كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ ]
وَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ فَيَتَنَاوَلُ جُمْلَتَهُ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ الظّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَتَأَمّلَ كَيْفَ ذَكَرَ لَحْمَهُ عِنْدَ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ إشَارَةً إلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ وَمُعْظَمُهُ اللّحْمُ فَذَكَرَ اللّحْمَ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ الصّيْدِ فَإِنّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ وَحَرّمَ عَلَيْكُمْ لَحْمَ الصّيْدِ بَلْ حَرّمَ نَفْسَ الصّيْدِ لِيَتَنَاوَلَ ذَلِكَ أَكْلَهُ وَقَتْلَهُ . وَهَهُنَا لَمّا حَرّمَ الْبَيْعَ ذَكَرَ جُمْلَتَهُ وَلَمْ يَخُصّ التّحْرِيمَ بِلَحْمِهِ لَيَتَنَاوَلَ بَيْعَهُ حَيًا وَمَيّتًا . [ ص 675 ]

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْأَصْنَامِ ]
وَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْأَصْنَامِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُلّ آلَةٍ مُتّخَذَةٍ لِلشّرْكِ عَلَى أَيّ وَجْهٍ كَانَتْ وَمِنْ أَيّ نَوْعٍ كَانَتْ صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشّرْكِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللّهِ فَهَذِهِ كُلّهَا يَجِبُ إزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا وَبَيْعُهَا ذَرِيعَةً إلَى اقْتِنَائِهَا وَاِتّخَاذِهَا فَهُوَ أَوْلَى بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ مِنْ كُلّ مَا عَدَاهَا فَإِنّ مَفْسَدَةَ بَيْعِهَا بِحَسْبِ مَفْسَدَتِهَا فِي نَفْسِهَا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُؤَخّرْ ذِكْرَهَا لِخِفّةِ أَمْرِهَا وَلَكِنّهُ تَدَرّجَ مِنْ الْأَسْهَلِ إلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ فَإِنّ الْخَمْرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَيْتَةِ فَإِنّهَا قَدْ تَصِيرُ مَالًا مُحْتَرَمًا إذَا قَلَبَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً خَلّا أَوْ قَلَبَهَا الْآدَمِيّ بِصَنْعَتِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتُضَمّنُ إذَا أُتْلِفَتْ عَلَى الذّمّيّ عِنْدَ طَائِفَةٍ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَإِنّمَا لَمْ يَجْعَلْ اللّهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ حَدًا اكْتِفَاءً بِالزّاجِرِ الّذِي جَعَلَهُ اللّهُ فِي الطّبَاعِ مِنْ كَرَاهَتِهَا وَالنّفْرَةِ عَنْهَا وَإِبْعَادِهَا عَنْهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ . وَالْخِنْزِيرِ أَشَدّ تَحْرِيمًا مِنْ الْمَيْتَةِ وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ أَنّهُ رِجْسٌ فِي قَوْلِهِ { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيّ مُحَرّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ } [ الْأَنْعَامُ 145 ] فَالضّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " فَإِنّهُ " وَإِنْ كَانَ عَوْدُهُ إلَى الثّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْمُحَرّمِ فَإِنّهُ يَتَرَجّحُ اخْتِصَاصَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : قُرْبُهُ مِنْهُ وَالثّانِي : تَذْكِيرُهُ دُونَ قَوْلِهِ فَإِنّهَا رِجْسٌ وَالثّالِثُ أَنّهُ أَتَى " بِالْفَاءِ " و " إنْ " تَنْبِيهًا عَلَى عِلّةِ التّحْرِيمِ لِتَزْجُرَ النّفُوسُ عَنْهُ وَيُقَابِلُ هَذِهِ الْعِلّةَ مَا فِي طِبَاعِ بَعْضِ النّاسِ مِنْ اسْتِلْذَاذِهِ وَاسْتِطَابَتِهِ فَنَفَى عَنْهُ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنّهُ رِجْسٌ وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَيْتَةِ وَالدّمُ لِأَنّ كَوْنَهُمَا رِجْسًا أَمْرٌ مُسْتَقِرّ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ فَتَأَمّلْهَا . ثُمّ ذَكَرَ بَعْدَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْأَصْنَامِ وَهُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَإِثْمًا وَأَشَدّ مُنَافَاةً لِلْإِسْلَامِ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ . [ ص 676 ]

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ الشّيْءِ تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهِ ]
وَفِي قَوْلِهِ إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ شَيْئًا أَوْ حَرّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ ثَمَنَه ُ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا : مَا هُوَ حَرَامُ الْعَيْنِ وَالِانْتِفَاعِ جُمْلَةً كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَآلَاتِ الشّرْكِ فَهَذِهِ ثَمَنُهَا حَرَامٌ كَيْفَمَا اتّفَقَتْ . وَالثّانِي : مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَإِنّمَا يَحْرُمُ أَكُلّهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدّبَاغِ وَكَالْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَالْبِغَالِ وَنَحْوِهَا مِمّا يَحْرُمُ أَكْلُهُ دُونَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَهَذَا قَدْ يُقَالُ إنّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ وَإِنّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ يُقَالُ إنّهُ دَاخِلٌ فِيهِ وَيَكُونُ تَحْرِيمُ ثَمَنِهِ إذَا بِيعَ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الّتِي حَرُمَتْ مِنْهُ فَإِذَا بِيعَ الْبَغْلُ وَالْحِمَارُ لِأَكْلِهِمَا حَرُمَ ثَمَنُهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَا لِلرّكُوبِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا بِيعَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ حَلّ ثَمَنُهُ . وَإِذَا بِيعَ لِأَكْلِهِ حَرُمَ ثَمَنُهُ وَطَرَدَ هَذَا مَا قَالَهُ جُمْهُورٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِمَا : إنّهُ إذَا بِيعَ الْعِنَبُ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهِ . بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ لِمَنْ يَأْكُلُهُ وَكَذَلِكَ السّلَاحُ إذَا بِيعَ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ مُسْلِمًا حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهِ وَإِذَا بِيعَ لِمَنْ يَغْزُو بِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَثَمَنُهُ مِنْ الطّيّبَاتِ وَكَذَلِكَ ثِيَابُ الْحَرِيرِ إذَا بِيعَتْ لِمَنْ يَلْبَسُهَا مِمّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهَا بِخِلَافِ بَيْعِهَا مِمّنْ يَحِلّ لَهُ لَبْسُهَا .

[ هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِلذّمّيّ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تُجَوّزُونَ لِلْمُسْلِمِ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ الذّمّيّ لِاعْتِقَادِ الذّمّيّ حَلّهُمَا كَمَا جَوّزْتُمْ بَيْعَهُ الدّهْنَ الْمُتَنَجّسَ إذَا بَيّنَ حَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ طَهَارَتَهُ وَحِلّهُ ؟ قِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنّ الدّهْنَ الْمُتَنَجّسَ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ خَالَطَهَا نَجَاسَةٌ وَيَسُوغُ فِيهَا النّزَاعُ . وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنّهُ لَا يُنَجّسُ إلّا بِالتّغَيّرِ . وَإِنْ تَغَيّرَ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى إمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَسْلِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ الّتِي حَرّمَهَا اللّهُ فِي كُلّ مِلّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلّ رَسُولٍ كَالْمَيْتَةِ وَالدّمِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنّ اسْتِبَاحَتَهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا أَجْمَعَتْ الرّسُلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِنْ اعْتَقَدَ الْكَافِرُ حِلّهُ - فَهُوَ كَبَيْعِ الْأَصْنَامِ لِلْمُشْرِكِينَ وَهَذَا هُوَ الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ [ ص 677 ] فَإِنْ قِيلَ فَالْخَمْرُ حَلَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَوّزُوا بَيْعَهَا مِنْهُمْ . قِيلَ هَذَا هُوَ الّذِي تَوَهّمَهُ مِنْ تَوَهّمِهِ مِنْ عُمّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَأَمَرَ عُمّالَهُ أَنْ يُوَلّوا أَهْلَ الْكِتَابِ بَيْعِهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنْ يَأْخُذُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَثْمَانِهَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الْجُعْفِيّ عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّ نَاسًا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْخَنَازِيرِ فَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ إنّهُمْ لَيَفْعَلُونَ فَقَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا تَفْعَلُوا وَلّوهُمْ بَيْعَهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَحَدّثَنَا الْأَنْصَارِيّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّ عُمّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ فَقَالَ لَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ وَلَكِنْ وَلّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثّمَنِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يُرِيدُ أَنّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذّمّةِ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ثُمّ يَتَوَلّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا فَهَذَا الّذِي أَنْكَرَهُ بِلَالٌ وَنَهَى عَنْهُ عُمَرُ ثُمّ رَخّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إذَا كَانَ أَهْلُ الذّمّةِ هُمْ الْمُتَوَلّينَ لِبَيْعِهَا لِأَنّ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذّمّةِ وَلَا تَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ . قَالَ وَمِمّا يُبَيّنُ ذَلِكَ حَدِيثٌ آخَرُ لِعُمَرِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى الْعُمّالِ يَأْمُرُهُمْ بِقَتْلِ الْخَنَازِيرِ وَقَبْضِ أَثْمَانِهَا لِأَهْلِ الْجِزْيَةِ مِنْ [ ص 678 ] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَهُوَ لَمْ يَجْعَلْهَا قِصَاصًا مِنْ الْجِزْيَةِ إلّا وَهُوَ يَرَاهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . فَأَمّا إذَا مَرّ الذّمّيّ بِالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ عَلَى الْعَاشِرِ فَإِنّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ أَنْ يُعَشّرَهَا وَلَا يَأْخُذَ ثَمَنَ الْعُشْرِ مِنْهَا . وَإِنْ كَانَ الذّمّيّ هُوَ الْمُتَوَلّي لِبَيْعِهَا أَيْضًا وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْبَابِ الْأَوّلِ وَلَا يُشْبِهُهُ لِأَنّ ذَلِكَ حَقّ وَجَبَ عَلَى رِقَابِهِمْ وَأَرْضِيهِمْ وَأَنّ الْعَشْرَ هَاهُنَا إنّمَا هُوَ شَيْءٌ يُوضَعُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ أَنْفُسِهَا وَكَذَلِكَ ثَمَنُهَا لَا يَطِيبُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ شَيْئًا حَرّمَ ثَمَنَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّهُ أَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَى بِهِ فِي ذَاكَ وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . حَدّثَنَا أَبُو الْأُسُودِ الْمِصْرِيّ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ السّبَائِيّ أَنّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَدَقَةَ الْخَمْرِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَعَثْت إلَيّ بِصَدَقَةِ الْخَمْرِ وَأَنْتَ أَحَقّ بِهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النّاسَ وَقَالَ وَاَللّهِ لَا اسْتَعْمَلْتُك عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا قَالَ فَتَرَكَهُ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ الْمُثَنّى بْنِ سَعِيدٍ الضّبَعِيّ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيّ بْنِ أَرْطَاةَ أَنْ ابْعَثْ إلَيّ بِتَفْصِيلِ الْأَمْوَالِ الّتِي قَبْلَك مِنْ أَيْنَ دَخَلَتْ ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ وَصَنّفَهُ لَهُ وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ عُشْرِ الْخَمْرِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ . قَالَ فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ جَاءَ جَوَابُ كِتَابِهِ إنّك كَتَبْتَ إلَيّ تَذْكُرُ مِنْ عُشُورِ الْخَمْرِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَإِنّ الْخَمْرَ لَا يُعَشّرُهَا مُسْلِمٌ وَلَا يَشْتَرِيهَا وَلَا يَبِيعُهَا فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَاطْلُبْ الرّجُلَ فَارْدُدْهَا عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِمَا كَانَ فِيهَا . فَطَلَبَ الرّجُلُ فَرُدّتْ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَهَذَا عِنْدِي الّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ قَدْ [ ص 679 ] قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ . ثُمّ ذَكَرَ عَنْهُ فِي الذّمّيّ يَمُرّ بِالْخَمْرِ عَلَى الْعَاشِرِ قَالَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعُشُورُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ إذَا مُرّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ عَشّرَ الْخَمْرَ وَلَمْ يُعَشّرْ الْخَنَازِيرَ سَمِعْتُ مُحَمّدَ بْنَ الْحَسَنِ يُحَدّثُ بِذَلِكَ عَنْهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَقَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَوْلَى بِالِاتّبَاعِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسّنّوْرِ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسّنّوْرِ فَقَالَ زَجَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " : عَنْهُ أَنّ النّبِيّ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسّنّوْرِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ شَرّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجّامِ [ ص 680 ]
[ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكَلْبِ ]
أَحَدُهَا : تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكَلْبِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلّ كَلْبٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِلصّيْدِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ لِلْحَرْثِ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَالنّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَجَوّزَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعَ الْكِلَابِ وَأَكْلَ أَثْمَانِهَا وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهّابِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِ مَا أُذِنَ فِي اتّخَاذِهِ مِنْ الْكِلَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَحْرُمُ انْتَهَى . وَعَقَدَ بَعْضُهُمْ فَصْلًا لِمَا يَصِحّ بَيْعُهُ وَبَنَى عَلَيْهِ اخْتِلَافَهُمْ فِي بَيْعِ الْكَلْبِ فَقَالَ مَا كَانَتْ مَنَافِعُهُ كُلّهَا مُحَرّمَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْدُومِ حِسّا وَالْمَمْنُوعِ شَرْعًا وَمَا تَنَوّعَتْ مَنَافِعُهُ إلَى مُحَلّلَةٍ وَمُحَرّمَةٍ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَيْنِ خَاصّةً كَانَ الِاعْتِبَارُ بِهَا وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لَهَا فَاعْتُبِرَ نَوْعُهَا وَصَارَ الْآخَرُ كَالْمَعْدُومِ . وَإِنْ تَوَزّعَتْ فِي النّوْعَيْنِ لَمْ يَصِحّ الْبَيْعُ لِأَنّ مَا يُقَابِلُ مَا حَرُمَ مِنْهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ بَقِيّةِ الثّمَنِ يَصِيرُ مَجْهُولًا . قَالَ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ بَيْعِ كَلْبِ الصّيْدِ فَإِذَا بُنِيَ الْخِلَافُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قِيلَ فِي الْكَلْبِ مِنْ الْمَنَافِعِ كَذَا وَكَذَا وَعُدّدَتْ جُمْلَةُ مَنَافِعِهِ ثُمّ نَظَرَ فِيهَا فَمَنْ رَأَى أَنّ جُمْلَتَهَا مُحَرّمَةً مَنَعَ وَمَنْ رَأَى جَمِيعَهَا مُحَلّلَةً أَجَازَ وَمَنْ رَآهَا مُتَنَوّعَةً نَظَرَ هَلْ الْمَقْصُودُ الْمُحَلّلُ أَوْ الْمُحَرّمُ فَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلْمَقْصُودِ وَمَنْ رَأَى مَنْفَعَةً وَاحِدَةً مِنْهَا مُحَرّمَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ مَنَعَ أَيْضًا وَمَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً وَقَفَ أَوْ كَرِهَ فَتَأَمّلْ هَذَا التّأْصِيلَ وَالتّفْصِيلَ وَطَابِقْ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ لَك مَا فِيهِمَا مِنْ التّنَاقُضِ وَالْخَلَلِ وَأَنّ بِنَاءَ بَيْعِ كَلْبِ الصّيْدِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أَفْسَدِ الْبِنَاءِ فَإِنّ قَوْلَهُ مَنْ رَأَى أَنّ جُمْلَةَ مَنَافِعِ كَلْبِ الصّيْدِ مُحَرّمَةٌ بَعْدَ [ ص 681 ] أَحَدٌ مِنْ النّاسِ قَطّ وَقَدْ اتّفَقَتْ الْأُمّةُ عَلَى إبَاحَةِ مَنَافِعِ كَلْبِ الصّيْدِ مِنْ الِاصْطِيَادِ وَالْحِرَاسَةِ وَهُمَا جُلّ مَنَافِعِهِ وَلَا يُقْتَنَى إلّا لِذَلِكَ فَمَنْ الّذِي رَأَى مَنَافِعَهُ كُلّهَا مُحَرّمَةٌ وَلَا يَصِحّ أَنْ تُرَادَ مَنَافِعُهُ الشّرْعِيّةُ ؟ فَإِنّ إعَارَتَهُ جَائِزَةٌ . وَقَوْلُهُ وَمَنْ رَأَى جَمِيعَهَا مُحَلّلَةً أَجَازَ كَلَامَ فَاسِدٌ أَيْضًا فَإِنّ مَنَافِعَهُ الْمَذْكُورَةَ مُحَلّلَةٌ اتّفَاقًا وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ . وَقَوْلُهُ وَمَنْ رَآهَا مُتَنَوّعَةً نَظَرَ هَلْ الْمَقْصُودُ الْمُحَلّلُ أَوْ الْمُحَرّمُ ؟ كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ الْبَتّةَ فَإِنّ مَنْفَعَةَ كَلْبِ الصّيْدِ هِيَ الِاصْطِيَادُ دُونَ الْحِرَاسَةِ فَأَيْنَ التّنَوّعُ وَمَا يُقَدّرُ فِي الْمَنَافِعِ مِنْ التّحْرِيمِ يُقَدّرُ مِثْلُهُ فِي الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ ؟ وَقَوْلُهُ وَمَنْ رَأَى مَنْفَعَةً وَاحِدَةً مُحَرّمَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ مُنِعَ . أَظْهَرُ فَسَادًا مِمّا قَبْلَهُ فَإِنّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُحَرّمَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ كَلْبِ الصّيْدِ وَإِنْ قُدّرَ أَنّ مُشْتَرِيَهُ قَصَدَهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَصَدَ مَنْفَعَةً مُحَرّمَةً مِنْ سَائِرِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتَبَيّنَ فَسَادُ هَذَا التّأْصِيلِ وَأَنّ الْأَصْلَ الصّحِيحَ هُوَ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ النّصّ الصّرِيحُ الّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ الْبَتّةَ مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِهِ .

