاطَ حَاشَا التّسْرِيحَ بِالْمُشْطِ فَقَطْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهَا وَتَجْتَنِبُ أَيْضًا : فَرْضًا الطّيبَ كُلّهُ وَلَا تَقْرَبُ شَيْئًا حَاشَا شَيْئًا مِنْ قِسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ عِنْدَ طُهْرِهَا فَقَطْ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ الّتِي ذَكَرَهَا حَكَيْنَا كَلَامَهُ فِيهَا بِنَصّهِ .

[الرّدّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي تَضْعِيفِهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ ]
وَلَيْسَ بِعَجِيبِ مِنْهُ تَحْرِيمُ لُبْسِ ثَوْبٍ أَسْوَدَ عَلَيْهَا مِنْ الزّينَةِ فِي شَيْءٍ وَإِبَاحَةُ ثَوْب يَتّقِدُ ذَهَبًا وَلُؤْلُؤًا وَجَوْهَرًا وَلَا تَحْرِيمُ الْمَصْبُوغِ الْغَلِيظِ لِحَمْلِ الْوَسَخِ [ ص 629 ] وَبَهَاؤُهُ وَرُوَاؤُهُ وَإِنّمَا الْعَجَبُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا دِينُ اللّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَنّهُ لَا يَحِلّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا إقْدَامُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَدِيثِ الصّحِيحِ فِي نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا عَنْ لِبَاسِ الْحُلِيّ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنّهُ ذَكَرَ الْخَبَرَ بِذَلِكَ ثُمّ قَالَ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحّ لَقُلْنَا بِهِ فَلِلّهِ مَا لَقِيَ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ مِنْ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ وَهُوَ مِنْ الْحُفّاظِ الْأَثْبَاتِ الثّقَاتِ الّذِينَ اتّفَقَ الْأَئِمّةُ السّتّةُ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِهِ وَاتّفَقَ أَصْحَابُ الصّحِيحِ وَفِيهِمْ الشّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ وَشَهِدَ لَهُ الْأَئِمّةُ بِالثّقَةِ وَالصّدْقِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيهِ جَرْحٌ وَلَا خَدْشٌ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُحَدّثِينَ قَطّ تَعْلِيلُ حَدِيثٍ رَوَاهُ وَلَا تَضْعِيفُهُ بِهِ . وَقُرِئَ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي الْحَجّاجِ الْحَافِظِ فِي " التّهْذِيبِ " وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ إ بْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْخُرَاسَانِيّ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيّ وُلِدَ بِهَرَاةَ وَسَكَنَ نَيْسَابُورَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدّثَ بِهَا ثُمّ سَكَنَ بِمَكّةَ حَتّى مَاتَ بِهَا ثُمّ ذَكَرَ عَمّنْ رَوَى وَمَنْ رَوَى عَنْهُ ثُمّ قَالَ قَالَ نُوحُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمَرْوَزِيّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ صَحِيحُ الْحَدِيثِ وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي حَاتِمٍ : ثِقَةٌ وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْعِجْلِيّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَدُوقٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيّ : كَانَ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ ثُمّ لَمْ تَزَلْ الْأَئِمّةُ يَشْتَهُونَ حَدِيثَهُ وَيَرْغَبُونَ فِيهِ وَيُوَثّقُونَهُ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : ثِقَةٌ . وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : كَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ حَسَنَ الرّوَايَةِ كَثِيرَ السّمَاعِ مَا كَانَ بِخُرَاسَانَ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنْهُ وَهُوَ ثِقَةٌ وَرَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي : كَانَ مِنْ أَنْبَلِ مَنْ حَدّثَ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَأَوْثَقِهِمْ وَأَوْسَعِهِمْ عِلْمًا . وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتّينَ وَمِائَةٍ بِمَكّةَ وَلَمْ يُخْلِفْ مِثْلَهُ . [ ص 630 ] أَفْتَى الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ بِمَا هُوَ مُطَابِقٌ لِهَذِهِ النّصُوصِ وَكَاشِفٌ عَنْ مَعْنَاهَا وَمَقْصُودِهَا فَصَحّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَتَطَيّبُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَلَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَلَا بُرُدًا وَلَا تَتَزَيّنُ بِحُلِيّ وَلَا تَلْبَسُ شَيْئًا تُرِيدُ بِهِ الزّينَةَ وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلِ تُرِيدُ بِهِ الزّينَةَ إلّا أَنْ تَشْتَكِيَ عَيْنَهَا وَصَحّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : وَلَا تَمَسّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا طِيبًا وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلّا ثَوْبَ عَصَبٍ تَتَجَلْبَبُ بِهِ وَصَحّ عَنْ أُمّ عَطِيّةَ : لَا تَلْبَسُ الثّيَابَ الْمُصَبّغَةَ إلّا الْعَصَبَ وَلَا تَمَسّ طِيبًا إلّا أَدْنَى الطّيبِ بِالْقُسْطِ وَالْأَظْفَارِ وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلِ زِينَةٍ وَصَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّهُ قَالَ تَجْتَنِبُ الطّيبَ وَالزّينَةَ وَصَحّ عَنْ أُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللّه عَنْهَا : لَا تَلْبَسُ مِنْ الثّيَابِ الْمُصَبّغَةِ شَيْئًا وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَلْبَسُ حُلِيّا وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَتَطَيّبُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : لَا تَلْبَسُ مُعَصْفَرًا وَلَا تَقْرَبُ طِيبًا وَتَكْتَحِلُ وَتَلْبَسُ حُلِيّا وَتَلْبَسُ إنْ شَاءَتْ ثِيَابَ الْعَصْبِ

فَصْلٌ [هَلْ تَجْتَنِبُ الْحَادّةُ النّقَابَ ]
وَأَمّا النّقَابُ فَقَالَ الْخِرَقِيّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : وَتَجْتَنِبُ الزّوْجَةُ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا الطّيبَ وَالزّينَةَ وَالْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا وَالْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ وَالنّقَابَ . وَلَمْ أَجِدْ بِهَذَا نَصّا عَنْ أَحْمَدَ . وَقَدْ قَالَ إسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ فِي " مَسَائِلِهِ " : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ [ ص 631 ] عِدّتِهَا أَوْ تُدْهِنُ فِي عِدّتِهَا ؟ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ وَإِنّمَا كُرِهَ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَتَزَيّنَ . وَلَكِنْ قَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي " مَسَائِلِهِ " عَنْ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُحْرِمَةِ تَجْتَنِبْنَ الطّيبَ وَالزّينَةَ . فَجُعِلَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْرِمَةِ فِيمَا تَجْتَنِبُهُ فَظَاهِرُ هَذَا أَنّهَا تَجْتَنِبُ النّقَابَ فَلَعَلّ أَبَا الْقَاسِمِ أَخَذَ مِنْ نَصّهِ هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَبِهَذَا عَلّلَهُ أَبُو مُحَمّدٍ فِي " الْمُغْنِي " فَقَالَ فَصْلٌ الثّالِثُ فِيمَا تَجْتَنِبُهُ الْحَادّةُ النّقَابَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلَ الْبُرْقُعِ وَنَحْوِهِ لِأَنّ الْمُعْتَدّةَ مُشَبّهَةٌ بِالْمُحْرِمَةِ وَالْمُحْرِمَةُ تَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا احْتَاجَتْ إلَى سَتْرِ وَجْهِهَا سُدِلَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ الْمُحْرِمَةُ .

فَصْلٌ هَلْ تَلْبَسُ الْحَادّةُ الثّوْبَ إذَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمّ نُسِجَ ؟
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الثّوْبِ إذَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمّ نُسِجَ هَلْ لَهَا لَبْسُهُ ؟ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ وَهُمَا احْتِمَالَانِ فِي الْمُغْنِي أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ لَبْسُهُ لِأَنّهُ أَحْسَنُ وَأَرْفَعُ وَلِأَنّهُ مَصْبُوغٌ لِلْحَسَنِ فَأَشْبَهُ مَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ وَالثّانِي : لَا يَحْرُمُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إلّا ثَوْبَ عَصْبٍ وَهُوَ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نَسْجِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي قَالَ الشّيْخُ وَالْأَوّلُ أَصَحّ وَأَمّا الْعَصْبُ فَالصّحِيحُ أَنّهُ نَبْتٌ تُصْبَغُ بِهِ الثّيَابُ قَالَ السّهَيْلِيّ الْوَرْسُ وَالْعَصْبُ نَبَتَانِ بِالْيَمَنِ لَا يَنْبُتَانِ إلّا بِهِ فَأَرْخَصَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْحَادّةِ فِي لُبْسِ مَا يُصْبَغُ بِالْعَصْبِ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى مَا يُصْبَغُ لِغَيْرِ تَحْسِينٍ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ فَلَا مَعْنَى لِتَجْوِيزِ لُبْسِهِ مَعَ حُصُولِ الزّينَةِ بِصَبْغِهِ كَحُصُولِهَا بِمَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشَا إلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ عَدُوّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا سَبَايَا فَكَأَنّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَرّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ ص 632 ] النّسَاءُ 24 ] أَيْ فَهُنّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهُنّ . وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ بِامْرَأَةِ مُجِحّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ " لَعَلّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمّ بِهَا " . فَقَالُوا : نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يُوَرّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ . وَفِي التّرْمِذِيّ : مِنْ حَدِيثِ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ وَطْءَ السّبَايَا حَتّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنّ وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً . وَفِي التّرْمِذِيّ : مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ . قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا : لَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ السّبْيِ حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا [ ص 633 ] وَلِأَحْمَدَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَنْكِحَنّ ثَيّبًا مِنْ السّبَايَا حَتّى تَحِيضَ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : إذَا وُهِبَتْ الْوَلِيدَةُ الّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ فَلْتُسْتَبْرَأْ بِحَيْضَةِ وَلَا تُسْتَبْرَأْ الْعَذْرَاءُ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُوسٍ : أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنَادِيًا فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لَا يَقَعَنّ رَجُلٌ عَلَى حَامِلٍ وَلَا حَائِلٍ حَتّى تَحِيضَ . وَذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ : عَنْ زَكَرِيّا عَنْ الشّعْبِيّ قَالَ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ سَبَايَا يَوْمِ أَوْطَاسٍ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ لَا يَقَعُوا عَلَى حَامِلٍ حَتّى تَضَعَ وَلَا عَلَى غَيْرِ حَامِلٍ حَتّى تَحِيضَ .

