كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

[ بُطْلَانُ مَنْ أَجَابَ بِتَجْدِيدِ نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ ]
وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَ بِتَجْدِيدِ نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَمِنْ الْقَوْلِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَا عِلْمٍ وَاتّفَاقُ الزّوْجَيْنِ فِي التّلَفّظِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ مَعًا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْلُومُ الِانْتِفَاءِ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ يَقِفُ الْفُرْقَةَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدّةِ ]
وَيَلِي هَذَا الْقَوْلَ مَذْهَبُ مَنْ يَقِفُ الْفُرْقَةَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدّةِ مَعَ مَا فِيهِ إذْ فِيهِ آثَارٌ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً وَلَوْ صَحّتْ لَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِغَيْرِهَا . قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ كَانَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُسْلِمُ الرّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ قَبْلَ الرّجُلِ فَأَيّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدّةِ الْمَرْأَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ التّرْمِذِيّ فِي أَوّلِ الْفَصْلِ وَمَا حَكَاهُ ابْنُ حَزْم ٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ حَكَاهُ ؟ وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ خِلَافُهُ فَإِنّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيّوبَ وَقَتَادَةَ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيّ أَنّ نَصْرَانِيّا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَخَيّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ . وَمَعْلُومٌ بِالضّرُورَةِ أَنّهُ إنّمَا خَيّرَهَا بَيْنَ انْتِظَارِهِ إلَى أَنْ يُسْلِمَ فَتَكُونَ زَوْجَتُهُ كَمَا هِيَ أَوْ تُفَارِقَهُ وَكَذَلِكَ صَحّ عَنْهُ أَنّ نَصْرَانِيّا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرّقَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُسْلِمْ فَفُرّقَ بَيْنَهُمَا [ ص 128 ] قَالَ لِعُبَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ التّغْلِبِيّ وَقَدْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ إمّا أَنْ تُسْلِمَ وَإِلّا نَزَعْتهَا مِنْك فَأَبَى فَنَزَعَهَا مِنْهُ . فَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي خِلَافِ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمّدِ ابْنُ حَزْم ٍ عَنْهُ وَهُوَ حَكَاهَا وَجَعَلَهَا رِوَايَاتٍ أُخَرَ وَإِنّمَا تَمَسّكَ أَبُو مُحَمّدٍ بِآثَارٍ فِيهَا أَنّ عُمَرَ وَابْنَ عَبّاسٍ وَجَابِرًا فَرّقُوا بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِالْإِسْلَامِ وَهِيَ آثَارٌ مُجْمَلَةٌ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي تَعْجِيلِ التّفْرِقَةِ وَلَوْ صَحّتْ فَقَدْ صَحّ عَنْ عُمَرَ مَا حَكَيْنَاهُ وَعَنْ عَلِيّ مَا تَقَدّمَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَزْل
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنّا نَعْزِلُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " وَإِنّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ؟ " قَالَهَا ثَلَاثًا . " مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلّا وَهِيَ كَائِنَةٌ وَفِي السّنَنِ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرّجَالُ وَإِنْ الْيَهُودَ تُحَدّثُ أَنّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى قَالَ " كَذَبَتْ يَهُودُ لَوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ [ ص 129 ] الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ كُنّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَيْضًا : عَنْهُ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ عِنْدِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَرَادَهُ اللّهُ " قَالَ فَجَاءَ الرّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْجَارِيَةَ الّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَك حَمَلَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَيْضًا : عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَعْزِلُ عَنْ امْرَأَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ " فَقَالَ الرّجُلُ أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا أَوْ قَالَ عَلَى أَوْلَادِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَوْ كَانَ ضَارّا ضَرّ فَارِسَ وَالرّومَ وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " و " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْحُرّةِ إلّا بِإِذْنِهَا وَقَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ الْمُحَرّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 130 ] قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُعْزَلُ عَنْ الْحُرّةِ إلّا بِإِذْنِهَا فَقَالَ مَا أَنْكَرَهُ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ وَقَدْ رُوِيَتْ الرّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ عَلِيّ ٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَأَبِي أَيّوبَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ وَخَبّابِ بْنِ الْأَرَتّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَجَاءَتْ الْإِبَاحَةُ لِلْعَزْلِ صَحِيحَةً عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ .

[مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ مَنْ جَوّزَهُ بِإِذْنِ الْحُرّةِ ]
وَحَرّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ . وَفَرّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ الْحُرّةُ فَيُبَاحُ أَوْ لَا تَأْذَنُ فَيَحْرُمُ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً أُبِيحَ بِإِذْنِ سَيّدِهَا وَلَمْ يُبَحْ بِدُونِ إذْنِهِ وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُبَاحُ بِكُلّ حَالٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُبَاحُ بِإِذْنِ الزّوْجَةِ حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَلَا يُبَاحُ بِدُونِ إذْنِهَا حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً .
[مَا احْتَجّ بِهِ الْمُبِيحُونَ ]
[رَدّ الْمُحَرّمِينَ عَلَى الْمُبِيحِينَ ]
فَمَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا احْتَجّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَبِأَنّ حَقّ الْمَرْأَةِ فِي ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ لَا فِي الْإِنْزَالِ وَمَنْ حَرّمَهُ مُطْلَقًا احْتَجّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِه ِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكّاشَةَ قَالَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أُنَاسٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْعَزْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيّ " وَهِيَ { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } قَالُوا : وَهَذَا نَاسِخٌ لِأَخْبَارِ الْإِبَاحَةِ فَإِنّهُ نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ وَأَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى وَفْقِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ وَأَحْكَامُ الشّرْعِ نَاقِلَةٌ عَنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ . قَالُوا : وَقَوْلُ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كُنّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ [ ص 131 ] فَيُقَالُ قَدْ نَهَى عَنْهُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ إنّهُ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى وَالْوَأْدُ كُلّهُ حَرَامٌ . قَالُوا : وَقَدْ فَهِمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ النّهْيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمّا ذَكَرَ الْعَزْلَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا عَلَيْكُمْ أَلّا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ فَإِنّمَا هُوَ الْقَدَرُ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ : فَحَدّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ فَقَالَ وَاَللّهِ لَكَأَنّ هَذَا زَجْرٌ . قَالُوا : وَلِأَنّ فِيهِ قَطْعَ النّسْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْ النّكَاحِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَقَطْعِ اللّذّةِ عِنْدَ اسْتِدْعَاءِ الطّبِيعَةِ لَهَا . قَالُوا : وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَعْزِلُ وَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنّ أَحَدًا مِنْ وَلَدِي يَعْزِلُ لَنَكّلْته وَكَانَ عَلِيّ يَكْرَهُ الْعَزْلَ ذَكَرَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرّ عَنْهُ . وَصَحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي الْعَزْلِ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى . وَصَحّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرَى مُسْلِمًا يَفْعَلُهُ وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ضَرَبَ عُمَرُ عَلَى الْعَزْلِ بَعْضَ بَنِيهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَنْهَيَانِ عَنْ الْعَزْلِ

[التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَظْنُونُ بِهَا التّعَارُضُ ]
وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُعَارِضُ أَحَادِيثَ الْإِبَاحَةِ مَعَ صَرَاحَتِهَا وَصِحّتِهَا أَمّا حَدِيثُ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَإِنّ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد : حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدّثَنَا أَبَانُ حَدّثَنَا يَحْيَى أَنّ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ حَدّثَهُ أَنّ رِفَاعَةَ حَدّثَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرّجَالُ وَإِنّ الْيَهُودَ تُحَدّثُ أَنّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى قَالَ " كَذَبَتْ يَهُودُ لَوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ وَحَسْبُك بِهَذَا الْإِسْنَادِ صِحّةً فَكُلّهُمْ ثِقَاتٌ حُفّاظٌ وَقَدْ أَعَلّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنّهُ [ ص 132 ] يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَمِنْ هَذِهِ الطّرِيقِ أَخْرَجَهُ التّرْمِذِيّ وَالنّسَائِيّ . وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي مُطِيعِ بْنِ رِفَاعَةَ وَقِيلَ عَنْ أَبِي رِفَاعَةَ وَقِيلَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ فَإِنّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ يَحْيَى عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ وَعِنْدَهُ عَنْ ابْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِنْدَهُ عَنْ ابْنِ ثَوْبَانَ عَنْ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد ٍ . وَيَبْقَى الِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ أَبِي رِفَاعَةَ هَلْ هُوَ أَبُو رَافِعٍ أَوْ ابْنُ رِفَاعَةَ أَوْ أَبُو مُطِيعٍ ؟ وَهَذَا لَا يَضُرّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِ رِفَاعَةَ . وَلَا رَيْبَ أَنّ أَحَادِيثَ جَابِرٍ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ وَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُمْ رَخّصُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ رُوّينَا الرّخْصَةَ فِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَأَبِي أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
[قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التّنْزِيهِ وَرَدّ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ ]
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ جُدَامَةَ بِأَنّهُ عَلَى طَرِيقِ التّنْزِيهِ وَضَعّفَتْهُ طَائِفَةٌ وَقَالُوا : كَيْفَ يَصِحّ أَنْ يَكُونَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذّبَ الْيَهُودَ فِي ذَلِكَ ثُمّ يُخْبِرُ بِهِ كَخَبَرِهِمْ ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ الْبَيّنِ وَرَدّتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَقَالُوا : حَدِيثُ تَكْذِيبِهِمْ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَدِيثُ جُدَامَةَ فِي " الصّحِيحِ " .
[مَنْ جَعَلَ التّكْذِيبَ لِمَنْعِ الْحَمْل]ِ
وَجَمَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَقَالَتْ إنّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ إنّ الْعَزْلَ لَا يَكُونُ مَعَهُ حِمْلٌ أَصْلًا فَكَذّبَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ وَقَوْلُهُ إنّهُ الْوَأْدُ الْخَفِيّ " فَإِنّهُ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَمْلَ بِالْكُلّيّةِ كَتَرْكِ الْوَطْءِ فَهُوَ مُؤَثّرٌ فِي تَقْلِيلِهِ .

[مَنْ قَالَ بِأَنّ حَدِيثَ التّحْرِيمِ نَاسِخٌ وَالرّدّ عَلَيْهِ ]
[ ص 133 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ وَلَكِنْ حَدِيثُ التّحْرِيمِ نَاسِخٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ . قَالُوا : لِأَنّهُ نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ وَالْأَحْكَامُ كَانَتْ قَبْلَ التّحْرِيمِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إلَى تَارِيخٍ مُحَقّقٍ يُبَيّنُ تَأَخّرَ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ عَنْ الْآخَرِ وَأَنّى لَهُمْ بِهِ وَقَدْ اتّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيّ ٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنّهَا لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتّى تَمُرّ عَلَيْهَا التّارّاتُ السّبْعُ فَرَوَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَلَسَ إلَى عُمَرَ عَلِيّ وَالزّبَيْرُ وَسَعْدٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ فَقَالُوا : لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ رَجُلٌ إنّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّهَا الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا تَكُونُ مَوْءُودَةٌ حَتّى تَمُرّ عَلَيْهَا التّارّاتُ السّبْعُ حَتّى تَكُونَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمّ تَكُونَ نُطْفَةً ثُمّ تَكُونُ عَلَقَةً ثُمّ تَكُونُ مُضْغَةً ثُمّ تَكُونُ عِظَامًا ثُمّ تَكُونُ لَحْمًا ثُمّ تَكُونُ خَلْقًا آخَرَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ صَدَقْتَ أَطَالَ اللّهُ بَقَاءَك وَبِهَذَا احْتَجّ مَنْ احْتَجّ عَلَى جَوَازِ الدّعَاءِ لِلرّجُلِ بِطُولِ الْبَقَاءِ .
[ ذِكْرُ مَنْ جَوّزَهُ بِإِذْنِ الْحُرّةِ ]
وَأَمّا مَنْ جَوّزَهُ بِإِذْنِ الْحُرّةِ فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ حَقّ فِي الْوَلَدِ كَمَا لِلرّجُلِ حَقّ فِيهِ وَلِهَذَا كَانَتْ أَحَقّ بِحَضَانَتِهِ قَالُوا : وَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ السّرّيّةِ فِيهِ لِأَنّهَا لَا حَقّ لَهَا فِي الْقَسْمِ وَلِهَذَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْفَيْئَةِ . وَلَوْ كَانَ لَهَا حَقّ فِي الْوَطْءِ لَطُولِبَ الْمُؤْلِي مِنْهَا بِالْفَيْئَةِ . قَالُوا : وَأَمّا زَوْجَتُهُ الرّقِيقَةُ فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا صِيَانَةً لِوَلَدِهِ عَنْ الرّقّ وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ إذْنُ سَيّدِهَا لِأَنّ لَهُ حَقًا فِي الْوَلَدِ فَاعْتُبِرَ إذْنُهُ فِي الْعَزْلِ كَالْحُرّةِ وَلِأَنّ بَدَلَ الْبُضْعِ يَحْصُلُ لِلسّيّدِ كَمَا يَحْصُلُ لِلْحُرّةِ فَكَانَ إذْنُهُ فِي الْعَزْلِ كَإِذْنِ الْحُرّةِ . قَالَ أَحْمَد ُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْأَمَةِ إذَا نَكَحَهَا : يَسْتَأْذِنُ أَهْلَهَا يَعْنِي فِي الْعَزْلِ لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ الْوَلَدَ وَالْمَرْأَةُ لَهَا حَقّ تُرِيدُ الْوَلَدَ وَمِلْكُ يَمِينِهِ لَا يَسْتَأْذِنُهَا . [ ص 134 ] وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَالْفَضْلِ ابْنِ زِيَادٍ وَالْمَرْوَذِيّ : يَعْزِلُ عَنْ الْحُرّةِ بِإِذْنِهَا وَالْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا يَعْنِي أَمَتَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ إذَا عَزَلَ عَنْهَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ قَدْ يَكُونُ الْوَلَدُ مَعَ الْعَزْلِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ مَا لِي وَلَدٌ إلّا مِنْ الْعَزْلِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ الْمَرْوَذِيّ : فِي الْعَزْلِ عَنْ أُمّ الْوَلَدِ إنْ شَاءَ فَإِنْ قَالَتْ لَا يَحِلّ لَك ؟ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَيْلِ وَهُوَ وَطْءُ الْمُرْضِعَةِ
ثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : أَنّهُ قَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغَيْلَةِ حَتّى ذَكَرْتُ أَنّ الرّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرّ أَوْلَادَهُمْ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ : لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرّا فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَيُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ قَالَ قُلْت : مَا يَعْنِي ؟ قَالَتْ الْغَيْلَةُ يَأْتِي الرّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ . قُلْت : أَمّا الْحَدِيثُ الْأَوّلُ فَهُوَ حَدِيثُ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَقَدْ تَضَمّنَ [ ص 135 ] لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغَيْلَةِ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ وَعَجُزُهُ ثُمّ سَأَلُوهُ عَنْ الْعَزْلِ فَقَالَ ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيّ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَذَبَتْ يَهُود وَقَدْ يُقَالُ إنّ قَوْلَهُ لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرّا نَهْيٌ أَنْ يَتَسَبّبَ إلَى ذَلِكَ فَإِنّهُ شَبّهَ الْغَيْلَ بِقَتْلِ الْوَلَدِ وَلَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً وَإِلّا كَانَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَانَ قَرِينَ الْإِشْرَاكِ بِاَللّهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ وَطْءَ الْمَرَاضِعِ مِمّا تَعُمّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَتَعَذّرُ عَلَى الرّجُلِ الصّبْرُ عَنْ امْرَأَتِهِ مُدّةَ الرّضَاعِ وَلَوْ كَانَ وَطْؤُهُنّ حَرَامًا لَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ الدّينِ وَكَانَ بَيَانُهُ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ وَلَمْ تُهْمِلْهُ الْأُمّةُ وَخَيْرُ الْقُرُونِ وَلَا يُصَرّحُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فَعُلِمَ أَنّ حَدِيثَ أَسْمَاءَ عَلَى وَجْهِ الْإِرْشَادِ وَالِاحْتِيَاطِ لِلْوَلَدِ وَأَنْ لَا يُعَرّضَهُ لِفَسَادِ اللّبَنِ بِالْحَمْلِ الطّارِئِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِهِمْ غَيْرَ أُمّهَاتِهِمْ وَالْمَنْعُ مِنْهُ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ سَدّ الذّرَائِعِ الّتِي قَدْ تُفْضِي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ وَقَاعِدَةُ بَابِ سَدّ الذّرَائِعِ إذَا عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ قُدّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَالدّوَامِ بَيْنَ الزّوْجَاتِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَنَس ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مِنْ السّنّةِ إذَا تَزَوّجَ الرّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثّيّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ وَإِذَا تَزَوّجَ الثّيّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمّ قَسَمَ . قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : وَلَوْ شِئْت لَقُلْتُ إنّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهَذَا الّذِي قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ قَدْ جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ عَنْ أَنَس ٍ كَمَا رَوَاهُ الْبَزّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ طَرِيقِ أَيّوبَ السّخْتِيَانِيّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ [ ص 136 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثّيّبِ ثَلَاثًا وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ أَيّوبَ وَخَالِدٍ الْحَذّاءِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَس ٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا تَزَوّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوّجَ الثّيّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لَمّا تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمّ قَالَ " إنّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ إنْ شِئْتِ سَبّعْتُ لَك وَإِنْ سَبّعْتُ لَك سَبّعْتُ لِنِسَائِي وَلَهُ فِي لَفْظٍ " لَمّا أَرَادَ أَنْ يَخْرَجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَ إنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتُكِ بِهِ لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثّيّبِ ثَلَاثٌ وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللّهُمّ إنّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي الْقَلْبَ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ أَنّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَكَانَ [ ص 137 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُفَضّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا وَكَانَ قَلّ يَوْمٌ إلّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتّى يَبْلُغَ إلَى الّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : إنّهُنّ كُنّ يَجْتَمِعْنَ كُلّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الّتِي يَأْتِيهَا . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَن عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } أُنْزِلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرّجُل ِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا فَتَقُولُ لَا تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلّ مِنْ النّفَقَةِ عَلَيّ وَالْقَسْمِ لِي فَذَلِكَ قَوْلُهُ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصّلْحُ خَيْرٌ } وَقَضَى خَلِيفَتُهُ الرّاشِدُ وَابْنُ عَمّهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ إذَا تَزَوّجَ الْحُرّةَ عَلَى الْأَمَةِ قَسَمَ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَلِلْحُرّةِ لَيْلَتَيْنِ . وَقَضَاءُ خُلَفَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِقَضَائِهِ فَهُوَ كَقَضَائِهِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْأَمَةِ وَقَدْ احْتَجّ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ بِهَذَا الْقَضَاءِ عَنْ عَلِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ ضَعّفَهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَبِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا فَإِنّهُمَا ثِقَتَانِ حَافِظَانِ جَلِيلَانِ وَلَمْ يَزَلْ النّاسُ يَحْتَجّونَ بِابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى شَيْءٍ مَا فِي حِفْظِهِ يُتّقَى مِنْهُ مَا خَالَفَ فِيهِ [ ص 138 ] الْأَثْبَاتَ وَمَا تَفَرّدَ بِهِ عَنْ النّاسِ وَإِلّا فَهُوَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْ الْأَمَانَةِ وَالصّدْقِ فَتَضَمّنَ هَذَا الْقَضَاءُ أُمُورًا .

[ وُجُوبُ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ ]
مِنْهَا وُجُوبُ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ أَنّهُ إذَا تَزَوّجَ بِكْرًا عَلَى ثَيّبٍ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمّ سَوّى بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيّبًا خَيّرَهَا بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمّ يَقْضِيهَا لِلْبَوَاقِي وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا وَلَا يُحَاسِبُهَا هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَ فِيهِ إمَامُ أَهْلِ الرّأْيِ وَإِمَامُ أَهْلِ الظّاهِرِ وَقَالُوا : لَا حَقّ لِلْجَدِيدَةِ غَيْرَ مَا تَسْتَحِقّهُ الّتِي عِنْدَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا .
[إذَا اخْتَارَتْ الثّيّبُ السّبْعَ قَضّاهُنّ لِلْبَوَاقِي ]
وَمِنْهَا . أَنّ الثّيّبَ إذَا اخْتَارَتْ السّبْعَ قَضَاهُنّ لِلْبَوَاقِي وَاحْتَسَبَ عَلَيْهَا بِالثّلَاثِ وَلَوْ اخْتَارَتْ الثّلَاثَ لَمْ يَحْتَسِبْ عَلَيْهَا بِهَا وَعَلَى هَذَا مَنْ سُومِحَ بِثَلَاثٍ دُونَ مَا فَوْقَهَا فَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْهَا دَخَلَتْ الثّلَاثُ فِي الّذِي لَمْ يُسَامِحْ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَتّبَ عَلَيْهِ إثْمٌ أَثِمَ عَلَى الْجَمِيعِ وَهَذَا كَمَا رَخّصَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . فَلَوْ أَقَامَ أَبَدًا ذُمّ عَلَى الْإِقَامَةِ كُلّهَا .
[ لَا تَجِبُ التّسْوِيَةُ بَيْنَ النّسَاءِ فِي الْمَحَبّةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْوَطْءِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا تَجِبُ التّسْوِيَةُ بَيْنَ النّسَاءِ فِي الْمَحَبّةِ فَإِنّهَا لَا تُمْلَكُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَحَبّ نِسَائِهِ إلَيْهِ . وَأُخِذَ مِنْ هَذَا أَنّهُ لَا تَجِبُ التّسْوِيَةُ بَيْنَهُنّ فِي الْوَطْءِ لِأَنّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَحَبّةِ وَالْمَيْلِ وَهِيَ بِيَدِ مُقَلّبِ الْقُلُوبِ . وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنّهُ إنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الدّاعِي إلَيْهِ وَعَدَمِ الِانْتِشَارِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدّاعِي إلَيْهِ وَلَكِنْ دَاعِيهِ إلَى الضّرّةِ أَقْوَى فَهَذَا مِمّا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمِلْكِهِ فَإِنْ أَدّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التّسْوِيَةُ وَإِنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مِنْهُ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ .

[ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي السّفَرِ وَأَنّهُ لَا يَقْضِي لِلْبَوَاقِي إذَا قَدِمَ ]
وَمِنْهَا : إذَا أَرَادَ السّفَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَاهُنّ إلّا بِقُرْعَةٍ . وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يَقْضِي لِلْبَوَاقِي إذَا قَدِمَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْضِي لِلْبَوَاقِي . [ ص 139 ] أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَقْضِي سَوَاءٌ أَقْرَعَ أَوْ لَمْ يُقْرِعْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَالثّانِي : أَنّهُ يَقْضِي لِلْبَوَاقِي أَقْرَعَ أَوْ لَمْ يُقْرِعْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ . وَالثّالِثُ أَنّهُ إنْ أَقْرَعَ لَمْ يَقْضِ وَإِنْ لَمْ يُقْرِعْ قَضَى وَهَذَا قَوْل ُ أَحْمَد َ وَالشّافِعِيّ .
[لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ لَيْلَتَهَا لِضَرّتِهَا ]
وَمِنْهَا : أَنّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ لَيْلَتَهَا لِضَرّتِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ جَعْلُهَا لِغَيْرِ الْمَوْهُوبَةِ وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزّوْجِ فَلَهُ جَعْلُهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ اللّيْلَةَ حَقّ لِلْمَرْأَةِ فَإِذَا أَسَقَطَتْهَا وَجَعَلَتْهَا لِضَرّتِهَا تَعَيّنَتْ لَهَا وَإِذَا جَعَلَتْهَا لِلزّوْجِ جَعَلَهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ فَإِذَا اتّفَقَ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ قَسَمَ لَهَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا فَهَلْ لَهُ نَقْلُهَا إلَى مُجَاوَرَتِهَا فَيَجْعَلُ اللّيْلَتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد َ وَالشّافِعِيّ . وَمِنْهَا : أَنّ الرّجُلَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ كُلّهِنّ فِي يَوْمِ إحْدَاهُنّ وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا . وَمِنْهَا : أَنّ لِنِسَائِهِ كُلّهِنّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ فِي بَيْتِ صَاحِبَةِ النّوْبَةِ يَتَحَدّثْنَ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ النّوْمِ فَتَؤُوبُ كُلّ وَاحِدَةٍ إلَى مَنْزِلِهَا .

[إنْ رَضِيَتْ الزّوْجَةُ بِالْإِقَامَةِ عِنْدَ الزّوْجِ وَلَا حَقّ لَهَا فِي الْقَسْمِ وَالْوَطْءِ وَالنّفَقَةِ
فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الرّجُلَ إذَا قَضَى وَطَرًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَكَرِهَتْهَا نَفْسُهُ أَوْ عَجَزَ عَنْ حُقُوقِهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلّقَهَا وَلَهُ أَنْ يُخَيّرَهَا إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ وَلَا حَقّ لَهَا فِي الْقَسْمِ وَالْوَطْءِ وَالنّفَقَةِ أَوْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ لَزِمَ وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ بَعْدَ الرّضَى . هَذَا مُوجَبُ السّنّةِ وَمُقْتَضَاهَا وَهُوَ الصّوَابُ الّذِي لَا يَسُوغُ غَيْرُهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ حَقّهَا يَتَجَدّدُ فَلَهَا الرّجُوعُ فِي ذَلِكَ مَتَى شَاءَتْ فَاسِدٌ فَإِنّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدْ سَمّاهُ اللّهُ تَعَالَى صُلْحًا فَيَلْزَمُ كَمَا يَلْزَمُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ [ ص 140 ] لَكَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الضّرَرِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ صُلْحًا بَلْ كَانَ مِنْ أَقْرَبِ أَسْبَابِ الْمُعَادَاةِ وَالشّرِيعَةُ مُنَزّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ أَنّهُ إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَالْقَضَاءُ النّبَوِيّ يَرُدّ هَذَا .
[الْأَمَةُ الْمُزَوّجَةُ عَلَى النّصْفِ مِنْ الْحُرّةِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْأَمَةَ الْمُزَوّجَةَ عَلَى النّصْفِ مِنْ الْحُرّةِ كَمَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِي رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إلّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنّهُمَا سَوَاءٌ وَبِهَا قَالَ أَهْلُ الظّاهِرِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُسَوّ بَيْنَ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ لَا فِي الطّلَاقِ وَلَا فِي الْعِدّةِ وَلَا فِي الْحَدّ وَلَا فِي الْمِلْكِ وَلَا فِي الْمِيرَاثِ وَلَا فِي الْحَجّ وَلَا فِي مُدّةِ الْكَوْنِ عِنْدَ الزّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا فِي أَصْلِ النّكَاحِ بَلْ جَعَلَ نِكَاحَهَا بِمَنْزِلَةِ الضّرُورَةِ وَلَا فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَإِنّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوّجُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَتَزَوّجُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَيُطَلّقُ ثِنْتَيْنِ وَتَعْتَدّ امْرَأَتُهُ حَيْضَتَيْنِ وَاحْتَجّ بِهِ أَحْمَد وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَحِلّ لِلْعَبْدِ مِنْ النّسَاءِ إلّا ثِنْتَانِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ النّاسَ كَمْ يَتَزَوّجُ الْعَبْدُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ ثِنْتَيْنِ وَطَلَاقُهُ ثِنْتَيْنِ . فَهَذَا عُمَرُ وَعَلِيّ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي الصّحَابَةِ مَعَ انْتِشَارِ هَذَا الْقَوْلِ وَظُهُورِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْقِيَاسِ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحُبْلَى مِنْ غَيْرِ الْوَاطِئِ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 141 ] أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَى بِامْرَأَةِ مُجِحّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ " لَعَلّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمّ بِهَا " . فَقَالُوا : نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يُوَرّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ
[الِاخْتِلَافُ فِي نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًى]
قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ : لَا يَصِحّ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَامِلِ خَبَرٌ غَيْرُ هَذَا . انْتَهَى وَقَدْ رَوَى أَهْلُ " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : " لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَى تَحِيضَ حَيْضَةً وَفِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِت ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . .. وَفِيهِ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ وَطْءَ السّبَايَا حَتّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنّ وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ يُوَرّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ كَانَ شَيْخُنَا يَقُولُ فِي مَعْنَاهُ كَيْفَ يَجْعَلُهُ عَبْدًا مَوْرُوثًا عَنْهُ وَيَسْتَخْدِمُهُ اسْتِخْدَامَ الْعَبِيدِ وَهُوَ وَلَدُهُ لِأَنّ وَطْأَهُ زَادَ فِي خَلْقِهِ ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : الْوَطْءُ يَزِيدُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ . قَالَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ فَوَطِئَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا فَإِنّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُشْتَرِي وَلَا يَتْبَعُهُ لَكِنْ يُعْتِقُهُ لِأَنّهُ قَدْ شَرِكَ فِيهِ لِأَنّ الْمَاءَ يَزِيدُ فِي [ ص 142 ] أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ بِامْرَأَةِ مُجِحّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ " لَعَلّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمّ بِهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . يَعْنِي : أَنّهُ إنْ اسْتَلْحَقَهُ وَشَرِكَهُ فِي مِيرَاثِهِ لَمْ يَحِلّ لَهُ لِأَنّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهِ وَإِنْ أَخْذَهُ مَمْلُوكًا يَسْتَخْدِمُهُ لَمْ يَحِلّ لَهُ لِأَنّهُ قَدْ شَرِكَ فِيهِ لِكَوْنِ الْمَاءِ يَزِيدُ فِي الْوَلَدِ . وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْحَامِلِ سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ سَيّدٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ إلّا فِيمَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى فَفِي صِحّةِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد َ وَمَالِكٍ وَالثّانِي : صِحّتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَة َ وَالشّافِعِيّ ثُمّ اخْتَلَفَا فَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الْوَطْءِ حَتّى تَنْقَضِيَ الْعِدّةُ وَكَرِهَهُ الشّافِعِيّ وَقَالَ أَصْحَابُهُ لَا يَحْرُمُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّجُلِ يُعْتِقُ أَمَتَهُ وَيَجْعَلُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا
ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحِ " : أَنّهُ أَعْتَقَ صَفِيّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا . قِيلَ لِأَنَسٍ مَا أَصْدَقَهَا ؟ قَالَ أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا وَذَهَبَ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَفَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَعْلَمِ التّابِعِينَ وَسَيّدِهِمْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَن ِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَالزّهْرِيّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ . وَعَنْ أَحْمَد َ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنّهُ لَا يَصِحّ حَتّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا بِإِذْنِهَا فَإِنْ أَبَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهَا . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنّهُ يُوكِلُ رَجُلًا يُزَوّجُهُ إيّاهَا . وَالصّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوّلُ الْمُوَافِقُ لِلسّنّةِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ فَإِنّهُ كَانَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا فَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَتِهَا وَأَبْقَى مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ النّكَاحِ [ ص 143 ] أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِمّا لَوْ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي غَزَاةِ خَيْبَرَ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِحّةِ النّكَاحِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْإِجَازَةِ
[ تَخْيِيرُ الْكَارِهَةِ ]
فِي " السّنَنِ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَتْ أَنّ أَبَاهَا زَوّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيّرَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ تَخْيِيرُ الصّغِيرِ ]
[ تَخْيِيرُ الْيَتِيمَةِ عِنْدَ الْبُلُوغِ ]
وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي صَغِيرٍ زَوّجَهُ عَمّهُ قَالَ إنْ رَضِيَ بِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَسَخَ وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ إذَا زُوّجَتْ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَلَغَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ وَكَذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ حُكِيَ لَهُ قَوْلُ سُفْيَانَ فِي يَتِيمَةٍ زُوّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الزّوْجُ ثُمّ حَاضَتْ عِنْدَ الزّوْجِ بَعْدُ قَالَ تُخَيّرُ فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَقَعْ التّزْوِيجُ وَهِيَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْتُ زَوْجِي ؟ فَلْيَشْهَدُوا عَلَى نِكَاحِهِمَا . قَالَ أَحْمَدُ جَيّدٌ .
[ تَخْيِيرُ السّيّدِ بِزَوَاجِ عَبْدِهِ ]
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الْعَبْدِ إذَا تَزَوّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيّدِهِ ثُمّ عَلِمَ السّيّدُ بِذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ يُطَلّقُ عَلَيْهِ فَالطّلَاقُ بِيَدِ السّيّدِ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التّزْوِيجِ فَالطّلَاقُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُطَلّقُ أَيْ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَيَمْنَعُ تَنْفِيذَهُ وَإِجَازَتَهُ هَكَذَا أَوّلَهُ الْقَاضِي وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النّصّ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مَذْهَبِهِ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي صِحّةَ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنّ الْإِذْنَ إذَا جَازَ أَنْ يَتَقَدّمَ الْقَبُولَ وَالْإِيجَابَ جَازَ أَنْ يَتَرَاخَى عَنْهُ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ كَمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عَلَى الْفَسْخِ يَجُوزُ وَقْفُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْوَصِيّةِ [ ص 144 ] ثَانِي الْحَالِ كَحُصُولِهِ فِي الْأَوّلِ وَلِأَنّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ هُوَ وَقْفٌ لِلْعَقْدِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَرَدّهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النّكَاحِ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الْحُجُرَاتُ 13 ] . وَقَالَ تَعَالَى . { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الْحُجُرَاتُ 10 ] . وَقَالَ { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [ التّوْبَةُ 71 ] وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } [ آلُ عِمْرَانَ 195 ] . وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيّ عَلَى عَجَمِيّ وَلَا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ . وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلّا بِالتّقْوَى النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ آلَ بَنِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إنّ أَوْلِيَائِي الْمُتّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا [ ص 145 ] التّرْمِذِيّ : عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ؟ فَقَالَ إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرّاتٍ . وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَنِي بَيَاضَةَ أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ وَكَانَ حَجّامًا وَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْقُرَشِيّةَ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ وَزَوّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ الْفِهْرِيّةَ الْقُرَشِيّةَ مِنْ أُسَامَةَ ابْنِهِ وَتَزَوّجَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ بِأُخْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ } [ النّورُ 26 ] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النّسَاءِ } [ النّسَاءُ 3 ]