فَإِنْ قِيلَ كَلْبُ الصّيْدِ مُسْتَثْنًى مِنْ النّوْعِ الّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إلّا كَلْبَ الصّيْدِ وَقَالَ النّسَائِيّ : أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصّيصِيّ حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ [ ص 682 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسّنّوْرِ إلّا كَلْبَ الصّيْدِ وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ : حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ حَدّثَنَا الْمُثَنّى بْنُ الصّبّاح عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ سُحْتٌ إلّا كلب صيد وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَمّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ثَلَاثٌ هُنّ سُحْتٌ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَمَهْرُ الزّانِيَةِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدّثَنِي الشّمْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَيَدُلّ عَلَى صِحّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا أَنّ جَابِرًا أَحَدٌ مَنْ رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّهْيَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَقَدْ رَخّصَ جَابِرٌ نَفْسَهُ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصّيْدِ وَقَوْلُ الصّحَابِيّ صَالِحٍ لِتَخْصِيصِ عُمُومِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ حُجّةً فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَهُ النّصّ بِاسْتِثْنَائِهِ وَالْقِيَاسِ ؟ وَأَيْضًا لِأَنّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَيَصِحّ نَقْلُ الْيَدِ فِيهِ بِالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيّةِ وَالْهِبَةِ وَتَجُوزُ إعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ [ ص 683 ] لِلشّافِعِيّةِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ . فَالْجَوَابُ أَنّهُ لَا يَصِحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتِثْنَاءُ كَلْبِ الصّيْدِ بِوَجْهٍ أَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ هَذَا مِنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : الصّوَابُ أَنّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ . وَقَالَ التّرْمِذِيّ لَا يَصِحّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ . وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَذَا لَا يَصِحّ أَبُو الْمُهَزّمِ ضَعِيفٌ يُرِيدُ رَاوِيَهُ عَنْهُ . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّهْيَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَأَبُو جُحَيْفَةَ اللّفْظُ مُخْتَلِفٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . وَالْحَدِيثُ الّذِي رُوِيَ فِي اسْتِثْنَاءِ كَلْبِ الصّيْدِ لَا يَصِحّ وَكَأَنّ مَنْ رَوَاهُ أَرَادَ حَدِيثَ النّهْيِ عَنْ اقْتِنَائِهِ فَشُبّهَ عَلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا حَدِيثُ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ فَهُوَ الّذِي ضَعّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ بِالْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَكَأَنّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ طَرِيقُ حَجّاجِ بْنِ مُحَمّدٍ وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيهِ الدّارَقُطْنِيّ : الصّوَابُ أَنّهُ مَوْقُوفٌ وَقَدْ أَعَلّهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنّ أَبَا الزّبَيْرِ لَمْ يُصَرّحْ فِيهِ بِالسّمَاعِ مِنْ جَابِرٍ وَهُوَ مُدَلّسٌ وَلَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ اللّيْثِ عَنْهُ . وَأَعَلّهُ الْبَيْهَقِيّ بِأَنّ أَحَدَ رُوَاتِهِ وَهُمْ مِنْ اسْتِثْنَاءِ كَلْبِ الصّيْدِ مِمّا نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهِ مِنْ الْكِلَابِ فَنَقَلَهُ إلَى الْبَيْعِ . قُلْت : وَمِمّا يَدُلّ عَلَى بُطْلَانِ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا وَأَنّهُ خُلِطَ عَلَيْهِ أَنّهُ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَرْبَعٌ مِنْ السّحْتِ ضِرَابُ الْفَحْلِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرُ الْبَغِيّ وَكَسْبُ الْحَجّامِ وَهَذَا عِلّةٌ أَيْضًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِثْنَاءِ كَلْبِ الصّيْدِ فَهُوَ عِلّةٌ لِلْمَوْقُوفِ وَالْمَرْفُوعِ . وَأَمّا حَدِيثُ الْمُثَنّى بْنِ الصّبّاح عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَبَاطِلٌ لِأَنّ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَقَدْ شَهِدَ مَالِكٌ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَجَرّحَهُ الْإِمَامُ [ ص 684 ] أَحْمَدُ . وَفِيهِ الْمُثَنّى بْنُ الصّبّاح وَضَعْفُهُ عِنْدَهُمْ مَشْهُورٌ وَيَدُلّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ النّسَائِيّ حَدّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدّثَنَا أَسْبَاطٌ حَدّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَرْبَعٌ مِنْ السّحْتِ ضِرَابُ الْفَحْلِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيّ وَكَسْبُ الْحَجّامِ وَأَمّا الْأَثَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّه عَنْهُ فَلَا يُدْرَى مَنْ أَخْبَرَ ابْنَ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَلَا مَنْ أَخْبَرَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُحْتَجّ بِهِ . وَأَمّا الْأَثَرُ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ فَفِيهِ ابْنُ ضُمَيْرَةَ فِي غَايَةِ الضّعْفِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآثَارِ السّاقِطَةِ الْمَعْلُولَةِ لَا تُقَدّمُ عَلَى الْآثَارِ الّتِي رَوَاهَا الْأَئِمّةُ الثّقَاتُ الْأَثْبَاتُ حَتّى قَالَ بَعْضُ الْحُفّاظِ إنّ نَقْلَهَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ وَقَدْ ظَهَرَ أَنّهُ لَمْ يَصِحّ عَنْ صَحَابِيّ خِلَافُهَا الْبَتّةَ بَلْ هَذَا جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُونَ ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ قَالَ وَكِيعٌ : حَدّثَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ قَيْسِ بْنِ حَبْتَرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهَ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرُ الْبَغِيّ وَثَمَنُ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَهَذَا أَقَلّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ . وَأَمّا قِيَاسُ الْكَلْبِ عَلَى الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَمِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ بَلْ قِيَاسُهُ عَلَى الْخِنْزِيرِ أَصَحّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَيْهِمَا لِأَنّ الشّبَهَ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِنْزِيرِ أَقْرَبُ مِنْ الشّبَهِ الّذِي بَيّنَهُ وَبَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَلَهُ تَعَارُضُ الْقِيَاسَانِ لَكَانَ الْقِيَاسُ الْمُؤَيّدُ بِالنّصّ [ ص 685 ] أَصَحّ وَأَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لَهُ . فَإِنْ قِيلَ كَانَ النّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا حِينَ كَانَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهَا فَلَمّا حَرُمَ قَتْلُهَا وَأُبِيحَ اتّخَاذُ بَعْضِهَا نُسِخَ النّهْيُ فَنَسَخَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ . قِيلَ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لَيْسَ مَعَ مُدّعِيهَا لِصِحّتِهَا دَلِيلٌ وَلَا شُبْهَةٌ وَلَيْسَ فِي الْأَثَرِ مَا يَدُلّ عَلَى صِحّةِ هَذِهِ الدّعْوَى الْبَتّةَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَيَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهَا : أَنّ أَحَادِيثَ تَحْرِيمِ بَيْعِهَا وَأَكْلِ ثَمَنِهَا مُطْلَقَةٌ عَامّةٌ كُلّهَا وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا وَالنّهْيِ عَنْ اقْتِنَائِهَا نَوْعَانِ نَوْعٌ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَقَدّمُ وَنَوْعٌ مُقَيّدٌ مُخَصّصٌ وَهُوَ الْمُتَأَخّرُ فَلَوْ كَانَ النّهْيُ عَنْ بَيْعِهَا مُقَيّدًا مَخْصُوصًا لَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ كَذَلِكَ فَلَمّا جَاءَتْ عَامّةً مُطْلَقَةً عُلِمَ أَنّ عُمُومَهَا وَإِطْلَاقَهَا مُرَادٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ بَيْعِ السّنّوْرِ ]
الْحُكْمُ الثّانِي : تَحْرِيمُ بَيْعِ السّنّوْرِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ الصّرِيحُ الّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَفْتَى بِمُوجِبِهِ كَمَا رَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ وَضّاحٍ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ آدَمَ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَرِهَ ثَمَنَ الْكَلْبِ وَالسّنّوْرِ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فَهَذِهِ فُتْيَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَرِهَ بِمَا رَوَاهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَكَذَلِكَ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَجَمِيعِ أَهْلِ الظّاهِرِ وَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الصّوَابُ لِصِحّةِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنّ ذَلِكَ حِينَ كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهَا فَلَمّا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهِرّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسِ صَارَ ذَلِكَ [ ص 686 ] وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى السّنّوْرِ إذَا تَوَحّشَ وَمُتَابَعَةُ ظَاهِرِ السّنّةِ أَوْلَى . وَلَوْ سَمِعَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ الْخَبَرَ الْوَاقِعَ فِيهِ لَقَالَ بِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ وَإِنّمَا لَا يَقُولُ بِهِ مَنْ تَوَقّفَ فِي تَثْبِيتِ رِوَايَاتِ أَبِي الزّبَيْرِ وَقَدْ تَابَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ مِنْ جِهَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْهِرّ الّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْمَحَامِلِ مِنْ الْوَهْنِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ مَهْرِ الْبَغِيّ ]
[ هَلْ لِلْحُرّةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزّنَى مَهْرٌ ]
وَالْحُكْمُ الثّالِثُ مَهْرُ الْبَغِيّ وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الزّانِيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الزّنَى بِهَا فَحَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ ذَلِكَ خَبِيثٌ عَلَى أَيّ وَجْهٍ كَانَ حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَلَا سِيّمَا فَإِنّ الْبِغَاءَ إنّمَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِمْ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ وَلِهَذَا قَالَتْ هِنْدُ : وَقْتَ الْبَيْعَةِ " أَوْ تَزْنِي الْحُرّةُ ؟ " وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنّ الْحُرّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا مَكّنَتْ رَجُلًا مِنْ نَفْسِهَا فَزَنَى بِهَا أَنّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَاخْتُلِفَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : الْحُرّةُ الْمُكْرَهَةُ . وَالثّانِيَةُ الْأَمَةُ الْمُطَاوِعَةُ فَأَمّا الْحُرّةُ الْمُكْرَهَةُ عَلَى الزّنَى فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ رِوَايَاتٌ مَنْصُوصَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ . أَحَدُهَا : أَنّ لَهَا الْمَهْرَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيّبًا سَوَاءٌ وُطِئَتْ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا . وَالثّانِي : أَنّهَا إنْ كَانَتْ ثَيّبًا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَلَهَا الْمَهْرُ وَهَلْ يَجِبُ مَعَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ [ ص 687 ] كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيّةً فَلَهَا الْمَهْرُ وَالرّابِعُ أَنّ مَنْ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا كَالْأُمّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَمَنْ تَحِلّ ابْنَتُهَا كَالْعَمّةِ وَالْخَالَةِ فَلَهَا الْمَهْرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُ اللّهُ لَا مَهْرَ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزّنَى بِحَالِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيّبًا فَمَنْ أَوْجَبَ الْمَهْرَ قَالَ إنّ اسْتِيفَاءَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ جُعِلَ مُقَوّمًا فِي الشّرْعِ بِالْمَهْرِ وَإِنّمَا لَمْ يَجِبْ لِلْمُخْتَارَةِ لِأَنّهَا بَاذِلَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ الّتِي عَوّضَهَا لَهَا فَلَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي إتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا لِمَنْ أَتْلَفَهُ . وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ قَالَ الشّارِعُ إنّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُتَقَوّمَةً بِالْمَهْرِ فِي عَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ وَلَمْ يُقَوّمْهَا بِالْمَهْرِ فِي الزّنَى الْبَتّةَ وَقِيَاسُ السّفَاحِ عَلَى النّكَاحِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ . قَالُوا : وَإِنّمَا جَعَلَ الشّارِعُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِاسْتِمْتَاعِ الْحَدّ وَالْعُقُوبَةَ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمَهْرِ . قَالُوا : وَالْوُجُوبُ إنّمَا يُتَلَقّى مِنْ الشّارِعِ مِنْ نَصّ خِطَابِهِ أَوْ عُمُومِهِ أَوْ فَحْوَاهُ أَوْ تَنْبِيهِهِ أَوْ مَعْنَى نَصّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثَابِتًا مُتَحَقّقًا عَنْهُ . وَغَايَةُ مَا يُدْعَى قِيَاسُ السّفَاحِ عَلَى النّكَاحِ وَيَا بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَالْمَهْرُ إنّمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ النّكَاحِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَلِهَذَا إنّمَا يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ مَهْرُ النّكَاحِ وَلَا يُضَافُ إلَى الزّنَى فَلَا يُقَالُ مُهْرُ الزّنَا وَإِنّمَا أَطْلَقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَهْرَ وَأَرَادَ بِهِ الْعَقْدَ كَمَا قَالَ إنّ اللّهَ حَرّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ . وَكَمَا قَالَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . [ ص 688 ] وَالْأَوّلُونَ يَقُولُونَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ أَنْ تَقُومَ بِالْمَهْرِ وَإِنّمَا أَسْقَطَهُ الشّارِعُ فِي حَقّ الْبَغِيّ وَهِيَ الّتِي تَزْنِي بِاخْتِيَارِهَا وَأَمّا الْمُكْرَهَةُ عَلَى الزّنَى فَلَيْسَتْ بَغِيّا فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ بَدَلِ مَنْفَعَتِهَا الّتِي أُكْرِهَتْ عَلَى اسْتِيفَائِهَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ الْحُرّ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهِ فَإِنّهُ يَلْزَمُهُ عِوَضُهَا وَعِوَضُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا هُوَ الْمَهْرُ فَهَذَا مَأْخَذُ الْقَوْلَيْنِ . وَمَنْ فَرّقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثّيّبِ رَأَى أَنّ الْوَاطِئَ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى الثّيّبِ شَيْئًا وَحَسْبُهُ الْعُقُوبَةُ الّتِي تَرَتّبَتْ عَلَى فِعْلِهِ وَهَذِهِ الْمَعْصِيَةُ لَا يُقَابِلُهَا شَرْعًا مَالٌ يُلْزِمُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْبِكْرِ فَإِنّهُ أَزَالَ بَكَارَتَهَا فَلَا بُدّ مِنْ ضَمَانِ مَا أَزَالَهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ جُزْءِ مَنْفَعَةٍ وَكَانَتْ الْمَنْفَعَةُ تَابِعَةً لِلْجُزْءِ فِي الضّمَانِ كَمَا كَانَتْ تَابِعَةً لَهُ فِي عَدَمِهِ مِنْ الْبِكْرِ الْمُطَاوِعَةِ . وَمَنْ فَرّقَ بَيْنَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِنّ رَأَى أَنّ تَحْرِيمَهُنّ لَمّا كَانَ تَحْرِيمًا مُسْتَقَرّا وَأَنّهُنّ غَيْرُ مُحِلّ الْوَطْءِ شِرْعًا كَانَ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهُنّ بِمَنْزِلَةِ التّلَوّطِ فَلَا يُوجِبُ مَهْرًا وَهَذَا قَوْلُ الشّعْبِيّ وَهَذَا بِخِلَافِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فَإِنّهُ عَارِضٌ يُمْكِنُ زَوَالُهُ . قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَنْ حَرُمَتْ بِالرّضَاعِ لِأَنّهُ طَارِئٌ أَيْضًا . وَمَنْ فَرّقَ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ مَنْ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَا تَحْرُمُ فَكَأَنّهُ رَأَى أَنّ مَنْ لَا تَحْرُمُ ابْنَتُهَا تَحْرِيمُهَا أَخَفّ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُخْرَى فَأَشْبَهَ الْعَارِضَ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الْوَطْءِ فِي دُبُرِهَا أَوْ الْأَمَةِ الْمُطَاوِعَةِ عَلَى ذَلِكَ ؟ قِيلَ هُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فَهَذَا كَاللّوَاطِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ اتّفَاقًا . - 689 - وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الشّيْخَانِ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيّةَ وَأَبُو مُحَمّدِ بْنِ قُدَامَةَ فَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرّرِهِ " وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ وَالْمُكْرَهَةِ عَلَى الزّنَى فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ وَقَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فِي الْمُغْنِي لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ فِي الدّبُرِ وَلَا اللّوَاطُ لِأَنّ الشّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِبَدَلِهِ وَلَا هُوَ إتْلَافُ لِشَيْءِ فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ وَالْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصّوَابُ قَطْعًا فَإِنّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الشّارِعُ قِيمَةً أَصَلَا وَلَا قَدّرَ لَهُ مَهْرًا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَقِيَاسُهُ عَلَى وَطْءِ الْفَرْجِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَلَازَمَ مَنْ قَالَهُ إيجَابُ الْمَهْرِ لِمَنْ فُعِلَتْ بِهِ اللّوطِيّةُ مِنْ الذّكُورِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ الْبَتّةَ .

فَصْلٌ [ هَلْ لِلْأَمَةِ الْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزّنَا مَهْرٌ ]
وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهَى الْأَمَةُ الْمُطَاوِعَةُ فَهَلْ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ . قَالُوا : لِأَنّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهَا فَلَا يَسْقُطُ بَدَلُهَا مَجّانًا كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ طَرَفِهَا . وَالصّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَهَذِهِ هِيَ الْبَغِيّ الّتِي نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ مَهْرِهَا وَأَخْبَرَ أَنّهُ خَبِيثٌ وَحَكَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثَمَنِ الْكَلْبِ وَأَجْرِ الْكَاهِنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَالْأَمَةُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ دُخُولًا أَوّلِيّا فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا مِنْ عُمُومِهِ لِأَنّ الْإِمَاءَ هُنّ اللّاتِي كُنّ يُعْرَفْنَ بِالْبِغَاءِ وَفِيهِنّ وَفِي سَادَاتِهِنّ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّنًا } [ النّورُ 33 ] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُخْرِجَ الْإِمَاءُ مِنْ نَصّ أَرَدْنَ بِهِ قَطْعًا وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِنّ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ مَنْفَعَتَهَا لِسَيّدِهَا وَلَمْ يَأْذَنْ فِي اسْتِيفَائِهَا فَيُقَالُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ يَمْلِكُ السّيّدُ اسْتِيفَاءَهَا بِنَفْسِهِ وَيَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا بِعَقْدِ النّكَاحِ أَوْ شُبْهَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا إلّا إذَا أَذِنَتْ وَلَمْ يَجْعَلْ اللّهُ وَرَسُولُهُ لِلزّنَى عِوَضًا قَطّ غَيْرَ الْعُقُوبَةِ فَيَفُوتُ عَلَى السّيّدِ حَتّى يُقْضَى لَهُ بَلْ هَذَا تَقْوِيمُ مَالٍ [ ص 690 ] حَكَمَ الشّارِعُ بِخُبَثِهِ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَأَجْرُ الْكَاهِنِ وَإِنْ كَانَ عِوَضًا خَبِيثًا شَرْعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ . وَلَا يُقَالُ فَأَجْرُ الْحَجّامِ خَبِيثٌ وَيُقْضَى لَهُ بِهِ لِأَنّ مَنْفَعَةَ الْحِجَامَةِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ وَتَجُوزُ بَلْ يَجِبُ عَلَى مُسْتَأْجِرِهِ أَنْ يُوَفّيَهُ أَجْرَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْخَبِيثَةِ الْمُحَرّمَةِ الّتِي عِوَضُهَا مِنْ جِنْسِهَا وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا وَإِيجَابُ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ كَإِيجَابِ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ اللّوَاطِ إذْ الشّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْفِعْلِ عِوَضًا . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ عِوَضًا وَهُوَ الْمَهْرُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِخِلَافِ اللّوّاطَةِ . قُلْنَا : إنّمَا جَعَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضًا إذَا اُسْتُوْفِيَ بِعَقْدِ أَوْ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَضًا إذَا اُسْتُوْفِيَ بِزِنَى مَحْضٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الْإِسْلَامِ قَطّ أَنّ زَانِيًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ لَلْمَزْنِيّ بِهَا وَلَا رَيْبَ أَنّ الْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَ هَذَا قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ قَبِيحٌ .

فَصْلٌ [ مَا تَفْعَلُ الزّانِيَةُ بِكَسْبِهَا إذَا قَبَضَتْهُ ثُمّ تَابَتْ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي كَسْبِ الزّانِيَةِ إذَا قَبَضَتْهُ ثُمّ تَابَتْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدّ مَا قَبَضَتْهُ إلَى أَرْبَابِهِ أَمْ يَطِيبُ لَهَا أَمْ تَصّدّقُ بِهِ ؟ قِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَنّ مَنْ قَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ شَرْعًا ثُمّ أَرَادَ التّخَلّصَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَدْ أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ وَلَا اسْتَوْفَى عِوَضَهُ رَدّهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ تَعَذّرَ رَدّهُ عَلَيْهِ قَضَى بِهِ دَيْنًا يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ فَإِنْ تَعَذّرَ ذَلِكَ رَدّهُ إلَى وَرَثَتِهِ فَإِنْ تَعَذّرَ ذَلِكَ تَصَدّقَ بِهِ عَنْهُ فَإِنْ اخْتَارَ صَاحِبُ الْحَقّ ثَوَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ لَهُ . وَإِنْ أَبَى إلّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَابِضِ اسْتَوْفَى مِنْهُ نَظِيرَ مَالِهِ وَكَانَ ثَوَابُ الصّدَقَةِ لِلْمُتَصَدّقِ بِهَا كَمَا ثَبَتَ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . [ ص 691 ] كَانَ الْمَقْبُوضُ بِرِضَى الدّافِعِ وَقَدْ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرّمَ كَمَنْ عَاوَضَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى زِنًى أَوْ فَاحِشَةٍ فَهَذَا لَا يَجِبُ رَدّ الْعِوَضِ عَلَى الدّافِعِ لِأَنّهُ أَخْرَجَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَاسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرّمَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوّضِ فَإِنّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَيْسِيرِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ . وَمَاذَا يُرِيدُ الزّانِي وَفَاعِلُ الْفَاحِشَةِ إذَا عَلِمَ أَنّهُ يَنَالُ غَرَضَهُ وَيَسْتَرِدّ مَالَهُ فَهَذَا مِمّا تُصَانُ الشّرِيعَةُ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَا يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ وَهُوَ يَتَضَمّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْغَدْرِ . وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ مِنْ الْمَزْنِيّ بِهَا ثُمّ يَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَاهَا قَهْرًا وَقُبْحُ هَذَا مُسْتَقَرّ فِي فِطْرِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْقَابِضِ أَكْلُهُ بَلْ هُوَ خَبِيثٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنّ خُبْثَهُ لِخُبْثِ مَكْسَبِهِ لَا لِظُلْمِ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ فَطَرِيقُ التّخَلّصِ مِنْهُ وَتَمَامُ التّوْبَةِ بِالصّدَقَةِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ وَيَتَصَدّقَ بِالْبَاقِي فَهَذَا حُكْمُ كُلّ كَسْبٍ خَبِيثٍ لِخُبْثِ عِوَضِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِخُبْثِهِ وُجُوبُ رَدّهِ عَلَى الدّافِعِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَكَمَ بِخُبْثِ كَسْبِ الْحَجّامِ وَلَا يَجِبُ رَدّهُ عَلَى دَافِعِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَالدّافِعُ مَالَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ الْمُحَرّمِ دَفَعَ مَا لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بَلْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِيهِ الشّارِعُ فَلَمْ يَقَعْ قَبْضُهُ مَوْقِعَهُ بَلْ وُجُودُ هَذَا الْقَبْضِ كَعَدَمِهِ فَيَجِبُ رَدّهُ عَلَى مَالِكِهِ كَمَا لَوْ تَبَرّعَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِشَيْءِ أَوْ لِأَجْنَبِيّ بِزِيَادَةِ عَلَى الثّلُثِ أَوْ تَبَرّعَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِفَلْسِ أَوْ سَفَهٍ أَوْ تَبَرّعَ الْمُضْطَرّ إلَى قُوّتِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَرْعًا فِي هَذَا الدّفْعِ فَيَجِبُ رَدّهُ . قِيلَ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنّ الدّفْعَ فِي هَذِهِ الصّوَرِ تَبَرّعٌ مَحْضٌ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ وَالشّارِعُ قَدْ مَنَعَهُ مِنْهُ لِتَعَلّقِ حَقّ غَيْرِهِ بِهِ أَوْ حَقّ نَفْسِهِ الْمُقَدّمَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَمّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَهُوَ قَدْ عَاوَضَ بِمَالِهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُحَرّمَةٍ فَقَدْ قَبَضَ عِوَضًا مُحَرّمًا وَأَقْبَضَ مَالًا مُحَرّمًا فَاسْتَوْفَى مَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَبَذَلَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ فَالْقَابِضُ قَبَضَ مَالًا مُحَرّمًا وَالدّافِعُ [ ص 692 ] كَانَ الْخَمْرُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ أَوْ دَفَعَ إلَيْهَا الْمَالَ وَلَمْ يُفَجّرْ بِهَا وَجَبَ رَدّ الْمَالِ فِي الصّورَتَيْنِ قَطْعًا كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ إذَا لَمْ يَتّصِلْ بِهَا الْقَبْضُ . فَإِنْ قِيلَ وَأَيّ تَأْثِيرٍ لِهَذَا الْقَبْضِ الْمُحَرّمِ حَتّى جَعَلَ لَهُ حُرْمَةً وَمَعْلُومٌ أَنّ قَبْضَ مَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ إذْ الْمَمْنُوعُ شَرْعًا كَالْمَمْنُوعِ حِسّا فَقَابِضُ الْمَالِ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدّهُ إلَى دَافِعِهِ ؟ قِيلَ وَالدّافِعُ قَبَضَ الْعَيْنَ وَاسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ حَقّ كِلَاهُمَا قَدْ اشْتَرَكَا فِي دَفْعِ مَا لَيْسَ لَهُمَا دَفْعُهُ وَقَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُمَا قَبْضُهُ وَكِلَاهُمَا عَاصٍ لِلّهِ فَكَيْفَ يَخُصّ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوّضِ عَنْهُ وَيُفَوّتُ عَلَى الْآخَرِ الْعِوَضَ وَالْمُعَوّضِ . فَإِنْ قِيلَ هُوَ فَوّتَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ . قِيلَ وَالْآخَرُ فَوّتَ الْعِوَضَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللّهِ . وَقَدْ تَوَقّفَ شَيْخُنَا فِي وُجُوبِ رَدّ عِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرّمَةِ عَلَى بَاذِلِهِ أَوْ الصّدَقَةِ بِهِ فِي كِتَابِ " اقْتِضَاءِ الصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " وَقَالَ الزّانِي وَمُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ وَالنّوْحُ قَدْ بَذَلُوا هَذَا الْمَالَ عَنْ طِيبِ نَفُوسِهِمْ فَاسْتَوْفَوْا الْعِوَضَ الْمُحَرّمَ وَالتّحْرِيمُ الّذِي فِيهِ لَيْسَ لِحَقّهِمْ وَإِنّمَا هُوَ لِحَقّ اللّهِ تَعَالَى وَقَدْ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَبْضِ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي أَنّهُ إذَا رَدّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ رَدّ الْآخَرَ فَإِذَا تَعَذّرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ الْمَالَ وَهَذَا الّذِي اسْتَوْفَيْت مَنْفَعَتَهُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي أَخْذِ مَنْفَعَتِهِ وَأَخَذَ عِوَضَهَا جَمِيعًا مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعِوَضُ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً فَإِنّ تِلْكَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فَوَاتِهَا فَإِنّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَتْلَفْنَاهَا عَلَيْهِ وَمَنْفَعَةُ الْغِنَاءِ وَالنّوْحِ لَوْ لَمْ تَفُتْ لَتَوَفّرَتْ عَلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ يَتَمَكّنُ مِنْ صَرْفِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِي أَمْرٍ آخَرَ أَعْنِي مَنْ صَرَفَ الْقُوّةَ الّتِي [ ص 693 ] فَقَالَ فَيُقَالُ عَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْضُوا بِهَا إذَا طَالَبَ بِقَبْضِهَا . وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ قِيلَ نَحْنُ لَا نَأْمُرُ بِدَفْعِهَا وَلَا بِرَدّهَا كَعُقُودِ الْكُفّارِ الْمُحَرّمَةِ فَإِنّهُمْ إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَحْكُمْ بِالْقَبْضِ وَلَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يُحْكَمْ بِالرّدّ وَلَكِنّ الْمُسْلِمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُجْرَةُ لِأَنّهُ كَانَ مُعْتَقَدًا لِتَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ لِأَنّهُ إذَا طَلَبَ الْأُجْرَةَ فَقُلْنَا لَهُ أَنْتَ فَرّطْت حَيْثُ صَرَفْت قُوّتَك فِي عَمَلٍ يَحْرُمُ فَلَا يُقْضَى لَك بِالْأُجْرَةِ . فَإِذَا قَبَضَهَا وَقَالَ الدّافِعُ هَذَا الْمَالُ اقْضُوا لِي بِرَدّهِ فَإِنّي أَقَبَضْته إيّاهُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةٍ مُحَرّمَةٍ قُلْنَا لَهُ دَفَعْته مُعَاوَضَةً رَضِيتَ بِهَا فَإِذَا طَلَبْت اسْتِرْجَاعَ مَا أَخَذَ فَارْدُدْ إلَيْهِ مَا أَخَذْت إذَا كَانَ لَهُ فِي بَقَائِهِ مَعَهُ مَنْفَعَةٌ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ . قَالَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْقِيَاسِ رَدّهَا لِأَنّهَا مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدِ فَاسِدٍ انْتَهَى .

