كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الْعَبْدِ يُطَلّقُ زَوْجَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ يُعْتَقُ بَعْدَ ذَلِكَ
هَلْ تَحِلّ لَهُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ ؟
[ ص 249 ] مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ أَنّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ عَبّاسٍ فِي مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ عُتِقَا بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم . وَفِي لَفْظٍ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ بَقِيَتْ لَك وَاحِدَةٌ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللّه . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ أَنّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ لِمَعْمَرٍ مَنْ أَبُو حَسَنٍ هَذَا ؟ لَقَدْ تَحَمّلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً انْتَهَى . قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَأَبُو حَسَنٍ هَذَا قَدْ ذُكِرَ بِخَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَقَدْ وَثّقَهُ أَبُو زَرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرّازِيَانِ غَيْرَ أَنّ الرّاوِيَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ مُعَتّبٍ وَقَدْ قَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ . وَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَالزّوْجَةُ فِي حِبَالِهِ مَلَكَ تَمَامَ الثّلَاثِ وَإِنْ عَتَقَ وَقَدْ طَلّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ أَحَدُهَا : أَنّهَا لَا تَحِلّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرُهُ حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنّ الطّلَاقَ بِالرّجَالِ وَأَنّ الْعَبْدَ إنّمَا يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرّةً . وَالثّانِي : أَنّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ مُعَتّبٍ هَذَا وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ [ ص 250 ] ابْنِ عَبّاسٍ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشّافِعِيّةِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ فِقْهٌ دَقِيقٌ فَإِنّهَا إنّمَا حَرّمَتْهَا عَلَيْهِ التّطْلِيقَتَانِ لِنَقْصِهِ بِالرّقّ فَإِذَا عُتِقَ وَهِيَ فِي الْعِدّةِ زَالَ النّقْصُ وَوُجِدَ سَبَبُ مِلْكِ الثّلَاثِ وَآثَارُ النّكَاحِ بَاقِيَةٌ فَمَلَكَ عَلَيْهَا تَمَامَ الثّلَاثِ وَلَهُ رَجْعَتُهَا وَإِنْ عُتِقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدّتِهَا بَانَتْ مِنْهُ وَحَلّتْ لَهُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ فَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِبَعِيدٍ فِي الْقِيَاسِ . وَالثّالِثُ أَنّ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي عِدّتِهَا وَأَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَهَا بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ جَمِيعِهِمْ فَإِنّ عِنْدَهُمْ أَنّ الْعَبْدَ وَالْحُرّ فِي الطّلَاقِ سَوَاءٌ . وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ عَبْدًا لَهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَأَمَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَأَبَى فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ هِيَ لَك فَاسْتَحِلّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَالْقَوْلُ الرّابِعُ أَنّ زَوْجَتَهُ إنْ كَانَتْ حُرّةً مَلَكَ عَلَيْهَا تَمَامَ الثّلَاثِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنّ طَلَاقَ الْعَبْدِ وَالْحُرّ سَوَاءٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ جَمِيعِهِمْ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَاحْتَجّوا بِعُمُومِ النّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الطّلَاقِ وَإِطْلَاقِهَا وَعَدَمِ تَفْرِيقِهَا بَيْنَ حُرّ وَعَبْدٍ وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى التّفْرِيقِ فَقَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَفْتَى غُلَامًا لَهُ بِرَجْعَةِ زَوْجَتِهِ بَعْدَ طُلَقَتَيْنِ وَكَانَتْ أَمَةً . وَفِي هَذَا النّقْلِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَظَرٌ فَإِنّ عَبْدَ الرّزّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنّ أَبَا مَعْبَدٍ أَخْبَرَهُ أَنّ عَبْدًا كَانَ لِابْنِ عَبّاسٍ وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَارِيَةٌ لِابْنِ عَبّاسٍ فَطَلّقَهَا فَبَتّهَا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ لَا طَلَاقَ لَك فَارْجِعْهَا . [ ص 251 ] قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ أَنّ الْعَبْدَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَا تَرْجِعْ إلَيْهَا وَإِنْ ضُرِبَ رَأْسُكَ .

فَمَأْخَذُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنّ طَلَاقَ الْعَبْدِ بِيَدِ سَيّدِهِ كَمَا أَنّ نِكَاحَهُ بِيَدِهِ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزْرِيّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَيْسَ طَلَاقُ الْعَبْدِ وَلَا فُرْقَتُهُ بِشَيْءٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ سَيّدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُفَرّقُ وَ هَذَا قَوْلُ أَبِي الشّعْثَاءِ وَقَالَ الشّعْبِيّ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ لِلْعَبْدِ طَلَاقًا إلّا بِإِذْنِ سَيّدِهِ فَهَذَا مَأْخَذُ ابْنِ عَبّاسٍ لَا أَنّهُ يَرَى طَلَاقَ الْعَبْدِ ثَلَاثًا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الصّحَابَةِ قَالَ بِذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ أَيّ الزّوْجَيْنِ رُقّ كَانَ الطّلَاقُ بِسَبَبِ رِقّهِ اثْنَتَيْنِ كَمَا رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ الْحُرّ يُطَلّقُ الْأَمَةَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدّ بِحَيْضَتَيْنِ وَالْعَبْدُ يُطَلّقُ الْحُرّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتّيّ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ أَنّ الطّلَاقَ بِالرّجَالِ فَيَمْلِكُ الْحُرّ ثَلَاثًا . وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً وَالْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرّةً وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ أُمّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزّنَادِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ الْمُسَيّبِ وَعَطَاءٍ . [ ص 252 ] بِالنّسَاءِ كَالْعِدّةِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوّارٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . السّنّةُ الطّلَاقُ وَالْعِدّةُ بِالنّسَاءِ وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ : عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ عِيسَى عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ صَحَابَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : الطّلَاقُ وَالْعِدّةُ بِالْمَرْأَة هَذَا لَفْظُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشّعْبِيّ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالثّوْرِيّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ قِيلَ قَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْعُودٍ حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَان وَرَوَى زَكَرِيّا بْنُ يَحْيَى السّاجِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيّ حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُسْلِيّ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عِيسَى عَنْ عَطِيّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدّتُهَا حَيْضَتَانِ [ ص 253 ] وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ كَتَبَ إلَيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِعٍ عَن أُمّ سَلَمَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّ غُلَامًا لَهَا طَلّقَ امْرَأَةً لَهُ حُرّةً تَطْلِيقَتَيْنِ فَاسْتَفْتَتْ أُمّ سَلَمَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ مُعَتّبٍ عَنْ أَبِي حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرُ هَذِهِ الْآثَارِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى عُجَرِهَا وَبُجَرِهَا . أَمّا الْأَوّلُ فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : هُوَ حَدِيثٌ مَجْهُولٌ وَقَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُظَاهِرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْعِلْمِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " أَطْرَافِه ِ " بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبِيهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ الْأَمِيرِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا هَذَا وَقَالَا لَهُ إنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . قَالَ الْحَافِظُ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ . وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النّبِيلُ : مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ مَعَ أَنّهُ لَا يُعْرَفُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَقُلْنَا بِهِ إلّا أَنّا لَا نُثْبِتُ حَدِيثًا يَرْوِيهِ مَنْ نَجْهَلُ عَدَالَتَهُ . وَأَمّا الْأَثَرُ الثّانِي : فَفِيهِ عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُسْلِيّ ضَعِيفٌ وَفِيهِ عَطِيّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا . وَأَمّا الْأَثَرُ الثّالِثُ فَفِيهِ ابْنُ سَمْعَانَ الْكَذّابُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ مَجْهُولٌ . [ ص 254 ] وَاَلّذِي سَلِمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآثَارُ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَالْقِيَاسُ . أَمّا الْآثَارُ فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَقَدّمَ فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ بَقِيَ الْقِيَاسُ وَتَجَاذَبَهُ طَرَفَانِ طَرَفُ الْمُطَلّقِ وَطَرَفُ الْمُطَلّقَةِ . فَمَنْ رَاعَى طَرَفَ الْمُطَلّقِ قَالَ هُوَ الّذِي يَمْلِكُ الطّلَاقَ وَهُوَ بِيَدِهِ فَيَتَنَصّفُ بِرِقّهِ كَمَا يَتَنَصّفُ نِصَابُ الْمَنْكُوحَاتِ بِرِقّهِ وَمَنْ رَاعَى طَرَفَ الْمُطَلّقَةِ قَالَ الطّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُهَا الْعِدّةُ وَالتّحْرِيمُ وَتَوَابِعُهَا فَتَنَصّفَ بِرِقّهَا كَالْعِدّةِ وَمَنْ نَصّفَ بِرِقّهَا كَالْعِدّةِ وَمَنْ نَصّفَ بِرِقّ أَيّ الزّوْجَيْنِ كَانَ رَاعَى الْأَمْرَيْنِ وَأَعْمَلَ الشّبَهَيْنِ وَمَنْ كَمّلَهُ وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا رَأَى أَنّ الْآثَارَ لَمْ تَثْبُتْ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الصّحَابَةِ مُتَعَارِضٌ وَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَتَعَلّقْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَمَسّكَ بِإِطْلَاقِ النّصُوصِ الدّالّةِ عَلَى أَنّ الطّلَاقَ الرّجْعِيّ طَلْقَتَانِ وَلَمْ يُفَرّقْ اللّهُ بَيْنَ حُرّ وَعَبْدٍ وَلَا بَيْنَ حُرّةٍ وَأَمَةٍ { وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّا } قَالُوا : وَالْحِكْمَةُ الّتِي لِأَجْلِهَا جُعِلَ الطّلَاقُ الرّجْعِيّ اثْنَتَيْنِ فِي الْحُرّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ قَالُوا : وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا كَالْحُرّ لِأَنّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْحُرّ وَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ أَجَلُهُ فِي الْإِيلَاءِ كَأَجَلِ الْحُرّ لِأَنّ ضَرَرَ الزّوْجَةِ فِي الصّورَتَيْنِ سَوَاءٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنّ طَلَاقَهُ وَطَلَاقَ الْحُرّ سَوَاءٌ إذَا كَانَتْ امْرَأَتَاهُمَا حُرّتَيْنِ إعْمَالًا لِإِطْلَاقِ نُصُوصِ الطّلَاقِ وَعُمُومِهَا لِلْحُرّ وَالْعَبْدِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنّاسُ مَعَهُ صِيَامُهُ فِي الْكَفّارَاتِ كُلّهَا وَصِيَامُ الْحُرّ سَوَاءٌ وَحَدّهُ فِي السّرِقَةِ وَالشّرَابِ وَحَدّ الْحُرّ سَوَاءٌ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ أَوْ بَعْضُهَا ثَابِتًا لَمَا سَبَقْتُمُونَا إلَيْهِ وَلَا غَلَبْتُمُونَا عَلَيْهِ وَلَوْ اتّفَقْت آثَارُ الصّحَابَةِ لَمْ نَعْدُهَا إلَى غَيْرِهَا فَإِنّ الْحَقّ لَا يَعْدُوهُمْ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ الطّلَاقَ بِيَدِ الزّوْجِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ } [ ص 255 ] وَقَالَ { وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } [ الْبَقَرَةُ 231 ] فَجَعَلَ الطّلَاقَ لِمَنْ نَكَحَ لِأَنّ لَهُ الْإِمْسَاكَ وَهُوَ الرّجْعَةُ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ سَيّدِي زَوّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا . قَالَ فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمَا إنّمَا الطّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسّاق وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ طَلَاقُ الْعَبْدِ بِيَدِ سَيّدِهِ إنْ طَلّقَ جَازَ وَإِنْ فَرّقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَا لَهُ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ وَالْأَمَةُ لِغَيْرِهِ طَلّقَ السّيّدُ أَيْضًا إنْ شَاءَ وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ لَيْسَ طَلَاقُ الْعَبْدِ وَلَا فُرْقَتُهُ بِشَيْءٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ سَيّدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُفَرّقُ وَقَضَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَقّ أَنْ يُتّبَعَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا الْمُتَقَدّمُ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ مَا فِيهِ فَالْقُرْآنُ يُعَضّدُهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النّاسِ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِيمَنْ طَلّقَ دُونَ الثّلَاثِ ثُمّ رَاجَعَهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَنّهَا عَلَى بَقِيّةِ الطّلَاقِ
ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَمِعَ نَبِيهَ بْنَ وَهْبٍ [ ص 256 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَن رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى فِي الْمَرْأَةِ يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا دُونَ الثّلَاثِ ثُمّ يَرْتَجِعُهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَنّهَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الطّلَاقِ . وَهَذَا الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعِيفٌ وَمَجْهُولٌ فَعَلَيْهِ أَكَابِرُ الصّحَابَةِ كَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ كُلّهُمْ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَقُولُ أَيّمَا امْرَأَةٍ طَلّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ تَرَكَهَا حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلّقَهَا ثُمّ يَنْكِحُهَا زَوْجُهَا الْأَوّلُ فَإِنّهَا عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا . وَعَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ مِثْلُهُ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ تَعُودُ عَلَى الثّلَاثِ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : نِكَاحٌ جَدِيدٌ وَطَلَاقٌ جَدِيدٌ . وَذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِيهِمْ أَحْمَد وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَذَهَبَ إلَى الثّانِي أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا إذَا أَصَابَهَا الثّانِي فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا فَهِيَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَالَ النّخْعِيّ لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا اخْتِلَافًا وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ [ ص 257 ] لَكَانَ فَصْلَ النّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ اتّفَقَتْ آثَارُ الصّحَابَةِ لَكَانَتْ فَصْلًا أَيْضًا . وَأَمّا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ فَمُتَجَاذَبٌ فَإِنّ الزّوْجَ الثّانِيَ إذَا هَدَمَتْ إصَابَتُهُ الثّلَاثَ وَأَعَادَتْهَا إلَى الْأَوّلِ بِطَلَاقٍ جَدِيدٍ فَمَا دُونَهَا أَوْلَى وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ يَقُولُونَ لَمّا كَانَتْ إصَابَةُ الثّانِي شَرْطًا فِي حِلّ الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا لِلْأَوّلِ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ هَدْمِهَا وَإِعَادَتِهَا عَلَى طَلَاقٍ جَدِيدٍ وَأَمّا مَنْ طَلُقَتْ دُونَ الثّلَاثِ فَلَمْ تُصَادِفْ إصَابَةُ الثّانِي فِيهَا تَحْرِيمًا يُزِيلُهُ وَلَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْحِلّ لِلْأَوّلِ فَلَمْ تَهْدِمْ شَيْئًا فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا بِالنّسْبَةِ إلَى الْأَوّلِ وَإِحْلَالهَا لَهُ فَعَادَتْ عَلَى مَا بَقِيَ كَمَا لَوْ لَمْ يُصِبْهَا فَإِنّ إصَابَتَهُ لَا أَثَرَ لَهَا الْبَتّةَ وَلَا نِكَاحَهُ وَطَلَاقُهُ مُعَلّقٌ بِهَا بِوَجْهٍ مَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ .
حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا
لَا تَحِلّ لِلْأَوّلِ حَتّى يَطَأَهَا الزّوْجُ
الثّانِي ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيّ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ رِفَاعَةَ طَلّقَنِي فَبَتّ طَلَاقِي وَإِنّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الزّبَيْرِ الْقُرَظِيّ وَإِنّ مَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَلّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ . لَا حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك . وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعُسَيْلَةُ الْجِمَاعُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ . [ ص 258 ] ابْنِ عُمَرَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَيَتَزَوّجُهَا الرّجُلُ فَيُغْلِقُ الْبَابَ وَيُرْخِي السّتْرَ ثُمّ يُطَلّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ؟ قَالَ لَا تَحِلّ لِلْأَوّلِ حَتّى يُجَامِعَهَا الْآخَرُ . فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أُمُورًا : أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى الرّجُلِ أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا . الثّانِي : أَنّ إصَابَةَ الزّوْجِ الثّانِي شَرْطٌ فِي حِلّهَا لِلْأَوّلِ خِلَافًا لِمَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ الْعَقْدِ فَإِنّ قَوْلَهُ مَرْدُودٌ بِالسّنّةِ الّتِي لَا مَرَدّ لَهَا . الثّالِثُ أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ بَلْ يَكْفِي مُجَرّدُ الْجِمَاعِ الّذِي هُوَ ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ . الرّابِعُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَجْعَلْ مُجَرّدَ الْعَقْدِ الْمَقْصُودِ الّذِي هُوَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ كَافِيًا وَلَا اتّصَالَ الْخَلْوَةِ بِهِ وَإِغْلَاقَ الْأَبْوَابِ وَإِرْخَاءَ السّتُورِ حَتّى يَتّصِلَ بِهِ الْوَطْءُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا يَكْفِي مُجَرّدُ عَقْدِ التّحْلِيلِ الّذِي لَا غَرَضَ لِلزّوْجِ وَالزّوْجَةِ فِيهِ سِوَى صُورَةِ الْعَقْدِ وَإِحْلَالِهَا لِلْأَوّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنّهُ إذَا كَانَ عَقْدُ الرّغْبَةِ الْمَقْصُودُ لِلدّوَامِ غَيْرَ كَافٍ حَتّى يُوجَدَ فِيهِ الْوَطْءُ فَكَيْفَ يَكْفِي عَقْدُ تَيْسٍ مُسْتَعَارٍ لِيُحِلّهَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي إمْسَاكِهَا وَإِنّمَا هُوَ عَارِيَةٌ كَحِمَارِ الْعَشْرِيّيْنِ الْمُسْتَعَارِ لِلضّرَابِ ؟ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَرْأَةِ تُقِيمُ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى طَلَاقِ زَوْجِهَا وَالزّوْجُ مُنْكِرٌ
[ ص 259 ] ذَكَرَ ابْنُ وَضّاحٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ زَوْجِهَا فَجَاءَتْ عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلٍ اُسْتُحْلِفَ زَوْجُهَا فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ عَنْهُ شَهَادَةُ الشّاهِدِ وَإِنْ نَكَلَ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ وَجَازَ طَلَاقُهُ فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الشّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي الطّلَاقِ وَلَا مَعَ يَمِينِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشّاهِدُ وَالْيَمِينُ إنّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصّةً لَا يَقَعُ فِي حَدّ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا إعْتَاقٍ وَلَا سَرِقَةٍ وَلَا قَتْلٍ . وَقَدْ نَصّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عَلَى أَنّ الْعَبْدَ إذَا ادّعَى أَنّ سَيّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَتَى بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَصَارَ حُرّا وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيّ وَنَصّ أَحْمَدُ فِي شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ ادّعَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقّهُ مِنْهُ وَكَانَا مُعْسِرَيْنِ عَدْلَيْنِ فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَصِيرَ حُرّا وَيَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَصِيرَ نِصْفُهُ حُرّا وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ عَنْهُ أَنّ الطّلَاقَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَقَدْ دَلّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا عَلَى أَنّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَنُكُولِ الزّوْجِ وَهُوَ الصّوَابُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فَإِنّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَئِمّةِ الْإِسْلَامِ إلّا مَنْ احْتَجّ بِهِ وَبَنَى عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمّدٍ الرّاوِي عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ثِقَةٌ مُحْتَجّ بِهِ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ أَبُو حَفْصٍ التّنِيسِيّ مُحْتَجّ بِهِ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا فَمَنْ احْتَجّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ . فَهَذَا مِنْ أَصَحّ حَدِيثِهِ . [ ص 260 ] الثّانِي : أَنّ الزّوْجَ يُسْتَحْلَفُ فِي دَعْوَى الطّلَاقِ إذَا لَمْ تُقِمْ الْمَرْأَةُ بِهِ بَيّنَةً لَكِنْ إنّمَا اسْتَحْلَفَهُ مَعَ قُوّةِ جَانِبِ الدّعْوَى بِالشّاهِدِ . الثّالِثُ أَنّهُ يُحْكَمُ فِي الطّلَاقِ بِشَاهِدٍ وَنُكُولِ الْمُدّعَى عَلَيْهِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ بِمُجَرّدِ النّكُولِ مِنْ غَيْرِ شَاهِدٍ فَإِذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا الطّلَاقَ وَأَحْلَفْنَاهُ لَهَا فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ فَنَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ فَإِذَا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا وَلَمْ يَحْلِفْ الزّوْجُ عَلَى عَدَمِ دَعْوَاهَا فَالْقَضَاءُ بِالنّكُولِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصّورَةِ أَقْوَى . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى الزّوْجِ بِالنّكُولِ إلّا إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدًا وَاحِدًا كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَنّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمُجَرّدِ دَعْوَاهَا مَعَ نُكُولِهِ لَكِنْ مَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِهِ يَقُولُ النّكُولُ إمّا إقْرَارٌ وَإِمّا بَيّنَةٌ وَكِلَاهُمَا يُحْكَمُ بِهِ وَلَكِنْ يَنْتَقِضُ هَذَا عَلَيْهِ بِالنّكُولِ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَيُجَابُ بِأَنّ النّكُولَ بَدَلٌ اُسْتُغْنِيَ بِهِ فِيمَا يُبَاحُ بِالْبَدَلِ وَهُوَ الْأَمْوَالُ وَحُقُوقُهَا دُونَ النّكَاحِ وَتَوَابِعُهُ . الرّابِعُ أَنّ النّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيّنَةِ فَلَمّا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا وَهُوَ شَطْرُ الْبَيّنَةِ كَانَ النّكُولُ قَائِمًا مَقَامَ تَمَامِهَا . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَذَاهِبَ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَلّابِ فِي " تَفْرِيعِهِ " : وَإِذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ الطّلَاقَ عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يُحَلّفْ بِدَعْوَاهَا فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ تُحَلّفْ مَعَ شَاهِدِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ الطّلَاقُ عَلَى زَوْجِهَا وَهَذَا الّذِي قَالَهُ لَا يُعْلَمُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ . قَالَ وَلَكِنْ يَحْلِفُ لَهَا زَوْجُهَا فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنْ دَعْوَاهَا . قُلْتُ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إحْدَاهُمَا : أَنّهُ يَحْلِفُ لِدَعْوَاهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي [ ص 261 ] وَالثّانِيَةُ لَا يَحْلِفُ . فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَحْلِفُ فَلَا إشْكَالَ . وَإِنْ قُلْنَا : يَحْلِفُ فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِالنّكُولِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ إحْدَاهُمَا : أَنّهَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالشّاهِدِ وَالنّكُولِ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَشْهُبَ هَذَا فِيهِ غَايَةُ الْقُوّةِ لِأَنّ الشّاهِدَ وَالنّكُولِ سَبَبَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَقَوِيَ جَانِبُ الْمُدّعِي بِهِمَا فَحُكِمَ لَهُ فَهَذَا مُقْتَضَى الْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ . وَالرّوَايَةُ الثّانِيَةُ عَنْهُ أَنّ الزّوْجَ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ تُرِكَ . وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَلْ يُقْضَى بِالنّكُولِ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ الطّلَاقَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَلَا أَثَرَ عِنْدَهُ لِإِقَامَةِ الشّاهِدِ الْوَاحِدِ بَلْ إذَا ادّعَتْ عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي اسْتِحْلَافِهِ فَإِنْ قُلْنَا : لَا يُسْتَحْلَفُ لَمْ يَكُنْ لِدَعْوَاهَا أَثَرٌ وَإِنْ قُلْنَا : يُسْتَحْلَفُ فَأَبَى فَهَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالطّلَاقِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِالنّكُولِ وَهَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَيّنَةِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ؟ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَبَيْنَ مُفَارَقَتِهِنّ لَهُ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمّا أُمِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ إنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَلّا تَعْجَلِي حَتَى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ . قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنّ أَبَوَيّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ثُمّ قَرَأَ { يَا أَيّهَا النّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنّ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الْأَحْزَابُ 28 ] فَقُلْتُ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيّ ؟ فَإِنّي أُرِيدُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا [ ص 262 ] قَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ : فَاخْتَارَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ نَفْسَهَا فَذَهَبَتْ وَكَانَتْ الْبَتّةَ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانَتْ بَدَوِيّةً . قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : وَهِيَ ابْنَةُ الضّحّاكِ الْعَامِرِيّةُ رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا . انْتَهَى . وَقِيلَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَكَانَتْ تَلْتَقِطُ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَعْرَ وَتَقُولُ أَنَا الشّقِيّةُ . وَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَا التّخْيِيرِ فِي مَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : فِي أَيّ شَيْءٍ كَانَ ؟ وَالثّانِي : فِي حُكْمِهِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَاَلّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنّهُ كَانَ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالْفِرَاقِ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ الْحَسَنِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى إنّمَا خَيّرَهُنّ بَيْنَ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يُخَيّرْهُنّ فِي الطّلَاقِ وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ وَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرُدّ قَوْلَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ خَيّرَهُنّ بَيْنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا وَجَعَلَ مُوجَبَ اخْتِيَارِهِنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ الْمُقَامَ مَعَ رَسُولِهِ وَمُوجَبُ اخْتِيَارِهِنّ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا أَنْ يُمَتّعَهُنّ وَيُسَرّحَهُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَهُوَ الطّلَاقُ بِلَا شَكّ وَلَا نِزَاعٍ .
[ كَانَ التّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالْفِرَاقِ ]
وَأَمّا اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِهِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : فِي حُكْمِ اخْتِيَارِ الزّوْجِ وَالثّانِي : فِي حُكْمِ اخْتِيَارِ النّفْسِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَاَلّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِ النّبِيّ وَنِسَاؤُهُ كُلّهُنّ وَمُعْظَمُ الْأُمّةِ أَنّ مَنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ تَطْلُق وَلَا يَكُونُ التّخْيِيرُ بِمُجَرّدِهِ طَلَاقًا صَحّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ خَيّرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ نَعُدّهُ طَلَاقًا وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ وَقَرِيبَةِ أُخْتِهَا وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَصَحّ عَنْ عَلِيّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهَا عَنْهُ [ ص 263 ] قَالَ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرّجْعَةَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ انْفَرَدَ بِهَذَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ . قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : وَوَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ التّخْيِيرَ كِنَايَةٌ نَوَى بِهَا الطّلَاقَ فَوَقَعَ بِمُجَرّدِهَا كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ وَهَذَا هُوَ الّذِي صَرّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَالْحَقّ مَعَهَا بِإِنْكَارِهِ وَرَدّهِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا اخْتَارَهُ أَزْوَاجُهُ لَمْ يَقُلْ وَقَعَ بِكُنّ طَلْقَةٌ وَلَمْ يُرَاجِعْهُنّ وَهِيَ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِشَأْنِ التّخْيِيرِ وَقَدْ صَحّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَفِي لَفْظٍ لَمْ نَعُدّهُ طَلَاقًا وَفِي لَفْظٍ خَيّرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا ؟ . وَاَلّذِي لَحَظَهُ مَنْ قَالَ إنّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ أَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا إلّا وَقَدْ طَلُقَتْ فَالتّمْلِيكُ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ الطّلَاقِ وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى مُقَدّمَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : أَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ . وَالثّانِيَةُ أَنّ التّمْلِيكَ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطّلَاقِ وَكِلَا الْمُقَدّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ فَلَيْسَ التّخْيِيرُ بِتَمْلِيكٍ وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُقُوعَ الطّلَاقِ قَبْلَ إيقَاعِ مَنْ مَلَكَهُ فَإِنّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ تَمْلِكَهُ الزّوْجَةُ كَمَا كَانَ الزّوْجُ يَمْلِكُهُ فَلَا يَقَعُ بِدُونِ إيقَاعِ مَنْ مَلَكَهُ وَلَوْ صَحّ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ بَائِنًا لِأَنّ الرّجْعِيّةَ لَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا .

[هَلْ التّخْيِيرُ يَسْتَلْزِمُ الطّلَاقَ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التّخْيِيرِ هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ تَوْكِيلٌ أَوْ بَعْضُهُ تَمْلِيكٌ وَبَعْضُهُ تَوْكِيلٌ أَوْ هُوَ تَطْلِيقٌ مُنَجّزٌ أَوْ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتّةَ ؟ عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ . التّفْرِيقُ هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ . قَالَ أَبُو الْخَطّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " : هُوَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " فِيهِ إذَا قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِك أَوْ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَبِلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنّ " أَمْرُك بِيَدِك " تَوْكِيلٌ فَقَوْلُهَا فِي جَوَابِهِ قَبِلْتُ يَنْصَرِفُ إلَى قَبُولِ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيّةٍ أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك فَقَالَتْ قَبِلْت وَقَوْلُهُ اخْتَارِي : فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ [ ص 264 ] قَالَتْ أَخَذَتْ أَمْرِي دَخَلَ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ قَبِلْت لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتّى يَتَبَيّنَ وَقَالَ إذَا قَالَتْ أَخَذْتُ أَمْرِي لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَبِلْتُ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ أَبْيَنَ . انْتَهَى . وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ " اخْتَارِي " وَبَيْنَ " أَمْرُك بِيَدِكِ " فَجَعَلَ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " تَمْلِيكًا و " اخْتَارِي " تَخْيِيرًا لَا تَمْلِيكًا . قَالَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ تَوْكِيلٌ . وَلِلشّافِعِيّ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّهُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ الصّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ .
وَالثّانِي : أَنّهُ تَوْكِيلٌ وَهُوَ الْقَدِيمُ . وَقَالَتْ الْحَنَفِيّةُ تَمْلِيكٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ هُوَ تَطْلِيقٌ تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ مُنَجّزَةٌ وَلَهُ رَجْعَتُهَا وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ . وَقَالَ أَهْلُ الظّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَلَا أَثَرَ لِلتّخْيِيرِ فِي وُقُوعِ الطّلَاقِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَآخِذَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا .

[حُجَجُ مَنْ قَالَ بِأَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ ]
قَالَ أَصْحَابُ التّمْلِيكِ لَمّا كَانَ الْبُضْعُ يَعُودُ إلَيْهَا بَعْدَ مَا كَانَ لِلزّوْجِ كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ التّمْلِيكِ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَالتّوْكِيلُ يَسْتَلْزِمُ أَهْلِيّةَ الْوَكِيلِ لِمُبَاشَرَةِ مَا وُكّلَ فِيهِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِإِيقَاعِ الطّلَاقِ وَلِهَذَا لَوْ وَكّلَ امْرَأَةً فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَصِحّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنّهَا لَا تُبَاشِرُ الطّلَاقَ وَاَلّذِينَ صَحّحُوهُ قَالُوا : كَمَا يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ رَجُلًا فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ امْرَأَةً فِي طَلَاقِهَا .
[حُجَجُ مَنْ قَالَ بِأَنّهُ تَوْكِيلٌ ]
قَالُوا : وَأَيْضًا فَالتّوْكِيلُ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ هَا هُنَا فَإِنّ الْوَكِيلَ هُوَ الّذِي يَتَصَرّفُ لِمُوَكّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَالْمَرْأَةُ هَا هُنَا إنّمَا تَتَصَرّفُ لِنَفْسِهَا وَلِحَظّهَا وَهَذَا يُنَافِي تَصَرّفَ الْوَكِيلِ . قَالَ أَصْحَابُ التّوْكِيلِ وَاللّفْظُ لِصَاحِبِ " الْمُغْنِي " : وَقَوْلُهُمْ إنّهُ تَوْكِيلٌ لَا يَصِحّ فَإِنّ الطّلَاقَ لَا يَصِحّ تَمْلِيكُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ الزّوْجِ وَإِنّمَا يَنُوبُ فِيهِ غَيْرُهُ [ ص 265 ] كَانَ تَوْكِيلًا لَا غَيْرَ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكَانَ مُقْتَضَاهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إلَيْهَا فِي بُضْعِهَا وَهُوَ مُحَالٌ فَإِنّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لِلزّوْجِ وَلَوْ مَلَكَ الْبُضْعَ لَمَلَكَ عِوَضَهُ كَمَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ عَيْنٍ كَانَ عِوَضَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً لِلطّلَاقِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى الزّوْجُ مَالِكًا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشّيْءِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكًا لِمَالِكَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَالزّوْجُ مَالِكٌ لِلطّلَاقِ بَعْدَ التّخْيِيرِ فَلَا تَكُونُ هِيَ مَالِكَةَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا : هُوَ تَوْكِيلٌ وَاسْتِنَابَةٌ كَانَ الزّوْجُ مَالِكًا وَهِيَ نَائِبَةٌ وَوَكِيلَةٌ عَنْهُ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلّقِي نَفْسَك ثُمّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلّقَ فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا حَنِثَ فَدَلّ عَلَى أَنّهَا نَائِبَةٌ عَنْهُ وَأَنّهُ هُوَ الْمُطَلّقُ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَقَوْلُكُمْ إنّهُ تَمْلِيكٌ إمّا أَنْ تُرِيدُوا بِهِ أَنّهُ مَلّكَهَا نَفْسَهَا أَوْ أَنّهُ مَلّكَهَا أَنْ تُطَلّقَ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوّلَ لَزِمَكُمْ أَنْ يَقَعَ الطّلَاقُ بِمُجَرّدِ قَوْلِهَا : قَبِلْت لِأَنّهُ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي خُرُوجَ بُضْعِهَا عَنْ مِلْكِهِ وَاتّصَلَ بِهِ الْقَبُولُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ الثّانِيَ فَهُوَ مَعْنَى التّوْكِيلِ . وَإِنْ غُيّرَتْ الْعِبَارَةُ .

[حُجَجُ الْمُفَرّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ صُوَرِ التّخْيِيرِ وَبَعْضٍ ]
قَالَ الْمُفَرّقُونَ بَيْنَ بَعْضِ صُوَرِهِ وَبَعْضٍ - وَهُمْ أَصْحَابُ مَالِكٍ - إذَا قَالَ لَهَا : أَمْرُكِ بِيَدِك أَوْ جَعَلْت أَمْرَك إلَيْك أَوْ مَلّكْتُك أَمْرَك فَذَاكَ تَمْلِيكٌ . وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي فَهُوَ تَخْيِيرٌ قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا . أَمّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنّ " اخْتَارِي " لَمْ يَتَضَمّنْ أَكْثَرَ مِنْ تَخْيِيرِهَا لَمْ يُمَلّكْهَا نَفْسَهَا وَإِنّمَا خَيّرَهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِنّهُ لَا يَكُونُ بِيَدِهَا إلّا وَهِيَ مَالِكَتُهُ وَأَمّا الْحُكْمُ فَلِأَنّهُ إذَا قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك وَقَالَ أَرَدْتُ بِهِ وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ وَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ وَاحِدَةً إلّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إرَادَتِهِ الْوَاحِدَةِ . قَالُوا : لِأَنّ التّخْيِيرَ يَقْتَضِي أَنّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَلَا يَحْصُلَ لَهَا ذَلِكَ إلّا بِالْبَيْنُونَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا لَمْ تَبِنْ إلّا [ ص 266 ] بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِنّهُ لَا يَقْتَضِي تَخْيِيرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَلْ تَمْلِيكَهَا أَمْرَهَا وَهُوَ أَعَمّ مِنْ تَمْلِيكِهَا الْإِبَانَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدّتُهَا فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَحَدَ مُحْتَمَلَيْهِ قُبِلَ قَوْلُهُ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَرُدّ عَلَيْهِمْ فِي " اخْتَارِي " فَإِنّهُ أَعَمّ مِنْ أَنْ تَخْتَارَ الْبَيْنُونَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدّتُهَا بَلْ " أَمْرُك بِيَدِك " أَصْرَحُ فِي تَمْلِيكِ الثّلَاثِ مِنْ " اخْتَارِي " لِأَنّهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إلَيْهِ فَيَعُمّ جَمِيعَ أَمْرِهَا . بِخِلَافِ " اخْتَارِي " فَإِنّهُ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الثّلَاثُ ؟ وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنّهُ قَالَ فِي اخْتَارِي : إنّهُ لَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ إلّا بِنِيّةِ الزّوْجِ وَنَصّ فِي " أَمْرُك بِيَدِك وَطَلَاقُك بِيَدِك وَوَكّلْتُك فِي الطّلَاقِ " : عَلَى أَنّهَا تَمْلِكُ بِهِ الثّلَاثَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنّهَا لَا تَمْلِكُهَا إلّا بِنِيّتِهِ .
[حُجّةُ مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجّزًا ]
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجّزًا فَقَدْ تَقَدّمَ وَجْهُ قَوْلِهِ وَضَعْفُهُ .

[حُجَجُ مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا ]
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الطّلَاقَ لَمْ يَجْعَلْهُ اللّهُ بِيَدِ النّسَاءِ إنّمَا جَعَلَهُ بِيَدِ الرّجَالِ وَلَا يَتَغَيّرُ شَرْعُ اللّهِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نَقْلَ الطّلَاقِ إلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللّهُ إلَيْهِ الطّلَاقَ الْبَتّةَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ : حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيّاشٍ حَدّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ أَنّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ إنْ أَدْخَلْت هَذَا الْعِدْلَ إلَى هَذَا الْبَيْتِ فَأَمْرُ صَاحِبَتِك بِيَدِك فَأَدْخَلَتْهُ ثُمّ قَالَتْ هِيَ طَالِقٌ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَبَانَهَا مِنْهُ فَمَرّوا بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرُوهُ فَذَهَبَ بِهِمْ إلَى عُمَرَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الرّجَالَ قَوّامِينَ عَلَى النّسَاءِ وَلَمْ يَجْعَلْ النّسَاءَ قَوّامَاتٍ عَلَى الرّجَالِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَمَا تَرَى ؟ قَالَ أَرَاهَا امْرَأَتَهُ . قَالَ وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً قُلْت : يَحْتَمِلُ أَنّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ الزّوْجِ فَأَمْرُ صَاحِبَتِك بِيَدِك وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ وَيُحْتَمَلُ أَنّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ ضُرّتِهَا : هِيَ طَالِقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ [ ص 267 ] لِلضّرّةِ إبَانَتَهَا لِئَلّا تَكُونَ هِيَ الْقَوّامَةَ عَلَى الزّوْجِ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بَلْ هُوَ حُجّةٌ عَلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ الْغَفّارِ - بْنُ دَاوُدَ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنّ رُمَيْثَةَ الْفَارِسِيّةَ كَانَتْ تَحْتَ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَمَلّكَهَا أَمْرَهَا فَقَالَتْ أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ : أَخْطَأْت لَا طَلَاقَ لَهَا لِأَنّ الْمَرْأَةَ لَا تُطَلّقُ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدُلّ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ لِأَنّهُ إنّمَا لَمْ يُوقِعْ الطّلَاقَ لِأَنّهَا أَضَافَتْهُ إلَى غَيْرِ مَحَلّهِ وَهُوَ الزّوْجُ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ أَنَا مِنْك طَالِقٌ وَهَذَا نَظِيرُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهَ عَنْهُمَا فَقَالَ مَلّكْتُ امْرَأَتِي أَمْرَهَا فَطَلّقَتْنِي ثَلَاثًا فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا إنّمَا الطّلَاقُ لَك عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْك قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الرّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِك ؟ فَقَالَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ قُلْت : فَإِنْ قَالَتْ قَدْ طَلّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا قَالَ الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ . قُلْت : فَإِنْ قَالَتْ طَلّقْتُك ثَلَاثًا قَالَ الْمَرْأَةُ لَا تُطَلّق وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا : خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا وَرَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ فِي يَدِهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلّقْتُك ثَلَاثًا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا أَفَلَا طَلّقَتْ نَفْسَهَا قَالَ أَحْمَد ُ صَحّفَ أَبُو مَطَرٍ فَقَالَ " خَطّأَ اللّهُ فُوهَا " وَلَكِنْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ طَاوُوسٍ كَيْفَ كَانَ أَبُوك يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا أَتَمْلِكُ أَنْ تُطَلّقَ نَفْسَهَا أَمْ لَا ؟ قَالَ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ إلَى النّسَاءِ طَلَاقٌ فَقُلْت لَهُ فَكَيْفَ كَانَ أَبُوك يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ أَيَمْلِكُ الرّجُلُ أَنْ يُطَلّقَهَا ؟ قَالَ لَا [ ص 268 ] أَمْرَهَا لَغْوٌ وَكَذَلِكَ تَوْكِيلُهُ غَيْرَهُ فِي الطّلَاقِ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ : وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا . الْحُجّةُ الثّانِيَةُ لِهَؤُلَاءِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا جَعَلَ أَمْرَ الطّلَاقِ إلَى الزّوْجِ دُونَ النّسَاءِ لِأَنّهُنّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنّ السّفَهُ وَتَذْهَبُ بِهِنّ الشّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إلَى الرّجَالِ كُلّ مَذْهَبٍ فَلَوْ جُعِلَ أَمْرُ الطّلَاقِ إلَيْهِنّ لَمْ يَسْتَقِمْ لِلرّجَالِ مَعَهُنّ أَمْرٌ وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِأَزْوَاجِهِنّ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِأَيْدِيهِنّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْفِرَاقِ وَجَعَلَهُ إلَى الْأَزْوَاجِ . فَلَوْ جَازَ لِلْأَزْوَاجِ نَقْلُ ذَلِكَ إلَيْهِنّ لَنَاقَضَ حِكْمَةَ اللّهِ وَرَحْمَتَهُ وَنَظَرَهُ لِلْأَزْوَاجِ . قَالُوا : وَالْحَدِيثُ إنّمَا دَلّ عَلَى التّخْيِيرِ فَقَطْ فَإِنْ اخْتَرْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ كَمَا وَقَعَ كُنّ أَزْوَاجَهُ بِحَالِهِنّ وَإِنْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنّ مَتّعَهُنّ وَطَلّقَهُنّ هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ السّرَاحُ الْجَمِيلُ لَا أَنّ اخْتِيَارَهُنّ لِأَنْفُسِهِنّ يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الطّلَاقِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ كَمَا تَرَى . قَالَ هَؤُلَاءِ وَالْآثَارُ عَنْ الصّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا شَدِيدًا فَصَحّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَنّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَصَحّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . أَنّ الْقَضَاءَ مَا قَضَتْ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ الزّبَيْرِ . وَصَحّ عَنْ عَلِيّ وَزَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَصَحّ عَنْ بَعْضِ الصّحَابَةِ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ وَرُوِيَ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلّقَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ [ ص 269 ] قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ : وَقَدْ تَقَصّيْنَا مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُ يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ فَلَمْ يَكُونُوا بَيْنَ مَنْ صَحّ عَنْهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحّ عَنْهُ إلّا سَبْعَةٌ ثُمّ اخْتَلَفُوا وَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ وَلَا أَثَرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلّا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ النّسَائِيّ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قُلْت لِأَيّوبٍ السّخْتِيَانِيّ هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي " أَمْرُك بِيَدِك " : إنّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ ؟ قَالَ لَا اللّهُمّ غُفْرًا إلّا مَا حَدّثَنِي بِهِ قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ثَلَاثٌ . قَالَ أَيّوبٌ فَلَقِيت كَثِيرًا مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَسَأَلْته فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَرَجَعْتُ إلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ نَسِيَ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ كَثِيرٌ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كَانَ مَشْهُورًا بِالثّقَةِ وَالْحِفْظِ لَمَا خَالَفْنَا هَذَا الْخَبَرَ وَقَدْ أَوْقَفَهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ . انْتَهَى . وَقَالَ الْمَرْوَذِيّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللّهِ مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ خُيّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ؟ قَالَ قَالَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهَا وَاحِدَةٌ وَلَهَا الرّجْعَةُ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَذَكَرَ آخَرُ قَالَ غَيْرُ الْمَرْوَذِيّ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَمَنْ خَيّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ الطّلَاقَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا فَكُلّ ذَلِكَ لَا شَيْءَ وَكُلّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ وَلَوْ كَرّرَ التّخْيِيرَ وَكَرّرَتْ هِيَ اخْتِيَارَ نَفْسِهَا أَوْ اخْتِيَارَ الطّلَاقِ أَلْفَ مَرّةٍ وَكَذَلِكَ إنْ مَلّكَهَا نَفْسَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا . وَلَا فَرْقَ .

وَلَا حُجّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا عَنْ [ ص 270 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ قَوْلَ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَوْ قَدْ مَلّكْتُكِ أَمْرَك أَوْ اخْتَارِي يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أَوْ أَنّ لَهَا أَنْ تُطَلّقَ نَفْسَهَا أَوْ تَخْتَارَ طَلَاقًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمُ عَلَى الرّجُلِ فَرْجٌ أَبَاحَهُ اللّهُ تَعَالَى لَهُ وَرَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَقْوَالٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالُوا : وَاضْطِرَابُ أَقْوَالِ الْمُوقِعِينَ وَتَنَاقُضُهَا وَمُعَارَضَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يَدُلّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا لَاطّرَدَتْ فُرُوعُهُ وَلَمْ تَتَنَاقَضْ وَلَمْ تَخْتَلِفْ وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى طَرَفٍ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ . فَاخْتَلَفُوا : هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ بِمُجَرّدِ التّخْيِيرِ أَوْ لَا يَقَعُ حَتّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ تَقَدّمَ حِكَايَتُهُمَا ثُمّ اخْتَلَفَ الّذِينَ لَا يُوقِعُونَهُ بِمُجَرّدِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك : هَلْ يَخْتَصّ اخْتِيَارُهَا بِالْمَجْلِسِ أَوْ يَكُونُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنّهُ يَتَقَيّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . الثّانِي : أَنّهُ فِي يَدِهَا أَبَدًا حَتّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد َ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَالرّوَايَةُ الثّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ . ثُمّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ مَا لَمْ تَطُلْ حَتّى يَتَبَيّنَ أَنّهَا تَرَكَتْهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَعَدّى شَهْرَيْنِ ثُمّ اخْتَلَفُوا هَلْ عَلَيْهَا يَمِينٌ أَنّهَا تَرَكَتْ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . ثُمّ اخْتَلَفُوا إذَا رَجَعَ الزّوْجُ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهَا فَقَالَ أَحْمَد ُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشّعْبِيّ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ لَهُ ذَلِكَ وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثّوْرِيّ وَالزّهْرِيّ : لَيْسَ لَهُ الرّجُوعُ وَلِلشّافِعِيّةِ خِلَافٌ مَبْنِيّ عَلَى أَنّهُ تَوْكِيلٌ فَيَمْلِكُ الْمُوَكّلُ الرّجُوعَ أَوْ تَمْلِيكٌ فَلَا يَمْلِكُهُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ التّمْلِيكِ وَلَا يَمْتَنِعُ الرّجُوعُ . وَإِنْ قُلْنَا إنّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنّهُ لَمْ يَتّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ فَجَازَ الرّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ . وَاخْتَلَفُوا : فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا . فَقَالَ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَاحِدَةٌ [ ص 271 ] ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبِيدٍ وَإِسْحَاقُ . وَعَنْ عَلِيّ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ثَلَاثٌ وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَثَلَاثٌ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا قُبِلَ مِنْهُ دَعْوَى الْوَاحِدَةِ . وَاخْتَلَفُوا : هَلْ يَفْتَقِرُ قَوْلُهُ أَمْرُك بِيَدِك إلَى نِيّةٍ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَفْتَقِرُ إلَى نِيّةٍ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيّةٍ وَاخْتَلَفُوا : هَلْ يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطّلَاقِ إلَى نِيّةِ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ فَسَخْت نِكَاحَك ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطّلَاقِ إلَى نِيّتِهَا إذَا نَوَى الزّوْجُ . وَقَالَ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ : لَا بُدّ مِنْ نِيّتِهَا إذَا اخْتَارَتْ بِالْكِنَايَةِ ثُمّ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إنْ قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ قَبِلْتُ نَفْسِي لَزِمَ الطّلَاقُ وَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُرِدْهُ وَإِنْ قَالَتْ . قَبِلْت أَمْرِي سُئِلَتْ عَمّا أَرَادَتْ ؟ فَإِنْ أَرَادَتْ الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا . ثُمّ قَالَ مَالِكٌ إذَا قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك وَقَالَ قَصَدْتُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيّةٌ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ مَا شَاءَ . وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي وَقَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ . ثُمّ هَا هُنَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ غَايَةَ الِاضْطِرَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَالزّوْجَةُ زَوْجَتُهُ حَتّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى زَوَالِ عِصْمَتِهِ عَنْهَا . قَالُوا : وَلَمْ يَجْعَلْ اللّهُ إلَى النّسَاءِ شَيْئًا مِنْ النّكَاحِ وَلَا مِنْ الطّلَاقِ وَإِنّمَا جَعَلَ ذَلِكَ إلَى الرّجَالِ وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الرّجَالَ قَوّامِينَ عَلَى النّسَاءِ إنْ شَاءُوا أَمْسَكُوا وَإِنْ شَاءُوا طَلّقُوا فَلَا يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَرْأَةَ قَوّامَةً عَلَيْهِ إنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ وَإِنْ شَاءَتْ طَلّقَتْ . قَالُوا : وَلَوْ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ نَتَعَدّ إجْمَاعَهُمْ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَطَلَبْنَا الْحُجّةَ لِأَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَمْ نَجِدْ الْحُجّةَ تَقُومُ إلّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَإِنْ [ ص 272 ] كَانَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ أَيْضًا وَقَدْ أَبْطَلَ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ فَالنّزَاعُ ثَابِتٌ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ كَمَا حَكَيْنَاهُ وَالْحُجّةُ لَا تَقُومُ بِالْخِلَافِ فَهَذَا ابْنُ عَبّاسٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ قَدْ قَالَا : إنّ تَمْلِيكَ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلّقَهَا : لَيْسَ بِشَيْءٍ وَطَاوُوسٌ يَقُولُ فِيمَنْ مَلّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا : لَيْسَ إلَى النّسَاءِ طَلَاقٌ وَيَقُولُ فِيمَنْ مَلّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ أَيَمْلِكُ الرّجُلُ أَنْ يُطَلّقَهَا ؟ قَالَ لَا قُلْت : أَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ طَاوُوسٍ فَصَحِيحٌ صَرِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ سَنَدًا وَصَرَاحَةً . وَأَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُخْتَلِفٌ فَنُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ عَلِيّ وَزَيْدٍ فِي الْوُقُوعِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشّعْبِيّ : أَنّ أَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي سَوَاءٌ فِي قَوْلِ عَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَنُقِلَ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك إنْ أَدْخَلَتْ هَذَا الْعَدْلَ الْبَيْتَ فَفَعَلَتْ أَنّهَا امْرَأَتُهُ وَلَمْ يُطَلّقْهَا عَلَيْهِ . وَأَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَانَ فَإِنّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَضَافَتْ الْمَرْأَةُ الطّلَاقَ إلَى الزّوْجِ وَقَالَتْ أَنْتِ طَالِقٌ . وَأَحْمَد ُ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا بِوُقُوعِ الطّلَاقِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ طَلّقَتْ نَفْسَهَا فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ إلْغَاءَ التّخْيِيرِ وَالتّمْلِيكِ الْبَتّةَ إلّا هَذِهِ الرّوَايَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهَا وَالثّابِتُ عَنْ الصّحَابَةِ اعْتِبَارُ ذَلِكَ وَوُقُوعَ الطّلَاقِ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ كَمَا تَقَدّمَ وَالْقَوْلُ بِأَنّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا وَهِمَ أَبُو مُحَمّدٍ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَانَ وَلَكِنّ هَذَا مَذْهَبُ طَاوُوسٍ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ فَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ . قُلْت : فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَجُلًا أَنّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً قَالَ مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ مَا أَظُنّ هَذَا شَيْئًا . قُلْت لِعَطَاءٍ أَمَلّكْت عَائِشَةَ حَفْصَةَ حِينَ مَلّكَهَا الْمُنْذِرُ أَمْرَهَا قَالَ عَطَاءٌ لَا إنّمَا عَرَضَتْ عَلَيْهَا أَتُطَلّقُهَا أَمْ لَا وَلَمْ تُمَلّكْهَا أَمْرَهَا [ ص 273 ] وَلَوْلَا هَيْبَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمَا عَدَلْنَا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمْ الْقُدْوَةُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ التّخْيِيرِ فَفِي ضِمْنِ اخْتِلَافِهِمْ اتّفَاقُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ التّخْيِيرِ وَعَدَمِ إلْغَائِهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ وَالْمَفْسَدَةُ الّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي كَوْنِ الطّلَاقِ بِيَدِ الْمَرْأَةِ إنّمَا تَكُونُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِيَدِهَا اسْتِقْلَالًا فَأَمّا إذَا كَانَ الزّوْجُ هُوَ الْمُسْتَقِلّ بِهَا فَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَفْوِيضِهَا إلَى الْمَرْأَةِ لِيَصِيرَ حَالُهُ مَعَهَا عَلَى بَيّنَةٍ إنْ أَحَبّتْهُ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ كَرِهَتْهُ فَارَقَتْهُ فَهَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلَهَا وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَغْيِيرَ شَرْعِ اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا وَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيّ وَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ تَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيّ فِي الطّلَاقِ كَمَا يَصِحّ تَوْكِيلُهُ فِي النّكَاحِ وَالْخُلْعِ . وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَكَمَيْنِ النّظَرَ فِي حَالِ الزّوْجَيْنِ عِنْدَ الشّقَاقِ إنْ رَأَيَا التّفْرِيقَ فَرّقَا وَإِنْ رَأَيَا الْجَمْعَ جَمَعَا وَهُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ مِنْ غَيْرِ الزّوْجِ إمّا بِرِضَاهُ إنْ قِيلَ هُمَا وَكِيلَانِ أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ إنْ قِيلَ هُمَا حَكَمَانِ وَقَدْ جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلّقَ عَلَى الزّوْجِ فِي مَوَاضِعَ بِطَرِيقِ النّيَابَةِ عَنْهُ فَإِذَا وَكّلَ الزّوْجُ مَنْ يُطَلّقُ عَنْهُ أَوْ يُخَالِعُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللّهِ وَلَا مُخَالَفَةَ لِدِينِهِ فَإِنّ الزّوْجَ هُوَ الّذِي يُطَلّقُ إمّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَتَمّ نَظَرًا لِلرّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْلَمَ بِمَصْلَحَتِهِ فَيُفَوّضُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَعْلَمُ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مِنْهُ وَإِذَا جَازَ التّوْكِيلُ فِي الْعِتْقِ وَالنّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِبْرَاءِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهَا وَإِثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَالْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَمَا الّذِي حَرّمَ التّوْكِيلَ فِي الطّلَاقِ ؟ نَعَمْ الْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكّلِ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطّلَاقِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَحِلّ لَهُ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَفِي [ ص 274 ] الْحَقِيقَةِ لَمْ يُطَلّقْ إلّا الزّوْجُ إمّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الّذِي بَيّنَهُ عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَنْ حَرّمَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ مَتَاعَهُ
قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التّحْرِيمُ 1 ] ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَرِبَ عَسَلًا مِنْ بَيْتِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَاحْتَالَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتّى قَالَ لَنْ أَعُودَ لَهُ . وَفِي لَفْظٍ وَقَدْ حَلَفَتْ . وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةٌ حَتّى حَرّمَهَا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ } . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ إذَا حَرّمَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا وَقَالَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ آلَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَحَرّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفّارَة . [ ص 275 ] مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحّ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عِيسَى . وَقَوْلُهَا : جَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا أَيْ جَعَلَ الشّيْءَ الّذِي حَرّمَهُ وَهُوَ الْعَسَلُ أَوْ الْجَارِيَةُ حَلَالًا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ إيّاهُ . وَقَالَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ سَأَلْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ عَمّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَقَالَا جَمِيعًا : كَفّارَةُ يَمِينٍ . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ فِي التّحْرِيمِ هِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدِيقِ وَعَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ الْحَجّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَأَلْت نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ الْحَرَامِ أَطْلَاقٌ هُوَ ؟ قَالَ لَا أَوَلَيْسَ قَدْ حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَارِيَتَهُ فَأَمَرَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُكَفّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يُحَرّمْهَا عَلَيْه . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَأَيّوبِ السّخْتِيَانِيّ كِلَاهُمَا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ هِيَ يَمِينٌ يَعْنِي التّحْرِيمَ . وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ حَدّثَنَا الْمُقَدّمِيّ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ [ ص 276 ] ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ الْحَرَامُ يَمِينٌ .