[ لَمْ يَعْتَبِرْ الْقُرْآنُ وَالسّنّةُ فِي الْكَفَاءَةِ إلّا الدّينَ ]
فَاَلّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتِبَارُ الدّينِ فِي الْكَفَاءَةِ أَصْلًا وَكَمَالًا فَلَا تُزَوّجُ مُسْلِمَةٌ بِكَافِرٍ وَلَا عَفِيفَةٌ بِفَاجِرٍ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْقُرْآنُ وَالسّنّةُ فِي الْكَفَاءَةِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِنّهُ حَرّمَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ نِكَاحَ الزّانِي الْخَبِيثِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ نَسَبًا وَلَا صِنَاعَةٌ وَلَا غِنًى وَلَا حُرّيّةً فَجَوّزَ لِلْعَبْدِ الْقِنّ نِكَاحَ الْحُرّةِ النّسِيبَةِ الْغَنِيّةِ إذَا كَانَ عَفِيفًا مُسْلِمًا وَجَوّزَ لِغَيْرِ الْقُرَشِيّينَ نِكَاحَ الْقُرَشِيّات وَلِغَيْرِ الْهَاشِمِيّينَ نِكَاحَ الْهَاشِمِيّاتِ وَلِلْفُقَرَاءِ نِكَاحَ الْمُوسِرَاتِ .
[ مَذْهَبُ مَالِكٍ ]
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوْصَافِ الْكَفَاءَةِ فَقَالَ مَالِكٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ إنّهَا [ ص 146 ]
[ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ]
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ النّسَبُ وَالدّينُ .
[ مَذْهَبُ أَحْمَدَ ]
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هِيَ الدّينُ وَالنّسَبُ خَاصّةً . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : هِيَ خَمْسَةٌ الدّينُ وَالنّسَبُ وَالْحُرّيّةُ وَالصّنَاعَةُ وَالْمَالُ . وَإِذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا النّسَبُ فَعَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا : أَنّ الْعَرَبَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ . الثّانِيَةُ أَنّ قُرَيْشًا لَا يُكَافِئُهُمْ إلّا قُرَشِيّ وَبَنُو هَاشِمٍ لَا يُكَافِئُهُمْ إلّا هَاشِمِيّ .
[ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ ]
وَقَالَ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ : يُعْتَبَرُ فِيهَا الدّينُ وَالنّسَبُ وَالْحُرّيّةُ وَالصّنَاعَةُ وَالسّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُنَفّرَةِ . وَلَهُمْ فِي الْيَسَارِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ اعْتِبَارُهُ فِيهَا وَإِلْغَاؤُهُ وَاعْتِبَارُهُ فِي أَهْلِ الْمُدُنِ دُونَ أَهْلِ الْبَوَادِي فَالْعَجَمِيّ لَيْسَ عِنْدَهُمْ كُفْئًا لِلْعَرَبِيّ وَلَا غَيْرُ الْقُرَشِيّ لِلْقُرَشِيّةِ وَلَا غَيْرُ الْهَاشِمِيّ لِلْهَاشِمِيّةِ وَلَا غَيْرُ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالصّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ كُفْئًا لِمَنْ لَيْسَ مُنْتَسِبًا إلَيْهِمَا وَلَا الْعَبْدُ كُفْئًا لِلْحُرّةِ وَلَا الْعَتِيقُ كُفْئًا لِحُرّةِ الْأَصْلِ وَلَا مَنْ مَسّ الرّقّ أَحَدَ آبَائِهِ كُفْئًا لِمَنْ لَمْ يَمَسّهَا رِقّ وَلَا أَحَدًا مِنْ آبَائِهَا وَفِي تَأْثِيرِ رِقّ الْأُمّهَاتِ وَجْهَانِ وَلَا مَنْ بِهِ عَيْبٌ مُثْبِتٌ لِلْفَسْخِ كُفْئًا لِلسّلِيمَةِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ وَكَانَ مُنَفّرًا كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ وَتَشْوِيهِ الْخِلْقَةِ فَوَجْهَانِ . وَاخْتَارَ الرّويَانِيّ أَنّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ وَلَا الْحَجّامُ وَالْحَائِكُ وَالْحَارِسُ كُفْئًا لِبِنْتِ التّاجِرِ وَالْخَيّاطِ وَنَحْوِهِمَا وَلَا الْمُحْتَرِفُ لِبِنْتِ الْعَالِمِ وَلَا الْفَاسِقُ كُفْئًا لِلْعَفِيفَةِ وَلَا الْمُبْتَدِعُ لِلسّنّيّةِ وَلَكِنْ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ حَقّ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ .

[ لِمَنْ حَقّ الْكَفَاءَةِ ]
ثُمّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ : هِيَ لِمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي الْحَالِ . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ حَقّ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ فَمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ فَلَهُ الْفَسْخُ . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ إنّهَا حَقّ اللّهِ فَلَا يَصِحّ رِضَاهُمْ بِإِسْقَاطِهِ وَلَكِنْ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ لَا تُعْتَبَرُ الْحُرّيّةُ وَلَا الْيَسَارُ وَلَا الصّنَاعَةُ وَلَا النّسَبُ إنّمَا يُعْتَبَرُ الدّينُ فَقَطْ فَإِنّهُ لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ [ ص 147 ] أَحَدٌ : إنّ نِكَاحَ الْهَاشِمِيّةِ لِغَيْرِ الْهَاشِمِيّ وَالْقُرَشِيّةِ لِغَيْرِ الْقُرَشِيّ بَاطِلٌ وَإِنّمَا نَبّهْنَا عَلَى هَذَا لِأَنّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَحْكُونَ الْخِلَافَ فِي الْكِفَاءَةِ هَلْ هِيَ حَقّ لِلّهِ أَوْ لِلْآدَمِيّ ؟ وَيُطْلِقُونَ مَعَ قَوْلِهِمْ إنّ الْكَفَاءَةَ هِيَ الْخِصَالُ الْمَذْكُورَةُ وَفِي هَذَا مِنْ التّسَاهُلِ وَعَدَمِ التّحْقِيقِ مَا فِيهِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " و " السّنَنِ " : أَنّ بَرِيرَةَ كَاتَبَتْ أَهْلَهَا وَجَاءَتْ تَسْأَلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إنْ أَحَبّ أَهْلُك أَنْ أَعُدّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا إلّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمّ خَطَبَ النّاسَ فَقَالَ " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللّهِ أَحَقّ وَشَرْطُ اللّهِ أَوْثَقُ وَإِنّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " ثُمّ خَيّرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ أَنْ تَبْقَى عَلَى نِكَاحِ زَوْجِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ لَهَا : " إنّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ " فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَأْمُرُنِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ " لَا إنّمَا أَنَا شَافِعٌ قَالَتْ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ وَقَالَ لَهَا إذْ خَيّرَهَا : إنْ قَرُبَك فَلَا خِيَارَ لَك " وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ وَتُصُدّقَ عَلَيْهَا بِلَحْمٍ فَأَكَلَ مِنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيّةٌ [ ص 148 ]

[ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْمَرْأَةِ وَبَيْعِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ لَمْ يُعْجِزْهُ سَيّدُهُ ]
وَكَانَ فِي قِصّةِ بَرِيرَةَ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْمَرْأَةِ وَجَوَازُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ لَمْ يُعْجِزْهُ سَيّدُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ لَا يَطَأُ مُكَاتَبَتَهُ أَلَا تَرَى أَنّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبِيعَهَا . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشّافِعِيّ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقَرّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَلَى شِرَائِهَا وَأَهْلَهَا عَلَى بَيْعِهَا وَلَمْ يَسْأَلْ أَعَجَزَتْ أَمْ لَا وَمَجِيئُهَا تَسْتَعِينُ فِي كِتَابَتِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَجْزَهَا وَلَيْسَ فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ مَحْذُورٌ فَإِنّ بَيْعَهُ لَا يُبْطِلُ كِتَابَتَهُ فَإِنّهُ يَبْقَى عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ إنْ أَدّى إلَيْهِ عَتَقَ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى الرّقّ كَمَا كَانَ عِنْدَ بَائِعِهِ فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السّنّةُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ . وَقَدْ ادّعَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ . قَالُوا : لِأَنّ قِصّةَ بَرِيرَةَ وَرَدَتْ بِنَقْلِ الْكَافّةِ وَلَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لِأَنّهَا صَفْقَةٌ جَرَتْ بَيْنَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ بَعْضِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ مَوَالِي بَرِيرَةَ ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ فِي أَمْرِ بَيْعِهَا خُطْبَةً فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَشْهَرَ مِنْ هَذَا ثُمّ كَانَ مِنْ مَشْيِ زَوْجِهَا خَلْفَهَا بَاكِيًا فِي أَزِقّةِ الْمَدِينَةِ مَا زَادَ الْأَمْرَ شُهْرَةً عِنْدَ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ قَالُوا : فَظَهَرَ يَقِينًا أَنّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصّحَابَةِ إذْ لَا يُظَنّ بِصَاحِبٍ أَنّهُ يُخَالِفُ مِنْ سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الظّاهِرِ الْمُسْتَفِيضِ . قَالُوا : وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجِدُوا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إلّا رِوَايَةً شَاذّةً عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ لَا يُعْرَفُ لَهَا إسْنَادٌ .
[ مُسْتَمْسِك مِنْ مَنْعِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ ]
وَاعْتَذَرَ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ بِعُذْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ بَرِيرَةَ كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ وَهَذَا [ ص 149 ] الشّافِعِيّ . وَالثّانِي : أَنّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ لَا عَلَى رَقَبَتِهَا وَهَذَا عُذْرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ .

[ الرّدّ عَلَى مَنْ ادّعَى عَجْزَ بَرِيرَةَ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ ]
وَهَذَانِ الْعُذْرَانِ أَحْوَجُ إلَى أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْهُمَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَا يَصِحّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمّا الْأَوّلُ فَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ الْقِصّةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ شَهِدَهَا الْعَبّاسُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ وَكَانَتْ الْكِتَابَةُ تِسْعَ سِنِينَ فِي كُلّ سَنَةٍ أُوقِيّةٌ وَلَمْ تَكُنْ بَعْدُ أَدّتْ شَيْئًا وَلَا خِلَافَ أَنّ الْعَبّاسَ وَابْنَهُ إنّمَا سَكَنَا الْمَدِينَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ وَلَمْ يَعِشْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إلّا عَامَيْنِ وَبَعْضَ الثّالِثِ فَأَيْنَ الْعَجْزُ وَحُلُولُ النّجُومِ ؟ وَأَيْضًا فَإِنّ بَرِيرَةَ لَمْ تَقُلْ عَجَزْت وَلَا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ أَعَجَزْت ؟ وَلَا اعْتَرَفَ أَهْلُهَا بِعَجْزِهَا وَلَا حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَجْزِهَا وَلَا وَصَفَهَا بِهِ وَلَا أَخْبَرَ عَنْهَا الْبَتّةَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْعَجْزُ الّذِي تَعْجِزُونَ عَنْ إثْبَاتِهِ ؟ وَأَيْضًا فَإِنّهَا إنّمَا قَالَتْ لِعَائِشَةَ : كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلّ سَنَةٍ أُوقِيّةً وَإِنّي أُحِبّ أَنْ تُعِينِينِي وَلَمْ تَقُلْ لَمْ أُؤَدّ لَهُمْ شَيْئًا وَلَا مَضَتْ عَلَيّ نُجُومٌ عِدّةٌ عَجَزْت عَنْ الْأَدَاءِ فِيهَا وَلَا قَالَتْ عَجّزَنِي أَهْلِي . وَأَيْضًا فَإِنّهُمْ لَوْ عَجَزُوهَا لَعَادَتْ فِي الرّقّ وَلَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ لِتَسْعَى فِي كِتَابَتِهَا وَتَسْتَعِينَ بِعَائِشَةَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ بَطَلَ . فَإِنْ قِيلَ الّذِي يَدُلّ عَلَى عَجْزِهَا قَوْلُ عَائِشَةَ إنْ أَحَبّ أَهْلُك أَنْ أَشْتَرِيَك وَأَعْتِقَك وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْت . وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : " اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى إنْشَاءِ عِتْقٍ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَعِتْقُ الْمُكَاتَبِ بِالْأَدَاءِ لَا بِإِنْشَاءٍ مِنْ السّيّدِ . قِيلَ هَذَا هُوَ الّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ الْكِتَابَةِ . قَالُوا : وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهَا لَا تَبْطُلُ إلّا بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ أَوْ تَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ وَحِينَئِذٍ فَيَعُودُ فِي الرّقّ فَإِنّمَا وَرَدَ الْبَيْعُ عَلَى رَقِيقٍ لَا عَلَى مُكَاتَبٍ . وَجَوَابُ هَذَا : أَنّ تَرْتِيبَ الْعِتْقِ عَلَى الشّرَاءِ لَا يَدُلّ عَلَى إنْشَائِهِ فَإِنّهُ تَرْتِيبٌ لِلْمُسَبّبِ عَلَى سَبَبِهِ وَلَا سِيّمَا فَإِنّ عَائِشَةَ لَمّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَجّلَ كِتَابَتَهَا جُمْلَةً [ ص 150 ] وَاحِدَةً كَانَ هَذَا سَبَبًا فِي إعْتَاقِهَا وَقَدْ قُلْتُمْ أَنْتُمْ إنّ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ

[ الرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ لَا عَلَى رَقَبَتِهَا ]
إنّ هَذَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمُسَبّبِ عَلَى سَبَبِهِ وَأَنّهُ بِنَفْسِ الشّرَاءِ يُعْتِقُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ عِتْقٍ . وَأَمّا الْعُذْرُ الثّانِي : فَأَمْرُهُ أَظْهَرُ وَسِيَاقُ الْقِصّةِ يُبْطِلُهُ فَإِنّ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا وَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهَا وَهَذَا مِمّا لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَمْ تَشْتَرِ الْمَالَ وَالْمَالُ كَانَ تِسْعَ أَوَاقٍ مُنَجّمَةٍ فَعَدّتْهَا لَهُمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَتَعَرّضْ لِلْمَالِ الّذِي فِي ذِمّتِهَا وَلَا كَانَ غَرَضُهَا بِوَجْهٍ مَا وَلَا كَانَ لِعَائِشَةَ غَرَضٌ فِي شِرَاءِ الدّرَاهِمِ الْمُؤَجّلَةِ بِعَدَدِهَا حَالّةً .
[ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللّهِ ]
وَفِي الْقِصّةِ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِالنّقُودِ عَدَدًا إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ مِقْدَارُهَا وَفِيهَا أَنّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْآخَرِ شَرْطًا يُخَالِفُ حُكْمَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ " لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ " أَيْ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللّهِ جَوَازُهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهُ وَإِبَاحَتُهُ وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كِتَابُ اللّهِ أَحَقّ وَشَرْطُ اللّهِ أَوْثَقُ

[ هَلْ يَصِحّ الْعَقْدُ الّذِي فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ ]
وَقَدْ اسْتَدَلّ بِهِ مَنْ صَحّحَ الْعَقْدَ الّذِي شُرِطَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِهِ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ يَظْهَرُ الصّوَابُ مِنْهُ فِي تَبْيِينِ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنّهُ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى النّاسِ قَوْلُهُ " اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَأَذِنَ لَهَا فِي هَذَا الِاشْتِرَاطِ وَأَخْبَرَ أَنّهُ لَا يُفِيدُ . وَالشّافِعِيّ طَعَنَ فِي هَذِهِ اللّفْظَةِ وَقَالَ إنّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَرَدّهَا الشّافِعِيّ وَلَمْ يُثْبِتْهَا وَلَكِنْ أَصْحَابُ " الصّحِيحَيْنِ " وَغَيْرُهُمْ أَخْرَجُوهَا وَلَمْ يَطْعَنُوا فِيهَا وَلَمْ يُعَلّلْهَا أَحَدٌ سِوَى الشّافِعِيّ فِيمَا نَعْلَمُ . [ ص 151 ]
[ مَعْنَى اللّامِ فِي " اشْتَرِطِي لَهُمْ ]
ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ اللّامُ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا بَلْ هِيَ بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الْإِسْرَاءُ : 7 ] أَيْ فَعَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فُصّلَتْ 46 ] . وَرَدّتْ طَائِفَةٌ هَذَا الِاعْتِذَارَ بِخِلَافِهِ لِسِيَاقِ الْقِصّةِ وَلِمَوْضُوعِ الْحَرْفِ وَلَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ فَإِنّهَا قَدْ فَرّقَتْ بَيْنَ مَا لِلنّفْسِ وَبَيْنَ مَا عَلَيْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ اشْتَرِطِي لَهُمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ اللّامُ عَلَى بَابِهَا وَلَكِنْ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اشْتَرِطِي لَهُمْ أَوْ لَا تَشْتَرِطِي فَإِنّ الِاشْتِرَاطَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِمُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللّهِ . وَرَدّ غَيْرُهُمْ هَذَا الِاعْتِذَارَ لِاسْتِلْزَامِهِ إضْمَارَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ مِنْ نَوْعِ عِلْمِ الْغَيْبِ .
[ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْأَمْرَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ هَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ لَا إبَاحَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [ فُصّلَتْ 40 ] وَهَذَا فِي الْبُطْلَانِ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ وَأَظْهَرُ فَسَادًا فَمَا لِعَائِشَةَ وَمَا لِلتّهْدِيدِ هُنَا ؟ وَأَيْنَ فِي السّيَاقِ مَا يَقْتَضِي التّهْدِيدَ لَهَا ؟ نَعَمْ هُمْ أَحَقّ بِالتّهْدِيدِ لَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ .

[ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْأَمْرَ أَمْرُ إبَاحَةٍ ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ هُوَ أَمْرُ إبَاحَةٍ وَإِذْنٍ وَأَنّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا وَيَكُونُ وَلَاءُ الْمُكَاتَبِ لِلْبَائِعِ قَالَهُ بَعْضُ الشّافِعِيّةِ وَهَذَا أَفْسَدُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدّمَ وَصَرِيحُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ وَرَدّهُ .
[ مَنْ قَالَ هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِظْهَارِ بُطْلَانِ هَذَا الشّرْطِ ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّمَا أَذِنَ لَهَا فِي الِاشْتِرَاطِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى ظُهُورِ بُطْلَانِ هَذَا الشّرْطِ وَعِلْمِ الْخَاصّ وَالْعَامّ بِهِ وَتَقَرّرَ حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَلِمُوا حُكْمَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقْنَعُوا دُونَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ فَعَاقَبَهُمْ بِأَنْ أَذِنَ لِعَائِشَةَ فِي الِاشْتِرَاطِ ثُمّ خَطَبَ النّاسَ فَأَذّنَ فِيهِمْ بِبُطْلَانِ هَذَا الشّرْطِ وَتَضَمّنَ حُكْمًا مِنْ [ ص 152 ] فَسَادَ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ . وَأَمّا بُطْلَانُهُ إذَا شُرِطَ فَإِنّمَا اُسْتُفِيدَ مِنْ تَصْرِيحِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبُطْلَانِهِ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ وَلَعَلّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا أَنّ اشْتِرَاطَهُ يُفِيدُ الْوَفَاءَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ فَأَبْطَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْ شُرِطَ كَمَا أَبْطَلَهُ بِدُونِ الشّرْطِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا فَاتَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِطِ بِبُطْلَانِ الشّرْطِ فَإِنّهُ إمّا أَنْ يُسَلّطَ عَلَى الْفَسْخِ أَوْ يُعْطَى مِنْ الْأَرْشِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ غَرَضِهِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ . قِيلَ هَذَا إنّمَا يُثْبِتُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِطُ جَاهِلًا بِفَسَادِ الشّرْطِ . فَأَمّا إذَا عَلِمَ بُطْلَانَهُ وَمُخَالَفَتَهُ لِحُكْمِ اللّهِ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا بِإِقْدَامِهِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فَلَا فَسْخَ لَهُ وَلَا أَرْشَ وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَمْرَيْنِ فِي مَوَالِي بَرِيرَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ مَا فِي إنّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْ الْعُمُومِ ]
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " مِنْ الْعُمُومِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ لِمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً أَوْ فِي زَكَاةٍ أَوْ كَفّارَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَاجِبٍ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ وَقَالَ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي الثّالِثَةِ يُرَدّ وَلَاؤُهُ فِي عِتْقِ مِثْلِهِ وَيَحْتَجّ بِعُمُومِهِ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنّ الْمُسْلِمَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا ذِمّيّا ثُمّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَرِثَهُ بِالْوَلَاءِ وَهَذَا الْعُمُومُ أَخَصّ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فَيُخَصّصُهُ أَوْ يُقَيّدُهُ وَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ إلّا أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : إنّ عُمُومَ قَوْلِهِ " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ [ ص 153 ]

فَصْلٌ [ تَخْيِيرُ الْأَمَةِ الْمُزَوّجَةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ ]
وَفِي الْقِصّةِ مِنْ الْفِقْهِ تَخْيِيرُ الْأَمَةِ الْمُزَوّجَةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ هَلْ كَانَ عَبْدًا أَوْ حُرّا ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : كَانَ عَبْدًا وَلَوْ كَانَ حُرّا لَمْ يُخَيّرْهَا وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْهَا : كَانَ حُرّا . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثُ عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ كَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَكُلّ هَذَا فِي الصّحِيحِ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ عَبْدًا لِآلِ أَبِي أَحْمَدَ فَخَيّرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَهَا : إنْ قَرُبَك فَلَا خِيَارَ لَكِ وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَنّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَلَمّا أَعْتَقَتْهَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اخْتَارِي فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيهِ وَقَدْ رَوَى فِي " الصّحِيحِ " : أَنّهُ كَانَ حُرّا . وَأَصَحّ الرّوَايَاتِ وَأَكْثَرُهَا : أَنّهُ كَانَ عَبْدًا وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ثَلَاثَةٌ الْأَسْوَدُ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ أَمّا الْأَسْوَدُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهُ كَانَ حُرّا وَأَمّا عُرْوَةُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ إحْدَاهُمَا : أَنّهُ كَانَ حُرّا وَالثّانِيَةُ أَنّهُ كَانَ عَبْدًا وَأَمّا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إحْدَاهُمَا : أَنّهُ كَانَ حُرّا وَالثّانِيَةُ الشّكّ . قَالَ دَاوُد بْنُ مُقَاتِلٍ وَلَمْ تَخْتَلِفْ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ كَانَ عَبْدًا .

[اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا حُرّ ]
[ مَآخِذُ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُعْتَقَةِ ]
وَاتّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ وَاخْتَلَفُوا إذَا كَانَ حُرّا فَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا تَخْيِيرَ وَقَالَ [ ص 154 ] أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الرّوَايَةِ الثّانِيَةِ تُخَيّرُ . وَلَيْسَتْ الرّوَايَتَانِ مَبْنِيّتَيْنِ عَلَى كَوْنِ زَوْجِهَا عَبْدًا أَوْ حُرّا بَلْ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ لِلْفُقَهَاءِ أَحَدُهَا : زَوَالُ الْكَفَاءَةِ وَهُوَ الْمُعَبّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ كَمُلَتْ تَحْتَ نَاقِصٍ الثّانِي : أَنّ عِتْقَهَا أَوْجَبَ لِلزّوْجِ مِلْكَ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ وَهَذَا مَأْخَذُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَوْا عَلَى أَصْلِهِمْ أَنْ الطّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالنّسَاءِ لَا بِالرّجَالِ . الثّالِثُ مِلْكُهَا نَفْسَهَا وَنَحْنُ نُبَيّنُ مَا فِي هَذِهِ .
[ الرّدّ عَلَى الْمَأْخَذِ الْأَوّلِ وَهُوَ كَمَالُهَا تَحْتَ نَاقِصٍ ]
الْمَأْخَذُ الْأَوّلُ وَهُوَ كَمَالُهَا تَحْتَ نَاقِصٍ فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الدّوَامِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا زَالَتْ خُيّرَتْ الْمَرْأَةُ كَمَا تُخَيّرُ إذَا بَانَ الزّوْجُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ شُرُوطَ النّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ دَوَامُهَا وَاسْتِمْرَارُهَا وَكَذَلِكَ تَوَابِعُهُ الْمُقَارِنَةُ لِعَقْدِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ تَوَابِعَ فِي الدّوَامِ فَإِنّ رِضَى الزّوْجَةِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الدّوَامِ وَكَذَلِكَ الْوَلِيّ وَالشّاهِدَانِ وَكَذَلِكَ مَانِعُ الْإِحْرَامِ وَالْعِدّةِ وَالزّنَى عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ نِكَاحَ الزّانِيَةِ إنّمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ ابْتِدَاءُ اشْتِرَاطِ اسْتِمْرَارِهَا وَدَوَامِهَا . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ زَالَتْ الْكَفَاءَةُ فِي أَثْنَاءِ النّكَاحِ بِفِسْقِ الزّوْجِ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ مُوجِبٍ لِلْفَسْخِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَثْبَتَ الْقَاضِي الْخِيَارَ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُهُ بِحُدُوثِ فِسْقِ الزّوْجِ وَقَالَ الشّافِعِيّ إنْ حَدَثَ بِالزّوْجِ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَإِنْ حَدَث بِالزّوْجَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ .

[الرّدّ عَلَى الْمَأْخَذِ الثّانِي وَهُوَ أَنّ عِتْقَهَا أَوْجَبَ لِلزّوْجِ عَلَيْهَا مِلْكَ طَلْقَةٍ ثَالِثَة ]
وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّانِي وَهُوَ أَنّ عِتْقَهَا أَوْجَبَ لِلزّوْجِ عَلَيْهَا مِلْكَ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ فَمَأْخَذٌ ضَعِيفٌ جِدّا فَأَيّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ ثُبُوتِ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا ؟ وَهَلْ نَصَبَ الشّارِعُ مِلْكَ الطّلْقَةِ الثّالِثَةِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْفَسْخِ وَمَا يُتَوَهّمُ - مِنْ أَنّهَا كَانَتْ تَبِينُ مِنْهُ بِاثْنَتَيْنِ فَصَارَتْ لَا تَبِينُ إلّا بِثَلَاثٍ وَهُوَ زِيَادَةُ إمْسَاكٍ وَحَبْسٍ لَمْ [ ص 155 ] فَكَيْفَ يَسْلُبُهُ إيّاهُ مِلْكَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً وَهَذَا لَوْ كَانَ الطّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالنّسَاءِ فَكَيْفَ وَالصّحِيحُ أَنّهُ مُعْتَبِرٌ بِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ وَمَشْرُوعٌ فِي جَانِبِهِ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ لِلْمَأْخَذِ الثّالِثِ وَهُوَ مِلْكُهَا نَفْسَهَا ]
وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّالِثُ وَهُوَ مَلِكُهَا نَفْسَهَا فَهُوَ أَرْجَحُ الْمَآخِذِ وَأَقْرَبُهَا إلَى أُصُولِ الشّرْعِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ التّنَاقُضِ وَسِرّ هَذَا الْمَأْخَذِ أَنّ السّيّدَ عَقَدَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهَا وَمَنَافِعِهَا وَالْعِتْقُ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الرّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُعْتِقِ وَهَذَا مَقْصُودُ الْعِتْقِ وَحِكْمَتُهُ فَإِذَا مَلَكَتْ رَقَبَتَهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا وَمَنَافِعَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ فَلَا يُمَلّك عَلَيْهَا إلّا بِاخْتِيَارِهَا فَخَيّرَهَا الشّارِعُ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَهُ إذْ قَدْ مَلَكَتْ مَنَافِعَ بُضْعِهَا وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنّهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ زَوّجَهَا ثُمّ بَاعَهَا فَإِنّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا وَبُضْعَهَا وَمَنَافِعَهُ وَلَا تُسَلّطُونَهُ عَلَى فَسْخِ النّكَاحِ . قُلْنَا : لَا يَرِدُ هَذَا نَقْضًا فَإِنّ الْبَائِعَ نَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَصَارَ الْمُشْتَرِي خَلِيفَتهُ وَهُوَ لَمّا زَوّجَهَا أَخْرَجَ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الزّوْجِ ثُمّ نَقَلَهَا إلَى الْمُشْتَرِي مَسْلُوبَةً مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ آجَرَ عَبْدَهُ مُدّةً ثُمّ بَاعَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَهَبْ أَنّ هَذَا يَسْتَقِيمُ لَكُمْ فِيمَا إذَا بَاعَهَا فَهَلّا قُلْتُمْ ذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا وَأَنّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا مَسْلُوبَةً مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا ثُمّ أَعْتَقَهَا وَلِهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَأْخَذُ ؟ . قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنّ الْعِتْقَ فِي تَمْلِيكِ الْعَتِيقِ رَقَبَتَهُ وَمَنَافِعَهُ أَقْوَى مِنْ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِيمَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَيَسْرِي فِي حِصّةِ الشّرِيكِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالْعِتْقُ إسْقَاطُ مَا كَانَ السّيّدُ يَمْلِكُهُ مِنْ عَتِيقِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ مُحَرّرًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي إسْقَاطَ مِلْكِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهَا كُلّهَا . وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ يَسْرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ الْمَحْضِ الّذِي لَا [ ص 156 ] حَقّ لَهُ فِيهِ الْبَتّةَ فَكَيْفَ لَا يَسْرِي إلَى مَلِكِهِ الّذِي تَعَلّقَ بِهِ حَقّ الزّوْجِ فَإِذَا سَرَى إلَى نَصِيبِ الشّرِيكِ الّذِي حَقّ لِلْمُعْتِقِ فِيهِ فَسَرَيَانُهُ إلَى مِلْكِ الّذِي يَتَعَلّقُ بِهِ حَقّ الزّوْجِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَهَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الصّحِيحِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا فِيهِ إبْطَالُ حَقّ الزّوْجِ مِنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الشّرِيكِ فَإِنّهُ يَرْجِعُ إلَى الْقِيمَةِ . قِيلَ الزّوْجُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِالْوَطْءِ فَطَرَيَانُ مَا يُزِيلُ دَوَامَهَا لَا يُسْقِطُ لَهُ حَقّا كَمَا لَوْ طَرَأَ مَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَفْسَخُهُ بِرَضَاعٍ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ أَوْ زَوَالِ كَفَاءَةٍ عِنْدَ مَنْ يَفْسَخُ بِهِ .

[إشْكَالَانِ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُعْتَقَةِ إذَا كَانَتْ مُتَزَوّجَةً بِحُرّ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَوْهِبٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ قَالَ كَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ قَالَتْ فَأَرَدْت أَنْ أُعْتِقَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ ابْدَئِي بِالْغُلَامِ قَبْلَ الْجَارِيَةِ وَلَوْلَا أَنّ التّخْيِيرَ يُمْنَعُ إذَا كَانَ الزّوْجُ حُرّا لَمْ يَكُنْ لِلْبُدَاءَةِ بِعِتْقِ الْغُلَامِ فَائِدَةٌ فَإِذَا بَدَأَتْ بِهِ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرّ فَلَا يَكُونُ لَهَا اخْتِيَارٌ . وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " أَيْضًا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَيّمَا أَمَةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَعَتَقَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا زَوْجُهَا قِيلَ أَمّا الْحَدِيثُ الْأَوّلُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيّ وَقَدْ رَوَاهُ هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْرَفُ إلّا بِعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَوْهِبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ [ ص 157 ] كَانَا زَوْجَيْنِ بَلْ قَالَ كَانَ لَهَا عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ . ثُمّ لَوْ كَانَا زَوْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ لَهَا بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَوّلًا مَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْحُرّ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُ أَمَرَهَا بِالِابْتِدَاءِ بِالزّوْجِ لِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ الظّاهِرُ أَنّهُ أَمَرَهَا بِأَنْ تَبْتَدِئَ بِالذّكَرِ لِفَضْلِ عِتْقِهِ عَلَى الْأُنْثَى وَأَنّ عِتْقَ أُنْثَيَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ عِتْقِ ذَكَرٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ مُبَيّنًا . وَأَمّا الْحَدِيثُ الثّانِي : فَضُعّفَ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ وَهُوَ مَجْهُولٌ . فَإِذَا تَقَرّرَ هَذَا وَظَهَرَ حُكْمُ الشّرْعِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا قَضِيّتَانِ .

[خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ عَلَى التّرَاخِي ]
إحْدَاهُمَا : أَنّ خِيَارَهَا عَلَى التّرَاخِي مَا لَمْ تُمَكّنْهُ مِنْ وَطِئَهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ . وَالشّافِعِيّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . هَذَا أَحَدُهَا . وَالثّانِي : أَنّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَالثّالِثُ أَنّهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيّامٍ .
[ التّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ يَسْقُطُ ]
الثّانِيَةُ أَنّهَا إذَا مَكّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَ خِيَارُهَا وَهَذَا إذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهِ فَلَوْ جَهِلَتْهُمَا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا بِالتّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا لَا تُعْذَرُ بِجَهْلِهَا بِمِلْكِ الْفَسْخِ بَلْ إذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ وَمَكّنَتْهُ مِنْ وَطِئَهَا سَقَطَ خِيَارُهَا وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنّ لَهَا الْفَسْخَ وَالرّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحّ فَإِنْ عَتَقَ الزّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ - وَقُلْنَا : إنّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُعْتَقَةِ تَحْتَ حُرّ - بَطَلَ خِيَارُهَا لِمُسَاوَاةِ الزّوْجِ لَهَا وَحُصُولِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ الْفَسْخِ . قَالَ الشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - وَلَيْسَ هُوَ الْمَنْصُورَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ لَهَا الْفَسْخُ لِتَقَدّمِ مِلْكِ الْخِيَارِ عَلَى الْعِتْقِ فَلَا يُبْطِلُهُ وَالْأَوّلُ أَقْيَسُ لِزَوَالِ سَبَبِ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ وَكَمَا لَوْ زَالَ الْعَيْبُ [ ص 158 ] زَالَ الْإِعْسَارُ فِي زَمَنِ مِلْكِ الزّوْجَةِ الْفَسْخَ بِهِ . وَإِذَا قُلْنَا : الْعِلّةُ مِلْكُهَا نَفْسِهَا فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فَإِنْ طَلّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيّا فَعَتَقَتْ فِي عِدّتِهَا فَاخْتَارَتْ الْفَسْخَ بَطَلَتْ الرّجْعَةُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْمَقَامَ مَعَهُ صَحّ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهَا لِلْفَسْخِ لِأَنّ الرّجْعِيّةَ كَالزّوْجَةِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ : لَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا إذَا رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ دُونَ الرّجْعَةِ وَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ الِارْتِجَاعِ وَلَا يَصِحّ اخْتِيَارُهَا فِي زَمَنِ الطّلَاقِ فَإِنّ الِاخْتِيَارَ فِي زَمَنٍ هِيَ فِيهِ صَائِرَةٌ إلَى بَيْنُونَةِ مُمْتَنِعٍ . فَإِذَا رَاجَعَهَا صَحّ حِينَئِذٍ أَنْ تَخْتَارَهُ وَتُقِيمَ مَعَهُ لِأَنّهَا صَارَتْ زَوْجَةً وَعَمِلَ الِاخْتِيَارُ عَمَلَهُ وَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ . وَنَظِيرُ هَذَا إذَا ارْتَدّ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ الدّخُولِ ثُمّ عَتَقَتْ فِي زَمَنِ الرّدّةِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ لَهَا الْخِيَارُ قَبْلَ إسْلَامِهِ فَإِنْ اخْتَارَتْهُ ثُمّ أَسْلَمَ سَقَطَ مِلْكُهَا لِلْفَسْخِ وَعَلَى قَوْلِ الشّافِعِيّ : لَا يَصِحّ لَهَا خِيَارٌ قَبْلَ إسْلَامِهِ لِأَنّ الْعَقْدَ صَائِرٌ إلَى الْبُطْلَانِ . فَإِذَا أَسْلَمَ صَحّ خِيَارُهَا . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ إذَا طَلّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَفْسَخَ هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ أَمْ لَا ؟ . قِيلَ نَعَمْ يَقَعُ لِأَنّهَا زَوْجَةٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ يُوقَفُ الطّلَاقُ فَإِنْ فَسَخَتْ تَبَيّنّا أَنّهُ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا تَبَيّنّا وُقُوعَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ الْمَهْرِ إذَا اخْتَارَتْ الْفَسْخَ ؟ . قِيلَ إمّا أَنْ تَفْسَخَ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرَ وَهُوَ لِسَيّدِهَا سَوَاءٌ فَسَخَتْ أَوْ أَقَامَتْ وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . إحْدَاهُمَا : لَا مَهْرَ لِأَنّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا وَالثّانِيَةُ يَجِبُ نِصْفُهُ وَيَكُونُ لِسَيّدِهَا لَا لَهَا . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْمُعْتَقِ نِصْفُهَا هَلْ لَهَا خِيَارٌ ؟ قِيلَ فِيهَا قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِنْ قُلْنَا : لَا خِيَارَ لَهَا كَزَوْجِ مُدَبّرَةٍ لَهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَعَقَدَ عَلَى مِائَتَيْنِ مَهْرًا ثُمّ مَاتَ عَتَقَتْ وَلَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ قَبْلَ [ ص 159 ] سَقَطَ الْمَهْرُ أَوْ انْتَصَفَ فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثّلُثِ فَيَرِقّ بَعْضُهَا فَيَمْتَنِعُ الْفَسْخُ قَبْلَ الدّخُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَمْلِكْهُ فَإِنّهَا تَخْرُجُ مِنْ الثّلُثِ فَيَعْتِقُ جَمِيعُهَا .

فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ رَاجَعْتِهِ فَقَالَتْ أَتَأْمُرُنِي ؟ فَقَالَ لَا إنّمَا أَنَا شَافِعٌ فَقَالَتْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ فِيهِ ثَلَاثُ قَضَايَا .
[ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ]
إحْدَاهَا : أَنّ أَمْرَهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَلِهَذَا فَرّقَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ امْتِثَالَ شَفَاعَتِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْتَحَبّاتِ .
[لَا يَحْرُمُ عِصْيَانُ شَفَاعَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
الثّانِيَةُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَغْضَبْ عَلَى بَرِيرَةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا إذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَتُهُ لِأَنّ الشّفَاعَةَ فِي إسْقَاطِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ حَقّهُ وَذَلِكَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ أَسْقَطَهُ وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ فَلِذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عِصْيَانُ شَفَاعَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَحْرُمُ عِصْيَانُ أَمْرِهِ .
[ مَعْنَى الْمُرَاجَعَةِ فِي لِسَانِ الشّارِعِ ]
الثّالِثَةُ أَنّ اسْمَ الْمُرَاجَعَةِ فِي لِسَانِ الشّارِعِ قَدْ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ عَقْدِ النّكَاحِ بِالْكُلّيّةِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ تَشَعّثِهِ فَيَكُونُ إمْسَاكًا وَقَدْ سَمّى سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءَ النّكَاحِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا بَعْدَ الزّوْجِ الثّانِي مُرَاجَعَةً فَقَالَ فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا [ الْبَقَرَةُ 230 ] أَيْ إنْ طَلّقَهَا الثّانِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَوّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا نِكَاحًا مُسْتَأْنَفًا .

فَصْلٌ [مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَكْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّحْمِ الّذِي تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ ]
وَفِي أَكْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّحْمِ الّذِي تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيّةٌ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْغَنِيّ وَبَنِي هَاشِم ٍ وَكُلّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصّدَقَةُ مِمّا يُهْدِيهِ إلَيْهِ الْفَقِيرُ مِنْ الصّدَقَةِ لِاخْتِلَافِ جِهَةِ الْمَأْكُولِ وَلِأَنّهُ قَدْ بَلَغَ مَحِلّهُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِمَالِهِ . هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ صَدَقَةَ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ صَدَقَتُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَهَبَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا هَدِيّةً . كَمَا نَهَى [ ص 160 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ وَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّدَاقِ بِمَا قَلّ وَكَثُرَ
وَقَضَائِهِ بِصِحّةِ النّكَاحِ عَلَى مَا مَعَ الزّوْجِ مِنْ الْقُرْآنِ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : كَانَ صَدَاقُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشَا فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَكَحَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أَنْكَحَ شَيْئًا مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّة . قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . انْتَهَى . وَالْأُوقِيّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقٍ مِلْءَ كَفّيْهِ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدْ اسْتَحَلّ . [ ص 161 ] أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَضِيت مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِك بِنَعْلَيْنِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ . قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَعْظَمَ النّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَةً . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَك فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَوّجْنِيهَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إيّاهُ ؟ قَالَ مَا عِنْدِي إلّا إزَارِي هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا إزَارَكَ جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَك فَالْتَمِسْ شَيْئًا " قَالَ لَا أَجِدُ شَيْئًا قَالَ " فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ " فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُورٍ سَمّاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " قَدْ زَوّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ . [ ص 162 ] النّسَائِيّ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ خَطَبَ أُمّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ وَاَللّهِ يَا أَبَا طَلْحَةَ مَا مِثْلُكَ يُرَدّ وَلَكِنّك رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحِلّ لِي أَنْ أَتَزَوّجَك فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَمَا أَسَالُك غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا . قَالَ ثَابِتٌ فَمَا سَمِعْنَا بِامْرَأَةٍ قَطّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمّ سُلَيْمٍ فَدَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ .

فَتَضَمّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنّ الصّدَاقَ لَا يَتَقَدّرُ أَقَلّهُ وَأَنّ قَبْضَةَ السّوِيقِ وَخَاتَمَ الْحَدِيدِ وَالنّعْلَيْنِ يَصِحّ تَسْمِيَتُهَا مَهْرًا وَتَحِلّ بِهَا الزّوْجَةُ . وَتَضَمّنَ أَنّ الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ مَكْرُوهَةٌ فِي النّكَاحِ وَأَنّهَا مِنْ قِلّةِ بَرَكَتِهِ وَعُسْرِهِ . وَتَضَمّنَ أَنّ الْمَرْأَةَ إذَا رَضِيَتْ بِعِلْمِ الزّوْجِ وَحِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ مَهْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ انْتِفَاعِهَا بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ هُوَ صَدَاقُهَا كَمَا إذَا جَعَلَ السّيّدُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَكَانَ انْتِفَاعُهَا بِحُرّيّتِهَا وَمِلْكِهَا لِرَقَبَتِهَا هُوَ صَدَاقَهَا وَهَذَا هُوَ الّذِي اخْتَارَتْهُ أُمّ سُلَيْمٍ مِنْ انْتِفَاعِهَا بِإِسْلَامِ أَبِي طَلْحَةَ وَبَذْلِهَا نَفْسَهَا لَهُ إنْ أَسْلَمَ وَهَذَا أَحَبّ إلَيْهَا مِنْ الْمَالِ الّذِي يَبْذُلُهُ الزّوْجُ فَإِنّ الصّدَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ حَقّا لِلْمَرْأَةِ تَنْتَفِعُ بِهِ فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْعِلْمِ وَالدّينِ وَإِسْلَامِ الزّوْجِ وَقِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْمُهُورِ وَأَنْفَعِهَا وَأَجَلّهَا فَمَا خَلَا الْعَقْدُ عَنْ مَهْرٍ وَأَيْنَ الْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ مِنْ النّصّ ؟ وَالْقِيَاسُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحّةِ كَوْنِ الْمَهْرِ مَا ذَكَرْنَا نَصّا وَقِيَاسًا وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَوِيًا بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبَةِ الّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنّ تِلْكَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا هِبَةً مُجَرّدَةً عَنْ وَلِيّ وَصَدَاقٍ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيّ وَصَدَاقٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِيّ فَإِنّ الْمَرْأَةَ جَعَلَتْهُ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ لَمّا يَرْجِعُ إلَيْهَا مِنْ نَفْعِهِ وَلَمْ تَهَبْ نَفْسَهَا لِلزّوْجِ هِبَةً مُجَرّدَةً كَهِبَةِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا بِخِلَافِ [ ص 163 ] خَصّ اللّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا مُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ . وَقَدْ خَالَفَ فِي بَعْضِهِ مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ الصّدَاقُ إلّا مَالًا وَلَا تَكُونُ مَنَافِعَ أُخْرَى وَلَا عِلْمُهُ وَلَا تَعْلِيمُهُ صَدَاقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ . وَمَنْ قَالَ لَا يَكُونُ أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ كَمَالِكٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ شَاذّةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ . وَمَنْ ادّعَى فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا اخْتِصَاصَهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَنّهَا مَنْسُوخَةٌ أَوْ أَنْ عَمِلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهَا فَدَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ . وَالْأَصْلُ يَرُدّهَا وَقَدْ زَوّجَ سَيّدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ التّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ ابْنَتَهُ عَلَى دِرْهَمَيْنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَلْ عُدّ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ وَقَدْ تَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى صَدَاقِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَأَقَرّهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ إلّا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الشّرْعِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ فِي أَحَدِ الزّوْجَيْنِ
يَجِدُ بِصَاحِبِهِ بَرَصًا أَوْ جُنُونًا أَوْ جُذَامًا أَوْ يَكُونُ الزّوْجُ عِنّينًا
فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " : مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ امْرَأَةً مَنْ بَنِي غِفَارٍ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَوَضَعَ ثَوْبَهُ وَقَعَدَ عَلَى الْفِرَاشِ أَبْصَرَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَامّازَ عَنْ الْفِرَاشِ ثُمّ قَالَ خُذِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ " وَلَمْ يَأْخُذْ مِمّا آتَاهَا شَيْئًا وَفِي " الْمُوَطّأِ " : عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ أَيّمَا امْرَأَةٍ غَرّ بِهَا رَجُلٌ بِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا وَصَدَاقُ الرّجُلِ عَلَى مَنْ غَرّهُ [ ص 164 ] قَضَى عُمَرُ فِي الْبَرْصَاءِ وَالْجَذْمَاءِ وَالْمَجْنُونَةِ إذَا دَخَلَ بِهَا فَرّقَ بَيْنَهُمَا وَالصّدَاقُ لَهَا بِمَسِيسِهِ إيّاهَا وَهُوَ لَهُ عَلَى وَلِيّهَا وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : مِنْ حَدِيث عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ زَوْجَتَهُ أُمّ رُكَانَةَ وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ فَجَاءَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ مَا يُغْنِي عَنّي إلّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا فَفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَخَذَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمِيّةٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَفِيهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ " طَلّقْهَا " فَفَعَلَ ثُمّ قَالَ " رَاجِعْ امْرَأَتَك أُمّ رُكَانَةَ " فَقَالَ إنّي طَلّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " قَدْ عَلِمْتُ ارْجِعْهَا " وَتَلَا : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقُ 1 ] . وَلَا عِلّةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ إلّا رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ لَهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَلَكِنْ هُوَ تَابِعِيّ وَابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ الْأَئِمّةِ الثّقَاتِ الْعُدُولِ وَرِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ غَيْرِهِ تَعْدِيلٌ لَهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ جَرْحٌ وَلَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ ظَاهِرًا فِي التّابِعِينَ وَلَا سِيّمَا التّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا سِيّمَا مَوَالِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا سِيّمَا مِثْلُ هَذِهِ السّنّةِ الّتِي تَشْتَدّ حَاجَةُ النّاسِ إلَيْهَا لَا يُظَنّ بِابْنِ جُرَيْجٍ أَنّهُ حَمَلَهَا عَنْ كَذّابٍ وَلَا عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ عِنْدَهُ وَلَمْ يُبَيّنْ حَالَهُ .

[ التّفْرِيقُ بِالْعُنّةِ ]
وَجَاءَ التّفْرِيقُ بِالْعُنّةِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ [ ص 165 ] وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَكِنّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَالْمُغِيرَةَ أَجّلُوهُ سَنَةً وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ وَسَمُرَةُ لَمْ يُؤَجّلُوهُ وَالْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَجّلَهُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ .
[ التّفْرِيقُ بِالْعُقْمِ ]
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى بَعْضِ السّعَايَةِ فَتَزَوّجَ امْرَأَةً وَكَانَ عَقِيمًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَعْلَمْتَهَا أَنّك عَقِيمٌ ؟ . قَالَ لَا قَالَ فَانْطَلِقْ فَأَعْلِمْهَا ثُمّ خَيّرْهَا .
[ التّفْرِيقُ بِالْجُنُونِ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا سَبَقَ ]
وَأَجّلَ مَجْنُونًا سَنَةً فَإِنْ أَفَاقَ وَإِلّا فَرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ دَاوُد وَابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا : لَا يُفْسَخُ النّكَاحُ بِعَيْبٍ الْبَتّةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُفْسَخُ إلّا بِالْجَبّ وَالْعُنّةِ خَاصّةً . وَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ يُفْسَخُ بِالْجُنُونِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْقَرَنِ وَالْجَبّ وَالْعُنّةِ خَاصّةً وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَيْهِمَا : أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فَتْقَاءَ مُنْخَرِقَةَ مَا بَيْنَ السّبِيلَيْنِ وَلِأَصْحَابِهِ فِي نَتْنِ الْفَرْجِ وَالْفَمِ وَانْخِرَاقِ مَخْرَجَيْ الْبَوْلِ وَالْمَنِيّ فِي الْفَرْجِ وَالْقُرُوحِ السّيّالَةِ فِيهِ وَالْبَوَاسِيرِ وَالنّاصُورِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَاسْتِطْلَاقِ الْبَوْلِ وَالنّجْوِ وَالْخَصْيِ وَهُوَ قَطْعُ الْبَيْضَتَيْنِ وَالسّلّ وَهُوَ سَلّ الْبَيْضَتَيْنِ وَالْوَجْءِ وَهُوَ رَضّهُمَا وَكَوْنِ أَحَدِهِمَا خُنْثَى مُشْكِلًا وَالْعَيْبِ الّذِي بِصَاحِبِهِ مِثْلُهُ مِنْ الْعُيُوبِ السّبْعَةِ وَالْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَجْهَانِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ إلَى رَدّ الْمَرْأَةِ بِكُلّ عَيْبٍ تُرَدّ بِهِ الْجَارِيَةُ فِي الْبَيْعِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْوَجْهَ وَلَا مَظِنّتَهُ وَلَا مَنْ قَالَهُ . وَمِمّنْ حَكَاهُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَادَانِيّ فِي كِتَابِ طَبَقَاتِ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقِيَاسُ أَوْ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ .

وَأَمّا الِاقْتِصَارُ عَلَى عَيْبَيْنِ أَوْ سِتّةٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا أَوْ مُسَاوٍ لَهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ فَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالطّرَشُ وَكَوْنُهَا مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرّجْلَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا أَوْ كَوْنُ الرّجُلِ كَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفّرَاتِ وَالسّكُوتُ عَنْهُ مِنْ أَقْبَحِ التّدْلِيسِ وَالْغِشّ وَهُوَ مُنَافٍ لِلدّينِ وَالْإِطْلَاقُ إنّمَا يَنْصَرِفُ إلَى السّلَامَةِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ عُرْفًا وَقَدْ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِمَنْ تَزَوّجَ امْرَأَةً وَهُوَ لَا يُولَدُ لَهُ أَخْبِرْهَا أَنّكَ عَقِيمٌ وَخَيّرْهَا فَمَاذَا يَقُولُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي الْعُيُوبِ الّتِي هَذَا عِنْدَهَا كَمَالٌ لَا نَقْصٌ ؟ وَالْقِيَاسُ أَنّ كُلّ عَيْبٍ يُنَفّرُ الزّوْجَ الْآخَرَ مِنْهُ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ النّكَاحِ مِنْ الرّحْمَةِ وَالْمَوَدّةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْبَيْعِ كَمَا أَنّ الشّرُوطَ الْمُشْتَرَطَةَ فِي النّكَاحِ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ وَمَا أَلْزَمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ مَغْرُورًا قَطّ وَلَا مَغْبُونًا بِمَا غُرّ بِهِ وَغُبِنَ بِهِ وَمَنْ تَدَبّرَ مَقَاصِدَ الشّرْعِ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ وَقُرْبُهُ مِنْ قَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ . وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ قَالَ عُمَرُ أَيّمَا امْرَأَةٍ زُوّجَتْ وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَدَخَلَ بِهَا ثُمّ اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَسِيسِهِ إيّاهَا وَعَلَى الْوَلِيّ الصّدَاقُ بِمَا دَلّسَ كَمَا غَرّهُ وَرَدّ هَذَا بِأَنّ ابْنَ الْمُسَيّبِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ مِنْ بَابِ الْهَذَيَانِ الْبَارِدِ الْمُخَالِفِ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إذَا لَمْ يَقْبَلْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ عَنْ عُمَرَ فَمَنْ يَقْبَلْ وَأَئِمّةُ الْإِسْلَامِ وَجُمْهُورُهُمْ يَحْتَجّونَ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ يُرْسِلُ إلَى سَعِيدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ قَضَايَا عُمَرَ فَيُفْتِي بِهَا وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ قَطّ مِنْ أَهْلِ [ ص 167 ] سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ عُمَرَ وَلَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ . وَرَوَى الشّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ : أَيّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ وَبِهَا بَرَصٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ قَرَنٌ فَزَوْجُهَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَمَسّهَا إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلّقَ وَإِنْ مَسّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا وَقَالَ وَكِيعٌ : عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ عُمَرَ قَالَ إذَا تَزَوّجَهَا بَرْصَاءَ أَوْ عَمْيَاءَ فَدَخَلَ بِهَا فَلَهَا الصّدَاقُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرّهُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الْعُيُوبَ الْمُتَقَدّمَةَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ دُونَ مَا عَدَاهَا وَكَذَلِكَ حَكَمَ قَاضِي الْإِسْلَامِ حَقّا الّذِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِعَلَمِهِ وَدِينِهِ وَحُكْمِهِ شُرَيْحٌ قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ خَاصَمَ رَجُلٌ إلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ إنّ هَؤُلَاءِ قَالُوا لِي : إنّا نُزَوّجُك بِأَحْسَنِ النّاسِ فَجَاءُونِي بِامْرَأَةٍ عَمْشَاءَ فَقَالَ شُرَيْحٌ إنْ كَانَ دُلّسَ لَك بِعَيْبٍ لَمْ يَجُزْ فَتَأَمّلْ هَذَا الْقَضَاءَ وَقَوْلُهُ إنْ كَانَ دُلّسَ لَك بِعَيْبٍ كَيْفَ يَقْتَضِي أَنّ كُلّ عَيْبٍ دُلّسَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلِلزّوْجِ الرّدّ بِهِ ؟ وَقَالَ الزّهْرِيّ يُرَدّ النّكَاحُ مِنْ كُلّ دَاءٍ عُضَالٍ .