[ هَلْ لِمَنْ حَمَلَ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا لِنَصْرَانِيّ كِرَاء ]
وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي النّضْرِ فِيمَنْ حَمَلَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً لِنَصْرَانِيّ أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمّالِ بِالْكِرَاءِ . وَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمِ فَهُوَ أَشَدّ كَرَاهَةً . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا النّصّ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ . إحْدَاهَا : إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُؤَجّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِحَمْلِ مَيْتَةٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِنَصْرَانِيّ . فَإِنْ فَعَلَ قُضِيَ لَهُ بِالْكِرَاءِ وَهَلْ يَطِيبُ لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . أَوْجَهُهُمَا : أَنّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدّقُ بِهِ وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيّ قَالَ إذَا أَجّرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ فِي حَمْلِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ كُرِهَ نَصّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَنَ حَامِلَهَا . إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ وَإِنْ كَانَ مُحَرّمًا كَإِجَارَةِ الْحَجّامِ انْتَهَى . فَقَدْ صَرّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنّهُ يَسْتَحِقّ الْأُجْرَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُحَرّمَةً عَلَيْهِ عَلَى الصّحِيحِ . الطّرِيقَةُ الثّانِيَةُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الرّوَايَةِ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحّ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرّدِ " وَهِيَ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخّرَةِ فَإِنّهُ صَنّفَ " الْمُجَرّدَ " قَدِيمًا . [ ص 694 ]

الطّرِيقَةُ الثّالِثَةُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ يَسْتَحِقّ بِهَا الْأُجْرَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلْفِعْلِ وَالْأُجْرَةِ . وَالثّانِيَةُ لَا تَصِحّ الْإِجَارَةُ وَلَا يَسْتَحِقّ بِهَا أُجْرَةً وَإِنْ حَمَلَ . وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ لَا يَجُوزُ إمْسَاكُهَا وَتَجِبُ إرَاقَتُهَا . قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ؟ إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ خَمْرٌ أَوْ خَنَازِيرُ تُصَبّ الْخَمْرُ وَتُسَرّحُ الْخَنَازِيرُ وَقَدْ حَرُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ . فَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ أَنّهُ لَا يَجُوزُ إمْسَاكُهَا وَلِأَنّهُ قَدْ نَصّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَنّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِنِطَارَةِ كَرْمٍ لِنَصْرَانِيّ لِأَنّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَمْرِ إلّا أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ فَقَدْ مُنِعَ مِنْ إجَارَةِ نَفْسِهِ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي " تَعْلِيقِهِ " وَعَلَيْهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْمَنْصُورُ عِنْدَهُمْ الرّوَايَةُ الْمُخَرّجَةُ وَهِيَ عَدَمُ الصّحّةِ وَأَنّهُ لَا يَسْتَحِقّ أُجْرَةً وَلَا يُقْضَى لَهُ بِهَا وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمّدٍ . وَهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى حَمْلِهَا إلَى بَيْتِهِ لِلشّرْبِ أَوْ لِأَكْلِ الْخِنْزِيرِ أَوْ مُطْلَقًا فَأَمّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهَا لِيُرِيقَهَا أَوْ لِيَنْقُلَ الْمَيْتَةَ إلَى الصّحْرَاءِ لِئَلّا يَتَأَذّى بِهَا فَإِنّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ حِينَئِذٍ لِأَنّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمْ تَصِحّ وَاسْتَحَقّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَخَ الْجِلْدَ وَأَخَذَهُ رَدّهُ عَلَى صَاحِبِهِ هَذَا قَوْلُ شَيْخِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالظّاهِرُ أَنّهُ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ . وَأَمّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ فَمَذْهَبُهُ كَالرّوَايَةِ الْأُولَى أَنّهُ تَصِحّ الْإِجَارَةُ وَيُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَمَأْخَذُهُ فِي ذَلِكَ أَنّ الْحَمْلَ إذَا كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَحَقّ نَفْسَ حَمْلِ الْخَمْرِ فَذِكْرُهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهِ سَوَاءٌ وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ كَخَلّ وَزَيْتٍ وَهَكَذَا قَالَ فِيمَا لَوْ أَجّرَهُ دَارَهُ أَوْ حَانُوتَهُ لِيَتّخِذَهَا كَنِيسَةً أَوْ لِيَبِيعَ فِيهَا الْخَمْرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرّازِيّ : لَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَبِيعَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ لَا يَشْتَرِطُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّهُ يَبِيعُ - فِيهِ الْخَمْرَ أَنّ الْإِجَارَةَ تَصِحّ لِأَنّهُ لَا يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ لِأَنّ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ فِيهِ الْخَمْرَ وَلَا يَتّخِذَ الدّارَ كَنِيسَةً وَيَسْتَحِقّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ بِالتّسْلِيمِ فِي الْمُدّةِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ [ ص 695 ] كَانَ ذِكْرُهَا وَتَرْكُهَا سَوَاءً كَمَا لَوْ اكْتَرَى دَارًا لِيَنَامَ فِيهَا أَوْ لِيَسْكُنَهَا فَإِنّ الْأُجْرَةَ تَسْتَحِقّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَكَذَا يَقُولُ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا : أَنّهُ يَصِحّ لِأَنّهُ لَا يَتَعَيّنُ حَمْلُ الْخَمْرِ بَلْ لَوْ حَمَلَهُ بَدَلَهُ عَصِيرًا اسْتَحَقّ الْأُجْرَةَ فَهَذَا التّقْيِيدُ عِنْدَهُمْ لَغْوٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُطْلَقَةُ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ . وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّهِ أَنّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْصِي فِيهَا كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتّخِذُهُ خَمْرًا ثُمّ إنّهُ كَرِهَ بَيْعَ السّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ . قَالَ لِأَنّ السّلَاحَ مَعْمُولٌ لِلْقِتَالِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ وَعَامّةُ الْفُقَهَاءِ خَالَفُوهُ فِي الْمُقَدّمَةِ الْأَوْلَى وَقَالُوا : لَيْسَ الْمُقَيّدُ كَالْمُطْلَقِ بَلْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ الْمُسْتَحَقّةُ فَتَكُونُ هِيَ الْمُقَابَلَةُ بِالْعِوَضِ وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مُحَرّمَةٌ وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا وَأَلْزَمُوهُ فِيمَا لَوْ اكْتَرَى دَارًا لِيَتّخِذَهَا مَسْجِدًا فَإِنّهُ لَا يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَإِنّهُ أَبْطَلَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِنَاءً عَلَى أَنّهَا اقْتَضَتْ فِعْلَ الصّلَاةِ وَهِيَ لَا تُسْتَحَقّ بِعَقْدِ إجَارَةٍ . وَنَازَعَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَمَالِكٌ فِي الْمُقَدّمَةِ الثّانِيَةِ وَقَالُوا : إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنّهِ أَنّ الْمُسْتَأْجِرَ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي مُحَرّمٍ حَرُمَتْ الْإِجَارَةُ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا وَالْعَاصِرُ إنّمَا يَعْصِرُ عَصِيرًا وَلَكِنْ لَمّا عَلِمَ أَنّ الْمُعْتَصِرَ يُرِيدُ أَنْ يَتّخِذَهُ خَمْرًا فَيَعْصِرُهُ لَهُ اسْتَحَقّ اللّعْنَةَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنّ فِي هَذَا مُعَاوَنَةً عَلَى نَفْسِ مَا يَسْخَطُهُ اللّهُ وَيُبْغِضُهُ وَيَلْعَنُ فَاعِلَهُ فَأُصُولُ الشّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَحْرِيمِ الْعِينَةِ وَمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَالْأَشْبَهُ طَرِيقَةُ ابْنِ مُوسَى يَعْنِي أَنّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مُحَرّمَةً وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهَا . قَالَ فَإِنّهَا أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ أَحْمَدَ وَأَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ وَذَلِكَ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ . فَالْعَاصِرُ وَالْحَامِلَ قَدْ عَاوَضَا عَلَى مَنْفَعَةٍ تَسْتَحِقّ [ ص 696 ] بَاعَ عِنَبًا وَعَصِيرًا لِمَنْ يَتّخِذُهُ خَمْرًا وَفَاتَ الْعَصِيرُ وَالْخَمْرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنّ مَالَ الْبَائِعِ لَا يَذْهَبُ مِجَانًا بَلْ يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِهِ . كَذَلِكَ هُنَا الْمَنْفَعَةُ الّتِي وَفّاهَا الْمُؤَجّرُ لَا تَذْهَبُ مَجّانًا بَلْ يُعْطَى بَدَلُهَا فَإِنّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إنّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجَرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجّرِ فَإِنّهُ لَوْ حَمَلَهَا لِلْإِرَاقَةِ أَوْ لِإِخْرَاجِهَا إلَى الصّحْرَاءِ خَشْيَةَ التّأَذّي بِهَا جَازَ . ثُمّ نَحْنُ نُحَرّمُ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ لِحَقّ اللّهِ سُبْحَانَهُ لَا لِحَقّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلزّنَى أَوْ التّلَوّطِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ السّرِقَةِ فَإِنّ نَفْسَ هَذَا الْعَمَلِ مُحَرّمٌ لِأَجْلِ قَصْدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَيْتَةً أَوْ خَمْرًا فَإِنّهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِثَمَنِهَا لَأَنّ نَفْسَ هَذِهِ الْعَيْنِ مُحَرّمَةٌ وَكَذَلِكَ لَا يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرّمَةِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ يَعْنِي الْإِجَارَةَ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَة لَا تُوصَفُ بِالصّحّةِ مُطْلَقًا وَلَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا بَلْ يُقَالُ هِيَ صَحِيحَةٌ بِالنّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمَعْنَى أَنّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ وَفَاسِدَةٌ بِالنّسْبَةِ إلَى الْأَجِيرِ بِمَعْنَى أَنّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِالْأَجْرِ وَلِهَذَا فِي الشّرِيعَةِ نَظَائِرُ . قَالَ وَلَا يُنَافِي هَذَا نَصّ أَحْمَدَ عَلَى كَرَاهَةِ نِطَارَةِ كَرْمِ النّصْرَانِيّ فَإِنّا نَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ وَعَنْ عِوَضِهِ ثُمّ نَقْضِي لَهُ بِكِرَائِهِ قَالَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا لَكَانَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُصَاةِ فَإِنّ كُلّ مَنْ اسْتَأْجَرُوهُ عَلَى عَمَلٍ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَدْ حَصّلُوا غَرَضَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا وَوَجَبَ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَوْنِ لَهُمْ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ سَلّمَ إلَيْهِمْ عَمَلًا لَا قِيمَةَ لَهُ بِحَالِ يَعْنِي كَالزّانِيَةِ وَالْمُغَنّي وَالنّائِحَةِ فَإِنّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْضَى لَهُمْ بِأُجْرَةِ وَلَوْ قَبَضُوا مِنْهُمْ الْمَالَ فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ رَدّهُ عَلَيْهِمْ أَمْ يَتَصَدّقُونَ بِهِ ؟ فَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي ذَلِكَ وَبَيّنّا أَنّ الصّوَابَ أَنّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ رَدّهُ وَلَا يَطِيبُ لَهُمْ أَكْلُهُ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ حُلُوانِ الْكَاهِنِ ]
الْحُكْمُ الْخَامِسُ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرّ : لَا خِلَافَ فِي [ ص 697 ] حُلْوَانِ الْكَاهِنِ أَنّهُ مَا يُعْطَاهُ عَلَى كَهَانَتِهِ وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَالْحُلْوَانُ فِي أَصْلِ اللّغَةِ الْعَطِيّةُ . قَالَ عَلْقَمَةُ فَمَنْ رَجُلٌ أحلوه رحلي وَنَاقَتِي يُبَلّغُ عَنّي الشّعْرَ إذْ مَاتَ قَائِلُهُ
انْتَهَى . وَتَحْرِيمُ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ حُلْوَانِ الْمُنَجّمِ وَالزّاجِرِ وَصَاحِبِ الْقُرْعَةِ الّتِي هِيَ شَقِيقَةٌ الْأَزْلَامِ وَضَارِبَةِ الْحَصَا وَالْعَرّافِ وَالرّمّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمّنْ تُطْلَبُ مِنْهُمْ الْأَخْبَارُ عَنْ الْمُغَيّبَاتِ وَقَدْ نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ إتْيَانِ الْكُهّانِ وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ أَتَى عَرّافًا فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِمَا يَجِيءُ بِهِ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ يَصْدُقُ أَحَيّانَا فَصِدْقُهُ بِالنّسْبَةِ إلَى كَذِبِهِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَشَيْطَانُهُ الّذِي يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ لَا بُدّ لَهُ أَنْ يُصَدّقَهُ أَحْيَانًا لِيُغْوِيَ بِهِ النّاسَ وَيَفْتِنَهُمْ بِهِ . وَأَكْثَرُ النّاسِ مُسْتَجِيبُونَ لِهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَلَا سِيّمَا ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ كَالسّفَهَاءِ وَالْجُهّالِ وَالنّسَاءِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمَفْتُونُونَ بِهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الظّنّ بِأَحَدِهِمْ وَلَوْ كَانَ مُشْرِكًا كَافِرًا بِاَللّهِ مُجَاهِرًا بِذَلِكَ وَيُزَوّرُهُ وَيُنْذِرُ لَهُ وَيَلْتَمِسُ دُعَاءَهُ . فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَسَبَبُ هَذَا كُلّهِ خَفَاءُ مَا بَعَثَ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَقَدْ قَالَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَؤُلَاءِ يُحَدّثُونَنَا أَحْيَانًا بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ كَمَا [ ص 698 ] قَالُوا فَأَخْبَرَهُمْ أَنّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشّيَاطِينِ يُلْقُونَ إلَيْهِمْ الْكَلِمَةَ تَكُونُ حَقّا فَيَزِيدُونَ هُمْ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ فَيُصَدّقُونَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ . وَأَمّا أَصْحَابُ الْمَلَاحِمِ فَرَكّبُوا مَلَاحِمَهُمْ مِنْ أَشْيَاءِ . أَحَدِهَا : مِنْ أَخْبَارِ الْكُهّانِ . وَالثّانِي : مِنْ أَخْبَارٍ مَنْقُولَةٍ عَنْ الْكُتُبِ السّالِفَةِ مُتَوَارَثَةٍ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَالثّالِثُ مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا . وَالرّابِعُ مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَهُ كَشْفٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَالْخَامِسُ مِنْ مَنَامَاتٍ مُتَوَاطِئَةٍ عَلَى أَمْرٍ كُلّيّ وَجُزْئِيّ . فَالْجُزْئِيّ يُذَكّرُونَهُ بِعَيْنِهِ وَالْكُلّيّ يُفَصّلُونَهُ بِحَدْسٍ وَقَرَائِنَ تَكُونُ حَقًا أَوْ تُقَارِبُ . وَالسّادِسُ مِنْ اسْتِدْلَالٍ بِآثَارِ عُلْوِيّةٍ جَعَلَهَا اللّهُ تَعَالَى عَلَامَاتٍ وَأَدِلّةً وَأَسْبَابًا لِحَوَادِثَ أَرْضِيّةٍ لَا يَعْلَمُهَا أَكْثَرُ النّاسِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا سُدًى وَلَا عَبَثًا . وَرَبَطَ سُبْحَانَهُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيّ بِالسّفْلِيّ وَجَعَلَ عُلْوِيّهُ مُؤَثّرًا فِي سُفْلِيّهِ دُونَ الْعَكْسِ فَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ كُسُوفُهُمَا لِسَبَبِ شَرّ يَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ وَلِهَذَا شَرَعَ سُبْحَانَهُ تَغْيِيرَ الشّرّ عِنْدَ كُسُوفِهِمَا بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الشّرّ الْمُتَوَقّعَ مِنْ الصّلَاةِ وَالذّكْرِ وَالدّعَاءِ وَالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ فَإِنّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُعَارِضُ أَسْبَابَ الشّرّ وَتُقَاوِمُهَا وَتَدْفَعُ مُوجِبَاتِهَا إنْ قَوِيَتْ عَلَيْهَا . وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ حَرَكَةَ الشّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاخْتِلَافَ مَطَالِعِهِمَا سَبَبًا لِلْفُصُولِ الّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَرّ وَالْبَرْدِ وَالشّتَاءِ وَالصّيْفِ وَمَا يَحْدُثُ فِيهِمَا مِمّا يَلِيقُ بِكُلّ فَصْلٍ مِنْهَا فَمَنْ لَهُ اعْتِنَاءٌ بِحَرَكَاتِهِمَا وَاخْتِلَافِ مَطَالِعِهِمَا يَسْتَدِلّ [ ص 699 ] وَالزّرَاعَةِ وَنَوَاتِيّ السّفُنِ لَهُمْ اسْتِدْلَالَاتٌ بِأَحْوَالِهِمَا وَأَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَسْبَابِ السّلَامَةِ وَالْعَطَبِ مِنْ اخْتِلَافِ الرّيَاحِ وَقُوّتِهَا وَعُصُوفِهَا لَا تَكَادُ تَخْتَلّ . وَالْأَطِبّاءُ لَهُمْ اسْتِدْلَالَاتٌ بِأَحْوَالِ الْقَمَرِ وَالشّمْسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَتَهَيّئِهَا لِقَبُولِ التّغَيّرِ وَاسْتِعْدَادِهَا لِأُمُورِ غَرِيبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَوَاضِعُو الْمَلَاحِمِ لَهُمْ عِنَايَةٌ شَدِيدَةٌ بِهَذَا وَأُمُورٌ مُتَوَارَثَةٌ عَنْ قُدَمَاءِ الْمُنَجّمِينَ ثُمّ يَسْتَنْتِجُونَ مِنْ هَذَا كُلّهِ قِيَاسَاتٍ وَأَحْكَامًا تُشْبِهُ مَا تَقَدّمَ وَنَظِيرُهُ . وَسُنّةُ اللّهِ فِي خَلْقِهِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فَحُكْمُ النّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ وَحُكْمُ الشّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَى أَذْهَانِهِمْ إلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَاعْتِبَارِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ " كَمَا صَرَفَ أَئِمّةُ الشّرْعِ قُوَى أَذْهَانِهِمْ إلَى أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالشّرْعِ وَاعْتِبَارِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَمَصْدَرُ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَنْ حِكْمَةٍ لَا تَخْتَلّ وَلَا تَتَعَطّلُ وَلَا تَنْتَقِضُ وَمَنْ صَرَفَ قُوَى ذِهْنِهِ وَفِكْرِهِ وَاسْتَنْفَدَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَعَلِمَهُ كَانَ لَهُ فِيهِ مِنْ النّفُوذِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاطّلَاعِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ . وَيَكْفِي الِاعْتِبَارُ بِفَرْعِ وَاحِدٍ مِنْ فُرُوعِهِ وَهُوَ عِبَارَةُ الرّؤْيَا فَإِنّ الْعَبْدَ إذَا نَفَذَ فِيهَا وَكَمُلَ اطّلَاعُهُ جَاءَ بِالْعَجَائِبِ .

وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا عَجِيبَةً يَحْكُمُ فِيهَا الْمُعَبّرُ بِأَحْكَامِ مُتَلَازِمَةٍ صَادِقَةٍ سَرِيعَةٍ وَبَطِيئَةٍ وَيَقُولُ سَامِعُهَا : هَذِهِ عِلْمُ غَيْبٍ . وَإِنّمَا هِيَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَسْبَابِ انْفَرَدَ هُوَ بِعِلْمِهَا وَخَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ وَالشّارِعُ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ حَرّمَ مِنْ تَعَاطِيَ ذَلِكَ مَا مَضَرّتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِ أَوْ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَوْ مَا يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَجُرّهُ إلَى الشّرْكِ وَحَرّمَ بَذَلَ الْمَالَ فِي ذَلِكَ وَحَرّمَ أَخْذَهُ بِهِ صِيَانَةً لِلْأُمّةِ عَمّا يُفْسِدُ عَلَيْهَا الْإِيمَانَ أَوْ يَخْدِشُهُ بِخِلَافِ عِلْمِ عِبَارَةِ الرّؤْيَا فَإِنّهُ حَقّ لَا بَاطِلَ لِأَنّ الرّؤْيَا [ ص 700 ] الْمَنَامِيّ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النّبُوّةِ وَلِهَذَا كُلّمَا كَانَ الرّائِي أَصْدَقَ كَانَتْ رُؤْيَاهُ أَصْدَقَ وَكُلّمَا كَانَ الْمُعَبّرُ أَصْدَقَ وَأَبَرّ وَأَعْلَمَ كَانَ تَعْبِيرُهُ أَصَحّ بِخِلَافِ الْكَاهِنِ وَالْمُنَجّمِ وَأَضْرَابِهِمَا مِمّنْ لَهُمْ مَدَدٌ مِنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الشّيَاطِينِ فَإِنّ صِنَاعَتَهُمْ لَا تَصِحّ مِنْ صَادِقٍ وَلَا بَارّ وَلَا مُتَقَيّدٍ بِالشّرِيعَةِ بَلْ هُمْ أَشْبَهُ بِالسّحَرَةِ الّذِينَ كُلّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ أَكْذَبَ وَأَفْجَرَ وَأَبْعَدَ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ كَانَ السّحْرُ مَعَهُ أَقْوَى وَأَشَدّ تَأْثِيرًا بِخِلَافِ عِلْمِ الشّرْعِ وَالْحَقّ فَإِنّ صَاحِبَهُ كُلّمَا كَانَ أَبَرّ وَأَصْدَقَ وَأَدْيَنَ كَانَ عِلْمُهُ بِهِ وَنُفُوذُهُ فِيهِ أَقْوَى وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ [خُبْثُ كَسْبِ الْحَجّام ِ ]
الْحُكْمُ السّادِسُ خُبْثُ كَسْبِ الْحَجّامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفَاصِدُ وَالشّارِطُ وَكُلّ مَنْ يَكُونُ كَسْبُهُ مِنْ إخْرَاجِ الدّمِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الطّبِيبُ وَلَا الْكَحّالُ وَلَا الْبَيْطَارُ لَا فِي لَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَنّهُ حَكَمَ بِخُبْثِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَهُ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ أَوْ رَقِيقَهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّه احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجّامَ أَجْرَهُ [ ص 701 ] فَأَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَظَنّوا أَنّ النّهْيَ عَنْ كَسْبِهِ مَنْسُوخٌ بِإِعْطَائِهِ أَجْرَهُ وَمِمّنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الطّحَاوِيّ فَقَالَ فِي احْتِجَاجِهِ لِلْكُوفِيّينَ فِي إبَاحَةِ بَيْعِ الْكِلَابِ وَأَكْلِ أَثْمَانِهَا : لِمَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمّ قَالَ مَا لِي وَلِلْكِلَابِ ثُمّ رَخّصَ فِي كَلْبِ الصّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَكَانَ بَيْعُ الْكِلَابِ إذْ ذَاكَ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ حَرَامًا وَكَانَ قَاتِلُهُ مُؤَدّيًا لِلْفَرْضِ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ ثُمّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأَبَاحَ الِاصْطِيَادَ بِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْجَوَارِحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَالَ وَمِثْلُ ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجّامِ وَقَالَ كَسْبُ الْحَجّامِ خَبِيث ثُمّ أَعْطَى الْحَجّامَ أَجْرَهُ وَكَانَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِمَنْعِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَنَهْيِهِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَأَسْهَلُ مَا فِي هَذِهِ الطّرِيقَةِ أَنّهَا دَعْوَى مُجَرّدَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فَلَا تُقْبَلُ كَيْفَ وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ مَا يُبْطِلُهَا فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمّ رَخّصَ لَهُمْ فِي كَلْبِ الصّيْدِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَر َ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إلّا كَلْبَ الصّيْدِ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَة وَقَال َ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُغَفّلٍ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمّ رَخّصَ فِي كَلْبِ الصّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَالْحَدِيثَانِ فِي " الصّحِيحِ " فَدَلّ عَلَى أَنّ الرّخْصَةَ فِي كَلْبِ الصّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَعَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَالْكَلْبُ الّذِي أَذِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي اقْتِنَائِهِ هُوَ الّذِي حَرّمَ ثَمَنَهُ وَأَخْبَرَ أَنّهُ خَبِيثٌ دُونَ الْكَلْبِ الّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَإِنّ الْمَأْمُورَ بِقَتْلِهِ غَيْرُ مُسْتَبْقًى حَتّى تَحْتَاجَ الْأُمّةُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَمَنِهِ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اقْتِنَائِهِ فَإِنّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَمَنِهِ أَوْلَى مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى بَيَانِ مَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِبَيْعِهِ بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِ . [ ص 702 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرَ الْأَرْبَعَةَ الّتِي تُبْذَلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ عَادَةً لِحِرْصِ النّفُوسِ عَلَيْهَا وَهِيَ مَا تَأْخُذُهُ الزّانِيَةُ وَالْكَاهِنُ وَالْحَجّامُ وَبَائِعُ الْكَلْبِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى كَلْبٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ وَتَخْرُجْ مِنْهُ الْكِلَابُ الّتِي إنّمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ الْبَيّنِ امْتِنَاعُهُ وَإِذَا تَبَيّنَ هَذَا ظَهَرَ فَسَادُ مَا شُبّهَ بِهِ مِنْ نَسْخِ خُبْثِ أُجْرَةِ الْحَجّامِ بَلْ دَعْوَى النّسْخِ فِيهَا أَبْعَدُ . وَأَمّا إعْطَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّامَ أَجْرَهُ فَلَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ كَسْبُ الْحَجّامِ خَبِيثٌ فَإِنّهُ لَمْ يَقُلْ إنّ إعْطَاءَهُ خَبِيثٌ بَلْ إعْطَاؤُهُ إمّا وَاجِبٌ وَإِمّا مُسْتَحَبّ وَإِمّا جَائِزٌ وَلَكِنْ هُوَ خَبِيثٌ بِالنّسْبَةِ إلَى الْآخِذِ وَخُبْثُهُ بِالنّسْبَةِ إلَى أَكْلِهِ فَهُوَ خَبِيثُ الْكَسْبِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُهُ فَقَدْ سَمّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الثّومَ وَالْبَصَلَ خَبِيثَيْنِ مَعَ إبَاحَةِ أَكْلِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إعْطَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّامَ أَجْرَهُ حِلّ أَكْلِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِ أَكْلِهِ طَيّبًا فَإِنّهُ قَالَ إنّي لَأُعْطِي الرّجُلَ الْعَطِيّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبّطُهَا نَارًا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَالِ الزّكَاةِ وَالْفَيْءِ مَعَ غِنَاهُمْ وَعَدَمِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِيَبْذُلُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالطّاعَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَذْلُهُ بِدُونِ الْعَطَاءِ وَلَا يَحِلّ لَهُمْ تَوَقّفُ بَذْلِهِ عَلَى الْأَخْذِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمُبَادَرَةُ إلَى بَذْلِهِ بِلَا عِوَضٍ . وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أُصُولِ الشّرْعِ أَنّ الْعَقْدَ وَالْبَذْلَ قَدْ يَكُونُ جَائِزًا أَوْ مُسْتَحَبّا أَوْ وَاجِبًا مِنْ أَحَدِ الطّرَفَيْنِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرّمًا مِنْ الطّرَفِ الْآخَرِ فَيَجِبُ عَلَى الْبَاذِلِ أَنْ يَبْذُلَ وَيَحْرُمُ عَلَى الْآخِذِ أَنْ يَأْخُذَهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَخُبْثُ أَجْرِ الْحَجّامِ مِنْ جِنْسِ خُبْثِ أَكْلِ الثّومِ وَالْبَصَلِ لَكِنّ هَذَا خَبِيثُ الرّائِحَةِ وَهَذَا خَبِيثٌ لِكَسْبِهِ .

[أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ وَأَحَلّهَا ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ وَأَحَلّهَا ؟ قِيلَ هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ . أَحَدُهَا : أَنّهُ كَسْبُ التّجَارَة [ ص 703 ] وَالثّانِي : أَنّهُ عَمَلُ الْيَدِ فِي غَيْرِ الصّنَائِعِ الدّنِيئَةِ كَالْحِجَامَةِ وَنَحْوِهَا . وَالثّالِثُ أَنّهُ الزّرَاعَةُ وَلِكُلّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ وَجْهٌ مِنْ التّرْجِيحِ أَثَرًا وَنَظَرًا وَالرّاجِحُ أَنّ أَحَلّهَا الْكَسْبُ الّذِي جَعَلَ مِنْهُ رِزْقَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ كَسْبُ الْغَانِمِينَ وَمَا أُبِيحَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ الشّارِعِ وَهَذَا الْكَسْبُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَأُثْنِيَ عَلَى أَهْلِهِ مَا لَمْ يُثْنَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا اخْتَارَهُ اللّهُ لِخَيْرِ خَلْقِهِ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ حَيْثُ يَقُولُ بُعِثْتُ بِالسّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السّاعَةِ حَتّى يُعْبَدَ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذّلّةُ وَالصّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَهُوَ الرّزْقُ الْمَأْخُوذُ بِعَزّةٍ وَشَرَفٍ وَقَهْرٍ لِأَعْدَاءِ اللّهِ وَجُعِلَ أَحَبّ شَيْءٍ إلَى اللّهِ فَلَا يُقَاوِمُهُ كَسْبُ غَيْرِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَضِرَابِهِ
فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم نَهَى عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْفَحْلِ وَهَذَا الثّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوّلِ وَسَمّى أُجْرَةَ ضِرَابِهِ بَيْعًا إمّا لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ هُوَ الْمَاءَ الّذِي لَهُ فَالثّمَنُ مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنِ مَائِهِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ وَإِمّا أَنّهُ سَمّى إجَارَتَهُ لِذَلِكَ بَيْعًا إذْ هِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْعَادَةُ أَنّهُمْ يَسْتَأْجِرُونَ الْفَحْلَ لِلضّرَابِ وَهَذَا هُوَ الّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَالْعَقْدُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ . [ ص 704 ] وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي الْجَوَازُ لِأَنّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْفَحْلِ وَنَزْوِهِ عَلَى الْأُنْثَى وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَمَاءُ الْفَحْلِ يَدْخُلُ تَبَعًا وَالْغَالِبُ حُصُولُهُ عَقِيبَ نَزْوِهِ فَيَكُونُ كَالْعَقْدِ عَلَى الظّئْرِ لِيَحْصُلَ اللّبَنُ فِي بَطْنِ الصّبِيّ وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَفِيهَا بِئْرُ مَاءٍ فَإِنّ الْمَاءَ يَدْخُلُ تَبَعًا وَقَدْ يُغْتَفَرُ فِي الْأَتْبَاعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ . وَأَمّا مَالِكٌ فَحُكِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ وَاَلّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ التّفْصِيلُ فَقَالَ صَاحِبُ " الْجَوَاهِرِ " فِي بَابِ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ نَهْيِ الشّارِعِ وَمِنْهَا بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ وَيُحْمَلُ النّهْيُ فِيهِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ عَلَى لِقَاحِ الْأُنْثَى وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَأَمّا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى أَنْ يَنْزُوَ عَلَيْهِ دَفَعَاتٍ مَعْلُومَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ إذْ هُوَ أَمَدٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ وَمَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ .

[عِلّةُ النّهْيِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ ]
وَالصّحِيحُ تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا وَفَسَادُ الْعَقْدِ بِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَيَحْرُمُ عَلَى الْآخَرِ أَخْذُ أُجْرَةِ ضِرَابِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْطِي لِأَنّهُ بَذَلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ مُبَاحٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا كَمَا فِي كَسْبِ الْحَجّامِ وَأُجْرَةِ الْكَسّاحِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَمّا يَعْتَادُونَهُ مِنْ اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ لِلضّرَابِ وَسَمّى ذَلِكَ بَيْعَ عَسْبِهِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَاقِعِ وَالْمُعْتَادِ وَإِخْلَاءِ الْوَاقِعِ مِنْ الْبَيَانِ مَعَ أَنّهُ الّذِي قُصِدَ بِالنّهْيِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي نَزْوِ الْفَحْلِ عَلَى الْأُنْثَى الّذِي لَهُ دَفَعَاتٌ مَعْلُومَةٌ وَإِنّمَا غَرَضُهُ نَتِيجَةُ ذَلِكَ وَثَمَرَتُهُ وَلِأَجْلِهِ بَذَلَ مَالَهُ . وَقَدْ عَلّلَ التّحْرِيمَ بِعِدّةِ عِلَلٍ . [ ص 705 ] فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْآبِقِ فَإِنّ ذَلِكَ مُتَعَلّقٌ بِاخْتِيَارِ الْفَحْلِ وَشَهْوَتِهِ . الثّانِيَةُ أَنّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ وَهُوَ مِمّا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعِقْدِ فَإِنّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ إجَارَةِ الظّئْرِ فَإِنّهَا احْتَمَلَتْ بِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيّ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا وَقَدْ يُقَالُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إنّ النّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا فَإِنّ مُقَابَلَةَ مَاءِ الْفَحْلِ بِالْأَثْمَانِ وَجَعْلَهُ مَحَلّا لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِمّا هُوَ مُسْتَقْبَحٌ وَمُسْتَهْجَنٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَفَاعِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ سَاقِطٌ مِنْ أَعْيُنِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِطَرَ عِبَادِهِ لَا سِيّمَا الْمُسْلِمِينَ مِيزَانًا لِلْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللّهِ حَسَنُ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللّهِ قَبِيحٌ . وَيَزِيدُ هَذَا بَيَانًا أَنّ مَاءَ الْفَحْلِ لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا هُوَ مِمّا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ نَزَا فَحْلُ الرّجُلِ عَلَى رَمَكَةِ غَيْرِهِ فَأَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الرّمَكَةِ اتّفَاقًا لِأَنّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الْفَحْلِ إلّا مُجَرّدُ الْمَاءِ وَهُوَ لَا قِيمَةَ لَهُ فَحَرّمَتْ هَذِهِ الشّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى ضِرَابِهِ لِيَتَنَاوَلَهُ النّاسُ بَيْنَهُمْ مَجّانًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ النّسْلِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِصَاحِبِ الْفَحْلِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ فَمِنْ مَحَاسِنِ الشّرِيعَةِ إيجَابُ بَذْلِ هَذَا مَجّانًا كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ حَقّهَا إطْرَاقَ فَحْلِهَا وَإِعَارَةَ دَلْوِهَا فَهَذِهِ حُقُوقٌ يَضُرّ بِالنّاسِ مَنْعُهَا إلّا بِالْمُعَاوَضَةِ فَأَوْجَبَتْ الشّرِيعَةُ بَذْلَهَا مَجّانًا . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا أَهْدَى صَاحِبُ الْأُنْثَى إلَى صَاحِبِ الْفَحْلِ هَدِيّةً أَوْ سَاقَ إلَيْهِ كَرَامَةً فَهَلْ لَهُ أَخْذُهَا ؟ قِيلَ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ وَالِاشْتِرَاطِ فِي [ ص 706 ] قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد َ وَالشّافِعِيّ : وَإِنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَحْلِ هَدِيّةً أَوْ كَرَامَةً مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ جَازَ وَاحْتَجّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ رُوِيَ عَنْ أَنَس ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إذَا كَانَ إكْرَامًا فَلَا بَأْسَ ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " وَلَا أَعْرِفُ حَالَ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا مَنْ خَرّجَهُ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة ِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى خِلَافِهِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْحَجّامِ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ مَنْهِيّا عَنْهُ ؟ فَقَالَ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى فِي مِثْلِ هَذَا شَيْئًا كَمَا بَلَغَنَا فِي الْحَجّامِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ أَحْمَد َ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ فَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ هَذَا مُقْتَضَى النّظَرِ لَكِنْ تُرِكَ مُقْتَضَاهُ فِي الْحَجّامِ فَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فِي " الْمُغْنِي " : كَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَرَعِ لَا عَلَى التّحْرِيمِ وَالْجَوَازُ أَرْفَقُ بِالنّاسِ وَأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ .

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمَاءِ الّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ النّاسُ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ . وَفِيهِ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْفَحْلِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتُحْرَثَ فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلَأَ [ ص 707 ] وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَإ وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ أَوْ فَضْلَ كَلَئِهِ مَنَعَهُ اللّهُ فَضْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثٌ لَا يُمْنَعْنَ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنّارُ وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ وَالنّارِ وَالْكَلَأِ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنْ ابْنِ السّبِيلِ وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامَهُ لَا يُبَايِعُهُ إلّا لِلدّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ وَاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدّقَهُ رَجُلٌ ثُمّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ { إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةُ . [ ص 708 ] سُنَنِ أَبِي دَاوُد " عَنْ بُهَيْسَةَ قَالَتْ اسْتَأْذَنَ أَبِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ يَدْنُو مِنْهُ وَيَلْتَزِمُهُ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ مَا الشّيْءُ الّذِي لَا يَحِلّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ الْمَاءُ قَالَ " يَا نَبِيّ اللّهِ مَا الشّيْءُ الّذِي لَا يَحِلّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ الْمِلْحُ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ مَا الشّيْءُ الّذِي لَا يَحِلّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ الْمَاءُ خَلَقَهُ اللّهُ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ وَجَعَلَهُ سَقْيًا لَهُمْ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَخَصّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ وَتَنَأَ عَلَيْهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ابْنُ السّبِيلِ أَحَقّ بِالْمَاءِ مِنْ التّانِئِ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ابْنُ السّبِيلِ أَوّلُ شَارِبٍ

[جَوَازُ بَيْعِ الْمَاءِ إذَا كَانَ فِي قِرْبَتِهِ أَوْ إنَائِهِ ]
فَأَمّا مَنْ حَازَهُ فِي قِرْبَتِهِ أَوْ إنَائِهِ فَذَاكَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إذَا حَازَهَا إلَى مِلْكِهِ ثُمّ أَرَادَ بَيْعَهَا كَالْحَطَبِ وَالْكَلَأِ وَالْمِلْحِ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيُكِفّ اللّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " [ ص 709 ] عَن عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَارِفًا آخَرَ فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إذْخِرًا لِأَبِيعَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَهَذَا فِي الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ الْمُبَاحِ بَعْدَ أَخْذِهِ وَإِحْرَازِهِ وَكَذَلِكَ السّمَكُ وَسَائِرُ الْمُبَاحَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَحِلّ النّهْي بِالضّرُورَةِ وَلَا مَحِلّ النّهْيِ أَيْضًا بَيْعُ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ النّاسِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُهَا وَالْحَجْرُ عَلَيْهَا وَإِنّمَا مَحِلّ النّهْيِ صُوَرٌ أَحَدُهَا : الْمِيَاهُ الْمُنْتَقِعَةُ مِنْ الْأَمْطَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النّاسِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقّ بِهَا مِنْ أَحَدٍ إلّا بِالتّقْدِيمِ لِقُرْبِ أَرْضِهِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فَهَذَا النّوْعُ لَا يَحِلّ بَيْعُهُ وَلَا مَنْعُهُ وَمَانِعُهُ عَاصٍ مُسْتَوْجِبٌ لِوَعِيدِ اللّهِ وَمَنْعِ فَضْلِهِ إذْ مَنَعَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاهُ . فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ اتّخَذَ فِي أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ حُفْرَةً يَجْمَعُ فِيهَا الْمَاءَ أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَيَحِلّ لَهُ بَيْعُهُ ؟ قِيلَ لَا رَيْبَ أَنّهُ أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَمَتَى كَانَ الْمَاءُ النّابِعُ فِي مِلْكِهِ وَالْكَلَأِ وَالْمَعْدِنِ فَوْقَ كِفَايَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَدَوَابّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهَذَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَعِيدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ إنّمَا تَوَعّدَ مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا فَضْلَ فِي هَذَا .