[ مَذَاهِبُ النّاسِ فِي تَحْرِيمِ الرّجُلِ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ مَتَاعَهُ ]
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إذَا حَرّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَقِيلَ هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . وَقِيلَ إنّمَا أَرَادَ أَنّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَفِيهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَلِهَذَا احْتَجّ بِفِعْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا الثّانِي أَظْهَرُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا عِشْرُونَ مَذْهَبًا لِلنّاسِ وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ وُجُوهَهَا وَمَآخِذُهَا وَالرّاجِحُ مِنْهَا بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ . أَحَدُهَا : أَنّ التّحْرِيمَ لَغْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ لَا فِي الزّوْجَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا لَا طَلَاقَ وَلَا إيلَاءَ وَلَا يَمِينَ وَلَا ظِهَارَ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ : مَا أُبَالِي حَرّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الشّعَبِيّ أَنّهُ قَالَ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ لَهِيَ أَهْوَنُ عَلَيّ مِنْ نَعْلِي وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّهُ قَالَ مَا أُبَالِي حَرّمْتُهَا يَعْنِي امْرَأَتَهُ أَوْ حَرّمْتُ مَاءَ النّهْرِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : سَأَلَ رَجُلٌ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِيّ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ } [ أَلَمْ نَشْرَحْ 7 ] وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ فَاذْهَبْ فَالْعَبْ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ .
[ مَنْ قَالَ بِأَنّ التّحْرِيمَ فِي الزّوْجَةِ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ ]
الْمَذْهَبُ الثّانِي : أَنّ التّحْرِيمَ فِي الزّوْجَةِ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ قَالَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُحَمّدُ بْنُ [ ص 277 ] عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ . قُلْت : الثّابِتُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ عَنْ قَبِيصَةَ أَنّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عُمَرَ عَمّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ . أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَقَالَا جَمِيعًا : كَفّارَةُ يَمِينٍ وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ وَأَمّا عَلِيّ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطّانِ حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعَبِيّ قَالَ يَقُولُ رِجَالٌ فِي الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَا وَاَللّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ عَلِيّ وَإِنّمَا قَالَ عَلِيّ : مَا أَنَا بِمُحِلّهَا وَلَا بِمُحَرّمِهَا عَلَيْك إنْ شِئْت فَتَقَدّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخّرْ وَأَمّا الْحَسَنُ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمّدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ كُلّ حَلَالٍ عَلَيّ حَرَامٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَلَعَلّ أَبَا مُحَمّدٍ غَلِطَ عَلَى عَلِيّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ وَالْبَتّةِ فَإِنّ أَحْمَدَ حَكَى عَنْهُمْ أَنّهَا ثَلَاثٌ . وَقَالَ هُوَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ فَوَهِمَ أَبُو مُحَمّدٍ وَحَكَاهُ فِي : أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّهُمْ فَرّقُوا بَيْنَ التّحْرِيمِ فَأَفْتَوْا فِيهِ بِأَنّهُ يَمِينٌ وَبَيْنَ الْخَلِيّةِ فَأَفْتَوْا فِيهَا بِالثّلَاثِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ إنّهُ ثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ . الْمَذْهَبُ الثّالِثُ أَنّهُ ثَلَاثٌ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَ مَا نَوَاهُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ فَإِنْ أَطْلَقَ فَوَاحِدَةٌ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْ طَلَاقًا فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدّمَ كَلَامٌ يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ حَرّمَ أَمَتَهُ أَوْ طَعَامَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . الْمَذْهَبُ الرّابِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا ثُمّ إنْ نَوَى بِهِ الثّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى دُونَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ فِيهَا كَفّارَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ إيلَاءٌ فِيهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ . فَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ صُدّقَ فِي الْفُتْيَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَيَكُونُ فِي الْقَضَاءِ إيلَاءً وَإِنْ صَادَفَ غَيْرَ الزّوْجَةِ الْأَمَةَ وَالطّعَامَ وَغَيْرَهُ فَهُوَ يَمِينٌ فِيهِ كَفّارَتُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنّهُ إنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَيَقَعُ مَا نَوَاهُ فَإِنْ [ ص 278 ] أَطْلَقَ وَقَعَتْ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ كَانَ ظِهَارًا وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ فَعَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَالثّانِي : يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ صَادَفَ جَارِيَةً فَنَوَى عِتْقَهَا وَقَعَ الْعِتْقُ وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَهَا لَزِمَهُ بِنَفْسِ اللّفْظِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ مِنْهَا لَمْ يَصِحّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَقِيلَ بَلْ يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَالثّانِي : عَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ صَادَفَ غَيْرَ الزّوْجَةِ وَالْأَمَةِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ شَيْءٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ . الْمَذْهَبُ السّادِسُ أَنّهُ ظِهَارٌ بِإِطْلَاقِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ إلّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِالنّيّةِ إلَى الطّلَاقِ أَوْ الْيَمِينِ فَيَنْصَرِفَ إلَى مَا نَوَاهُ هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَمِينٌ إلّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِالنّيّةِ إلَى الظّهَارِ أَوْ الطّلَاقِ فَيَنْصَرِفَ إلَى مَا نَوَاهُ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ أَنّهُ ظِهَارٌ بِكُلّ حَالٍ وَلَوْ نَوَى غَيْرَهُ وَفِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ حَكَاهَا أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " فُرُوعِهِ " أَنّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ . وَلَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَعَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا : أَنّهُ طَلَاقٌ فَعَلَى هَذَا هَلْ تَلْزَمُهُ الثّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالثّانِيَةُ أَنّهُ ظِهَارٌ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي : أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِهِ . الْمَذْهَبُ السّابِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ . الْمَذْهَبُ الثّامِنُ أَنّهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِكُلّ حَالٍ وَهَذَا مَذْهَبُ حَمّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ . الْمَذْهَبُ التّاسِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النّخْعِيّ حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ . [ ص 279 ] طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ حَكَاهُ ابْنُ الصّبّاغِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ الشّاشِيّ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ . الْمَذْهَبُ الْحَادِي عَشَرَ أَنّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَطْ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ ظِهَارًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا بَلْ أَلْزَمُوهُ مُوجَبَ تَحْرِيمِهِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ صَحّ هَذَا عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٍ مِنْ الصّحَابَةِ لَمْ يُسَمّوْا وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَصَحّ عَنْ الْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ أَنّهُمْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ . الْمَذْهَبُ الثّانِي عَشَرَ التّوَقّفُ فِي ذَلِكَ لَا يُحَرّمُهَا الْمُفْتِي عَلَى الزّوْجِ وَلَا يُحَلّلُهَا لَهُ كَمَا رَوَاهُ الشّعَبِيّ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ مَا أَنَا بِمُحِلّهَا وَلَا مُحَرّمِهَا عَلَيْك إنْ شِئْتَ فَتَقَدّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخّرْ الْمَذْهَبُ الثّالِثَ عَشَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُوقِعَ التّحْرِيمَ مُنَجّزًا أَوْ مُعَلّقًا تَعْلِيقًا مَقْصُودًا وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَالْأَوّلُ ظِهَارٌ بِكُلّ حَالٍ وَلَوْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ وَلَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ . وَالثّانِي : يَمِينٌ يَلْزَمُهُ بِهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ أَوْ إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فَأَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَظِهَارٌ وَإِذَا قَالَ إنْ سَافَرْت أَوْ إنْ أَكَلْت هَذَا الطّعَامَ أَوْ كَلّمْتُ فُلَانًا فَامْرَأَتِي عَلَيّ حَرَامٌ فَيَمِينٌ مُكَفّرَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ فَهَذِهِ أُصُولُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَتَفَرّعُ إلَى أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ مَذْهَبًا .
فَصْلٌ
فَأَمّا مَنْ قَالَ التّحْرِيمُ كُلّهُ لَغْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ فَاحْتَجّوا بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ تَحْرِيمًا وَلَا تَحْلِيلًا وَإِنّمَا جَعَلَ لَهُ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ الّتِي تَحِلّ بِهَا الْعَيْنُ وَتَحْرُمُ كَالطّلَاقِ وَالنّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَأَمّا مُجَرّدُ قَوْلِهِ حَرّمْت كَذَا وَهُوَ عَلَيّ حَرَامٌ فَلَيْسَ إلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } [ النّحْلُ 116 ] وَقَالَ تَعَالَى : [ ص 280 ] { يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ } [ التّحْرِيمُ 1 ] فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِرَسُولِهِ أَنْ يُحَرّمَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِغَيْرِهِ التّحْرِيمَ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَهَذَا التّحْرِيمُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رَدّا بَاطِلًا . قَالُوا : وَلِأَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَكَمَا أَنّ هَذَا الثّانِيَ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْأَوّلُ . قَالُوا : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِطَعَامِهِ هُوَ عَلَيّ حَرَامٌ . قَالُوا : وَقَوْلُهُ . أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ إمّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ إنْشَاءَ تَحْرِيمِهَا أَوْ الْإِخْبَارَ عَنْهَا بِأَنّهَا حَرَامٌ وَإِنْشَاءُ تَحْرِيمٍ مُحَالٌ فَإِنّهُ لَيْسَ إلَيْهِ إنّمَا هُوَ إلَى مَنْ أَحَلّ الْحَلَالَ وَحَرّمَ الْحَرَامَ وَشَرَعَ الْأَحْكَامَ وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ فَهُوَ كَذِبٌ فَهُوَ إمّا خَبَرٌ كَاذِبٌ أَوْ إنْشَاءٌ بَاطِلٌ وَكِلَاهُمَا لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ . قَالُوا : وَنَظَرْنَا فِيمَا سِوَى هَذَا الْقَوْلِ فَرَأَيْنَاهَا أَقْوَالًا مُضْطَرِبَةً مُتَعَارِضَةً يَرُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمْ نُحَرّمْ الزّوْجَةَ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَنَكُونَ قَدْ ارْتَكَبْنَا أَمْرَيْنِ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَوّلِ وَإِحْلَالَهَا لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ النّكَاحِ حَتّى تُجْمِعَ الْأُمّةُ أَوْ يَأْتِيَ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى زَوَالِهِ فَيَتَعَيّنُ الْقَوْلُ بِهِ فَهَذَا حُجّةُ هَذَا الْفَرِيقِ .

فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ ثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ إنْ ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ فَيَحْتَجّ لَهُ بِأَنّ التّحْرِيمَ جُعِلَ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ وَأَعْلَى أَنْوَاعِهِ تَحْرِيمُ الثّلَاثِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَعْلَى أَنْوَاعِهِ احْتِيَاطًا لِلْأَبْضَاعِ . [ ص 281 ] قَالُوا : وَلِأَنّ الصّحَابَةَ أَفْتَوْا فِي الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ بِأَنّهَا ثَلَاثٌ . قَالَ أَحْمَدُ : هُوَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ غَايَةَ الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ أَنْ تَصِيرَ إلَى التّحْرِيمِ فَإِذَا صَرّحَ بِالْغَايَةِ فَهِيَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا وَلِأَنّ الْمُحَرّمَ لَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِهِ تَحْرِيمُ امْرَأَتِهِ بِدُونِ الثّلَاثِ فَكَأَنّ هَذَا اللّفْظَ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيّةً فِي إيقَاعِ الثّلَاثِ . وَأَيْضًا فَالْوَاحِدَةُ لَا تَحْرُمُ إلّا بِعِوَضٍ أَوْ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ عِنْدَ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا بَائِنَةً عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فَالتّحْرِيمُ بِهَا مُقَيّدٌ فَإِذَا أَطْلَقَ التّحْرِيمَ وَلَمْ يُقَيّدْ انْصَرَفَ إلَى التّحْرِيمِ الْمُطْلَقِ الّذِي يَثْبُتُ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَبِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الثّلَاثُ .
فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ ثَلَاثًا فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةً بَائِنَةً فِي حَقّ غَيْرِهَا فَحُجّتُهُ أَنّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَا يُحَرّمُهَا إلّا الثّلَاثُ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرّمُهَا الْوَاحِدَةُ فَالزّائِدَةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ التّحْرِيمِ فَأَوْرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنّ الْمَدْخُولَ بِهَا يَمْلِكُ الزّوْجُ إبَانَتَهَا بِوَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ فَأَجَابُوا بِمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ شَيْئًا وَهُوَ أَنّ الْإِبَانَةَ بِالْوَاحِدَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنّهَا بَائِنَةٌ إبَانَةً مُقَيّدَةً بِخِلَافِ التّحْرِيمِ فَإِنّ الْإِبَانَةَ بِهِ مُطْلَقَةٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِالثّلَاثِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخَلّصُهُمْ مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ فَإِنّ إبَانَةَ التّحْرِيمِ أَعْظَمُ تَقْيِيدًا مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً فَإِنّ غَايَةَ الْبَائِنَةِ أَنْ تُحَرّمَهَا وَهَذَا قَدْ صَرّحَ بِالتّحْرِيمِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِبَانَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً .
فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ [ ص 282 ] تُفِيدُ عَدَدًا بِوَضْعِهَا وَإِنّمَا تَقْتَضِي بَيْنُونَةً يَحْصُلُ بِهَا التّحْرِيمُ وَهُوَ يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بَعْدَ الدّخُولِ بِهَا بِوَاحِدَةٍ بِدُونِ عِوَضٍ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً فَإِنّ الرّجْعَةَ حَقّ لَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهَا سَقَطَتْ وَلِأَنّهُ إذَا مَلَكَ إبَانَتَهَا بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْهَا مَلَكَ الْإِبَانَةَ بِدُونِهِ فَإِنّهُ مُحْسِنٌ بِتَرْكِهِ وَلِأَنّ الْعِوَضَ مُسْتَحَقّ لَهُ لَا عَلَيْهِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ وَأَبَانَهَا فَلَهُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ فَمَأْخَذُهُ أَنّ التّحْرِيمَ يُفِيدُ مُطْلَقَ انْقِطَاعِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمُتَيَقّنِ مِنْهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَلَا تَعَرّضَ فِي اللّفْظِ لَهُ فَلَا يَسُوغُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَإِذَا أَمْكَنَ إعْمَالُ اللّفْظِ فِي الْوَاحِدَةِ فَقَدْ وَفّى بِمُوجَبِهِ فَالزّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا مُوجِبَ لَهَا . قَالُوا : وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُ الرّجْعِيّةَ مُحَرّمَةً وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ التّحْرِيمُ أَعَمّ مِنْ تَحْرِيمِ رَجْعِيّةٍ أَوْ تَحْرِيمِ بَائِنٍ فَالدّالّ عَلَى الْأَعَمّ لَا يَدُلّ عَلَى الْأَخَصّ وَإِنْ شِئْتَ قُلْت : الْأَعَمّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصّ أَوْ لَيْسَ الْأَخَصّ مِنْ لَوَازِمِ الْأَعَمّ أَوْ الْأَعَمّ لَا يُنْتِجُ الْأَخَصّ .

فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ قَالَ يُسْأَلُ عَمّا أَرَادَ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ طَلَاقٍ رَجْعِيّ أَوْ مُحَرّمٍ أَوْ يَمِينٍ فَيَكُونُ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ فَمَأْخَذُهُ أَنّ اللّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِإِيقَاعِ الطّلَاقِ خَاصّةً بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلطّلَاقِ وَالظّهَارِ وَالْإِيلَاءِ فَإِذَا صُرِفَ إلَى بَعْضِهَا بِالنّيّةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لَهُ وَصَرَفَهُ إلَيْهِ بِنِيّتِهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا أَرَادَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى عِتْقَ أَمَتِهِ بِذَلِكَ عَتَقَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ مِنْ الزّوْجَةِ وَالْيَمِينَ مِنْ الْأَمَةِ لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ قَالُوا : وَأَمّا إذَا نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا لَزِمَهُ بِنَفْسِ اللّفْظِ كَفّارَةُ يَمِينٍ اتّبَاعًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : إذَا حَرّمَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا وَتَلَا : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ ص 283 ] قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي الظّهَارِ إنّهُ يَلْزَمُهُ بِمُجَرّدِ التّكَلّمِ بِهِ كَفّارَةُ الظّهَارِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّهُ يُوجِبُ الْكَفّارَةَ إذَا لَمْ يُطَلّقْ عَقِيبَهُ عَلَى الْفَوْرِ . قَالُوا : وَلِأَنّ اللّفْظَ يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ وَالْإِخْبَارَ فَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لَهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ . وَإِنْ أَرَادَ الْإِنْشَاءَ سُئِلَ عَنْ السّبَبِ الّذِي حَرّمَهَا بِهِ . فَإِنْ قَالَ أَرَدْت ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ قُبِلَ مِنْهُ لِصَلَاحِيَةِ اللّفْظِ لَهُ وَاقْتِرَانِهِ بِنِيّتِهِ وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنّهُ صَرّحَ بِمُوجَبِ الظّهَارِ لِأَنّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي مُوجَبُهُ التّحْرِيمُ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ بِلَفْظِ التّحْرِيمِ كَانَ ظِهَارًا وَاحْتِمَالُهُ لِلطّلَاقِ بِالنّيّةِ لَا يَزِيدُ عَلَى احْتِمَالِهِ لِلظّهَارِ بِهَا وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا مُطْلَقًا فَهُوَ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ لِأَنّهُ امْتِنَاعٌ مِنْهَا بِالتّحْرِيمِ فَهُوَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْهَا بِالْيَمِينِ .

فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ ظِهَارٌ إلّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ طَلَاقًا فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ أَنّ اللّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلتّحْرِيمِ فَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ فَإِنّ الْعَبْدَ لَيْسَ إلَيْهِ التّحْرِيمُ وَالتّحْلِيلُ وَإِنّمَا إلَيْهِ إنْشَاءُ الْأَسْبَابِ الّتِي يُرَتّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَإِذَا حَرّمَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ وَالزّورَ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي بَلْ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا لِأَنّهُ إذَا شَبّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ دَلّ عَلَى التّحْرِيمِ بِاللّزُومِ فَإِذَا صَرّحَ بِتَحْرِيمِهَا فَقَدْ صَرّحَ بِمُوجَبِ التّشْبِيهِ فِي لَفْظِ الظّهَارِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا . قَالُوا : وَإِنّمَا جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا بِالنّيّةِ فَصَرَفْنَاهُ إلَيْهِ بِهَا لِأَنّهُ يَصْلُحُ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِالنّيّةِ بِخِلَافِ إطْلَاقِهِ فَإِنّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الظّهَارِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا إذْ مِنْ أَصْلِ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ تَحْرِيمَ الطّعَامِ وَنَحْوَهُ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ فَإِذَا نَوَى بِتَحْرِيمِ الزّوْجَةِ الْيَمِينَ نَوَى مَا يَصْلُحُ لَهُ اللّفْظُ فَقُبِلَ مِنْهُ .

فَصْلٌ
[ ص 284 ] قَالَ إنّهُ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ أَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِ كَوْنِهِ ظِهَارًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ ظِهَارًا بِنِيّةِ الطّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي وَنَوَى بِهِ الطّلَاقَ أَوْ قَالَ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الظّهَارِ وَيَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إلّا عَلَى قَوْلٍ شَاذّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ جَعْلِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَنَسْخِ الْإِسْلَامِ لِذَلِكَ وَإِبْطَالِهِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا أَبْطَلَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِمّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ شَرْعًا فَلَا تُؤَثّرُ نِيّتُهُ فِي تَغْيِيرِ مَا اسْتَقَرّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللّهِ الّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ ثُمّ جَرَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ التّسْوِيَةِ بَيْنَ إيقَاعِ ذَلِكَ وَالْحَلِفِ بِهِ كَالطّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَفَرّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ فِي التّفْرِيقِ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالْحَلِفِ كَمَا فَرّقَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَمَنْ وَافَقَهُمَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فِي النّذْرِ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ فَيَكُونَ يَمِينًا مُكَفّرَةً وَبَيْنَ أَنْ يُنَجّزَهُ أَوْ يُعَلّقَهُ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ وُقُوعَهُ فَيَكُونُ نَذْرًا لَازِمَ الْوَفَاءِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرّقُوا بَيْنَ إنْشَاءِ التّحْرِيمِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ فَيَكُونُ فِي الْحَلِفِ بِهِ حَالِفًا يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَفِي تَنْجِيزِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ مَقْصُودٍ مُظَاهِرًا يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ الظّهَارِ وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَإِنّهُ مَرّةً جَعَلَهُ ظِهَارًا وَمَرّةً جَعَلَهُ يَمِينًا .

فَصْلٌ
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ بِكُلّ حَالٍ فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ أَنّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَاللّبَاسِ يَمِينٌ تُكَفّرُ بِالنّصّ وَالْمَعْنَى وَآثَارِ الصّحَابَةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ { يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التّحْرِيمُ 1و2 ] وَلَا بُدّ [ ص 285 ] يَكُونَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْفَرْضِ لِأَنّهُ سَبَبُهُ وَتَخْصِيصُ مَحَلّ السّبَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَامّ مُمْتَنِعٌ قَطْعًا إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ أَوّلًا فَلَوْ خُصّ لَخَلَا سَبَبُ الْحُكْمِ عَنْ الْبَيَانِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي غَايَةِ الْقُوّةِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى فَقَالَ نَعَمْ التّحْرِيمُ يَمِينٌ كُبْرَى فِي الزّوْجَةِ كَفّارَتُهَا كَفّارَةُ الظّهَارِ وَيَمِينٌ صُغْرَى فِيمَا عَدَاهَا كَفّارَتُهَا كَفّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللّهِ . قَالَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إنّ التّحْرِيمَ يَمِينٌ تُكَفّرُ فَهَذَا تَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَتَقْرِيرُهَا اسْتِدْلَالًا وَلَا يَخْفَى - عَلَى مَنْ آثَرَ الْعِلْمَ وَالْإِنْصَافَ وَجَانَبَ التّعَصّبَ وَنُصْرَةَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَقْوَالِ - الرّاجِحِ مِنْ الْمَرْجُوحِ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ .

فَصْلٌ [ الِاخْتِلَافُ فِي تَحْرِيمِ غَيْرِ الزّوْجَةِ ]
وَقَدْ تَبَيّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنّ مَنْ حَرّمَ شَيْئًا غَيْرَ الزّوْجَةِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَاللّبَاسِ أَوْ أَمَتِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَفِي هَذَا خِلَافٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَحْرُمُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُقَيّدًا تُزِيلُهُ الْكَفّارَةُ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنّهُ لَا يَحِلّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتّى يُكَفّرَ وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَمّى الْكَفّارَةَ فِي ذَلِكَ تَحِلّةً وَهِيَ مَا يُوجِبُ الْحِلّ فَدَلّ عَلَى ثُبُوتِ التّحْرِيمِ قَبْلَهَا وَلِأَنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ } وَلِأَنّهُ تَحْرِيمٌ لِمَا أُبِيحَ لَهُ فَيَحْرُمُ بِتَحْرِيمِهِ كَمَا لَوْ حَرّمَ زَوْجَتَهُ . وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ إنّمَا سُمّيَتْ الْكَفّارَةُ تَحِلّةً مِنْ الْحَلّ الّذِي هُوَ ضِدّ الْعَقْدِ لَا مِنْ الْحِلّ الّذِي هُوَ مُقَابِلُ التّحْرِيمِ فَهِيَ تَحِلّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا وَأَمّا قَوْلُهُ { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ } لَك فَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ أَوْ الْعَسَلِ وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ وَذَلِكَ يُسَمّى تَحْرِيمًا فَهُوَ تَحْرِيمٌ بِالْقَوْلِ لَا إثْبَاتَ لِلتّحْرِيمِ شَرْعًا . وَأَمّا قِيَاسُهُ عَلَى تَحْرِيمِ الزّوْجَةِ بِالظّهَارِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَلَوْ [ ص 286 ] الْقِيَاسُ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ التّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ قِيَاسًا عَلَى الظّهَارِ إذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التّكْفِيرُ إلّا بَعْدَ الْحِنْثِ فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدّ إمّا أَنْ يَفْعَلَهُ حَرَامًا وَقَدْ فَرَضَ اللّهُ تَحِلّةَ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُحَرّمِ مَفْرُوضًا أَوْ مِنْ ضَرُورَةِ الْمَفْرُوضِ لِأَنّهُ لَا يَصِلُ إلَى التّحِلّةِ إلّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ أَنّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى فِعْلِهِ حَلَالًا لِأَنّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفّارَةِ فَيَسْتَفِيدُ بِهَا الْحِلّ وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ هَذَا مَا قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . وَبَعْدُ فَلَهَا غَوْرٌ وَفِيهَا دِقّةٌ وَغُمُوضٌ فَإِنّ مَنْ حَرّمَ شَيْئًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ بِاَللّهِ عَلَى تَرْكِهِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَحْلُوفِ بِهِ بِفِعْلِهِ إلّا بِالْتِزَامِ الْكَفّارَةِ فَإِذَا الْتَزَمَهَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْكَفّارَةِ فَإِنّ الشّارِعَ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ وَإِنّمَا يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ وَيُبِيحُهُ إذَا الْتَزَمَ مَا فَرَضَ اللّهُ مِنْ الْكَفّارَةِ فَيَكُونُ إذْنُهُ لَهُ فِيهِ وَإِبَاحَتُهُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِالْحَلِفِ أَوْ التّحْرِيمِ رُخْصَةً مِنْ اللّهِ لَهُ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِ الّذِي فَرَضَ لَهُ مِنْ الْكَفّارَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بَقِيَ الْمَنْعُ الّذِي عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ إصْرًا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ إنّمَا رَفَعَ الْآصَارَ عَمّنْ اتّقَاهُ وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا يَتَحَتّمُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ الْحِنْثُ فَوَسّعَ اللّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ وَجَوّزَ لَهَا الْحِنْثَ بِشَرْطِ الْكَفّارَةِ فَإِذَا لَمْ يُكَفّرْ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ لَمْ يُوَسّعْ لَهُ فِي الْحِنْثِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنّهُ يَحْرُمُ حَتّى يُكَفّرَ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ أَبِي حَنِيفَة َ بَلْ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد يُوَضّحُهُ أَنّ هَذَا التّحْرِيمَ وَالْحَلِفَ قَدْ تَعَلّقَ بِهِ مَنْعَانِ مَنْعٌ مِنْ نَفْسِهِ لِفِعْلِهِ وَمَنْعٌ مِنْ الشّارِعِ لِلْحِنْثِ بِدُونِ الْكَفّارَةِ فَلَوْ لَمْ يُحَرّمْهُ تَحْرِيمُهُ أَوْ يَمِينُهُ لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِ نَفْسَهُ وَلَا لِمَنْعِ الشّارِعِ لَهُ أَثَرٌ بَلْ كَانَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنّ الشّارِعَ أَوْجَبَ فِي ذِمّتِهِ بِهَذَا الْمَنْعِ صَدَقَةً أَوْ عِتْقًا أَوْ صَوْمًا لَا يَتَوَقّفُ عَلَيْهِ حِلّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيمُهُ الْبَتّةَ بَلْ هُوَ قَبْلَ الْمَنْعِ وَبَعْدَهُ عَلَى السّوَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَلَا يَكُونُ لِلْكَفّارَةِ أَثَرٌ الْبَتّةَ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَلَا فِي الْإِذْنِ وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ . [ ص 287 ]
فَصْلٌ
الثّانِي : أَنْ يَلْزَمَهُ كَفّارَةٌ بِالتّحْرِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ سَمّيْنَاهُ مِنْ الصّحَابَةِ وَقَوْلُ فُقَهَاءِ الرّأْيِ وَالْحَدِيثِ إلّا الشّافِعِيّ وَمَالِكًا فَإِنّهُمَا قَالَا : لَا كَفّارَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ . وَاَلّذِينَ أَوْجَبُوا الْكَفّارَةَ أَسْعَدُ بِالنّصّ مِنْ الّذِينَ أَسْقَطُوهَا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ تَحِلّةَ الْأَيْمَانِ عَقِبَ قَوْلِهِ { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَدْ فُرِضَ فِيهِ تَحِلّةُ الْأَيْمَانِ إمّا مُخْتَصّا بِهِ وَإِمّا شَامِلًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَى سَبَبُ الْكَفّارَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السّيَاقِ عَنْ حُكْمِ الْكَفّارَةِ وَيُعَلّقُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الِامْتِنَاعِ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِهِ بِالتّحْرِيمِ كَالْمَنْعِ مِنْهُ بِالْيَمِينِ بَلْ أَقْوَى فَإِنّ الْيَمِينَ إنْ تَضَمّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ فَالتّحْرِيمُ تَضَمّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ فَإِنّهُ إذَا شَرَعَ الشّيْءَ حَلَالًا فَحَرّمَهُ الْمُكَلّفُ كَانَ تَحْرِيمُهُ هَتْكًا لِحُرْمَةِ مَا شَرَعَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ لَمْ يَتَضَمّنْ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ هَتْكَ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَا التّحْرِيمُ هَتْكَ حُرْمَةِ الشّرْعِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ جِدّا فَإِنّ الْحِنْثَ إمّا جَائِزٌ وَإِمّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبّ وَمَا جَوّزَ اللّهُ لِأَحَدٍ الْبَتّةَ أَنْ يَهْتِكَ حُرْمَةَ اسْمِهِ وَقَدْ شَرَعَ لِعِبَادِهِ الْحِنْثَ مَعَ الْكَفّارَةِ وَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا كَفّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَأَتَى الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُبَحْ فِي شَرِيعَةٍ قَطّ وَإِنّمَا الْكَفّارَةُ كَمَا سَمّاهَا اللّهُ تَعَالَى تَحِلّةً وَهِيَ تَفْعِلَةٌ مِنْ الْحَلّ فَهِيَ تَحِلّ مَا عُقِدَ بِهِ الْيَمِينُ لَيْسَ إلّا وَهَذَا [ ص 288 ] وَظَهَرَ سِرّ قَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ } عَقِيبَ قَوْلِهِ { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ }
فَصْلٌ [ الْحُكْمُ فِي تَحْرِيمِ الْأَمَةِ ]
الثّالِثُ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الزّوْجَةِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إلّا الشّافِعِيّ وَحْدَهُ أَوْجَبَ فِي تَحْرِيمِ الْأَمَةِ خَاصّةً كَفّارَةَ يَمِينٍ إذْ التّحْرِيمُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَبْضَاعِ عِنْدَهُ دُونَ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْجَارِيَةِ فَلَا يَخْرُجُ مَحَلّ السّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ وَيَتَعَلّقُ بِغَيْرِهِ وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ النّصّ عَلّقَ فَرْضَ تَحِلّةِ الْيَمِينِ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَهُوَ أَعَمّ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا فَتَجِبُ الْكَفّارَةُ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهَا وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ .
حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَوْلِ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمّا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك فَقَالَ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ . وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمّا أَتَاهُ رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ قَالَ لَهَا : الْحَقِي بِأَهْلِك