[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ الرّدّ بِكُلّ عَيْبٍ ]
وَمَنْ تَأَمّلَ فَتَاوَى الصّحَابَةِ وَالسّلَفِ عَلِمَ أَنّهُمْ لَمْ يَخُصّوا الرّدّ بِعَيْبٍ دُونَ عَيْبٍ إلّا رِوَايَةً رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا تُرَدّ النّسَاءُ إلّا مِنْ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ : الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالدّاءِ فِي الْفَرْجِ وَهَذِهِ الرّوَايَةُ لَا نَعْلَمُ لَهَا إسْنَادًا أَكْثَرَ مِنْ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيّ . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ مُتّصِلٍ ذَكَرَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ . هَذَا كُلّهُ إذَا أَطْلَقَ الزّوْجُ [ ص 168 ] فَبَانَتْ شَوْهَاءَ أَوْ شَرْطَهَا شَابّةً حَدِيثَةَ السّنّ فَبَانَتْ عَجُوزًا شَمْطَاءَ أَوْ شَرَطَهَا بَيْضَاءَ فَبَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ بِكْرًا فَبَانَتْ ثَيّبًا فَلَهُ الْفَسْخُ فِي ذَلِكَ كُلّهِ . فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ وَهُوَ غُرْمٌ عَلَى وَلِيّهَا إنْ كَانَ غَرّهُ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارّةُ سَقَطَ مَهْرُهَا أَوْ رَجَعَ عَلَيْهَا بِهِ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ وَنَصّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ أَقْيَسُهُمَا وَأَوْلَاهُمَا بِأُصُولِهِ فِيمَا إذَا كَانَ الزّوْجُ هُوَ الْمُشْتَرِطَ . وَقَالَ أَصْحَابُهُ إذَا شَرَطَتْ فِيهِ صِفَةً فَبَانَ بِخِلَافِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا إلّا فِي شَرْطِ الْحُرّيّةِ إذَا بَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ وَفِي شَرْطِ النّسَبِ إذَا بَانَ بِخِلَافِهِ وَجْهَانِ وَاَلّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ وَقَوَاعِدُهُ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اشْتِرَاطِهِ وَاشْتِرَاطِهَا بَلْ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهَا إذَا فَاتَ مَا اشْتَرَطَتْهُ أَوْلَى لِأَنّهَا لَا تَتَمَكّنُ مِنْ الْمُفَارَقَةِ بِالطّلَاقِ فَإِذَا جَازَ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ تَمَكّنِهِ مِنْ الْفِرَاقِ بِغَيْرِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهَا الْفَسْخُ مَعَ عَدَمِ تَمَكّنِهَا أَوْلَى وَإِذَا جَازَ لَهَا الْفَسْخُ إذَا ظَهَرَ الزّوْجُ ذَا صِنَاعَةٍ دَنِيئَةٍ لَا تَشِينُهُ فِي دِينِهِ وَلَا فِي عِرْضِهِ وَإِنّمَا تَمْنَعُ كَمَالَ لَذّتِهَا وَاسْتِمْتَاعِهَا بِهِ فَإِذَا شَرَطَتْهُ شَابّا جَمِيلًا صَحِيحًا فَبَانَ شَيْخًا مُشَوّهًا أَعْمَى أَطْرَشَ أَخْرَسَ أَسْوَدَ فَكَيْفَ تُلْزَمُ بِهِ وَتُمْنَعُ مِنْ الْفَسْخِ ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ وَالتّنَاقُضِ وَالْبُعْدِ عَنْ الْقِيَاسِ وَقَوَاعِدِ الشّرْعِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

وَكَيْفَ يُمَكّنُ أَحَدُ الزّوْجَيْنِ مِنْ الْفَسْخِ بِقَدْرِ الْعَدَسَةِ مِنْ الْبَرَصِ وَلَا يُمَكّنُ مِنْهُ بِالْجَرَبِ الْمُسْتَحْكَمِ الْمُتَمَكّنِ وَهُوَ أَشَدّ إعْدَاءً مِنْ ذَلِكَ الْبَرَصِ الْيَسِيرِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الدّاءِ الْعُضَالِ ؟ . وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ عَلَى الْبَائِعِ كِتْمَانَ عَيْبِ سِلْعَتِهِ وَحَرّمَ عَلَى مَنْ عَلّمَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَكَيْفَ بِالْعُيُوبِ فِي النّكَاحِ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ اسْتَشَارَتْهُ فِي نِكَاحِ مُعَاوِيَةَ أَوْ أَبِي الْجَهْمِ أَمّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ [ ص 169 ] أَوْلَى وَأَوْجَبُ فَكَيْفَ يَكُونُ كِتْمَانُهُ وَتَدْلِيسُهُ وَالْغِشّ الْحَرَامُ بِهِ سَبَبًا لِلُزُومِهِ وَجَعَلَ ذَا الْعَيْبِ غُلّا لَازِمًا فِي عُنُقِ صَاحِبِهِ مَعَ شِدّةِ نُفْرَتِهِ عَنْهُ وَلَا سِيّمَا مَعَ شَرْطِ السّلَامَةِ مِنْهُ وَشَرْطِ خِلَافِهِ وَهَذَا مِمّا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنّ تَصَرّفَاتِ الشّرِيعَةِ وَقَوَاعِدَهَا وَأَحْكَامَهَا تَأْبَاهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنّ الزّوْجَ إذَا شَرَطَ السّلَامَةَ مِنْ الْعُيُوبِ فَوُجِدَ أَيّ عَيْبٍ كَانَ فَالنّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ وَلَا إجَازَةَ وَلَا نَفَقَةَ وَلَا مِيرَاثَ . قَالَ لِأَنّ الّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ غَيْرُ الّتِي تَزَوّجَ إذْ السّالِمَةُ غَيْرُ الْمَعِيبَةِ بِلَا شَكّ فَإِذَا لَمْ يَتَزَوّجْهَا فَلَا زَوْجِيّةَ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي " الْوَاضِحَةِ " : حَكَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا حِينَ اشْتَكَيَا إلَيْهِ الْخِدْمَةَ فَحَكَمَ عَلَى فَاطِمَةَ بِالْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَحَكَمَ عَلَى عَلِيّ بِالْخِدْمَةِ الظّاهِرَةِ ثُمّ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ الْعَجِينُ وَالطّبْخُ وَالْفَرْشُ وَكَنْسُ الْبَيْتِ وَاسْتِقَاءُ الْمَاءِ وَعَمَلُ الْبَيْتِ كُلّهِ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَشْكُو إلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدَيْهَا مِنْ الرّحَى وَتَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَلَمّا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَتْهُ . قَالَ عَلِيّ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ مَكَانَكُمَا " فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتّى وَجَدْت بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ " أَلَا أَدُلّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمّا سَأَلْتُمَا إذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبّحَا اللّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ " . قَالَ عَلِيّ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ قِيلَ وَلَا لَيْلَةَ صِفّينَ ؟ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفّينَ [ ص 170 ] قَالَتْ كُنْت أَخْدِمُ الزّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ كُلّهِ وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ وَكُنْتُ أَسُوسُهُ وَكُنْت أَحْتَشّ لَهُ وَأَقُومُ عَلَيْهِ وَصَحّ عَنْهَا أَنّهَا كَانَتْ تَعْلِفُ فَرَسَهُ وَتَسْقِي الْمَاءَ وَتَخْرِزُ الدّلْوَ وَتَعْجِنُ وَتَنْقُلُ النّوَى عَلَى رَأْسِهَا مِنْ أَرْضٍ لَهُ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ . فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَأَوْجَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ خِدْمَتَهَا لَهُ فِي مَصَالِحِ الْبَيْتِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : عَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَ زَوْجَهَا فِي كُلّ شَيْءٍ وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ وُجُوبَ خِدْمَتِهِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ وَمِمّنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الظّاهِر ِ قَالُوا : لِأَنّ عَقْدَ النّكَاحِ إنّمَا اقْتَضَى الِاسْتِمْتَاعَ لَا الِاسْتِخْدَامَ وَبَذْلَ الْمَنَافِعِ قَالُوا : وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ إنّمَا تَدُلّ عَلَى التّطَوّعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَأَيْنَ الْوُجُوبُ مِنْهَا ؟ .

وَاحْتَجّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ بِأَنّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ خَاطَبَهُمْ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِكَلَامِهِ وَأَمّا تَرْفِيهُ الْمَرْأَةِ وَخِدْمَةُ الزّوْجِ وَكَنْسُهُ وَطَحْنُهُ [ ص 171 ] { وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةُ 228 ] وَقَالَ { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ } [ النّسَاءُ 34 ] وَإِذَا لَمْ تَخْدِمْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْخَادِمَ لَهَا فَهِيَ الْقَوّامَةُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَإِنّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَكُلّ مِنْ الزّوْجَيْنِ يَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنّمَا أَوْجَبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ نَفَقَتَهَا وَكُسْوَتَهَا وَمَسْكَنَهَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا وَخِدْمَتِهَا وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَزْوَاجِ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْعُقُودَ الْمُطْلَقَةَ إنّمَا تَنْزِلُ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ وَقِيَامُهَا بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ الدّاخِلَةِ وَقَوْلُهُمْ إنّ خِدْمَةَ فَاطِمَةَ وَأَسْمَاءَ كَانَتْ تَبَرّعًا وَإِحْسَانًا يَرُدّهُ أَنّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَشْتَكِي مَا تَلْقَى مِنْ الْخِدْمَةِ فَلَمْ يَقُلْ لِعَلِيّ : لَا خِدْمَةَ عَلَيْهَا وَإِنّمَا هِيَ عَلَيْك وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحَابِي فِي الْحُكْمِ أَحَدًا وَلَمّا رَأَى أَسْمَاءَ وَالْعَلَفَ عَلَى رَأْسِهَا وَالزّبَيْرُ مَعَهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ لَا خِدْمَةَ عَلَيْهَا وَأَنّ هَذَا ظُلْمٌ لَهَا بَلْ أَقَرّهُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا وَأَقَرّ سَائِرَ أَصْحَابِهِ عَلَى اسْتِخْدَامِ أَزْوَاجِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنّ مِنْهُنّ الْكَارِهَةَ وَالرّاضِيَةَ هَذَا أَمْرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَلَا يَصِحّ التّفْرِيقُ بَيْنَ شَرِيفَةٍ وَدَنِيئَةٍ وَفَقِيرَةٍ وَغَنِيّةٍ فَهَذِهِ أَشْرَفُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ كَانَتْ تَخْدِمُ زَوْجَهَا وَجَاءَتْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَشْكُو إلَيْهِ الْخِدْمَةَ فَلَمْ يَشْكُهَا وَقَدْ سَمّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ الْمَرْأَةَ عَانِيَةً فَقَالَ اتّقُوا اللّهَ فِي النّسَاءِ فَإِنّهُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ وَالْعَانِي : الْأَسِيرُ وَمَرْتَبَةُ الْأَسِيرِ خِدْمَةُ مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ النّكَاحِ نَوْعٌ مِنْ الرّقّ كَمَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ النّكَاحُ رِقّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقّ كَرِيمَتَهُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ الرّاجِحُ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ وَالْأَقْوَى مِنْ الدّلِيلَيْنِ . [ ص 172 ]
حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الزّوْجَيْنِ يَقَعُ الشّقَاقُ بَيْنَهُمَا
رَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ بَعْضَهَا فَأَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الصّبْحِ فَدَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَابِتًا فَقَالَ خُذْ بَعْضَ مَالِهَا وَفَارِقْهَا " فَقَالَ وَيَصْلُحُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنّي أَصَدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ وَهُمَا بِيَدِهَا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذْهُمَا وَفَارِقْهَا فَفَعَلَ وَقَدْ حَكَمَ اللّهُ تَعَالَى بَيْنَ الزّوْجَيْنِ يَقَعُ الشّقَاقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [ النّسَاءُ 35 ]

[ هَلْ الْحَكَمَانِ حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ ؟]
وَقَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي الْحَكَمَيْنِ هَلْ هُمَا حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلَانِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُمَا وَكِيلَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ . وَالثّانِي : أَنّهُمَا حَاكِمَانِ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالشّافِعِيّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ .
[ أَدِلّةُ الْمُصَنّفِ فِي تَرْجِيحِ كَوْنِ الْحَكَمَيْنِ حَاكِمَيْنِ ]
وَالْعَجَبُ كُلّ الْعَجَبِ مِمّنْ يَقُولُ هُمَا وَكِيلَانِ لَا حَاكِمَانِ وَاَللّهُ تَعَالَى قَدْ نَصّبَهُمَا حَكَمَيْنِ وَجَعَلَ نَصْبَهُمَا إلَى غَيْرِ الزّوْجَيْنِ وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَقَالَ فَلْيَبْعَثْ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهِ وَلْتَبْعَثْ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهَا . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ يَخْتَصّا بِأَنْ يَكُونَا مِنْ الْأَهْلِ . [ ص 173 ] جَعَلَ الْحُكْمَ إلَيْهِمَا فَقَالَ { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } وَالْوَكِيلَانِ لَا إرَادَةَ لَهُمَا إنّمَا يَتَصَرّفَانِ بِإِرَادَةِ مُوَكّلَيْهِمَا . وَأَيْضًا فَإِنّ الْوَكِيلَ لَا يُسَمّى حَكَمًا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي لِسَانِ الشّارِعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْعَامّ وَلَا الْخَاصّ . وَأَيْضًا فَالْحَكَمُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ وَالْإِلْزَامِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْحَكَمَ أَبْلَغُ مِنْ حَاكِمٍ لِأَنّهُ صِفَةٌ مُشَبّهَةٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ دَالّةٌ عَلَى الثّبُوتِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْحَاكِمِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَكِيلِ الْمَحْضِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَ الزّوْجَيْنِ وَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ عَنْ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَيْرَهُمَا وَهَذَا يُحْوِجُ إلَى تَقْدِيرِ الْآيَةِ هَكَذَا : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } فَمُرُوهُمَا أَنْ يُوَكّلَا وَكِيلَيْنِ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهِ وَوَكِيلًا مِنْ أَهْلِهَا وَمَعْلُومٌ بُعْدُ لَفْظِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا عَنْ هَذَا التّقْدِيرِ وَأَنّهَا لَا تَدُلّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ بَلْ هِيَ دَالّةٌ عَلَى خِلَافِهِ وَهَذَا بِحَمْدِ اللّهِ وَاضِحٌ . وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ حَكَمَيْنِ بَيْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقِيلَ لَهُمَا : إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرّقَا فَرّقْتُمَا وَصَحّ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّهُ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزّوْجَيْنِ عَلَيْكُمَا إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرّقَا فَرّقْتُمَا وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا [ ص 174 ] وَعَلِيّ وَابْنُ عَبّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى الْحَكَمَيْنِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَإِنّمَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ بَيْنَ التّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا قُلْنَا : إنّهُمَا وَكِيلَانِ فَهَلْ يُجْبَرُ الزّوْجَانِ عَلَى تَوْكِيلِ الزّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ وَتَوْكِيلِ الزّوْجَةِ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ أَوْ لَا يُجْبَرَانِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا : يُجْبَرَانِ فَلِمَ يُوَكّلَا جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إلَى الْحَكَمَيْنِ بِغَيْرِ رِضَى الزّوْجَيْنِ وَإِنْ قُلْنَا : إنّهُمَا حَكَمَانِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رِضَى الزّوْجَيْنِ . وَعَلَى هَذَا النّزَاعِ يَنْبَنِي مَا لَوْ غَابَ الزّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ قِيلَ إنّهُمَا وَكِيلَانِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ وَإِنْ قِيلَ حَكَمَانِ انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا لِعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَقِيلَ يَبْقَى نَظَرُهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ لِأَنّهُمَا يَتَطَرّفَانِ لِحَظّهِمَا فَهُمَا كَالنّاظِرَيْنِ . وَإِنْ جُنّ الزّوْجَانِ انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ إنْ قِيلَ إنّهُمَا وَكِيلَانِ لِأَنّهُمَا فَرْعُ الْمُوَكّلِينَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ إنْ قِيلَ إنّهُمَا حَكَمَانِ لِأَنّ الْحَاكِمَ يَلِي عَلَى الْمَجْنُونِ . وَقِيلَ يَنْقَطِعُ أَيْضًا لِأَنّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَنْهُمَا فَكَأَنّهُمَا وَكِيلَانِ وَلَا رَيْبَ أَنّهُمَا حَكَمَانِ فِيهِمَا شَائِبَةُ الْوَكَالَةِ وَوَكِيلَانِ مَنْصُوبَانِ لِلْحُكْمِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجّحَ جَانِبَ الْحُكْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَجّحَ جَانِبَ الْوَكَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُلْعِ
فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " تَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ " قَالَتْ نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلّقْهَا تَطْلِيقَةً [ ص 175 ] سُنَنِ النّسَائِيّ " عَنْ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ " خُذْ الّذِي لَهَا عَلَيْكَ وَخَلّ سَبِيلَهَا " قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَتَرَبّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَعْتَدّ حَيْضَةً . وَفِي " سُنَنِ الدّارَقُطْنِيّ " فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الّتِي أَعْطَاكِ " ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمّا الزّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتَهُ " قَالَتْ نَعَمْ فَأَخَذَ مَالَهُ وَخَلّى سَبِيلَهَا فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ قَضَاءَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ الدّارَقُطْنِيّ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ . فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ النّبَوِيّ عِدّةَ أَحْكَامٍ

[ جَوَازُ الْخُلْعِ ]
أَحَدُهَا : جَوَازُ الْخُلْعِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ الْبَقَرَةُ 229 ] [ ص 176 ] طَائِفَةٌ شَاذّةٌ مِنْ النّاسِ خَالَفَتْ النّصّ وَالْإِجْمَاعَ .
[ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ ]
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا بِإِذْنِ السّلْطَانِ وَغَيْرِهِ وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ بِدُونِ إذْنِهِ وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِهِ لِأَنّهُ سُبْحَانَهُ سَمّاهُ فِدْيَةً وَلَوْ كَانَ رَجْعِيّا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ النّاسِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَرْأَةِ الِافْتِدَاءُ مِنْ الزّوْجِ بِمَا بَذَلَتْهُ لَهُ وَدَلّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلّ وَكَثُرَ وَأَنّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا . وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُقَيْلٍ أَنّ الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدّثَتْهُ أَنّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ . وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ لَهَا وَكُلّ ثَوْبٍ لَهَا حَتّى نُقْبَتِهَا . وَرَفَعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَنْ زَوْجِهِمَا فَقَالَ ا خْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا ذَكَرَهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيّوبَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْهُ . [ ص 177 ] وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا . وَقَالَ طَاوُوسٌ لَا يَحِلّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى صَدَاقِهَا فَالزّيَادَةُ مَرْدُودَةٌ إلَيْهَا . وَقَالَ الزّهْرِيّ لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا . وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ إنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا لَمْ يُسَرّحْ بِإِحْسَانٍ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ كَانَتْ الْقُضَاةُ لَا تُجِيزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إلّا مَا سَاقَ إلَيْهَا . وَاَلّذِينَ جَوّزُوهُ احْتَجّوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَآثَارِ الصّحَابَةِ وَاَلّذِينَ مَنَعُوهُ احْتَجّوا بِحَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ لَمّا أَرَادَ خَلْعَ امْرَأَتِهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ " ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الزّيَادَةُ فَلَا . قَالَ الدّارَقُطْنِيّ سَمِعَهُ أَبُو الزّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ . قَالُوا : وَالْآثَارُ مِنْ الصّحَابَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَحْرِيمُ الزّيَادَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا كَمَا رَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ أَخَذَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَنَصّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرّمَ الزّيَادَةَ وَقَالَ تَرُدّ عَلَيْهَا . وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ لِي عَطَاءٌ أَتَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي أُبْغِضُ زَوْجِي وَأُحِبّ فِرَاقَهُ قَالَ [ ص 178 ] فَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الّتِي أَصْدَقَكِ " ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً مِنْ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمّا الزّيَادَةُ مِنْ مَالِك فَلَا وَلَكِنْ الْحَدِيقَةُ " قَالَتْ نَعَمْ فَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الزّوْجِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَحَدِيثُ أَبِي الزّبَيْرِ مُقَوّ لَهُ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُمَا .

فَصْلٌ حُكْمُ الرّجْعَةِ مِنْ الْخُلْعِ فِي الْعِدّةِ
وَفِي تَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ الْخُلْعَ فِدْيَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنّ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ رِضَى الزّوْجَيْنِ فَإِذَا تَقَايَلَا الْخُلْعَ وَرَدّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا وَارْتَجَعَهَا فِي الْعِدّةِ فَهَلْ لَهُمَا ذَلِكَ ؟ مَنَعَهُ الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالُوا : قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِنَفْسِ الْخُلْعِ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَلِعَةِ إنْ شَاءَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَلْيَرُدّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا فِي الْعِدّةِ وَلْيَشْهَدْ عَلَى رَجْعَتِهَا قَالَ مَعْمَرٌ وَكَانَ الزّهْرِيّ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ . قَالَ قَتَادَةُ : وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ لَا يُرَاجِعُهَا إلّا بِخُطْبَةٍ . وَلِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَالزّهْرِيّ وَجْهٌ دَقِيقٌ مِنْ الْفِقْهِ لَطِيفُ الْمَأْخَذِ تَتَلَقّاهُ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُهُ بِالْقَبُولِ وَلَا نَكَارَةَ فِيهِ غَيْرَ أَنّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدّةِ فَهِيَ فِي حَبْسِهِ وَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ طَلَاقِهِ الْمُنَجّزِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا تَقَايَلَا عَقْدَ الْخُلْعِ وَتَرَاجَعَا إلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ بِتَرَاضِيهِمَا لَمْ تَمْنَعْ قَوَاعِدُ الشّرْعِ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعِدّةِ فَإِنّهَا قَدْ صَارَتْ مِنْهُ أَجْنَبِيّةً مَحْضَةً فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطّابِ وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَهَا فِي عِدّتِهَا مِنْهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ [ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ ]
[ ص 179 ] أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُخْتَلِعَةَ . أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بَلْ تَكْفِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَرِيحُ السّنّةِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّاب وَالرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ وَعَمّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ كَمَا رَوَاهُ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَر َ أَنّهُ سَمِعَ الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَهِيَ تُخْبِرُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَجَاءَ عَمّهَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ لَهُ إنّ ابْنَةَ مُعَوّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدّةَ عَلَيْهَا إلّا أَنّهَا لَا تَنْكِحُ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : فَعُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا وَذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ . قَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ فَإِنّ الْعِدّةَ إنّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيَطُولَ زَمَنُ الرّجْعَةِ فَيَتَرَوّى الزّوْجُ وَيَتَمَكّنُ مِنْ الرّجْعَةِ فِي مُدّةِ الْعِدّةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَالْمَقْصُودُ مُجَرّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ . قَالُوا : وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا عَلَيْنَا بِالْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا فَإِنّ بَابَ الطّلَاقِ جَعَلَ حُكْمَ الْعِدّةِ فِيهِ وَاحِدًا بَائِنَةً وَرَجْعِيّةً .

[ الْخُلْعُ فَسْخٌ ]
قَالُوا : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَان وَابْنِ عُمَرَ وَالرّبَيّعِ وَعَمّهَا وَلَا يَصِحّ عَنْ صَحَابِيّ أَنّهُ طَلَاقٌ [ ص 180 ] أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُ قَالَ الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُوسٍ أَنّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ أَيَنْكِحُهَا ؟ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : نَعَمْ ذَكَرَ اللّهُ الطّلَاقَ فِي أَوّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا و الْخُلْعَ بَيْنَ ذَلِك فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَقُولُونَ إنّهُ لَا مُخَالِفَ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَقَدْ رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جُمْهَانَ أَنّ أُمّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيّةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَيْدٍ وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَنَدِمَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ هِيَ وَاحِدَةٌ إلّا أَنْ تَكُونَ سَمّتْ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمّتْ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا تَكُونُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَجِلّاءِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . قِيلَ لَا يَصِحّ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمّا أَثَرُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَطَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ شَيْخُنَا : وَكَيْفَ يَصِحّ عَنْ عُثْمَانَ وَهُوَ لَا يَرَى فِيهِ عِدّةً وَإِنّمَا يَرَى الِاسْتِبْرَاءَ فِيهِ بِحَيْضَةٍ ؟ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَلَاقًا لَأَوْجَبَ فِيهِ الْعِدّةَ وَجُمْهَانُ الرّاوِي لِهَذِهِ الْقِصّةِ عَنْ عُثْمَانَ لَا نَعْرِفُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنّهُ مَوْلَى الْأَسْلَمِيّينَ .

[ الدّلِيلُ عَلَى أَنّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ]
وَأَمّا أَثَرُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ رُوّينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا [ ص 181 ] عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَأَمْثَلُهَا : أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوءِ حِفْظِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمّ غَايَتُهُ إنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ يَدُلّ عَلَى أَنّ الطّلْقَةَ فِي الْخُلْعِ تَقَعُ بَائِنَةً لَا أَنّ الْخُلْعَ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ . وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَتّبَ عَلَى الطّلَاقِ بَعْدَ الدّخُولِ الّذِي لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ كُلّهَا مُنْتَفِيَةٌ عَنْ الْخُلْعِ أَحَدُهَا : أَنّ الزّوْجَ أَحَقّ بِالرّجْعَةِ فِيهِ . الثّانِي : أَنّهُ مَحْسُوبٌ مِنْ الثّلَاثِ فَلَا تَحِلّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ . الثّالِثُ أَنّ الْعِدّةَ فِيهِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنّصّ وَالْإِجْمَاعِ أَنّهُ لَا رَجْعَةَ فِي الْخُلْعِ وَثَبَتَ بِالسّنّةِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ أَنّ الْعِدّةَ فِيهِ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَثَبَتَ بِالنّصّ جَوَازُهُ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَوُقُوعِ ثَالِثَةٍ بَعْدَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا فِي كَوْنِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ الْبَقَرَةُ 229 ] وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَصّ بِالْمُطَلّقَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَإِنّهُ يَتَنَاوَلُهَا وَغَيْرَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضّمِيرُ إلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ وَيُخْلَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ بَلْ إمّا أَنْ يَخْتَصّ بِالسّابِقِ أَوْ يَتَنَاوَلَهُ وَغَيْرَهُ . ثُمّ قَالَ { فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فِدْيَةٌ وَطَلْقَتَيْنِ قَطْعًا لِأَنّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فَلَا بُدّ مِنْ دُخُولِهَا تَحْتَ اللّفْظِ وَهَكَذَا فَهِمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ الّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعَلّمَهُ اللّهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَهِيَ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ بِلَا شَكّ . وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْفِدْيَةِ غَيْرَ أَحْكَامِ الطّلَاقِ دَلّ عَلَى أَنّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهَذَا مُقْتَضَى النّصّ وَالْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ ثُمّ مَنْ نَظَرَ إلَى حَقَائِقِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا دُونَ أَلْفَاظِهَا يَعُدّ الْخُلْعَ فَسْخًا بِأَيّ لَفْظٍ كَانَ حَتّى بِلَفْظِ الطّلَاقِ وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا . قَالَ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَقُولُ مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ . قَالَ [ ص 182 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ رَأَيْتُ أَبِي كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ . وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ كَانَ أَبِي لَا يَرَى الْفِدَاءَ طَلَاقًا وَيُخَيّرُهُ . وَمَنْ اعْتَبَرَ الْأَلْفَاظَ وَوَقَفَ مَعَهَا وَاعْتَبَرَهَا فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ جَعَلَهُ بِلَفْظِ الطّلَاقِ طَلَاقًا وَقَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُهُ تَشْهَدُ أَنّ الْمَرْعِيّ فِي الْعُقُودِ حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا لَا صُوَرُهَا وَأَلْفَاظُهَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَمِمّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْخُلْعِ تَطْلِيقَةً وَمَعَ هَذَا أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ فَسْخٌ وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الطّلَاقِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ عَلّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْفِدْيَةِ بِكَوْنِهِ فِدْيَةً وَمَعْلُومٌ أَنّ الْفِدْيَةَ لَا تَخْتَصّ بِلَفْظٍ وَلَمْ يُعَيّنْ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهَا لَفْظًا مُعَيّنًا وَطَلَاقُ الْفِدَاءِ طَلَاقٌ مُقَيّدٌ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الطّلَاقِ الْمُطَلّقُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا فِي ثُبُوتِ الرّجْعَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِالسّنّةِ الثّابِتَةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

ذِكْرُ أَحْكَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّلَاقِ
ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي طَلَاقِ الْهَازِلِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالتّطْلِيقِ فِي نَفْسِهِ
فِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ثَلَاثٌ جِدّهُنّ جِدّ وَهَزْلُهُنّ جِدّ النّكَاحُ وَالطّلَاقُ وَالرّجْعَةُ . [ ص 183 ] ابْنِ عَبّاسٍ " : إنّ اللّهَ وَضَعَ عَنْ أُمّتِي الْخَطَأَ وَالنّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ . وَفِيهَا : عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاق . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِلْمُقِرّ بِالزّنَى : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُسْتَنْكَهَ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ لِعُمَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ وَعَنْ الصّبِيّ حَتّى يُدْرِكَ وَعَنْ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ . [ ص 184 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لِأُمّتِي عَمّا حَدّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ .

[ النّيّةُ وَالْقَصْدُ عَفْوٌ غَيْرُ لَازِمٍ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا اللّسَانُ ]
فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنَنُ أَنّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ اللّسَانُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَفْوٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِالنّيّةِ وَالْقَصْدِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ . أَحَدُهُمَا : التّوَقّفُ فِيهَا قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ سُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَمّنْ طَلّقَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَ اللّهُ مَا فِي نَفْسِك ؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا أَقُولُ فِيهَا شَيْئًا . وَالثّانِي : وُقُوعُهُ إذَا جَزَمَ عَلَيْهِ وَهَذَا رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ الزّهْرِيّ وَحُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ وَأَنّ مَنْ كَفَرَ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ كَفَرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } [ الْبَقَرَةُ 248 ] وَأَنّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا [ ص 185 ] وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِي اللّهِ وَعَلَى التّوَكّلِ وَالرّضَى وَالْعَزْمِ عَلَى الطّاعَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَالشّكّ وَالرّيَاءِ وَظَنّ السّوءِ بِالْأَبْرِيَاءِ . وَلَا حُجّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمُجَرّدِ النّيّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفّظٍ أَمّا حَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِالنّيّاتِ فَهُوَ حُجّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنّهُ أَخْبَرَ فِيهِ أَنّ الْعَمَلَ مَعَ النّيّةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لَا النّيّةُ وَحْدَهَا وَأَمّا مَنْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ أَوْ شَكّ فَهُوَ كَافِرٌ لِزَوَالِ الْإِيمَانِ الّذِي هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ كَانَ نَفْسُ زَوَالِهِ كُفْرًا فَإِنّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ وُجُودِيّ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ فَمَا لَمْ يَقُمْ بِالْقَلْبِ حَصَلَ ضِدّهُ وَهُوَ الْكُفْرُ وَهَذَا كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ إذَا فَقَدَ الْعِلْمُ حَصَلَ الْجَهْلُ وَكَذَلِكَ كُلّ نَقِيضَيْنِ زَالَ أَحَدُهُمَا خَلّفَهُ الْآخَرُ . وَأَمّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا أَنّ الْمُحَاسَبَةَ بِمَا يُخْفِيهِ الْعَبْدُ إلْزَامُهُ بِأَحْكَامِهِ بِالشّرْعِ وَإِنّمَا فِيهَا مُحَاسَبَتُهُ بِمَا يُبْدِيهِ أَوْ يُخْفِيهِ ثُمّ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَوْ مُعَذّبٌ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ بِالنّيّةِ . وَأَمّا أَنّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ فَهَذَا إنّمَا هُوَ فِيمَنْ عَمِلَ الْمَعْصِيَةَ ثُمّ أَصَرّ عَلَيْهَا فَهُنَا عَمَلٌ اتّصَلَ بِهِ الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُصِرّ وَأَمّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ لَا تُكْتَبَ عَلَيْهِ وَإِمّا أَنْ تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً إذَا تَرَكَهَا لِلّهِ عَزّ وَجَلّ . وَإِمّا الثّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَحَقّ وَالْقُرْآنُ وَالسّنّةُ مَمْلُوءَانِ بِهِ وَلَكِنّ وُقُوعَ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالنّيّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفّظٍ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الثّوَابِ وَالْعِقَابِ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنّ مَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هُوَ مَعَاصٍ قَلْبِيّةٌ يَسْتَحِقّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا كَمَا يَسْتَحِقّهُ عَلَى الْمَعَاصِي الْبَدَنِيّةِ إذْ هِيَ مُنَافِيَةٌ لِعُبُودِيّةِ الْقَلْبِ فَإِنّ الْكِبَرَ وَالْعُجْبَ وَالرّيَاءَ وَظَنّ السّوْءِ مُحَرّمَاتٌ عَلَى الْقَلْبِ وَهِيَ أُمُورٌ اخْتِيَارِيّةٌ يُمْكِنُ اجْتِنَابُهَا فَيَسْتَحِقّ الْعُقُوبَةَ عَلَى فِعْلِهَا وَهِيَ أَسْمَاءٌ لِمَعَانٍ مُسَمّيَاتِهَا قَائِمَةٌ بِالْقَلْبِ . وَأَمّا الْعَتَاقُ وَالطّلَاقُ فَاسْمَانِ لِمُسَمّيَيْنِ قَائِمَيْنِ بِاللّسَانِ أَوْ مَا نَابَ عَنْهُ مِنْ [ ص 186 ] كِتَابَةٍ وَلَيْسَا اسْمَيْنِ لِمَا فِي الْقَلْبِ مُجَرّدًا عَنْ النّطْقِ .