فَصْلٌ [يَجِبُ بَذْلُ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَزَرْعُهُ لِمَنْ طَلَبَهُ لِحَاجَتِهِ أَوْ حَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَالِاخْتِلَافُ فِي بَذْلِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ ]
وَمَا فَضَلَ مِنْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَزَرْعِهِ وَاحْتَاجَ إلَيْهِ آدَمِيّ مِثْلُهُ أَوْ بَهَائِمُهُ بَذَلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلِكُلّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَقَدّمَ إلَى الْمَاءِ وَيَشْرَبَ . وَيُسْقِي مَاشِيَتَهُ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَاءِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ الشّارِبَ وَسَاقِي الْبَهَائِمِ عِوَضٌ . وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الدّلْوَ وَالْبَكَرَةَ وَالْحَبْلَ مَجّانًا أَوْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَتَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد َ فِي وُجُوبِ إعَارَةِ الْمَتَاعِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ أَظْهَرُهُمَا دَلِيلًا وُجُوبُهُ وَهُوَ مِنْ الْمَاعُونِ . قَالَ أَحْمَد ُ : إنّمَا هَذَا فِي [ ص 710 ] وَالْبَرِيّةِ دُونَ الْبُنْيَانِ يَعْنِي : أَنّ الْبُنْيَانَ إذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ الدّخُولُ إلَيْهِ إلّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ مَائِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ لِأَنّ الزّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ سَقْيُهُ بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ . وَالثّانِي : يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ وَاحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدّمَةِ وَعُمُومِهَا وَمِمّا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنّ قَيّمَ أَرْضِهِ بِالْوَهْطِ كَتَبَ إلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنّهُ سَقَى أَرْضَهُ وَفَضَلَ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فَضْلٌ يُطْلَبُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَكَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : أَقِمْ قِلْدَك ثُمّ اسْقِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ قَالُوا : وَفِي مَنْعِهِ مِنْ سَقْيِ الزّرْعِ إهْلَاكُهُ وَإِفْسَادُهُ فَحَرُمَ كَالْمَاشِيَةِ . وَقَوْلُكُمْ لَا حُرْمَةَ لَهُ فَلِصَاحِبِهِ حُرْمَةٌ فَلَا يَجُوزُ التّسَبّبُ إلَى إهْلَاكِ مَالِهِ وَمَنْ سَلّمَ لَكُمْ أَنّهُ لَا حُرْمَةَ لِلزّرْعِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِي ّ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْيَ الْحُرْمَةِ عَنْهُ فَإِنّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيّ عَنْهَا وَإِتْلَافَهُ مُحَرّمٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ .

[هَلْ تُمَلّكُ الْبِئْرُ النّابِعَةُ أَوْ الْعَيْنُ الْمُسْتَنْبَطَةُ وَالْمَعَادِنُ فِي أَرْضِهِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِهِ أَوْ دَارِهِ بِئْرٌ نَابِعَةٌ أَوْ عَيْنٌ مُسْتَنْبَطَةٌ فَهَلْ تَكُونُ مَلِكًا لَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالدّارِ ؟ قِيلَ أَمّا نَفْسُ الْبِئْرِ وَأَرْضُ الْعَيْنِ فَمَمْلُوكَةٌ لِمَالِكِ الْأَرْضِ وَأَمّا الْمَاءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشّافِعِيّ . [ ص 711 ] تَحْتِ الْأَرْضِ إلَى مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الْجَارِيَ فِي النّهْرِ إلَى مِلْكِهِ . وَالثّانِي : أَنّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ قَالَ أَحْمَد ُ فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ وَلِآخَرَ مَاءٌ فَاشْتَرَكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْمَاءِ فِي الزّرْعِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ؟ فَقَالَ لَا بَأْسَ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ . وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ كَالْقَارِ وَالنّفْطِ وَالْمُومْيَا وَالْمِلْحِ وَكَذَلِكَ الْكَلَأُ النّابِتُ فِي أَرْضِهِ كُلّ ذَلِكَ يُخَرّجُ عَلَى الرّوَايَتَيْنِ فِي الْمَاءِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنّ هَذَا الْمَاءَ لَا يُمَلّكُ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُ الْمَاءِ الْبَتّةَ وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ يَسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ بَيْنَهُمْ نَهْرٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أَرْضُهُمْ لِهَذَا يَوْمٌ وَلِهَذَا يَوْمَانِ يَتّفِقُونَ عَلَيْهِ بِالْحِصَصِ فَجَاءَ يَوْمِي وَلَا أَحْتَاجُ إلَيْهِ أَكْرِيهِ بِدَرَاهِمَ ؟ قَالَ مَا أَدْرِي أَمّا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ قِيلَ إنّهُ لَيْسَ يَبِيعُهُ إنّمَا يَكْرِيهِ قَالَ إنّمَا احْتَالُوا بِهَذَا لِيُحَسّنُوهُ فَأَيّ شَيْءٍ هَذَا إلّا الْبَيْعُ انْتَهَى .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ ]
وَأَحَادِيثُ اشْتِرَاكِ النّاسِ فِي الْمَاءِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الّتِي سُئِلَ عَنْهَا أَحْمَدُ هِيَ الّتِي قَدْ اُبْتُلِيَ بِهَا النّاسُ فِي أَرْضِ الشّامِ وَبَسَاتِينِهِ وَغَيْرِهَا فَإِنّ الْأَرْضَ وَالْبُسْتَانَ يَكُونُ لَهُ حَقّ مِنْ الشّرْبِ مِنْ نَهْرٍ فَيَفْصِلُ عَنْهُ أَوْ يَبْنِيهِ دُورًا وَحَوَانِيتَ وَيُؤَجّرُ مَاءَهُ فَقَدْ تَوَقّفَ أَحْمَدُ أَوّلًا ثُمّ أَجَابَ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ فَلَمّا قِيلَ لَهُ إنّ هَذِهِ إجَارَةٌ قَالَ هَذِهِ التّسْمِيَةُ حِيلَةٌ وَهِيَ تَحْسِينُ اللّفْظِ وَحَقِيقَةُ الْعَقْدِ الْبَيْعُ وَقَوَاعِدُ الشّرِيعَةِ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ هَذَا الْمَاءِ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ لَهُ حَقّ التّقْدِيمِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ وَكَانَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْلَى بِهِ بَعْدَهُ وَهَذَا كَمَنْ أَقَامَ عَلَى مَعْدِنٍ فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَاقِيَهُ بَعْدَ نَزْعِهِ عَنْهُ . [ ص 712 ] سَبَقَ إلَى الْجُلُوسِ فِي رَحْبَةٍ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ فَهُوَ أَحَقّ بِهَا مَا دَامَ جَالِسًا فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا وَأَجّرَ مَقْعَدَهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُبَاحَةُ إذَا كَانَ فِيهَا كَلَأٌ أَوْ عُشْبٌ فَسَبَقَ بِدَوَابّهِ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقّ بِرَعْيِهِ مَا دَامَتْ دَوَابّهُ فِيهِ فَإِذَا طُلِبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَهَكَذَا هَذَا الْمَاءُ سَوَاءٌ فَإِنّهُ إذَا فَارَقَ أَرْضَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقّ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَأِ الّذِي لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ وَلَا هُوَ فِي أَرْضِهِ . فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ هَذَا الْمَاءَ فِي نَفْسِ أَرْضِهِ فَهُوَ مَنْفَعَةٌ مِنْ مَنَافِعِهَا فَمَلَكَهُ بِمُلْكِهَا كَسَائِرِ مَنَافِعِهَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصّوَرِ فَإِنّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَإِنّمَا لَهُ حَقّ الِانْتِفَاعِ وَالتّقْدِيمِ إذَا سَبَقَ خَاصّةً . قِيلَ هَذِهِ النّكْتَةُ الّتِي لِأَجْلِهَا جَوّزَ مَنْ جَوّزَ بَيْعَهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ حَقّا مِنْ حُقُوقِ أَرْضِهِ فَمَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ مَعَ الْأَرْضِ فَيُقَالُ حَقّ أَرْضِهِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا فِي مِلْكِ الْعَيْنِ الّتِي أَوْدَعَهَا اللّهُ فِيهَا بِوَصْفِ الِاشْتِرَاكِ وَجَعَلَ حَقّهُ فِي تَقْدِيمِ الِانْتِفَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي التّحَجّرِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشّرْعِ وَحِكْمَتُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا دَخَلَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا مَلَكَهُ لِأَنّهُ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَشّشَ فِي أَرْضِهِ طَائِرٌ أَوْ حَصَلَ فِيهَا ظَبْيٌ أَوْ نَضَبَ مَاؤُهَا عَنْ سَمَكٍ فَدَخَلَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ .

[يَجُوزُ الدّخُولُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِلرّعْيِ وَسَقْيِ الْبَهَائِمِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ وَهَلْ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ قِيلَ قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِهِ لِأَخْذِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الشّارِعِ وَلَا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَلْ قَدْ نَصّ أَحْمَد ُ عَلَى جَوَازِ الرّعْيِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ مَعَ أَنّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا مُسْتَأْجَرَةً وَدُخُولُهَا لِغَيْرِ الرّعْيِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ . فَالصّوَابُ أَنّهُ [ ص 713 ] كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِبَهَائِمِهِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْإِذْن لِأَنّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَنْعُهُ مِنْ الدّخُولِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ فَغَايَةُ مَا يُقَدّرُ أَنّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يَحِلّ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ الدّخُولِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَوَقّفِ دُخُولِهِ عَلَى الْإِذْنِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ أَخْذِ حَقّهِ الّذِي جَعَلَهُ لَهُ الشّارِعُ إلّا بِالدّخُولِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ لَوْ كَانَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِغَيْرَةِ عَلَى حَرِيمِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدّخُولُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَأَمّا إذَا كَانَ فِي الصّحْرَاءِ أَوْ دَارٍ فِيهَا بِئْرٌ وَلَا أَنِيسَ بِهَا فَلَهُ الدّخُولُ بِإِذْنِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } [ النّورُ 29 ] وَهَذَا الدّخُولُ الّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْجُنَاحُ هُوَ الدّخُولُ بِلَا إذْنٍ فَإِنّهُ قَدْ مَنَعَهُمْ قَبْلُ مِنْ الدّخُولِ لِغَيْرِ بُيُوتِهِمْ حَتّى يَسْتَأْنِسُوا وَيُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَالِاسْتِئْنَاسُ هُنَا : الِاسْتِئْذَانُ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ السّلَفِ كَذَلِكَ ثُمّ رُفِعَ عَنْهُمْ الْجُنَاحُ فِي دُخُولِ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ لِأَخْذِ مَتَاعِهِمْ فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الدّخُولِ إلَى بَيْتِ غَيْرِهِ وَأَرْضِهِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ لِأَخْذِ حَقّهِ مِنْ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ فَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُقْتَضَى نَصّ أَحْمَد َ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

[ يَجُوزُ بَيْعُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَمُشْتَرِيهَا أَحَقّ بِمَائِهَا ]
[شِرَاءُ عُثْمَانَ بِئْرَ رُومَةَ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي بَيْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ نَفْسِهَا : هَلْ يَجُوزُ ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ : إنّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ فِي قَرَارِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبِئْرِ نَفْسِهَا وَالْعَيْنِ وَمُشْتَرِيهَا أَحَقّ بِمَائِهَا وَهَذَا الّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يُوَسّعُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ الْجَنّةُ [ ص 714 ] قَالَ فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ يَهُودِيّ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَبّلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْيَهُودِيّ يَبِيعُ مَاءَهَا . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اشْتَرَى مِنْهُ نِصْفَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ثُمّ قَالَ لِلْيَهُودِيّ اخْتَرْ إمّا أَنْ تَأْخُذَهَا يَوْمًا وَآخُذَهَا يَوْمًا وَإِمّا أَنْ تَنْصِبَ لَك عَلَيْهَا دَلْوًا وَأَنْصِبَ عَلَيْهَا دَلْوًا فَاخْتَارَ يَوْمًا وَيَوْمًا فَكَانَ النّاسُ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فِي يَوْمِ عُثْمَانَ لِلْيَوْمَيْنِ فَقَالَ الْيَهُودِيّ أَفْسَدْتَ عَلَيّ بِئْرِي فَاشْتَرِ بَاقِيهَا فَاشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَكَانَ فِي هَذَا حُجّةٌ عَلَى صِحّةِ بَيْعِ الْبِئْرِ وَجَوَازِ شِرَائِهَا وَتَسْبِيلِهَا وَصِحّةِ بَيْعِ مَا يُسْقَى مِنْهَا وَجَوَازِ قِسْمَةِ الْمَاءِ بِالْمُهَايَأَةِ وَعَلَى كَوْنِ الْمَالِكِ أَحَقّ بِمَائِهَا وَجَوَازِ قِسْمَةِ مَا فِيهِ حَقّ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ .
[ كَانَ إقْرَارُ الْيَهُودِيّ عَلَى بَيْعِ الْمَاءِ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ عِنْدَكُمْ لَا يُمَلّكُ وَلِكُلّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهُ حَاجَتَهُ فَكَيْفَ أَمْكَنَ الْيَهُودِيّ تَحَجّرَهُ حَتّى اشْتَرَى عُثْمَان ُ الْبِئْرَ وَسَبّلَهَا فَإِنْ قُلْتُمْ اشْتَرَى نَفْسَ الْبِئْرِ وَكَانَتْ مَمْلُوكَةً وَدَخَلَ الْمَاءَ تَبَعًا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّكُمْ قَرّرْتُمْ أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ دُخُولُ أَرْضِ غَيْرِهِ لِأَخْذِ الْكَلَأِ وَالْمَاءُ وَقَضِيّةُ بِئْرِ الْيَهُودِيّ تَدُلّ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدّ إمّا مِلْكُ الْمَاءِ بِمِلْكِ قَرَارِهِ وَإِمّا عَلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْأَرْضِ لِأَخْذِ مَا فِيهَا مِنْ الْمُبَاحِ إلّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا . قِيلَ هَذَا سُؤَالٌ قَوِيّ وَقَدْ يَتَمَسّكُ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ وَمَنْ مَنَعَ الْأَمْرَيْنِ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنّ هَذَا كَانَ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ وَحِينَ قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَبْلَ تَقَرّرِ الْأَحْكَامِ وَكَانَ الْيَهُودُ إذْ ذَاكَ لَهُمْ شَوْكَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ تَكُنْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ جَارِيَةً عَلَيْهِمْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا قَدِمَ صَالَحَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَتَعَرّضْ لَهُ ثُمّ اسْتَقَرّتْ الْأَحْكَامُ [ ص 715 ] وَزَالَتْ شَوْكَةُ الْيَهُودِ لَعَنَهُمْ اللّهُ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الشّرِيعَةِ وَسِيَاقُ قِصّةِ هَذِهِ الْبِئْرِ ظَاهِرٌ فِي أَنّهَا كَانَتْ حِينَ مَقْدِمِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي أَوّلِ الْأَمْرِ .

فَصْلٌ [ هَلْ يُمَلّكُ مَاءُ الْبِرَكِ وَالْمَصَانِعِ ] ؟
وَأَمّا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فَمَا كَانَ نَابِعًا مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ كَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُمَلّكْ بِحَالِ وَلَوْ دَخَلَ إلَى أَرْضِ رَجُلٍ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ وَهُوَ كَالطّيْرِ يَدْخُلُ إلَى أَرْضِهِ فَلَا يُمَلّكُ بِذَلِكَ وَلِكُلّ وَاحِدٍ أَخْذُهُ وَصَيْدُهُ فَإِنْ جَعَلَ لَهُ فِي أَرْضِهِ مَصْنَعًا أَوْ بِرْكَةً يَجْتَمِعُ فِيهَا ثُمّ يَخْرُجُ مِنْهَا فَهُوَ كَنَقْعِ الْبِئْرِ سَوَاءٌ وَفِيهِ مِنْ النّزَاعِ مَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهِ لِلشّرْبِ وَالسّقْيِ وَمَا فَضَلَ عَنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا تَقَدّمَ . وَقَالَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَإِنْ كَانَ مَاءٌ يَسِيرٌ فِي الْبِرْكَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنّهُ يُمَلّكُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مِيَاهِ الْأَمْطَارِ . ثُمّ قَالَ فَأَمّا الْمَصَانِعُ الْمُتّخَذَةُ لِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ تَجْتَمِعُ فِيهَا وَنَحْوُهَا مِنْ الْبِرَكِ وَغَيْرِهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُمَلّكَ مَاؤُهَا وَيَصِحّ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا لِأَنّهُ مُبَاحٌ حَصّلَهُ فِي شَيْءٍ مُعَدّ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ . وَفِي هَذَا نَظَرٌ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا أَمّا الْمَذْهَبُ فَإِنّ أَحْمَد َ قَالَ إنّمَا نَهَى عَنْ بَيْعٍ فَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ فِي قَرَارِهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ مَاءَ الْبِئْرِ لَا يُفَارِقُهَا فَهُوَ كَالْبِرْكَةِ الّتِي اُتّخِذَتْ مَقَرّا كَالْبِئْرِ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَقَدّمَ مِنْ نُصُوص ِ أَحْمَدَ مَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ هَذَا وَأَمّا الدّلِيلُ فَمَا تَقَدّمَ مِنْ النّصُوصِ الّتِي سُقْنَاهَا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي وَعِيدِ الثّلَاثَةِ وَالرّجُلُ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السّبِيلِ وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَضْلُ فِي أَرْضِهِ الْمُخْتَصّةِ بِهِ أَوْ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ وَقَوْلُهُ النّاس شُرَكَاءُ فِي ثَلَاث وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي هَذِهِ الشّرِكَةِ كَوْنَ مَقَرّهِ مُشْتَرِكًا وَقَوْلُهُ وَقَدْ سُئِلَ مَا الشّيْءُ الّذِي لَا يَحِلّ مَنْعُهُ ؟ فَقَالَ الْمَاءُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ مَقَرّهِ مُبَاحًا فَهَذَا مُقْتَضَى الدّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَرًا وَنَظَرًا .

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَنْعِ الرّجُلِ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ
[ ص 716 ] السّنَنِ " و " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ يَأْتِينِي الرّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنْ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي فَأَبِيعُهُ مِنْهُ ثُمّ أَبْتَاعُهُ مِنْ السّوقِ فَقَال لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ قَالَ التّرْمِذِي ّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي " السّنَنِ " نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ لَا يَحِلّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَاتّفَقَ لَفْظُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ لَفْظِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَتَضَمّنُ نَوْعًا مِنْ الْغَرَرِ فَإِنّهُ إذَا بَاعَهُ شَيْئًا مُعَيّنًا وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ ثُمّ مَضَى لِيَشْتَرِيَهُ أَوْ يُسَلّمَهُ لَهُ كَانَ مُتَرَدّدًا بَيْنَ الْحُصُولِ وَعَدَمِهِ فَكَانَ غَرَرًا يُشْبِهُ الْقِمَارُ فَنُهِيَ عَنْهُ . وَقَدْ ظَنّ بَعْضُ النّاس أَنّهُ إنّمَا نَهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فَقَالَ لَا يَصِحّ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا لَهُ أَصْلٌ وَالظّاهِرُ أَنّهُ مَرْوِيّ بِالْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَلِطَ مَنْ ظَنّ أَنّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَأَنّ هَذَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ وَابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا وَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْدُومٌ خَاصّ فَهُوَ كَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ يَتَضَمّنُ غَرَرًا وَتَرَدّدًا فِي حُصُولِهِ .