فَصْلٌ [ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَسْبِيّةِ حَتّى يُعْلَمَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا ]
فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنَنُ أَحْكَامًا عَدِيدَةً . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَسْبِيّةِ حَتّى يُعْلَمَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِوَضْعِ حَمْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَبِأَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَلَا نَصّ فِيهَا وَاخْتُلِفَ فِيهَا وَفِي الْبِكْرِ وَفِي الّتِي يُعْلَمُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا بِأَنْ حَاضَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ ثُمّ بَاعَهَا عَقِيبَ الْحَيْضِ وَلَمْ يَطَأْهَا وَلَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ مِلْكه أَوْ كَانَتْ عِنْدَ امْرَأَةٍ وَهِيَ مَصُونَةٌ فَانْتَقَلَتْ عَنْهَا إلَى رَجُلٍ فَأَوْجَبَ الشّافِعِيّ وَأَبُو [ ص 634 ] وَأَحْمَدُ الِاسْتِبْرَاءَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْعِدّةِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ وَاحْتِجَاجًا بِآثَارِ الصّحَابَةِ كَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ . حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عَطَاءٌ تَدَاوَلَ ثَلَاثَةٌ مِنْ التّجّارِ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِأَحَدِهِمْ ثُمّ قَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَنْ ابْتَاعَ جَارِيَةً قَدْ بَلَغَتْ الْمُحَيّضَ فَلْيَتَرَبّصْ بِهَا حَتّى تَحِيضَ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ فَلْيَتَرَبّصْ بِهَا خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَالُوا : وَقَدْ أَوْجَبَ اللّهُ الْعِدّةَ عَلَى مَنْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنّ الْمَحِيضِ وَجَعَلهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَالِاسْتِبْرَاءُ عِدّةُ الْأَمَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْآيِسَةِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنّ الْمَحِيضِ . وَقَالَ آخَرُونَ . الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ فَحَيْثُ تَيَقّنَ الْمَالِكُ بَرَاءَةَ رَحِمِ الْأَمَةِ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ عَذْرَاءَ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا إنْ شَاءَ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْهُ . وَذَكَرَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ اللّخْمِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِي جَارِيَةٌ يَوْمَ جَلُولَاءَ كَأَنّ عُنُقَهَا إبْرِيقُ فِضّةٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَمَا مَلَكَتْ نَفْسِي أَنْ جَعَلْتُ أُقَبّلُهَا وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ إلَى هَذَا يَرْجِعُ وَهَاكَ قَاعِدَتُهُ وَفُرُوعُهَا : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الْمَازِرِيّ وَقَدْ عَقَدَ قَاعِدَةً لِبَابِ الِاسْتِبْرَاءِ فَنَذْكُرُهَا بِلَفْظِهَا . وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي ذَلِكَ أَنّ كُلّ أَمَةٍ أَمِنَ عَلَيْهَا الْحَمْلَ فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الِاسْتِبْرَاءُ وَكُلّ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظّنّ كَوْنُهَا حَامِلًا أَوْ شَكّ فِي حَمْلِهَا أَوْ تَرَدّدَ [ ص 635 ] غَلَبَ الظّنّ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا لَكِنّهُ مَعَ الظّنّ الْغَالِبِ يَجُوزُ حُصُولُهُ فَإِنّ الْمَذْهَبَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي ثُبُوتِ الِاسْتِبْرَاءِ وَسُقُوطِهِ . ثُمّ خَرّجَ عَلَى ذَلِكَ الْفُرُوعَ الْمُخْتَلِفَةَ فِيهَا كَاسْتِبْرَاءِ الصّغِيرَةِ الّتِي تُطِيقُ الْوَطْءَ وَالْآيِسَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ صَاحِبَا الْجَوَاهِرِ " : وَيَجِبُ فِي الصّغِيرَةِ إذَا كَانَتْ مِمّنْ قَارَبَ سِنّ الْحَمْلِ كَبِنْتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَفِي إيجَابِ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ مِمّنْ تُطِيقُ الْوَطْءَ وَلَا يَحْمِلُ مِثْلَهَا كَبِنْتِ تِسْعٍ وَعَشَرٍ رِوَايَتَانِ أَثْبَتُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَفَاهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَإِنْ كَانَتْ مِمّنْ لَا يُطِيقُ الْوَطْءَ فَلَا اسْتِبْرَاءَ فِيهَا . قَالَ وَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فِيمَنْ جَاوَزَتْ سِنّ الْحَيْضِ وَلَمْ تَبْلُغْ سِنّ الْآيِسَةِ مِثْلَ ابْنَةِ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ . وَأَمّا الّتِي قَعَدَتْ عَنْ الْمَحِيضِ وَيَئِسَتْ عَنْهُ فَهَلْ يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِبْرَاء أَوْ لَا يَجِبُ ؟ رِوَايَتَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ . قَالَ الْمَازِرِيّ وَوَجْهُ اسْتِبْرَاءِ الصّغِيرَةُ الّتِي تُطِيقُ الْوَطْءَ وَالْآيِسَةُ أَنّهُ يُمْكِنُ فِيهِمَا الْحَمْلُ عَلَى النّدُورِ أَوْ لِحِمَايَةِ الذّرِيعَةِ لِئَلّا يُدْعَى فِي مَوَاضِعِ الْإِمْكَانِ أَنْ لَا إمْكَانَ . قَالَ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ خَوْفًا أَنْ تَكُونَ زَنَتْ وَهُوَ الْمُعَبّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لِسُوءِ الظّنّ وَفِيهِ قَوْلَانِ وَالنّفْيُ لِأَشْهَبَ . قَالَ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ الْوَخْشِ فِيهِ قَوْلَانِ الْغَالِبُ عَدَمُ وَطْءِ السّادَاتِ لَهُنّ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي النّادِرِ . وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ مَنْ بَاعَهَا مَجْبُوبٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ فَفِي وُجُوبِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ . وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْمُكَاتَبَةِ إذَا كَانَتْ تَتَصَرّفُ ثُمّ عَجَزَتْ فَرَجَعَتْ إلَى سَيّدِهَا فَابْنُ الْقَاسِمِ يُثْبِتُ الِاسْتِبْرَاءَ وَأَشْهَبُ يَنْفِيهِ . وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْبِكْرِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللّخْمِيّ : هُوَ مُسْتَحَبّ عَلَى [ ص 636 ] وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ هُوَ وَاجِبٌ . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اسْتَبْرَأَ الْبَائِعُ الْأَمَةَ وَعَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنّهُ قَدْ اسْتَبْرَأَهَا فَإِنّهُ يُجْزِئُ اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ عَنْ اسْتِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا أَوْدَعَهُ أَمَةً فَحَاضَتْ عِنْدَ الْمُودَعِ حَيْضَةً ثُمّ اسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ وَأَجْزَأَتْ تِلْكَ الْحَيْضَةُ عَنْ اسْتِبْرَائِهَا وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَخْرُجَ وَلَا يَكُونُ سَيّدُهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ فِي عِيَالِهِ وَقَدْ حَاضَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ إنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَأَشْهَبُ يَقُولُ إنْ كَانَ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي دَارٍ وَهُوَ الذّابّ عَنْهَا وَالنّاظِرُ فِي أَمْرِهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ تَخْرُجُ أَوْ لَا تَخْرُجُ . وَمِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ سَيّدُ الْأَمَةِ غَائِبًا فَحِينَ قَدِمَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ أَوْ خَرَجَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَاشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا بِيعَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فِي أَوّلِ حَيْضِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنّ ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً لَهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى حَيْضَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ . وَمِنْ ذَلِكَ الشّرِيكُ يَشْتَرِي نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَارِيَةِ وَهِيَ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا وَقَدْ حَاضَتْ فِي يَدِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ الْفُرُوعُ كُلّهَا مِنْ مَذْهَبِهِ تُنْبِيكَ عَنْ مَأْخَذِهِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَأَنّهُ إنّمَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُظَنّ بَرَاءَةُ الرّحِمِ فَإِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنّتْ فَلَا اسْتِبْرَاءَ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو الْعَبّاسُ ابْنُ تَيْمِيّةَ : إنّهُ لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْبِكْرِ كَمَا صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَبِقَوْلِهِمْ نَقُولُ وَلَيْسَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَصّ عَامّ فِي وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ كُلّ مَنْ تَجَدّدَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ عَلَى أَيّ [ ص 637 ] حَالَةٍ كَانَتْ وَإِنّمَا نَهَى عَنْ وَطْءِ السّبَايَا حَتّى تَضَعَ حَوَامِلُهُنّ وَتَحِيضَ حَوَائِلُهُنّ . فَإِنْ قِيلَ فَعُمُومُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ وَطْءِ أَبْكَارِهِنّ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا يَمْتَنِعُ وَطْءُ الثّيّبِ ؟ قِيلَ نَعَمْ وَغَايَتُهُ أَنّهُ عُمُومٌ أَوْ إطْلَاقٌ ظَهَرَ الْقَصْدُ مِنْهُ فَيَخُصّ أَوْ يُقَيّدْ عِنْدَ انْتِفَاءِ مُوجِبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَيَخُصّ أَيْضًا بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ رُوَيْفِعٍ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَنْكِحْ ثَيّبًا مِنْ السّبَايَا حَتّى تَحِيضَ وَيَخُصّ أَيْضًا بِمَذْهَبِ الصّحَابِيّ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى خَالِدٍ يَعْنِي بِالْيَمِينِ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ فَاصْطَفَى عَلِيّ مِنْهَا سَبْيَهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْتُ لِخَالِدٍ أَمَا تَرَى إلَى هَذَا ؟ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ أَلَا تَرَى مَا صَنَعَ هَذَا ؟ قَالَ بُرَيْدَةُ . وَكُنْتُ أَبْغُضُ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَلَمّا قَدِمْنَا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ " يَا بُرَيْدَةُ أَتَبْغُضُ عَلِيّا ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ " لَا تَبْغُضْهُ فَإِنّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " . فَهَذِهِ الْجَارِيَةُ إمّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَلَمْ يَرَ عَلِيّ وُجُوبَ اسْتِبْرَائِهَا وَإِمّا أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ حَيْضِهَا فَاكْتَفَى بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ تَمَلّكِهِ لَهَا . وَبِكُلّ حَالٍ فَلَا بُدّ أَنْ يَكُونَ تَحَقّقُ بَرَاءَةِ رَحِمَهَا بِحَيْثُ أَغْنَاهُ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ . فَإِذَا تَأَمّلْتَ قَوْلَ النّبِيّ حَقّ التّأَمّلِ وَجَدْت قَوْلَهُ وَلَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَى تَحِيضَ ظَهَرَ لَك مِنْهُ أَنّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَأَنْ لَا تَكُونَ فَيُمْسِكُ عَنْ وَطْئِهَا [ ص 638 ] قَالَهُ فِي الْمَسْبِيّاتِ لِعَدَمِ عِلْمِ السّابِي بِحَالِهِنّ .

[عِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ ]
وَعَلَى هَذَا فَكُلّ مَنْ مَلَكَ أَمَةً لَا يُعْلَمُ حَالُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ هَلْ اشْتَمَلَ رَحِمُهَا عَلَى حَمْلٍ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَطَأْهَا حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةِ هَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَلَيْسَ بِتَعَبّدِ مَحْضٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْرَاءِ الْعَذْرَاءِ وَالصّغِيرَةِ الّتِي لَا يَحْمِلُ مِثْلَهَا وَاَلّتِي اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ لَا تَخْرُجُ أَصْلًا وَنَحْوُهَا مِمّنْ يُعْلَمُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا فَكَذَلِكَ إذَا زَنَتْ الْمُرَاةُ وَأَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوّجَ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةِ ثُمّ تَزَوّجَتْ وَكَذَلِكَ إذَا زَنَتْ وَهِيَ مُزَوّجَةٌ أَمْسَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً . وَكَذَلِكَ أُمّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيّدُهَا اعْتَدّتْ بِحَيْضَةٍ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَأَلْت أَبِي كَمْ عِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا مَوْلَاهَا أَوْ أَعْتَقَهَا ؟ قَالَ عِدّتُهَا حَيْضَةٌ وَإِنّمَا هِيَ أَمَةٌ فِي كُلّ أَحْوَالِهَا إنْ جَنَتْ فَعَلَى سَيّدِهَا قِيمَتُهَا وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهَا فَعَلَى الْجَانِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا . وَإِنْ مَاتَتْ فَمَا تَرَكَتْ مِنْ شَيْءٍ فَلِسَيّدِهَا وَإِنْ أَصَابَتْ حَدّا فَحَدّ أَمَةٍ وَإِنْ زَوّجَهَا سَيّدُهَا فَمَا وَلَدَتْ فَهُمْ بِمَنْزِلَتِهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا وَيُرَقّونَ بِرِقّهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي عِدّتِهَا فَقَالَ بَعْضُ النّاسِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَهَذِهِ عِدّةُ الْحُرّةِ وَهَذِهِ عِدّةُ أَمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ الرّقّ إلَى الْحُرّيّةِ فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أَنْ يُوَرّثَهَا وَأَنْ يُجْعَلَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحُرّةِ لِأَنّهُ قَدْ أَقَامَهَا فِي الْعِدّةِ مَقَامَ الْحُرّةِ . وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ عِدّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَهَذَا قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إنّمَا تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ الْمُطَلّقَةُ وَلَيْسَتْ هِيَ بِمُطْلَقَةٍ وَلَا حُرّةٍ وَإِنّمَا ذَكَرَ اللّهُ الْعِدّةَ فَقَالَ { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ الْبَقَرَةُ 234 ] وَلَيْسَتْ أُمّ الْوَلَدِ بِحُرّةٍ وَلَا زَوْجَةٍ فَتَعْتَدّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ . قَالَ { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [ ص 639 ] أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ تَعْتَدّ أُمّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا مَوْلَاهَا أَوْ أَعْتَقَهَا حَيْضَةً وَإِنّمَا هِيَ أَمَةٌ فِي كُلّ أَحْوَالِهَا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمّدِ بْنِ الْعَبّاسِ عِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا سَيّدُهَا . وَقَالَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَحَكَى أَبُو الْخَطّابِ رِوَايَةً ثَالِثَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنّهَا تَعْتَدّ بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيّامٍ . قَالَ وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " الْجَامِعِ " وَلَا أَظُنّهَا صَحِيحَةً عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَقَتَادَةَ لِأَنّهَا حِينَ الْمَوْتِ أَمَةٌ فَكَانَتْ عِدّتُهَا عِدّةَ الْأَمَةِ كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ فَعَتَقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ رِوَايَةَ إسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ " : بَابُ الْقَوْلِ فِي عِدّةِ أُمّ الْوَلَدِ مِنْ الطّلَاقِ وَالْوَفَاةِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا مَاتَ السّيّدُ وَهِيَ عِنْدَ زَوْجٍ فَلَا عِدّةَ عَلَيْهَا كَيْفَ تَعْتَدّ وَهِيَ مَعَ زَوْجِهَا ؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنّا إذَا أَعْتَقَ أُمّ الْوَلَدِ فَلَا يَتَزَوّجُ أُخْتَهَا حَتّى تَخْرُجَ مِنْ عِدّتِهَا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ وَعِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ عِدّةُ الْأُمّةِ في الْوَفَاة وَالطّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَحُجّةُ مَنْ قَالَ عِدّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ قَالَ لَا تُفْسِدُوا عَلَيْنَا سُنّةَ نَبِيّنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا سَيّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَهَذَا قَوْلُ السّعِيدَيْنِ [ ص 640 ] وَمُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وَالزّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاقُ . قَالُوا : لِأَنّهَا حُرّةٌ تَعْتَدّ لِلْوَفَاةِ فَكَانَتْ عِدّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَالزّوْجَةِ الْحُرّةِ . وَقَالَ عَطَاءٌ وَالنّخَعِيّ وَالثّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ تَعْتَدّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا : لِأَنّهَا لَا بُدّ لَهَا مِنْ عِدّةٍ وَلَيْسَتْ زَوْجَةً فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ الْأَزْوَاجِ الْمُتَوَفّى عَنْهُنّ وَلَا أَمَةً فَتَدْخُلُ فِي نُصُوصِ اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ بِحَيْضَةِ فَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمُطَلّقَةِ فَتَعْتَدّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ . وَالصّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَائِشَةَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَالشّعْبِيّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَشْهَرِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ فَإِنّ هَذَا إنّمَا هُوَ لِمُجَرّدِ الِاسْتِبْرَاءِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الرّقَبَةِ فَكَانَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فِي حَقّ مَنْ تَحِيضُ كَسَائِرِ اسْتِبْرَاءَاتِ الْمُعْتَقَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ وَالْمَسْبِيّاتِ . وَأَمّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ضَعّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مُوسَى : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَا يَصِحّ . وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللّهِ يَعْجَبُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ هَذَا ثُمّ قَالَ أَيْنَ سُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَا ؟ وَقَالَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إنّمَا هِيَ عِدّةُ الْحُرّةِ مِنْ النّكَاحِ وَإِنّمَا هَذِهِ أَمَةٌ خَرَجَتْ مِنْ الرّقّ إلَى الْحُرّيّةِ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِهَذَا أَنْ يُوَرّثَهَا وَلَيْسَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَجْهٌ إنّمَا تَعْتَدّ بِذَلِكَ الْمُطَلّقَةُ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ عَمْرٍو مَطَرُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو رَجَاءٍ الْوَرّاقُ وَقَدْ ضَعّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَخْبَرَنَا شَيْخُنَا أَبُو الْحَجّاجِ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " التّهْذِيبِ " قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرّاقِ . فَقَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُضْعِفُ حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ [ ص 641 ] سَأَلْتُ أَبِي عَنْ مَطَرٍ الْوَرّاقِ قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُشَبّهُ حَدِيثَ مَطَرٍ الْوَرّاقِ بِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي سُوءِ الْحِفْظِ قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَسَأَلْت أَبِي عَنْهُ ؟ فَقَالَ مَا أَقْرَبَهُ مِنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي عَطَاءٍ خَاصّةً . وَقَالَ مَطَرٌ فِي عَطَاءٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ قَالَ عَبْدُ اللّهِ قُلْت لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ مَطَرٌ الْوَرّاقُ ؟ فَقَالَ ضَعِيفٌ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَقَالَ النّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ . وَبَعْدُ فَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبّانَ فِي كِتَابِ الثّقَاتِ وَاحْتَجّ بِهِ مُسْلِمٌ فَلَا وَجْهَ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ بِهِ . وَإِنّمَا عِلّةُ الْحَدِيثِ أَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ وَلَهُ عِلّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنّهُ مَوْقُوفٌ لَمْ يَقُلْ لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنّةَ نَبِيّنَا . قَالَ الدّارَقُطْنِيّ وَالصّوَابُ لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا دِينَنَا . مَوْقُوفٌ . وَلَهُ عِلّةٌ أُخْرَى وَهِيَ اضْطِرَابُ الْحَدِيثِ وَاخْتِلَافُهُ عَنْ عَمْرٍو عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا : هَذَا .
وَالثّانِي : عِدّةُ أُمّ الْوَلَدِ عِدّةُ الْحُرّةِ .
وَالثّالِثُ عِدّتُهَا إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا سَيّدُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا أُعْتِقَتْ فَعِدّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَالْأَقَاوِيلُ الثّلَاثَةُ عَنْهُ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيّ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنْهُ وَقَدْ رَوَى خِلَاسٌ عَنْ عَلِيّ مِثْلَ رِوَايَةِ قَبِيصَةً عَنْ عَمْرٍو أَنّ عِدّةَ أُمّ الْوَلَدِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَكِنّ خِلَاسَ بْنَ عَمْرٍو قَدْ تُكُلّمَ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ أَيّوبُ لَا يُرْوَى عَنْهُ فَإِنّهُ صَحَفِيّ وَكَانَ مُغِيرَةُ لَا يُعْبَأُ بِحَدِيثِهِ . وَقَالَ أَحْمَدُ رِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيّ يُقَالُ إنّهُ كِتَابٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رِوَايَاتُ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيّ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ هِيَ مِنْ صَحِيفَةٍ . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي أُمّ الْوَلَدِ يُتَوَفّى عَنْهَا سَيّدُهَا قَالَ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ . فَإِنْ ثَبَتَ عَنْ [ ص 642 ] عَلِيّ وَعَمْرٍو مَا رُوِيَ عَنْهُمَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَالدّلِيلُ هُوَ الْحَاكِمُ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إلّا التّعَلّقُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ لَفْظٌ عَامّ وَلَكِنْ شَرْطُ عُمُومِ الْمَعْنَى تُسَاوِي الْأَفْرَادَ فِي الْمَعْنَى الّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَا يَتَحَقّقُ الْإِلْحَاقُ وَاَلّذِينَ أَلْحَقُوا أُمّ الْوَلَدِ بِالزّوْجَةِ رَأَوْا أَنّ الشّبَهَ الّذِي بَيْنَ أُمّ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الزّوْجَةِ أَقْوَى مِنْ الشّبَهِ الّذِي بَيّنَهَا وَبَيْنَ الْأَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنّهَا بِالْمَوْتِ صَارَتْ حُرّةً فَلَزِمَتْهَا الْعِدّةُ مَعَ حُرّيّتِهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَلِأَنّ الْمَعْنَى الّذِي جُعِلَتْ لَهُ عِدّةَ الزّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مَوْجُودٌ فِي أُمّ الْوَلَدِ وَهُوَ أَدْنَى الْأَوْقَاتِ الّذِي يُتَيَقّنُ فِيهَا خَلْقُ الْوَلَدِ وَهَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الزّوْجَةِ وَأُمّ الْوَلَدِ وَالشّرِيعَةُ لَا تُفَرّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَمُنَازِعُوهُمْ يَقُولُونَ أُمّ الْوَلَدِ أَحْكَامُهَا أَحْكَامُ الْإِمَاءِ لَا أَحْكَامُ الزّوْجَاتِ وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [ النّسَاءُ 12 ] وَغَيْرُهَا فَكَيْفَ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } [ الْبَقَرَةُ 234 ] ؟ قَالُوا : وَالْعِدّةُ لَمْ تُجْعَلْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَجْلِ مُجَرّدِ بَرَاءَةِ الرّحِمِ فَإِنّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يُتَيَقّنُ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا وَتَجِبُ قَبْلَ الدّخُولِ وَالْخَلْوَةِ فَهِيَ مِنْ حَرِيمِ عَقْدِ النّكَاحِ وَتَمَامِهِ . وَأَمّا اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا وَهَذَا يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ اسْتِبْرَاؤُهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَمَا جُعِلَتْ عِدّةُ الْحُرّةِ كَذَلِكَ تَطْوِيلًا لِزَمَانِ الرّجْعَةِ وَنَظَرًا لِلزّوْجِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ فِي الْمُسْتَبْرَأَةِ فَلَا نَصّ يَقْتَضِي إلْحَاقَهَا بِالزّوْجَاتِ وَلَا مَعْنَى فَأَوْلَى الْأُمُورِ بِهَا أَنْ يُشْرَعَ لَهَا مَا شَرَعَهُ صَاحِبُ الشّرْعِ فِي الْمَسْبِيّاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ وَلَا تَتَعَدّاهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ [ لَا يَحْصُلُ اسْتِبْرَاءُ الْمَسْبِيّةِ بِطُهْرِ بَلْ لَا بُدّ مِنْ حَيْضَةٍ ]
الْحُكْمُ الثّانِي : أَنّهُ لَا يَحْصُلُ الِاسْتِبْرَاءُ بِطُهْرِ الْبَتّةَ بَلْ لَا بُدّ مِنْ حَيْضَةٍ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصّوَابُ وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ فِي قَوْلٍ لَهُ [ ص 643 ] تَمّ اسْتِبْرَاؤُهَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا : إنّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ وَلَكِنْ يَرُدّ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ وَقَالَ رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ يَوْمَ حُنَيْنِ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَطَأْ جَارِيَةً مِنْ السّبْيِ حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعِنْدَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ هَذَا أَحَدُهَا . الثّانِي : نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ لَا تُوطَأُ الْأَمَةُ حَتّى تَحِيضَ وَعَنْ الْحَبَالَى حَتّى تَضَعْنَ . الثّالِثُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَنْكِحْنَ ثَيّبًا مِنْ السّبَايَا حَتّى تَحِيضَ فَعَلّقَ الْحِلّ فِي ذَلِكَ كُلّهِ بِالْحَيْضِ وَحْدَهُ لَا بِالطّهْرِ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ مَا اعْتَبَرَهُ وَاعْتِبَارُ مَا أَلْغَاهُ وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى مَا خَالَفَ نَصّهُ وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الْمَحْضِ فَإِنّ الْوَاجِبَ هُوَ الِاسْتِبْرَاءُ وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ هُوَ الْحَيْضُ فَأَمّا الطّهْرُ فَلَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَوّلَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى مَا لَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ وَبِنَاؤُهُمْ هَذَا عَلَى أَنّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ لِلْخِلَافِ وَلَيْسَ بِحُجّةِ وَلَا شُبْهَةٍ ثُمّ لَمْ يُمْكِنْهُمْ بِنَاءُ هَذَا عَلَى ذَاكَ حَتّى خَالَفُوهُ فَجَعَلُوا الطّهْرَ الّذِي طَلّقَهَا فِيهِ قُرْءًا وَلَمْ يَجْعَلُوا طُهْرَ الْمُسْتَبْرَأَةِ الّتِي تَجَدّدَ عَلَيْهَا الْمِلْكُ فِيهِ أَوْ مَاتَ سَيّدُهَا فِيهِ قُرْءًا وَحَتّى خَالَفُوا الْحَدِيثَ أَيْضًا كَمَا تَبَيّنَ وَحَتّى خَالَفُوا الْمَعْنَى كَمَا بَيّنّاهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ هَذَا الْبِنَاءُ إلّا بَعْدَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثّلَاثَةِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَغَايَةُ مَا قَالُوا : إنّ بَعْضَ الْحَيْضَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالطّهْرِ يَدُلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ عَلَى بَعْضِ الْحَيْضَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْءًا عِنْدَ أَحَدٍ ؟ فَإِنْ قَالُوا : هُوَ اعْتِمَادٌ عَلَى بَعْضِ حَيْضَةٍ وَطُهْرٍ . قُلْنَا : هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مُسَمّى الْقُرُوءِ وَلَا يُعْرَفُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ مُرَكّبَةً مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ . [ ص 644 ] قَالُوا : بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلطّهْرِ بِشَرْطِ الْحَيْضِ . فَإِذَا انْتَفَى الشّرْطُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ قُلْنَا : هَذَا إنّمَا يُمْكِنُ لَوْ عَلّقَ الشّارِعُ الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْءِ فَأَمّا مَعَ تَصْرِيحِهِ عَلَى التّعْلِيقِ بِحَيْضَةِ فَلَا .

فَصْلٌ [ لَا يَحْصُلُ بِبَعْضِ حَيْضَةٍ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي اكْتِفَاءً بِهَا ]
الْحُكْمُ الثّالِثُ أَنّهُ لَا يَحْصُلُ بِبَعْضِ حَيْضَةٍ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي اكْتِفَاءً بِهَا . قَالَ صَاحِبُ " الْجَوَاهِرِ " : فَإِنْ بِيعَتْ الْأَمَةُ فِي آخِرِ أَيّامِ حَيْضِهَا لَمْ يَكُنْ مَا بَقِيَ مِنْ أَيّامِ حَيْضِهَا اسْتِبْرَاءً لَهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَإِنْ بِيعَتْ وَهِيَ فِي أَوّلِ حَيْضَتِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنّ ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً لَهَا . وَقَدْ احْتَجّ مَنْ نَازَعَ مَالِكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنّهُ عَلّقَ الْحَلّ بِحَيْضَةِ فَلَا بُدّ مِنْ تَمَامِهَا وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ فَإِنّهُ لَا بُدّ مِنْ الْحَيْضَةِ بِالِاتّفَاقِ وَلَكِنّ النّزَاعَ فِي أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الْحَيْضَةِ وَهِيَ فِي مُلْكِهِ أَوْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُهَا فِي مِلْكِهِ فَهَذَا لَا يَنْفِيهِ الْحَدِيثُ وَلَا يُثْبِتُهُ وَلَكِنْ لِمُنَازِعِيهِ أَنْ يَقُولُوا : لِمَا اتّفَقْنَا عَلَى أَنّهُ لَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَعْضُهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ أَكْثَرُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ عَلِمَ أَنّ الْحَيْضَةَ الْمُعْتَبَرَةَ أَنْ تَكُونَ وَهِيَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا لَوْ حَاضَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الِاسْتِبْرَاءِ . وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنّهَا إذَا حَاضَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ وَهِيَ مُودَعَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمّ بَاعَهَا عَقِيبَ الْحَيْضَةِ وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ اُكْتُفِيَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاءٌ ثَانٍ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ كَمَا تَقَدّمَ فَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيْعِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا هَذِهِ . وَمِنْهَا إذَا وَضَعَتْ لِلِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ ثَالِثٍ فَاسْتَبْرَأَهَا ثُمّ بِيعَتْ بَعْدَهُ . قَالَ فِي " الْجَوَاهِرِ " : وَلَا يُجْزِئُ الِاسْتِبْرَاءُ قَبْلَ الْبَيْعِ إلّا فِي حَالَاتٍ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ [ ص 645 ] بِالْوَدِيعَةِ فَتَحِيضُ عِنْدَهُ ثُمّ يَشْتَرِيهَا حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ أَيّامٍ وَهِيَ لَا تَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا سَيّدُهَا . وَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِمّنْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ فِي عِيَالِهِ . وَقَدْ حَاضَتْ فَابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ إنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ . وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ كَانَتْ مَعَهُ فِي دَارٍ وَهُوَ الذّابّ عَنْهَا وَالنّاظِرُ فِي أَمْرِهَا فَهُوَ اسْتِبْرَاءٌ سَوَاءٌ كَانَتْ تَخْرُجُ أَوْ لَا تَخْرُجُ . وَمِنْهَا : إذَا كَانَ سَيّدُهَا غَائِبًا فَحِينَ قَدّمَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ أَوْ خَرَجَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ . وَمِنْهَا : الشّرِيكُ يَشْتَرِي نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَارِيَةِ وَهِيَ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا وَقَدْ حَاضَتْ فِي يَدِهِ . وَقَدْ تَقَدّمَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فَهَذِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا تَضَمّنَتْ الِاسْتِبْرَاءَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَاكْتَفَى بِهِ مَالِكٌ عَنْ اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ قَوْلُهُ هَذَا وَقَوْلُهُ إنّ الْحَيْضَةَ إذَا وَجَدَ مُعْظَمَهَا عِنْدَ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ اسْتِبْرَاءً ؟ قِيلَ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ لَهَا مَوْضِعٌ وَهَذِهِ لَهَا مَوْضِعٌ فَكُلّ مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ فِيهِ الْمُشْتَرِي إلَى اسْتِبْرَاءٍ مُسْتَقِلّ لَا يُجْزِئُ إلّا حَيْضَةٌ لَمْ يُوجَدْ مُعْظَمُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ وَكُلّ مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِبْرَاءٍ مُسْتَقِلّ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَيْضَةٍ وَلَا بَعْضُهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِالِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ الْبَيْعِ كَهَذِهِ الصّوَرِ وَنَحْوِهَا .