[ كَلَامُ الْهَازِلِ بِالطّلَاقِ وَالنّكَاحِ وَالرّجْعَةِ مُعْتَبَرٌ ]
وَتَضَمّنَتْ أَنّ الْمُكَلّفَ إذَا هَزَلَ بِالطّلَاقِ أَوْ النّكَاحِ أَوْ الرّجْعَةِ لَزِمَهُ مَا هَزَلَ بِهِ فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى أَنّ كَلَامَ الْهَازِلِ مُعْتَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَلَامُ النّائِمِ وَالنّاسِي وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلّفْظِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ فَإِنّمَا إلَى الْمُكَلّفَ الْأَسْبَابِ وَأَمّا تَرَتّبُ مُسَبّبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا فَهُوَ إلَى الشّارِعِ قَصَدَهُ الْمُكَلّفُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِهِ السّبَبَ اخْتِيَارًا فِي حَالِ عَقْلِهِ وَتَكْلِيفِهِ فَإِذَا قَصَدَهُ رَتّبَ الشّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ جَدّ بِهِ أَوْ هَزَلَ وَهَذَا بِخِلَافِ النّائِمِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسّكْرَانِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ فَإِنّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَيْسُوا مُكَلّفِينَ فَأَلْفَاظُهُمْ لَغْوٌ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الطّفْلِ الّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهَا وَلَا يَقْصِدُهُ . وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَصَدَ اللّفْظَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ اللّفْظَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ فَالْمَرَاتِبُ الّتِي اعْتَبَرَهَا الشّارِعُ أَرْبَعَةٌ إحْدَاهَا : أَنْ لَا يَقْصِدَ الْحُكْمَ وَلَا يَتَلَفّظَ بِهِ . الثّانِيَةُ . أَنْ لَا يَقْصِدَ اللّفْظَ وَلَا حُكْمَهُ . الثّالِثَةُ أَنْ يَقْصِدَ اللّفْظَ دُونَ حُكْمِهِ .

[ مَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ وَمَا لَا يُبَاحُ ]
الرّابِعَةُ أَنْ يَقْصِدَ اللّفْظَ وَالْحُكْمَ فَالْأَوّلِيّانِ لَغْوٌ وَالْآخِرَتَانِ مُعْتَبِرَتَانِ . هَذَا الّذِي اُسْتُفِيدَ مِنْ مَجْمُوعِ نُصُوصِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْمُكْرَهِ كُلّهُ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَقَدْ دَلّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى التّكَلّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَكْفُرُ وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا وَدَلّتْ السّنّةُ عَلَى أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ تَجَاوَزَ عَنْ الْمُكْرَهِ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُرَادُ بِهِ كَلَامُهُ قَطْعًا وَأَمّا أَفْعَالُهُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ فَمَا أُبِيحَ مِنْهَا بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُتَجَاوِزٌ عَنْهُ كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْعَمَلِ فِي الصّلَاةِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ فِي الْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَقَتْلِ الْمَعْصُومِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ [ ص 187 ] حَدّهُ بِهِ وَمَنْ أَبَاحَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يُحِدّهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
[ عَدَمُ وُقُوعِ الطّلَاقِ بِلَفْظٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الطّلَاقَ ]
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي الْإِكْرَاهِ أَنّ الْأَفْعَالَ إذَا وَقَعَتْ لَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَتُهَا بَلْ مَفْسَدَتُهَا مَعَهَا بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ فَإِنّهَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا . وَجَعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَقْوَالِ النّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَمَفْسَدَةُ الْفِعْلِ الّذِي لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْقَوْلِ فَإِنّهَا إنّمَا تُثْبِتُ إذَا كَانَ قَائِلُهُ عَالِمًا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ . وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا : سَمّنِي فَسَمّاهَا الظّبْيَةُ فَقَالَتْ مَا قُلْت شَيْئًا قَالَ فَهَاتِ مَا أُسَمّيك بِهِ قَالَتْ سَمّنِي خَلِيّةً طَالِقًا قَالَ أَنْتِ خَلِيّةٌ طَالِقٌ فَأَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقَالَتْ إنّ زَوْجِي طَلّقَنِي فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصّ عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا وَقَالَ لِزَوْجِهَا : خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجِعْ رَأْسَهَا فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَمّا لَمْ يَقْصِدْ الزّوْجُ اللّفْظَ الّذِي يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ بَلْ قَصَدَ لَفْظًا لَا يُرِيدُ بِهِ الطّلَاقَ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَوْ غُلَامِهِ إنّهَا حُرّةٌ وَأَرَادَ أَنّهَا لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُسَرّحَةٌ أَوْ سَرّحْتُك وَمُرَادُهُ تَسْرِيحُ الشّعْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَقَعُ عِتْقُهُ وَلَا طَلَاقُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى وَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ أَوْ تَصَادَقَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَقَعْ بِهِ .

[الْحَلِفُ بِالطّلَاقِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مِنْ أَيّ الْأَقْسَامِ ؟ فَإِنّكُمْ جَعَلْتُمْ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعَةً وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا لَيْسَ بِمُكْرَهٍ وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ وَلَا هَازِلٍ وَلَا قَاصِدٍ لِحُكْمِ اللّفْظِ ؟ قِيلَ هَذَا مُتَكَلّمٌ بِاللّفْظِ مُرِيدٌ بِهِ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ فَلَزِمَ حُكْمُ مَا أَرَادَهُ بِلَفْظِهِ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ فَلَا يَلْزَمُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ بِاللّفْظِ إذَا كَانَ صَالِحًا لَمّا أَرَادَهُ وَقَدْ اسْتَحْلَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُكَانَةَ لَمّا طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ [ ص 188 ] فَقَالَ مَا أَرَدْتَ ؟ قَالَ وَاحِدَةً قَالَ آللّهِ قَالَ آللّهِ قَالَ هُوَ مَا أَرَدْتَ فَقَبِلَ مِنْهُ نِيّتَهُ فِي اللّفْظِ الْمُحْتَمَلِ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتّةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمّ بَدَا لَهُ فَتَرَكَ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ طَالِقًا لِأَنّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلّقَهَا وَبِهَذَا أَفْتَى اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ حَتّى إنّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ إحْدَاهَا : أَنْ يَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يَكُنْ التّنْجِيزُ مُرَادَهُ فَهَذِهِ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ حَالِفًا . الثّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ لَا التّنْجِيزَ فَيَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ إنْ كَلّمْت زَيْدًا . الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ مِنْ أَوّلِ كَلَامِهِ ثُمّ يَرْجِعُ عَنْ الْيَمِينِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ الطّلَاقَ مُنَجّزًا فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ لِأَنّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْإِيقَاعَ وَإِنّمَا نَوَى بِهِ التّعْلِيقَ فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ وُقُوعِ الْمُنَجّزِ فَإِذَا نَوَى التّنْجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى فِي التّنْجِيزِ بِغَيْرِ النّيّةِ الْمُجَرّدَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 225 ]
[ اللّغْوُ فِي الْيَمِينِ ]
وَاللّغْوُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشّيْءِ يَظُنّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَتَبَيّنُ بِخِلَافِهِ . وَالثّانِي : أَنْ تَجْرِيَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْحَلِفِ كَلّا وَاَللّهِ وَبَلَى وَاَللّهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ وَكِلَاهُمَا رَفَعَ اللّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ لِعَدَمِ [ ص 189 ] وَحَقِيقَتِهَا وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ أَلّا يُرَتّبُوا الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ الّتِي لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلّمُ بِهَا حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيهَا وَهَذَا غَيْرُ الْهَازِلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .

[ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَإِقْرَارُهُ ]
وَقَدْ أَفْتَى الصّحَابَةُ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَإِقْرَارِهِ فَصَحّ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ الرّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَوْجَعَتْهُ أَوْ ضَرَبَتْهُ أَوْ أَوْثَقَتْهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا تَدَلّى بِحَبْلٍ لِيَشْتَارَ عَسَلًا فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ لَأُقَطّعَن الْحَبْلَ أَوْ لَتُطَلّقَنّي فَنَاشَدَهَا اللّهَ فَأَبَتْ فَطَلّقَهَا فَأَتَى عُمَرُ فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ إلَى امْرَأَتِك فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ . وَكَانَ عَلِيّ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَقَالَ ثَابِتٌ الْأَعْرَجُ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزّبَيْرِ عَنْ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَقَالَا جَمِيعًا : لَيْسَ بِشَيْءٍ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ الْغَازِي بْنُ جَبَلَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ الْأَصَمّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَجُلًا جَلَسَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى صَدْرِهِ وَجَعَلَتْ السّكّينَ عَلَى حَلْقِهِ وَقَالَتْ لَهُ طَلّقْنِي أَوْ لَأَذْبَحَنك فَنَاشَدَهَا فَأَبَتْ فَطَلّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ " . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ كُلّ الطّلَاقِ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شَرَاحِيلَ الْمَعَافِرِيّ أَنّ امْرَأَةً اسْتَلّتْ سَيْفًا فَوَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِ زَوْجِهَا وَقَالَتْ وَاَللّهِ لَأُنْفِذَنّكَ أَوْ لِتُطَلّقَنّي فَطَلّقَهَا ثَلَاثًا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَأَمْضَى طَلَاقَهَا . وَقَالَ عَلِيّ كُلّ الطّلَاقِ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ [ ص 190 ] قِيلَ أَمّا خَبَرُ الْغَازِي بْنِ جَبَلَةَ فَفِيهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ . إحْدَاهَا : ضَعْفُ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَالثّانِيَةُ لِينُ الْغَازِي بْنِ جَبَلَةَ وَالثّالِثَةُ تَدْلِيسُ بَقِيّةِ الرّاوِي عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَجّ بِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ : وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ . وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ : كُلّ الطّلَاقِ جَائِز فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ وَضَعْفُهُ مَشْهُورٌ وَقَدْ رُمِيَ بِالْكَذِبِ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ : وَهَذَا الْخَبَرُ شَرّ مِنْ الْأَوّلِ . وَأَمّا أَثَرُ عُمَرَ فَالصّحِيحُ عَنْهُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدّمَ وَلَا يُعْلَمُ مُعَاصَرَةُ الْمَعَافِرِيّ لِعُمَرَ وَفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ فِيهِ ضَعْفٌ . وَأَمّا أَثَرُ عَلِيّ فَاَلّذِي رَوَاهُ عَنْهُ النّاسُ أَنّهُ كَانَ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَرَوَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ . فَإِنْ صَحّ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ فَهُوَ عَامّ مَخْصُوصٌ بِهَذَا .

فَصْلٌ [ طَلَاقُ السّكْرَانِ ]
وَأَمّا طَلَاقُ السّكْرَانِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النّسَاءُ 43 ] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ قَوْلَ السّكْرَانِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ لِأَنّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِالْمُقِرّ بِالزّنَى أَنْ يُسْتَنْكَهَ لِيُعْتَبَرَ قَوْلُهُ الّذِي أَقَرّ بِهِ أَوْ يُلْغَى . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " فِي قِصّةِ حَمْزَةَ لَمّا عَقَرَ بَعِيرَيْ عَلِيّ فَجَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ يَلُومُهُ فَصَعّدَ فِيهِ النّظَرَ وَصَوّبَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ ثُمّ قَالَ هَلْ [ ص 191 ] عَبِيدٌ لِأَبِي فَنَكَصَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ غَيْرُ سَكْرَانَ لَكَانَ رِدّةً وَكُفْرًا وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ حَمْزَةٌ . وَصَحّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا سَكْرَانَ طَلَاقٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ . وَقَالَ عَطَاءٌ طَلَاقُ السّكْرَانِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ طَلَاقُ السّكْرَانِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمّدٍ : لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ . وَصَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّهُ أُتِيَ بِسَكْرَانَ طَلّقَ فَاسْتَحْلَفَهُ بِاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ لَقَدْ طَلّقَهَا وَهُوَ لَا يَعْقِلُ فَحَلَفَ فَرَدّ إلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَضَرَبَهُ الْحَدّ . وَهُوَ مَذْهَبُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَرَبِيعَةَ وَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الشّافِعِيّةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَهِيَ الّتِي اسْتَقَرّ عَلَيْهَا مَذْهَبُهُ وَصَرّحَ بِرُجُوعِهِ إلَيْهَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ الّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ إنّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً وَاَلّذِي يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ فَقَدْ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرّمَهَا عَلَيْهِ وَأَحَلّهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَنَا أَتّقِي جَمِيعًا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيّ : قَدْ كُنْتُ أَقُولُ إنّ طَلَاقَ السّكْرَانِ يَجُوزُ حَتّى تَبَيّنْته فَغَلَبَ عَلَيّ أَنّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ لِأَنّهُ لَوْ أَقَرّ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَوْ بَاعَ لَمْ [ ص 192 ] قَالَ وَأَلْزَمَهُ الْجِنَايَةَ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَبِهَذَا أَقُولُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ الْحَنَفِيّةِ أَبُو جَعْفَرٍ الطّحَاوِيّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ .

[ حُجَجُ مَنْ أَوْقَعَ طَلَاقَ السّكْرَانِ ]
وَاَلّذِينَ أَوْقَعُوهُ لَهُمْ سَبْعَةُ مَآخِذَ أَحَدُهَا : أَنّهُ مُكَلّفٌ وَلِهَذَا يُؤَاخَذُ بِجِنَايَاتِهِ . وَالثّانِي : أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ عُقُوبَةٌ لَهُ . وَالثّالِثُ أَنّ تَرَتّبَ الطّلَاقِ عَلَى التّطْلِيقِ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِأَسْبَابِهَا فَلَا يُؤَثّرُ فِيهِ السّكْرُ . وَالرّابِعُ أَنّ الصّحَابَةَ أَقَامُوهُ مَقَامَ الصّاحِي فِي كَلَامِهِ فَإِنّهُمْ قَالُوا : إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وَالْخَامِسُ حَدِيثُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ وَقَدْ تَقَدّمَ . السّادِسُ حَدِيثُ كُلّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَقَدْ تَقَدّمَ . وَالسّابِعُ أَنّ الصّحَابَةَ أَوْقَعُوا عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَفَرّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا . قَالَ وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ مُعَاوِيَةَ أَجَازَ طَلَاقَ السّكْرَانِ . هَذَا جَمِيعُ مَا احْتَجّوا بِهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ حُجّةٌ أَصْلًا .

[ الرّدّ عَلَى حُجَجِ مَنْ أَوْقَعَ طَلَاقَ السّكْرَانِ ]
[ ص 193 ] وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مُكَلّفًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى شُرْبِهَا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنّهَا خَمْرٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ . وَأَمّا خِطَابُهُ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الّذِي يَعْقِلُ الْخِطَابَ أَوْ عَلَى الصّاحِي وَأَنّهُ نُهِيَ عَنْ السّكْرِ إذَا أَرَادَ الصّلَاةَ وَأَمّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَلَا يُؤْمَرُ وَلَا يَنْهَى . وَأَمّا إلْزَامُهُ بِجِنَايَاتِهِ فَمَحِلّ نِزَاعٍ لَا مَحِلّ وِفَاقٍ فَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتّيّ : لَا يَلْزَمُهُ عَقْدٌ وَلَا بَيْعٌ وَلَا حَدّ إلّا حَدّ الْخَمْرِ فَقَطْ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي كُلّ فِعْلٍ يُعْتَبَرُ لَهُ الْعَقْلُ . وَاَلّذِينَ اعْتَبَرُوا أَفْعَالَهُ دُونَ أَقْوَالِهِ فَرّقُوا بِفَرْقَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ إسْقَاطَ أَفْعَالِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ إذْ كُلّ مَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ أَوْ الزّنَى أَوْ السّرِقَةَ أَوْ الْحِرَابَ سَكِرَ وَفَعَلَ ذَلِكَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدّ إذَا أَتَى جُرْمًا وَاحِدًا فَإِذَا تَضَاعَفَ جُرْمُهُ بِالسّكْرِ كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدّ ؟ هَذَا مِمّا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الشّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَبَعْضُ مَنْ يَرَى طَلَاقَ السّكْرَانِ لَيْسَ بِجَائِزٍ يَزْعُمُ أَنّ السّكْرَانَ لَوْ جَنَى جِنَايَةً أَوْ أَتَى حَدّا أَوْ تَرَكَ الصّيَامَ أَوْ الصّلَاةَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ هَذَا كَلَامُ سُوءٍ . وَالْفَرْقُ الثّانِي : أَنّ إلْغَاءَ أَقْوَالِهِ لَا يَتَضَمّنُ مَفْسَدَةً لِأَنّ الْقَوْلَ الْمُجَرّدَ مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنّ مَفَاسِدَهَا لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا إذَا وَقَعَتْ فَإِلْغَاءُ أَفْعَالِهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَفَسَادٌ مُنْتَشِرٌ بِخِلَافِ أَقْوَالِهِ فَإِنْ صَحّ هَذَانِ الْفَرْقَانِ بَطَلَ الْإِلْحَاقُ وَإِنْ لَمْ يَصِحّا كَانَتْ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مُتَعَيّنَةً . وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّانِي - وَهُوَ أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ بِهِ عُقُوبَةٌ لَهُ - فَفِي غَايَةِ الضّعْفِ فَإِنّ الْحَدّ يَكْفِيهِ عُقُوبَةً وَقَدْ حَصَلَ رِضَى اللّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ [ ص 194 ] وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّالِثُ أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ بِهِ مِنْ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالسّقُوطِ فَإِنّ هَذَا يُوجِبُ إيقَاعَ الطّلَاقِ مِمّنْ سَكِرَ مُكْرَهًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنّهَا خَمْرٌ وَبِالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ بَلْ وَبِالنّائِمِ ثُمّ يُقَالُ وَهَلْ ثَبَتَ لَكُمْ أَنّ طَلَاقَ السّكْرَانِ سَبَبٌ حَتّى يُرْبَطَ الْحُكْمُ بِهِ وَهَلْ النّزَاعُ إلّا فِي ذَلِكَ ؟ . وَأَمّا الْمَأْخَذُ الرّابِعُ وَهُوَ أَنّ الصّحَابَةَ جَعَلُوهُ كَالصّاحِي فِي قَوْلِهِمْ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى . فَهُوَ خَبَرٌ لَا يَصِحّ الْبَتّةَ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ خَبَرٌ مَكْذُوبٌ قَدْ نَزّهَ اللّهُ عَلِيّا وَعَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُ وَفِيهِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ مَا يَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ فَإِنّ فِيهِ إيجَابَ الْحَدّ عَلَى مَنْ هَذَى وَالْهَاذِي لَا حَدّ عَلَيْهِ . وَأَمّا الْمَأْخَذُ الْخَامِسُ وَهُوَ حَدِيثُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ فَخَبَرٌ لَا يَصِحّ وَلَوْ صَحّ لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى طَلَاقِ مُكَلّفٍ يَعْقِلُ دُونَ مَنْ لَا يَعْقِلُ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالصّبِيّ . وَأَمّا الْمَأْخَذُ السّادِسُ وَهُوَ خَبَرُ كُلّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ فَمِثْلُهُ سَوَاءٌ لَا يَصِحّ وَلَوْ صَحّ لَكَانَ فِي الْمُكَلّفِ وَجَوَابٌ ثَالِثٌ أَنّ السّكْرَانَ الّذِي لَا يَعْقِلُ إمّا مَعْتُوهٌ وَإِمّا مُلْحَقٌ بِهِ وَقَدْ ادّعَتْ طَائِفَةٌ أَنّهُ مَعْتُوهٌ . قَالُوا : الْمَعْتُوهُ فِي اللّغَةِ الّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَدْرِي مَا يَتَكَلّمُ بِهِ . وَأَمّا الْمَأْخَذُ السّابِعُ وَهُوَ أَنّ الصّحَابَةَ أَوْقَعُوا عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَالصّحَابَةُ [ ص 195 ] وَأَمّا أَثَرُ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا يَصِحّ عَنْهُ لِأَنّهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِي الثّانِيَةِ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَأَمّا ابْنُ عُمَر َ وَمُعَاوِيَةُ فَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ .

فَصْلٌ [ طَلَاقُ الْإِغْلَاقِ ]
وَأَمّا طَلَاقُ الْإِغْلَاقِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : سَمِعْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إغْلَاقٍ يَعْنِي الْغَضَبَ هَذَا نَصّ أَحْمَدَ حَكَاهُ عَنْهُ الْخَلّالُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي " الشّافِي " و " زَادِ الْمُسَافِرِ " . فَهَذَا تَفْسِيرُ أَحْمَدَ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " : أَظُنّهُ الْغَضَبَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ " بَابُ الطّلَاقِ عَلَى غَلَطٍ " . وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنّهُ الْإِكْرَاهُ وَفَسّرَهُ غَيْرُهُمَا : بِالْجُنُونِ وَقِيلَ هُوَ نَهْيٌ عَنْ إيقَاعِ الطّلَقَاتِ الثّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ الطّلَاقُ حَتّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ كَغَلْقِ الرّهْنِ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيّ . قَالَ شَيْخُنَا وَحَقِيقَةُ الْإِغْلَاقِ أَنْ يُغْلَقَ عَلَى الرّجُلِ قَلْبُهُ فَلَا يَقْصِدُ الْكَلَامَ أَوْ لَا يَعْلَمُ بِهِ كَأَنّهُ انْغَلَقَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ . قُلْت : قَالَ أَبُو الْعَبّاسِ الْمُبَرّدُ : الْغَلْقُ ضِيقُ الصّدْرِ وَقِلّةُ الصّبْرِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مُخَلّصًا قَالَ شَيْخُنَا : وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسُكْرٍ أَوْ غَضَبٍ وَكُلّ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِمَا قَالَ . وَالْغَضَبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . [ ص 196 ] قَالَ وَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَالثّانِي : مَا يَكُونُ فِي مُبَادِيهِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ تَصَوّرِ مَا يَقُولُ وَقَصَدَهُ فَهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ . الثّالِثُ أَنْ يَسْتَحْكِمَ وَيَشْتَدّ بِهِ فَلَا يُزِيلُ عَقْلَهُ بِالْكُلّيّةِ وَلَكِنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِيّتِهِ بِحَيْثُ يَنْدَمُ عَلَى مَا فَرّطَ مِنْهُ إذَا زَالَ فَهَذَا مَحِلّ نَظَرٍ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوِيّ مُتّجِهٌ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّلَاقِ قَبْلَ النّكَاحِ
فِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَسَأَلْت مُحَمّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ فَقُلْت : أَيّ شَيْءٍ أَصَحّ فِي الطّلَاقِ قَبْلَ النّكَاحِ ؟ فَقَالَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد : لَا بَيْعَ إلّا فِيمَا يَمْلِكُ وَلَا وَفَاءَ نَذْرٍ إلّا فِيمَا يَمْلِكُ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النّكَاحِ وَلَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ وَقَالَ وَكِيعٌ : حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي [ ص 197 ] كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ يَرْفَعُهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا طَلَاقَ إلّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : بَلَغَ ابْنَ عَبّاسٍ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ إنْ طَلّقَ مَا لَمْ يَنْكِحْ فَهُوَ جَائِزٌ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : أَخْطَأَ فِي هَذَا إنّ اللّهَ تَعَالَى يَقُول : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ } [ الْأَحْزَابُ 49 ] وَلَمْ يَقُلْ إذَا طَلّقْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ نَكَحْتُمُوهُنّ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ إنْ تَزَوّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ عَلِيّ لَيْسَ طَلَاقٌ إلّا مِنْ بَعْدِ مِلْكٍ وَثَبَتَ عَنْهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا طَلَاقَ إلّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ وَإِنْ سَمّاهَا وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُهُمْ وَداَوُد وَأَصْحَابُهُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَمِنْ حُجّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ الْقَائِلَ إنْ تَزَوّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ مُطَلّقٌ لِأَجْنَبِيّةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَإِنّهَا حِينَ الطّلَاقِ الْمُعَلّقِ أَجْنَبِيّةٌ وَالْمُتَجَدّدُ هُوَ نِكَاحُهَا وَالنّكَاحُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَعُلِمَ أَنّهَا لَوْ طَلُقَتْ فَإِنّمَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إلَى الطّلَاقِ الْمُتَقَدّمِ مُعَلّقًا وَهِيَ إذْ ذَاكَ أَجْنَبِيّةٌ وَتَجَدّدُ الصّفَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُتَكَلّمًا بِالطّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِهَا فَإِنّهُ عِنْدَ وُجُودِهَا مُخْتَارٌ لِلنّكَاحِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلطّلَاقِ فَلَا يَصِحّ كَمَا لَوْ [ ص 198 ] قَالَ لِأَجْنَبِيّةٍ إنْ دَخَلْت الدّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ لَمْ تَطْلُقْ بِغَيْرِ خِلَافٍ .

[ الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ ؟ فَإِنّهُ لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرّ صَحّ التّعْلِيقُ وَعَتَقَ بِالْمِلْكِ ؟ . قِيلَ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَالصّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ الّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ صِحّةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ دُونَ الطّلَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْعِتْقَ لَهُ قُوّةٌ وَسِرَايَةٌ وَلَا يَعْتَمِدُ نُفُوذَ الْمِلْكِ فَإِنّهُ يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَيَصِحّ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَبَبًا لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ عَقْلًا وَشَرْعًا كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ عَنْ ذِي رَحِمِهِ الْمُحَرّمِ بِشِرَائِهِ وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ فِي كَفّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَكُلّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ جَعْلُ الْمِلْكِ سَبَبًا لِلْعِتْقِ فَإِنّهُ قُرْبَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلّهِ تَعَالَى فَشَرَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ التّوَسّلَ إلَيْهِ بِكُلّ وَسِيلَةٍ مُفْضِيَةٍ إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطّلَاقُ فَإِنّهُ بَغِيضٌ إلَى اللّهِ وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ مِلْكَ الْبُضْعِ بِالنّكَاحِ سَبَبًا لِإِزَالَتِهِ الْبَتّةَ وَفَرْقٌ ثَانٍ أَنّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْقُرَبِ وَالطّاعَاتِ وَالتّبَرّرِ كَقَوْلِهِ لَئِنْ آتَانِي اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ لَأَتَصَدّقَن بِكَذَا وَكَذَا فَإِذَا وُجِدَ الشّرْطُ لَزِمَهُ مَا عَلّقَهُ بِهِ مِنْ الطّاعَةِ الْمَقْصُودَةِ فَهَذَا لَوْنٌ وَتَعْلِيقُ الطّلَاقِ عَلَى الْمِلْكِ لَوْنٌ آخَرُ .
حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ وَالنّفَسَاءِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا
وَتَحْرِيمِ إيقَاعِ الثّلَاثِ جُمْلَةً
فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ يُطَلّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النّسَاءُ . [ ص 199 ] مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا . وَفِي لَفْظٍ إنْ شَاءَ طَلّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَذَلِكَ الطّلَاقُ لِلْعِدّةِ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيّ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا فِي قُبُلِ عِدّتِهَا . وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : قَالَ طَلّقَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَرَدّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَرَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا أَيّهَا النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمْ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ " [ الطّلَاقُ 1 ] .

[ أَنْوَاعُ الطّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْحِلّ وَالْحُرْمَةِ ]
فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَنّ الطّلَاقَ عَلَى أَرْبَعِهِ أَوْجُهٍ وَجْهَانِ حَلَالٌ وَوَجْهَانِ حَرَامٌ . فَالْحَلَالَانِ أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ يُطَلّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا . [ ص 200 ] وَالْحَرَامَانِ أَنْ يُطَلّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ يُطَلّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ هَذَا فِي طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَأَمّا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَيَجُوزُ طَلَاقُهَا حَائِضًا وَطَاهِرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً } [ الْبَقَرَةُ 236 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا } [ الْأَحْزَابُ 49 ] وَقَدْ دَلّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقُ ا ] وَهَذِهِ لَا عِدّةَ لَهَا وَنَبّهَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النّسَاءُ وَلَوْلَا هَاتَانِ الْآيَتَانِ اللّتَانِ فِيهِمَا إبَاحَةُ الطّلَاقِ قَبْلَ الدّخُولِ لَمَنَعَ مِنْ طَلَاقِ مَنْ لَا عِدّةَ لَهُ عَلَيْهَا . وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانُ فَقَالَ أَيَلْعَبُ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلَا أَقْتُلُهُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ الطّلَاقِ قَالَ أَمّا أَنْتَ إنْ طَلّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ " فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا وَإِنْ كُنْتَ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ [ ص 201 ] أَمَرَك مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ النّصُوصُ أَنّ الْمُطَلّقَةَ نَوْعَانِ مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ تَطْلِيقُهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَيَجُوزُ تَطْلِيقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا طَاهِرًا وَحَائِضًا . وَأَمّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ حَرّمَ طَلَاقَهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَبِينَةَ الْحَمْلِ جَازَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الْوَطْءِ وَقَبْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يَجُزْ طَلَاقُهَا بَعْدَ الْوَطْءِ فِي طُهْرِ الْإِصَابَةِ وَيَجُوزُ قَبْلَهُ . هَذَا الّذِي شَرَعَهُ اللّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ الطّلَاقِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ الّذِي أَذِنَ اللّهُ فِيهِ وَأَبَاحَهُ إذَا كَانَ مِنْ مُكَلّفٍ مُخْتَارٍ عَالِمٍ بِمَدْلُولِ اللّفْظِ قَاصِدٍ لَهُ .

[الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الْمُحَرّمِ مِنْ الطّلَاقِ ]
وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْمُحَرّمِ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ . الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الطّلَاقُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الطّهْرِ الّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ . الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ فِي جَمْعِ الثّلَاثِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ تَحْرِيرًا وَتَقْرِيرًا كَمَا ذَكَرْنَاهُمَا تَصْوِيرًا وَنَذْكُرُ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ وَمُنْتَهَى أَقْدَامِ الطّائِفَتَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنّ الْمُقَلّدَ الْمُتَعَصّبَ لَا يَتْرُكُ مَنْ قَلّدَهُ وَلَوْ جَاءَتْهُ كُلّ آيَةٍ وَأَنّ طَالِبَ الدّلِيلِ لَا يَأْتَمّ بِسِوَاهُ وَلَا يُحَكّمُ إلّا إيّاهُ وَلِكُلّ مِنْ النّاسِ مَوْرِدٌ لَا يَتَعَدّاهُ وَسَبِيلٌ لَا يَتَخَطّاهُ وَلَقَدْ عُذِرَ مَنْ حَمَلَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ قُوَاهُ وَسَعَى إلَى حَيْثُ انْتَهَتْ إلَيْهِ خُطَاهُ .
[هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الطّهْرِ الّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ ]
فَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنّ الْخِلَافَ فِي وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ لَمْ يَزَلْ ثَابِتًا بَيْنَ السّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ وَهِمَ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ وَقَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا اطّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : [ ص 202 ] كَيْفَ وَالْخِلَافُ بَيْنَ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْلُومُ الثّبُوتِ عَنْ الْمُتَقَدّمِينَ وَالْمُتَأَخّرِينَ ؟ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ السّلَامِ الْخُشَنِيّ : حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثّقَفِيّ حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُعْتَدّ بِذَلِك ذَكَرَه ُ أَبُوُ مُحَمّدُ بْنُ حَزْمٍ فِي " الْمُحَلّى " بِإِسْنَادِهِ إلَيْهِ . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " : عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ قَالَ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقًا مَا خَالَفَ وَجْهَ الطّلَاقِ وَوَجْهَ الْعِدّةِ وَكَانَ يَقُولُ وَجْهُ الطّلَاقِ أَنْ يُطَلّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَإِذَا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وَقَالَ الْخُشَنِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ حَدّثَنَا هَمّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو أَنّهُ قَالَ فِي الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِهَا قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ : وَالْعَجَبُ مِنْ جُرْأَةِ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَهُوَ لَا يَجِدُ فِيمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي إمْضَاءِ الطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ كَلِمَةً عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ غَيْرَ رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنّا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَتَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . إحْدَاهُمَا : رَوَيْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَجُلٍ أَخْبَرَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَرْأَةِ الّتِي يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَنّهَا لَا تَعْتَدّ بِحَيْضَتِهَا تِلْكَ وَتَعْتَدّ بَعْدَهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . [ ص 203 ] قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ : وَالْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ رَجُلٍ سَمّاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنّهُ قَالَ فِيمَنْ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَلْزَمُهُ الطّلَاقُ وَتَعْتَدّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ سِوَى تِلْكَ الْحَيْضَةِ قَالَ أَبُو مُحَمّد ٍ بَلْ نَحْنُ أَسْعَدُ بِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ هَا هُنَا لَوْ اسْتَجَزْنَا مَا يَسْتَجِيزُونَ وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ جَمِيعُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنّ الطّلَاقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ بِدْعَةٌ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُخَالِفَةٌ لِأَمْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا شَكّ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ الْحُكْمَ بِتَجْوِيزِ الْبِدْعَةِ الّتِي يُقِرّونَ أَنّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ أَلَيْسَ بِحُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ مُجِيزُ الْبِدْعَةِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِأَنّهَا بِدْعَةٌ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ : وَحَتّى لَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا الْخِلَافُ لَكَانَ الْقَاطِعُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا يَقِينَ عِنْدَهُ وَلَا بَلَغَهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ كَاذِبًا عَلَى جَمِيعِهِمْ .

[أَدِلّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ ]
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ لَا يُزَالُ النّكَاحُ الْمُتَيَقّنُ إلّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقّنٍ . فَإِذَا أَوَجَدْتُمُونَا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثّلَاثَةِ رَفَعْنَا حُكْمَ النّكَاحِ لَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالُوا : وَكَيْفَ وَالْأَدِلّةُ الْمُتَكَاثِرَةُ تَدُلّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَإِنّ هَذَا الطّلَاقَ لَمْ يَشْرَعْهُ اللّهُ تَعَالَى الْبَتّةَ وَلَا أَذِنَ فِيهِ فَلَيْسَ فِي شَرْعِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ بِنُفُوذِهِ وَصِحّتِهِ ؟ . قَالُوا : وَإِنّمَا يَقَعُ مِنْ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ مَا مَلّكَهُ اللّهُ تَعَالَى لِلْمُطَلّقِ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الرّابِعَةُ لِأَنّهُ لَمْ يُمَلّكْهَا إيّاهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمْ يُمَلّكْهُ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ وَلَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَصِحّ وَلَا يَقَعُ . قَالُوا : وَلَوْ وَكّلَ وَكِيلًا أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا جَائِزًا فَطَلّقَ طَلَاقًا [ ص 204 ] فَكَيْفَ كَانَ إذْنُ الْمَخْلُوقِ مُعْتَبَرًا فِي صِحّةِ إيقَاعِ الطّلَاقِ دُونَ إذْنِ الشّارِعِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ الْمُكَلّفَ إنّمَا يَتَصَرّفُ بِالْإِذْنِ فَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَكُونُ مَحَلّا لِلتّصَرّفِ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَالشّارِعُ قَدْ حَجَرَ عَلَى الزّوْجِ أَنْ يُطَلّقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ فِي الطّهْرِ فَلَوْ صَحّ طَلَاقُهُ لَمْ يَكُنْ لِحَجْرِ الشّارِعِ مَعْنًى وَكَانَ حَجْرُ الْقَاضِي عَلَى مَنْ مَنَعَهُ التّصَرّفَ أَقْوَى مِنْ حَجْرِ الشّارِعِ حَيْثُ يَبْطُلُ التّصَرّفُ بِحَجْرِهِ . قَالُوا : وَبِهَذَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ وَقْتَ النّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنّهُ بَيْعٌ حَجَرَ الشّارِعُ عَلَى بَائِعِهِ هَذَا الْوَقْتَ فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ وَتَصْحِيحُهُ . قَالُوا : وَلِأَنّهُ طَلَاقٌ مُحَرّمٌ مَنْهِيّ عَنْهُ فَالنّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَلَوْ صَحّحْنَاهُ لَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الصّحّةِ وَالْفَسَادِ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَالشّارِعُ إنّمَا نَهَى عَنْهُ وَحَرّمَهُ لِأَنّهُ يُبْغِضُهُ وَلَا يُحِبّ وُقُوعَهُ بَلْ وُقُوعُهُ مَكْرُوهٌ إلَيْهِ فَحَرّمَهُ لِئَلّا يَقَعَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَفِي تَصْحِيحِهِ وَتَنْفِيذِهِ ضِدّ هَذَا الْمَقْصُودِ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ النّكَاحُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ لَا يَصِحّ لِأَجْلِ النّهْيِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّلَاقِ وَكَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ مِنْ النّكَاحِ وَصَحّحْتُمْ مَا حَرّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الطّلَاقِ وَالنّهْيُ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؟ . قَالُوا : وَيَكْفِينَا مِنْ هَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَامّ الّذِي لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِرَدّ مَا خَالَفَ أَمْرَهُ وَإِبْطَالَهُ وَإِلْغَاءَهُ كَمَا فِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : كُلّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ [ ص 205 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ فَكَيْفَ يُقَالُ إنّهُ صَحِيحٌ لَازِمٌ نَافِذٌ ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْحُكْمِ بِرَدّهِ ؟ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنّهُ طَلَاقٌ لَمْ يَشْرَعْهُ اللّهُ أَبَدًا وَكَانَ مَرْدُودًا بَاطِلًا كَطَلَاقِ الْأَجْنَبِيّةِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ الْفَرْقُ بِأَنّ الْأَجْنَبِيّةَ لَيْسَتْ مَحَلّا لِلطّلَاقِ بِخِلَافِ الزّوْجَةِ فَإِنّ هَذِهِ الزّوْجَةَ لَيْسَتْ مَحَلّا لِلطّلَاقِ الْمُحَرّمِ وَلَا هُوَ مِمّا مَلّكَهُ الشّارِعُ إيّاهُ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا أَمَرَ بِالتّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ وَلَا أَشَرّ مِنْ التّسْرِيحِ الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمُوجَبُ عَقْدِ النّكَاحِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمّا إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَالتّسْرِيحُ الْمُحَرّمُ أَمْرٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا فَلَا عِبْرَةَ بِهِ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُبَيّنِ عَنْ اللّهِ مُرَادَهُ مِنْ كَلَامِهِ أَنّ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ الطّلَاقُ فِي زَمَنِ الطّهْرِ الّذِي لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ أَوْ بَعْدَ اسْتِبَانَةِ الْحَمْلِ وَمَا عَدَاهُمَا فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ لِلْعِدّةِ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا فَكَيْفَ تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ بِهِ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الطّلَاقُ مَرّتَانِ } [ الْبَقَرَةُ 269 ] وَمَعْلُومٌ أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ الطّلَاقَ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَهُوَ الطّلَاقُ لِلْعِدّةِ فَدَلّ عَلَى أَنّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ مِنْ الطّلَاقِ فَإِنّهُ حَصَرَ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ الّذِي يَمْلِكُ بِهِ الرّجْعَةَ فِي مَرّتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَا عَدَاهُ طَلَاقًا . قَالُوا : وَلِهَذَا كَانَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ يَقُولُونَ إنّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْفَتْوَى فِي الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ [ ص 206 ] مَنْ طَلّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ فَقَدْ بَيّنَ اللّهُ لَهُ وَمَنْ خَالَفَ فَإِنّا لَا نُطِيقُ خِلَافَهُ وَلَوْ وَقَعَ طَلَاقُ الْمُخَالِفِ لَمْ يَكُنْ الْإِفْتَاءُ بِهِ غَيْرَ مُطَاقٍ لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِلتّفْرِيقِ مَعْنًى إذْ كَانَ النّوْعَانِ وَاقِعَيْنِ نَافِذَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَيْضًا : مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ بَيّنَ اللّهُ لَهُ وَإِلّا فَوَاَللّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلّ مَا تُحْدِثُونَ وَقَالَ بَعْضُ الصّحَابَةِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ مَجْمُوعَةً مَنْ طَلّقَ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ بُيّنَ لَهُ وَمَنْ لَبّسَ تَرَكْنَاهُ وَتَلْبِيسَهُ قَالُوا : وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِالسّنَدِ الصّحِيحِ الثّابِتِ حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالّ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ وَأَنَا أَسْمَعُ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا ؟ فَقَالَ طَلّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا أَيّهَا النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمْ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ قَالُوا : وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصّحّةِ فَإِنّ أَبَا الزّبَيْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْ الْحِفْظِ وَالثّقَةِ وَإِنّمَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِهِ فَإِذَا قَالَ سَمِعْت أَوْ حَدّثَنِي زَالَ مَحْذُورُ التّدْلِيسِ وَزَالَتْ الْعِلّةُ الْمُتَوَهّمَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَحْتَجّونَ بِهِ إذَا قَالَ " عَنْ " وَلَمْ يُصَرّحْ بِالسّمَاعِ وَمُسْلِمٌ يُصَحّحُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِ فَأَمّا إذَا صَرّحَ بِالسّمَاعِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَصَحّ الْحَدِيثُ وَقَامَتْ الْحُجّةُ . قَالُوا : وَلَا نَعْلَمُ فِي خَبَرِ أَبِي الزّبَيْرِ هَذَا مَا يُوجِبُ رَدّهُ وَإِنّمَا رَدّهُ مَنْ [ ص 207 ] رَدّهُ اسْتِبْعَادًا وَاعْتِقَادًا أَنّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ وَنَحْنُ نَحْكِي كَلَامَ مَنْ رَدّهُ وَنُبَيّنُ أَنّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الرّدّ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَالْأَحَادِيثُ كُلّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ : وَنَافِعٌ أَثْبَتُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِي الزّبَيْرِ وَالْأَثْبَتُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إذَا خَالَفَهُ . وَقَالَ الْخَطّابِيّ : حَدِيثُ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا يَعْنِي قَوْلَهُ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا " وَقَوْلُهُ " أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ " ؟ قَالَ فَمَه قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي الزّبَيْرِ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَجِلّةٌ فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَأَبُو الزّبَيْرِ لَيْسَ بِحُجّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِ أَبُو الزّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا . فَهَذَا جُمْلَةُ مَا رُدّ بِهِ خَبَرُ أَبِي الزّبَيْرِ وَهُوَ عِنْدَ التّأَمّلِ لَا يُوجِبُ رَدّهُ وَلَا بُطْلَانَهُ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ ضَعّفَ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ ]
أَمّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ الْأَحَادِيثُ كُلّهَا عَلَى خِلَافِهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ سِوَى تَقْلِيدِ أَبِي دَاوُدَ وَأَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ ذَلِكَ وَتَزْعُمُونَ أَنّ الْحُجّةَ مِنْ جَانِبِكُمْ فَدَعُوا التّقْلِيدَ وَأَخْبِرُونَا أَيْنَ فِي الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ ؟ فَهَلْ فِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَسَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الطّلْقَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَدّ بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَنَعَمْ وَاَللّهِ هَذَا خِلَافٌ صَرِيحٌ لِحَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ وَلَا تَجِدُونَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا وَغَايَةُ مَا بِأَيْدِيكُمْ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَالرّجْعَةُ تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطّلَاقِ . وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ . وَقَدْ سُئِلَ أَتَعْتَدّ بِتِلْكَ التّطْلِيقَةِ ؟ فَقَالَ " أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ " وَقَوْلُ نَافِعٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ " فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ حَرْفٌ وَاحِدٌ يَدُلّ عَلَى وُقُوعِهَا [ ص 208 ] مُعَارَضَتِهَا لِقَوْلِهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَمُعَارَضَتُهَا لِتِلْكَ الْأَدِلّةِ الْمُتَقَدّمَةِ الّتِي سُقْنَاهَا وَعِنْدَ الْمُوَازَنَةِ يَظْهَرُ التّفَاوُتُ وَعَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِي كَلِمَةٍ كَلِمَةٍ مِنْهَا .

[مَعْنَى الْمُرَاجَعَةِ فِي كَلَامِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ]
أَمّا قَوْلُهُ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَالْمُرَاجَعَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ . أَحَدُهَا : ابْتِدَاءُ النّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } [ الْبَقَرَةُ 230 ] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنّ الْمُطَلّقَ هَا هُنَا : هُوَ الزّوْجُ الثّانِي وَأَنّ التّرَاجُعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزّوْجِ الْأَوّلِ وَذَلِكَ نِكَاحٌ مُبْتَدَأٌ . وَثَانِيهِمَا : الرّدّ الْحِسّيّ إلَى الْحَالَةِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوّلًا كَقَوْلِهِ لِأَبِي النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ لَمّا نَحَلَ ابْنَهُ غُلَامًا خَصّهُ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ رَدّهُ فَهَذَا رَدّ مَا لَمْ تَصِحّ فِيهِ الْهِبَةُ الْجَائِزَةُ الّتِي سَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَوْرًا وَأَخْبَرَ أَنّهَا لَا تَصْلُحُ وَأَنّهَا خِلَافُ الْعَدْلِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ فَرّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَدّ الْبَيْعَ وَلَيْسَ هَذَا الرّدّ مُسْتَلْزِمًا لِصِحّةِ الْبَيْعِ فَإِنّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ رَدّ شَيْئَيْنِ إلَى حَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا كَمَا كَانَا وَهَكَذَا الْأَمْرُ بِمُرَاجَعَة ِ ابْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ ارْتِجَاعٌ وَرَدّ إلَى حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا كَانَا قَبْلَ الطّلَاقِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ الْبَتّةَ . وَأَمّا قَوْلُهُ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَيَا سُبْحَانَ اللّهِ أَيْنَ الْبَيَانُ فِي هَذَا اللّفْظِ بِأَنّ تِلْكَ الطّلْقَةَ حَسَبَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَسَبَهَا عَلَيْهِ وَاعْتَدّ عَلَيْهِ بِهَا لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْجَوَابِ بِفِعْلِهِ وَشَرْعِهِ إلَى : أَرَأَيْت وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْرَهُ مَا إلَيْهِ " أَرَأَيْت " [ ص 209 ] فَكَيْفَ يَعْدِلُ لِلسّائِلِ عَنْ صَرِيحِ السّنّةِ إلَى لَفْظَةِ " أَرَأَيْت " الدّالّةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الرّأْيِ سَبَبُهُ عَجْزُ الْمُطَلّقِ وَحُمْقُهُ عَنْ إيقَاعِ الطّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي أَذِنَ اللّهُ لَهُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ فِيمَا هَذِهِ صِفَتُهُ أَنّهُ لَا يُعْتَدّ بِهِ وَأَنّهُ سَاقِطٌ مِنْ فِعْلِ فَاعِلِهِ لِأَنّهُ لَيْسَ فِي دِينِ اللّهِ تَعَالَى حُكْمٌ نَافِذٌ سَبَبُهُ الْعَجْزُ وَالْحُمْقُ عَنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ إلّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يُمْكِنُ رَدّهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ الّتِي مَنْ عَقَدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرّمِ فَقَدْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ هَذَا أَدَلّ عَلَى الرّدّ مِنْهُ عَلَى الصّحّةِ وَاللّزُومِ فَإِنّهُ عَقْدُ عَاجِزٍ أَحْمَقَ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بَاطِلًا فَهَذَا الرّأْيُ وَالْقِيَاسُ أَدَلّ عَلَى بُطْلَانِ طَلَاقِ مَنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ مِنْهُ عَلَى صِحّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ . وَأَمّا قَوْلُهُ فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا . فَفِعْلٌ مَبْنِيّ لِمَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ فَإِذَا سُمّيَ فَاعِلُهُ ظَهَرَ وَتَبَيّنَ هَلْ فِي حُسْبَانِهِ حُجّةٌ أَوْ لَا ؟ وَلَيْسَ فِي حُسْبَانِ الْفَاعِلِ الْمَجْهُولِ دَلِيلٌ الْبَتّةَ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ " فَحُسِبَتْ " ابْنَ عُمَر َ أَوْ نَافِعًا أَوْ مَنْ دُونَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي حَسَبَهَا حَتّى تَلْزَمَ الْحُجّةُ بِهِ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ فَقَدْ تَبَيّنَ أَنّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ لَا تُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ وَأَنّهُ صَرِيحٌ فِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ فِيهَا .

[رَدّ الْمُوقِعِينَ لِلطّلَاقِ عَلَى الْمَانِعِينَ ]
قَالَ الْمُوقِعُونَ لَقَدْ ارْتَقَيْتُمْ أَيّهَا الْمَانِعُونَ مُرْتَقًى صَعْبًا وَأَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ طَلَاقِ الْمُطَلّقِينَ فَإِنّ غَالِبَهُ طَلَاقٌ بِدْعِيّ وَجَاهَرْتُمْ بِخِلَافِ الْأَئِمّةِ وَلَمْ تَتَحَاشَوْا خِلَافَ الْجُمْهُورِ وَشَذَذْتُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ الّذِي أَفْتَى جُمْهُورُ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِخِلَافِهِ وَالْقُرْآنُ وَالسّنَنُ تَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا يَعُمّ كُلّ طَلَاقٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [ الْبَقَرَةُ 228 ] وَلَمْ يُفَرّقْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { الطّلَاقُ مَرّتَانِ } وَقَوْلُهُ { وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ } [ ص 210 ] عُمُومَاتٌ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إلّا بِنَصّ أَوْ إجْمَاعٍ . قَالُوا : وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : الْأَمْرُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَهِيَ لَمّ شَعَثِ النّكَاحِ وَإِنّمَا شَعَثُهُ وُقُوعُ الطّلَاقِ . الثّانِي : قَوْلُ ابْنِ عُمَر َ فَرَاجَعْتهَا وَحَسِبْت لَهَا التّطْلِيقَةَ الّتِي طَلّقَهَا وَكَيْفَ يُظَنّ بِابْنِ عُمَرَ أَنّهُ يُخَالِفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَحْسَبُهَا مِنْ طَلَاقِهَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا . الثّالِثُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمّا قِيلَ لَهُ أَيُحْتَسَبُ بِتِلْكَ التّطْلِيقَةِ ؟ قَالَ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيْ عَجْزُهُ وَحُمْقُهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي عَدَمِ احْتِسَابِهِ بِهَا . الرّابِعُ أَنّ ابْنَ عُمَر َ قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدّ بِهَا وَهَذَا إنْكَارٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا وَهَذَا يُبْطِلُ تِلْكَ اللّفْظَةَ الّتِي رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الزّبَيْرِ إذْ كَيْفَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ : وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدّ بِهَا ؟ وَهُوَ يَرَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ رَدّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا . الْخَامِسُ أَنّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ الِاعْتِدَادُ بِالطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصّةِ وَأَعْلَمُ النّاسِ بِهَا وَأَشَدّهُمْ اتّبَاعًا لِلسّنَنِ وَتَحَرّجًا مِنْ مُخَالَفَتِهَا . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ فِي " جَامِعِهِ " حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنّ نَافِعًا أَخْبَرَهُمْ عَن ابْنِ عُمَر َ أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ طَلّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا النّسَاءُ وَهِيَ وَاحِدَةٌ هَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ . [ ص 211 ] قَالُوا : وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَرْسَلْنَا إلَى نَافِعٍ وَهُوَ يَتَرَجّلُ فِي دَارِ النّدْوَةِ ذَاهِبًا إلَى الْمَدِينَةِ وَنَحْنُ مَعَ عَطَاءٍ هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالُوا : وَرَوَى حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ طَلّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ زَكَرِيّا السّاجِي حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيّةَ الذّارِعُ حَدّثَنَا حَمّادٌ فَذَكَرَهُ . قَالُوا : وَقَدْ تَقَدّمَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي فَتْوَاهُمَا بِالْوُقُوعِ . قَالُوا : وَتَحْرِيمُهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ كَالظّهَارِ فَإِنّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ وَهُوَ مُحَرّمٌ بِلَا شَكّ وَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزّوْجَةِ إلَى أَنْ يُكَفّرَ فَهَكَذَا الطّلَاقُ الْبِدْعِيّ مُحَرّمٌ وَيَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إلَى أَنْ يُرَاجِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا : حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ رَبّك فِيمَا أَمَرَك بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِك فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الطّلَاقَ الّذِي عَصَى بِهِ الْمُطَلّقُ رَبّهُ عَزّ وَجَلّ . [ ص 212 ] قَالُوا : وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ مُحَرّمٌ وَتَرَتّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ الْحَدّ وَرَدّ الشّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا . قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَ النّكَاحِ الْمُحَرّمِ وَالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ أَنّ النّكَاحَ عَقْدٌ يَتَضَمّنُ حِلّ الزّوْجَةِ وَمِلْكَ بُضْعِهَا فَلَا يَكُونُ إلّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا فَإِنّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التّحْرِيمِ وَلَا يُبَاحُ مِنْهَا إلّا مَا أَبَاحَهُ الشّارِعُ بِخِلَافِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ إسْقَاطٌ لِحَقّهِ وَإِزَالَةٌ لِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَوَقّفُ عَلَى كَوْنِ السّبَبِ الْمُزِيلِ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرّمِ وَبِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ وَبِالتّبَرّعِ الْمُحَرّمِ كَهِبَتِهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنّهُ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ . قَالُوا : وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْعُقُودِ وَأَجَلّهَا وَأَشْرَفُهَا يَزُولُ بِالْكَلَامِ الْمُحَرّمِ إذَا كَانَ كُفْرًا فَكَيْفَ لَا يَزُولُ عَقْدُ النّكَاحِ بِالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ الّذِي وُضِعَ لِإِزَالَتِهِ . قَالُوا : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إلّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَإِنّهُ يَقَعُ مَعَ تَحْرِيمِهِ لِأَنّهُ لَا يَحِلّ لَهُ الْهَزْلُ بِآيَاتِ اللّهِ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتّخِذُونَ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا : طَلّقْتُك رَاجَعْتُك طَلّقْتُك رَاجَعْتُك فَإِذَا وَقَعَ طَلَاقُ الْهَازِلِ مَعَ تَحْرِيمِهِ فَطَلَاقُ الْجَادّ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ مَعَ تَحْرِيمِهِ . قَالُوا : وَفَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ النّكَاحِ الْمُحَرّمِ وَالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ أَنّ النّكَاحَ نِعْمَةٌ فَلَا تُسْتَبَاحُ بِالْمُحَرّمَاتِ وَإِزَالَتُهُ وَخُرُوجُ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ نِقْمَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُحَرّمًا . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا وَالِاحْتِيَاطُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطّلَاقِ وَتَجْدِيدَ الرّجْعَةِ وَالْعَقْدِ . قَالُوا : وَقَدْ عَهِدْنَا النّكَاحَ لَا يُدْخَلُ فِيهِ إلّا بِالتّشْدِيدِ وَالتّأْكِيدِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْوَلِيّ وَالشّاهِدَيْنِ وَرِضَى الزّوْجَةِ الْمُعْتَبَرِ رِضَاهَا [ ص 213 ] يُقَاسَ عَلَيْهِ . قَالُوا : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَيْدِينَا إلّا قَوْلُ حَمَلَةِ الشّرْعِ كُلّهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ وَالطّلَاقُ نَوْعَانِ طَلَاقُ سُنّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الطّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهَانِ حَلَالٌ وَوَجْهَانِ حَرَامٌ فَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَالتّقْسِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ حَقِيقَةً وَشُمُولُ اسْمِ الطّلَاقِ لَهُ كَشُمُولِهِ لِلطّلَاقِ الْحَلَالِ وَلَوْ كَانَ لَفْظًا مُجَرّدًا لَغْوًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا قِيلَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنّ هَذَا اللّفْظَ إذَا كَانَ لَغْوًا كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِيهِ طَلّقَ وَلَا يُقَسّمُ الطّلَاقُ - وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ - إلَيْهِ وَإِلَى الْوَاقِعِ فَإِنّ الْأَلْفَاظَ اللّاغِيَةَ الّتِي لَيْسَ لَهَا مَعَانٍ ثَابِتَةٌ لَا تَكُونُ هِيَ وَمَعَانِيهَا قِسْمًا مِنْ الْحَقِيقَةِ الثّابِتَةِ لَفْظًا فَهَذَا أَقْصَى مَا تَمَسّكَ بِهِ الْمُوقِعُونَ وَرُبّمَا ادّعَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنّزَاعِ .

[رَدّ الْمَانِعِينَ عَلَى الْمُوقِعِينَ ]
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْوُقُوعِ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ بِهَا يَسْتَبِينُ الْحَقّ فِي الْمَسْأَلَةِ . الْمَقَامُ الْأَوّلُ بُطْلَانُ مَا زَعَمْتُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَأَنّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى إثْبَاتِهِ الْبَتّةَ بَلْ الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ مَعْلُومٌ . الْمَقَامُ الثّانِي أَنّ فَتْوَى الْجُمْهُورِ بِالْقَوْلِ لَا يَدُلّ عَلَى صِحّتِهِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِحُجّةٍ . [ ص 214 ] الْمَقَامُ الثّالِثُ أَنّ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نُصُوصِ الطّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ الّتِي رَتّبَ الشّارِعُ عَلَيْهَا أَحْكَامَ الطّلَاقِ فَإِنْ ثَبَتَتْ لَنَا هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثّلَاثُ كُنّا أَسْعَدَ بِالصّوَابِ مِنْكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَنَقُولُ أَمّا الْمَقَامُ الْأَوّلُ فَقَدْ تَقَدّمَ مِنْ حِكَايَةِ النّزَاعِ مَا يُعْلَمُ مَعَهُ بُطْلَانُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ سَبِيلٌ إلَى إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ الّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ وَتَنْقَطِعُ مَعَهُ الْمَعْذِرَةُ وَتَحْرُمُ مَعَهُ الْمُخَالَفَةُ فَإِنّ الْإِجْمَاعَ الّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيّ الْمَعْلُومُ . وَأَمّا الْمَقَامُ الثّانِي : وَهُوَ أَنّ الْجُمْهُورَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَأَوْجِدُونَا فِي الْأَدِلّةِ الشّرْعِيّةِ أَنّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ حُجّةٌ مُضَافَةٌ إلَى كِتَابِ اللّهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ أُمّتِهِ . وَمَنْ تَأَمّلَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ عَهْدِ الصّحَابَةِ وَإِلَى الْآنَ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُمْ وَجَدَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى تَسْوِيغِ خِلَافِ الْجُمْهُورِ وَوَجَدَ لِكُلّ مِنْهُمْ أَقْوَالًا عَدِيدَةً انْفَرَدَ بِهَا عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَطّ وَلَكِنْ مُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ فَمَنْ شِئْتُمْ سَمّيْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمّةِ تَتَبّعُوا مَا لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الّتِي خَالَفَ فِيهَا الْجُمْهُورَ وَلَوْ تَتَبّعْنَا ذَلِكَ وَعَدَدْنَاهُ لَطَالَ الْكِتَابُ بِهِ جِدّا وَنَحْنُ نُحِيلُكُمْ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَضَمّنَةِ لِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَمَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَذَاهِبِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ يَأْخُذُ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَسَائِلِ الّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَلَا تَدْفَعُهَا السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَأَمّا مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَإِنّهُمْ كَالْمُتّفِقِينَ عَلَى إنْكَارِهِ وَرَدّهِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَأَمّا الْمَقَامُ الثّالِثُ وَهُوَ دَعْوَاكُمْ دُخُولَ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الطّلَاقِ وَشُمُولَهَا لِلنّوْعَيْنِ إلَى آخِرِ كَلَامِكُمْ فَنَسْأَلُكُمْ مَا تَقُولُونَ فِيمَنْ ادّعَى دُخُولَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ الْمُحَرّمِ وَالنّكَاحِ الْمُحَرّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الْبَيْعِ [ ص 215 ] وَقَالَ شُمُولُ الِاسْمِ لِلصّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَالْفَاسِدِ سَوَاءٌ بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ إذَا ادّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ الشّرْعِيّةِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمُحَرّمَةُ الْمَنْهِيّ عَنْهَا إذَا ادّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ الْأَلْفَاظِ الشّرْعِيّةِ وَحَكَمَ لَهَا بِالصّحّةِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهَا هَلْ تَكُونُ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ صَحِيحَةٌ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى ذَلِكَ كَانَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضّرُورَةِ مِنْ الدّينِ وَإِنْ قُلْتُمْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ تَرَكْتُمْ قَوْلَكُمْ وَرَجَعْتُمْ إلَى مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ قُلْتُمْ تُقْبَلُ فِي مَوْضِعٍ وَتُرَدّ فِي مَوْضِعٍ قِيلَ لَكُمْ فَفَرّقُوا بِفُرْقَانٍ صَحِيحٍ مُطّرِدٍ مُنْعَكِسٍ مَعَكُمْ بِهِ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ تَحْتَ أَلْفَاظِ النّصُوصِ فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الصّحّةِ وَبَيْنَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ سِوَى الدّعْوَى الّتِي يُحْسِنُ كُلّ أَحَدٍ مُقَابَلَتَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَنْ يُحْتَجّ لِقَوْلِهِ لَا بِقَوْلِهِ وَإِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ عَمّا قَرّرْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الطّرِيقِ وُجِدَ عَيْنُ مَحَلّ النّزَاعِ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ مُقَدّمَةً فِي الدّلِيلِ وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهَلْ وَقَعَ النّزَاعُ إلّا فِي دُخُولِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ تَحْتَ قَوْلِهِ { وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ } وَتَحْتَ قَوْلِهِ { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَهَلْ سَلّمَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ قَطّ ذَلِكَ حَتّى تَجْعَلُوهُ مُقَدّمَةً لِدَلِيلِكُمْ ؟ . قَالُوا : وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً عَلَيْكُمْ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً لَكُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : صَرِيحُ قَوْلِهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ صِحّتِهِ . قَالُوا : فَهَذَا الصّرِيحُ الصّحِيحُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ مَا يُقَاوِمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَلْ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إمّا صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ وَإِمّا صَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ كَمَا سَتَقِفُونَ عَلَيْهِ . الثّانِي : أَنّهُ قَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ كَالشّمْسِ مِنْ [ ص 216 ] عُبَيْدِ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدّمَ . الثّالِثُ أَنّهُ لَوْ كَانَ صَرِيحًا فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لَمَا عَدَلَ بِهِ إلَى مُجَرّدِ الرّأْيِ . وَقَوْلُهُ لِلسّائِلِ أَرَأَيْتَ ؟ الرّابِعُ أَنّ الْأَلْفَاظَ قَدْ اضْطَرَبَتْ عَنْ ابْنِ عُمَر فِي ذَلِكَ اضْطِرَابًا شَدِيدًا وَكُلّهَا صَحِيحَةٌ عَنْهُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصّ صَرِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وُقُوعِ تِلْكَ الطّلْقَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا وَإِذَا تَعَارَضَتْ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ نَظَرْنَا إلَى مَذْهَبِ ابْنِ عُمَر وَفَتْوَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ وَوَجَدْنَا أَحَدَ أَلْفَاظِ حَدِيثِهِ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَقَدْ اجْتَمَعَ صَرِيحُ رِوَايَتِهِ وَفَتْوَاهُ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ كَمَا تَقَدّمَ بَيَانُهُ . وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَا لِي لَا أَعْتَدّ بِهَا وَقَوْلُهُ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً صَرِيحَةً عَنْهُ بِالْوُقُوعِ وَيَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . وَقَوْلُكُمْ . كَيْفَ يُفْتِي بِالْوُقُوعِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ رَدّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَدّ عَلَيْهِ بِهَا ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ وَلَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الّتِي خَالَفَهَا رَاوِيهَا أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الصّحَابِيّ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَى رَأْيِهِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبّاسٍ حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِطَلَاقِهَا وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ النّاسُ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكُوا رَأْيَهُ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَإِنّ الرّوَايَةَ مَعْصُومَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَالرّأْيُ بِخِلَافِهَا كَيْفَ وَأَصْرَحُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَا رَوَاهُ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ عَلَى أَنّ فِي هَذَا فِقْهًا دَقِيقًا إنّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ غَوْرٌ عَلَى أَقْوَالِ الصّحَابَةِ وَمَذَاهِبِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاحْتِيَاطِهِمْ لِلْأُمّةِ [ ص 217 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إيقَاعِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ جُمْلَةً .

وَأَمّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَلَعَمْرُ اللّهِ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ اللّفْظَةُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَدّمْنَا عَلَيْهَا شَيْئًا وَلَصِرْنَا إلَيْهَا بِأَوّلِ وَهْلَةٍ وَلَكِنْ لَا نَدْرِي أَقَالَهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عِنْدِهِ أَمْ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَمْ نَافِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَا يُتَيَقّنُ أَنّهُ مِنْ كَلَامِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ وَتُرَتّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَيُقَالُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ بِالْوَهْمِ وَالِاحْتِمَالِ وَالظّاهِرُ أَنّهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمُرَادُهُ بِهَا أَنّ ابْنَ عُمَرَ إنّمَا طَلّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا أَيْ طَلّقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَهُ . وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ نَافِعٍ أَنّ تَطْلِيقَةَ عَبْدِ اللّهِ حُسِبَتْ عَلَيْهِ فَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ الّذِي حَسَبَهَا أَهُوَ عَبْدُ اللّهِ نَفْسُهُ أَوْ أَبُوهُ عُمَرُ أَوْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوَهْمِ وَالْحُسْبَانِ وَكَيْفَ يُعَارَضُ صَرِيحِ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا بِهَذَا الْمُجْمَلِ ؟ وَاَللّهُ يَشْهَدُ - وَكَفَى بِاَللّهِ شَهِيدًا - أَنّا لَوْ تَيَقّنّا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ لَمْ نَتَعَدّ ذَلِكَ وَلَمْ نَذْهَبْ إلَى سِوَاهُ . وَأَمّا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ طَلّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ فَحَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الثّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ الذّارِعِ الْكَذّابِ الّذِي يَذْرَعُ وَيُفَصّلُ ثُمّ الرّاوِي لَهُ عَنْهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وَقَدْ ضَعّفَهُ الْبَرْقَانِيّ وَغَيْرُهُ وَكَانَ قَدْ اُخْتُلِطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَقَالَ [ ص 218 ] الدّارَقُطْنِيّ : يُخْطِئُ كَثِيرًا وَمِثْلُ هَذَا إذَا تَفَرّدَ بِحَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُ حُجّةً . وَأَمّا إفْتَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بِالْوُقُوعِ فَلَوْ صَحّ ذَلِكَ وَلَا يَصِحّ أَبَدًا فَإِنّ أَثَرَ عُثْمَانَ فِيهِ كَذّابٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ وَلَا حَالُهُ فَإِنّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَجُلٍ وَأَثَرُ زَيْدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ مَجْهُولٍ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ سَمّاهُ عَنْ زَيْدٍ فَيَالِلّهِ الْعَجَبُ أَيْنَ هَاتَانِ الرّوَايَتَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثّقَفِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ حَافِظِ الْأُمّةِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر َ أَنّهُ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِهَا . فَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَثَرُ مِنْ قِبَلِكُمْ لَصُلْتُمْ بِهِ وَجُلْتُمْ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ تَحْرِيمَهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ كَالظّهَارِ فَيُقَالُ أَوّلًا : هَذَا قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النّصّ وَسَائِرُ تِلْكَ الْأَدِلّةِ الّتِي هِيَ أَرْجَحُ مِنْهُ ثُمّ يُقَالُ ثَانِيًا : هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ سَوَاءٌ مُعَارَضَةُ الْقَلْبِ بِأَنْ يُقَالَ تَحْرِيمُهُ يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ كَالنّكَاحِ وَيُقَالُ ثَالِثًا : لَيْسَ لِلظّهَارِ جِهَتَانِ جِهَةُ حِلّ وَجِهَةُ حُرْمَةٍ بَلْ كُلّهُ حَرَامٌ فَإِنّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى حَلَالٍ جَائِزٍ وَحَرَامٍ بَاطِلٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَذْفِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ وَالرّدّةِ فَإِذَا وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ إلّا مَعَ مَفْسَدَتِهِ فَلَا يُتَصَوّرُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ حَلَالٌ صَحِيحٌ وَحَرَامٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ النّكَاحِ وَالطّلَاقِ وَالْبَيْعِ فَالظّهَارُ نَظِيرُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرّمَةِ الّتِي إذَا وَقَعَتْ قَارَنَتْهَا مَفَاسِدُهَا فَتَرَتّبَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا وَإِلْحَاقُ الطّلَاقِ بِالنّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعُقُودِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَبَاطِلٍ أَوْلَى . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ النّكَاحَ عَقْدٌ يُمَلّكُ بِهِ الْبُضْعُ وَالطّلَاقُ عَقْدٌ يَخْرُجُ بِهِ فَنَعَمْ . مِنْ أَيْنَ لَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا وَالْإِلْزَامِ بِهِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِلْغَاءِ الْآخَرِ وَإِبْطَالِهِ ؟ . وَأَمّا زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرّمِ فَذَلِكَ مِلْكٌ قَدْ زَالَ حِسّا [ ص 219 ] فَأَبْعَدُ . وَأَبْعَدُ فَإِنّا صَدّقْنَاهُ ظَاهِرًا فِي إقْرَارِهِ وَأَزَلْنَا مِلْكَهُ بِالْإِقْرَارِ الْمُصَدّقِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا . وَأَمّا زَوَالُ الْإِيمَانِ بِالْكَلَامِ الّذِي هُوَ كُفْرٌ فَقَدْ تَقَدّمَ جَوّابُهُ وَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْكُفْرِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ .

وَأَمّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَإِنّمَا وَقَعَ لِأَنّهُ صَادَفَ مَحَلّا وَهُوَ طُهْرٌ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ فَنَفَذَ وَكَوْنُهُ هَزَلَ بِهِ إرَادَةً مِنْهُ أَنْ لَا يَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ بَلْ إلَى الشّارِعِ فَهُوَ قَدْ أَتَى بِالسّبَبِ التّامّ وَأَرَادَ أَلّا يَكُونَ سَبَبَهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ طَلّقَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ لَمْ يَأْتِ بِالسّبَبِ الّذِي نَصّبَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مُفْضِيًا إلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ وَإِنّمَا أَتَى بِسَبَبٍ مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَهُ هُوَ مُفْضِيًا إلَى حُكْمِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنْ النّكَاحَ نِعْمَةٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبُهُ إلّا طَاعَةً بِخِلَافِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ النّعَمِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً فَيُقَالُ قَدْ يَكُونُ الطّلَاقُ مِنْ أَكْبَرِ النّعَمِ الّتِي يَفُكّ بِهَا الْمُطَلّقُ الْغُلّ مِنْ عُنُقِهِ وَالْقَيْدَ مِنْ رِجْلِهِ فَلَيْسَ كُلّ طَلَاقٍ نِقْمَةً بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ مَكّنَهُمْ مِنْ الْمُفَارَقَةِ بِالطّلَاقِ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَالتّخَلّصَ مِمّنْ لَا يُحِبّهَا وَلَا يُلَائِمُهَا فَلَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلُ النّكَاحِ وَلَا لِلْمُتَبَاغِضَيْنِ مِثْلُ الطّلَاقِ ثُمّ كَيْفَ يَكُونُ نِقْمَةً وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ } [ الْبَقَرَةُ 236 ] وَيَقُولُ { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقُ 1 ] ؟ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا فَنَعَمْ وَهَكَذَا قُلْنَا سَوَاءٌ فَإِنّا احْتَطْنَا وَأَبْقَيْنَا الزّوْجَيْنِ عَلَى يَقِينِ النّكَاحِ حَتّى يَأْتِيَ مَا يُزِيلُهُ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَخْطَأْنَا فَخَطَؤُنَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَصَبْنَا فَصَوَابُنَا فِي جِهَتَيْنِ جِهَةِ الزّوْجِ الْأَوّلِ وَجِهَةِ الثّانِي وَأَنْتُمْ تَرْتَكِبُونَ أَمْرَيْنِ تَحْرِيمَ الْفَرَجِ عَلَى مَنْ [ ص 220 ] كَانَ حَلَالًا لَهُ بِيَقِينٍ وَإِحْلَالُهُ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَتَيْنِ فَتَبَيّنَ أَنّا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْكُمْ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي طَلَاقِ السّكْرَانِ نَظِيرُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ سَوَاءٌ فَقَالَ الّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ إنّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً وَاَلّذِي يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرّمَهَا عَلَيْهِ وَأَحَلّهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ النّكَاحَ يُدْخَلُ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ قُلْنَا : وَلَكِنْ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ إلّا بِمَا نَصّبَهُ اللّهُ سَبَبًا يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ وَأَذِنَ فِيهِ وَأَمّا مَا يُنَصّبُهُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ وَيَجْعَلُهُ هُوَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ فَكَلّا . فَهَذَا مُنْتَهَى أَقْدَامِ الطّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضّيّقَةِ الْمُعْتَرَكِ الْوَعِرَةِ الْمَسْلَكِ الّتِي يَتَجَاذَبُ أَعِنّةَ أَدِلّتِهَا الْفُرْسَانُ وَتَتَضَاءَلُ لَدَى صَوْلَتِهَا شَجَاعَةُ الشّجْعَانِ وَإِنّمَا نَبّهْنَا عَلَى مَأْخَذِهَا وَأَدِلّتِهَا لِيَعْلَمَ الْغِرّ الّذِي بِضَاعَتُهُ مِنْ الْعِلْمِ مُزْجَاةٌ أَنّ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ وَرَاءَ مَا عِنْدَهُ وَأَنّهُ إذَا كَانَ مِمّنْ قَصّرَ فِي الْعِلْمِ بَاعَهُ فَضَعُفَ خَلْفَ الدّلِيلِ وَتَقَاصَرَ عَنْ جَنَى ثِمَارِهِ ذِرَاعَهُ فَلْيَعْذُرْ مَنْ شَمّرَ عَنْ سَاقِ عَزْمِهِ وَحَامَ حَوْلَ آثَارِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَحْكِيمِهَا وَالتّحَاكُمِ إلَيْهَا بِكُلّ هِمّةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَاذِرٍ لِمُنَازِعِهِ فِي قُصُورِهِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَذَا الشّأْنِ الْبَعِيدِ فَلْيَعْذُرْ مُنَازِعَهُ فِي رَغْبَتِهِ عَمّا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَحْضِ التّقْلِيدِ وَلْيَنْظُرْ مَعَ نَفْسِهِ أَيّهُمَا هُوَ الْمَعْذُورُ وَأَيّ السّعْيَيْنِ أَحَقّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ السّعْيَ الْمَشْكُورَ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ وَهُوَ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ الْفَاتِحُ لِمَنْ أَمّ بَابَهُ طَالِبًا لِمَرْضَاتِهِ مِنْ الْخَيْرِ كُلّ بَابٍ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ
قَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ مُغْضَبًا ثُمّ قَالَ " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ " وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ فَإِنّ ابْنَ وَهْبٍ قَدْ رَوَاهُ عَنْ [ ص 221 ] مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ فَذَكَرَهُ وَمَخْرَمَةُ ثِقَةٌ بِلَا شَكّ وَقَدْ احْتَجّ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " بِحَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ . وَاَلّذِينَ أَعَلّوهُ قَالُوا : لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَإِنّمَا هُوَ كِتَابٌ . . قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْن بُكَيْرٍ ؟ فَقَالَ هُوَ ثِقَةٌ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إنّمَا هُوَ كِتَابُ مَخْرَمَةَ فَنَظَرَ فِيهِ كُلّ شَيْءٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَهُوَ مِنْ كِتَابِ مَخْرَمَةَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثُمَةَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ وَقَعَ إلَيْهِ كِتَابُ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبّاسٍ الدّورِيّ : هُوَ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ كِتَابٌ وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إلّا حَدِيثًا وَاحِدًا حَدِيثَ الْوِتْرِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِهِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ أَتَيْتُ مَخْرَمَةَ فَقُلْت : حَدّثَك أَبُوك ؟ قَالَ لَمْ أُدْرِكْ أَبِي وَلَكِنْ هَذِهِ كُتُبُهُ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا مَضْبُوطًا فَلَا فَرْقَ فِي قِيَامِ الْحُجّةِ بِالْحَدِيثِ بَيْنَ مَا حَدّثَهُ بِهِ أَوْ رَآهُ فِي كِتَابِهِ بَلْ الْأَخْذُ عَنْ النّسْخَةِ أَحْوَطُ إذَا تَيَقّنَ الرّاوِي أَنّهَا نُسْخَةُ الشّيْخِ بِعَيْنِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصّحَابَةِ وَالسّلَفِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ إلَى الْمُلُوكِ وَتَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجّةُ وَكَتَبَ كُتُبَهُ إلَى عُمّالِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَعَمِلُوا بِهَا وَاحْتَجّوا بِهَا وَدَفَعَ الصّدّيقُ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الزّكَاةِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَمَلَهُ وَعَمِلَتْ بِهِ الْأُمّةُ وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الصّدَقَاتِ الّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عَمْرٍو وَلَمْ يَزَلْ السّلَفُ وَالْخَلَفُ يَحْتَجّونَ بِكِتَابِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَيَقُولُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ كَتَبَ إلَيّ فُلَانٌ أَنّ فُلَانًا أَخْبَرَهُ وَلَوْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْكُتُبِ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الْأُمّةِ إلّا أَيْسَرُ الْيَسِيرِ فَإِنّ الِاعْتِمَادَ إنّمَا هُوَ عَلَى النّسْخِ لَا عَلَى الْحِفْظِ وَالْحِفْظُ خَوّانٌ وَالنّسْخَةُ لَا تَخُونُ وَلَا يُحْفَظُ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدّمَةِ أَنّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدّ الِاحْتِجَاجَ بِالْكِتَابِ وَقَالَ لَمْ يُشَافِهْنِي بِهِ الْكَاتِبُ فَلَا أَقَبْلُهُ بَلْ كُلّهُمْ [ ص 222 ] الْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ سَمِعَ مِنْهُ وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِثْبَاتٌ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : سُئِلَ أَبِي عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ ؟ فَقَالَ صَالِحُ الْحَدِيثِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَجَدْت فِي ظَهْرِ كِتَابِ مَالِكٍ سَأَلْت مَخْرَمَةَ عَمّا يُحَدّثُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَهَا مِنْ أَبِيهِ ؟ فَحَلَفَ لِي : وَرَبّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ - يَعْنِي الْمَسْجِدَ - سَمِعْتُ مِنْ أَبِي . وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ : سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ مَخْرَمَةُ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ رَبِيعَةُ أَشْيَاءَ مِنْ رَأْيِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَقَالَ عَلِيّ وَلَا أَظُنّ مَخْرَمَةَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ لَعَلّهُ سَمِعَ مِنْهُ الشّيْءَ الْيَسِيرَ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُنِي عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ سَمِعْت أَبِي وَمَخْرَمَةُ ثِقَةٌ . انْتَهَى . وَيَكْفِي أَنّ مَالِكًا أَخَذَ كِتَابَهُ فَنَظَرَ فِيهِ وَاحْتَجّ بِهِ فِي " مُوَطّئِهِ " وَكَانَ يَقُولُ حَدّثَنِي مَخْرَمَةُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ سَأَلْت إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ قُلْت : هَذَا الّذِي يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : حَدّثَنِي الثّقَةُ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ . وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيّ كَانَ مَخْرَمَةُ مِنْ ثِقَاتِ الرّجَالِ ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَخْرَمَةَ أَحَادِيثُ حِسَانٌ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَرْجُو أَنّهُ لَا بَأْسَ بِهِ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا : " حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ رَبّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلطّلَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَفْسِيرُ الصّحَابِيّ حُجّةٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ : هُوَ عِنْدَنَا مَرْفُوعٌ . [ ص 223 ] حَقّ التّأَمّلِ تَبَيّنَ لَهُ ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنّ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الدّخُولِ هُوَ الطّلَاقُ الّذِي يَمْلِكُ بِهِ الرّجْعَةَ وَلَمْ يَشْرَعْ اللّهُ سُبْحَانَهُ إيقَاعَ الثّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً الْبَتّةَ قَالَ تَعَالَى : { الطّلَاقُ مَرّتَانِ } وَلَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا وُقُوعَ الْمَرّتَيْنِ إلّا مُتَعَاقِبَتَيْنِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبّحَ اللّهَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبّرَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَنَظَائِرُهُ فَإِنّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ ذَلِكَ إلّا تَسْبِيحٌ وَتَكْبِيرٌ وَتَحْمِيدٌ مُتَوَالٍ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا فَلَوْ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاَللّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ بِهَذَا اللّفْظِ لَكَانَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَقَطْ . وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ } [ النّورُ 6 ] فَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنّي لَمِنْ الصّادِقِينَ كَانَتْ مَرّةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [ النّورُ 8 ] فَلَوْ قَالَتْ أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ كَانَتْ وَاحِدَةً وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ } [ التّوْبَةُ 101 ] فَهَذَا مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرّتَيْنِ } [ الْأَحْزَابُ 31 ] [ ص 224 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ فَإِنّ الْمَرّتَيْنِ هُنَا هُمَا الضّعْفَانِ وَهُمَا الْمِثْلَانِ وَهُمَا مِثْلَانِ فِي الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الْأَحْزَابُ 30 ] وَقَوْلِهِ { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } [ الْبَقَرَةُ 265 ] أَيْ ضِعْفَيْ مَا يُعَذّبُ بِهِ غَيْرُهَا وَضِعْفَيْ مَا كَانَتْ تُؤْتِي وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ انْشَقّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ أَيْ شَقّتَيْنِ وَفِرْقَتَيْنِ كَمَا قَالَ فِي اللّفْظِ الْآخَرِ انْشَقّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّهُ إنّمَا انْشَقّ الْقَمَرُ مَرّةً وَاحِدَةً وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ مَرّتَيْنِ فِي الزّمَانِ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مِثْلَيْنِ وَجُزْأَيْنِ وَمَرّتَيْنِ فِي الْمُضَاعَفَةِ . فَالثّانِي : يُتَصَوّرُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْمَرّتَيْنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَالْأَوّلُ لَا يُتَصَوّرُ فِيهِ ذَلِكَ . وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّ اللّهَ لَمْ يَشْرَعْ الثّلَاثَ جُمْلَةً أَنّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى أَنْ قَالَ { وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } [ الْبَقَرَةُ 228 ] فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ كُلّ طَلَاقٍ بَعْدَ الدّخُولِ فَالْمُطَلّقُ أَحَقّ فِيهِ بِالرّجْعَةِ سِوَى الثّالِثَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } فَهَذَا هُوَ الطّلَاقُ الْمَشْرُوعُ وَقَدْ ذَكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَقْسَامَ الطّلَاقِ كُلّهَا فِي الْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَحْكَامَهَا فَذَكَرَ [ ص 225 ] عِدّةَ فِيهِ وَذَكَرَ الطّلْقَةَ الثّالِثَةَ وَأَنّهَا تُحَرّمُ الزّوْجَةَ عَلَى الْمُطَلّق { حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَذَكَرَ طَلَاقَ الْفِدَاءِ الّذِي هُوَ الْخُلْعُ وَسَمّاهُ فِدْيَةً وَلَمْ يَحْسِبْهُ مِنْ الثّلَاثِ كَمَا تَقَدّمَ وَذَكَرَ الطّلَاقَ الرّجْعِيّ الّذِي الْمُطَلّقُ أَحَقّ فِيهِ بِالرّجْعَةِ وَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثّلَاثَةِ . وَبِهَذَا احْتَجّ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنّهُ لَيْسَ فِي الشّرْعِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ الدّخُولِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَائِنَةً وَأَنّهُ إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيّةً وَيَلْغُو وَصْفُهَا بِالْبَيْنُونَةِ وَأَنّهُ لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا إلّا بِعِوَضٍ . وَأَمّا أَبُو حَنِيفَةُ فَقَالَ تَبِينُ بِذَلِكَ لِأَنّ الرّجْعَةَ حَقّ لَهُ وَقَدْ أَسْقَطَهَا وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ وَإِنْ كَانَتْ الرّجْعَةُ حَقّا لَهُ لَكِنْ نَفَقَةُ الرّجْعِيّةِ وَكُسْوَتُهَا حَقّ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ إلّا بِاخْتِيَارِهَا وَبَذْلِهَا الْعِوَضَ أَوْ سُؤَالِهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ جَوَازُ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ . وَأَمّا إسْقَاطُ حَقّهَا مِنْ الْكِسْوَةِ وَالنّفَقَةِ بِغَيْرِ سُؤَالِهَا وَلَا بَذْلِهَا الْعِوَضَ فَخِلَافُ النّصّ وَالْقِيَاسِ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الطّلَاقَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَنْفَعِهَا لِلرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنّهُمْ كَانُوا يُطَلّقُونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ بِغَيْرِ عَدَدٍ فَيُطَلّقُ أَحَدُهُمْ الْمَرْأَةَ كُلّمَا شَاءَ وَيُرَاجِعُهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْقٌ بِالرّجُلِ فَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ فَنَسَخَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ وَقَصَرَ الزّوْجَ عَلَيْهَا وَجَعَلَهُ أَحَقّ بِالرّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدّتُهَا فَإِذَا اسْتَوْفَى الْعَدَدَ الّذِي مُلّكَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي هَذَا رِفْقٌ بِالرّجُلِ إذْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِأَوّلِ طَلْقَةٍ وَبِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَهَذَا شَرْعُهُ وَحِكْمَتُهُ وَحُدُودُهُ الّتِي حَدّهَا لِعِبَادِهِ فَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِأَوّلِ طَلْقَةٍ يُطَلّقُهَا كَانَ خِلَافَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ إيقَاعَ الثّلَاثِ جُمْلَةً بَلْ إنّمَا مُلّكَ وَاحِدَةً فَالزّائِدُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ . قَالُوا : وَهَذَا كَمَا أَنّهُ لَمْ يَمْلِكْ إبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ هُوَ خِلَافُ مَا شَرَعَهُ [ ص 226 ] وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ اللّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْأُمّةِ طَلَاقًا بَائِنًا قَطّ إلّا فِي مَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَالثّانِي : الطّلْقَةُ الثّالِثَةُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الطّلَاقِ فَقَدْ جَعَلَ لِلزّوْجِ فِيهِ الرّجْعَةَ هَذَا مُقْتَضَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَأَهْلُ الظّاهِرِ قَالُوا : لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِدُونِ الثّلَاثِ إلّا فِي الْخَلْعِ . وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا رَجْعَةَ فِيهَا . أَحَدُهَا : أَنّهَا ثَلَاثٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لِأَنّهُ قَطَعَ حَقّهُ مِنْ الرّجْعَةِ وَهِيَ لَا تَنْقَطِعُ إلّا بِثَلَاثٍ فَجَاءَتْ الثّلَاثُ ضَرُورَةً . الثّانِي : أَنّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَمَا قَالَ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنّهُ يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ بِعِوَضٍ فَمَلَكَهَا بِدُونِهِ وَالْخُلْعُ عِنْدَهُ طَلَاقٌ . الثّالِثُ أَنّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ الّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ وَالسّنّةُ وَالْقِيَاسُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ .

فَصْلٌ [هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ ثَلَاثًا فِيمَنْ قَالَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ]
وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وُقُوعُ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا : أَنّهَا تَقَعُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورُ التّابِعِينَ وَكَثِيرٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . الثّانِي : أَنّهَا لَا تَقَعُ بَلْ تُرَدّ لِأَنّهَا بِدْعَةٌ مُحَرّمَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَهَذَا الْمَذْهَبُ حَكَاهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَحُكِيَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ هُوَ قَوْلُ الرّافِضَةِ . [ ص 227 ] وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ إسْحَاقَ يَقُولُ خَالَفَ السّنّةَ فَيُرَدّ إلَى السّنّةِ انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ . الرّابِعُ أَنّهُ يُفَرّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَتَقَعُ الثّلَاثُ بِالْمَدْخُولِ بِهَا وَيَقَعُ بِغَيْرِهَا وَاحِدَةٌ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ مُحَمّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ " .
[حُجَجُ مَنْ لَمْ يَعْتَدّهَا شَيْئًا ]
فَأَمّا مَنْ لَمْ يُوقِعْهَا جُمْلَةً فَاحْتَجّوا بِأَنّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرّمٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ اعْتَرَفَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنّهَا لَوْ كَانَتْ بِدْعَةٌ مُحَرّمَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُرَدّ وَتَبْطُلَ وَلَكِنّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الشّافِعِيّ أَنّ جَمْعَ الثّلَاثِ جَائِزٌ غَيْرُ مُحَرّمٍ وَسَتَأْتِي حُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ .
[حُجَجُ مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً ]
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً فَاحْتَجّ بِالنّصّ وَالْقِيَاسِ فَأَمّا النّصّ فَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ أَبَا الصّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبّاسٍ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " . وَفِي لَفْظٍ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدّ إلَى وَاحِدَةٍ ؟ قَالَ نَعَمْ [ ص 228 ] وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ أَنّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ - أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ - أُمّ رُكَانَةَ وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ فَجَاءَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ مَا يُغْنِي عَنّي إلّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا فَفَرّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَخَذَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمِيّةٌ فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ ثُمّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ " أَلَا تَرَوْنَ أَنّ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ وَفُلَانًا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدِ يَزِيدَ " طَلّقْهَا " فَفَعَلَ ثُمّ قَالَ " رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ " فَقَالَ إنّى طَلّقْتهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا وَتَلَا : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ ص 229 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدّثَنَا سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ طَلّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " كَيْفَ طَلّقْتَهَا " : فَقَالَ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَالَ " فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " فَإِنّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْتَ ؟ قَالَ فَرَاجَعَهَا فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَرَى أَنّمَا الطّلَاقُ عِنْدَ كُلّ طُهْرٍ . قَالُوا : وَأَمّا الْقِيَاسُ فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ جَمْعَ الثّلَاثِ مُحَرّمٌ وَبِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ لِأَنّهَا لَيْسَتْ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : وَسَائِرُ مَا تَقَدّمَ فِي بَيَانِ التّحْرِيمِ يَدُلّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا جُمْلَةً . قَالُوا : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا إلّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ } [ النّورُ 6 ] وَقَوْلُهُ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ } [ النّورُ 8 ] قَالُوا : وَكَذَلِكَ كُلّ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ التّكْرَارُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَوْ قَالُوا : نَحْلِفُ بِاَللّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا : إنّ فُلَانًا قَتَلَهُ كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً . قَالُوا : وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزّنَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنّ بَعْضَ الصّحَابَةِ قَالَ لِمَاعِزٍ إنْ أَقْرَرْت أَرْبَعًا رَجَمَك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُ فِيهِ مَجْمُوعَةً بِفَمٍ وَاحِدٍ .