[ أَقْسَامُ الْمَعْدُومِ ]
[ أَوّلُهَا بَيْعُ السّلَمِ ]
وَالْمَعْدُومُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مَعْدُومٌ مَوْصُوفٍ فِي الذّمّةِ فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ اتّفَاقًا [ ص 717 ] كَانَ أَبُو حَنِيفَة َ شَرَطَ فِي هَذَا النّوْعِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ فِي الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَهَذَا هُوَ السّلَمُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
[ ثَانِيهَا بَيْعُ الثّمَارِ بَعْدَ بُدُوّ صَلَاحِهَا ]
وَالثّانِي : مَعْدُومٌ تَبَعٌ لِلْمَوْجُودِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعَانِ نَوْعٌ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَالْمُتّفَقُ عَلَيْهِ بَيْعُ الثّمَارِ بَعْدَ بُدُوّ صَلَاحِ ثَمَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاتّفَقَ النّاسُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ الصّنْفِ الّذِي بَدَا صَلَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ بَقِيّةُ أَجْزَاءِ الثّمَارِ مَعْدُومَةً وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَكِنْ جَازَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْدُومُ مُتّصِلًا بِالْمَوْجُودِ وَقَدْ يَكُونُ أَعْيَانًا أُخَرَ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْوُجُودِ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي بَيْعِ الْمَقَاثِئِ وَالْمَبَاطِخِ إذَا طَابَتْ ]
وَالنّوْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْمَقَاثِئِ وَالْمَبَاطِخِ إذَا طَابَتْ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا جُمْلَةً وَيَأْخُذُهَا الْمُشْتَرِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَيَجْرِي مَجْرَى بَيْعِ الثّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوّ صَلَاحِهَا وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الّذِي اسْتَقَرّ عَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمّةِ وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد َ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ . وَاَلّذِينَ قَالُوا : لَا يُبَاعُ إلّا لُقْطَةً لَقْطَةً لَا يَنْضَبِطُ قَوْلُهُمْ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَيَتَعَذّرُ الْعَمَلُ بِهِ غَالِبًا وَإِنْ أَمْكَنَ فَفِي غَايَةِ الْعُسْرِ وَيُؤَدّي إلَى التّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ الشّدِيدِ فَإِنّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَخْذَ الصّغَارِ وَالْكِبَارِ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ صِغَارُهُ أَطْيَبَ مِنْ كِبَارِهِ وَالْبَائِعِ لَا يُؤَثّرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ مُنْضَبِطٌ وَقَدْ تَكُونُ الْمَقْثَأَةُ كَثِيرَةً فَلَا يَسْتَوْعِبُ الْمُشْتَرِي اللّقْطَةَ الظّاهِرَةَ حَتّى يُحْدِثَ فِيهَا لُقْطَةً أُخْرَى وَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ وَيَتَعَذّرُ تَمْيِيزُهُ وَيَتَعَذّر أَوْ يَتَعَسّرُ عَلَى صَاحِبِ الْمَقْثَأَةِ أَنْ يُحْضِرَ لَهَا كُلّ وَقْتٍ مَنْ يَشْتَرِي مَا تُجَدّدُ فِيهَا وَيُفْرِدُهُ بِعَقْدِ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنّ الشّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِهِ فَهَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَا مَشْرُوعٌ وَلَوْ أُلْزِمَ النّاسُ بِهِ لَفَسَدَتْ أَمْوَالُهُمْ وَتَعَطّلَتْ مَصَالِحُهُمْ ثُمّ إنّهُ يَتَضَمّنُ التّفْرِيقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلّ الْوُجُوهِ فَإِنّ بُدُوّ الصّلَاحِ فِي الْمَقَاثِئِ بِمَنْزِلَةِ بُدُوّ الصّلَاحِ فِي الثّمَارِ وَتَلَاحُقُ أَجْزَائِهَا [ ص 718 ] وَجَعَلَ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهَا تَبَعًا لِمَا خُلِقَ فِي الصّورَتَيْنِ وَاحِدٌ فَالتّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ . وَلَمّا رَأَى هَؤُلَاءِ مَا فِي بَيْعِهَا لُقْطَةً لَقْطَةً مِنْ الْفَسَادِ وَالتّعَذّرِ قَالُوا : طَرِيقُ رَفْعِ ذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَ أَصْلَهَا مَعَهَا وَيُقَالُ إذَا كَانَ بَيْعُهَا جُمْلَةً مُفْسِدَةً عِنْدَكُمْ وَهُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَغَرَرٍ فَإِنّ هَذَا لَا يَرْتَفِعُ بِبَيْعِ الْعُرُوقِ الّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ فَيَسِيرَةٌ جِدّا بِالنّسْبَةِ إلَى الثّمَنِ الْمَبْذُولِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي قَصْدٌ فِي الْعُرُوقِ وَلَا يَدْفَعُ فِيهَا الْجُمْلَةَ مِنْ الْمَالِ وَمَا الّذِي حَصَلَ بِبَيْعِ الْعُرُوقِ مَعَهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُمَا حَتّى شَرَطَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْعُ أُصُولِ الثّمَارِ شَرْطًا فِي صِحّةِ بَيْعِ الثّمَرَةِ الْمُتَلَاحِقَةِ كَالتّينِ وَالتّوتِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْعُ أُصُولِ الْمَقَاثِئِ شَرْطًا فِي صِحّةِ بَيْعِهَا وَهِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَالْمَقْصُودُ أَنّ هَذَا الْمَعْدُومَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَعْدُومِ وَهَذَا كَالْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنّهَا مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَوْرِدُ الْعَقْدِ لِأَنّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ دَفْعَةٌ وَاحِدَةً وَالشّرَائِعُ مَبْنَاهَا عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَا بُدّ لَهُمْ مِنْهُ وَلَا تَتِمّ مَصَالِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ إلّا بِهِ .

فَصْلٌ [ الثّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمَعْدُومِ التّفْرِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السّلَمِ ]
الثّالِثُ مَعْدُومٌ لَا يُدْرَى يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ وَلَا ثِقَةَ لِبَائِعِهِ بِحُصُولِهِ بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ عَلَى خَطَرٍ فَهَذَا الّذِي مَنَعَ الشّارِعُ بَيْعُهُ لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا بَلْ لِكَوْنِهِ غَرَرًا فَمِنْهُ صُورَةُ النّهْيِ الّتِي تَضَمّنَهَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَابْنِ عُمَر َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَإِنّ الْبَائِعَ إذَا بَاعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِيَذْهَبَ وَيُحَصّلُهُ وَيُسَلّمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِمَا إلَى هَذَا الْعَقْدِ وَلَا تَتَوَقّفُ مَصْلَحَتُهُمَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ - وَهُوَ بَيْعُ حَمْلِ مَا تَحْمِلُ نَاقَتُهُ - وَلَا يَخْتَصّ هَذَا النّهْيُ بِحَمْلِ الْحَمْلِ بَلْ لَوْ بَاعَهُ مَا تَحْمِلُ نَاقَتُهُ أَوْ بَقَرَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ كَانَ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيّةِ الّتِي يَعْتَادُونَهَا وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ أَنّ بَيْعَ السّلَمِ مَخْصُوصٌ مِنْ النّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَلَيْسَ هُوَ [ ص 719 ] الذّمّةِ ثَابِتٍ فِيهَا مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ مَحِلّهِ وَلَا غَرَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ بَلْ هُوَ جَعْلُ الْمَالِ فِي ذِمّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عِنْدَ مَحِلّهِ فَهُوَ يُشْبِهُ تَأْجِيلَ الثّمَنِ فِي ذِمّةِ الْمُشْتَرِي فَهَذَا شَغْلٌ لِذِمّةِ الْمُشْتَرِي بِالثّمَنِ الْمَضْمُونِ وَهَذَا شَغْلٌ لِذِمّةِ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ فَهَذَا لَوْنٌ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لَوْنٌ وَرَأَيْتُ لِشَيْخِنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَصْلًا مُفِيدًا وَهَذِهِ سِيَاقَتُهُ .

[ كَلَامٌ لِابْنِ تَيْمِيّةَ عَنْ حَدِيثِ النّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك ]
قَالَ لِلنّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَالٌ قِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ السّلْعَةَ الْمُعَيّنَةَ الّتِي هِيَ مَالُ الْغَيْرِ فَيَبِيعُهَا ثُمّ يَتَمَلّكُهَا وَيُسَلّمُهَا إلَى الْمُشْتَرِي وَالْمَعْنَى : لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك مِنْ الْأَعْيَانِ وَنَقَلَ هَذَا التّفْسِيرَ عَنْ الشّافِعِيّ فَإِنّهُ يُجَوّزُ السّلَمَ الْحَالّ وَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَا بَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ لِيَكُونَ بَيْعُ مَا فِي الذّمّةِ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَالّا أَوْ مُؤَجّلًا . وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا ضَعِيفٌ جِدّا فَإِنّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مَا كَانَ يَبِيعُ شَيْئًا مُعَيّنًا هُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ ثُمّ يَنْطَلِقُ فَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَلَا كَانَ الّذِينَ يَأْتُونَهُ يَقُولُونَ نَطْلُبُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَا دَارَ فُلَانٍ وَإِنّمَا الّذِي يَفْعَلُهُ النّاسُ أَنْ يَأْتِيَهُ الطّالِبُ فَيَقُولُ أُرِيدُ طَعَامًا كَذَا وَكَذَا أَوْ ثَوْبًا كَذَا وَكَذَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ نَعَمْ أُعْطِيك فَيَبِيعُهُ مِنْهُ ثُمّ يَذْهَبُ فَيُحَصّلُهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَذَا هُوَ الّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ النّاسِ وَلِهَذَا قَالَ " يَأْتِينِي فَيَطْلُبُ مِنّي الْمَبِيعَ لَيْسَ عِنْدِي " لَمْ يَقُلْ يَطْلُبُ مِنّي مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِي فَالطّالِبُ طَلَبَ الْجِنْسَ لَمْ يَطْلُبْ شَيْئًا مُعَيّنًا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الطّالِبِ لِمَا يُؤَكّلُ وَيَلْبَسُ وَيَرْكَبُ إنّمَا يَطْلُبُ جِنْسَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي مِلْكِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِمّا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَلِهَذَا صَارَ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ وَطَائِفَةٌ إلَى الْقَوْلِ الثّانِي فَقَالُوا : الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ يَقْتَضِي النّهْيَ عَنْ بَيْعِ مَا فِي الذّمّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ النّهْيَ عَنْ السّلَمِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لَكِنْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِجَوَازِ السّلَمِ الْمُؤَجّلِ فَبَقِيَ هَذَا فِي السّلَمِ الْحَالّ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ - وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ - إنّ الْحَدِيثَ لَمْ يَرِدْ بِهِ النّهْيُ عَنْ [ ص 720 ] أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي الذّمّةِ مِمّا لَيْسَ هُوَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَيَرْبَحُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ وَيَضْمَنَهُ وَيَقْدِرَ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ السّلَمِ الْحَالّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ مَا بَاعَهُ فَيَلْزَمُ ذِمّتَهُ بِشَيْءِ حَالّ وَيَرْبَحُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عَلَى إعْطَائِهِ وَإِذَا ذَهَبَ يَشْتَرِيهِ فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَإِذَا كَانَ السّلَمُ حَالّا وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فِي الْحَالّ وَلَيْسَ بِقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ وَيَرْبَحُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهُ وَيَضْمَنَهُ وَرُبّمَا أَحَالَهُ عَلَى الّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ قَدْ عَمِلَ شَيْئًا بَلْ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ السّلَمُ الْحَالّ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْإِعْطَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ الشّافِعِيّ إذَا جَازَ الْمُؤَجّلُ فَالْحَالّ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَمِمّا يُبَيّنُ أَنّ هَذَا مُرَادُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ السّائِلَ إنّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ شَيْءٍ مُطْلَقٍ فِي الذّمّةِ كَمَا تَقَدّمَ لَكِنْ إذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ذَلِكَ فَبَيْعُ الْمُعَيّنِ الّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَإِذَا كَانَ إنّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ شَيْءٍ فِي الذّمّةِ فَإِنّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِهِ حَالّا فَإِنّهُ قَالَ أَبِيعُهُ ثُمّ أَذْهَبُ فَأَبْتَاعُهُ فَقَالَ لَهُ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فَلَوْ كَانَ السّلَفُ الْحَالّ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا لَقَالَ لَهُ ابْتِدَاءً لَا تَبِعْ هَذَا سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ فَإِنّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ بَيْعُ مَا فِي الذّمّةِ حَالّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُسَلّمُهُ بَلْ إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَإِنّهُ لَا يَبِيعُ إلّا مُعَيّنًا لَا يَبِيعُ شَيْئًا فِي الذّمّةِ فَلَمّا لَمْ يَنْهَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ قَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك عَلِمَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرّقَ بَيْنَ مَا هُوَ عِنْدَهُ وَيَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الذّمّةِ . وَمَنْ تَدَبّرَ هَذَا تَبَيّنَ لَهُ أَنّ الْقَوْلَ الثّالِثَ هُوَ الصّوَابُ فَإِنْ قِيلَ إنّ بَيْعَ الْمُؤَجّلِ جَائِزٌ لِلضّرُورَةِ وَهُوَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ لِأَنّ الْبَائِعَ احْتَاجَ أَنْ يَبِيعَ إلَى أَجَلٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَبِيعُهُ الْآنَ فَأَمّا الْحَالّ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ الْمَبِيعَ فَيَرَاهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيْعِ مَوْصُوفٍ فِي الذّمّةِ أَوْ بَيْعِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ مَوْصُوفَةٍ لَا يَبِيعُ شَيْئًا مُطْلَقًا ؟ . قِيلَ [ ص 721 ] الْمَبِيعِ كَتَأْجِيلِ الثّمَنِ كِلَاهُمَا مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ .

[ الِاخْتِلَافُ فِي مَبِيعِ الْغَائِبِ ]
وَالنّاسُ لَهُمْ فِي مَبِيعِ الْغَائِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوّزُهُ مُطْلَقًا وَلَا يُجَوّزُهُ مُعَيّنًا مَوْصُوفًا كَالشّافِعِيّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوّزُهُ مُعَيّنًا مَوْصُوفًا وَلَا يُجَوّزُهُ مُطْلَقًا كَأَحْمَد َ وَأَبِي حَنِيفَة َ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ هَذَا وَهَذَا وَيُقَالُ لِلشّافِعِيّ مِثْلَ مَا قَالَ هُوَ لِغَيْرِهِ إذَا جَازَ بَيْعُ الْمُطْلَقِ الْمَوْصُوفِ فِي الذّمّةِ فَالْمُعَيّنُ الْمَوْصُوفُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَإِنّ الْمُطْلَقَ فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ وَالْخَطَرِ وَالْجَهْلِ أَكْثَرُ مِمّا فِي الْمُعَيّنِ فَإِذَا جَازَ بَيْعُ حِنْطَةٍ مُطْلَقَةٍ بِالصّفَةِ فَجَوَازُ بَيْعِهَا مُعَيّنَةً بِالصّفَةِ أَوْلَى بَلْ لَوْ جَازَ بَيْعُ الْمُعَيّنِ بِالصّفَةِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا رَآهُ جَازَ أَيْضًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الصّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ وَقَدْ جَوّزَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ السّلَمَ الْحَالّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ .

[ بَيْعُ السّلَفِ ]
وَالتّحْقِيقُ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ فَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا لَا بِمُجَرّدِ أَلْفَاظِهَا وَنَفْسُ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْحَاضِرَةِ الّتِي يَتَأَخّرُ قَبْضُهَا يُسَمّى سَلَفًا إذَا عَجّلَ لَهُ الثّمَنَ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّه نَهَى أَنْ يُسْلِمَ فِي الْحَائِطِ بِعَيْنِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَقَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي عَشَرَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرِ هَذَا الْحَائِطِ جَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ابْتَعْت عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنْ هَذِهِ الصّبْرَةِ وَلَكِنّ الثّمَنَ يَتَأَخّرُ قَبْضُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ فَإِذَا عَجّلَ لَهُ الثّمَنَ قِيلَ لَهُ سَلَفٌ لِأَنّ السّلَفَ هُوَ الّذِي تَقَدّمَ وَالسّالِفُ الْمُتَقَدّمُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } [ الزّخْرُفُ 56 ] . وَالْعَرَبُ تُسَمّي أَوّلَ الرّوَاحِلِ السّالِفَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَقْ بِسَلَفِنَا الصّالِحِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ . وَقَوْلُ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَأُقَاتِلَنهُمْ حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي . وَهِيَ الْعُنُقُ . 722 - وَلَفْظُ السّلَفِ يَتَنَاوَلُ الْقَرْضَ وَالسّلَمَ لِأَنّ الْمُقْرِضَ أَيْضًا أَسْلَفَ الْقَرْضَ أَيْ قَدّمَهُ وَمِنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَحِلّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَلَفَ بَكْرًا وَقَضَى جَمَلًا رَبَاعِيّا وَاَلّذِي يَبِيعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لَا يَقْصِدُ إلّا الرّبْحَ وَهُوَ تَاجِرٌ فَيَسْتَلِفُ بِسِعْرِ ثُمّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِي بِمِثْلِ ذَلِكَ الثّمَنِ فَإِنّهُ يَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِنّمَا يَفْعَلُ هَذَا مَنْ يَتَوَكّلُ لِغَيْرِهِ فَيَقُولُ أَعْطِنِي فَأَنَا أَشْتَرِي لَك هَذِهِ السّلْعَةَ فَيَكُونُ أَمِينًا أَمّا أَنّهُ يَبِيعُهَا بِثَمَنِ مُعَيّنٍ يَقْبِضُهُ ثُمّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِيهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثّمَنِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فِي الْحَالّ فَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ نَعَمْ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَاجِرٌ فَقَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى الثّمَنِ فَيَسْتَسْلِفُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مُدّةً إلَى أَنْ يَحْصُلَ تِلْكَ السّلْعَةُ فَهَذَا يَقَعُ فِي السّلَمِ الْمُؤَجّلِ وَهُوَ الّذِي يُسَمّى بَيْعَ الْمَفَالِيسِ فَإِنّهُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى الثّمَنِ وَهُوَ مُفْلِسٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْحَالّ مَا يَبِيعُهُ وَلَكِنْ لَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغَلّ أَوْ غَيْرِهِ فَيَبِيعُهُ فِي الذّمّةِ فَهَذَا يُفْعَلُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يُفْعَلُ بِدُونِهَا إلّا أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَتّجِرَ بِالثّمَنِ فِي الْحَالّ أَوْ يَرَى أَنّهُ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الرّبْحِ أَكْثَرَ مِمّا يَفُوتُ بِالسّلَمِ فَإِنّ الْمُسْتَسْلِفَ يَبِيعُ السّلْعَةَ فِي الْحَالّ بِدُونِ مَا تُسَاوِي نَقْدًا وَالْمُسَلّفُ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا إلَى أَجَلٍ بِأَرْخَصَ مِمّا يَكُونُ عِنْدَ حُصُولِهَا وَإِلّا فَلَوْ عَلِمَ أَنّهَا عِنْدَ طَرْدِ الْأَصْلِ تُبَاعُ بِمِثْلِ رَأْسِ مَالِ السّلَمِ لَمْ يُسَلّمْ [ ص 723 ] مَالِهِ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِذَا قَصَدَ الْأَجْرَ أَقْرَضَهُ ذَلِكَ قَرْضًا وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ سَلَمًا إلّا إذَا ظَنّ أَنّهُ فِي الْحَالّ أَرْخَصُ مِنْهُ وَقْتَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَالسّلَمُ الْمُؤَجّلُ فِي الْغَالِبِ لَا يَكُونُ إلّا مَعَ حَاجَةِ الْمُسْتَسْلِفِ إلَى الثّمَنِ وَأَمّا الْحَالّ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى الثّمَنِ فَيَبِيعُ مَا عِنْدَهُ مُعَيّنًا تَارَةً وَمَوْصُوفًا أُخْرَى وَأَمّا إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَإِنّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلّا إذَا قَصَدَ التّجَارَةَ وَالرّبْحَ فَيَبِيعُهُ بِسِعْرِ وَيَشْتَرِيهِ بِأَرْخَصَ مِنْهُ . ثُمّ هَذَا الّذِي قَدّرَهُ قَدْ يَحْصُلُ كَمَا قَدّرَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ السّلْعَةُ الّتِي يُسْلِفُ فِيهَا إلّا بِثَمَنِ أَغْلَى مِمّا أَسْلَفَ فَيَنْدَمُ وَإِنْ حَصَلَتْ بِسِعْرٍ أَرْخَصَ مِنْ ذَلِكَ قَدّمَ السّلَفَ إذْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ هُوَ بِذَلِكَ الثّمَنِ فَصَارَ هَذَا مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشّارِدِ يُبَاعُ بِدُونِ ثَمَنِهِ فَإِنْ حَصَلَ نَدِمَ الْبَائِعُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَدِمَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَبَائِعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِ بَائِعِ الْغَرَرِ الّذِي قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ . وَالْمُخَاطَرَةُ مُخَاطَرَتَانِ مُخَاطَرَةُ التّجَارَةِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ السّلْعَةَ بِقَصْدِ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَرْبَحَ وَيَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فِي ذَلِكَ وَالْخَطَرُ
الثّانِي : الْمَيْسِرُ الّذِي يَتَضَمّنُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَهَذَا الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِثْلَ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَبَيْعِ الثّمَارِ قَبْلَ بُدُوّ صَلَاحِهَا وَمِنْ هَذَا النّوْعِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا قَدْ قَمَرَ الْآخَرَ وَظَلَمَهُ وَيَتَظَلّمُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ التّاجِرِ الّذِي قَدْ اشْتَرَى السّلْعَةَ ثُمّ بَعْدَ هَذَا نَقَصَ سِعْرُهَا فَهَذَا مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لِأَحَدِ فِيهِ حِيلَةٌ وَلَا يَتَظَلّمُ مِثْلُ هَذَا مِنْ الْبَائِعِ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ قَسْمِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنّهُ قَصَدَ أَنْ يَرْبَحَ عَلَى هَذَا لَمّا بَاعَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ أَنّهُ يَبِيعُهُ ثُمّ يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ وَأَكْثَرُ النّاسِ لَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرُوا مِنْهُ بَلْ يَذْهَبُونَ وَيَشْتَرُونَ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَى هُوَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُخَاطَرَةُ مُخَاطَرَةَ التّجّارِ بَلْ مُخَاطَرَةُ الْمُسْتَعْجِلِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى التّسْلِيمِ فَإِذَا اشْتَرَى [ ص 724 ] وَصَارَتْ عِنْدَهُ مِلْكًا وَقَبْضًا فَحِينَئِذٍ دَخَلَ فِي خَطَرِ التّجَارَةِ وَبَاعَ بَيْعَ التّجَارَةِ كَمَا أَحَلّهُ اللّهُ بِقَوْلِهِ { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [ النّسَاءُ 29 ] وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْعِ الْحَصَاةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ زَادَ مُسْلِمٌ أَمّا الْمُلَامَسَةُ فَأْنَ يَلْمِسَ كُلّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ الْآخَرِ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ .
وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللّيْلِ أَوْ بِالنّهَارِ وَلَا يَقْلِبُهُ إلّا بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرّجُلُ إلَى الرّجُلِ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذُ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ .

[ بَيْعُ الْحَصَاةِ ]
أَمّا بَيْعُ الْحَصَاةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى نَوْعِهِ كَبَيْعِ الْخِيَارِ وَبَيْعِ النّسِيئَةِ وَنَحْوِهِمَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدّمِ . [ ص 725 ] الْحَصَاةِ بِأَنْ يَقُولَ ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَعَلَى أَيّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَك بِدِرْهَمِ وَفُسّرَ بِأَنّ بَيْعَهُ مِنْ أَرْضِهِ قَدْرَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ وَفُسّرَ بِأَنْ يَقْبِضَ عَلَى كَفّ مِنْ حَصَا وَيَقُولُ لِي بِعَدَدِ مَا خَرَجَ فِي الْقَبْضَةِ مِنْ الشّيْءِ الْمَبِيعِ أَوْ يَبِيعُهُ سِلْعَةً وَيَقْبِضُ عَلَى كَفّ مِنْ الْحَصَا وَيَقُولُ لِي بِكُلّ حَصَاةٍ دِرْهَمٌ وَفُسّرَ بِأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُهُمَا حَصَاةً فِي يَدِهِ وَيَقُولُ أَيّ وَقْتٍ سَقَطَتْ الْحَصَاةُ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَتَبَايَعَا وَيَقُولَ أَحَدُهُمَا : إذَا نَبَذْت إلَيْك الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَعْتَرِضَ الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ فَيَأْخُذُ حَصَاةً وَيَقُولُ أَيّ شَاةٍ أَصَبْتهَا فَهِيَ لَك بِكَذَا وَهَذِهِ الصّوَرُ كُلّهَا فَاسِدَةٌ لِمَا تَتَضَمّنُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْغَرَرِ وَالْخَطَرِ الّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالْقِمَارِ .

فَصْلٌ [ بَيْعُ الْغَرَرِ ]
وَأَمّا بَيْعُ الْغَرَرِ فَمِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَالْغَرَرِ هُوَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَغْرُورٌ بِهِ كَالْقَبْضِ وَالسّلْبِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ وَالْمَسْلُوبِ وَهَذَا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ الّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَالْفَرَسِ الشّارِدِ وَالطّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَكَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَمَا تَحْمِلُ شَجَرَتُهُ أَوْ نَاقَتُهُ أَوْ مَا يَرْضَى لَهُ بِهِ زَيْدٌ أَوْ يَهَبُهُ لَهُ أَوْ يُورِثُهُ إيّاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لَا يَعْلَمُ حُصُولُهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمِقْدَارَهُ وَمِنْهُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ نِتَاجُ النّتَاجِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَالثّانِي : أَنّهُ أَجَلٌ فَكَانُوا يَتَبَايَعُونَ إلَيْهِ هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكِلَاهُمَا غَرَرٌ وَالثّالِثُ أَنّهُ بَيْعُ حَمْلِ الْكَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَالَهُ الْمُبَرّدُ . قَالَ وَالْحَبَلَةُ الْكَرَمُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَأَمّا ابْنُ عُمَر َ رَضِيَ اللّه عَنْهُ فَإِنّهُ فَسّرَهُ بِأَنّهُ [ ص 726 ] كَانُوا يَتَبَايَعُونَ إلَيْهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَأَمّا أَبُو عُبَيْدَة َ فَفَسّرَهُ بِبَيْعِ نِتَاجِ النّتَاجِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَد ُ وَمِنْهُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْمَلَاقِيحُ مَا فِي الْبُطُونِ مِنْ الْأَجِنّةِ وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَكَانُوا يَبِيعُونَ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ النّاقَةِ وَمَا يَضْرِبُهُ الْفَحْلُ فِي عَامٍ أَوْ أَعْوَامٍ وَأُنْشِدَ إنّ الْمَضَامِينَ الّتِي فِي الصّلْب مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظّهُورِ الْحُدْب
وَمِنْهُ بَيْعُ الْمَجْرِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْهُ . قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ الْمَجْرُ مَا فِي بَطْنِ النّاقَةِ وَالْمَجْرُ الرّبَا وَالْمَجْرُ الْقِمَارُ وَالْمَجْرُ الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ .

[ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ]
وَمِنْهُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهُمَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ أَمّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللّيْلِ أَوْ بِالنّهَارِ وَلَا يَقْلِبُهُ إلّا بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرّجُلُ إلَى الرّجُلِ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ إلَيْهِ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ [ ص 727 ] الْمُلَامَسَةُ بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا عَلَى أَنّك مَتَى لَمَسْته فَهُوَ عَلَيْك بِكَذَا وَالْمُنَابَذَةُ بِأَنْ يَقُولَ أَيّ ثَوْبٍ نَبَذْته إلَيّ فَهُوَ عَلَيّ بِكَذَا وَهَذَا أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد َ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْغَرَرُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ الْعِلّةُ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ شَرْطٌ بَلْ مَا تَضَمّنَهُ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ .

فَصْلٌ [ بَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ ]
وَلَيْسَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ بَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَاللّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوِهَا فَإِنّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا وَظَاهِرُهَا عُنْوَانُ بَاطِنِهَا فَهُوَ كَظَاهِرِ الصّبْرَةِ مَعَ بَاطِنِهَا وَلَوْ قُدّرَ أَنّ فِي ذَلِكَ غَرَرًا فَهُوَ غَرَرٌ يَسِيرٌ يُغْتَفَرُ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ الّتِي لَا بُدّ لِلنّاسِ مِنْهَا فَإِنّ ذَلِكَ غَرَرٌ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَنْعِ فَإِنّ إجَارَةَ الْحَيَوَانِ وَالدّارِ وَالْحَانُوتِ مُسَانَاةٌ لَا تَخْلُو عَنْ غَرَرٍ لِأَنّهُ يَعْرِضُ فِيهِ مَوْتُ الْحَيَوَانِ وَانْهِدَامُ الدّارِ وَكَذَا دُخُولُ الْحَمّامِ وَكَذَا الشّرْبُ مِنْ فَمِ السّقَاءِ فَإِنّهُ غَيْرُ مُقَدّرٍ مَعَ اخْتِلَافِ النّاسِ فِي قَدْرِهِ وَكَذَا بُيُوعُ السّلَمِ وَكَذَا بَيْعُ الصّبْرَةِ الْعَظِيمَةِ الّتِي لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا وَكَذَا بَيْعُ الْبَيْضِ وَالرّمّانِ وَالْبِطّيخِ وَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمّا لَا يَخْلُو مِنْ الْغَرَرِ فَلَيْسَ كُلّ غَرَرٍ سَبَبًا لِلتّحْرِيمِ وَالْغَرَرُ إذَا كَانَ يَسِيرًا أَوْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ صِحّةِ الْعَقْدِ فَإِنّ الْغَرَرَ الْحَاصِلَ فِي أَسَاسَاتِ الْجُدَرَانِ وَدَاخِلِ بُطُونِ الْحَيَوَانِ أَوْ آخِرِ الثّمَارِ الّتِي بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَالْغَرَرُ الّذِي فِي دُخُولِ الْحَمّامِ وَالشّرْبِ مِنْ السّقَاءِ وَنَحْوِهِ غَرَرٌ يَسِيرٌ فَهَذَانِ النّوْعَانِ لَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ بِخِلَافِ الْغَرَرِ الْكَثِيرِ الّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَهُوَ [ ص 728 ] نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ صِحّةِ الْعَقْدِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَبَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ فِي الْأَرْضِ انْتَفَى عَنْهُ الْأَمْرَانِ فَإِنّ غَرَرَهُ يَسِيرٌ وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَإِنّ الْحُقُولَ الْكِبَارَ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ إلّا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ فَلَوْ شُرِطَ لِبَيْعِهِ إخْرَاجُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةٌ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقّةِ وَفَسَادِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَأْتِي بِهِ شَرْعٌ وَإِنْ مَنَعَ بَيْعَهُ إلّا شَيْئًا فَشَيْئًا كُلّمَا أَخْرَجَ شَيْئًا بَاعَهُ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقّةِ وَتَعْطِيلِ مَصَالِحِ أَرْبَابِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ وَمَصَالِحِ الْمُشْتَرِي مَا لَا يَخْفَى وَذَلِكَ مِمّا لَا يُوجِبُهُ الشّارِعُ وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ النّاسِ بِذَلِكَ الْبَتّةَ حَتّى إنّ الّذِينَ يَمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَرَاجٌ كَذَلِكَ أَوْ كَانَ نَاظِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ بَيْعِهِ فِي الْأَرْضِ اضْطِرَارًا إلَى ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغَرَرِ الّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا نَظِيرًا لِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبُيُوعِ .

فَصْلٌ [ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ ]
وَلَيْسَ مِنْهُ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ بَلْ هُوَ نَظِيرُ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَجَوْزِ الْهِنْدِ فَإِنّ فَأْرَتَهُ وِعَاءٌ لَهُ تَصُونُهُ مِنْ الْآفَاتِ وَتَحْفَظُ عَلَيْهِ رُطُوبَته وَرَائِحَتَهُ وَبَقَاؤُهُ فِيهَا أَقْرَبُ إلَى صِيَانَتِهِ مِنْ الْغِشّ وَالتّغَيّرِ وَالْمِسْكُ الّذِي فِي الْفَأْرَةِ عِنْدَ النّاسِ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْفُوضِ وَجَرَتْ عَادَةُ التّجّارِ بِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ فِيهَا وَيَعْرِفُونَ قَدْرَهُ وَجِنْسَهُ مَعْرِفَةً لَا تَكَادُ تَخْتَلِف فَلَيْسَ مِنْ الْغَرَرِ فِي شَيْءٍ فَإِنّ الْغَرَرَ هُوَ مَا تَرَدّدَ بَيْنَ الْحُصُولِ وَالْفَوَاتِ وَعَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى : هُوَ مَا طُوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ وَجُهِلَتْ عَيْنُهُ وَأَمّا هَذَا وَنَحْوُهُ فَلَا يُسَمّى غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَمَنْ حَرّمَ بَيْعَ شَيْءٍ وَادّعَى أَنّهُ غَرَرٌ طُولِبَ بِدُخُولِهِ فِي مُسَمّى الْغَرَرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَجَوَازُ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْفَأْرَةِ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشّافِعِيّ وَهُوَ الرّاجِحُ دَلِيلًا وَاَلّذِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِثْلَ بَيْعِ النّوَى فِي التّمْرِ وَالْبَيْضِ فِي الدّجَاجِ وَاللّبَنِ فِي الضّرْعِ وَالسّمْنِ فِي الْوِعَاءُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النّوْعَيْنِ ظَاهِرٌ . [ ص 729 ] أَشْبَهُ بِهَذَا مِنْهُ بِالْأَوّلِ فَلَا هُوَ مِمّا نَهَى عَنْهُ الشّارِعُ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَشْمَلْهُ نَهْيُهُ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى .

[ بَيْعُ السّمْنِ فِي الْوِعَاءِ ]
وَأَمّا بَيْعُ السّمْنِ فِي الْوِعَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنّهُ إنْ فَتَحَهُ وَرَأَى رَأْسَهُ بِحَيْثُ يَدُلّهُ عَلَى جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ جَازَ بَيْعُهُ فِي السّقَاءِ لَكِنّهُ يَصِيرُ كَبَيْعِ الصّبْرَةِ الّتِي شَاهَدَ ظَاهِرَهَا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنّهُ غَرَرٌ فَإِنّهُ يَخْتَلِفُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَوَصْفًا وَلَيْسَ مَخْلُوقًا فِي وِعَائِهِ كَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْمِسْكِ فِي أَوْعِيَتِهَا فَلَا يَصِحّ إلْحَاقُهُ بِهَا .
[ بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ ]
وَأَمّا بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ فَمَنَعَهُ أَصْحَابُ أَحْمَد َ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَاَلّذِي يَجِبُ فِيهِ التّفْصِيلُ فَإِنْ بَاعَ الْمَوْجُودَ الْمُشَاهَدَ فِي الضّرْعِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ مُفْرَدًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْحَيَوَانِ لِأَنّهُ إذَا بِيعَ مُفْرَدًا تَعَذّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ لِأَنّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا كَاللّبَنِ فِي الظّرْفِ لَكِنّهُ إذَا حَلَبَهُ خَلّفَهُ مِثْلَهُ مِمّا لَمْ يَكُنْ فِي الضّرْعِ فَاخْتَلَطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيّزُ وَإِنْ صَحّ الْحَدِيثُ الّذِي رَوَاهُ الطّبَرَانِيّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ فَهَذَا إنْ شَاءَ اللّهُ مَحْمِلهُ وَأَمّا إنْ بَاعَهُ آصِعًا مَعْلُومَةً مِنْ اللّبَنِ يَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الشّاةِ أَوْ بَاعَهُ لَبَنَهَا [ ص 730 ] بَاعَهُ لَبَنًا مُطْلَقًا مَوْصُوفًا فِي الذّمّةِ وَاشْتَرَطَ كَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الشّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ فَقَالَ شَيْخُنَا : هَذَا جَائِزٌ وَاحْتَجّ بِمَا فِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم نَهَى أَنْ يُسْلَمَ فِي حَائِطٍ بِعَيْنِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ قَالَ فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَقَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي عَشَرَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرِ هَذَا الْحَائِطِ جَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ابْتَعْتُ مِنْك عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنْ هَذِهِ الصّبْرَةِ وَلَكِنّ الثّمَنَ يَتَأَخّرُ قَبْضُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ هَذَا لَفْظُهُ .

فَصْلٌ [ إجَارَةُ الْحَلُوبَةِ مُدّةً مَعْلُومَةً لِأَخْذِ لَبَنِهَا ]
وَأَمّا إنْ أَجّرَهُ الشّاةَ أَوْ الْبَقَرَةَ أَوْ النّاقَةَ مُدّةً مَعْلُومَةً لِأَخْذِ لَبَنِهَا فِي تِلْكَ الْمُدّةِ فَهَذَا لَا يُجَوّزُهُ الْجُمْهُورُ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا جَوَازَهُ وَحَكَاهُ قَوْلًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَهُ فِيهَا مُصَنّفٌ مُفْرَدٌ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا أَوْ نُوقًا أَيّامَ اللّبَنِ بِأُجْرَةٍ مُسَمّاةٍ وَعَلَفُهَا عَلَى الْمَالِكِ أَوْ بِأُجْرَةٍ مُسَمّاةٍ مَعَ عَلَفِهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ اللّبَنَ جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي الظّئْرِ
قَالَ وَهَذَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَلِهَذَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ وَبَعْضُهُمْ فِي الْإِجَارَةِ لَكِنْ إذَا كَانَ اللّبَنُ يَحْصُل بِعَلَفِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقِيَامِهِ عَلَى الْغَنَمِ فَإِنّهُ يُشْبِهُ اسْتِئْجَارَ الشّجَرِ وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الّذِي يَعْلِفُهَا وَإِنّمَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي لَبَنًا مُقَدّرًا فَهَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ اللّبَنَ مُطْلَقًا فَهُوَ بَيْعٌ أَيْضًا فَإِنّ صَاحِبَ اللّبَنِ يُوَفّيهِ اللّبَنَ بِخِلَافِ الظّئْرِ فَإِنّمَا هِيَ تَسْقِي الطّفْلَ وَلَيْسَ هَذَا دَاخِلًا فِيمَا نَهَى عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِأَنّ الْغَرَرَ تَرَدّدٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِأَنّهُ مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ الّذِي هُوَ الْمَيْسِرُ وَاَللّهُ حَرّمَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ مِنْ الظّلْمِ الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَهَذَا إنّمَا يَكُونُ قِمَارًا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ مَالٌ وَالْآخَرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَهَذَا الّذِي لَا يَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشّارِدِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ فَإِنّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ مَالَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي قَدْ يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْحَاصِلِ فَأَمّا إذَا كَانَ شَيْئًا مَعْرُوفًا بِالْعَادَةِ كَمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ بِالْإِجَارَةِ مِثْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالدّابّةِ وَمِثْلِ لَبَنِ الظّئْرِ [ ص 731 ] الْمُعْتَادِ وَلَبَنِ الْبَهَائِمِ الْمُعْتَادِ وَمِثْلِ الثّمَرِ وَالزّرْعِ الْمُعْتَادِ فَهَذَا كُلّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَائِزٌ . ثُمّ إنْ حَصَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَإِلّا حَطّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ وَهُوَ مِثْلُ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْبَيْعِ وَمِثْلُ مَا إذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ .
[ إيرَادٌ عَلَى جَوَازِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ ]
فَإِنْ قِيلَ مَوْرِدُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إنّمَا هُوَ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ وَلِهَذَا لَا يَصِحّ اسْتِئْجَارُ الطّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَالْمَاءِ لِيَشْرَبَهُ وَأَمّا إجَارَةُ الظّئْرِ فَعَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ وَضْعُ الطّفْلِ فِي حِجْرِهَا وَإِلْقَامُهُ ثَدْيِهَا وَاللّبَنُ يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا فَهُوَ كَنَقْعِ الْبِئْرِ فِي إجَارَةِ الدّارِ وَيُغْتَفَرُ فِيمَا دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَتْبُوعَاتِ .
[ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ ]
قِيلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ .

[ ثُبُوتُ وُرُودِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ ]
أَحَدُهَا : مَنْعُ كَوْنِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَرِدُ إلّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ وَلَا بِالسّنّةِ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الثّابِتُ عَنْ الصّحَابَةِ خِلَافُهُ كَمَا صَحّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ فَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ وَالْحَدِيقَةُ هِيَ النّخْلُ فَهَذِهِ إجَارَةُ الشّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا فَقَوْلُكُمْ إنّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إلّا مَنْفَعَةً غَيْرُ مُسَلّمٍ وَلَا ثَابِتٍ بِالدّلِيلِ وَغَايَةُ مَا مَعَكُمْ قِيَاسُ مَحَلّ النّزَاعِ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ وَالْمَاءِ لِلشّرْبِ وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ فَإِنّ الْخُبْزَ تَذْهَبُ عَيْنُهُ وَلَا يُسْتَخْلَفُ مِثْلُهُ بِخِلَافِ اللّبَنِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ فَإِنّهُ لَمّا كَانَ يَسْتَخْلِفُ وَيُحَدّثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ .
[ الثّمَرُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ ]
يُوَضّحُهُ الْوَجْهُ الثّانِي : وَهُوَ أَنّ الثّمَرَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَةِ وَنَحْوِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الشّجَرَةَ لِيَنْتَفِعَ أَهْلُ الْوَقْفِ بِثَمَرَاتِهَا كَمَا [ ص 732 ] إعَارَةُ الشّجَرَةِ كَمَا يَجُوزُ إعَارَةُ الظّهْرِ وَعَارِيَةُ الدّارِ وَمَنِيحَةُ اللّبَنِ وَهَذَا كُلّهُ تَبَرّعٌ بِنَمَاءِ الْمَالِ وَفَائِدَتِهِ فَإِنّ مَنْ دَفَعَ عَقَارَهُ إلَى مَنْ يُسْكِنُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ دَابّتَهُ إلَى مَنْ يَرْكَبُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَجَرَةً إلَى مَنْ يَسْتَثْمِرُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَاتَه إلَى مَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا فَهَذِهِ الْفَوَائِدُ تَدْخُلُ فِي عُقُودِ التّبَرّعِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ مُحَبّسًا بِالْوَقْفِ أَوْ غَيْرَ مُحَبّسٍ . وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي عُقُودِ الْمُشَارَكَاتِ فَإِنّهُ إذَا دَفَعَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِجُزْءِ مِنْ دَرّهَا وَنَسْلِهَا صَحّ عَلَى أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ لِلْإِجَارَاتِ .
[ الْمَرْتَبَةُ الْوُسْطَى بَيْنَ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ ]
يُوَضّحُهُ الْوَجْهُ الثّالِثُ وَهُوَ أَنّ الْأَعْيَانَ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَسْتَخْلِفُ شَيْئًا فَشَيْئًا بَلْ إذَا ذَهَبَ ذَهَبَ جُمْلَةً وَنَوْعٌ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا كُلّمَا ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلّفَهُ شَيْءٌ مِثْلُهُ فَهَذَا رُتْبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ الْمَنَافِعِ وَبَيْنَ الْأَعْيَانِ الّتِي لَا تُسْتَخْلَفُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي شَبَهِهِ بِأَيّ النّوْعَيْنِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ شَبَهَهُ بِالْمَنَافِعِ أَقْوَى فَإِلْحَاقُهُ بِهَا أَوْلَى .
[ نَصّ الْقُرْآنَ عَلَى إجَازَةِ الظّئْرِ ]
يُوَضّحُهُ الْوَجْهُ الرّابِعُ وَهُوَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ نَصّ فِي كِتَابِهِ عَلَى إجَارَةِ الظّئْرِ وَسَمّى مَا تَأْخُذُهُ أَجْرًا وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا إلّا إجَارَةَ الظّئْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } [ الطّلَاقُ 6 ] . قَالَ شَيْخُنَا : وَإِنّمَا ظَنّ الظّانّ أَنّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ حَيْثُ تَوَهّمَ أَنّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلّا عَلَى مَنْفَعَةٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى كُلّ مَا يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً كَمَا أَنّ هَذِهِ الْعَيْنَ هِيَ الّتِي تُوقَفُ وَتُعَارُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَعِيرُ بِلَا عِوَضٍ يَسْتَوْفِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ وَبِالْعِوَضِ فَلَمّا كَانَ لَبَنُ الظّئْرِ مُسْتَوْفًى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ فَإِنّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ يُحْدِثُهَا اللّهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ كَمَا يُحْدِثُ اللّهُ الْمَنَافِعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ .

[ الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ ]
[ ص 733 ] أَحَلّ حَرَامًا أَوْ حَرّمَ حَلَالًا فَلَا يَحْرُمُ مِنْ الشّرُوطِ وَالْعُقُودِ إلّا مَا حَرّمَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ مَعَ الْمَانِعِينَ نَصّ بِالتّحْرِيمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا مَعَهُمْ قِيَاسٌ قَدْ عُلِمَ أَنّ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ مِنْ الْفَرْقِ مَا يَمْنَعُ الْإِلْحَاقَ وَأَنّ الْقِيَاسَ الّذِي مَعَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى مُسَاوَاةِ الْفَرْعِ لِأَصْلِهِ وَهَذَا مَا لَا حِيلَةَ فِيهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ مَا تَمَحّلَهُ الْمَانِعُونَ لِعِلّةِ جَوَازِ إجَارَةِ الظّئْرِ ]
يُوَضّحُهُ الْوَجْهُ السّادِسُ وَهُوَ أَنّ الّذِينَ مَنَعُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَمّا رَأَوْا إجَارَةَ الظّئْرِ ثَابِتَةً بِالنّصّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ إنّمَا هُوَ اللّبَنُ وَهُوَ عَيْنٌ تَمَحّلُوا لِجَوَازِهَا أَمْرًا يَعْلَمُونَ هُمْ وَالْمُرْضِعَةُ وَالْمُسْتَأْجِرُ بُطْلَانَهُ فَقَالُوا : الْعَقْدُ إنّمَا وَقَعَ عَلَى وَضْعِهَا الطّفْلَ فِي حِجْرِهَا وَإِلْقَامِهِ ثَدْيَهَا فَقَطْ وَاللّبَنُ يَدْخُلُ تَبَعًا وَاَللّهُ يَعْلَمُ وَالْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً أَنّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنّ وَضْعَ الطّفْلِ فِي حِجْرِهَا لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلًا وَلَا وَرْدَ عَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا عُرْفًا وَلَا حَقِيقَةً وَلَا شَرْعًا وَلَوْ أَرْضَعَتْ الطّفْلَ وَهُوَ فِي حِجْرِ غَيْرِهَا أَوْ فِي مَهْدِهِ لَاسْتَحَقّتْ الْأُجْرَةَ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إلْقَامَ الثّدْيِ الْمُجَرّدِ لَاسْتُؤْجِرَ لَهُ كُلّ امْرَأَةٍ لَهَا ثَدْيٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ حَقّا وَالْفِقْهُ الْبَارِدُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنّ إجَارَةَ الظّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَيُدّعَى أَنّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصّحِيحُ .
[ نَدْبُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنِيحَةِ الْغَنَمِ لِلَبَنِهَا ]
الْوَجْهُ السّابِعُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَدَبَ إلَى مَنِيحَةِ الْعَنْزِ وَالشّاةِ لِلَبَنِهَا وَحَضّ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ ثَوَابَ فَاعِلِهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعِ وَلَا هِبَةٍ فَإِنّ هِبَةَ [ ص 734 ] عَارِيَةُ الشّاةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا كَمَا يُعَيّرُهُ الدّابّةَ لِرُكُوبِهَا فَهَذَا إبَاحَةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِدَرّهَا وَكِلَاهُمَا فِي الشّرْعِ وَاحِدٌ وَمَا جَازَ أَنْ يُسْتَوْفَى بِالْعَارِيَةِ جَازَ أَنْ يُسْتَوْفَى بِالْإِجَارَةِ فَإِنّ مَوْرِدَهُمَا وَاحِدٌ وَإِنّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التّبَرّعِ بِهَذَا وَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْآخَرِ .

[ إجَارَةُ الشّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا ]
وَالْوَجْهُ الثّامِنُ مَا رَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيّ فِي " مَسَائِلِهِ " : حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدّثَنَا عَبّادُ بْنُ عَبّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ تُوُفّيَ وَعَلَيْهِ سِتّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ " غُرَمَاءَهُ فَقَبَلَهُمْ أَرْضَهُ سَنَتَيْنِ " وَفِيهَا الشّجَرُ وَالنّخْلُ وَحَدَائِقُ الْمَدِينَةِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا النّخْلُ وَالْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا قَلِيلٌ فَهَذَا إجَارَةُ الشّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا وَمَنْ ادّعَى أَنّ ذَلِكَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ فَمِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بَلْ ادّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَقْرَبُ فَإِنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ النّبَوِيّةِ بِمَشْهَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهِيَ قِصّةٌ فِي مَظِنّةِ الِاشْتِهَارِ وَلَمْ يُقَابِلْهَا أَحَدٌ بِالْإِنْكَارِ بَلْ تَلَقّاهَا الصّحَابَةُ بِالتّسْلِيمِ وَالْإِقْرَارِ وَقَدْ كَانُوا يُنْكِرُونَ مَا هُوَ دُونَهَا وَإِنْ فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُ شَأْنَ مُتْعَةِ الْحَجّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَسَنُبَيّنُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى أَنّهَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَأَنّ الْمَانِعِينَ مِنْهَا لَا بُدّ لَهُمْ مِنْهَا وَأَنّهُمْ يَتَحَيّلُونَ عَلَيْهَا بِحِيَلِ لَا تَجُوزُ .
[ تَشَابُهُ إجَارَةِ الْأَرْضِ بِإِجَارَةِ الْحَيَوَانِ ]
الْوَجْهُ التّاسِعُ أَنّ الْمُسْتَوْفَى بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ هُوَ عَيْنٌ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ الْمَغَلّ الّذِي يَسْتَغِلّهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَلَيْسَ لَهُ مَقْصُودٌ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ [ ص 735 ] كَانَ لَهُ قَصْدٌ جَرَى فِي الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ الزّرْعِ فَذَلِكَ تَبَعٌ . فَإِنْ قِيلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ شَقّ الْأَرْضِ وَبَذْرِهَا وَفِلَاحَتُهَا وَالْعَيْنُ تَتَوَلّدُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِحَفْرِ بِئْرٍ فَخَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسُ الْعَمَلِ لَا الْمَاءُ . قِيلَ مُسْتَأْجِرُ الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ مَقْصُودٌ فِي غَيْرِ الْمَغَلّ وَالْعَمَلُ وَسِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بَلْ هُوَ تَعَبٌ وَمَشَقّةٌ وَإِنّمَا مَقْصُودُهُ مَا يُحْدِثُهُ اللّهُ مِنْ الْحُبّ بِسَقْيِهِ وَعَمَلِهِ وَهَكَذَا مُسْتَأْجِرُ الشّاةِ لِلَبَنِهَا سَوَاءٌ مَقْصُودُهُ مَا يُحْدِثُهُ اللّهُ مِنْ لَبَنِهَا بِعَلْفِهَا وَحِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا الْبَتّةَ إلّا مَا لَا تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْفُرُوقِ الْمُلْغَاةِ وَتَنْظِيرُكُمْ بِالِاسْتِئْجَارِ لِحَفْرِ الْبِئْرِ تَنْظِيرٌ فَاسِدٌ بَلْ نَظِيرُ حَفْرِ الْبِئْرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَكّارًا لِحَرْثِ أَرْضِهِ وَيُبَذّرَهَا وَيَسْقِيَهَا وَلَا رَيْبَ أَنّ تَنْظِيرَ إجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَغْلِهَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَهُوَ كَمَا تَقَدّمَ أَصَحّ مِنْ التّنْظِيرِ بِإِجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ .
[ الْغَرَرُ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي إجَارَةِ الْحَيَوَانِ ]
يُوَضّحُهُ الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ أَنّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ الّذِي فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ لِحُصُولِ مَغَلِهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ الْغَرَرِ الّذِي فِي إجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ فَإِنّ الْآفَاتِ وَالْمَوَانِعَ الّتِي تَعْرِضُ لِلزّرْعِ أَكْثَرُ مِنْ آفَاتِ اللّبَنِ فَإِذَا اُغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَأَنْ يُغْتَفَرَ فِي إجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى .

فَصْلٌ [ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَقْدِ عَلَى اللّبَنِ فِي الضّرْعِ ]
فَالْأَقْوَالُ فِي الْعَقْدِ عَلَى اللّبَنِ فِي الضّرْعِ ثَلَاثَةٌ . أَحَدُهَا : مَنْعُهُ بَيْعًا وَإِجَارَةً وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالثّانِي : جَوَازُهُ بَيْعًا وَإِجَارَةً . وَالثّالِثُ جَوَازُهُ إجَارَةً لَا بَيْعًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللّهُ . وَفِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ فَرّوخٍ [ ص 736 ] عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ دُونَ ذِكْرِ السّمْنِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ .
[ جُمْلَةُ بُيُوعٍ مَنْهِيّ عَنْهَا ]
وَالثّانِي حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمّارٍ حَدّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدّثَنَا جَهْضَمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْيَمَانِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْبَاهِلِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَبْدِيّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتّى تَضَعَ وَعَمّا فِي ضُرُوعِهَا إلّا بِكَيْلِ أَوْ وَزْنٍ وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتّى تُقَسّمَ وَعَنْ شِرَاءِ الصّدَقَاتِ حَتّى تُقْبَضَ وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَلَكِنّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَا تَقُومُ بِهِ حُجّةٌ وَالنّهْيُ عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ ثَابِتٌ بِالنّهْيِ عَنْ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَالنّهْيِ عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَهُوَ آبِقٌ مَعْلُومٌ بِالنّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالنّهْيُ عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتّى تُقْسَمَ دَاخِلٌ فِي النّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ وَمُخَاطَرَةٍ وَكَذَلِكَ الصّدَقَاتُ قَبْلَ قَبْضِهَا وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ مَعَ انْتِقَالِهِ إلَى الْمُشْتَرِي وَثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ وَتَعْيِينِهِ لَهُ وَانْقِطَاعِ تَعَلّقِ غَيْرِهِ بِهِ فَالْمَغَانِمُ وَالصّدَقَاتُ قَبِلَ قَبْضِهَا أَوْلَى بِالنّهْيِ . وَأَمّا ضَرْبَةُ الْغَائِصِ فَغَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .

[ بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ ]
وَأَمّا بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ فَإِنْ كَانَ مُعَيّنًا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ لَبَنٍ مَوْصُوفٍ فِي الذّمّةِ فَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مُطْلَقَةٍ مِنْ هَذِهِ الصّبْرَةِ [ ص 737 ] دَلّ عَلَى جَوَازِهِ نَهْيُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُسْلَمَ فِي حَائِطٍ بِعَيْنِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الشّاةِ وَقَدْ صَارَتْ لَبُونًا جَازَ وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إلّا بِكَيْلِ أَوْ وَزْنٍ فَهَذَا إذْنٌ لِبَيْعِهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مُعَيّنًا أَوْ مُطْلَقًا لِأَنّهُ لَمْ يُفْصَلْ وَلَمْ يُشْتَرَطْ سِوَى الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَلَوْ كَانَ التّعْيِينُ شَرْطًا لِذِكْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ بَاعَهُ لَبَنُهَا أَيّامًا مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ . قِيلَ إنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلّا بِكَيْلِ أَوْ وَزْنٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَكَانَ لَبَنُهَا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ بِالْعَادَةِ جَازَ بَيْعُهُ أَيّامًا وَجَرَى حُكْمُهُ بِالْعَادَةِ مَجْرَى كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَمَرّةً يَزِيدُ وَمَرّةً يَنْقُصُ أَوْ يَنْقَطِعُ فَهَذَا غَرَرٌ لَا يَجُوزُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنّ اللّبَنَ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ بِعَلْفِهِ الدّابّةَ كَمَا يَحْدُثُ الْحَبّ عَلَى مِلْكِهِ بِالسّقْيِ فَلَا غَرَرَ فِي ذَلِكَ نَعَمْ إنْ نَقَصَ اللّبَنُ عَنْ الْعَادَةِ أَوْ انْقَطَعَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ أَوْ تَعْطِيلِهَا يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقّ الْفَسْخِ أَوْ يَنْقُصُ عَنْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ " الْمُغْنِي " : إذَا اخْتَارَ الْإِمْسَاكَ لَزِمَتْهُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ لِأَنّهُ رَضِيَ بِالْمَنْفَعَةِ نَاقِصَةً فَلَزِمَهُ جَمِيعُ الْعِوَضِ كَمَا لَوْ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ مَعِيبًا وَالصّحِيحُ أَنّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِأَنّهُ إنّمَا بَذَلَ الْعِوَضَ الْكَامِلَ فِي مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ سَلِيمَةٍ فَإِذَا لَمْ تُسَلّمْ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْعِوَضِ . وَقَوْلُهُمْ إنّهُ رَضِيَ بِالْمَنْفَعَةِ مَعِيبَةً فَهُوَ كَمَا لَوْ رَضِيَ بِالْبَيْعِ مَعِيبًا جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ إنْ رَضِيَ بِهِ مَعِيبًا بِأَنْ يَأْخُذَ أَرْشَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَرِضَاهُ بِالْعَيْبِ مَعَ الْأَرْشِ لَا يُسْقِطُ حَقّهُ . [ ص 738 ] الثّانِي : إنْ قُلْنَا : إنّهُ لَا أَرْشَ لِمُمْسِكِ لَهُ الرّدّ لَمْ يَلْزَمْ سُقُوطُ الْأَرْشِ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ رَدّ الْمَنْفَعَةِ كَمَا قَبَضَهَا وَلِأَنّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي رَدّ بَاقِي الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ لَا يَتَمَكّنُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ لَا يَجِدُ بُدّا مِنْ الْإِمْسَاكِ فَإِلْزَامُهُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ مَعَ الْعَيْبِ الْمُنْقِصِ ظَاهِرًا وَمَنْعُهُ مِنْ اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ إلّا بِالْفَسْخِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَلَا سِيّمَا لِمُسْتَأْجِرِ الزّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ أَوْ مُسْتَأْجِرِ دَابّةٍ لِلسّفَرِ فَتَتَعَيّبُ فِي الطّرِيقِ فَالصّوَابُ أَنّهُ لَا أَرْشَ فِي الْمَبِيعِ لِمُمْسِكِ لَهُ الرّدّ وَأَنّهُ فِي الْإِجَارَةِ لَهُ الْأَرْشُ . وَاَلّذِي يُوَضّحُ هَذَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَكَمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَهِيَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ مُشْتَرِي الثّمَارِ مِنْ الثّمَرَةِ بِقَدْرِ مَا أَذْهَبَتْ عَلَيْهِ الْجَائِحَةُ مِنْ ثَمَرَتِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثّمَنِ وَهَذَا لِأَنّ الثّمَارَ لَمْ تَسْتَكْمِلْ صَلَاحَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَخْذِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَإِنّمَا تُؤْخَذُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُصَرّاةِ خَيّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرّدّ وَبَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِلَا أَرْشٍ وَفِي الثّمَار جَعَلَ لَهُ الْإِمْسَاكَ مَعَ الْأَرْشِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْإِجَارَةُ أَشْبَهُ بِبَيْعِ الثّمَار وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا الشّبَهِ فِي وَضْعِ الشّارِعِ الْجَائِحَةَ قَبْلَ قَبْضِ الثّمَنِ . فَإِنْ قِيلَ فَالْمَنَافِعُ لَا تُوضَعُ فِيهَا الْجَائِحَةُ بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . قِيلَ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الْمَنَافِعِ وَمَنْ ظَنّ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ قَالَ شَيْخُنَا : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْمَبِيعِ كَمَا فِي الثّمَرِ الْمُشْتَرَى بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَلَفِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْعَقْدِ أَوْ فَوَاتِهَا .

وَقَدْ اتّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا تَلَفّتَ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا فَإِنّهُ لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ حَيَوَانًا فَيَمُوتُ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَتَتْلَفُ الصّبْرَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتّمْيِيزِ فَإِنّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِلَا نِزَاعٍ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَتَمَكّنْ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ ازْدِرَاعِ الْأَرْضِ لِآفَةِ حَصَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . [ ص 739 ] فَطَائِفَةٌ أَلْحَقَتْهُ بِالثّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَطَائِفَةٌ فَرّقَتْ وَاَلّذِينَ فَرّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ قَالُوا : الثّمَرَةُ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ وَهُنَا الزّرْعُ لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا وَاَلّذِينَ سَوّوْا بَيْنَهُمَا قَالُوا الْمَقْصُودُ بِالْإِجَارَةِ هُوَ الزّرْعُ فَإِذَا حَالَتْ الْآفَةُ السّمَاوِيّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِجَارَةِ كَأَنْ قَدْ تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَى زَرْعٍ فَقَدْ عَاوَضَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الّتِي يَتَمَكّنُ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ حُصُولِ الزّرْعِ فَإِذَا حَصَلَتْ الْآفَةُ السّمَاوِيّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلزّرْعِ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ حَصَادِهِ لَمْ تَسْلَمْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا بَلْ تَلِفَتْ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فِي أَوّلِ الْمُدّةِ أَوْ فِي آخِرِهَا إذَا لَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْآفَةَ السّمَاوِيّةَ إذَا كَانَتْ بَعْدَ الزّرْعِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ لَا يَتَمَكّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَعَ تِلْكَ الْآفَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدّمِهَا وَتَأَخّرِهَا .

فَصْلٌ [ بَيْعُ الصّوفِ عَلَى الظّهْرِ ]
وَأَمّا بَيْعُ الصّوفِ عَلَى الظّهْرِ فَلَوْ صَحّ هَذَا الْحَدِيثُ بِالنّهْيِ عَنْهُ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَمْ تَسُغْ مُخَالَفَتُهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الرّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ فَمَرّةً مَنَعَهُ وَمَرّةً أَجَازَهُ بِشَرْطِ جَزّهِ فِي الْحَالّ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنّهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالرّطَبَةِ وَمَا يَقْدِرُ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ الْمَوْجُودِ بِالْحَادِثِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ يَزُولُ بِجَزّهِ فِي الْحَالّ وَالْحَادِثُ يَسِيرٌ جِدّا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ هَذَا وَلَوْ قِيلَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ جَزّهِ فِي الْحَالّ وَيَكُونُ كَالرّطَبَةِ الّتِي تُؤْخَذُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِنْ كَانَتْ تَطُولُ فِي زَمَنِ أَخْذِهَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ وَغَايَتُهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ لَمْ يُخْلَقْ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ فَهُوَ كَأَجْزَاءِ الثّمَارِ الّتِي لَمْ تُخْلَقْ فَإِنّهَا تَتْبَعُ الْمَوْجُودَ مِنْهَا فَإِذَا جَعَلَا لِلصّوفِ وَقْتًا مُعَيّنًا يُؤْخَذُ فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الثّمَرَةِ وَقْتَ كَمَالِهَا . وَيُوَضّحُ هَذَا أَنّ الّذِينَ مَنَعُوهُ قَاسُوهُ عَلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَقَالُوا : مُتّصِلٌ - 740 بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَأَعْضَائِهِ وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ لِأَنّ الْأَعْضَاءَ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا مَعَ سَلَامَةِ الْحَيَوَانِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ وَقَدْ سَوّغْتُمْ هَذَا دُونَهُ ؟ قِيلَ اللّبَنُ فِي الضّرْعِ يَخْتَلِطُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ سَرِيعًا فَإِنّ اللّبَنَ سَرِيعُ الْحُدُوثِ كُلّمَا حَلَبَهُ دَرّ بِخِلَافِ الصّوفِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21