فَصْلٌ [ اسْتِبْرَاءُ الْمَسْبِيّةِ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ]
الْحُكْمُ الرّابِعُ أَنّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ حُكْمُ النّصّ فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمّةِ .
فَصْلٌ [ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَسْبِيّةِ الْحَامِلِ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا ]
الْحُكْمُ الْخَامِسُ أَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا أَيّ حَمْلٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ كَحَمْلِ الزّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ أَوْ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَحَمْلِ الزّانِيَةِ فَلَا يَحِلّ وَطْءُ حَامِلٍ مِنْ غَيْرِ الْوَاطِئِ الْبَتّةَ كَمَا صَرّحَ [ ص 646 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَهَذَا يَعُمّ الزّرْعَ الطّيّبَ وَالْخَبِيثَ وَلِأَنّ صِيَانَةَ مَاءِ الْوَاطِئِ عَنْ الْمَاءِ الْخَبِيثِ حَتّى لَا يَخْتَلِطَ بِهِ أَوْلَى مِنْ صِيَانَتِهِ عَنْ الْمَاءِ الطّيّبِ وَلِأَنّ حَمْلَ الزّانِي وَإِنْ كَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا لِمَائِهِ فَحَمْلُ هَذَا الْوَاطِئِ وَمَاؤُهُ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ خَلْطُهُ بِغَيْرِهِ وَلِأَنّ هَذَا مُخَالِفٌ لِسُنّةِ اللّهِ فِي تَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنْ الطّيّبِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْهُ وَإِلْحَاقِ كُلّ قِسْمٍ بِمُجَانِسِهِ وَمَشَاكِلِهِ . وَاَلّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ تَجْوِيزُ مِنْ جَوّزَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْعَقْدَ عَلَى الزّانِيَةِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَوَطْئِهَا عَقِيبَ الْعُقَدِ فَتَكُونُ اللّيْلَةَ عِنْدَ الزّانِي وَقَدْ عَلّقَتْ مِنْهُ وَاللّيْلَةُ الّتِي تَلِيهَا فِرَاشًا لِلزّوْجِ . وَمَنْ تَأَمّلَ كَمَالَ هَذِهِ الشّرِيعَةِ عَلِمَ أَنّهَا تَأْبَى ذَلِكَ كُلّ الْإِبَاءِ وَتَمْنَعُ مِنْهُ كُلّ الْمَنْعِ

[ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الزّانِيَةِ ]
وَمِنْ مَحَاسِنِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنْ حَرّمَ نِكَاحَهَا بِالْكُلّيّةِ حَتّى تَتُوبَ وَيَرْتَفِعَ عَنْهَا اسْمُ الزّانِيَةِ وَالْبَغِيّ وَالْفَاجِرَةِ فَهُوَ رَحِمَهُ اللّهُ لَا يُجَوّزُ أَنْ يَكُونَ الرّجُلُ زَوْجَ بَغِيّ وَمُنَازِعُوهُ يُجَوّزُونَ ذَلِكَ وَهُوَ أَسْعَدُ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَدِلّةِ كُلّهَا مِنْ النّصُوصِ وَالْآثَارِ وَالْمَعَانِي وَالْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَتَحْرِيمِ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا . وَالنّاسُ إذَا بَالَغُوا فِي سَبّ الرّجُلِ صَرّحُوا لَهُ بِالزّايِ وَالْقَافِ فَكَيْفَ تُجَوّزُ الشّرِيعَةُ مِثْلَ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعَرّضِهِ لِإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَتَعْلِيقِ أَوْلَادٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَعَرّضِهِ لِلِاسْمِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ ؟ وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ جَوّزَ الْعَقْدَ عَلَى الزّانِيَةِ وَوَطْئِهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا حَتّى لَوْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْ لَا يُوجِبَ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزّنَى بَلْ يَطَؤُهَا عَقِيبَ مِلْكِهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ السّنّةِ . فَإِنْ أَوْجَبَ اسْتِبْرَاءَهَا نَقَضَ قَوْلَهُ بِجَوَازِ وَطْءُ الزّانِيَةِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِبْرَاءَهَا خَالَفَ النّصُوصَ وَلَا يَنْفَعُهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنّ الزّوْجَ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السّيّدِ فَإِنّ الزّوْجَ إنّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنّهُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَى مُعْتَدّةٍ وَلَا حَامِلٍ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ السّيّدِ ثُمّ إنّ الشّارِعَ إنّمَا حَرّمَ الْوَطْءَ بَلْ [ ص 647 ] الْعِدّةِ خَشْيَةَ إمْكَانِ الْحَمْلِ فَيَكُونُ وَاطِئًا حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَسَاقِيًا مَاءَهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا تَحَقّقَ حَمْلُهَا . وَغَايَةُ مَا يُقَالُ إنّ وَلَدَ الزّانِيَةِ لَيْسَ لَاحِقًا بِالْوَاطِئِ الْأَوّلِ فَإِنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إقْدَامُهُ عَلَى خَلْطِ مَائِهِ وَنَسَبِهِ بِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِالْوَاطِئِ الْأَوّلِ فَصِيَانَةُ مِائَةِ وَنَسَبِهِ عَنْ نَسَبِ لَا يَلْحَقُ بِوَاضِعِهِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ نَسَبٍ يَلْحَقُ بِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الشّرْعَ حَرّمَ وَطْءَ الْأَمَةِ الْحَامِلِ حَتّى تَضَعَ سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مُحَرّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرّمٍ وَقَدْ فَرّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الّتِي تَزَوّجَ بِهَا فَوَجَدَهَا حُبْلَى وَجَلَدَهَا الْحَدّ وَقَضَى لَهَا بِالصّدَاقِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ الزّنَى . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ مَرّ بِامْرَأَةِ مُجِحّ عَلَى بَابٍ فُسْطَاطٍ فَقَالَ " لَعَلّ سَيّدَهَا يُرِيدُ أَنْ يُلِمّ بِهَا " ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ كَيْفَ يُوَرّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ ؟ فَجَعَلَ سَبَبَ هَمّهِ بِلَعْنَتِهِ وَطْأَهُ لِلْأَمَةِ الْحَامِلِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ عَنْ حَمْلِهَا هَلْ هُوَ لَاحِقٌ بِالْوَاطِئِ أَمْ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ ؟ وَقَوْلُهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ أَيْ كَيْفَ يَجْعَلُهُ عَبْدًا لَهُ يَسْتَخْدِمُهُ وَذَلِكَ لَا يَحِلّ فَإِنّ مَاءَ هَذَا الْوَاطِئِ يَزِيدُ فِي خَلْقِ الْحَمْلِ فَيَكُونُ بَعْضُهُ مِنْهُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَزِيدُ وَطْؤُهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ . وَقَوْلُهُ كَيْفَ يُوَرّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ فِيهِ أَيْ كَيْفَ يَجْعَلُهُ تَرِكَةً مَوْرُوثَةً عَنْهُ فَإِنّهُ يَعْتَقِدُهُ عَبْدَهُ فَيَجْعَلُهُ تَرِكَةً تُورَثُ عَنْهُ وَيَحِلّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنّ مَاءَهُ زَادَ فِي خَلْقِهِ فَفِيهِ جُزْءٌ مِنْهُ . وَقَالَ غَيْرُهُ الْمَعْنَى : كَيْفَ يُوَرّثُهُ عَلَى أَنّهُ ابْنُهُ وَلَا يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنّ [ ص 648 ] مَالهُ وَهَذَا يَرُدّهُ أَوّلَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ ؟ أَيْ كَيْفَ يَجْعَلُهُ عَبْدَهُ ؟ وَهَذَا إنّمَا يَدُلّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوّلِ . وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَامِلِ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنّ فَاعِلَ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِاللّعْنِ بَلْ قَدْ صَرّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ بِأَنّ الرّجُلَ إذَا مَلَكَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ لَمْ يَطَأْهَا حَتّى يَسْتَبْرِئهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا مِنْهُ فِي صُلْبِ النّكَاحِ فَيَكُونُ عَلَى وَلَدِهِ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي أُمّهِ بِخِلَافِ مَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِهِ فَإِنّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلّهُ احْتِيَاطٌ لِوَلَدِهِ هَلْ هُوَ صَرِيحُ الْحُرّيّةِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ ؟ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ ؟

فَصْلٌ [ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ ]
الْحُكْمُ السّادِسُ اُسْتُنْبِطَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ أَنّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَأَنّ مَا تَرَاهُ مِنْ الدّمِ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحَاضَةِ تَصُومُ وَتُصَلّي وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمَكْحُولٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُحَمّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَالشّعْبِيّ وَالنّخَعِيّ وَالْحَكَمُ وَحَمّادٌ وَالزّهْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنّهُ لَيْسَ دَمَ حَيْضٍ . وَقَالَ قتادة وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَاللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : إنّهُ دَمُ حَيْضٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي " سُنَنِهِ " وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَا تَقُولُ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدّمَ ؟ فَقُلْت : تُصَلّي وَاحْتَجَجْت بِخَبَرِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا . قَالَ فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ خَبَرِ الْمَدَنِيّينَ خَبَرِ أُمّ عَلْقَمَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا ؟ فَإِنّهُ أَصَحّ . قَالَ إسْحَاقُ فَرَجَعْت إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَهُوَ كَالتّصْرِيحِ مِنْ أَحْمَدَ بِأَنّ دَمَ الْحَامِلِ دَمُ حَيْضٍ وَهُوَ الّذِي فَهِمَهُ إسْحَاقُ عَنْهُ وَالْخَبَرُ الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ [ ص 649 ] الْبَيْهَقِيّ أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْحَاقَ حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدّثَنَا ابْنُ بُكَيْر حَدّثَنَا اللّيْثُ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أُمّ عَلْقَمَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ الْحَامِلِ تَرَى الدّمَ فَقَالَتْ لَا تُصَلّي قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَرَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ . وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا أَنّهَا أَنْشَدَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيّ
وَمُبَرّأً مِنْ كُلّ غُبّرِ حَيْضَةٍ
وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
قَالَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ فِي حَالِ الْحَيْضِ حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ الشّعْرَ . قَالَ وَرَوَيْنَا عَنْ مَطَرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ الْحُبْلَى لَا تَحِيضُ إذَا رَأَتْ الدّمَ صَلّتْ قَالَ وَكَانَ يَحْيَى الْقَطّانُ يُنْكِرُ هَذِهِ الرّوَايَةَ وَيُضَعّفُ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَطَرٌ عَنْ عَطَاءٍ . قَالَ وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا نَحْوَ رِوَايَةِ مَطَرٍ فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ كَانَتْ تَرَاهَا لَا تَحِيضُ ثُمّ كَانَتْ تَرَاهَا تَحِيضُ فَرَجَعَتْ إلَى مَا رَوَاهُ الْمَدَنِيّونَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

[ أَدِلّةُ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ دَمِ الْحَامِلِ دَمَ حَيْضٍ ]
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ كَوْنِ دَمِ الْحَامِلِ دَمَ حَيْضٍ قَدْ قَسّمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِمَاءَ قِسْمَيْنِ حَامِلًا وَجَعَلَ عِدّتَهَا وَضْعَ الْحَمْلِ وَحَائِلًا فَجَعَلَ عِدّتَهَا حَيْضَةً فَكَانَتْ [ ص 650 ] كَانَ الْحَيْضُ يُجَامِعُ الْحَمْلَ لَمَا كَانَتْ الْحَيْضَةُ عَلَمًا عَلَى عَدَمِهِ قَالُوا : وَلِذَلِكَ جَعَلَ عِدّةَ الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ حَمْلِهَا فَلَوْ جَامَعَ الْحَمْلُ الْحَيْضَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ طَلّقَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا النّسَاءُ

[ طَلَاقُ الْحَامِلِ لَيْسَ بِبِدْعَةِ ]
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنّ طَلَاقَ الْحَامِلِ لَيْسَ بِبِدْعَةِ فِي زَمَنِ الدّمِ وَغَيْرِهِ إجْمَاعًا فَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ لَكَانَ طَلَاقُهَا فِيهِ وَفِي طُهْرِهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ بِدْعَةً عَمَلًا بِعُمُومِ الْخَبَرِ قَالُوا : وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَا تَرَاهُ مِنْ الدّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَإِنّهُ جَعَلَ الطّلَاقَ فِي وَقْتِهِ نَظِيرَ الطّلَاقِ فِي وَقْتِ الطّهْرِ سَوَاءً . فَلَوْ كَانَ مَا تَرَاهُ مِنْ الدّمِ حَيْضًا لَكَانَ لَهَا حَالَانِ حَالُ طُهْرٍ وَحَالُ حَيْضٍ وَلَمْ يَجُزْ طَلَاقُهَا فِي حَالِ حَيْضِهَا فَإِنّهُ يَكُونُ بِدْعَةً قَالُوا : وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا يَحِلّ لِأَحَدِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلَا يَقَعَ عَلَى أَمَةٍ حَتّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَيّنَ حَمْلُهَا فَجَعَلَ وُجُودَ الْحَيْضِ عِلْمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ رَفَعَ الْحَيْضَ عَنْ الْحُبْلَى وَجَعَلَ الدّمَ مِمّا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّ اللّهَ رَفَعَ الْحَيْضَ عَنْ الْحُبْلَى وَجَعَلَ الدّمَ رِزْقًا لِلْوَلَدِ رَوَاهُمَا أَبُو حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ . [ ص 651 ] قَالُوا : وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَالدّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي الْحَامِلِ تَرَى الدّمَ فَقَالَتْ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلّي وَقَوْلُهَا : وَتَغْتَسِلُ بِطَرِيقِ النّدْبِ لِكَوْنِهَا مُسْتَحَاضَةً قَالُوا : وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ لَكِنّ عَائِشَةَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ الْحَامِلُ لَا تُصَلّي . وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَرَاهُ قَرِيبًا مِنْ الْوِلَادَةِ بِالْيَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنّهُ نِفَاسٌ جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهَا قَالُوا : وَلِأَنّهُ دَمٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعُدّةُ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا كَالِاسْتِحَاضَةِ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْحَائِضَ قَدْ تَحْبَلُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ لَكِنّهُ يَقْطَعُ حَيْضَهَا وَيَرْفَعُهُ . قَالُوا : وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ بِانْقِلَابِ دَمِ الطّمْثِ لَبَنًا غِذَاءً لِلْوَلَدِ فَالْخَارِجُ وَقْتَ الْحَمْلِ يَكُونُ غَيْرَهُ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ .

[ أَدِلّةُ مَنْ جَوّزَ كَوْنَ دَمِ الْحَامِلِ دَمَ حَيْضٍ ]
قَالَ الْمُحَيّضُونَ لَا نِزَاعَ أَنّ الْحَامِلَ قَدْ تَرَى الدّمَ عَلَى عَادَتِهَا لَا سِيّمَا فِي أَوّلِ حَمْلِهَا وَإِنّمَا النّزَاعُ فِي حُكْمِ هَذَا الدّمِ لَا فِي وُجُودِهِ . وَقَدْ كَانَ حَيْضًا قَبْلَ الْحَمْلِ بِالِاتّفَاقِ فَنَحْنُ نَسْتَصْحِبُ حُكْمَهُ حَتّى يَأْتِيَ مَا يَرْفَعُهُ بِيَقِينٍ . قَالُوا : وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ فِي مَحَلّ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتّى يَأْتِيَ مَا يَرْفَعُهُ فَالْأَوّلُ اسْتِصْحَابٌ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلّ النّزَاعِ وَالثّانِي اسْتِصْحَابٌ لِلْحُكْمِ الثّابِتِ فِي الْمَحَلّ حَتّى يَتَحَقّقَ مَا يَرْفَعُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ . وَهَذَا أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَكَانَ حَيْضًا . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَيْسَتْ إحْدَاكُنّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ وَلَمْ تُصَل ؟ . وَحَيْضُ الْمَرْأَةِ خُرُوجُ دَمِهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الشّهْرِ لُغَةً وَشَرْعًا [ ص 652 ] قَالُوا : وَلِأَنّ الدّمَ الْخَارِجَ مِنْ الْفَرْجِ الّذِي رَتّبَ الشّارِعُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ قِسْمَانِ حَيْضٌ وَاسْتِحَاضَةٌ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا ثَالِثًا وَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِحَاضَةِ فَإِنّ الِاسْتِحَاضَةَ الدّمُ الْمُطْبِقُ وَالزّائِدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ وَهَذَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحَاضَةً فَهُوَ حَيْضٌ قَالُوا : وَلَا يُمْكِنُكُمْ إثْبَاتُ قِسْمٍ ثَالِثٍ فِي هَذَا الْمَحَلّ وَجَعْلُهُ دَمَ فَسَادٍ فَإِنّ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلّا بِنَصّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ دَلِيلٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ . قَالُوا : وَقَدْ رَدّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ إلَى عَادَتِهَا وَقَالَ اجْلِسِي قَدْرَ الْأَيّامِ الّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ . فَدَلّ عَلَى أَنّ عَادَةَ النّسَاءِ مُعْتَبِرَةٌ فِي وَصْفِ الدّمِ وَحُكْمِهِ فَإِذَا جَرَى دَمُ الْحَامِلِ عَلَى عَادَتِهَا الْمُعْتَادَةِ وَوَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا انْتِقَالٍ دَلّتْ عَادَتُهَا عَلَى أَنّهُ حَيْضٌ وَوَجَبَ تَحْكِيمُ عَادَتِهَا وَتَقْدِيمُهَا عَلَى الْفَسَادِ الْخَارِجِ عَنْ الْعِبَادَةِ . قَالُوا : وَأَعْلَمُ الْأُمّةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْلَمُهُنّ عَائِشَةُ وَقَدْ صَحّ عَنْهَا مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنّهَا لَا تُصَلّي وَقَدْ شَهِدَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنّهُ أَصَحّ مِنْ الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهَا وَلِذَلِكَ رَجَعَ إلَيْهِ إسْحَاقُ وَأَخْبَرَ أَنّهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالُوا : وَلَا تُعْرَفُ صِحّةُ الْآثَارِ بِخِلَافِ ذَلِكَ عَمّنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَوْ صَحّتْ فَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَلَا دَلِيلَ يَفْصِلُ . قَالُوا : وَلِأَنّ عَدَمَ مُجَامَعَةِ الْحَيْضِ لِلْحَمْلِ إمّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْحِسّ أَوْ بِالشّرْعِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ أَمّا الْأَوّلُ فَظَاهِرٌ وَأَمّا الثّانِي : فَلَيْسَ عَنْ صَاحِبِ الشّرْعِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى بَرَاءَةِ الرّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ فِي الْعِدّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ . قُلْنَا : جُعِلَ دَلِيلًا ظَاهِرًا أَوْ قَطْعِيّا الْأَوّلُ صَحِيحٌ . وَالثّانِي : بَاطِلٌ فَإِنّهُ لَوْ كَانَ دَلِيلًا قَطْعِيّا لَمَا تَخَلّفَ عَنْهُ مَدْلُولُهُ وَلَكَانَتْ أَوّلُ مُدّةِ الْحَمْلِ مِنْ حِينِ [ ص 653 ] أَحَدٌ بَلْ أَوّلُ الْمُدّةِ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ وَلَوْ حَاضَتْ بَعْدَهُ عِدّةَ حِيَضٍ فَلَوْ وَطِئَهَا ثُمّ جَاءَتْ بِوَلَدِ لَأَكْثَرَ مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ وَلِأَقَلّ مِنْهَا مِنْ حِينِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ لَحِقَهُ النّسَبُ اتّفَاقًا فَعُلِمَ أَنّهُ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ قَدْ يَتَخَلّفُ عَنْهَا مَدْلُولُهَا تَخَلّفَ الْمَطَرِ عَنْ الْغَيْمِ الرّطْبِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مِنْ السّنّةِ فَإِنّا بِهَا قَائِلُونَ وَإِلَى حُكْمِهَا صَائِرُونَ وَهِيَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَسّمَ النّسَاءَ إلَى قِسْمَيْنِ حَامِلٌ فَعِدّتُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا وَحَائِلٌ فَعِدّتُهَا بِالْحَيْضِ وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِمُوجِبِ هَذَا غَيْرَ مُنَازِعِينَ فِيهِ وَلَكِنْ أَيْنَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَا تَرَاهُ الْحَامِلُ مِنْ الدّمِ عَلَى عَادَتِهَا تَصُومُ مَعَهُ وَتُصَلّي ؟ هَذَا أَمْرٌ آخَرُ لَا تَعَرّضَ لِلْحَدِيثِ بِهِ وَهَذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ بِأَنّ دَمَهَا دَمُ حَيْضٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ بِعَيْنِهَا وَلَا يُعَدّ هَذَا تَنَاقُضًا وَلَا خَلَلًا فِي الْعِبَارَةِ . قَالُوا : وَهَكَذَا قَوْلُهُ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسّهَا إنّمَا فِيهِ إبَاحَةُ الطّلَاقِ إذَا كَانَتْ حَائِلًا بِشَرْطَيْنِ الطّهْرُ وَعَدَمُ الْمَسِيسِ فَأَيْنَ فِي هَذَا التّعَرّضِ لِحُكْمِ الدّمِ الّذِي تَرَاهُ عَلَى حَمْلِهَا ؟ وَقَوْلُكُمْ إنّ الْحَامِلَ لَوْ كَانَتْ تَحِيضُ لَكَانَ طَلَاقُهَا فِي زَمَنِ الدّمِ بِدْعَةً وَقَدْ اتّفَقَ النّاسُ عَلَى أَنّ طَلَاقَ الْحَامِلِ لَيْسَ بِبِدْعَةِ وَإِنْ رَأَتْ الدّمَ ؟ قُلْنَا : إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسّمَ أَحْوَالَ الْمَرْأَةِ الّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا إلَى حَالِ حَمْلٍ وَحَالِ خُلُوّ عَنْهُ وَجَوّزَ طَلَاقَ الْحَامِلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَأَمّا غَيْرُ ذَاتِ الْحَمْلِ فَإِنّمَا أَبَاحَ طَلَاقَهَا بِالشّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ دَمَ الْحَامِلِ دَمُ فَسَادٍ بَلْ عَلَى أَنّ الْحَامِلَ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي الطّلَاقِ وَأَنّ غَيْرَهَا إنّمَا تَطْلُقُ طَاهِرًا غَيْرَ مُصَابَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَامِلِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَلْ تَطْلُقُ عَقِيبَ الْإِصَابَةِ وَتَطْلُقُ وَإِنْ رَأَتْ الدّمَ فَكَمَا لَا يَحْرُمُ طَلَاقُهَا عَقِيبَ إصَابَتِهَا لَا يَحْرُمُ حَالَ حَيْضِهَا . وَهَذَا الّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ الشّارِعِ فِي وَقْتِ الطّلَاقِ إذْنًا وَمَنْعًا فَإِنّ الْمَرْأَةَ مَتَى اسْتَبَانَ حَمْلُهَا كَانَ الْمُطَلّقُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ مِنْ النّدَمِ مَا يَعْرِضُ لَهُنّ كُلّهُنّ بَعْدَ الْجِمَاعِ وَلَا يَشْعُرُ بِحَمْلِهَا فَلَيْسَ مَا مُنِعَ مِنْهُ نَظِيرُ [ ص 654 ] الْعِدّةِ فَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحَامِلِ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ لَوْ كَانَ حَيْضًا لَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدّةُ فَهَذَا لَا يَلْزَمُ لَأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِدّةَ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعِدّةَ الْحَائِلِ بِالْأَقْرَاءِ وَلَا يُمْكِنُ انْقِضَاءُ عِدّةِ الْحَامِلِ بِالْأَقْرَاءِ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَمْلِكَهَا الثّانِي وَيَتَزَوّجَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ غَيْرِهِ فَيُسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ . قَالُوا : وَإِذَا كُنْتُمْ سَلّمْتُمْ لَنَا أَنّ الْحَائِضَ قَدْ تَحْبَلُ وَحَمَلْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُكُمْ مَنْعُ ذَلِكَ لِشَهَادَةِ الْحِسّ بِهِ فَقَدْ أَعْطَيْتُمْ أَنّ الْحَيْضَ وَالْحَبَلَ يَجْتَمِعَانِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُكُمْ مِنْ رَأْسِهِ لِأَنّ مَدَارَهُ عَلَى أَنّ الْحَيْضَ لَا يُجَامِعُ الْحَبْلَ . فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ إنّمَا جَوّزْنَا وُرُودَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَيْضِ وَكَلَامُنَا فِي عَكْسِهِ وَهُوَ وُرُودُ الْحَيْضِ عَلَى الْحَمْلِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ . قِيلَ إذَا كَانَا مُتَنَافِيَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَأَيّ فَرْقٍ بَيْنَ وُرُودِ هَذَا عَلَى هَذَا وَعَكْسِهِ ؟ وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ بِانْقِلَابِ دَمِ الطّمْثِ لَبَنًا يَتَغَذّى بِهِ الْوَلَدُ وَلِهَذَا لَا تَحِيضُ الْمَرَاضِعُ . قُلْنَا : وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ حُجّتِنَا عَلَيْكُمْ فَإِنّ هَذَا الِانْقِلَابَ وَالتّغْذِيَةَ بِاللّبَنِ إنّمَا يَسْتَحْكِمُ بَعْدَ الْوَضَعِ وَهُوَ زَمَنُ سُلْطَانِ اللّبَنِ وَارْتِضَاعِ الْمَوْلُودِ وَقَدْ أَجْرَى اللّهُ الْعَادَةَ بِأَنّ الْمُرْضِعَ لَا تَحِيضُ . وَمَعَ هَذَا فَلَوْ رَأَتْ دَمًا فِي وَقْتِ عَادَتِهَا لِحُكْمِ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ بِالِاتّفَاقِ فَلَأَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ فِي الْحَالِ الّتِي لَمْ يُسْتَحْكَمْ فِيهَا انْقِلَابُهُ وَلَا تَغَذّى الطّفْلُ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . قَالُوا : وَهَبْ أَنّ هَذَا كَمَا تَقُولُونَ فَهَذَا إنّمَا يَكُونُ عِنْدَ احْتِيَاجِ الطّفْلِ إلَى التّغْذِيَةِ بِاللّبَنِ وَهَذَا بَعْدَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرّوحُ . فَأَمّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَا يَنْقَلِبُ لَبَنًا لِعَدَمِ حَاجَةِ الْحَمْلِ إلَيْهِ . [ ص 655 ] الْبَاقِي وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرّاجِحُ كَمَا تَرَاهُ نَقْلًا وَدَلِيلًا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .

هَلْ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بالمستبرأة بِغَيْرِ الْوَطْءِ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ ؟
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَمْنَعُونَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بالمستبرأة بِغَيْرِ الْوَطْءِ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ ؟ قِيلَ أَمّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا فَهَذِهِ لَا تَحْرِمُ قُبْلَتُهَا وَلَا مُبَاشَرَتُهَا وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِيّ وَشَيْخُنَا وَغَيْرُهُمَا فَإِنّهُ قَالَ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً بِأَيّ شَيْءٍ تُسْتَبْرَأُ إذَا كَانَتْ رَضِيعَةً ؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ إنْ كَانَتْ تَحِيضُ وَإِلّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ مِمّنْ تُوطَأُ وَتَحْبَلُ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فَظَاهِرُ هَذَا أَنّهُ لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا وَلَا تَحْرِمُ مُبَاشَرَتُهَا وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَقَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ الصّحِيحُ لِأَنّ سَبَبَ الْإِبَاحَةِ مُتَحَقّقٌ وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلِيلٌ فَإِنّهُ لَا نَصّ فِيهَا وَلَا مَعْنَى نَصّ فَإِنّ تَحْرِيمَ مُبَاشَرَةِ الْكَبِيرَةِ إنّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرّمِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ أُمّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ وَلَا يَتَوَهّمُ هَذَا فِي هَذِهِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .

فَصْلٌ [ مُبَاشَرَةُ الْبِكْرِ فِي وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ ]
وَإِنْ كَانَتْ مِمّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَقُلْنَا : لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا فَظَاهِرٌ وَإِنْ قُلْنَا : يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا : تَحْرِمُ قُبْلَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَعِنْدِي أَنّهُ لَا يَحْرُمُ وَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ اسْتِبْرَائِهَا لِأَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَحْرِيمُ دَوَاعِيهِ كَمَا فِي حَقّ الصّائِمِ لَا سِيّمَا وَهُمْ إنّمَا حَرّمُوا تَحْرِيمَ مُبَاشَرَتِهَا لِأَنّهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأَمَةِ الْغَيْرِ هَكَذَا عَلّلُوا تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ ثُمّ قَالُوا : وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَسْبِيّةِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ لِأَنّهَا لَا يُتَوَهّمُ فِيهَا انْفِسَاخُ الْمِلْكِ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَقَرّ بِالسّبْيِ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبِكْرِ مَعْنًى . وَإِنْ كَانَتْ ثَيّبًا فَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمْ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ قَالُوا : لِأَنّهُ اسْتِبْرَاءٌ يُحَرّمُ الْوَطْءَ فَحَرّمَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْعِدّةِ وَلِأَنّهُ لَا يَأْمَنُ [ ص 656 ] أُمّ وَلَدٍ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأُمّ وَلَدِ غَيْرِهِ . قَالُوا : وَلِهَذَا فَارَقَ وَطْءَ تَحْرِيمِ الْحَائِضِ وَالصّائِمِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ : لَا يَحْرُمُ مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ إلّا فَرْجَهَا وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطَأْ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا مَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِمّا دُونَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ كَالْحَائِضِ وَالصّائِمَةِ وَقَدْ قِيلَ إنّ ابْنَ عُمَرَ قَبّلَ جَارِيَتَهُ مِنْ السّبْيِ حِينَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا . وَلِمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرَاةِ وَالْمُعْتَدّةِ أَنّ الْمُعْتَدّةَ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيّةً مِنْهُ فَلَا يَحِلّ وَطْؤُهَا وَلَا دَوَاعِيهِ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنّ وَطْأَهَا إنّمَا يَحْرُمُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ خَشْيَةَ اخْتِلَاطِ مَائِهِ بِمَاءِ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الدّوَاعِي فَهِيَ أَشْبَهُ بِالْحَائِضِ وَالصّائِمَةِ وَنَظِيرُ هَذَا أَنّهُ لَوْ زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا يَحْرُمُ دَوَاعِيهِ وَكَذَلِكَ الْمَسْبِيّةُ كَمَا سَيَأْتِي . وَأَكْثَرُ مَا يُتَوَهّمُ كَوْنُهَا حَامِلًا مِنْ سَيّدِهَا فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عِلّاتِهِ وَلَا يُلْزَمُ الْقَائِلُ بِهِ لِأَنّهُ لَمّا اسْتَمْتَعَ بِهَا كَانَتْ مِلْكَهُ ظَاهِرًا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا يَخْلُو بِهَا وَيُحَدّثُهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا لَا يُبَاحُ مِنْ الْأَجْنَبِيّةِ وَمَا كَانَ جَوَابُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْقُبْلَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يُعْلَمُ فِي جَوَازِ هَذَا نِزَاعٌ فَإِنّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ أَمَتِهِ وَحَوْزِهَا إلَى بَيْتِهِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا مِنْهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا وَالْأَكْلُ مَعَهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَالِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِهَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ .

فَصْلُ [ الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ لِلْمَسْبِيّةِ ]
وَإِنْ كَانَتْ مَسْبِيّةً فَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ . [ ص 657 ] دُونَ الْفَرْجِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيّ لِأَنّهُ قَالَ وَمَنْ مَلَكَ أَمَةً لَمْ يُصِبْهَا وَلَمْ يُقَبّلْهَا حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ لَهَا . وَالثّانِيَةُ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ السّبْيِ أَنّ الْمَسْبِيّةَ لَا يُتَوَهّمُ فِيهَا كَوْنُهَا أُمّ وَلَدٍ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ عَلَى كُلّ حَالٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدّمَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ هَلْ تَبْدَأُ مُدّةُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَكُونُ أَوّلُ مُدّةِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ ؟ قِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ . أَحَدُهُمَا : مِنْ حِينِ الْبَيْعِ لِأَنّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِهِ . وَالثّانِي : مِنْ حِينِ الْقَبْضِ لِأَنّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ . أَمّا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَيَكْفِي عِنْدَهُ الِاسْتِبْرَاءُ قَبْلَ الْبَيْعِ فِي الْمَوَاضِعِ الّتِي تَقَدّمَتْ . فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ فَمَتَى يَكُونُ ابْتِدَاءُ مُدّةِ الِاسْتِبْرَاءِ ؟ قِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي مُدّةِ الْخِيَارِ فَمَنْ قَالَ يَنْتَقِلُ فَابْتِدَاءُ الْمُدّةِ عِنْدَهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ وَمَنْ قَالَ لَا يَنْتَقِلُ فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَهُ مِنْ حِينِ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ خِيَارَ عَيْبٍ ؟ قِيلَ ابْتِدَاءُ الْمُدّةِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ هَلْ سَكَتَتْ السّنّةُ عَنْ اسْتِبْرَاءِ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ ]
فَإِنْ قِيلَ قَدْ دَلّتْ السّنّةُ عَلَى اسْتِبْرَاءِ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعَلَى اسْتِبْرَاءِ الْحَائِلِ بِحَيْضَةِ فَكَيْفَ سَكَتَتْ عَنْ اسْتِبْرَاءِ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ وَلَمْ تَسْكُتْ عَنْهُمَا فِي الْعِدّةِ ؟ [ ص 658 ] قِيلَ لَمْ تَسْكُتْ عَنْهُمَا بِحَمْدِ اللّهِ بَلْ بَيّنَتْهُمَا بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ وَالتّنْبِيهِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِدّةَ الْحُرّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ثُمّ جَعَلَ عِدّةَ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَعُلِمَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ كُلّ قُرْءٍ شَهْرًا . وَلِهَذَا أَجْرَى سُبْحَانَهُ عَادَتَهُ الْغَالِبَةَ فِي إمَائِهِ أَنّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ فِي كُلّ شَهْرٍ حَيْضَةً وَبَيّنَتْ السّنّةُ أَنّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ الْحَائِضِ بِحَيْضَةِ فَيَكُونُ الشّهْرُ قَائِمًا مُقَامَ الْحَيْضَةِ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ فَإِنّهُ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ كَيْفَ جَعَلْتَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ حَيْضَةٍ وَإِنّمَا جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانَ كُلّ حَيْضَةٍ شَهْرًا ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ إنّمَا قُلْنَا : ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ فَإِنّهُ لَا يَتَبَيّنُ فِي أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَمَعَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْقَوَابِلَ فَأَخْبَرُوا أَنّ الْحَمْلَ لَا يَتَبَيّنُ فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنّ النّطْفَةَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا خَرَجَتْ الثّمَانُونَ صَارَتْ بَعْدَهَا مُضْغَةً وَهِيَ لَحْمٌ فَيَتَبَيّنُ حِينَئِذٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ لِي : هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ النّسَاءِ . فَأَمّا شَهْرٌ فَلَا مَعْنَى فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ فَإِنّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ قَالَ عَطَاءٌ إنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً . قَالَ حَنْبَلٌ قَالَ عَمّي : لِذَلِكَ أَذْهَبُ لِأَنّ عِدّةَ الْمُطَلّقَةِ الْآيِسَةِ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنّهَا لَوْ طَلُقَتْ وَهِيَ آيِسَةٌ اعْتَدّتْ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ فِي رِوَايَةٍ فَلَأَنْ تُسْتَبْرَأَ الْأَمَةُ بِهَذَا الْقَدْرِ أَوْلَى . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرَيْنِ حَكَاهَا الْقَاضِي عَنْهُ [ ص 659 ] قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : وَلَمْ أَرَ لِذَلِكَ وَجْهًا . قَالَ وَلَوْ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرَيْنِ لَكَانَ اسْتِبْرَاءُ ذَاتِ الْقُرُوءِ بِقُرْأَيْنِ وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا . وَوَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهَا اُعْتُبِرَتْ بِالْمُطَلّقَةِ وَلَوْ طَلُقَتْ وَهِيَ أُمّةٌ لَكَانَتْ عِدّتُهَا شَهْرَيْنِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَاحْتَجّ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصّوَابُ لِأَنّ الْأَشْهَرَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْقُرُوءِ وَعِدّةُ ذَاتِ الْقُرُوءِ قُرْءَانِ فَبَدَلُهُمَا شَهْرَانِ وَإِنّمَا صِرْنَا إلَى اسْتِبْرَاءِ ذَاتِ الْقُرْءِ بِحَيْضَةِ لِأَنّهَا عِلْمٌ ظَاهِرٌ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِشَهْرِ وَاحِدٍ فَلَا بُدّ مِنْ مُدّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا بَرَاءَتُهَا وَهِيَ إمّا شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَكَانَتْ الشّهْرَانِ أَوْلَى لِأَنّهَا جُعِلَتْ عِلْمًا عَلَى الْبَرَاءَةِ فِي حَقّ الْمُطَلّقَةِ فَفِي حَقّ الْمُسْتَبْرَأَةِ أَوْلَى فَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ . وَبَعْدُ فَالرّاجِحُ مِنْ الدّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِشَهْرِ وَاحِدٍ وَهُوَ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ إيمَاءُ النّصّ وَتَنْبِيهُهُ وَفِي جَعْلِ مُدّةِ اسْتِبْرَائِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرّةِ وَجَعْلُهَا بِشَهْرَيْنِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُطَلّقَةِ فَكَانَ أَوْلَى الْمُدَدِ بِهَا شَهْرًا فَإِنّهُ الْبَدَلُ التّامّ وَالشّارِعُ قَدْ اعْتَبَرَ نَظِيرَ هَذَا الْبَدَلِ فِي نَظِيرِ الْأَمَةِ وَهِيَ الْحُرّةُ وَاعْتَبَرَهُ الصّحَابَةُ فِي الْأَمَةِ الْمُطَلّقَةِ فَصَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ عِدّتُهَا حَيْضَتَانِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَانِ احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ . وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي أَشْهَرِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ عَلَى أَنّهَا إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ اعْتَدّتْ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ تِسْعَةٍ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٍ مَكَانَ الْحَيْضَةِ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ تَعْتَدّ بِسَنَةِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الشّيْخِ أَبِي مُحَمّدٍ قَالَ وَأَحْمَدُ هَاهُنَا جَعَلَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ شَهْرًا لِأَنّ اعْتِبَارَ تَكْرَارِهَا فِي الْآيِسَةِ لِتُعْلَمَ بَرَاءَتُهَا مِنْ الْحَمْلِ وَقَدْ عُلِمَ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ هَاهُنَا بِمُضِيّ غَالِبِ مُدّتِهِ فَجُعِلَ الشّهْرُ مَكَانَ الْحَيْضَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَهَذَا هُوَ الّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ مُفَرّقًا بَيْنَ الْآيِسَةِ وَبَيْنَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَقَالَ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَبِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ اعْتَدّتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٍ مَكَانَ الْحَيْضَةِ . [ ص 660 ] الْبَرَكَاتِ فَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي الّذِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا كَالْخِلَافِ فِي الْآيِسَةِ وَجَعَلَ فِيهَا الرّوَايَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ غَالِبِ مُدّةِ الْحَمْلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيِسَةِ فَقَالَ فِي " مُحَرّرِهِ " : وَالْآيِسَةُ وَالصّغِيرَةُ بِمُضِيّ شَهْرٍ . وَعَنْهُ بِمُضِيّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ . وَعَنْهُ شَهْرَيْنِ وَعَنْهُ شَهْرٌ وَنِصْفٌ . وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ فَبِذَلِكَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ . وَطَرِيقَةُ الْخِرَقِيّ وَالشّيْخِ أَبِي مُحَمّدٍ أَصَحّ وَهَذَا الّذِي اخْتَرْنَاهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِشَهْرِ هُوَ الّذِي مَالَ إلَيْهِ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " فَإِنّهُ قَالَ وَوَجْهُ اسْتِبْرَائِهَا بِشَهْرِ أَنّ اللّهَ جَعَلَ الشّهْرَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الشّهُورُ بِاخْتِلَافِ الْحَيْضَاتِ فَكَانَتْ عِدّةُ الْحُرّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ الثّلَاثَةِ قُرُوءٍ وَعِدّةُ الْأَمَةِ شَهْرَيْنِ مَكَانَ الْقُرْأَيْنِ وَلِلْأَمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ الّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ تِسْعَةٌ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٌ مَكَانَ الْحَيْضَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ هُنَا شَهْرٌ كَمَا فِي حَقّ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا . قَالَ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَجَدْتُمْ مَا دَلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ تَرَبّصٌ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ . قُلْنَا : وَهَاهُنَا مَا يَدُلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ الْإِيَاسُ فَاسْتَوَيَا .

ذِكْرُ أَحْكَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْبُيُوعِ
ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا يَحْرُمُ بَيْعُه
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ حَرّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنّهَا يُطْلَى بِهَا السّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النّاسُ ؟ فَقَالَ " لَا هُوَ حَرَامٌ " ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللّهُ الْيَهُودَ إنّ اللّهَ لَمّا حَرّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمّلُوهُ ثُمّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ [ ص 661 ] ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ بَلَغَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ قَاتَلَ اللّهُ سَمُرَةَ أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ حُرّمَتْ عَلَيْهِمْ الشّحُومُ فَجَمّلُوهَا فَبَاعُوهَا فَهَذَا مِنْ " مُسْنَدِ عُمَرَ " رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " فَجَعَلَاهُ مِنْ " مُسْنَدِ ابْنِ عَبّاسٍ " وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي الْحَرَامَ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَى السّمَاءِ فَتَبَسّمَ فَقَالَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثَمَانَهَا إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَإِنّ الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبْدَانَ عَنْ الصّفّارِ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِي حَدّثَنَا مُسَدّدٌ حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ حَدّثَنَا خَالِدٌ الْحَذّاءُ عَنْ بَرَكَةَ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ . نَحْوُهُ دُونَ قَوْلِهِ إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ ثَمَنَهُ
[ أَجْنَاسُ الْمُحَرّمَاتِ ]
فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْجَوَامِعُ عَلَى تَحْرِيمِ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ مَشَارِبَ تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَمَطَاعِمَ تُفْسِدُ الطّبَاعَ وَتُغَذّي غِذَاءً خَبِيثًا ؟ وَأَعْيَانٍ تُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَتَدْعُو إلَى الْفِتْنَةِ وَالشّرْكِ . [ ص 662 ] عَمّا يُزِيلُهَا وَيُفْسِدُهَا وَبِالثّانِي : الْقُلُوبَ عَمّا يُفْسِدُهَا مِنْ وُصُولِ أَثَرِ الْغِذَاءِ الْخَبِيثِ إلَيْهَا وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي وَبِالثّالِثِ الْأَدْيَانُ عَمّا وُضِعَ لِإِفْسَادِهَا . فَتَضَمّنَ هَذَا التّحْرِيمُ صِيَانَةَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ . وَلَكِنّ الشّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِتَسْتَبِينَ عُمُومُ كَلِمَاتِهِ وَجَمْعُهَا وَتَنَاوُلُهَا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ كَلِمَاتِهِ وَتَأْوِيلُهَا بِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَهَذِهِ خَاصّيّةُ الْفَهْمِ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ الّتِي تَفَاوَتَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَيُؤْتِيهِ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ .

[ تَحْرُمُ بَيْعُ الْخَمْرِ ]
فَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُلّ مُسْكِرٍ مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا عَصِيرًا أَوْ مَطْبُوخًا فَيَدْخُلُ فِيهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَخَمْرُ الزّبِيبِ وَالتّمْرِ وَالذّرَةِ وَالشّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَاللّقْمَةُ الْمَلْعُونَةُ لُقْمَةُ الْفِسْقِ وَالْقَلْبِ الّتِي تُحَرّكُ الْقَلْبَ السّاكِنَ إلَى أَخْبَثِ الْأَمَاكِنِ فَإِنّ هَذَا كُلّهُ خَمْرٌ بِنَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّحِيحِ الصّرِيحِ الّذِي لَا مَطْعَنَ فِي سَنَدِهِ وَلَا إجْمَالَ فِي مَتْنِهِ إذْ صَحّ عَنْهُ قَوْلُهُ كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَصَحّ عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ الّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِخِطَابِهِ وَمُرَادِهِ أَنّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَدُخُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ كَدُخُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْبُرّ وَالشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالزّبِيبِ تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الذّهَبَ بِالذّهَبِ وَالْفِضّةَ بِالْفِضّةِ وَالْبُرّ بِالْبِرّ وَالشّعِيرَ بِالشّعِيرِ وَالتّمْرَ بِالتّمْرِ وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلّا مِثْلًا بِمِثْلٍ [ ص 663 ] فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عَنْ تَنَاوُلِ اسْمِهِ لَهُ فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُسْكِرِ عَنْ اسْمِ الْخَمْرِ فَإِنّهُ يَتَضَمّنُ مَحْذُورَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كَلَامِهِ مَا قَصَدَ دُخُولَهُ فِيهِ . وَالثّانِي : أَنْ يُشْرَعَ لِذَلِكَ النّوْعِ الّذِي أُخْرِجَ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِهِ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِأَلْفَاظِ الشّارِعِ وَمَعَانِيهِ فَإِنّهُ إذَا سَمّى ذَلِكَ النّوْعَ بِغَيْرِ الِاسْمِ الّذِي سَمّاهُ بِهِ الشّارِعُ أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمُسَمّى وَأَعْطَاهُ حُكْمًا آخَرَ . وَلَمّا عَلِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أُمّتِهِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَذَا كَمَا قَالَ لَيَشْرَبَنّ نَاسٌ مِنْ أُمّتِي الْخَمْرَ يُسَمّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا قَضَى قَضِيّةً كُلّيّةً عَامّةً لَا يَتَطَرّقُ إلَيْهَا إجْمَالٌ وَلَا احْتِمَالٌ بَلْ هِيَ شَافِيَةٌ كَافِيَةٌ فَقَالَ كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ هَذَا وَلَوْ أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَالْخَلِيلَ وَأَضْرَابَهُمَا مِنْ أَئِمّةِ اللّغَةِ ذَكَرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ هَكَذَا لَقَالُوا : قَدْ نَصّ أَئِمّةُ اللّغَةِ عَلَى [ ص 664 ] كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَقَوْلُهُمْ حُجّةٌ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ هَدْيِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ مَزِيدٌ تَقْرِيرٌ لِهَذَا وَأَنّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ لَكَانَ الْقِيَاسُ الصّرِيحُ الّذِي اسْتَوَى فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ حَاكِمًا بِالتّسْوِيَةِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشّرْبِ فَالتّفْرِيقُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ ]
[ تَحْرِيمُ بَيْعِ شَحْمِ الْمَيْتَةِ ]
وَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلّ مَا يُسَمّى مَيْتَةً سَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ ذُكّيَ ذَكَاةً لَا تُفِيدُ حِلّهُ . وَيَدْخُلُ فِيهِ أَبْعَاضُهَا أَيْضًا وَلِهَذَا اسْتَشْكَلَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ تَحْرِيمَ بَيْعِ الشّحْمِ مَعَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَنّ قَوْلَهُ لَا هُوَ حَرَامٌ هَلْ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْبَيْعِ أَوْ عَائِدٌ إلَى الْأَفْعَالِ الّتِي سَأَلُوا عَنْهَا ؟ فَقَالَ شَيْخُنَا : هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْبَيْعِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَخْبَرَهُمْ أَنّ اللّهَ حَرّمَ بَيْعَ الْمَيْتَةِ قَالُوا : إنّ فِي شُحُومِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ كَذَا وَكَذَا يَعْنُونَ فَهَلْ ذَلِكَ مُسَوّغٌ لِبَيْعِهَا ؟ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ قُلْت : كَأَنّهُمْ طَلَبُوا تَخْصِيصَ الشّحُومِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ بِالْجَوَازِ كَمَا طَلَبَ الْعَبّاسُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَخْصِيصَ الْإِذْخِرِ مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيمِ نَبَاتِ الْحَرَمِ بِالْجَوَازِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ التّحْرِيمُ عَائِدٌ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَقَالَ هُوَ حَرَامٌ وَلَمْ يَقُلْ هِيَ لِأَنّهُ أَرَادَ الْمَذْكُورَ جَمِيعَهُ وَيُرَجّحُ قَوْلَهُمْ عَوْدُ الضّمِيرِ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَيُرَجّحُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنّ إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ [ ص 665 ] ذَرِيعَةٌ إلَى اقْتِنَاءِ الشّحُومِ وَبَيْعِهَا وَيُرَجّحُهُ أَيْضًا : أَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا هِيَ حَرَامٌ وَهَذَا الضّمِيرُ إمّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الشّحُومِ وَإِمّا إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى التّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حُجّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ الّتِي سَأَلُوا عَنْهَا . وَيُرَجّحُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي الْفَأْرَةِ الّتِي وَقَعَتْ فِي السّمْنِ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ قُرْبَانٌ لَهُ . وَمَنْ رَجّحَ الْأَوّلَ يَقُولُ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ لَا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ أَكْلٍ كَالْوَقِيدِ وَسَدّ الْبُثُوقِ وَنَحْوِهِمَا . قَالُوا : وَالْخَبِيثُ إنّمَا تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَالْأَكْلِ وَاللّبْسِ وَأَمّا الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَابَسَةٍ فَلِأَيّ شَيْءٍ يَحْرُمُ ؟ قَالُوا : وَمَنْ تَأَمّلَ سِيَاقَ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلِمَ أَنّ السّؤَالَ إنّمَا كَانَ مِنْهُمْ عَنْ الْبَيْعِ وَأَنّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرَخّصَ لَهُمْ فِي بَيْعِ الشّحُومِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ هُوَ حَرَامٌ فَإِنّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَقَالُوا : أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْبِحَ بِهَا النّاسُ وَتُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ ؟ وَلَمْ يَقُولُوا : فَإِنّهُ يَفْعَلُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَإِنّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا سُؤَالٌ وَهُمْ لَمْ يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ عَقِيبَ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ قَوْلُهُ " لَا هُوَ حَرَامٌ " صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِهَا وَإِنّمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ عَقِيبَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ فَكَأَنّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرَخّصَ لَهُمْ فِي بَيْعِ الشّحُومِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الّتِي ذَكَرُوهَا فَلَمْ يَفْعَلْ . وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ أَنّ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَحْرُمُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ حَرّمَهُ . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ نَهَاهُمْ عَنْ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ وَأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ [ ص 666 ] قَالُوا : وَمَعْلُومٌ أَنّ إيقَادَ النّجَاسَةِ وَالِاسْتِصْبَاحَ بِهَا انْتِفَاعٌ خَالٍ عَنْ هَذِهِ الْمُفْسِدَةِ وَعَنْ مُلَابَسَتِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ . وَمَا كَانَ هَكَذَا فَالشّرِيعَةُ لَا تُحَرّمُهُ فَإِنّ الشّرِيعَةَ إنّمَا تُحَرّمُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرّاجِحَةَ وَطُرُقَهَا وَأَسْبَابَهَا الْمُوَصّلَةَ إلَيْهَا . قَالُوا : وَقَدْ أَجَازَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ الِاسْتِصْبَاحَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ إذَا خَالَطَتْ دُهْنًا طَاهِرًا فَإِنّهُ فِي أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِالزّيْتِ النّجِسِ وَطَلْيُ السّفُنِ بِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ الشّيْخُ أَبُو مُحَمّدٍ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجّ بِأَنّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللّهِ لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُ النّجِسِ وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ إذَا لَمْ يَمَسّوهُ لِأَنّهُ نَجِسٌ وَهَذَا يَعُمّ النّجِسَ وَالْمُتَنَجّسُ وَلَوْ قُدّرَ أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُتَنَجّسَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِمَا خَالَطَهُ نَجَاسَةُ مَيْتَةٍ أَوْ غَيْرُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَأَيّ فَرْقٍ بَيْنَ الِاسْتِصْبَاحِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا وَبَيْنَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ إذَا خَالَطَهُ دَهْنٌ طَاهِرٌ فَنَجّسَهُ ؟ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ مُفْرَدًا فَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ وَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ تَنَجّسَ بِهِ فَأَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالْغُسْلِ فَصَارَ كَالثّوْبِ النّجِسِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الدّهْنِ الْمُتَنَجّسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ دُهْنِ الْمَيْتَةِ . قِيلَ لَا رَيْبَ أَنّ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ الّذِي عَوّلَ عَلَيْهِ الْمُفَرّقُونَ بَيْنَهُمَا وَلَكِنّهُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ . [ ص 667 ] أَحْمَدَ وَلَا عَنْ الشّافِعِيّ الْبَتّةَ غَسْلُ الدّهْنِ النّجِسِ وَلَيْسَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنّمَا ذَلِكَ مِنْ فَتْوَى بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ . الثّانِي : أَنّ هَذَا الْفَرْقَ وَإِنْ تَأَتّى لِأَصْحَابِهِ فِي الزّيْتِ وَالشّيْرَجِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَتَأَتّى لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَدْهَانِ فَإِنّ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَأَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ قَدْ أَطْلَقَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالدّهْنِ النّجِسِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ . وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا لِلْخَبِيثِ وَالنّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنِيّةً أَوْ طَارِئَةً فَإِنّهُ إنْ حَرّمَ الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخَبِيثِ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ حَرُمَ لِأَجْلِ دُخَانِ النّجَاسَةِ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ حَرُمَ لِكَوْنِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ ذَرِيعَةً إلَى اقْتِنَائِهِ فَلَا فَرْقَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهَذَا دُونَ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ . وَأَيْضًا فَقَدَ جَوّزَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الِانْتِفَاعَ بِالسّرْقِينِ النّجِسُ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزّرْعِ وَالثّمَرِ وَالْبَقْلِ مَعَ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَمُلَابَسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْمُوقَدِ وَظُهُورُ أَثَرِهِ فِي الْبُقُولِ وَالزّرُوعِ وَالثّمَارِ فَوْقَ ظُهُورِ أَثَرِ الْوَقِيدِ وَإِحَالَةُ النّارِ أَتَمّ مِنْ إحَالَةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالشّمْسِ لِلسّرْقِينِ فَإِنْ كَانَ التّحْرِيمُ لِأَجْلِ دُخَانِ النّجَاسَةِ فَمَنْ سَلّمَ أَنّ دُخَانَ النّجَاسَةِ نَجِسٌ وَبِأَيّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيّةِ سُنّةٍ ثَبَتَ ذَلِكَ ؟ وَانْقِلَابُ النّجَاسَةِ إلَى الدّخَانِ أَتَمّ مِنْ انْقِلَابِ عَيْنِ السّرْقِينِ وَالْمَاءِ النّجِسِ ثَمَرًا أَوْ زَرْعًا وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُشَكّ فِيهِ بَلْ مَعْلُومٌ بِالْحِسّ وَالْمُشَاهَدَةِ حَتّى جَوّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللّهُ بَيْعَهُ فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَذِرَةِ لِأَنّ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعَ النّاسِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الزّبْلِ . قَالَ اللّخْمِيّ وَهَذَا يَدُلّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنّهُ يَرَى بَيْعَ الْعَذِرَةِ . وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الزّبْلِ الْمُشْتَرِي أَعْذَرُ فِيهِ مِنْ الْبَائِعِ يَعْنِي فِي اشْتِرَائِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : لَمْ [ ص 668 ] قُلْت : وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَأَنّ بَيْعَ ذَلِكَ حَرَامٌ وَإِنْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا كَالْوَقِيدِ وَإِطْعَامِ الصّقُورِ وَالْبُزَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصّ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالزّيْتِ النّجِسِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى جَوَازِ عَمَلِ الصّابُونِ مِنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ بَابَ الِانْتِفَاعِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَلَيْسَ كُلّ مَا حَرُمَ بَيْعُهُ حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ لَا تَلَازُمُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُؤْخَذُ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ بَيْعِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الّتِي تَحِلّهَا الْحَيَاةُ وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ وَحِلّ بَيْعِ الشّعْرِ وَالْوَبَرِ وَالصّوفِ ]
وَيَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ بَيْعُ أَجْزَائِهَا الّتِي تَحِلّهَا الْحَيَاةُ وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَاللّحْمِ وَالشّحْمِ وَالْعَصَبِ وَأَمّا الشّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصّوفُ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لِأَنّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةِ وَلَا تَحِلّهُ الْحَيَاةُ . وَكَذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ وَأَصْوَافَهَا وَأَوْبَارَهَا طَاهِرَةٌ إذَا كَانَتْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاللّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثّوْرِيّ وَدَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْمُزَنِيّ وَمِنْ التّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَانْفَرَدَ الشّافِعِيّ بِالْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهَا وَاحْتَجّ لَهُ بِأَنّ اسْمَ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ أَجْزَائِهَا بِدَلِيلِ الْأَثَرِ وَالنّظَرِ أَمّا الْأَثَرُ فَفِي " الْكَامِلِ " لِابْنِ عَدِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ ادْفِنُوا الْأَظْفَارَ وَالدّمَ وَالشّعَرَ فَإِنّهَا مَيْتَةٌ وَأَمّا النّظَرُ فَإِنّهُ مُتّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ يَنْمُو بِنَمَائِهِ فَيُنَجّسُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وَبِأَنّهُ شَعَرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلّ نَجِسٍ فَكَانَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَهَذَا لِأَنّ ارْتِبَاطَهُ بِأَصْلِهِ خِلْقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُهُ تَبِعَا فَإِنّهُ مَحْسُوبٌ مِنْهُ عُرْفًا وَالشّارِعُ أَجْرَى الْأَحْكَامَ فِيهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ فَأَوْجَبَ غَسْلَهُ فِي الطّهَارَةِ وَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ يَأْخُذُهُ مِنْ الصّيْدِ كَالْأَعْضَاءِ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فِي النّكَاحِ وَالطّلَاقِ حِلّا وَحُرْمَةً وَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَبِأَنّ الشّارِعَ لَهُ تَشَوّفٌ إلَى إصْلَاحِ الْأَمْوَالِ وَحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إضَاعَتِهَا . وَقَدْ قَالَ لَهُمْ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ هَلّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ [ ص 669 ] كَانَ الشّعْرُ طَاهِرًا لَكَانَ إرْشَادُهُمْ إلَى أَخْذِهِ أَوْلَى لِأَنّهُ أَقَلّ كُلْفَةً وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا . قَالَ الْمُطَهّرُونَ لِلشّعُورِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ النّحْلُ 80 ] وَهَذَا يَعُمّ أَحْيَاءَهَا وَأَمْوَاتَهَا وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " : عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عبيد الله بن عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ مَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَاةِ لِمَيْمُونَةَ مَيّتَةٍ فَقَالَ أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا : وَكَيْفَ وَهِيَ مَيْتَةٌ ؟ قَالَ إنّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا فِي إبَاحَةِ مَا سِوَى اللّحْمِ وَالشّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَالْأَلْيَةِ كُلّهَا دَاخِلَةٌ فِي اللّحْمِ كَمَا دَخَلَتْ فِي تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْعَظْمِ وَالْقَرْنِ وَالظّفْرِ وَالْحَافِرِ فَإِنّ الصّحِيحَ طَهَارَةُ ذَلِكَ كَمَا سَنُقَرّرُهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . قَالُوا : وَلِأَنّهُ لَوْ أُخِذَ حَالَ الْحَيَاةِ لَكَانَ طَاهِرًا فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْضِ وَعَكْسُهُ الْأَعْضَاءُ . قَالُوا : وَلِأَنّهُ لَمّا لَمْ يَنْجُسْ بِجَزّهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ بِالْإِجْمَاعِ دَلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَأَنّهُ لَا رَوْحَ فِيهِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَا أُبِينَ مِنْ حَيّ فَهُوَ مَيْتَة رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ . وَلِأَنّهُ لَا يَتَأَلّمُ بِأَخْذِهِ وَلَا يَحُسّ بِمَسّهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَأَمّا النّمَاءُ فَلَا يَدُلّ عَلَى [ ص 670 ] بِمُفَارَقَتِهَا فَإِنّ مُجَرّدَ النّمَاءِ لَوْ دَلّ عَلَى الْحَيَاةِ وَنَجِسَ الْمَحَلّ بِمُفَارَقَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَتَنَجّسَ الزّرْعُ بِيُبْسِهِ لِمُفَارَقَةِ حَيَاةِ النّمُوّ وَالِاغْتِذَاءِ لَهُ . قَالُوا : فَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ حَيَاةُ حِسّ وَحَرَكَةٍ وَحَيَاةُ نُمُوّ وَاغْتِذَاءٍ فَالْأَوْلَى : هِيَ الّتِي يُؤَثّرُ فَقْدُهَا فِي طَهَارَةِ الْحَيّ دُونَ الثّانِيَةِ . قَالُوا : وَاللّحْمُ إنّمَا يَنْجُسُ لِاحْتِقَانِ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ فِيهِ وَالشّعُورُ وَالْأَصْوَافُ بَرِيئَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَنْتَقِضُ بِالْعِظَامِ وَالْأَظْفَارِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ . قَالُوا : وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطّهَارَةُ وَإِنّمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا التّنْجِيسُ بِاسْتِحَالَتِهَا كَالرّجِيعِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْ الْغِذَاءِ وَكَالْخَمْرِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْ الْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِهَا وَالشّعُورِ فِي حَالِ اسْتِحَالَتِهَا كَانَتْ طَاهِرَةً ثُمّ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِخِلَافِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ فَإِنّهَا عَرَضَ لَهَا مَا يَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا وَهُوَ احْتِقَانُ الْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ . قَالُوا : وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوّاد . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ لَيْسَ مَحَلّهُ عِنْدِي الصّدْقَ وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الحسين بن الْجُنَيْدِ : لَا يُسَاوِي فَلْسًا يُحَدّثُ بِأَحَادِيثِ كَذِبٍ . وَأَمّا حَدِيثُ الشّاةِ الْمَيْتَةِ وَقَوْلُهُ أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا وَلَمْ يَتَعَرّضْ لِلشّعَرِ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ أَطْلَقَ الِانْتِفَاعَ بِالْإِهَابِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشّعَرِ مَعَ أَنّهُ لَا بُدّ فِيهِ مِنْ شَعَرٍ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُقَيّدْ الْإِهَابَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ بِوَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَدَلّ عَلَى أَنّ الِانْتِفَاعَ بِهِ فَرْوًا وَغَيْرَهُ مِمّا لَا يَخْلُو مِنْ الشّعَرِ . [ ص 671 ] وَالثّانِي : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَرْشَدَهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالشّعْرِ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ حَيْثُ يَقُولُ إنّمَا حَرّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلَهَا أَوْ لَحْمَهَا وَالثّالِثُ أَنّ الشّعْرَ لَيْسَ مِنْ الْمَيْتَةِ لِيَتَعَرّضَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنّهُ لَا يَحِلّهُ الْمَوْتُ وَتَعْلِيلُهُمْ بِالتّبَعِيّةِ يَبْطُلُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فَإِنّهُ يَطْهُرُ دُونَ الشّعَرِ عِنْدَهُمْ وَتَمَسّكُهُمْ بِغَسْلِهِ فِي الطّهَارَةِ يَبْطُلُ بِالْجَبِيرَةِ وَتَمَسّكُهُمْ بِضَمَانِهِ مِنْ الصّيْدِ يَبْطُلُ بِالْبَيْضِ وَبِالْحَمْلِ . وَأَمّا فِي النّكَاحِ فَإِنّهُ يَتْبَعُ الْجُمْلَةَ لِاتّصَالِهِ وَزَوَالِ الْجُمْلَةِ بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا وَهَاهُنَا لَوْ فَارَقَ الْجُمْلَةَ بَعْدَ أَنْ تَبِعَهَا فِي التّنَجّسِ لَمْ يُفَارِقْهَا فِيهِ عِنْدَهُمْ فَعُلِمَ الْفِرَقُ .