[حُجَجُ مَنْ فَرّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ]
وَأَمّا الّذِينَ فَرّقُوا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَلَهُمْ حُجّتَانِ [ ص 230 ] أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن طَاوُوسٍ أَنّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو الصّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السّؤَالِ لِابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَهُ أَمَا عَلِمْت أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَلَمّا رَأَى عُمَرُ النّاسَ قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ الْحُجّةُ الثّانِيَةُ أَنّهَا تَبِينُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَيُصَادِفُهَا ذِكْرُ الثّلَاثِ وَهِيَ بَائِنٌ فَتَلْغُو وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنّ إلْزَامَ عُمَرَ بِالثّلَاثِ هُوَ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَحَدِيثُ أَبِي الصّهْبَاءِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . قَالُوا : فَفِي هَذَا التّفْرِيقِ مُوَافَقَةُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ وَقَالَ بِكُلّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى كَمَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ وَلَكِنْ عَدَمُ الْوُقُوعِ جُمْلَةً هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيّةِ وَحَكَوْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ .
[حُجَجُ مَنْ أَوْقَعَهَا ثَلَاثًا ]
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلثّلَاثِ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ جَمْعِ الثّلَاثِ .
وَالثّانِي : وُقُوعُهَا جُمْلَةً وَلَوْ كَانَتْ مُحَرّمَةً . وَنَحْنُ نَتَكَلّمُ مَعَكُمْ فِي الْمَقَامَيْنِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظّاهِرِ إنّ جَمْعَ الثّلَاثِ سُنّةٌ وَاحْتَجّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [ الْبَقَرَةُ 236 ] وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثّلَاثُ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرّقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُفَرّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُ كَمَا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ الْبَقَرَةُ 227 ] وَلَمْ يُفَرّقْ وَقَالَ { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ } الْآيَةُ وَلَمْ يُفَرّقْ وَقَالَ [ ص 231 ] { وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةُ 241 ] وَقَالَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ الْأَحْزَابُ 49 ] وَلَمْ يُفَرّقْ . قَالُوا : وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيّ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِطَلَاقِهَا قَالُوا : فَلَوْ كَانَ جَمْعُ الثّلَاثِ مَعْصِيَةً لَمَا أَقَرّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ حِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِاللّعَانِ . فَإِنْ كَانَ الْأَوّلَ فَالْحُجّةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ كَانَ الثّانِيَ فَلَا شَكّ أَنّهُ طَلّقَهَا وَهُوَ يَظُنّهَا امْرَأَتَهُ فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيّنَهَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ . قَالُوا : وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَطَلُقَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَحِلّ لِلْأَوّلِ ؟ قَالَ " لَا حَتّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوّلُ فَلَمْ يُنْكِرْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى إبَاحَةِ جَمْعِ الثّلَاثِ وَعَلَى وُقُوعِهَا إذْ لَوْ لَمْ تَقَعْ لَمْ يُوَقّفْ رُجُوعَهَا إلَى الْأَوّلِ عَلَى ذَوْقِ الثّانِي عُسَيْلَتَهَا . قَالُوا : وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنّ زَوْجَهَا أَبَا حَفْصٍ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ طَلّقَهَا ثَلَاثًا ثُمّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا : إنّ أَبَا حَفْصٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهَلْ لَهَا مِنْ نَفَقَةٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَعَلَيْهَا الْعِدّةُ [ ص 232 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فِي هَذِهِ الْقِصّةِ قَالَتْ فَاطِمَةُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " كَمْ طَلّقَكِ " ؟ قُلْت : ثَلَاثًا فَقَالَ " صَدَقَ لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ زَوْجِي طَلّقَنِي ثَلَاثًا وَإِنّي أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيّ وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا : " لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ قَالُوا : وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصّافِي عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ طَلّقَ جَدّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا اتّقَى اللّهَ جَدّك أَمّا ثَلَاثٌ فَلَهُ وَأَمّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ إنْ شَاءَ اللّهُ عَذّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ طَلّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَانَا طَلّقَ أُمّنَا أَلْفًا فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ ؟ فَقَالَ إنّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتّقِ اللّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السّنّةِ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إثْمٌ فِي عُنُقِهِ [ ص 233 ] قَالُوا : وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنْ مُعَلّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ أَنّ عَطَاءَ الْخُرَاسَانِيّ حَدّثَهُمْ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللّهُ أَخْطَأْت السّنّةَ . .. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ كُنْت طَلّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَ لِي أَنْ أَجْمَعَهَا قَالَ " لَا كَانَتْ تَبِينُ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً قَالُوا : وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : عَنْ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ أَنّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتّةَ فَأُخْبِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ مَا أَرَدْتَ إلّا وَاحِدَةً " ؟ فَقَالَ رُكَانَةُ وَاَللّهِ مَا أَرَدْتُ إلّا وَاحِدَةً فَرَدّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَطَلّقَهَا الثّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَالثّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَلِيّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَرَدْتَ بِهَا ؟ قَالَ وَاحِدَةً قَالَ " آللّهِ " قَالَ آللّهِ قَالَ " هُوَ عَلَى مَا أَرَدْتَ قَالَ التّرْمِذِيّ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَأَلْتُ مُحَمّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْلَفَهُ أَنّهُ أَرَادَ بِالْبَتّةِ وَاحِدَةً فَدَلّ عَلَى أَنّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ لَوَقَعَ مَا أَرَادَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ لَمْ يُحَلّفْهُ . [ ص 234 ] قَالُوا : وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا . قَالَ أَبُو دَاوُدَ : لِأَنّهُمْ وَلَدُ الرّجُلِ وَأَهْلُهُ أَعْلَمُ بِهِ أَنّ رُكَانَةَ إنّمَا طَلّقَهَا الْبَتّةَ . قَالُوا : وَابْنُ جُرَيْجٍ إنّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ . فَإِنْ كَانَ عُبَيْدَ اللّهِ فَهُوَ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ إخْوَتِهِ فَمَجْهُولُ الْعَدَالَةِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجّةٌ . قَالُوا : وَأَمّا طَرِيقُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَفِيهَا ابْنُ إسْحَاقَ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ وَقَدْ حَكَى الْخَطّابِيّ أَنّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَانَ يُضَعّفُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلّهَا . قَالُوا : وَأَصَحّ مَا مَعَكُمْ حَدِيثُ أَبِي الصّهْبَاءِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمُ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَتَرَكَهُ الْبُخَارِيّ وَأَظُنّهُ تَرَكَهُ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِرَ الرّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ثُمّ سَاقَ الرّوَايَاتِ عَنْهُ بِوُقُوعِ الثّلَاثِ ثُمّ قَالَ فَهَذِهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَمَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ وَمُحَمّدِ بْنِ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ قَالَ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيّاشٍ الْأَنْصَارِيّ كُلّهُمْ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَجَازَ الثّلَاثَ وَأَمْضَاهُنّ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنّ بِابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ يَحْفَظُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا ثُمّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ : فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ : إنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً يَعْنِي أَنّهُ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاَلّذِي يُشْبِهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنّهُ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحّةِ هَذَا التّأْوِيلِ - يُرِيدُ الْبَيْهَقِيّ - مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } الْآيَةُ . .. [ ص 235 ] وَذَلِكَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ الطّلَاقُ مَرّتَانِ قَالُوا : فَيُحْتَمَلُ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً مِنْ هَذَا الْوَقْتِ بِمَعْنَى أَنّ الزّوْجَ كَانَ يَتَمَكّنُ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا كَمَا يَتَمَكّنُ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ ثُمّ نُسِخَ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إنّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصّ مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ وَهُوَ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ كَأَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ النّاسُ عَلَى صِدْقِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الْخِبّ وَالْخِدَاعُ فَكَانُوا يُصَدّقُونَ أَنّهُمْ أَرَادُوا بِهِ التّأْكِيدَ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الثّلَاثَ فَلَمّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي زَمَانِهِ أُمُورًا ظَهَرَتْ وَأَحْوَالًا تَغَيّرَتْ مَنَعَ مَنْ حَمَلَ اللّفْظَ عَلَى التّكْرَارِ وَأَلْزَمَهُمْ الثّلَاثَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّ النّاسَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ثُمّ يَدَعُهَا حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا ثُمّ اعْتَادُوا الطّلَاقَ الثّلَاثَ جُمْلَةً وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا : كَانَ الطّلَاقُ الّذِي يُوقِعُهُ الْمُطَلّقُ الْآنَ ثَلَاثًا يُوقِعُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْوَاقِعِ لَا عَنْ الْمَشْرُوعِ . [ ص 236 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي كَانَ يَجْعَلُ الثّلَاثَ وَاحِدَةً وَلَا أَنّهُ أُعْلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرّ عَلَيْهِ وَلَا حُجّةَ إلّا فِيمَا قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ أَوْ عَلِمَ بِهِ فَأَقَرّ عَلَيْهِ وَلَا يُعْلَمُ صِحّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ . قَالُوا : وَإِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا إلَى مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُمْ أَعْلَمُ بِسُنّتِهِ فَنَظَرْنَا فَإِذَا الثّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ الّذِي لَا يَثْبُتُ عَنْهُ غَيْرُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ أَنّهُ رَوَاهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَجُلٌ طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَطَلّقْتَ امْرَأَتَك ؟ فَقَالَ إنّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدّرّةِ وَقَالَ إنّمَا يَكْفِيك مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ إنّي طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَاقْسِمْ سَائِرَهُنّ بَيْنَ نِسَائِك وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَرْقَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبّاسٍ طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ : ثَلَاثٌ تُحَرّمُهَا عَلَيْك وَبَقِيّتُهَا عَلَيْك وِزْرٌ اتّخَذْت آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا [ ص 237 ] عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ إنّي طَلّقْتُ امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : ثَلَاثٌ تَبِينُهَا مِنْك وَسَائِرُهُنّ عُدْوَان وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إيَاسٍ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سُئِلُوا عَنْ الْبِكْرِ يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَكُلّهُمْ قَالَ لَا تَحِلّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجَا غَيْرَهُ قَالُوا : فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ قَدْ أَوْقَعُوا الثّلَاثَ جُمْلَةً وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلّا عُمَرُ الْمُحَدّثُ الْمُلْهَمُ وَحْدَهُ لَكَفَى فَإِنّهُ لَا يُظَنّ بِهِ تَغْيِيرُ مَا شَرَعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الطّلَاقِ الرّجْعِيّ فَيَجْعَلُهُ مُحَرّمًا وَذَلِكَ يَتَضَمّنُ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَنْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ لَا تَحِلّ لَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ لَمَا أَقَرّهُ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَافِقُوهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ حُجّةٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الثّلَاثَ وَاحِدَةٌ لَمْ يُخَالِفْهَا . وَيُفْتِي بِغَيْرِهَا مُوَافَقَةً لِعُمَرَ وَقَدْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الْعَوْلِ وَحَجْبِ الْأُمّ بِالِاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالُوا : وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَعٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهُمْ أَعْلَمُ بِسُنّتِهِ وَشَرْعِهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِرّا مِنْ شَرِيعَتِهِ أَنّ الثّلَاثَ وَاحِدَةٌ وَتُوُفّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ وَيَعْلَمُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يُحَرّمُوا الصّوَابَ فِيهِ وَيُوَفّقُ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ وَيَرْوِي حَبْرُ الْأُمّةِ وَفَقِيهُهَا خَبَرَ كَوْنِ الثّلَاثِ وَاحِدَةً وَيُخَالِفُهُ .

[حُجَجُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ ]
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا إلَى مَنْ أَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْدَقَ قَسَمٍ وَأَبَرّهُ أَنّا لَا نُؤْمِنُ حَتّى نُحَكّمَهُ [ ص 238 ] شَجَرَ بَيْنَنَا ثُمّ نَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَلْحَقُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَنُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا لَا إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ اللّهُمّ إلّا أَنْ تُجْمِعَ أُمّتُهُ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا نَشُكّ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فَهُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَيَأْبَى اللّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمّةُ عَلَى خِلَافِ سُنّةٍ ثَابِتَةٍ عَنْهُ أَبَدًا وَنَحْنُ قَدْ أَوَجَدْنَاكُمْ مِنْ الْأَدِلّةِ مَا تَثْبُتُ الْمَسْأَلَةُ بِهِ بَلْ وَبِدُونِهِ وَنَحْنُ نُنَاظِرُكُمْ فِيمَا طَعَنْتُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَدِلّةِ وَفِيمَا عَارَضْتُمُونَا بِهِ عَلَى أَنّا لَا نَحْكُمُ عَلَى أَنْفُسِنَا إلّا نَصّا عَنْ اللّهِ أَوْ نَصّا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا شَكّ فِيهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَعُرْضَةٌ لِنِزَاعٍ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا لَازِمَهُ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَةُ سَلَفًا لَنَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } [ النّسَاءُ 59 ] فَقَدْ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدّهَا إلَى غَيْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ الْبَتّةَ وَسَيَأْتِي أَنّنَا أَحَقّ بِالصّحَابَةِ وَأَسْعَدُ بِهِمْ فِيهَا فَنَقُولُ أَمّا مَنْعُكُمْ لِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثّلَاثِ فَلَا رَيْبَ أَنّهَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ وَلَكِنّ الْأَدِلّةَ الدّالّةَ عَلَى التّحْرِيمِ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ . أَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْقُرْآنَ دَلّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَلْ بَاطِلَةٌ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ إطْلَاقُ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ الطّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَعُمّ جَائِزَهُ وَمُحَرّمَهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلَاقُ الْحَائِضِ وَطَلَاقُ الْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا وَمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إلّا كَمَثَلِ مَنْ عَارَضَ السّنّةَ الصّحِيحَةَ فِي تَحْرِيمِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ سَوَاءٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْقُرْآنَ لَمْ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ كُلّ طَلَاقٍ حَتّى تُحَمّلُوهُ مَا لَا يُطِيقُهُ وَإِنّمَا دَلّ عَلَى أَحْكَامِ الطّلَاقِ وَالْمُبَيّنُ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بَيّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّا أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيّنّا فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ قَطّ طَلَاقًا بَائِنًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِمَدْخُولٍ بِهَا إلّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعِدَدِ وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ أَلْفَاظٌ مُطْلَقَةٌ قَيّدَتْهَا السّنّةُ وَبَيّنَتْ شُرُوطَهَا وَأَحْكَامَهَا . [ ص 239 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَصَحّهُ مِنْ حَدِيثٍ وَمَا أَبْعَدَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ ثُمّ الْمُسْتَدِلّ بِهَذَا إنْ كَانَ مِمّنْ يَقُولُ إنّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ كَمَا يَقُولُهُ الشّافِعِيّ أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرّقْ الْحَاكِمُ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنّ الطّلَاقَ الثّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يَفِدْ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِمّنْ يُوَقّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَمْ يَصِحّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ وَمُؤَبّدُ التّحْرِيمِ فَالطّلَاقُ الثّلَاثُ مُؤَكّدٌ لِمَقْصُودِ اللّعَانِ وَمُقَرّرٌ لَهُ فَإِنّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرّمَهَا عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَفِرْقَةُ اللّعَانِ تُحَرّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقّ التّحْرِيمِ عَلَى التّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدّوَامِ وَلِهَذَا لَوْ طَلّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبّدُ التّحْرِيمِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنّكُمْ مُتَمَسّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى هَذَا الطّلَاقِ الْمَذْكُورِ وَلَا تَتَمَسّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطّلَاقِ الثّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ كَمَا تَقَدّمَ فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ مُقِرّونَ لِمَا أَقَرّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ . وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ تَحِلّ لِلْأَوّلِ ؟ قَالَ " لَا حَتّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ نَعَمْ هُوَ حُجّةٌ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ عَقْدِ الثّانِي وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ طَلّقَ الثّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ الْحَدِيثُ حُجّةٌ لَنَا فَإِنّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ ثَلَاثًا إلّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرّةً بَعْدَ [ ص 240 ] يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا . قَالُوا : وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَمِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ فَإِنّكُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ سُقُوطُ النّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلْبَائِنِ مَعَ صِحّتِهِ وَصَرَاحَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ مُقَاوِمًا لَهُ وَتَمَسّكْتُمْ بِهِ فِيمَا هُوَ مُجْمَلٌ بَلْ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِمّا يُبْطِلُ تَعَلّقَكُمْ بِهِ فَإِنّ قَوْلَهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي جَمْعِهَا بَلْ كَمَا تَقَدّمَ كَيْفَ وَفِي " الصّحِيحِ " فِي خَبَرِهَا نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا . وَفِي لَفْظٍ فِي " الصّحِيحِ " : أَنّهُ طَلّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ مُتّصِلٌ مِثْلُ الشّمْسِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ تَرْكُهُ إلَى التّمَسّكِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ أَيْضًا حُجّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدّمَ ؟ . قَالُوا : وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فَخَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ لِأَنّ فِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَضَافِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ - ضَعِيفٌ عَنْ هَالِكٍ عَنْ مَجْهُولٍ ثُمّ الّذِي يَدُلّ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ أَنّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ صَحِيحِهَا وَلَا سَقِيمِهَا وَلَا مُتّصَلِهَا وَلَا مُنْقَطِعِهَا أَنّ وَالِدَ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَكَيْفَ بِجَدّهِ فَهَذَا مُحَالٌ بِلَا شَكّ وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلُهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكّ لَكِنّ هَذِهِ الزّيَادَةَ وَالْوَصْلَةَ الّتِي فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ طَلّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلّ لِي ؟ إنّمَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ وَهُوَ الشّامِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقْلِبُهُ فَيَقُولُ زُرَيْقُ بْنُ شُعَيْبٍ [ ص 241 ] كَانَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ سَلّمْت ثَلَاثًا أَوْ أَقْرَرْت ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ مِمّا لَا يُعْقَلُ جَمْعُهُ . وَأَمّا حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنّ رُكَانَةَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَحْلَفَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَرَادَ إلّا وَاحِدَةً فَمِنْ الْعَجَبِ تَقْدِيمُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الْمَجْهُولِ الّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ الْبَتّةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ وَلَا مَا هُوَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ طَاوُوسٍ فِي قِصّةِ أَبِي الصّهْبَاءِ وَقَدْ شَهِدَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ بِأَنّ فِيهِ اضْطِرَابًا هَكَذَا قَالَ التّرْمِذِيّ فِي " الْجَامِعِ " وَذَكَرَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنّهُ مُضْطَرِبٌ . فَتَارَةً يَقُولُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا وَتَارَةً يَقُولُ وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقُولُ الْبَتّةَ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطُرُقُهُ كُلّهَا ضَعِيفَةٌ وَضَعّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيّ حَكَاهُ الْمُنْذِرِيّ عَنْهُ . ثُمّ كَيْفَ يُقَدّمُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُضْطَرِبُ الْمَجْهُولُ رِوَايَةً عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ لِجَهَالَةِ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ هَذَا وَأَوْلَادُهُ تَابِعِيّونَ وَإِنْ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ أَشْهَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُتّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ أَوْ يَقُولُ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ فَهَذَا حُجّةٌ عِنْدَهُ فَأَمّا أَنْ يُضَعّفَهُ وَيُقَدّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْجَهَالَةِ أَوْ أَشَدّ فَكَلّا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَتَسَاقَطَ رِوَايَتَا هَذَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَيُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِمَا وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ وَقَدْ زَالَتْ عِلّةُ تَدْلِيسِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِقَوْلِهِ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَقَدْ احْتَجّ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ صَحّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِهَذَا [ ص 242 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ بِالنّكَاحِ الْأَوّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا . وَأَمّا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ فَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمّةُ تَحْتَجّ بِهِ وَقَدْ احْتَجّوا بِهِ فِي حَدِيثِ الْعَرَايَا فِيمَا شَكّ فِيهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَحَادِيثِ الّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ بَيْعِ الرّطَبِ بِالتّمْرِ فَمَا ذَنْبُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى رِوَايَةِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ وَإِنْ قَدَحْتُمْ فِي عِكْرِمَةَ - وَلَعَلّكُمْ فَاعِلُونَ - جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ التّنَاقُضِ فِيمَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ وَأَئِمّةُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ وَارْتِضَاءِ الْبُخَارِيّ لِإِدْخَالِ حَدِيثِهِ فِي " صَحِيحِهِ " .

فَصْلٌ
وَأَمّا تِلْكَ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ الّتِي سَلَكْتُمُوهَا فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ فَلَا يَصِحّ شَيْءٌ مِنْهَا
أَمّا الْمَسْلَكُ الْأَوّلُ وَهُوَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِرِوَايَتِهِ وَإِعْرَاضُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا وَمَا ضَرّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِهِ شَيْئًا ثُمّ هَلْ تَقْبَلُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي كُلّ حَدِيثٍ يَنْفَرِدُ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيّ وَهَلْ قَالَ الْبُخَارِيّ قَطّ إنّ كُلّ حَدِيثٍ لَمْ أُدْخِلْهُ فِي كِتَابِيّ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِحُجّةٍ أَوْ ضَعِيفٌ وَكَمْ قَدْ احْتَجّ الْبُخَارِيّ بِأَحَادِيثَ خَارِجَ الصّحِيحِ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَكَمْ صَحّحَ مِنْ حَدِيثٍ خَارِجٍ عَنْ صَحِيحِهِ فَأَمّا مُخَالَفَةُ سَائِرِ الرّوَايَاتِ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا رَيْبَ أَنّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رِوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِلَا شَكّ إحْدَاهُمَا : تُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْأُخْرَى : تُخَالِفُهُ فَإِنْ أَسْقَطْنَا رِوَايَةً [ ص 243 ] سَلِمَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنّهُ بِحَمْدِ اللّهِ سَالِمٌ . وَلَوْ اتّفَقَتْ الرّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فَلَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ وَلَيْسَ بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَنَسْأَلُكُمْ هَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ الصّحَابِيّ عِنْدَكُمْ أَوْ بِمَا رَآهُ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِكُمْ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمّةِ عَلَى هَذَا كَفَيْتُمُونَا مَئُونَةَ الْجَوَابِ . وَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرَأْيِهِ أَرَيْنَاكُمْ مِنْ تُنَاقِضُكُمْ مَا لَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِهِ وَلَا سِيّمَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَفْسِهِ فَإِنّهُ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَتَخْيِيرَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهَا طَلَاقًا وَرَأَى خِلَافَهُ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا فَأَخَذْتُمْ - وَأَصَبْتُمْ - بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ رَأْيَهُ فَهَلّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقُلْتُمْ الرّوَايَةُ مَعْصُومَةٌ وَقَوْلُ الصّحَابِيّ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتٍ عَدِيدَةً مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ اعْتِقَادٍ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فِي ظَنّهِ أَوْ اعْتِقَادٍ أَنّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَرْكُ رِوَايَتِهِ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلّا تَرْكُ مَعْلُومٍ لِمَظْنُونٍ بَلْ مَجْهُولٍ ؟ قَالُوا : وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَدِيثَ التّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذْتُمْ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ فَتْوَاهُ . وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا أَخَذْتُمْ فِيهِ بِرِوَايَةِ الصّحَابِيّ دُونَ فَتْوَاهُ لَطَالَ . قَالُوا : وَأَمّا دَعْوَاكُمْ نَسْخَ الْحَدِيثِ فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ فَأَيْنَ هَذَا ؟ وَأَمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِي نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ فَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ فَإِنّهُ إنّمَا فِيهِ أَنّ الرّجُلَ كَانَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ فِيهَا تَنْقَطِعُ الرّجْعَةُ فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بِالثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ثُمّ كَيْفَ يَسْتَمِرّ الْمَنْسُوخُ [ ص 244 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأَمَةُ وَهُوَ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلّقَةِ بِحِلّ الْفُرُوجِ ثُمّ كَيْفَ يَقُولُ عُمَرُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَهَلْ لِلْأَمَةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا ؟ ثُمّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ بِهَذَا الّذِي فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ وَاقِدٍ وَضَعْفُهُ مَعْلُومٌ ؟ . وَأَمّا حَمْلُكُمْ الْحَدِيثَ عَلَى قَوْلِ الْمُطَلّقِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ التّأْكِيدُ بِمَا بَعْدَ الْأَوّلِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَرُدّهُ فَإِنّ هَذَا الّذِي أَوّلْتُمْ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ لَا يَتَغَيّرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهَلُمّ جَرّا إلَى آخِرِ الدّهْرِ وَمَنْ يَنْوِيهِ فِي قَصْدِ التّأْكِيدِ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ بَرّ وَفَاجِرٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ بَلْ يَرُدّهُ إلَى نِيّتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا بَرّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا . وَأَيْضًا فَإِنّ قَوْلَهُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا وَتَتَايَعُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم إخْبَارٌ مِنْ عُمَرَ بِأَنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا مَا جَعَلَهُمْ اللّهُ فِي فُسْحَةٍ مِنْهُ وَشَرَعَهُ مُتَرَاخِيًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ رَحْمَةً بِهِمْ وَرِفْقًا وَأَنَاةً لَهُمْ لِئَلّا يَنْدَمَ مُطَلّقٌ فَيَذْهَبَ حَبِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ مِنْ أَوّلِ وَهْلَةٍ فَيَعِزّ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ فَجُعِلَ لَهُ أَنَاةً وَمُهْلَةً يَسْتَعْتِبُهُ فِيهَا وَيُرْضِيهِ وَيَزُولُ مَا أَحْدَثَهُ الْعَتَبُ الدّاعِي إلَى الْفِرَاقِ وَيُرَاجِعُ كُلّ مِنْهُمَا الّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ فَاسْتَعْجَلُوا فِيمَا جُعِلَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَمُهْلَةٌ وَأَوْقَعُوهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ فَإِذَا عَلِمَ الْمُطَلّقُ أَنّ زَوْجَتَهُ وَسَكَنَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوّلِ مَرّةٍ بِجَمْعِهِ الثّلَاثَ كَفّ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الطّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِ عُمَرَ لِرَعِيّتِهِ لَمّا أَكْثَرُوا مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ كَمَا سَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي إلْزَامِهِ بِالثّلَاثِ [ ص 245 ] وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ مَعْنَاهُ كَانَ وُقُوعَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ الْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً فَإِنّ حَقِيقَةَ هَذَا التّأْوِيلِ كَانَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَعَلَى عَهْدِ عُمَرَ صَارُوا يُطَلّقُونَ ثَلَاثًا وَالتّأْوِيلُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدّ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتّحْرِيفِ لَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُرَادِ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا وَقَدْ طَلّقَ رِجَالٌ نِسَاءَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثًا فَمِنْهُمْ مَنْ رَدّهَا إلَى وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ وَجَعَلَهُ مُتَلَاعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرّهُ لِتَأْكِيدِ التّحْرِيمِ الّذِي أَوْجَبَهُ اللّعَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالثّلَاثِ لِكَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطّلَاقِ آخِرَ الثّلَاثِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً إلَى أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ فَطَلّقُوا ثَلَاثًا وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّهُمْ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَنُمْضِيهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُلَائِمُ هَذَا الْكَلَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ عَهْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّهُ مَاضٍ مِنْكُمْ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ عَهْدِهِ . ثُمّ إنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحَةِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهُ مَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا جُعِلَتْ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَفِي لَفْظٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : بَلَى كَانَ الرّجُلُ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ فَلَمّا رَأَى النّاسَ - يَعْنِي عُمَرَ - قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِم [ ص 246 ] جَعَلَ الْأَدِلّةَ تَبَعًا لِلْمَذْهَبِ فَاعْتَقَدَ ثُمّ اسْتَدَلّ . وَأَمّا مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ تَبَعًا لِلدّلِيلِ وَاسْتَدَلّ ثُمّ اعْتَقَدَ لَمْ يُمْكِنْهُ هَذَا الْعَمَلُ . وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الّذِي يَجْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَنّهُ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرّهُ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أَنْ يَسْتَمِرّ هَذَا الْجَعْلُ الْحَرَامُ الْمُتَضَمّنُ لِتَغْيِيرِ شَرْعِ اللّهِ وَدِينِهِ وَإِبَاحَةُ الْفَرْجِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَلَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ هُوَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِرّهُمْ عَلَيْهِ فَهَبْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ وَكَانَ الصّحَابَةُ يَعْلَمُونَهُ وَيُبَدّلُونَ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَاَللّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يُوحِيهِ إلَى رَسُولِهِ وَلَا يُعْلِمُهُ بِهِ ثُمّ يَتَوَفّى اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرّ هَذَا الضّلَالُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَأُ الْمُبِينُ عِنْدَكُمْ مُدّةَ خِلَافَةِ الصّدّيقِ كُلّهَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُغَيّرُ إلَى أَنْ فَارَقَ الصّدّيقُ الدّنْيَا وَاسْتَمَرّ الْخَطَأُ وَالضّلَالُ الْمُرَكّبُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَنْ يُلْزِمَ النّاسَ بِالصّوَابِ فَهَلْ فِي الْجَهْلِ بِالصّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ نَبِيّهِمْ وَخُلَفَائِهِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَتَاللّهِ لَوْ كَانَ جَعْلُ الثّلَاثِ وَاحِدَةً خَطَأً مَحْضًا لَكَانَ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ الّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالتّأْوِيلِ الّذِي تَأَوّلْتُمُوهُ وَلَوْ تَرَكْتُمْ الْمَسْأَلَةَ بِهَيْئَتِهَا لَكَانَ أَقْوَى لِشَأْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلّةِ وَالْأَجْوِبَةِ . قَالُوا : وَلَيْسَ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مُقَلّدٍ مُتَعَصّبٍ وَلَا هَيّابٍ لِلْجُمْهُورِ وَلَا مُسْتَوْحِشٍ مِنْ التّفَرّدِ إذَا كَانَ الصّوَابُ فِي جَانِبِهِ وَإِنّمَا [ ص 247 ] بِنَيْلِهِ ذِرَاعُهُ وَفَرّقَ بَيْنَ الشّبْهَةِ وَالدّلِيلِ وَتَلَقّى الْأَحْكَامَ مِنْ نَفْسِ مِشْكَاةِ الرّسُولِ وَعَرَفَ الْمَرَاتِبَ وَقَامَ فِيهَا بِالْوَاجِبِ وَبَاشَرَ قَلْبُهُ أَسْرَارَ الشّرِيعَةِ وَحِكَمَهَا الْبَاهِرَةَ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ وَخَاضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَضَايِقِ لُجَجَهَا وَاسْتَوْفَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ حُجَجَهَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا فِيمَا عَلَيْهِ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَنَعَمْ وَاَللّهِ وَحَيّهَلَا بِيَرَكِ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةِ الْإِيمَانِ .
فَلَا تَطَلّبْ لِي الْأَعْوَاضَ بَعْدَهُم
فَإِنّ قَلْبِي لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمْ
وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَدْعُونَا إلَى شَيْءٍ وَتَكُونُوا أَوّلَ نَافِرٍ عَنْهُ وَمُخَالِفٍ لَهُ فَقَدْ تُوُفّيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ فَهَلْ صَحّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ أَوْ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ؟ هَذَا وَلَوْ جَهَدْتُمْ كُلّ الْجَهْدِ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ أَبَدًا مَعَ اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدَ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْقَوْلَانِ وَصَحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلُ بِاللّزُومِ وَصَحّ عَنْهُ التّوَقّفُ وَلَوْ كَاثَرْنَاكُمْ بِالصّحَابَةِ الّذِينَ كَانَ الثّلَاثُ عَلَى عَهْدِهِمْ وَاحِدَةً لَكَانُوا أَضْعَافَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَحْنُ نُكَاثِرُكُمْ بِكُلّ صَحَابِيّ مَاتَ إلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيَكْفِينَا مُقَدّمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ بَلْ لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا وَلَصَدَقْنَا : إنّ هَذَا كَانَ إجْمَاعًا قَدِيمًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ اثْنَانِ وَلَكِنْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ حَتّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَسْتَقِرّ الْإِجْمَاعُ الْأَوّلُ حَتّى صَارَ الصّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَمَرّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمّةِ فِي ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ ثُمّ نَقُولُ لَمْ يُخَالِفْ عُمَرُ إجْمَاعَ مَنْ تَقَدّمَهُ بَلْ رَأَى إلْزَامَهُمْ [ ص 248 ] وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأَئِمّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النّاسَ بِمَا ضَيّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَسْهِيلَهُ بَلْ اخْتَارُوا الشّدّةَ وَالْعُسْرَ فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمّةِ وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ وَلَكِنّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالتّمَكّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ يَكُفّهُمْ بَهْ عَنْ التّسَارُعِ إلَى إيقَاعِ الثّلَاثِ وَلِهَذَا قَالَ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ " فَأَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ أَفَلَا يُرَى أَنّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمّا عَلِمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْمُطَلّقِ وَرَحْمَةٌ بِهِ وَإِحْسَانٌ إلَيْهِ وَأَنّهُ قَابَلَهَا بِضِدّهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللّهِ وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الشّدّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا فَإِنّ النّاسَ إذَا تَعَدّوْا حُدُودَهُ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا ضَيّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنْ اتّقَاهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الصّحَابَةِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا : إنّك لَوْ اتّقَيْتَ اللّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبّاسٍ . فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ لَا أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غَيّرَ أَحْكَامَ اللّهِ وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا فَهَذَا غَايَةُ التّوْفِيقِ بَيْنَ النّصُوصِ وَفِعْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْتُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ إلّا بِإِلْغَاءِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضّنْكِ وَالْمُعْتَرَكِ الصّعْبِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21