فَصْلٌ [ هَلْ يَحْرُمُ بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدّبّاغِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا تَحْرِيمُ بَيْعِ عَظْمِهَا وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدّبَاغِ لِشُمُولِ اسْمِ الْمَيْتَةِ لِذَلِكَ ؟ قِيلَ الّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ مِنْهَا هُوَ الّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَاسْتِعْمَالِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النّبِيّ بِقَوْلِهِ إنّ اللّهَ تَعَالَى إذَا حَرّمَ شَيْئًا حَرّمَ ثَمَنَهُ وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ إذَا حَرّمَ أَكْلَ شَيْءٍ " حَرّمَ ثَمَنَهُ فَنَبّهَ عَلَى أَنّ الّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ .

[ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ ]
وَأَمّا الْجِلْدُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ صَارَ عَيْنًا طَاهِرَةً يَنْتَفِعُ فِي اللّبْسِ وَالْفُرُشِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ بَيْعِهِ وَقَدْ نَصّ الشّافِعِيّ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ عَلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ الْقَفّالُ لَا يَتّجِهُ هَذَا إلّا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ يُوَافِقُ مَالِكًا فِي أَنّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ طَهُرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَإِنّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَعَظْمِهَا وَلَحْمِهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدّبْغِ لِأَنّهُ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا فَجَازَ بَيْعُهَا كَالْمُذَكّى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنّ الدّبْغَ إزَالَةٌ أَوْ [ ص 672 ] قُلْنَا : إحَالَةٌ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَحَالَ مِنْ كَوْنِهِ جُزْءً مَيْتَةً إلَى عَيْنٍ أُخْرَى وَإِنْ قُلْنَا : إزَالَةٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنّ وَصْفَ الْمَيْتَةِ هُوَ الْمُحَرّمُ لِبَيْعِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ لَمْ يُسْتَحَلّ . وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَوَازَ أَكْلِهِ وَلَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَكْلُهُ مُطْلَقًا وَتَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا وَالتّفْصِيلُ بَيْنَ جِلْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ فَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الْأَوّلِ غَلّبُوا حُكْمَ الْإِحَالَةِ وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثّانِي غَلّبُوا حُكْمَ الْإِزَالَةِ وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثّالِثِ أَجْرَوْا الدّبَاغَ مَجْرَى الذّكَاةِ فَأَبَاحُوا بِهَا مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِالذّكَاةِ إذَا ذُكّيَ دُونَ غَيْرِهِ وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَكْلِهِ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ السّنّةِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَكّنْ قَائِلُهُ الْقَوْلَ بِهِ إلّا بَعْدَ مَنْعِهِ كَوْنَ الْجِلْدِ بَعْدَ الدّبْغِ مَيْتَةً وَهَذَا مَنْعٌ بَاطِلٌ فَإِنّهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ حَقِيقَةً وَحِسّا وَحُكْمًا وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ حَيَاةٌ بِالدّبْغِ تَرْفَعُ عَنْهُ اسْمَ الْمَيْتَةِ وَكَوْنُ الدّبْغِ إحَالَةً بَاطِلٌ حِسّا فَإِنّ الْجِلْدَ لَمْ يُسْتَحَلّ ذَاتُهُ وَأَجْزَاؤُهُ وَحَقِيقَتُهُ بِالدّبَاغِ فَدَعْوَى أَنّ الدّبَاغَ إحَالَةٌ عَنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى كَمَا تُحِيلُ النّارُ الْحَطَبَ إلَى الرّمَادِ وَالْمُلّاحَةُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ الْمَيْتَاتِ إلَى الْمِلْحِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ . وَأَمّا أَصْحَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ فَفِي " الْمُدَوّنَةِ " لِابْنِ الْقَاسِمِ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا وَإِنْ دُبِغَتْ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ " التّهْذِيبِ " . وَقَالَ الْمَازِرِيّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِأَنّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدّبَاغِ . قَالَ وَأَمّا إذَا فَرّعْنَا عَلَى أَنّهَا تَطْهُرُ بِالدّبَاغِ طِهَارَةً كَامِلَةً فَإِنّا نُجِيزُ بَيْعَهَا لِإِبَاحَةِ جُمْلَةِ مَنَافِعِهَا . قُلْت : عَنْ مَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا : يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَبِهَا قَالَ وَهْبٌ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ جَوّزَ أَصْحَابُهُ بَيْعَهُ . وَالثّانِيَةُ - وَهِيَ أَشْهَرُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - أَنّهُ يَطْهُرُ طَهَارَةً مَخْصُوصَةً يَجُوزُ مَعَهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ قَالَ أَصْحَابُهُ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الصّلَاةُ فِيهِ وَلَا الصّلَاةُ عَلَيْهِ . [ ص 673 ] الْإِمَامِ أَحْمَدَ : فَإِنّهُ لَا يَصِحّ عِنْدَهُ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ . وَعَنْهُ فِي جَوَازِهِ بَعْدَ الدّبْغِ رِوَايَتَانِ هَكَذَا أَطْلَقَهُمَا الْأَصْحَابُ وَهُمَا عِنْدِي مَبْنِيّتَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الرّوَايَةِ عَنْهُ فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الدّبَاغِ .

[ بَيْعُ الدّهْنِ النّجِسِ ]
وَأَمّا بَيْعُ الدّهْنِ النّجَسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِهِ . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ . وَالثّانِي : أَنّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرِ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ . قُلْت : وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ النّجَاسَةِ الْعِلْمُ بِالسّبَبِ الْمُنَجّسِ لَا اعْتِقَادَ الْكَافِرِ نَجَاسَتَهُ . وَالثّالِثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ وَمُسْلِمٍ . وَخَرَجَ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ جَوَازِ إيقَادِهِ وَخَرَجَ أَيْضًا مِنْ طَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ فَيَكُونُ كَالثّوْبِ النّجِسِ وَخَرّجَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَجْهًا بِبَيْعِ السّرْقِينِ النّجِسِ لِلْوَقِيدِ مِنْ بَيْعِ الزّيْتِ النّجِسِ لَهُ وَهُوَ تَخْرِيجٌ صَحِيحٌ .
[ بَيْعُ السّرْجِينِ النّجِسِ ]
وَأَمّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَجَوّزُوا بَيْعَ السّرْقِينِ النّجِسِ إذَا كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَمَنَعُوهُ إذَا كَانَ مُفْرَدًا .

فَصْلٌ [ بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ ]
وَأَمّا عَظْمُهَا فَمَنْ لَمْ يُنَجّسْهُ بِالْمَوْتِ كَأَبِي حَنِيفَهُ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَأْخَذُ الطّهَارَةِ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا : لَا يَدْخُلُ فِي الْمَيْتَةِ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُهَا وَمَنَعُوا كَوْنَ الْأَلَمِ دَلِيلَ حَيّاتِهِ قَالُوا : وَإِنّمَا تُؤْلِمُهُ لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ اللّحْمِ لَا ذَاتَ الْعَظْمِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أَصْحَابُهَا . وَغَيْرُهُمْ ضَعّفَ هَذَا الْمَأْخَذَ جِدّا وَقَالَ الْعَظْمُ يَأْلَمُ حِسّا وَأَلَمُهُ أَشَدّ مِنْ أَلَمِ اللّحْمِ وَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ تَقْدِيرُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ . الثّانِي : أَنّ هَذَا التّقْدِيرَ يَسْتَلْزِمُ الْإِضْرَابَ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِ السّائِلِ الّذِي اسْتَشْكَلَ حَيَاةَ [ ص 674 ] أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ أَخَذَ عَظْمًا بَالِيًا ثُمّ جَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَتّهُ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَتَرَى اللّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا رُمّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ وَيَبْعَثُك وَيُدْخِلُكَ النّارَ فَمَأْخَذُ الطّهَارَةِ أَنّ سَبَبَ تَنْجِيسِ الْمَيْتَةِ مُنْتَفٍ فِي الْعِظَامِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهَا وَلَا يَصِحّ قِيَاسُهَا عَلَى اللّحْمِ لِأَنّ احْتِقَانَ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ يَخْتَصّ بِهِ دُونَ الْعِظَامِ كَمَا أَنّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَا يُنَجّسُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ حَيَوَانٌ كَامِلٌ لِعَدَمِ سَبَبِ التّنْجِيسِ فِيهِ . فَالْعَظْمُ أَوْلَى وَهَذَا الْمَأْخَذُ أَصَحّ وَأَقْوَى مِنْ الْأَوّلِ وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ بَيْعُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرِ الْعَيْنِ . وَأَمّا مَنْ رَأَى نَجَاسَتَهَا فَإِنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إذْ نَجَاسَتُهَا عَيْنِيّةٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى أَنْ تُشْتَرَى عِظَامُ الْمَيْتَةِ وَلَا تُبَاعُ وَلَا أَنْيَابُ الْفِيلِ وَلَا يُتّجَرُ فِيهَا وَلَا يُمْتَشَطُ بِأَمْشَاطِهَا وَلَا يُدْهَنُ بِمَدَاهِنِهَا وَكَيْفَ يُجْعَلُ الدّهْنُ فِي الْمَيْتَةِ وَيُمَشّطُ لِحْيَتَهُ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَهِيَ مَبْلُولَةٌ وَكَرِهَ أَنْ يُطْبَخَ بِعِظَامِ الْمَيْتَةِ وَأَجَازَ مُطَرّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ بَيْعَ أَنْيَابِ الْفِيلِ مُطْلَقًا وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَصْبَغَ إنْ غُلِيَتْ وَسُلِقَتْ وَجَعَلَا ذَلِكَ دِبَاغًا لَهَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21