[ ص 289 ] فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ هَذَا بِطَلَاقٍ وَلَا يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظّاهِرِ . قَالُوا : وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ عَقَدَ عَلَى ابْنَةِ الْجَوْنِ وَإِنّمَا أَرْسَلَ إلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا . قَالُوا : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ فِي نَخْلٍ وَمَعَهَا دَابّتُهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَبِي لِي نَفْسَكِ " فَقَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسّوقَةِ فَأَهْوَى لِيَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك فَقَالَ " قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمّ خَرَجَ فَقَالَ " يَا أَبَا أُسَيْدٍ اُكْسُهَا رَازِقِيّيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَة َ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَاءَهَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمّا كَلّمَهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك قَالَ " قَدْ أَعَذْتُكِ مِنّي " فَقَالُوا لَهَا : أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَتْ لَا قَالُوا : هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَك لِيَخْطُبَك قَالَتْ أَنَا كُنْتُ أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذِهِ كُلّهَا أَخْبَارٌ عَنْ قِصّةٍ وَاحِدَةٍ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَهِيَ صَرِيحَةٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ تَزَوّجَهَا بَعْدُ وَإِنّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا . وَقَالَ الْجُمْهُورُ - مِنْهُمْ الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ - بَلْ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الطّلَاقِ إذَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّ أَبَانَا إسْمَاعِيلَ بْنَ إبْرَاهِيمَ [ ص 290 ] قَالَ لَهَا إبْرَاهِيمُ : مُرِيهِ فَلْيُغَيّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ " فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ الْعَتَبَةُ وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك الْحَقِي بِأَهْلِك وَحَدِيثُ عَائِشَةَ كَالصّرِيحِ فِي أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهَا فَإِنّهَا قَالَتْ لَمّا أُدْخِلْت عَلَيْهِ فَهَذَا دُخُولُ الزّوْجِ بِأَهْلِهِ وَيُؤَكّدُهُ قَوْلُهَا : وَدَنَا مِنْهَا . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي أُسَيْدٍ فَغَايَةُ مَا فِيهِ قَوْلُهُ هَبِي لِي نَفْسَكِ وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَتَقَدّمْ نِكَاحُهُ لَهَا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِدْعَاءً مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلدّخُولِ لَا لِلْعَقْدِ . وَأَمّا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَهُوَ أَصْرَحُهَا فِي أَنّهُ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ عَقْدٌ فَإِنّ فِيهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا جَاءَ إلَيْهَا قَالُوا : هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَ لِيَخْطُبَك وَالظّاهِرُ أَنّهَا هِيَ الْجَوْنِيّةُ لِأَنّ سَهْلًا قَالَ فِي حَدِيثِهِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهَا . فَالْقِصّةُ وَاحِدَةٌ دَارَتْ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَأَبِي أُسَيْدٍ وَسَهْلٍ وَكُلّ مِنْهُمْ رَوَاهَا وَأَلْفَاظُهُمْ فِيهَا مُتَقَارِبَةٌ وَيَبْقَى التّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِهِ جَاءَ لِيَخْطُبَك وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَدَنَا مِنْهَا : فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللّفْظَيْنِ وَهْمًا أَوْ الدّخُولُ لَيْسَ دُخُولَ الرّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ بَلْ الدّخُولُ الْعَامّ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي قِصّةِ إسْمَاعِيلَ صَرِيحٌ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا اللّفْظُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي يُطَلّقُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُغَيّرْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَقَرّهُمْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَوْقَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّلَاقَ وَهُمْ الْقُدْوَةُ بِأَنْتِ حَرَامٌ وَأَمْرُكِ بِيَدِك وَاخْتَارِي . وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك وَأَنْتِ خَلِيّةٌ وَقَدْ خَلَوْتِ مِنّي وَأَنْتِ بَرِيّةٌ وَقَدْ أَبْرَأْتُك وَأَنْتِ مُبَرّأَةٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَأَنْتِ الْحَرَجُ . فَقَالَ عَلِيّ وَابْنُ عُمَرَ : الْخَلِيّةُ ثَلَاثٌ وَقَالَ عُمَرُ : وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا وَفَرّقَ مُعَاوِيَةُ
بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ قَالَ لَهَا : إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ خَلِيّةٌ وَقَالَ عَلِيّ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ [ ص 291 ] وَزَيْدٌ فِي الْبَرِيّةِ إنّهَا ثَلَاثٌ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هِيَ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا وَقَالَ عَلِيّ فِي الْحَرَجِ هِيَ ثَلَاثٌ وَقَالَ عُمَرُ : وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ أَقْوَالِهِمْ فِي أَمْرُك بِيَدِك وَأَنْتِ حَرَامٌ . وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الطّلَاقَ وَلَمْ يُعَيّنْ لَهُ لَفْظًا فَعُلِمَ أَنّهُ رَدّ النّاسَ إلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ طَلَاقًا فَأَيّ لَفْظٍ جَرَى عُرْفُهُمْ بِهِ وَقَعَ بِهِ الطّلَاقُ مَعَ النّيّةِ . وَالْأَلْفَاظُ لَا تُرَادُ لِعَيْنِهَا بَلْ لِلدّلَالَةِ عَلَى مَقَاصِدِ لَافِظِهَا فَإِذَا تَكَلّمَ بِلَفْظٍ دَالّ عَلَى مَعْنًى وَقَصَدَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى تَرَتّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَلِهَذَا يَقَعُ الطّلَاقُ مِنْ الْعَجَمِيّ وَالتّرْكِيّ وَالْهِنْدِيّ بِأَلْسِنَتِهِمْ بَلْ لَوْ طَلّقَ أَحَدُهُمْ بِصَرِيحِ الطّلَاقِ بِالْعَرَبِيّةِ وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ قَطْعًا فَإِنّهُ تَكَلّمَ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَصْدُهُ وَقَدْ دَلّ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى أَنّ الطّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهَذَا اللّفْظِ وَأَمْثَالِهِ إلّا بِالنّيّةِ .

[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ بِأَنّ جَمِيعَ الْأَلْفَاظِ صَرِيحِهَا وَكِنَايَتِهَا لَا تَقَعُ إلّا بِالنّيّةِ ]
وَالصّوَابُ أَنّ ذَلِكَ جَارٍ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحِهَا وَكِنَايَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ وَالطّلَاقِ فَلَوْ قَالَ غُلَامِي غُلَامٌ حُرّ لَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ أَوْ أَمَتِي أَمَةٌ حُرّةٌ لَا تَبْغِي الْفُجُورَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْعِتْقُ وَلَا نَوَاهُ لَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ قَطْعًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فِي طَرِيقٍ فَافْتَرَقَا فَقِيلَ لَهُ أَيْنَ امْرَأَتُك ؟ فَقَالَ فَارَقْتهَا أَوْ سَرّحَ شَعْرَهَا وَقَالَ سَرّحْتُهَا وَلَمْ يُرِدْ طَلَاقًا لَمْ تَطْلُقْ . كَذَلِكَ إذَا ضَرَبَهَا الطّلْقُ وَقَالَ لِغَيْرِهِ إخْبَارًا عَنْهَا بِذَلِكَ إنّهَا طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي وَثَاقٍ فَأَطْلَقَتْ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ مِنْ الْوَثَاقِ . هَذَا كُلّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصّوَرِ وَبَعْضُهَا نَظِيرُ مَا نُصّ عَلَيْهِ وَلَا يَقَعُ الطّلَاقُ بِهِ حَتّى يَنْوِيَهُ وَيَأْتِيَ بِلَفْظٍ دَالّ عَلَيْهِ فَلَوْ انْفَرَدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ لَمْ يَقَعْ الطّلَاقُ وَلَا الْعِتَاقُ وَتَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَإِنْ كَانَ تَقْسِيمًا صَحِيحًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَكِنْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ فَلَيْسَ حُكْمًا ثَابِتًا لِلّفْظِ لِذَاتِهِ فَرُبّ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ كِنَايَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ أَوْ صَرِيحٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ كِنَايَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ فَهَذَا لَفْظُ السّرَاحِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطّلَاقِ لَا صَرِيحًا وَلَا [ ص 292 ] يُقَالَ إنّ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ لَزِمَهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَيَدّعِي أَنّهُ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالُ فَإِنّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَاسْتِعْمَالًا أَمّا الِاسْتِعْمَالُ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُطَلّقُ بِهِ الْبَتّةَ وَأَمّا الشّرْعُ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الطّلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [ الْأَحْزَابُ 49 ] فَهَذَا السّرَاحُ غَيْرُ الطّلَاقِ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الْفِرَاقُ اسْتَعْمَلَهُ الشّرْعُ فِي غَيْرِ الطّلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } [ الطّلَاقُ 2 ] فَالْإِمْسَاكُ هُنَا : الرّجْعَةُ وَالْمُفَارَقَةُ تَرْكُ الرّجْعَةِ لَا إنْشَاءَ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ هَذَا مِمّا لَا خِلَافَ فِيهِ الْبَتّةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ فُهِمَ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ وَكِلَاهُمَا فِي الْبُطْلَانِ سَوَاءٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الظّهَارِ
وَبَيَانُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَعْنَى الْعَوْدِ الْمُوجِبِ لِلْكَفّارَةِ
قَالَ تَعَالَى : { الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الْمُجَادَلَةُ 2 - 4 ] . ثَبَتَ فِي السّنَنِ و الْمَسَانِيدِ أَنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهِيَ الّتِي جَادَلَتْ فِيهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاشْتَكَتْ إلَى اللّهِ وَسَمِعَ اللّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ تَزَوّجَنِي وَأَنَا شَابّةٌ مَرْغُوبٌ فِيّ فَلَمّا خَلَا سِنّي وَنَثَرَتْ لَهُ بَطْنِي جَعَلَنِي [ ص 293 ] فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا عِنْدِي فِي أَمْرِك شَيْءٌ فَقَالَتْ اللّهُمّ إنّي أَشْكُو إلَيْك وَرُوِيَ أَنّهَا قَالَتْ إنّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إنْ ضَمّهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتهمْ إلَيّ جَاعُوا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَشْكُو إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا فِي كِسْرِ الْبَيْتِ يَخْفَى عَلَيّ بَعْضُ كَلَامِهَا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ الْمُجَادَلَةُ 1 ] . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ قَالَ فَيَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ قَالَ فَلْيُطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدّقُ بِهِ قَالَتْ فَأُتِيَ سَاعَتئِذٍ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ قَالَ أَحْسَنْتِ فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمّكِ وَفِي السّنَنِ [ ص 294 ] أَنّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيّاضِيّ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مُدّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمّ وَاقَعَهَا لَيْلَةً قَبْلَ انْسِلَاخِهِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةَ قَالَ قُلْت : أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ وَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللّهِ فَاحْكُمْ فِيّ بِمَا أَرَاك اللّهُ قَالَ حَرّرْ رَقَبَةً قُلْتُ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ وَهَلْ أَصَبْتُ الّذِي أَصَبْتُ إلّا فِي الصّيَامِ قَالَ فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتّينَ مِسْكِينًا قُلْت : وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ مَا لَنَا طَعَامٌ قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةٍ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيّتَهَا قَالَ فَرُحْتُ إلَى قَوْمِي فَقُلْتُ وَجَدْت عِنْدَكُمْ الضّيقَ وَسُوءَ الرّأْيِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّعَةَ وَحُسْنَ الرّأْيِ وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أَكْفُرَ قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللّهُ قَالَ رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ قَالَ فَلَا تَقْرَبْهَا حَتّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ . [ ص 295 ] سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ فَقَالَ كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ انْتَهَى وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ . وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي ثُمّ وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أَكْفُرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ يَقُلْ اللّهُ { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } ؟ فَقَالَ أَعْجَبَتْنِي فَقَالَ أَمْسِكْ عَنْهَا حَتّى تُكَفّرَ قَالَ الْبَزّارُ : لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِإِسْنَادٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا عَلَى أَنّ إسْمَاعِيلَ بْنَ مُسْلِمٍ قَدْ تَكَلّمَ فِيهِ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ أُمُورًا .
[ إبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَكَذَا إنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ ]
أَحَدُهَا : إبْطَالُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَلَوْ صَرّحَ بِنِيّتِهِ لَهُ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَكَانَ ظِهَارًا وَهَذَا بِالِاتّفَاقِ إلّا مَا عَسَاهُ مِنْ خِلَافٍ شَاذّ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمَا . قَالَ الشّافِعِيّ : وَلَوْ ظَاهَرَ يُرِيدُ طَلَاقًا كَانَ ظِهَارًا أَوْ طَلّقَ يُرِيدُ ظِهَارًا كَانَ طَلَاقًا هَذَا لَفْظُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ خِلَافُ هَذَا وَنَصّ أَحْمَدَ : عَلَى أَنّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ أَنّهُ ظِهَارٌ وَلَا تَطْلُقُ بِهِ وَهَذَا لِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُسِخَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ . وَأَيْضًا فَأَوْسُ بْنُ الصّامِتِ إنّمَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الظّهَارِ دُونَ الطّلَاقِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ كِنَايَةً فِي الْحُكْمِ الّذِي [ ص 296 ] عَزّ وَجَلّ بِشَرْعِهِ وَقَضَاءُ اللّهِ أَحَقّ وَحُكْمُ اللّهِ أَوْجَبُ .

[ حُرْمَةُ الظّهَارِ ]
وَمِنْهَا أَنّ الظّهَارَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِأَنّهُ كَمَا أَخْبَرَ اللّهُ عَنْهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْكَرًا وَجِهَةِ كَوْنِهِ زُورًا أَنّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي يَتَضَمّنُ إخْبَارَهُ عَنْهَا بِذَلِكَ وَإِنْشَاءَهُ تَحْرِيمَهَا فَهُوَ يَتَضَمّنُ إخْبَارًا وَإِنْشَاءً فَهُوَ خَبَرٌ زُورٌ وَإِنْشَاءٌ مُنْكَرٌ فَإِنّ الزّورَ هُوَ الْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقّ الثّابِتِ وَالْمُنْكَرَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ وَخَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ } وَفِيهِ إشْعَارٌ بِقِيَامِ سَبَبِ الْإِثْمِ الّذِي لَوْلَا عَفْوُ اللّهِ وَمَغْفِرَتُهُ لَآخَذَ بِهِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَإِنّمَا تَجِبُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ فَقَدْ لَزِمَهُ وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } قَالَ جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَطَؤُهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . وَحَكَى النّاسُ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنّهُ تَجِبُ الْكَفّارَةُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الثّوْرِيّ وَعُثْمَانَ الْبَتّيّ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَنّ الْعَوْدَ شَرْطٌ فِي الْكَفّارَةِ وَلَكِنْ الْعَوْدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ التّظَاهُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصّيْدِ { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ } [ الْمَائِدَةُ 95 ] أَيْ عَادَ إلَى الِاصْطِيَادِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهِ وَلِهَذَا قَالَ { عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ } [ الْمَائِدَةُ 95 ] قَالُوا : وَلِأَنّ الْكَفّارَةَ إنّمَا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلّمَ بِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزّورِ وَهُوَ الظّهَارُ دُونَ الْوَطْءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ قَالُوا : وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا حَرّمَ الظّهَارَ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ الْعَوْدُ هُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الْإِسْرَاءُ : 8 ] أَيْ إنْ عُدْتُمْ إلَى الذّنْبِ عُدْنَا إلَى الْعُقُوبَةِ ؟ فَالْعَوْدُ هُنَا نَفْسُ فِعْلِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ . قَالُوا : وَلِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُقِلَ حُكْمُهُ مِنْ الطّلَاقِ [ ص 297 ] يَكُونَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ كَالطّلَاقِ . وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : إنّ الْعَوْدَ أَمْرٌ وَرَاءَ مُجَرّدِ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانٌ لِحُكْمِ مَنْ يُظَاهِرُ فِي الْإِسْلَام وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِلَفْظِ الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلًا فَقَالَ يُظَاهِرُونَ وَإِذَا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ ظِهَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِنْدَكُمْ نَفْسُ الْعَوْدِ فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَهُ ثُمّ يَعُودُونَ وَأَنّ مَعْنَى هَذَا الْعَوْدِ غَيْرُ الظّهَارِ عِنْدَكُمْ ؟ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ كَانَ الْعَوْدُ مَا ذَكَرْتُمْ وَكَانَ الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الْمَاضِي كَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَلّذِينَ ظَاهَرُوا مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمّ عَادُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفّارَةُ إلّا عَلَى مَنْ تَظَاهَرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَيْنَ تُوجِبُونَهَا عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الظّهَارَ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ عَائِدٍ ؟ فَإِنّ هُنَا أَمْرَيْنِ ظِهَارٌ سَابِقٌ وَعَوْدٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الظّهَارِ الْآنَ بِالْكُلّيّةِ إلّا أَنْ تَجْعَلُوا " يُظَاهِرُونَ " لِفُرْقَةٍ وَيَعُودُونَ لِفُرْقَةٍ وَلَفْظُ الْمُضَارِعِ نَائِبًا عَنْ لَفْظِ الْمَاضِي وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنّظْمِ وَمُخْرِجٌ عَنْ الْفَصَاحَةِ . الثّالِثُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفّارَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا : هَلْ تَظَاهَرَا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا عَنْ الْعَوْدِ الّذِي تَجْعَلُونَهُ شَرْطًا وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَسَأَلَهُمَا عَنْهُ . قِيلَ أَمّا مَنْ يَجْعَلُ الْعَوْدَ نَفْسَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الظّهَارِ زَمَنًا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطّلَاقِ فِيهِ فَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ نَفْسُ حُجّتِهِ وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ وَالْعَزْمُ قَالَ سِيَاقُ الْقِصّةِ بَيّنٌ فِي أَنّ الْمُتَظَاهِرِينَ كَانَ قَصْدُهُمْ الْوَطْءُ وَإِنّمَا أَمْسَكُوا لَهُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَأَمّا كَوْنُ الظّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَنَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ [ ص 298 ] عَزّ وَجَلّ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي هَذَا الْمُنْكَرِ وَالزّوْرِ بِأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْعَوْدِ كَمَا أَنّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ إنّمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَطْءِ لَا عَلَى أَحَدِهِمَا .

فَصْلٌ
وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا تَجِبُ الْكَفّارَةُ إلّا بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظّهَارِ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعَوْدِ هَلْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ بِعَيْنِهِ أَوْ أَمْرٌ وَرَاءَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الظّاهِر ِ كُلّهُمْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَمْ يَحْكُوا هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ الْبَتّةَ وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشّكَاةُ لَا يَكَادُ مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ يَخْلُو عَنْهَا . قَالُوا : فَلَمْ يُوجِبْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفّارَةَ إلّا بِالظّهَارِ الْمُعَادِ لَا الْمُبْتَدَأِ . قَالُوا : وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ الْعَرَبَ لَا يُعْقَلُ فِي لُغَاتِهَا الْعَوْدُ إلَى الشّيْءِ إلّا فِعْلُ مِثْلِهِ مَرّةً ثَانِيَةً قَالُوا : وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [ الْأَنْعَامُ 28 ] فَهَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ سَوَاءٌ فِي أَنّهُ عَدّى فِعْلَ الْعَوْدِ بِاللّامِ وَهُوَ إتْيَانُهُمْ مَرّةً ثَانِيَةً بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ أَوّلًا وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الْإِسْرَاءُ : 8 ] أَيْ إنْ كَرّرْتُمْ الذّنْبَ كَرّرْنَا الْعُقُوبَةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [ الْمُجَادَلَةُ 8 ] وَهَذَا فِي سُورَةِ الظّهَارِ نَفْسِهَا وَهُوَ يُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ الْعَوْدِ فِيهِ فَإِنّهُ نَظِيرُهُ فِعْلًا وَإِرَادَةً وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ بِذِكْرِهِ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَاَلّذِي قَالُوهُ هُوَ لَفْظُ الظّهَارِ فَالْعَوْدُ إلَى الْقَوْلِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مَرّةً ثَانِيَةً لَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا . قَالُوا : وَأَيْضًا فَمَا عَدَا تَكْرَارَ اللّفْظِ إمّا إمْسَاكٌ وَإِمّا عَزْمٌ وَإِمّا فِعْلٌ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِقَوْلٍ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَوْدًا لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنَى وَلِأَنّ الْعَزْمَ وَالْوَطْءَ وَالْإِمْسَاكَ لَيْسَ ظِهَارًا فَيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَوْدًا إلَى الظّهَارِ . قَالُوا : وَلَوْ أُرِيدَ بِالْعَوْدِ الرّجُوعُ فِي الشّيْءِ الّذِي مَنَعَ مِنْهُ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ عَادَ [ ص 299 ] لَقَالَ ثُمّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ وَاحْتَجّ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ كَانَ بِهِ لَمَمٌ فَكَانَ إذَا اشْتَدّ بِهِ لَمَمُهُ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ كَفّارَةَ الظّهَارِ . فَقَالَ هَذَا يَقْتَضِي التّكْرَارَ وَلَا بُدّ قَالَ وَلَا يَصِحّ فِي الظّهَارِ إلّا هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ . قَالَ وَأَمّا تَشْنِيعُكُمْ عَلَيْنَا بِأَنّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ فَأَرَوْنَا مِنْ الصّحَابَةِ مَنْ قَالَ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ أَوْ الْعَزْمُ أَوْ الْإِمْسَاكُ أَوْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى الظّهَارِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلَوْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ الصّحَابَةِ فَلَا تَكُونُونَ أَسْعَدَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّا أَبَدًا .
فَصْلٌ
وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : لَيْسَ مَعْنَى الْعَوْدِ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ لِأَنّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ الْعَوْدَ لَقَالَ ثُمّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا لِأَنّهُ يُقَالُ أَعَادَ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ وَأَمّا عَادَ فَإِنّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا يُقَالُ عَادَ فِي فِعْلِهِ وَفِي هِبَتِهِ فَهَذَا اسْتِعْمَالُهُ بِ " فِي " . وَيُقَالُ عَادَ إلَى عَمَلِهِ وَإِلَى وِلَايَتِهِ وَإِلَى حَالِهِ وَإِلَى إحْسَانِهِ وَإِسَاءَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَادَ لَهُ أَيْضًا . وَأَمّا الْقَوْلُ فَإِنّمَا يُقَالُ أَعَادَهُ كَمَا قَالَ ضِمَادُ بْنُ ثَعْلَبَةَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعِدْ عَلَيّ كَلِمَاتِك وَكَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ " أَعِدْهَا عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّه وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ [ ص 300 ] يُقَالُ أَعَادَ مَقَالَتَهُ وَعَادَ لِمَقَالَتِهِ وَفِي الْحَدِيثِ فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ بِمَعْنَى أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِأَنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مُحَالٌ كَإِعَادَةِ أَمْسٍ . قَالَ لِأَنّهُ لَا يَتَهَيّأُ اجْتِمَاعُ زَمَانَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفِعْلِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْأَوّلِ لَا بِعَيْنِهِ وَالْعَجَبُ مِنْ مُتَعَصّبٍ يَقُولُ لَا يُعْتَدّ بِخِلَافِ الظّاهِرِيّةِ وَيُبْحَثُ مَعَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبُحُوثِ وَيُرَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الرّدّ وَكَذَلِكَ رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ فَإِنّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ وَإِنّمَا نَظِيرُهَا { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ آيَةِ الظّهَارِ فَإِنّ عَوْدَهُمْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ هُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى نَفْسِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَهُوَ النّجْوَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إعَادَةَ تِلْكَ النّجْوَى بِعَيْنِهَا بَلْ رُجُوعُهُمْ إلَى الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الظّهَارِ { يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أَيْ لِقَوْلِهِمْ . فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالْمُحَرّمَةِ فَالْعَوْدُ إلَى الْمُحَرّمِ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ فِعْلُهُ فَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ . وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْقَوْلَ فِي مَعْنَى الْمَقُولِ وَالْمَقُولُ هُوَ التّحْرِيمُ وَالْعَوْدُ لَهُ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ اسْتِبَاحَتُهُ عَائِدًا إلَيْهِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ اللّغَةِ الْعَرَبِيّةِ وَاسْتِعْمَالِهَا وَهَذَا الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَطَاوُوسٌ وَالْحَسَن ُ وَالزّهْرِيّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ أَنّهُ فَسّرَ الْآيَةَ بِإِعَادَةِ اللّفْظِ الْبَتّةَ لَا مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا مِنْ التّابِعِينَ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَا هُنَا أَمْرٌ خَفِيَ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ إعَادَةَ اللّفْظِ وَهُوَ أَنّ الْعَوْدَ إلَى الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَةَ الْحَالِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ وَعَوْدَهُ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوّلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الْإِسْرَاءُ 8 ] أَلَا تَرَى أَنّ عَوْدَهُمْ مُفَارَقَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْسَانِ وَعَوْدُهُمْ إلَى الْإِسَاءَةِ وَكَقَوْلِ الشّاعِرِ وَإِنْ عَادَ لِلْإِحْسَانِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ وَالْحَالُ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ التّحْرِيمُ بِالظّهَارِ وَاَلّتِي كَانَ عَلَيْهَا إبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالنّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلْحِلّ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ عَوْدٌ إلَى حِلّ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الظّهَارِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفّارَةِ فَتَأَمّلْهُ فَالْعَوْدُ يَقْتَضِي أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَظَهَرَ سِرّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ فَإِنّ الْهِبَةَ بِمَعْنَى الْمَوْهُوبِ وَهُوَ عَيْنٌ يَتَضَمّنُ عَوْدُهُ فِيهِ إدْخَالَهُ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرّفَهُ فِيهِ كَمَا كَانَ أَوّلًا بِخِلَافِ الْمُظَاهِرِ فَإِنّهُ بِالتّحْرِيمِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الزّوْجِيّةِ وَبِالْعَوْدِ قَدْ طَلَبَ الرّجُوعَ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مَعَهَا قَبْلَ التّحْرِيمِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ أَنْ يُقَالَ عَادَ لِكَذَا يَعْنِي : عَادَ إلَيْهِ . وَفِي الْهِبَةِ عَادَ إلَيْهَا وَقَدْ أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِكَفّارَةِ الظّهَارِ وَلَمْ يَتَلَفّظَا بِهِ مَرّتَيْنِ فَإِنّهُمَا لَمْ يُخْبِرَا بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أَزْوَاجُهُمَا عَنْهُمَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا سَأَلَهُمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ قُلْتُمَا ذَلِكَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ؟ وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا أَهْمَلَ بَيَانَهُ . وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْعَوْدَ يَتَضَمّنُ أَمْرَيْنِ أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ وَأَمْرًا يَعُودُ عَنْهُ وَلَا بُدّ مِنْهُمَا فَاَلّذِي يَعُودُ عَنْهُ يَتَضَمّنُ نَقْضَهُ وَإِبْطَالَهُ وَاَلّذِي يَعُودُ إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إيثَارَهُ وَإِرَادَتَهُ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ يَقْتَضِي نَقْضَ الظّهَارِ وَإِبْطَالَهُ وَإِيثَارَ ضِدّهِ وَإِرَادَتَهُ وَهَذَا عَيْنُ فَهْمِ السّلَفِ مِنْ الْآيَةِ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْإِصَابَةُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْوَطْءُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ اللّمْسُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْعَزْمُ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي الظّهَارِ الْمُعَادِ إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْمُعَادَ لَفْظُهُ فَدَعْوَى بِحَسَبِ مَا فَهِمْتُمُوهُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الظّهَارَ الْمُعَادَ فِيهِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ . وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي ظِهَارِ أَوْسِ بْنِ الصّامِتِ فَمَا أَصَحّهُ وَمَا أَبْعَدَ دَلَالَتُهُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ .

فَصْلٌ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتَ طَالِقٌ
ثُمّ الّذِينَ جَعَلُوا الْعَوْدَ أَمْرًا غَيْرَ إعَادَةِ اللّفْظِ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مُجَرّدُ إمْسَاكِهَا بَعْدَ الظّهَارِ أَوْ أَمْرٌ غَيْرُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى لَمْ [ ص 302 ] يَصِلْ الطّلَاقَ بِالظّهَارِ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ . قَالَ مُنَازِعُوهُ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالثّوْرِيّ فَإِنّ هَذَا النّفَسَ الْوَاحِدَ لَا يُخْرِجُ الظّهَارَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجَبَ الْكَفّارَةِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُوجِبْ الْكَفّارَةَ إلّا لَفْظُ الظّهَارِ وَزَمَنُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ إيجَابًا وَلَا نَفْيًا فَتَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِهِ مُمْتَنِعٌ وَلَا تُسَمّى تِلْكَ اللّحْظَةُ وَالنّفَسُ الْوَاحِدُ مِنْ الْأَنْفَاسِ عَوْدًا لَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشّارِعِ وَأَيّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْيَسِيرِ جِدّا مِنْ الزّمَانِ مِنْ مَعْنَى الْعَوْدِ أَوْ حَقِيقَتِهِ ؟ . قَالُوا : وَهَذَا لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ إعَادَةُ اللّفْظِ بِعَيْنِهِ فَإِنّ ذَلِكَ قَوْلٌ مَعْقُولٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعَوْدُ لُغَةً وَحَقِيقَةً وَأَمّا هَذَا الْجُزْءُ مِنْ الزّمَانِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيهِ الْعَوْدُ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِمَا طَالَبْتُمْ بِهِ الظّاهِرِيّةَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ الشّافِعِيّ ؟ قَالُوا : وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بِالْعَوْدِ بِحَرْفِ " ثُمّ " الدّالّةِ عَلَى التّرَاخِي عَنْ الظّهَارِ فَلَا بُدّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَوْدِ وَبَيْنَ الظّهَارِ مُدّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ وَبِمُجَرّدِ انْقِضَاءِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي صَارَ عَائِدًا مَا لَمْ يَصِلْهُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَيْنَ التّرَاخِي وَالْمُهْلَةُ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالظّهَارِ ؟ وَالشّافِعِيّ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَإِنّمَا أَخْبَرَ أَنّهُ أَوْلَى الْمَعَانِي بِالْآيَةِ فَقَالَ الّذِي عَقَلْتُ مِمّا سَمِعْتُ فِي { يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أَنّهُ إذَا أَتَتْ عَلَى الْمُظَاهِرِ مُدّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالظّهَارِ لَمْ يُحَرّمْهَا بِالطّلَاقِ الّذِي يَحْرُمُ بِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ كَأَنّهُمْ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّهُ إذَا أَمْسَكَ مَا حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنّهُ حَلَالٌ فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ فَخَالَفَهُ فَأَحَلّ مَا حَرّمَ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا . انْتَهَى .

فَصْلٌ [ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ]
وَاَلّذِينَ جَعَلُوهُ أَمْرًا وَرَاءَ الْإِمْسَاكِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ مَالِك ٌ فِي إحْدَى [ ص 303 ] عُبَيْدٍ : هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يَقُولُ إذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَوْ طَلّقَهَا بَعْدَ مَا يَجْمَعُ أَكَانَ عَلَيْهِ كَفّارَةٌ إلّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ طَاوُوسٍ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطّلَاقِ ؟ .
[ مَنْ قَالَ بِأَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَوْ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا ]
ثُمّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلّقَ بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَبْلَ الْوَطْءِ هَلْ تَسْتَقِرّ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْخَطّابِ تَسْتَقِرّ الْكَفّارَةُ . وَقَالَ الْقَاضِي وَعَامّةُ أَصْحَابِهِ لَا تَسْتَقِرّ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ وَرِوَايَةُ " الْمُوَطّأِ " خِلَافُ هَذَا كُلّهِ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا .
[ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ ]
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ . وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } قَالَ الْغَشَيَانُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفّرَ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ بَلْ مَذْهَبُهُ الّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنّهُ الْوَطْءُ وَيَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا قَبْلَهُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ .
[ حُجَجُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْعَزْمُ ]
وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْكَفّارَةِ { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } فَأَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ وَقَبْلَ التّمَاسّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الْعَوْدَ غَيْرُ التّمَاسّ وَأَنّ مَا يَحْرُمُ قَبْلَ الْكَفّارَةِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدّمًا عَلَيْهَا . قَالُوا : وَلِأَنّهُ قَصَدَ بِالظّهَارِ تَحْرِيمَهَا وَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ . قَالُوا : وَلِأَنّ الظّهَارَ تَحْرِيمٌ فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التّحْرِيمِ فَكَانَ عَائِدًا .
[ حُجَجُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ ]
قَالَ الّذِينَ جَعَلُوهُ الْوَطْءَ لَا رَيْبَ أَنّ الْعَوْدَ فِعْلٌ ضِدّ قَوْلِهِ كَمَا تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ وَالْعَائِدُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَلَه : هُوَ فَاعِلُهُ لَا مُرِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } فَهَذَا فِعْلُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ نَفْسِهِ لَا إرَادَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ أَصْحَابُ الْعَزْمِ فَإِنّ قَوْلَهُمْ إنّ الْعَوْدَ يَتَقَدّمُ التّكْفِيرَ وَالْوَطْءُ مُتَأَخّرٌ عَنْهُ فَهُمْ يَقُولُونَ إنّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } [ الْمَائِدَةُ 6 ] وَنَظَائِرِهِ مِمّا يُطْلَقُ الْفِعْلُ فِيهِ عَلَى إرَادَتِهِ [ ص 304 ] قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِنَفْسِ اللّفْظِ الْأَوّلِ وَبِالْإِمْسَاكِ نَفَسًا وَاحِدًا بَعْدَ الظّهَارِ وَبِتَكْرَارِ لَفْظِ الظّهَارِ وَبِالْعَزْمِ الْمُجَرّدِ لَوْ طَلّقَ بَعْدَهُ فَإِنّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلّهَا قَدْ تَبَيّنَ ضَعْفُهَا فَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إلَى دِلَالَةِ اللّفْظِ وَقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ وَأَقْوَالِ الْمُفَسّرِينَ هُوَ هَذَا . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ [ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفّارَةِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ]
وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفّارَةِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعَانَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ بِعَرَقِ مَنْ تَمْرٍ وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِمِثْلِهِ حَتّى كَفّرَ وَأَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ قَوْمِهِ فَيُكَفّرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ سَقَطَتْ بِالْعَجْزِ لَمَا أَمَرَهُمَا بِإِخْرَاجِهَا بَلْ تَبْقَى فِي ذِمّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحَدُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى سُقُوطِهَا بِالْعَجْزِ كَمَا تَسْقُطُ الْوَاجِبَاتُ بِعَجْزِهِ عَنْهَا وَعَنْ إبْدَالِهَا . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أَنّ كَفّارَةَ رَمَضَانَ لَا تَبْقَى فِي ذِمّتِهِ بَلْ تَسْقُطُ وَغَيْرَهَا مِنْ الْكَفّارَاتِ لَا تَسْقُطُ وَهَذَا الّذِي صَحّحَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيّةَ . وَاحْتَجّ مَنْ أَسْقَطَهَا بِأَنّهَا لَوْ وَجَبَتْ مَعَ الْعَجْزِ لَمَا صُرِفَتْ إلَيْهِ فَإِنّ الرّجُلَ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِكَفّارَتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ وَأَرْبَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ يَقُولُونَ إذَا عَجَزَ عَنْهَا وَكَفّرَ الْغَيْرُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَيْهِ كَمَا صَرَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَفّارَةَ مَنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ إلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ وَكَمَا أَبَاحَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ كَفّارَتِهِ الّتِي أَخْرَجَهَا عَنْهُ مِنْ صَدَقَةِ قَوْمِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْهُ فِي كَفّارَةِ مَنْ وَطِئَ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ وَعَنْهُ فِي سَائِرِ الْكَفّارَاتِ رِوَايَتَانِ . وَالسّنّةُ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ إذَا أَعْسَرَ بِالْكَفّارَةِ وَكَفّرَ عَنْهُ غَيْرُهُ جَازَ صَرْفُ كَفّارَتِهِ إلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ إذَا كَانَ فَقِيرًا لَهُ عِيَالٌ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ؟ قِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ الْمُسْتَحَقّ عَلَيْهِ [ ص 305 ] السّاعِي أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْهُ فِي أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا عَنْهُ ؟ قِيلَ لَا نَصّ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا أَذِنَ السّيّدُ لِعَبْدِهِ فِي التّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ ؟ قِيلَ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التّكْفِيرِ بِالْمَالِ هَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الصّيَامِ إلَيْهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَفَرْضُهُ الصّيَامُ وَالثّانِيَةُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ لِأَنّ الْمَنْعَ لِحَقّ السّيّدِ وَقَدْ أَذِنَ فِيهِ فَإِذَا قُلْنَا : لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ الْعِتْقُ ؟ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقُ يَعْتَمِدُ الْوَلَاءَ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ أَنّ لَهُ الْإِعْتَاقَ فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ عِتْقُ نَفْسِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ إطْلَاقُ الْإِذْنِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنّ الْإِذْنَ فِي الْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى إعْتَاقِ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الصّدَقَةِ انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى الصّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ .

فَصْلٌ [ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَا هُنَا فِي مَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : هَلْ لَهُ مُبَاشَرَتُهَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ التّكْفِيرِ أَمْ لَا ؟ وَالثّانِي : أَنّهُ إذَا كَانَتْ كَفّارَتُهُ الْإِطْعَامَ فَهَلْ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَهُ أَمْ لَا ؟ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلَانِ لِلشّافِعِيّ . وَوَجْهُ مَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } وَلِأَنّهُ شَبّهَهَا بِمَنْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهُ وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنّ التّمَاسّ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ تَحْرِيمُ دَوَاعِيهِ فَإِنّ الْحَائِضَ يَحْرُمُ جِمَاعُهَا دُونَ دَوَاعِيهِ وَالصّائِمَ يَحْرُمُ مِنْهُ الْوَطْءُ دُونَ دَوَاعِيهِ وَالْمَسْبِيّةَ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا دُونَ دَوَاعِيهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . [ ص 306 ] وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وَطْؤُهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ إذَا كَانَ بِالْإِطْعَامِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَيّدَ التّكْفِيرَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي الْعِتْقِ وَالصّيَامِ وَأَطْلَقَهُ فِي الْإِطْعَامِ وَلِكُلّ مِنْهُمَا حِكْمَةٌ فَلَوْ أَرَادَ التّقْيِيدَ فِي الْإِطْعَامِ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْعِتْقِ وَالصّيَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُقَيّدْ هَذَا وَيُطْلِقْ هَذَا عَبَثًا بَلْ لِفَائِدَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا فَائِدَةَ إلّا تَقْيِيدُ مَا قَيّدَهُ وَإِطْلَاقُ مَا أَطْلَقَهُ . وَوَجْهُ الْمَنْعِ اسْتِفَادَةُ حُكْمِ مَا أَطْلَقَهُ مِمّا قَيّدَهُ إمّا بَيَانًا عَلَى الصّحِيحِ وَإِمّا قِيَاسًا قَدْ أُلْغِيَ فِيهِ الْفَارِقُ بَيْنَ الصّورَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } مَرّتَيْنِ فَلَوْ أَعَادَهُ ثَالِثًا لَطَالَ بِهِ الْكَلَامُ وَنَبّهَ بِذِكْرِهِ مَرّتَيْنِ عَلَى تَكَرّرِ حُكْمِهِ فِي الْكَفّارَاتِ وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَرّةً وَاحِدَةً لَأَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِالْكَفّارَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي أَوّلِ مَرّةٍ لَأَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِالْأُولَى وَإِعَادَتُهُ فِي كُلّ كَفّارَةٍ تَطْوِيلٌ وَكَانَ أَفْصَحَ الْكَلَامِ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْجَزَهُ مَا وَقَعَ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ نَبّهَ بِالتّكْفِيرِ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالصّوْمِ مَعَ تَطَاوُلِ زَمَنِهِ وَشِدّةِ الْحَاجَةِ إلَى مَسِيسِ الزّوْجَةِ عَلَى أَنّ اشْتِرَاطَ تَقَدّمِهِ فِي الْإِطْعَامِ الّذِي لَا يَطُولُ زَمَنُهُ أَوْلَى .

فَصْلٌ [ هَلْ يُبْطِلُ الْمَسّ تَتَابُعَ الصّيَامِ ؟]
وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصّيَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَذَلِكَ يَعُمّ الْمَسِيسَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمّةِ فِي تَحْرِيمِ وَطْئِهَا فِي زَمَنِ الصّوْمِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُبْطِلُ التّتَابُعُ بِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : يُبْطِلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك ٍ وَأَبِي حَنِيفَة َ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالثّانِي : لَا يُبْطِلُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ . وَاَلّذِينَ أَبْطَلُوا التّتَابُعَ مَعَهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِشَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنّ ذَلِكَ يَتَضَمّنُ النّهْيَ عَنْ الْمَسِيسِ قَبْلَ إكْمَالِ الصّيَامِ وَتَحْرِيمِهِ وَهُوَ يُوجِبُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِالصّوْمِ لِأَنّهُ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَكُونُ رَدّا . وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : تَتَابُعُ الشّهْرَيْنِ وَالثّانِي: [ ص 307 ] الْمَسَاكِينِ التّمْلِيكُ وَلَا إطْعَامُهُمْ جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرّقِينَ وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَطْلَقَ إطْعَامَ الْمَسَاكِينِ وَلَمْ يُقَيّدْهُ بِقَدْرِ وَلَا تَتَابُعٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنّهُ لَوْ أَطْعَمَهُمْ فَغَدّاهُمْ وَعَشّاهُمْ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكِ حَبّ أَوْ تَمْرٍ جَازَ وَكَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ اللّهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَسَوَاءٌ أَطْعَمَهُمْ جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرّقِينَ .
فَصْلٌ [ لَا بُدّ مِنْ إطْعَامِ سِتّينَ مِسْكِينًا مُخْتَلِفِينَ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا بُدّ مِنْ اسْتِيفَاءِ عَدَدِ السّتّينَ فَلَوْ أَطْعَمَ وَاحِدًا سِتّينَ يَوْمًا لَمْ يَجْزِهِ إلّا عَنْ وَاحِدٍ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَالِك ٍ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَد َ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثّانِيَةُ أَنّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا وَلَوْ لِوَاحِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثّالِثَةُ إنْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ وَإِلّا أَجْزَأَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَهِيَ أَصَحّ الْأَقْوَالِ .
فَصْلٌ [ لَا تُدْفَعُ الْكَفّارَةُ إلّا إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يُجْزِئُهُ دَفْعُ الْكَفّارَةِ إلّا إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ كَمَا يَدْخُلُ الْمَسَاكِينُ فِي لَفْظِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَمّمَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الْحُكْمَ فِي كُلّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الزّكَاةِ لِحَاجَتِهِ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السّبِيلِ وَالْغَارِمُ لِمَصْلَحَتِهِ وَالْمُكَاتَبُ . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمَسَاكِينِ فَلَا يَتَعَدّاهُمْ .

فَصْلٌ [ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ فِي الرّقَبَةِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ الرّقَبَةَ هَا هُنَا وَلَمْ يُقَيّدْهَا بِالْإِيمَانِ وَقَيّدَهَا فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ بِالْإِيمَانِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي غَيْرِ كَفّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَشَرَطَهُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد ُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَهْلُ الظّاهِرِ وَاَلّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْإِيمَانَ قَالُوا : لَوْ كَانَ شَرْطًا لَبَيّنَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا بَيّنَهُ فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ بَلْ يُطْلَقُ مَا أَطْلَقَهُ [ ص 308 ] وَزَادَتْ الْحَنَفِيّةُ أَنّ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النّصّ وَهُوَ نَسْخٌ وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ إلّا بِالْقُرْآنِ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ . قَالَ الْآخَرُونَ وَاللّفْظُ لِلشّافِعِيّ شَرَطَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ مُؤْمِنَةً كَمَا شَرَطَ الْعَدْلَ فِي الشّهَادَةِ وَأَطْلَقَ الشّهُودَ فِي مَوَاضِعَ فَاسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنّ مَا أُطْلِقَ مِنْ الشّهَادَاتِ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى مَا شُرِطَ وَإِنّمَا رَدّ اللّهُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَفَرَضَ اللّهُ الصّدَقَاتِ فَلَمْ تَجُزْ إلّا لِلْمُؤْمِنِينَ فَكَذَلِكَ مَا فَرَضَ مِنْ الرّقَابِ لَا يَجُوزُ إلّا لِمُؤْمِنِ فَاسْتَدَلّ الشّافِعِيّ بِأَنّ لِسَانَ الْعَرَبِ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيّدِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَحُمِلَ عُرْفُ الشّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ . وَهَا هُنَا أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيّدِ بَيَانٌ لَا قِيَاسٌ .
الثّانِي : أَنّهُ إنّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا : اتّحَادُ الْحُكْمِ . وَالثّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلّا أَصْلٌ وَاحِدٌ . فَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلّا بِدَلِيلِ يُعَيّنُهُ . قَالَ الشّافِعِيّ : وَلَوْ نَذَرَ رَقَبَةً مُطْلَقَةً لَمْ يَجْزِهِ إلّا مُؤْمِنَةٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَنّ النّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى وَاجِبِ الشّرْعِ وَوَاجِبُ الْعِتْقِ لَا يَتَأَدّى إلّا بِعِتْقِ الْمُسْلِمِ . وَمِمّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَنْ اسْتَفْتَى فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ مَنْذُورَةٍ ائْتِنِي بِهَا فَسَأَلَهَا أَيْنَ اللّهُ ؟ فَقَالَتْ فِي السّمَاءِ فَقَالَ مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ فَقَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنّهَا مُؤْمِنَةٌ قَالَ الشّافِعِيّ : فَلَمّا وَصَفَتْ الْإِيمَانَ أَمَرَ بِعِتْقِهَا انْتَهَى . [ ص 309 ] بِالْإِيمَانِ فَائِدَةٌ فَإِنّ الْأَعَمّ مَتَى كَانَ عِلّةً لِلْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصّ عَدِيمَ التّأْثِيرِ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْتَاقِ الْمُسْلِمِ تَفْرِيغُهُ لِعِبَادَةِ رَبّهِ وَتَخْلِيصُهُ مِنْ عُبُودِيّةِ الْمَخْلُوقِ إلَى عُبُودِيّةِ الْخَالِقِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِلشّارِعِ مَحْبُوبٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَكَيْفَ يَسْتَوِي عِنْدَ اللّهِ وَرَسُولِهِ تَفْرِيغُ الْعَبْدِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَتَفْرِيغُهُ لِعِبَادَةِ الصّلِيبِ أَوْ الشّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنّارِ وَقَدْ بَيّنَ سُبْحَانَهُ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ وَأَحَالَ مَا سَكَتَ عَنْهُ عَلَى بَيَانِهِ كَمَا بَيّنَ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشّاهِدَيْنِ وَأَحَالَ مَا أَطْلَقَهُ وَسَكَتَ عَنْهُ عَلَى مَا بَيّنَهُ وَكَذَلِكَ غَالِبُ مُطْلَقَاتِ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَمُقَيّدَاتِهِ لِمَنْ تَأَمّلَهَا وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ فَمِنْهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ أُمِرَ بِصَدَقَةِ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النّسَاءُ 114 ] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ مَوَاضِعَ يُعَلّقُ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ اكْتِفَاءً بِالشّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } [ الْأَنْبِيَاءُ 94 ] وَفِي مَوْضِعٍ يُعَلّقُ الْجَزَاءَ بِنَفْسِ الْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ اكْتِفَاءً بِمَا عُلِمَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ وَهَذَا غَالِبٌ فِي نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ .

فَصْلٌ [ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُعْتِقًا لِرَقَبَةِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُعْتِقًا لِرَقَبَةِ وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنّاسِ وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد َ ثَانِيهَا الْإِجْزَاءُ وَثَالِثُهَا وَهُوَ أَصَحّهَا : أَنّهُ إنْ تَكَمّلَتْ الْحُرّيّةُ فِي الرّقَبَتَيْنِ أَجْزَاهُ وَإِلّا فَلَا فَإِنّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنّهُ حَرّرَ رَقَبَةً أَيْ جَعَلَهَا حُرّةً بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكْمُلْ الْحُرّيّةُ .
فَصْلٌ [ لَا تَسْقُطُ الْكَفّارَةُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ التّكْفِيرِ وَلَا تَتَضَاعَفُ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَسْقُطُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ التّكْفِيرِ وَلَا تَتَضَاعَفُ بَلْ هِيَ [ ص 310 ] كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي تَقَدّمَ قَالَ الصّلْتُ بْنُ دِينَارٍ : سَأَلْتُ عَشْرَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ فَقَالُوا : كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ وَهُمْ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَسْرُوقٌ وَبَكْرٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ . قَالَ وَالْعَاشِرُ أَرَاهُ نَافِعًا وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَصَحّ عَنْ ابْنِ عُمَر َ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ عَلَيْهِ كَفّارَتَيْنِ وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي الّذِي يُظَاهِرُ ثُمّ يَطَؤُهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفّارَاتٍ وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي يُوسُف َ أَنّ الْكَفّارَةَ تَسْقُطُ وَوَجْهُ هَذَا أَنّهُ فَاتَ وَقْتُهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إخْرَاجِهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ . وَجَوَابُ هَذَا أَنّ فَوَاتَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ فِي الذّمّةِ كَالصّلَاةِ وَالصّيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَوَجْهُ وُجُوبِ الْكَفّارَتَيْنِ أَنّ إحْدَاهُمَا لِلظّهَارِ الّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ وَالثّانِيَةَ لِلْوَطْءِ الْمُحَرّمِ كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَوَطْءِ الْمُحْرِمِ وَلَا يُعْلَمُ لِإِيجَابِ الثّلَاثِ وَجْهٌ إلّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى إقْدَامِهِ عَلَى الْحَرَامِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدُلّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِيلَاء
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ أَنَسٍ قَالَ آلَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمّ نَزَلَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ " إنّ الشّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ { لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 226 ] [ ص 311 ] الْإِيلَاءُ لُغَةً الِامْتِنَاعُ بِالْيَمِينِ وَخُصّ فِي عُرْفِ الشّرْعِ بِالِامْتِنَاعِ بِالْيَمِينِ مِنْ وَطْءِ الزّوْجَةِ وَلِهَذَا عُدّيَ فِعْلُهُ بِأَدَاةِ " مِنْ " تَضْمِينًا لَهُ مَعْنَى " يَمْتَنِعُونَ " مِنْ نِسَائِهِمْ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ إقَامَةِ " مِنْ " مَقَامَ " عَلَى " وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلْأَزْوَاجِ مُدّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَمْتَنِعُونَ فِيهَا مِنْ وَطْءِ نِسَائِهِمْ بِالْإِيلَاءِ فَإِذَا مَضَتْ فَإِمّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمّا أَنْ يُطَلّقَ وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْ عَلِي ّ وَابْنِ عَبّاسٍ أَنّ الْإِيلَاءَ إنّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ الرّضَى كَمَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ نِسَائِهِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْجُمْهُورِ . وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ وَرَجُلٌ آخَرُ فَاحْتَجّ عَلَى مُحَمّدٍ بِقَوْلِ عَلِيّ فَاحْتَجّ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ بِالْآيَةِ فَسَكَتَ . وَقَدْ دَلّتْ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ .
[ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ ]
مِنْهَا : هَذَا . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذّ أَنّهُ مُؤْلٍ .
[ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ كَانَتْ مُدّةُ الِامْتِنَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِأَنّ اللّهَ جَعَلَ لَهُمْ مُدّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا إمّا أَنْ يُطَلّقُوا وَإِمّا أَنْ يَفِيئُوا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَة َ مُؤْلِيًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنّ الْمُدّةَ الْمَضْرُوبَةَ أَجَلٌ لِوُقُوعِ الطّلَاقِ بِانْقِضَائِهَا وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْمُدّةَ أَجَلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السّلَفُ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَقَالَ الشّافِعِيّ حَدّثْنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصّحَابَةِ كُلّهُمْ يُوقِفُ الْمُؤْلِي [ ص 312 ] وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمُؤْلِي فَقَالُوا : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ فِيهَا طَلَقَتْ مِنْهُ بِمُضِيّهَا وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التّابِعِينَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقّ الْمُطَالَبَةَ قَبْلَ مُضِيّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ فَاءَ وَإِلّا طَلَقَتْ بِمُضِيّهَا . وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَسْتَحِقّ الْمُطَالَبَةَ حَتّى تَمْضِيَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَحِينَئِذٍ يُقَالُ إمّا أَنْ تَفِيءَ وَإِمّا أَنْ تُطَلّقَ وَإِنْ لَمْ يَفِئْ أُخِذَ بِإِيقَاعِ الطّلَاقِ إمّا بِالْحَاكِمِ وَإِمّا بِحَبْسِهِ حَتّى يُطَلّقَ .

[ حُجَجُ مَنْ أَوْقَعَ الطّلَاقَ بِمُضِيّ الْمُدّةِ ]
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلطّلَاقِ بِمُضِيّ الْمُدّةِ آيَةُ الْإِيلَاءِ تَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ " فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنّ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فَإِضَافَةُ الْفَيْئَةِ إلَى الْمُدّةِ تَدُلّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ إمّا أَنْ تُجْرَى مَجْرَى الْخَبَرِ الْوَاحِدِ فَتُوجِبُ الْعَمَلَ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَإِمّا أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ هَذَا الْبَتّةَ . الثّانِي : أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مُدّةَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَلَوْ كَانَتْ الْفَيْئَةُ بَعْدَهَا لَزَادَتْ عَلَى مُدّةِ النّصّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . [ ص 313 ] الثّالِثُ أَنّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي مُدّةِ الْإِيلَاءِ لَوَقَعَتْ الْفَيْئَةُ مَوْقِعَهَا فَدَلّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا . قَالُوا : وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ تَرَبّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمّ قَالَ { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ } وَظَاهِرُ هَذَا أَنّ هَذَا التّقْسِيمَ فِي الْمُدّةِ الّتِي لَهُمْ فِيهَا تَرَبّصٌ كَمَا إذَا قَالَ لِغَرِيمِهِ أَصْبِرُ عَلَيْك بِدَيْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ وَفّيْتنِي وَإِلّا حَبَسْتُك وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إلّا إنْ وَفّيْتنِي فِي هَذِهِ الْمُدّةِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إنْ وَفّيْتنِي بَعْدَهَا وَإِلّا كَانَتْ مُدّةُ الصّبْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ صَرِيحَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْئَةِ بِأَنّهَا فِي الْمُدّةِ وَأَقَلّ مَرَاتِبِهَا أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا . قَالُوا : وَلِأَنّهُ أَجَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْفُرْقَةِ فَتَعْقُبُهُ الْفُرْقَةُ كَالْعِدّةِ وَكَالْأَجَلِ الّذِي ضُرِبَ لِوُقُوعِ الطّلَاقِ كَقَوْلِهِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ .

[ حُجَجُ الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ إيقَاعِ الطّلَاقِ بِمُضِيّ الْمُدّةِ ]
قَالَ الْجُمْهُورُ لَنَا مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ عَشَرَةُ أَدِلّةٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ أَضَافَ مُدّةَ الْإِيلَاءِ إلَى الْأَزْوَاجِ وَجَعَلَهَا لَهُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ فَوَجَبَ أَلّا يَسْتَحِقّ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا بَلْ بَعْدَهَا كَأَجَلِ الدّيْنِ وَمَنْ أَوْجَبَ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَجَلًا لَهُمْ وَلَا يُعْقَلُ كَوْنُهَا أَجَلًا لَهُمْ وَيُسْتَحَقّ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْمُطَالَبَةُ . الدّلِيلُ الثّانِي : قَوْلُهُ { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَذَكَرَ الْفَيْئَةَ بَعْدَ الْمُدّةِ بِفَاءِ التّعْقِيبِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُدّةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ الْبَقَرَةُ 229 ] . وَهَذَا بَعْدَ الطّلَاقِ قَطْعًا . فَإِنْ قِيلَ فَاءُ التّعْقِيبِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ لَا بَعْدَ الْمُدّةِ ؟ قِيلَ قَدْ تَقَدّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْإِيلَاءِ ثُمّ تَلَاهُ ذِكْرُ الْمُدّةِ ثُمّ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ الْفَيْئَةِ فَإِذَا أَوْجَبَتْ الْفَاءُ التّعْقِيبَ بَعْدَ مَا تَقَدّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَوَجَبَ عَوْدُهَا إلَيْهِمَا أَوْ إلَى أَقْرَبِهِمَا . [ ص 314 ] الدّلِيلُ الثّالِثُ قَوْلُهُ { وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ } [ الْبَقَرَةُ 227 ] وَإِنّمَا الْعَزْمُ مَا عَزَمَ الْعَازِمُ عَلَى فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } [ الْبَقَرَةُ 235 ] فَإِنْ قِيلَ فَتَرْكُ الْفَيْئَةِ عَزْمٌ عَلَى الطّلَاقِ ؟ قِيلَ الْعَزْمُ هُوَ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفَلّ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ وَأَنْتُمْ تُوقِعُونَ الطّلَاقَ بِمُجَرّدِ مُضِيّ الْمُدّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَزْمٌ لَا عَلَى وَطْءٍ وَلَا عَلَى تَرْكِهِ بَلْ لَوْ عَزَمَ عَلَى الْفَيْئَةِ وَلَمْ يُجَامِعْ طَلّقْتُمْ عَلَيْهِ بِمُضِيّ الْمُدّةِ وَلَمْ يَعْزِمْ الطّلَاقَ فَكَيْفَمَا قَدّرْتُمْ فَالْآيَةُ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ .

الدّلِيلُ الرّابِعُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَيّرَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْفَيْئَةِ أَوْ الطّلَاقِ وَالتّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَكُونُ إلّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْكَفّارَاتِ وَلَوْ كَانَ فِي حَالَتَيْنِ لَكَانَ تَرْتِيبًا لَا تَخْيِيرًا وَإِذَا تَقَرّرَ هَذَا فَالْفَيْئَةُ عِنْدَكُمْ فِي نَفْسِ الْمُدّةِ وَعَزْمُ الطّلَاقِ بِانْقِضَاءِ الْمُدّةِ فَلَمْ يَقَعْ التّخْيِيرُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ . فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَيّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفِيءَ فِي الْمُدّةِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْفَيْئَةَ فَيَكُونَ عَازِمًا لِلطّلَاقِ بِمُضِيّ الْمُدّةِ . قِيلَ تَرْكُ الْفَيْئَةِ لَا يَكُونُ عَزْمًا لِلطّلَاقِ وَإِنّمَا يَكُونُ عَزْمًا عِنْدَكُمْ إذَا انْقَضَتْ الْمُدّةُ فَلَا يَتَأَتّى التّخْيِيرُ بَيْنَ عَزْمِ الطّلَاقِ وَبَيْنَ الْفَيْئَةِ الْبَتّةَ فَإِنّهُ بِمُضِيّ الْمُدّةِ يَقَعُ الطّلَاقُ عِنْدَكُمْ فَلَا يُمْكِنُهُ الْفَيْئَةُ وَفِي الْمُدّةِ يُمْكِنُهُ الْفَيْئَةُ وَلَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ عَزْمِ الطّلَاقِ الّذِي هُوَ مُضِيّ الْمُدّةِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ خَامِسٌ مُسْتَقِلّ . الدّلِيلُ السّادِسُ أَنّ التّخْيِيرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمَا إلَيْهِ لِيَصِحّ مِنْهُ اخْتِيَارُ فِعْلِ كُلّ مِنْهُمَا وَتَرْكُهُ وَإِلّا لَبَطَلَ حُكْمُ خِيَارِهِ وَمُضِيّ الْمُدّةِ لَيْسَ إلَيْهِ . الدّلِيلُ السّابِعُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الطّلَاقُ قَوْلًا يُسْمَعُ لِيَحْسُنَ خَتْمُ الْآيَةِ بِصِفَةِ السّمْعِ . الدّلِيلُ الثّامِنُ أَنّهُ لَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ لَك أَجَلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ وَفّيْتنِي قَبِلْتُ [ ص 315 ] كَانَ مُقْتَضَاهُ أَنّ الْوَفَاءَ وَالْحَبْسَ بَعْدَ الْمُدّةِ لَا فِيهَا : وَلَا يَعْقِلُ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ هَذَا . فَإِنْ قِيلَ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ لَك الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَإِنْ فَسَخْت الْبَيْعَ وَإِلّا لَزِمَك وَمَعْلُومٌ أَنّ الْفَسْخَ إنّمَا يَقَعُ فِي الثّلَاثِ لَا بَعْدَهَا ؟ قِيلَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ فَإِنّ مُوجَبَ الْعَقْدِ اللّزُومُ فَجُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ فِي مُدّةِ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَفْسَخْ عَادَ الْعَقْدُ إلَى حُكْمِهِ وَهُوَ اللّزُومُ وَهَكَذَا الزّوْجَةُ لَهَا حَقّ عَلَى الزّوْجِ فِي الْوَطْءِ كَمَا لَهُ حَقّ عَلَيْهَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةُ 228 ] فَجَعَلَ لَهُ الشّارِعُ امْتِنَاعَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا حَقّ لَهَا فِيهِنّ فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدّةُ عَادَتْ عَلَى حَقّهَا بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا وُقُوعُ الطّلَاقِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ تَاسِعٌ مُسْتَقِلّ .

[ إبْطَالُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ مِنْ جَعْلِ الْإِيلَاءِ وَالظّهَارِ طَلَاقًا ]
الدّلِيلُ الْعَاشِرُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْمُؤْلِينَ شَيْئًا وَعَلَيْهِمْ شَيْئَيْنِ فَاَلّذِي لَهُمْ تَرَبّصُ الْمُدّةِ الْمَذْكُورَةِ وَاَلّذِي عَلَيْهِمْ إمّا الْفَيْئَةُ وَإِمّا الطّلَاقُ وَعِنْدَكُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إلّا الْفَيْئَةُ فَقَطْ وَأَمّا الطّلَاقُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ بَلْ وَلَا إلَيْهِمْ وَإِنّمَا هُوَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدّةِ فَيُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا عُقَيْبَ انْقِضَاءِ الْمُدّةِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا لَيْسَ إلَى الْمُؤْلِي وَلَا عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النّصّ . قَالُوا : وَلِأَنّهَا يَمِينٌ بِاَللّهِ تَعَالَى تُوجِبُ الْكَفّارَةَ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ وَلِأَنّهَا مُدّةٌ قَدّرَهَا الشّرْعُ لَمْ تَتَقَدّمْهَا الْفُرْقَةُ فَلَا يَقَعُ بِهَا بَيْنُونَةٌ كَأَجَلِ الْعِنّينِ وَلِأَنّهُ لَفْظٌ لَا يَصِحّ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطّلَاقُ الْمُعَجّلُ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْمُؤَجّلُ كَالظّهَارِ وَلِأَنّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُسِخَ كَالظّهَارِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطّلَاقُ لِأَنّهُ اسْتِيفَاءٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ . قَالَ الشّافِعِيّ : كَانَتْ الْفِرَقُ الْجَاهِلِيّةُ تَحْلِفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالطّلَاقِ وَالظّهَارِ وَالْإِيلَاءِ فَنَقَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيلَاءَ وَالظّهَارَ عَمّا كَانَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ إيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزّوْجَةِ إلَى مَا اسْتَقَرّ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا فِي الشّرْعِ [ ص 316 ] وَبَقِيَ حُكْمُ الطّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا لَفْظُهُ . قَالُوا : وَلِأَنّ الطّلَاقَ إنّمَا يَقَعُ بِالصّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إذْ لَوْ كَانَ صَرِيحًا لَوَقَعَ مُعَجّلًا إنْ أَطْلَقَهُ أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمّى إنْ قَيّدَهُ وَلَوْ كَانَ كِنَايَةً لَرَجَعَ فِيهِ إلَى نِيّتِهِ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا اللّعَانُ فَإِنّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ دُونَ الطّلَاقِ وَالْفَسْخُ يَقَعُ بِغَيْرِ قَوْلٍ وَالطّلَاقُ لَا يَقَعُ إلّا بِالْقَوْلِ . قَالُوا : وَأَمّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلّ عَلَى جَوَازِ الْفَيْئَةِ فِي مُدّةِ التّرَبّصِ لَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فِي الْمُدّةِ وَهَذَا حَقّ لَا نُنْكِرُهُ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ جَوَازُ الْفَيْئَةِ فِي الْمُدّةِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا فِيهَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِالدّيْنِ الْمُؤَجّلِ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ لَوْ كَانَتْ الْفَيْئَةُ بَعْدَ الْمُدّةِ لَزَادَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ لَأَنّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ مُدّةٌ لِزَمَنِ الصّبْرِ الّذِي لَا يَسْتَحِقّ فِيهِ الْمُطَالَبَةَ فَبِمُجَرّدِ انْقِضَائِهَا يُسْتَحَقّ عَلَيْهِ الْحَقّ فَلَهَا أَنْ تُعَجّلَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ . وَإِمّا أَنْ تُنْظِرَهُ وَهَذَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُعَلّقَةِ بِآجَالِ مَعْدُودَةٍ إنّمَا تُسْتَحَقّ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهَا وَلَا يُقَالُ إنّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الزّيَادَةَ عَلَى الْأَجَلِ فَكَذَا أَجَلُ الْإِيلَاءِ سَوَاءٌ .

فَصْلٌ [ الْحُجّةُ فِي أَنّ الْمُؤْلِيَ مُخَيّرٌ بَيْنَ الطّلَاقِ وَالْعَوْدِ ]
وَدَلّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنّ كُلّ مَنْ صَحّ مِنْهُ الْإِيلَاءُ بِأَيّ يَمِينٍ حَلَفَ فَهُوَ مُؤْلٍ حَتّى يَبَرّ إمّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمّا أَنْ يُطَلّقَ فَكَانَ فِي هَذَا حُجّةٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يَقُولُ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ إنّ الْمُؤْلِيَ بِالْيَمِينِ بِالطّلَاقِ إمّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمّا أَنْ يُطَلّقَ وَمَنْ يَلْزَمُهُ الطّلَاقُ عَلَى كُلّ حَالٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إدْخَالُ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَإِنّهُ إذَا قَالَ إنْ وَطِئْتُك إلَى سَنَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقُولُونَ لَهُ إمّا أَنْ تَطَأَ وَإِمّا أَنْ تُطَلّقَ بَلْ يَقُولُونَ لَهُ إنْ وَطِئْتهَا طَلَقَتْ وَإِنْ لَمْ تَطَأْهَا [ ص 317 ] يُقَالَ بِأَنّهُ غَيْرُ مُؤْلٍ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ فَلَا تُوقِفُوهُ بَعْدَ مُضِيّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَقُولُوا : إنّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ وَطْئِهَا بِيَمِينِ الطّلَاقِ دَائِمًا فَإِنْ ضَرَبْتُمْ لَهُ الْأَجَلَ أَثْبَتّمْ لَهُ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَإِنْ جَعَلْتُمُوهُ مُؤْلِيًا وَلَمْ تُجِيزُوهُ خَالَفْتُمْ حُكْمَ الْإِيلَاءِ وَمُوجَبَ النّصّ فَهَذَا بَعْضُ حُجَجِ هَؤُلَاءِ عَلَى مُنَازَعِيهِمْ .

[ مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِهِ إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ إذَا قَالَ إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . قِيلَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا هَلْ يَكُونُ مُؤْلِيًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلَانِ لِلشّافِعِيّ فِي الْجَدِيدِ أَنّهُ يَكُونُ مُؤْلِيًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَعَلَى قَوْلَيْنِ فَهَلْ يُمَكّنُ مِنْ الْإِيلَاجِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَا يُمَكّنُ مِنْهُ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَنّهَا بِالْإِيلَاجِ تَطْلُقُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثًا فَيَصِيرُ مَا بَعْدُ الْإِيلَاجِ مُحَرّمًا فَيَكُونُ الْإِيلَاجُ مُحَرّمًا وَهَذَا كَالصّائِمِ إذَا تَيَقّنَ أَنّهُ لَمْ يَبْقَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ إلّا قَدْرُ إيلَاجٍ لِذَكَرِ دُونَ إخْرَاجِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِبَاحَةِ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ فِي زَمَنِ الْحَظْرِ كَذَلِكَ هَا هُنَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطّلَاقِ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ بَعْدَهُ . وَالثّانِي : أَنّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا لِأَنّهَا زَوْجَتُهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِأَنّهُ تَرَكَ . وَإِنْ طَلَقَتْ بِالْإِيلَاجِ وَيَكُونُ الْمُحَرّمُ بِهَذَا الْوَطْءِ اسْتِدَامَةُ الْإِيلَاجِ لَا الِابْتِدَاءُ وَالنّزْعُ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصّ الشّافِعِيّ فَإِنّهُ قَالَ لَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَى الصّائِمِ وَهُوَ مُجَامِعٌ وَأَخْرَجَهُ مَكَانَهُ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ فَإِنْ مَكَثَ بِغَيْرِ إخْرَاجِهِ أَفْطَرَ وَيُكَفّرُ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ وَلَوْ قَالَ إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وُقِفَ فَإِنْ فَاءَ فَإِذَا غَيّبَ [ ص 318 ] أَخْرَجَهُ ثُمّ أَدْخَلَهُ فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا . قَالَ هَؤُلَاءِ وَيَدُلّ عَلَى الْجَوَازِ أَنّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ اُدْخُلْ دَارِي وَلَا تُقِمْ اسْتَبَاحَ الدّخُولَ لِوُجُودِهِ عَنْ إذْنٍ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِمَنْعِهِ مِنْ الْمُقَامِ وَيَكُونُ الْخُرُوجُ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَظْرِ مُبَاحًا لِأَنّهُ تَرْكٌ كَذَلِكَ هَذَا الْمُؤْلِي يَسْتَبِيحُ أَنْ يُولِجَ وَيَسْتَبِيحُ أَنْ يَنْزِعَ وَيَحْرُمَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْإِيلَاجِ وَالْخِلَافُ فِي الْإِيلَاجِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالنّزْعِ بَعْدَهُ لِلصّائِمِ كَالْخِلَافِ فِي الْمُؤْلِي وَقِيلَ يَحْرُمُ عَلَى الصّائِمِ الْإِيلَاجُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُؤْلِي وَالْفَرْقُ أَنّ التّحْرِيمَ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الصّائِمِ بِغَيْرِ الْإِيلَاجِ فَجَازَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَالْمُؤْلِي لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ التّحْرِيمُ بِغَيْرِ الْإِيلَاجِ فَافْتَرَقَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَلَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ الزّوْجَةُ بَلْ يُوقَفُ وَيُقَالُ لَهُ مَا أَمَرَ اللّهُ إمّا أَنْ تَفِيءَ وَإِمّا أَنْ تُطَلّقَ . قَالُوا : وَكَيْفَ يَكُونُ مُؤْلِيًا وَلَا يُمَكّنُ مِنْ الْفَيْئَةِ بَلْ يَلْزَمُ بِالطّلَاقِ وَإِنْ مُكّنَ مِنْهَا وَقَعَ بِهِ الطّلَاقُ فَالطّلَاقُ وَاقِعٌ بِهِ عَلَى التّقْدِيرَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ مُؤْلِيًا ؟ فَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بَلْ يُقَالُ لِهَذَا : إنْ فَاءَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَفِئْ أُلْزِمَ بِالطّلَاقِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطّلَاقِ لَا يُوجِبُ طَلَاقًا وَإِنّمَا يُجْزِئُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظّاهِرِ وَطَاوُس ٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ .

حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي اللّعَانِ
قَالَ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ } [ النّورُ 69 ] . وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " [ ص 319 ] مِنْ حَدِيث ِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانَيّ قَالَ لِعَاصِمِ بْنِ عَدِيّ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَسَلْ لِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ إنّ عُوَيْمِرًا سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِك فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا " فَتَلَاعَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَا قَالَ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَطَلّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الزّهْرِيّ : فَكَانَتْ تِلْكَ سُنّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ . قَالَ سَهْلٌ وَكَانَتْ حَامِلًا وَكَانَ ابْنُهَا يُنْسَبُ إلَى أُمّهِ ثُمّ جَرَتْ السّنّةُ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللّهُ لَهَا . و َفِي لَفْظٍ فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ فَفَارَقَهَا عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاكُمْ التّفْرِيقُ بَيْنَ كُلّ مُتَلَاعِنَيْنِ وَقَوْلُ سَهْلٍ وَكَانَتْ حَامِلًا إلَى آخِرِهِ هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيّ مِنْ قَوْلِ الزّهْرِيّ وَلِلْبُخَارِيّ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُنْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلّجَ السّاقَيْنِ فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إلّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إلّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا " فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النّعْتِ الّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِر وَفِي لَفْظٍ وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا [ ص 320 ] وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ إنْ تَكَلّمَ تَكَلّمَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ؟ فَسَكَتَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ إنّ الّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النّورِ وَاَلّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَتَلَاهُنّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكّرَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . قَالَ لَا وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا ثُمّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَذَكّرَهَا وَأَخْبَرَهَا أَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ قَالَتْ لَا وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ إنّهُ لَكَاذِبٌ فَبَدَأَ بِالرّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللّهِ إنّهُ لَمِنْ الصّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ثُمّ ثَنّى بِالْمَرْأَةِ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللّهِ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصّادِقِينَ ثُمّ فَرّقَ بَيْنَهُمَا . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ للمتلاعنين " حِسَابُكُمَا عَلَى اللّه أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَالِي ؟ قَالَ لَا مَالَ لَك إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا . وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا : فَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَالَ " وَاَللّهِ إنّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ " ؟ . وَفِيهِمَا عَنْهُ أَنّ رَجُلًا لَاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمّهِ [ ص 321 ] وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي قِصّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَشَهِدَ الرّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللّهِ إنّهُ لَمِنْ الصّادِقِينَ ثُمّ لَعَنَ الْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فَذَهَبَتْ لِتَلْعَنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَهْ " فَأَبَتْ فَلَعَنَتْ فَلَمّا أَدْبَرَ قَالَ لَعَلّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا " فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا . وَفِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمّهِ وَكَانَ أَوّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ قَالَ فَأُنْبِئْتُ أَنّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السّاقَيْنِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوُ هَذِهِ الْقِصّةِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَهِيَ الْمَرْأَةُ الّتِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : لَا تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الْإِسْلَامِ السّوءَ . وَلِأَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَفَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدّ وَقَضَى أَلّا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا قُوتَ مِنْ أَجْلِ أَنّهُمَا يَتَفَرّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا . [ ص 322 ] وَفِي الْقِصّةِ قَالَ عِكْرِمَةُ : فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ : أَنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " الْبَيّنَةُ أَوْ حَدّ فِي ظَهْرِكَ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيّنَةَ ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ " الْبَيّنَةُ وَإِلّا حَدّ فِي ظَهْرِكَ " فَقَالَ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ إنّي لَصَادِقٌ وَلِيُنْزِلَنّ اللّهُ مَا يُبَرّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ وَاَلّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ . . .. الْآيَاتُ فَانْصَرَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهَا فَجَاءَ هِلَالُ فَشَهِدَ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ " إنّ اللّهَ يَعْلَمُ أَنّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ " ؟ فَشَهِدَتْ فَلَمّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقّفُوهَا وَقَالُوا : إنّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : فَتَلَكّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتّى ظَنَنّا أَنّهَا تَرْجِعُ ثُمّ قَالَتْ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلّجَ السّاقَيْنِ فَهُوَ لَشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ " فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللّهِ كَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ [ ص 323 ] وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ الرّجُلُ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا فَقَالَ سَعْدٌ بَلَى وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ " : وَفِي لَفْظٍ آخَرَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ " نَعَمْ " . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أُهِجْهُ حَتّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " قَالَ كَلّا وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ نَبِيّا إنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ إنّهُ لَغَيُورٌ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنّي " . وَفِي لَفْظٍ لَوْ رَأَيْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَوَاَللّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنّي وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللّه وَلَا شَخْصَ أَحَبّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللّهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذَرِينَ وَلَا شَخْصَ أَحَبّ إلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللّهُ الْجَنّةَ

فَصْلٌ [ يَصِحّ اللّعَانُ مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرَيْنِ ]
وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ النّبَوِيّ عِدَةُ أَحْكَامٍ الْحُكْمُ الْأَوّلُ أَنّ اللّعَانَ يَصِحّ مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ يَلْتَعِنُونَ الْحُرّ مِنْ الْحُرّةِ وَالْأَمَةُ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً وَالْعَبْدُ مِنْ الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَتْ زَوْجَةً وَالْمُسْلِمِ مِنْ الْيَهُودِيّةِ والنصرانية وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَالْحَسَنِ وَرَبِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ .

[ مَنْ قَالَ بِأَنّ اللّعَانَ لَا يَكُونُ إلّا بَيْنَ زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرّيْنِ غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ ]
وَذَهَبَ أَهْلُ الرّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثّوْرِيّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنّ اللّعَانَ لَا يَكُونُ إلّا بَيْنَ زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرّيْنِ غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَمَأْخَذُ الْقَوْلَيْنِ أَنّ اللّعَانَ يَجْمَعُ وَصْفَيْنِ : الْيَمِينَ وَالشّهَادَةَ وَقَدْ سَمّاهُ [ ص 324 ] وَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمِينًا حَيْثُ يَقُولُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَيْمَانِ قَالَ يَصِحّ مِنْ كُلّ مَنْ يَصِحّ يَمِينُهُ قَالُوا : وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } قَالُوا : وَقَدْ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمِينًا . قَالُوا : وَلِأَنّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى اسْمِ اللّه وَإِلَى ذِكْرِ الْقَسَمِ الْمُؤَكّدِ وَجَوَابِهِ . قَالُوا : وَلِأَنّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الذّكَرُ وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ الشّهَادَةِ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا تَكَرّرَ لَفْظُهُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنّهُ قَدْ يُشْرَعُ فِيهَا التّكْرَارُ كَأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ . قَالُوا : وَلِأَنّ حَاجَةَ الزّوْجِ الّتِي لَا تَصِحّ مِنْهُ الشّهَادَةُ إلَى اللّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ كَحَاجَةِ مَنْ تَصِحّ شَهَادَتُهُ سَوَاءٌ وَالْأَمْرُ الّذِي يَنْزِلُ بِهِ مِمّا يَدْعُو إلَى اللّعَانِ كَاَلّذِي يَنْزِلُ بِالْعَدْلِ الْحُرّ وَالشّرِيعَةُ لَا تَرْفَعُ ضَرَرَ أَحَدِ النّوْعَيْنِ وَتَجْعَلُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمّا نَزَلَ بِهِ وَتَدَعُ النّوْعَ الْآخَرَ فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ لَا فَرَجَ لَهُ مِمّا نَزَلَ بِهِ وَلَا مَخْرَجَ بَلْ يَسْتَغِيثُ فَلَا يُغَاثُ وَيَسْتَجِيرُ فَلَا يُجَارُ إنْ تَكَلّمَ تَكَلّمَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِهِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْهُ الرّحْمَةُ الّتِي وَسِعَتْ مَنْ تَصِحّ شَهَادَتُهُ وَهَذَا تَأْبَاهُ الشّرِيعَةُ الْوَاسِعَةُ الْحَنِيفِيّةُ السّمْحَةُ . قَالَ الْآخَرُونَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ } وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَثْنَى أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشّهَدَاءِ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتّصِلٌ قَطْعًا وَلِهَذَا جَاءَ مَرْفُوعًا . وَالثّانِي : أَنّهُ صَرّحَ بِأَنّ الْتِعَانَهُمْ شَهَادَةٌ ثُمّ زَادَ سُبْحَانَهُ هَذَا بَيَانًا فَقَالَ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } وَالثّالِثُ أَنّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ الشّهُودِ وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ عِنْد عَدَمِهِمْ . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلَا كَافِرَيْنِ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ فِي " التّمْهِيدِ " . [ ص 325 ] وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ مَرْفُوعًا : أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْحُرّةِ وَالْعَبْدِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيّةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ والنصرانية لِعَان وَذَكَر َ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ مِنْ وَصِيّةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَتّابِ بْنِ أَسِيدٍ : أَنْ لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ . قَالُوا : وَلِأَنّ اللّعَانَ جُعِلَ بَدَلَ الشّهَادَةِ وَقَائِمًا مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا يَصِحّ إلّا مِمّنْ تَصِحّ مِنْهُ وَلِهَذَا تُحَدّ الْمَرْأَةُ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَنُكُولِهَا تَنْزِيلًا لِلِعَانِهِ مَنْزِلَةَ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ . قَالُوا : وَأَمّا الْحَدِيثُ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن فَالْمَحْفُوظُ فِيهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللّهِ هَذَا لَفْظُ البخاري في " صَحِيحِهِ " . وَأَمّا قَوْلُهُ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ فَمِنْ رِوَايَةِ عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ . قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ الرّازِيّ : مَتْرُوكٌ قَدَرِيّ . وَقَالَ النّسَائِيّ : ضَعِيفٌ . وَقَدْ اسْتَقَرّتْ قَاعِدَةُ الشّرِيعَةِ أَنّ الْبَيّنَةَ عَلَى الْمُدّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدّعَى عَلَيْهِ وَالزّوْجُ هَا هُنَا مُدّعٍ فَلِعَانُهُ شَهَادَةٌ وَلَوْ كَانَ يَمِينًا لَمْ تُشْرَعْ فِي جَانِبِهِ . قَالَ الْأَوّلُونَ أَمّا تَسْمِيَتُهُ شَهَادَةً فَلِقَوْلِ الْمُلْتَعِنِ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللّهِ فَسُمّيَ بِذَلِكَ شَهَادَةً وَإِنْ كَانَ يَمِينًا اعْتِبَارًا بِلَفْظِهَا . قَالُوا : وَكَيْفَ وَهُوَ مُصَرّحٌ فِيهِ [ ص 326 ] وَجَوَابِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ أَطْلَقَ وَالْعَرَبُ تَعُدّ ذَلِكَ يَمِينًا فِي لُغَتِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا . قَالَ قَيْسٌ : فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللّهِ أَنّي أُحِبّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا
وَفِي هَذَا حُجّةٌ لِمَنْ قَالَ إنّ قَوْلَهُ " أَشْهَدُ " تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِاَللّهِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّانِيَةُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلّا بِالنّيّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . كَمَا أَنّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ بِاَللّهِ يَمِينٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بِمُطْلَقِهِ . قَالُوا : وَأَمّا اسْتِثْنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ أَنْفُسَهُمْ مِنْ الشّهَدَاءِ فَيُقَالُ أَوّلًا : " إلّا " هَا هُنَا : صِفَةٌ بِمَعْنَى غَيْرِ وَالْمَعْنَى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ فَإِنّ " غَيْرَ " و " وَإِلّا " يَتَعَاوَضَانِ الْوَصْفِيّةَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فَيُسْتَثْنَى ب " غَيْرَ " حَمْلًا عَلَى " إلّا " وَيُوصَفُ ب " إلّا " حَمْلًا عَلَى " غَيْرَ " . وَيُقَالُ ثَانِيًا : إنّ " أَنْفُسَهُمْ " مُسْتَثْنًى مِنْ الشّهَدَاءِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَإِنّهُمْ يُبَدّلُونَ فِي الِانْقِطَاعِ كَمَا يُبَدّلُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَهُمْ فِي الِاتّصَالِ . وَيُقَالُ ثَالِثًا : إنّمَا اسْتَثْنَى " أَنْفُسَهُمْ " مِنْ الشّهَدَاءِ لِأَنّهُ نَزّلَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ فِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا قَوِيّ جِدّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرْجُمُ الْمَرْأَةَ بِالْتِعَانِ الزّوْجِ إذَا نَكَلَتْ وَهُوَ الصّحِيحُ كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَالصّحِيحُ أَنّ لِعَانَهُمْ يَجْمَعُ الْوَصْفَيْنِ الْيَمِينَ وَالشّهَادَةَ فَهُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكّدَةٌ بِالْقَسَمِ وَالتّكْرَارِ وَيَمِينٌ مُغَلّظَةٌ بِلَفْظِ الشّهَادَةِ وَالتّكْرَارِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ مِنْ التّأْكِيدِ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ .

[ أَنْوَاعُ التّأْكِيدِ فِي الشّهَادَةِ عَلَى اللّعَانِ ]
أَحَدُهَا : ذِكْرُ لَفْظِ الشّهَادَةِ . [ ص 327 ] الثّانِي : ذِكْرُ الْقَسَمِ بِأَحَدِ أَسْمَاءِ الرّبّ سُبْحَانَهُ وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ اسْمُ اللّهِ جَلّ ذِكْرُهُ . الثّالِثُ تَأْكِيدُ الْجَوَابِ بِمَا يُؤَكّدُ بِهِ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مِنْ " إنّ وَاللّامِ " وَإِتْيَانِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الّذِي هُوَ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ دُونَ الْفِعْلِ الّذِي هُوَ صَدَقَ وَكَذَبَ . الرّابِعُ تَكْرَارُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرّاتٍ . الْخَامِسُ دُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْخَامِسَةِ بِلَعْنَةِ اللّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . السّادِسُ إخْبَارُهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ أَنّهَا الْمُوجِبَةُ لِعَذَابِ اللّهِ وَأَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . السّابِعُ جَعْلُ لِعَانِهِ مُقْتَضٍ لِحُصُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا وَهُوَ إمّا الْحَدّ أَوْ الْحَبْسُ وَجَعْلُ لِعَانِهَا دَارِئًا لِلْعَذَابِ عَنْهَا . الثّامِنُ أَنّ هَذَا اللّعَانَ يُوجِبُ الْعَذَابَ عَلَى أَحَدِهِمَا إمّا فِي الدّنْيَا وَإِمّا فِي الْآخِرَةِ . التّاسِعُ التّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَخَرَابُ بَيْتِهَا وَكَسْرِهَا بِالْفِرَاقِ . الْعَاشِرُ تَأْبِيدُ تِلْكَ الْفُرْقَةِ وَدَوَامُ التّحْرِيمِ بَيْنَهُمَا فَلَمّا كَانَ شَأْنُ هَذَا اللّعَانِ هَذَا الشّأْنَ جُعِلَ يَمِينًا مَقْرُونًا بِالشّهَادَةِ وَشَهَادَةً مَقْرُونَةً بِالْيَمِينِ وَجُعِلَ الْمُلْتَعِنُ لِقَبُولِ قَوْلِهِ كَالشّاهِدِ فَإِنْ نَكَلَتْ الْمَرْأَةُ مَضَتْ شَهَادَتُهُ وَحُدّتْ وَأَفَادَتْ شَهَادَتُهُ وَيَمِينُهُ شَيْئَيْنِ سُقُوطُ الْحَدّ عَنْهُ وَوُجُوبُهُ عَلَيْهَا . وَإِنْ الْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَعَارَضَتْ لِعَانَهُ بِلِعَانِ آخَرَ مِنْهَا أَفَادَ لِعَانُهُ سُقُوطَ الْحَدّ عَنْهُ دُونَ وُجُوبِهِ عَلَيْهَا فَكَانَ شَهَادَةً وَيَمِينًا بِالنّسْبَةِ إلَيْهِ دُونَهَا لِأَنّهُ إنْ كَانَ يَمِينًا مَحْضَةً فَهِيَ لَا تُحَدّ بِمُجَرّدِ حَلِفِهِ وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً فَلَا تُحَدّ بِمُجَرّدِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا وَحَدّهِ . فَإِذَا انْضَمّ إلَى ذَلِكَ نُكُولُهَا قَوِيَ جَانِبُ الشّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فِي حَقّهِ بِتَأَكّدِهِ وَنُكُولِهَا فَكَانَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى صِدْقِهِ فَأَسْقَطَ الْحَدّ عَنْهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُكْمِ وَمَنْ أَحْسَنُ [ ص 328 ] يُوقِنُونَ وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنّهُ يَمِينٌ فِيهَا مَعْنَى الشّهَادَةِ وَشَهَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْيَمِينِ . وَأَمّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ فَمَا أَبْيَنَ دِلَالَتِهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا بِوُصُولِهِ إلَى عَمْرٍو وَلَكِنْ فِي طَرِيقِهِ إلَى عَمْرٍو مَهَالِكُ وَمَفَاوِزُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : لَيْسَ دُونَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ . وَأَمّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الّذِي رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ فَعَلَى طَرِيقِ الْحَدِيثِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْوَقّاصِيّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِإِجْمَاعِهِمْ فَالطّرِيقُ بِهِ مَقْطُوعَةٌ . وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ الرّزّاقِ فَمَرَاسِيلُ الزّهْرِيّ عِنْدَهُمْ ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجّ بِهَا وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ كَانَ عَامِلًا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَكّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكّةَ يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ الْبَتّةَ حَتّى يُوصِيَهُ أَنْ لَا يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَأَمّا رَدّكُمْ لِقَوْلِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمّا تَعَلّقُكُمْ فِيهِ عَلَى عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ فَأَكْثَرُ مَا عِيبَ عَلَيْهِ أَنّهُ قَدَرِيّ دَاعِيَةٌ إلَى الْقَدَرِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ رَدّ حَدِيثِهِ فَفِي الصّحِيحِ الِاحْتِجَاجُ بِجَمَاعَةِ مِنْ الْقَدَرِيّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالشّيعَةِ مِمّنْ عُلِمَ صِدْقُهُ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى " " وَلَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيْمَانِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ اللّفْظَيْنِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْآخَرِ بَلْ [ ص 329 ] حَكَمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَرَادَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ اللّهِ الّذِي فَصَلَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَكَانَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ قَاعِدَةَ الشّرِيعَةِ اسْتَقَرّتْ عَلَى أَنّ الشّهَادَةَ فِي جَانِبِ الْمُدّعِي وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدّعَى عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ الشّرِيعَةَ لَمْ تَسْتَقِرّ عَلَى هَذَا بَلْ قَدْ اسْتَقَرّتْ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ يُبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْمُدّعِينَ وَهَذَا لِقُوّةِ جَانِبِهِمْ بِاللّوْثِ وَقَاعِدَةُ الشّرِيعَةِ أَنّ الْيَمِينَ تَكُونُ مِنْ جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَلَمّا كَانَ جَانِبُ الْمُدّعَى عَلَيْهِ قَوِيّا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ شُرِعَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ فَلَمّا قَوِيَ جَانِبُ الْمُدّعِي فِي الْقَسَامَةِ بِاللّوْثِ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الصّحِيحِ لَمّا قَوِيَ جَانِبُهُ بِالنّكُولِ صَارَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ فَيُقَالُ لَهُ احْلِفْ وَاسْتَحِقّ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشّارِعِ وَاقْتِضَائِهِ لِلْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ شُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا لَذَهَبَتْ قُوّةُ الْجَانِبِ الرّاجِحِ هَدَرًا وَحِكْمَةُ الشّارِعِ تَأْبَى ذَلِكَ فَاَلّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ .

[ إذَا لَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ فَهَلْ تُحَدّ أَوْ تُحْبَسُ حَتّى تُقِرّ أَوْ تُلَاعِنَ ؟ ]
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَجَانِبُ الزّوْجِ هَا هُنَا أَقْوَى مِنْ جَانِبِهَا فَإِنّ الْمَرْأَةَ تُنْكِرُ زِنَاهَا وَتَبْهَتُهُ وَالزّوْجَ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهِ وَإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَنِسْبَةِ أَهْلِهِ إلَى الْفُجُورِ بَلْ ذَلِكَ أَشْوَشُ عَلَيْهِ وَأَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِ فَكَانَ هَذَا لَوْثًا ظَاهِرًا فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِ نُكُولُ الْمَرْأَةِ قَوِيَ الْأَمْرُ جِدّا فِي قُلُوبِ النّاسِ خَاصّهِمْ وَعَامّهِمْ فَاسْتَقَلّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الزّنَا عَلَيْهَا شَرْعًا فَحُدّتْ بِلِعَانِهِ وَلَكِنْ لَمّا لَمْ تَكُنْ أَيْمَانُهُ بِمَنْزِلَةِ الشّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَقِيقَةً كَانَ لَهَا أَنْ تُعَارِضَهَا بِأَيْمَانِ أُخْرَى مِثْلِهَا يُدْرَأُ عَنْهَا بِهَا الْعَذَابُ عَذَابُ الْحَدّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النّورُ 2 ] وَلَوْ كَانَ لِعَانُهُ بَيّنَةً حَقِيقَةً لَمَا دَفَعَتْ أَيْمَانُهَا عَنْهَا شَيْئًا وَهَذَا يَتّضِحُ بِالْفَصْلِ الثّانِي الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَنّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ تَلْتَعِنْ فَهَلْ تُحَدّ أَوْ تُحْبَسُ حَتّى تُقِرّ أَوْ تُلَاعِنَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ . فَقَالَ الشّافِعِيّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ تُحَدّ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ . [ ص 330 ] وَقَالَ أَحْمَدُ : تُحْبَسُ حَتّى تُقِرّ أَوْ تُلَاعِنَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لَا تُحْبَسُ وَيُخَلّى سَبِيلُهَا .

[ حُجَجُ مَنْ قَالَ تُحْبَسُ ]
قَال َ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَوْ كَانَ لِعَانُ الرّجُلِ بَيّنَةً تُوجِبُ الْحَدّ عَلَيْهَا لَمْ تَمْلِكْ إسْقَاطَهُ بِاللّعَانِ وَتَكْذِيبِ الْبَيّنَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ . قَالُوا : وَلِأَنّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ لَمْ تُحَدّ بِهَذِهِ الشّهَادَةِ فَلِأَنْ لَا تُحَدّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . قَالُوا : وَلِأَنّهُ أَحَدُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَلَا يُوجِبُ حَدّ الْآخَرِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ لِعَانُهَا حَدّهُ . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيّنَةُ عَلَى الْمُدّعِي وَلَا رَيْبَ أَنّ الزّوْجَ هَا هُنَا مُدّعٍ . قَالُوا : وَلِأَنّ مُوجَبَ لِعَانِهِ إسْقَاطُ الْحَدّ عَنْ نَفْسِهِ لَا إيجَابُ الْحَدّ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيّنَةُ وَإِلّا حَدّ فِي ظَهْرِكَ فَإِنّ مُوجَبَ قَذْفِ الزّوْجِ كَمُوجَبِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيّ وَهُوَ الْحَدّ فَجَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى التّخَلّصِ مِنْهُ بِاللّعَانِ وَجَعَلَ طَرِيقَ إقَامَةِ الْحَدّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ أَوْ اعْتِرَافٌ أَوْ الْحَبَلُ عِنْدَ مَنْ يَحُدّ بِهِ مِنْ الصّحَابَةِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالرّجْمُ وَاجِبٌ عَلَى كُلّ مَنْ زَنَى مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا إذَا قَامَتْ بَيّنَةٌ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ وَكَذَلِكَ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَجَعَلَا طَرِيقَ الْحَدّ ثَلَاثَةً لَمْ يَجْعَلَا فِيهَا اللّعَانَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَهَذِهِ لَمْ يَتَحَقّقْ زِنَاهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدّ لِأَنّ تَحَقّقَ زِنَاهَا [ ص 331 ] وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ حَدّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقّقَ بِنُكُولِهَا أَيْضًا لِأَنّ الْحَدّ لَا يَثْبُتُ بِالنّكُولِ فَإِنّ الْحَدّ يُدْرَأُ بِالشّبُهَاتِ فَكَيْفَ يَجِبُ بِالنّكُولِ فَإِنّ النّكُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِشَدّةِ خَفَرِهَا أَوْ لِعُقْلَةِ لِسَانِهَا أَوْ لِدَهَشِهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْفَاضِحِ الْمُخْزِي أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدّ الّذِي اُعْتُبِرَ فِي بَيّنَتِهِ مِنْ الْعَدَدِ ضِعْفُ مَا اُعْتُبِرَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَفِي إقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ وَاعْتُبِرَ فِي كُلّ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْبَيّنَةِ أَنْ يَتَضَمّنَ وَصْفَ الْفِعْلِ وَالتّصْرِيحَ بِهِ مُبَالَغَةً فِي السّتْرِ وَدَفْعًا لِإِثْبَاتِ الْحَدّ بِأَبْلَغِ الطّرُقِ وَآكَدِهَا وَتَوَسّلًا إلَى إسْقَاطِ الْحَدّ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالنّكُولِ الّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةٌ لَا يُقْضَى بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الْبَتّةَ وَلَا فِيمَا عَدَا الْأَمْوَالَ ؟ . قَالُوا : وَالشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنّكُولِ فِي دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهُ وَلَا فِي أَدْنَى تَعْزِيرٍ فَكَيْفَ يُقْضَى بِهِ فِي أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَبْعَدِهَا ثُبُوتًا وَأَسْرَعِهَا سُقُوطًا وَلِأَنّهَا لَوْ أَقَرّتْ بِلِسَانِهَا ثُمّ رَجَعَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدّ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ بِمُجَرّدِ امْتِنَاعِهَا مِنْ الْيَمِينِ عَلَى بَرَاءَتِهَا أَوْلَى وَإِذَا ظَهَرَ أَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا فِي تَحَقّقِ زِنَاهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ بِتَحَقّقِهِ بِهِمَا لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ مَا فِي كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الشّبْهَةِ لَا يَزُولُ بِضَمّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ كَشَهَادَةِ مِائَةِ فَاسِقٍ فَإِنّ احْتِمَالَ نُكُولِهَا لِفَرْطِ حَيَائِهَا وَهَيْبَةِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَالْجَمْعِ وَشِدّةِ الْخَفَرِ وَعَجْزِهَا عَنْ النّطْقِ وَعُقْلَةِ لِسَانِهَا لَا يَزُولُ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَلَا بِنُكُولِهَا . الثّانِي : أَنّ مَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ الْمُفْرَدَةِ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ النّكُولِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } فَالْعَذَابُ هَا هُنَا [ ص 332 ] يُرَادَ بِهِ الْحَدّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ وَالْعُقُوبَةُ الْمَطْلُوبَةُ فَلَا يَتَعَيّنُ إرَادَةُ الْحَدّ بِهِ فَإِنّ الدّالّ عَلَى الْمُطْلَقِ لَا يَدُلّ عَلَى الْمُقَيّدِ إلّا بِدَلِيلِ مِنْ خَارِجٍ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَثْبُتُ الْحَدّ مَعَ قِيَامِهِ وَقَدْ يُرَجّحُ هَذَا بِمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّ الْحَدّ إنّمَا يَكُونُ بِالْبَيّنَةِ أَوْ الِاعْتِرَافِ أَوْ الْحَبَلِ ثُمّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا إذَا لَمْ تُلَاعِنْ فَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْتَعِنَ بَعْدَ الْتِعَانِ الرّجُلِ أَجْبَرْتُهَا عَلَيْهِ وَهِبْتُ أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْهَا بِالرّجْمِ لِأَنّهَا لَوْ أَقَرّتْ بِلِسَانِهَا لَمْ أَرْجُمْهَا إذَا رَجَعَتْ فَكَيْفَ إذَا أَبَتْ اللّعَانَ ؟ وَعَنْهُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ يُخَلّى سَبِيلُهَا اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِأَنّهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدّ فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيّنَةُ .

فَصْلٌ [ حُجَجُ الْمُوجِبِينَ لِلْحَدّ ]
قَالَ الْمُوجِبُونَ لِلْحَدّ مَعْلُومٌ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْتِعَانَ الزّوْجِ بَدَلًا عَنْ الشّهُودِ وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ بَلْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ الْمُلْتَعِنِينَ شُهَدَاءَ كَمَا تَقَدّمَ وَصَرّحَ بِأَنّ لِعَانَهُمْ شَهَادَةٌ وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ } وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ سَبَبَ الْعَذَابِ الدّنْيَوِيّ قَدْ وُجِدَ وَأَنّهُ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهَا إلّا لِعَانُهَا وَالْعَذَابُ الْمَدْفُوعُ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَهَذَا عَذَابُ الْحَدّ قَطْعًا فَذَكَرَهُ مُضَافًا وَمُعَرّفًا بِلَامِ الْعَهْدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى عُقُوبَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي اللّفْظِ وَلَا دَلّ عَلَيْهَا بِوَجْهِ مَا مِنْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُخَلّى سَبِيلُهَا وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ بِغَيْرِ لِعَانٍ وَهَلْ هَذَا إلّا مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِعَانَ الزّوْجِ دَارِئًا لَحَدّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَجَعَلَ لِعَانَ الزّوْجَةِ دَارِئًا لِعَذَابِ حَدّ الزّنَى عَنْهَا فَكَمَا أَنّ الزّوْجَ إذَا لَمْ يُلَاعِنْ يُحَدّ حَدّ الْقُذُفِ فَكَذَلِكَ الزّوْجَةُ إذَا لَمْ تُلَاعِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدّ . [ ص 333 ] قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ لِعَانَ الزّوْجِ لَوْ كَانَ بَيّنَةً تُوجِبُ الْحَدّ عَلَيْهَا لَمْ تَمْلِكْ هِيَ إسْقَاطَهُ بِاللّعَانِ كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيّ . فَالْجَوَابُ أَنّ حُكْمَ اللّعَانِ حُكْمٌ مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ إلَى أَحْكَامِ الدّعَاوَى وَالْبَيّنَاتِ بَلْ هُوَ أَصْلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ شَرَعَهُ الّذِي شَرَعَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَفَصّلَهُ الّذِي فَصّلَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَلَمّا كَانَ لِعَانُ الزّوْجِ بَدَلًا عَنْ الشّهُودِ لَا جَرَمَ نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَيّنَةِ فَلَمْ يَسْتَقِلّ وَحْدَهُ بِحُكْمِ الْبَيّنَةِ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ مُعَارَضَتَهُ بِلِعَانِ نَظِيرِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدِ اللّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَنَا وَاَللّهُ يَعْلَمُ أَنّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فَلَا وَجْهَ لِحَدّ الْمَرْأَةِ بِمُجَرّدِ لِعَانِ الزّوْجِ فَإِذَا مُكّنَتْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ وَإِتْيَانِهَا بِمَا يُبَرّئُ سَاحَتَهَا فَلَمْ تَفْعَلْ وَنَكَلَتْ عَنْ ذَلِكَ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ وَانْضَافَ إلَيْهِ قَرِينَةُ قَوّتْهُ وَأَكّدَتْهُ وَهِيَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ وَإِعْرَاضُهَا عَمّا يُخَلّصُهَا مِنْ الْعَذَابِ وَيَدْرَؤُهُ عَنْهَا .

قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ لَمْ تُحَدّ بِهَذِهِ الشّهَادَةِ فَكَيْفَ تُحَدّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ؟ فَجَوَابُهُ أَنّهَا لَمْ تُحَدّ بِشَهَادَةِ مُجَرّدَةٍ وَإِنّمَا حُدّتْ بِمَجْمُوعِ لِعَانِهِ خَمْسَ مَرّاتٍ وَنُكُولِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَيْهَا فَقَامَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ فِي غَايَةِ الظّهُورِ وَالْقُوّةِ عَلَى صِحّةِ قَوْلِهِ وَالظّنّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ أَقْوَى بِكَثِيرِ مِنْ الظّنّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الشّهُودِ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ أَحَدُ اللّعَانَيْنِ فَلَا يُوجِبُ حَدّ الْآخَرِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ لِعَانُهَا حَدّهُ فَجَوَابُهُ أَنّ لِعَانَهَا إنّمَا شُرِعَ لِلدّفْعِ لَا لِلْإِيجَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } فَدَلّ النّصّ عَلَى أَنّ لِعَانَهُ مُقْتَضٍ لِإِيجَابِ الْحَدّ وَلِعَانَهَا دَافِعٌ وَدَارِئٌ لَا مُوجِبٌ فَقِيَاسُ أَحَدِ اللّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ جَمْعُ بَيْنَ مَا فَرّقَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بَاطِلٌ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيّنَةُ عَلَى الْمُدّعِي فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ و لَا رَيْبَ أَنّ لِعَانَ الزّوْجِ الْمَذْكُورَ الْمُكَرّرَ بَيّنَةٌ وَقَدْ انْضَمّ إلَيْهِ نُكُولُهَا الْجَارِي مَجْرَى إقْرَارِهَا عِنْدَ قَوْمٍ وَمَجْرَى بَيّنَةِ الْمُدّعِينَ عِنْدَ [ ص 334 ] وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْبَيّنَاتِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ الْبَيّنَةُ وَإِلّا حَدّ فِي ظَهْرِك وَلَمْ يُبْطِلْ اللّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا وَإِنّمَا نَقَلَهُ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ بَيّنَةٍ مُنْفَصِلَةٍ تُسْقِطُ الْحَدّ عَنْهُ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَتِهَا إلَى بَيّنَةٍ يَتَمَكّنُ مِنْ إقَامَتِهَا وَلَمّا كَانَتْ دُونَهَا فِي الرّتْبَةِ اُعْتُبِرَ لَهَا مُقَوّ مُنْفَصِلٌ وَهُوَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ عَنْ دَفْعِهَا وَمُعَارَضَتُهَا مَعَ قُدْرَتِهَا وَتَمَكّنِهَا قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ مُوجَبَ لِعَانِهِ إسْقَاطُ الْحَدّ عَنْ نَفْسِهِ لَا إيجَابُ الْحَدّ عَلَيْهَا إلَى آخِرِهِ فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنّ مِنْ مُوجَبِهِ إسْقَاطُ الْحَدّ عَنْ نَفْسِهِ فَحَقّ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنّ سُقُوطَ الْحَدّ عَنْهُ يُسْقِطُ جَمِيعَ مُوجَبِهِ وَلَا مُوجَبَ لَهُ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ أَوْ وُجُوبَ التّفْرِيقِ وَالتّحْرِيمِ الْمُؤَبّدِ أَوْ الْمُؤَقّتِ وَنَفْيَ الْوَلَدِ الْمُصَرّحِ بِنَفْيِهِ أَوْ الْمُكْتَفَى فِي نَفْيِهِ بِاللّعَانِ وَوُجُوبَ الْعَذَابِ عَلَى الزّوْجَةِ إمّا عَذَابُ الْحَدّ أَوْ عَذَابُ الْحَبْسِ كُلّ ذَلِكَ مِنْ مُوجَبِ اللّعَانِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ حَدّ الْقَذْفِ عَنْ الزّوْجِ فَقَطْ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الصّحَابَةَ جَعَلُوا حَدّ الزّنَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمّا الْبَيّنَةُ أَوْ الِاعْتِرَافُ أَوْ الْحَبَلُ وَاللّعَانُ لَيْسَ مِنْهَا فَجَوَابُهُ أَنْ مُنَازِعِيكُمْ يَقُولُونَ إنْ كَانَ إيجَابُ الْحَدّ عَلَيْهَا بِاللّعَانِ خِلَافًا لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الصّحَابَةِ فَإِنّ إسْقَاطَ الْحَدّ بِالْحَبَلِ أَدْخَلُ فِي خِلَافِهِمْ وَأَظْهَرُ فَمَا الّذِي سَوّغَ لَكُمْ إسْقَاطَ حَدّ أَوْجَبُوهُ بِالْحَبَلِ وَصَرِيحِ مُخَالَفَتِهِمْ وَحَرّمَ عَلَى مُنَازِعِيكُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِي إيجَابِ الْحَدّ بِغَيْرِ هَذِهِ الثّلَاثَةِ مَعَ أَنّهُمْ أَعْذَرُ مِنْكُمْ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا صَرِيحَ قَوْلِهِمْ وَإِنّمَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِمَفْهُومِ سَكَتُوا عَنْهُ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِسُكُوتِهِمْ وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ صَرِيحَ أَقْوَالِهِمْ . الثّانِي : أَنّ غَايَةَ مَا خَالَفُوهُ مَفْهُومٌ قَدْ خَالَفَهُ صَرِيحٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِإِيجَابِ الْحَدّ فَلَمْ يُخَالِفُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ مَنْطُوقًا لَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ الْبَتّةَ هَا هُنَا وَهُوَ إيجَابُ الْحَدّ بِالْحَبَلِ فَلَا يُحْفَظُ عَنْ صَحَابِيّ قَطّ مُخَالَفَةُ عُمَر وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي إيجَابِ الْحَدّ بِهِ .

[ ص 335 ] { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } [ النّورُ 8 ] وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ سُقُوطِ الْحَدّ بِقَوْلِهِمْ إذَا كَانَتْ الْبَيّنَةُ أَوْ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ فَهُمْ تَرَكُوا مَفْهُومًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى هَذَا لَوْ كَانُوا قَدْ خَالَفُوا الصّحَابَةَ فَكَيْفَ وَقَوْلُهُمْ مُوَافِقٌ لِأَقْوَالِ الصّحَابَةِ ؟ فَإِنّ اللّعَانَ مَعَ نُكُولِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَقْوَى الْبَيّنَاتِ كَمَا تَقَرّرَ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ لَمْ يَتَحَقّقْ زِنَاهَا إلَى آخِرِهِ فَجَوَابُهُ إنْ أَرَدْتُمْ بِالتّحْقِيقِ الْيَقِينَ الْمَقْطُوعَ بِهِ كَالْمُحَرّمَاتِ فَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إقَامَةِ الْحَدّ وَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا أُقِيمَ الْحَدّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إذْ شَهَادَتُهُمْ لَا تَجْعَلُ الزّنَى مُحَقّقًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِعَدَمِ التّحَقّقِ أَنّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ عَلَى السّوَاءِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجّحُ ثُبُوتُهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا وَإِلّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ الْمُدْرَأُ بِلِعَانِهَا وَلَا رَيْبَ أَنّ التّحَقّقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ لِعَانِهِ الْمُؤَكّدِ الْمُكَرّرِ مَعَ إعْرَاضِهَا عَنْ مُعَارَضَةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ التّحَقّقِ بِأَرْبَعِ شُهُودٍ وَلَعَلّ لَهُمْ غَرَضًا فِي قَذْفِهَا وَهَتْكِهَا وَإِفْسَادِهَا عَلَى زَوْجِهَا وَالزّوْجُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا . وَقَوْلُكُمْ إنّهُ لَوْ تَحَقّقَ فَإِمّا أَنْ يَتَحَقّقَ بِلِعَانِ الزّوْجِ أَوْ بِنُكُولِهَا أَوْ بِهِمَا فَجَوَابُهُ أَنّهُ تَحَقّقَ بِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْحَدّ وَضَعْفِهِ عَنْهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِهِمَا مَعًا إذْ هَذَا شَأْنُ كُلّ مُفْرَدٍ لَمْ يَسْتَقِلّ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَقِلّ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ لِقُوّتِهِ بِهِ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ عَجَبًا لِلشّافِعِيّ كَيْفَ لَا يَقْضِي بِالنّكُولِ فِي دِرْهَمٍ وَيَقْضِي بِهِ فِي إقَامَةِ حَدّ بَالَغَ الشّارِعُ فِي سَتْرِهِ وَاعْتَبَرَ لَهُ أَكْمَلَ بَيّنَةٍ فَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُنْتَصَرُ فِيهِ لِلشّافِعِيّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمّةِ وَلَيْسَ لِهَذَا وُضِعَ كِتَابُنَا هَذَا وَلَا قَصَدْنَا بِهِ نُصْرَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ وَإِنّمَا قَصَدْنَا بِهِ مُجَرّدَ هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سِيرَتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَا تَضَمّنَ سِوَى ذَلِكَ فَتُبِعَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ [ ص 336 ] فَهَبْ أَنّ مَنْ لَمْ يَقْضِ بِالنّكُولِ تَنَاقَضَ فَمَاذَا يَضُرّ ذَلِكَ هَدْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا
عَلَى أَنْ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَنَاقَضْ فَإِنّهُ فَرّقَ بَيْنَ نُكُولٍ مُجَرّدٍ لَا قُوّةَ لَهُ وَبَيْنَ نُكُولٍ قَدْ قَارَنَهُ الْتِعَانٌ مُؤَكّدٌ مُكَرّرٌ أُقِيمَ فِي حَقّ الزّوْجِ مَقَامَ الْبَيّنَةِ مَعَ شَهَادَةِ الْحَالِ بِكَرَاهَةِ الزّوْجِ لِزِنَى امْرَأَتِهِ وَفَضِيحَتِهَا وَخَرَابِ بَيْتِهَا وَإِقَامَةِ نَفْسِهِ وَحُبّهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْعَظِيمِ بِمَشْهَدِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِاللّعْنَةِ إنْ كَانَ كَاذِبًا بَعْدَ حَلِفِهِ بِاَللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ إنّهُ لَمِنْ الصّادِقِينَ وَالشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ إنّمَا حَكَمَ بِنُكُولِ قَدْ قَارَنَهُ مَا هَذَا شَأْنُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُكُولٍ مُجَرّدٍ ؟ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهَا لَوْ أَقَرّتْ بِالزّنَى ثُمّ رَجَعَتْ لَسَقَطَ عَنْهَا الْحَدّ فَكَيْفَ يَجِبُ بِمُجَرّدِ امْتِنَاعِهَا مِنْ الْيَمِينِ ؟ بِجَوَابِهِ مَا تَقَرّرَ آنِفًا .

قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْعَذَابَ الْمُدْرَأَ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ عَذَابُ الْحَبْسِ أَوْ غَيْرُهُ فَجَوَابُهُ أَنّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ إمّا عَذَابُ الدّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنّ لِعَانَهَا لَا يَدْرَؤُهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهَا وَإِنّمَا هُوَ عَذَابُ الدّنْيَا وَهُوَ الْحَدّ قَطْعًا فَإِنّهُ عَذَابُ الْمَحْدُودِ وَهُوَ فِدَاءٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ طُهْرَةً وَفِدْيَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ [ ص 337 ] كَيْفَ وَقَدْ صَرّحَ بِهِ فِي أَوّلِ السّورَةِ بِقَوْلِهِ { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النّورُ 2 ] ثُمّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْمَشْهُودُ مَكّنَهَا مِنْ دَفْعِهِ بِلِعَانِهَا فَأَيْنَ هُنَا عَذَابُ غَيْرِهِ حَتّى تُفَسّرَ الْآيَةُ بِهِ ؟ وَإِذَا تَبَيّنَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصّحِيحُ الّذِي لَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ وَلَا نَرْتَضِي إلّا إيّاهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ نَكَلَ الزّوْجُ عَنْ اللّعَانِ بَعْدَ قَذْفِهِ فَمَا حُكْمُ نُكُولِهِ ؟ قُلْنَا : يُحَدّ حَدّ الْقَذْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِك ٍ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِمْ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَقَالَ يُحْبَسُ حَتّى يُلَاعِنَ أَوْ تُقِرّ الزّوْجَةُ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيّ عَلَى أَنّ مُوجَبَ قَذْفِ الزّوْجِ لِامْرَأَتِهِ هَلْ هُوَ الْحَدّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيّ وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللّعَانِ أَوْ مُوجَبُهُ اللّعَانُ نَفْسُهُ ؟ فَالْأَوّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَالثّانِي : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحْتَجّوا عَلَيْهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النّورُ 4 ] وَبِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّة َ الْبَيّنَةُ أَوْ حَدّ فِي ظَهْرِكَ وَبُقُولِهِ لَهُ عَذَابُ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَهَذَا قَالَهُ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي اللّعَانِ . فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْحَدّ بِقَذْفِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا مَعْنًى وَبِأَنّهُ قَذَفَ حُرّةً عَفِيفَةً يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَوَدُ فَحُدّ بِقَذْفِهَا كَالْأَجْنَبِيّ وَبِأَنّهُ لَوْ لَاعَنَهَا ثُمّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ لِعَانِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ فَدَلّ عَلَى أَنّ قَذْفَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدّ عَلَيْهِ وَلَهُ إسْقَاطُهُ بِاللّعَانِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمَا وَجَبَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ بَعْدَ اللّعَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ قَذْفُهُ لَهَا دَعْوَى تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمّا لِعَانُهُ وَإِمّا إقْرَارُهَا فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ حُبِسَ حَتّى يُلَاعِنَ إلّا أَنْ تُقِرّ فَيَزُولَ مُوجَبُ الدّعْوَى وَهَذَا بِخِلَافِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيّ فَإِنّهُ لَا حَقّ لَهُ عِنْدَ الْمَقْذُوفَةِ فَكَانَ قَاذِفًا مَحْضًا وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بَلْ قَذْفُهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ [ ص 338 ] فَكَانَ مُوجَبُهَا الْحَدّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيّ وَلَمّا كَانَ فِيهَا شَائِبَةُ الدّعْوَى عَلَيْهَا بِإِتْلَافِهَا لِحَقّهِ وَخِيَانَتِهَا فِيهِ مَلَكَ إسْقَاطَ مَا يُوجِبُهُ الْقَذْفُ مِنْ الْحَدّ بِلِعَانِهِ فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اللّعَانِ وَتَمَكّنِهِ مِنْهُ عَمِلَ مُقْتَضَى الْقَذْفِ عَمَلَهُ وَاسْتَقَلّ بِإِيجَابِ الْحَدّ إذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ [ وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ أَحَادِيثِ اللّعَانِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا كَانَ يَقْضِي بِالْوَحْيِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا كَانَ يَقْضِي بِالْوَحْيِ وَبِمَا أَرَاهُ اللّهُ لَا بِمَا رَآهُ هُوَ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ حَتّى جَاءَهُ الْوَحْيُ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَالَ لِعُوَيْمِرٍ حِينَئِذٍ قَدْ نَزَلَ فِيك وَفِي صَحَابَتِك فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَسْأَلُنِي اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَنْ سُنّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُمْ لَمْ أُومَرْ بِهَا وَهَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْكَامِ وَالسّنَنِ الْكُلّيّةِ وَأَمّا الْأُمُورُ الْجُزْئِيّةُ الّتِي لَا تَرْجِعُ إلَى أَحْكَامٍ كَالنّزُولِ فِي مَنْزِلٍ مُعَيّنٍ وَتَأْمِيرِ رَجُلٍ مُعَيّنٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمّا هُوَ مُتَعَلّقٌ بِالْمُشَاوَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِقَوْلِهِ { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [ آلُ عِمْرَانَ 159 ] فَتِلْكَ لِلرّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَأْنِ تَلْقِيحِ النّخْلِ إنّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ فَهَذَا الْقِسْمُ شَيْءٌ وَالْأَحْكَامُ وَالسّنَنُ الْكُلّيّةُ شَيْءٌ آخَرُ .
فَصْلٌ [ يَكُونُ اللّعَانُ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا فَتَلَاعَنَا بِحَضْرَتِهِ فَكَانَ فِي هَذَا بَيَانُ أَنّ اللّعَانَ إنّمَا يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَأَنّهُ لَيْسَ لِآحَادِ الرّعِيّةِ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَنّهُ لَيْسَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدّ بَلْ هُوَ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ . [ ص 339 ]

فَصْلٌ [ يُسَنّ التّلَاعُنُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ النّاسِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ يُسَنّ التّلَاعُنُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ النّاسِ يَشْهَدُونَهُ فَإِنّ ابْنَ عَبّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَسَهْلَ بْنَ سَعْد ٍ حَضَرُوهُ مَعَ حَدَاثَةِ أَسْنَانِهِمْ فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى أَنّهُ حَضَرَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَإِنّ الصّبْيَانَ إنّمَا يَحْضُرُونَ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ تَبَعًا لِلرّجَالِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْد ٍ فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النّاسِ عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَحِكْمَةُ هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ اللّعَانَ بُنِيَ عَلَى التّغْلِيظِ مُبَالَغَةً فِي الرّدْعِ وَالزّجْرِ وَفِعْلُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ .
فَصْلٌ [ الْقِيَامُ عِنْدَ الْمُلَاعَنَةِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قِيَامًا وَفِي قِصّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ قُمْ فَاشْهَدْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللّهِ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : فِي قِصّةِ الْمَرْأَةِ ثُمّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ وَلِأَنّهُ إذَا قَامَ شَاهَدَهُ الْحَاضِرُونَ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي شُهْرَتِهِ وَأَوْقَعَ فِي النّفُوسِ وَفِيهِ سِرّ آخَرُ وَهُوَ أَنّ الدّعْوَةَ الّتِي تُطْلَبُ إصَابَتُهَا إذَا صَادَفَتْ الْمَدْعُوّ عَلَيْهِ قَائِمًا نَفَذَتْ فِيهِ وَلِهَذَا لَمّا دَعَا خُبَيْبٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حِينَ صَلَبُوهُ أَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ مُعَاوِيَةَ فَأَضْجَعَهُ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ الرّجُلَ إذَا لَطِئَ بِالْأَرْضِ زَلّتْ عَنْهُ الدّعْوَةُ .

فَصْلٌ [ الْبُدَاءَةُ بِالرّجُلِ فِي اللّعَانِ ]
وَمِنْهَا : الْبُدَاءَةُ بِالرّجُلِ فِي اللّعَانِ كَمَا بَدَأَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَرَسُولُهُ بِهِ فَلَوْ بَدَأَتْ هِيَ لَمْ يُعْتَدّ بِلِعَانِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاعْتَدّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ بَدَأَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدّ بِذِكْرِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النّورُ 2 ] وَفِي اللّعَانِ بِذِكْرِ الزّوْجِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِأَنّ الزّنَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَقْبَحُ مِنْهُ بِالرّجُلِ لِأَنّهَا تَزِيدُ عَلَى هَتْكِ حَقّ اللّهِ إفْسَادَ فِرَاشِ بَعْلِهَا وَتَعْلِيقَ [ ص 340 ] زِنَاهَا فَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهَا فِي الْحَدّ أَهَمّ وَأَمّا اللّعَانُ فَالزّوْجُ هُوَ الّذِي قَذَفَهَا وَعَرّضَهَا لِلّعَانِ وَهَتْكِ عِرْضِهَا وَرَمَاهَا بِالْعَظِيمَةِ وَفَضَحَهَا عِنْدَ قَوْمِهَا وَأَهْلِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدّ إذَا لَمْ يُلَاعِنْ فَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهِ فِي اللّعَانِ أَوْلَى مِنْ الْبُدَاءَةِ بِهَا .
فَصْلٌ [ وَعْظُهُمَا قَبْلَ اللّعَانِ ]
وَمِنْهَا : وَعْظُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَ إرَادَةِ الشّرُوعِ فِي اللّعَانِ فَيُوعَظُ وَيُذَكّرُ وَيُقَالُ لَهُ عَذَابُ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ أُعِيدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا كَمَا صَحّتْ السّنّةُ بِهَذَا وَهَذَا .

فَصْلٌ [ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمَا أَقَلّ مِنْ خَمْسِ مَرّاتٍ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الرّجُلِ أَقَلّ مِنْ خَمْسِ مَرّاتٍ وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إبْدَالُ اللّعْنَةِ بِالْغَضَبِ وَالْإِبْعَادِ وَالسّخَطِ وَلَا مِنْهَا إبْدَالُ الْغَضَبِ بِاللّعْنَةِ وَالْإِبْعَادِ وَالسّخَطِ بَلْ يَأْتِي كُلّ مِنْهُمَا بِمَا قَسَمَ اللّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدْرًا وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا .
[ لَا تُسْتَحَبّ الزّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يَفْتَقِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ شَيْئًا بَلْ لَا يُسْتَحَبّ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الّذِي يَعْلَمُ مِنْ السّرّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ إنّي لَمِنْ الصّادِقِينَ وَهِيَ تَقُولُ أَشْهَدُ بِاَللّهِ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزّنَى وَلَا أَنْ تَقُولَ هِيَ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزّنَى وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ إذَا ادّعَى الرّؤْيَةَ رَأَيْتُهَا تَزْنِي كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِهِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كَفَانَا بِمَا شَرَعَهُ لَنَا وَأَمَرَنَا بِهِ عَنْ تَكَلّفِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . [ ص 341 ] قَالَ صَاحِبُ " الْإِفْصَاحِ " وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي " إفْصَاحِهِ " : مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ الصّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزّنَى وَاشْتَرَطَ فِي نَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهَا أَنْ تَقُولَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزّنَى . قَالَ وَلَا أَرَاهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ ذَلِكَ وَبَيّنَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاشْتِرَاطَ . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الزّنَى فِي اللّعَانِ فَإِنّ إسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ قَالَ قُلْت لِأَحْمَدَ كَيْفَ يُلَاعِنُ ؟ قَالَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللّهِ يَقُولُ أَرْبَعَ مَرّاتٍ أَشْهَدُ بِاَللّهِ إنّي فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ لَمِنْ الصّادِقِينَ ثُمّ يَقِفُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَيَقُولَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ . فَفِي هَذَا النّصّ أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ مِنْ الزّنَى وَلَا تَقُولُهُ هِيَ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ وَتَقُولَ هِيَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ وَاَلّذِينَ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ حُجّتُهُمْ أَنْ قَالُوا : رُبّمَا نَوَى : إنّي لَمِنْ الصّادِقِينَ فِي شَهَادَةِ التّوْحِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْخَبَرِ الصّادِقِ وَنَوَتْ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِي شَأْنٍ آخَرَ فَإِذَا ذَكَرَا مَا رُمِيَتْ بِهِ مِنْ الزّنَى انْتَفَى هَذَا التّأْوِيلُ . قَالَ الْآخَرُونَ هَبْ أَنّهُمَا نَوَيَا ذَلِكَ فَإِنّهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بِنِيّتِهِمَا فَإِنّ الظّالِمَ لَا يَنْفَعُهُ تَأْوِيلُهُ وَيَمِينُهُ عَلَى نِيّةِ خَصْمِهِ وَيَمِينُهُ بِمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ إذَا كَانَ مُجَاهِرًا فِيهَا بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ اللّعْنَةَ أَوْ الْغَضَبَ نَوَى مَا ذَكَرْتُمْ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ فَإِنّهُ لَا يُمَوّهُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى بِمِثْلِ هَذَا .

فَصْلٌ [هَلْ يَنْتَفِي الْحَمْلُ بِاللّعَانِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْحَمْلَ يَنْتَفِي بِلِعَانِهِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَمَا هَذَا الْحَمْلُ مِنّي وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ اسْتَبْرَأْتهَا هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الظّاهِرِ وَقَالَ الشّافِعِيّ يَحْتَاجُ الرّجُلُ إلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ وَلَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إلَى ذِكْرِهِ وَقَالَ الْخِرَقِيّ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجَانِ إلَى ذِكْرِهِ وَقَالَ الْقَاضِي : يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زِنًا وَلَيْسَ هُوَ مِنّي . وَهُوَ [ ص 342 ] الشّافِعِيّ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَصَحّ الْأَقْوَالِ وَعَلَيْهِ تَدُلّ السّنّةُ الثّابِتَةُ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ وَانْتَفَى مِنْ ولدها ففرق بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ . وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا . وَقَدْ حَكَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَهَذِهِ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ حَالَ كَوْنِهَا حَامِلًا فَالْوَلَدُ لَهُ فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إلّا بِنَفْيِهِ . قِيلَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ لَا بُدّ مِنْهُ وَهُوَ أَنّ الْحَمْلَ إنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ وَعَلِمَ أَنّهَا زَنَتْ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالْوَلَدُ لَهُ قَطْعًا وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ وَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ فِي اللّعَانِ فَإِنّهَا لَمّا عُلّقَتْ بِهِ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ وَكَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِهِ فَزِنَاهَا لَا يُزِيلُ حُكْمَ لِحَوْقِهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَمْلَهَا حَالَ زِنَاهَا الّذِي قَدْ قَذَفَهَا بِهِ فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لَأَقَلّ مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الزّنَى الّذِي رَمَاهَا بِهِ فَالْوَلَدُ لَهُ وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الزّنَى الّذِي رَمَاهَا بِهِ نُظِرَ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ زِنَاهَا أَوْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا فَإِنْ كَانَ اسْتَبْرَأَهَا انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُ بِمُجَرّدِ اللّعَانِ سَوَاءٌ نَفَاهُ أَوْ لَمْ يَنْفِهِ وَلَا بُدّ مِنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ ذِكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا فَهَا هُنَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الزّانِي فَإِنْ نَفَاهُ فِي اللّعَانِ انْتَفَى وَإِلّا لَحِقَ بِهِ لِأَنّهُ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ وَلَمْ يَنْفِهِ .

[ ص 343 ] قِيلَ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَكَمَ بَعْدَ اللّعَانِ وَنَفَى الْوَلَدَ بِأَنّهُ إنْ جَاءَ يُشْبِهُ الزّوْجَ صَاحِبَ الْفِرَاشِ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ جَاءَ يُشْبِهُ الّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَهُوَ لَهُ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ثُمّ جَاءَ الْوَلَدُ يُشْبِهُهُ هَلْ تُلْحِقُونَهُ بِهِ بِالشّبَهِ عَمَلًا بِالْقَافَةِ أَوْ تَحْكُمُونَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْهُ عَمَلًا بِمُوجَبِ لِعَانِهِ ؟ قِيلَ هَذَا مَجَالٌ ضَنْكٌ وَمَوْضِعٌ ضَيّقٌ تُجَاذِبُ أَعِنّتُهُ اللّعَانَ الْمُقْتَضِي لِانْقِطَاعِ النّسَبِ وَانْتِفَاءِ الْوَلَدِ وَأَنّهُ يُدْعَى لِأُمّهِ وَلَا يُدْعَى لِأَبٍ وَالشّبَهُ الدّالّ عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الزّوْجِ وَأَنّهُ ابْنُهُ مَعَ شَهَادَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى شَبَهِهِ فَالْوَلَدُ لَهُ وَأَنّهُ كَذَبَ عَلَيْهَا فَهَذَا مَضِيقٌ لَا يَتَخَلّصُ مِنْهُ إلّا الْمُسْتَبْصِرُ الْبَصِيرُ بِأَدِلّةِ الشّرْعِ وَأَسْرَارِهِ وَالْخَبِيرُ بِجَمْعِهِ وَفَرْقِهِ الّذِي سَافَرَتْ بِهِ هِمّتُهُ إلَى مَطْلَعِ الْأَحْكَامِ وَالْمِشْكَاةِ الّتِي مِنْهَا ظَهَرَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ . وَاَلّذِي يَظْهَرُ فِي هَذَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ أَنّ حُكْمَ اللّعَانِ قَطَعَ حُكْمَ الشّبَهِ وَصَارَ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ أَقْوَى الدّلِيلَيْنِ مَعَ أَضْعَفِهِمَا فَلَا عِبْرَةَ لِلشّبَهِ بَعْدَ مُضِيّ حُكْمِ اللّعَانِ فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِهِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ شَأْنِ الْوَلَدِ وَشَبَهِهِ لِيُغَيّرَ بِذَلِكَ حُكْمَ اللّعَانِ وَإِنّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْهُمَا مِنْ الْكَاذِبِ الّذِي قَدْ اسْتَوْجَبَ اللّعْنَةَ وَالْغَضَبَ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ قَدَرِيّ كَوْنٍ يَتَبَيّنُ بِهِ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ بَعْد تَقَرّرِ الْحُكْمِ الدّينِيّ وَأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَيَجْعَلُ فِي الْوَلَدِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ انْتِفَائِهِ مِنْ الْوَلَد وَقَالَ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَا أَرَاهُ إلّا صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَا أَرَاهُ إلّا كَذَبَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَعُلِمَ أَنّهُ صَدَقَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَعْرِضْ لَهَا وَلَمْ يُفْسَخْ حُكْمُ اللّعَانِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الزّانِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنّهُ صَدَقَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى شَبَهِ الزّوْجِ يُعْلَمُ أَنّهُ كَذَبَ عَلَيْهَا وَلَا يُغَيّرُ ذَلِكَ حُكْمَ اللّعَانِ فَيُحَدّ الزّوْجُ وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ إلْحَاقًا لَهُ بِهِ فِي الْحُكْمِ كَيْفَ وَقَدْ نَفَاهُ بِاللّعَانِ وَانْقَطَعَ نَسَبُهُ بِهِ كَمَا أَنّ قَوْلَهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلّذِي رُمِيَتْ بِهِ . لَيْسَ إلْحَاقًا بِهِ وَجَعْلَهُ ابْنَهُ وَإِنّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ [ ص 344 ] أَظْهَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ آيَةً تَدُلّ عَلَى كَذِبِ الْحَالِفِينَ لَمْ يَنْتَقِضْ حُكْمُهَا بِذَلِكَ وَكَذَا لَوْ حُكِمَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الدّعْوَى بِيَمِينِ ثُمّ أَظْهَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ آيَةً تَدُلّ عَلَى أَنّهَا يَمِينٌ فَاجِرَةٌ لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ بِذَلِكَ .

فَصْلٌ [هَلْ يُحَدّ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزّنَى بِرَجُلِ بِعَيْنِهِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الرّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزّنَى بِرَجُلِ بِعَيْنِهِ ثُمّ لَاعَنَهَا سَقَطَ الْحَدّ عَنْهُ لَهُمَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الرّجُلِ فِي لِعَانِهِ وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ فَعَلَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدّهُ وَهَذَا مَوْضِعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِكٌ يُلَاعَنُ لِلزّوْجَةِ وَيُحَدّ لِلْأَجْنَبِيّ وَقَالَ الشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدّ وَاحِدٌ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدّ لَهُمَا بِلِعَانِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالْقَوْلُ الثّانِي لِلشّافِعِيّ أَنّهُ يُحَدّ لِكُلّ وَاحِدٍ حَدّا فَإِنْ ذَكَرَ الْمَقْذُوفَ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ الْحَدّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : يَسْتَأْنِفُ اللّعَانَ وَيَذْكُرُهُ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حُدّ لَهُ . وَالثّانِي : أَنّهُ يَسْقُطُ حَدّهُ بِلِعَانِهِ كَمَا يَسْقُطُ حَدّ الزّوْجَةِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْقَذْفُ لِلزّوْجَةِ وَحْدَهَا وَلَا يَتَعَلّقُ بِغَيْرِهَا حَقّ الْمُطَالَبَةِ وَلَا الْحَدّ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ يَجِبُ الْحَدّ لَهُمَا وَهَلْ يَجِبُ حَدّ وَاحِدٌ أَوْ حَدّانِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَا يَجِبُ إلّا حَدّ وَاحِدٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَنّهُ إذَا لَاعَنَ وَذَكَرَ الْأَجْنَبِيّ فِي لِعَانِهِ أَنّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ الصّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنّهُ لَا يَسْقُطُ .

وَاَلّذِينَ أَسْقَطُوا حُكْمَ قَذْفِ الْأَجْنَبِيّ بِاللّعَانِ حُجّتُهُمْ ظَاهِرَةٌ وَقَوِيّةٌ جِدّا فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحُدّ الزّوْجَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ وَقَدْ سَمّاهُ صَرِيحًا وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْمَقْذُوفَ كَانَ يَهُودِيّا وَلَا يَجِبُ الْحَدّ بِقَذْفِ الْكَافِرِ .
وَالثّانِي : أَنّهُ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ وَحَدّ الْقَذْفِ إنّمَا يُقَامُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ . وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَقَالُوا : قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّهُ يَهُودِيّ بَاطِلٌ فَإِنّهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدَةَ وَأُمّهُ سَحْمَاءُ وَهُوَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ وَهُوَ أَخُو [ ص 345 ] الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمّهِ . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِهِ لِأَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقّ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ الْمَقْذُوفِ فَقِيلَ إنّهُ كَانَ يَهُودِيّا وَهُوَ بَاطِلٌ وَالصّحِيحُ أَنّهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدَةَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ وَهُوَ أَخُو الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمّهِ . وَأَمّا الْجَوَابُ الثّانِي فَهُوَ يَنْقَلِبُ حُجّةً عَلَيْكُمْ لِأَنّهُ لَمّا اسْتَقَرّ عِنْدَهُ أَنّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي هَذَا الْقَذْفِ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ وَلَمْ يَتَعَرّضْ لَهُ وَإِلّا كَيْفَ يَسْكُتُ عَنْ بَرَاءَةِ عِرْضِهِ وَلَهُ طَرِيقٌ إلَى إظْهَارِهَا بِحَدّ قَاذِفِهِ وَالْقَوْمُ كَانُوا أَشَدّ حَمِيّةً وَأَنَفَةً مِنْ ذَلِكَ ؟ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ اللّعَانَ أُقِيمَ مَقَامَ الْبَيّنَةِ لِلْحَاجَةِ وَجُعِلَ بَدَلًا مِنْ الشّهُودِ الْأَرْبَعَةِ وَلِهَذَا كَانَ الصّحِيحُ أَنّهُ يُوجِبُ الْحَدّ عَلَيْهَا إذَا نَكَلَتْ فَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشّهَادَةِ فِي أَحَدِ الطّرَفَيْنِ كَانَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي الطّرَفِ الْآخَرِ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تُحَدّ الْمَرْأَةُ بِاللّعَانِ إذَا نَكَلَتْ ثُمّ يُحَدّ الْقَاذِفُ حَدّ الْقَذْفِ وَقَدْ أَقَامَ الْبَيّنَةَ عَلَى صِدْقِ قَوّلْهُ وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلْنَاهُ يَمِينًا فَإِنّهَا كَمَا دَرَأَتْ عَنْهُ الْحَدّ مِنْ طَرَفٍ الزوجة دَرَأَتْ عَنْهُ مِنْ طَرَف الْمَقْذُوفُ وَلَا فرق لِأَنّهُ بِهِ حَاجَةٌ إلَى قَذْفِ الزّانِي لِمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ مِنْ فراشه وَرُبّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَرَهُ لِيَسْتَدِلّ بِشِبْهِ الْوَلَدِ لَهُ عَلَى صِدْق قَاذِفهُ كَمَا اسْتَدَلّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى صِدْق هِلَال بِشِبْهِ الْوَلَدِ بِشَرِيك بْن سحماء فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ قَذْفِهِ مَا أَسْقَطَ حُكْم قذفها وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلزّوْجِ الْبَيّنَة وَإِلّا حَدّ فِي ظَهْرِك وَلَمْ يَقِلْ وَإِلّا حدان هَذَا وَالْمَرْأَةُ لَمْ تُطَالِبْ بحد القذف فَإِنّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ فِي إقَامَةِ الحد لَا فِي وجوبه وَهَذَا جَوَاب آخَر عَنْ قَوْلِهِمْ إنْ شَرِيكًا لَمْ يُطَالِبْ بالحد فَإِنّ الْمَرْأَةَ أَيْضًا لَمْ تُطَالِبْ بِهِ وَقَدْ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيّنَةُ وَإِلّا حَدّ فِي ظَهْرِك . [ ص 346 ] قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيّةً بِالزّنَى بِرَجُلِ سَمّاهُ ؟ فَقَالَ زَنَى بِكِ فُلَانٌ أَوْ زَنَيْتِ بِهِ ؟ قِيلَ هَا هُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدّانِ لِأَنّهُ قَاذِفٌ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُسْقِطُ مُوجَبَ قَذْفِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذْ لَيْسَ هُنَا بَيّنَةٌ بِالنّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا .

فَصْلٌ [إذَا لَاعَنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَانْتَفَى مِنْ حَمْلِهَا انْتَفَى عَنْهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ وَضْعِهِ ]
وَمِنْهَا : أَنّهُ إذَا لَاعَنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَانْتَفَى مِنْ حَمْلِهَا انْتَفَى عَنْهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ وَضْعِهِ كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَهَذَا مَوْضِعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ لَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِهِ حَتّى تَضَعَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا فَتَنْفُشَ وَلَا يَكُونُ لِلّعَانِ حِينَئِذٍ مَعْنًى وَهَذَا هُوَ الّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " فَقَالَ وَإِنْ نَفَى الْحَمْلَ فِي الْتِعَانِهِ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ حَتّى يَنْفِيَهُ عِنْدَ وَضْعِهَا لَهُ وَيُلَاعِنُ وَتَبِعَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفَهُمْ أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِيّ كَمَا يَأْتِي كَلَامُهُ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي حَالِ الْحَمْلِ اعْتِمَادًا عَلَى قِصّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ فَإِنّهَا صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ فِي اللّعَانِ حَالَ الْحَمْلِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا وَكَذَا فَلَا أَرَاهُ إلّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا . . . الْحَدِيثُ . قَالَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَقَالَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ : يَصِحّ نَفْيُ الْحَمْلِ وَيَنْتَفِي عَنْهُ مُحْتَجّينَ بِحَدِيثِ هِلَالٍ وَأَنّهُ نَفَى حَمْلَهَا فَنَفَاهُ عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَلْحَقَهُ بِالْأُمّ وَلَا خَفَاءَ أَنّهُ كَانَ حَمْلًا وَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُنْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا قَالَ وَلِأَنّ الْحَمْلَ مَظْنُونٌ بِأَمَارَاتِ تَدُلّ عَلَيْهِ وَلِهَذَا تَثْبُتُ لِلْحَامِلِ أَحْكَامٌ تُخَالِفُ فِيهَا الْحَائِلَ مِنْ النّفَقَةِ وَالْفِطَرِ فِي الصّيَامِ وَتَرْكِ إقَامَةِ الْحَدّ عَلَيْهَا وَتَأْخِيرِ الْقِصَاصِ عَنْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَيَصِحّ اسْتِلْحَاقُ الْحَمْلِ فَكَانَ كَالْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ . قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصّحِيحُ لِمُوَافَقَتِهِ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ وَمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ لَا يُعْبَأُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى [ ص 347 ] ذَكَرَهُ فِي اللّعَانِ احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ حَيْثُ لَمْ يَنْقُلْ نَفْيَ الْحَمْلِ وَلَا تَعَرّضَ لِنَفْيِهِ . وَأَمّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَة ْ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّهُ لَا يَصِحّ نَفْيُ الْحَمْلِ وَاللّعَانُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَاعَنَهَا حَامِلًا ثُمّ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لَزِمَهُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ نَفْيِهِ أَصْلًا لِأَنّ اللّعَانَ لَا يَكُونُ إلّا بَيْنَ الزّوْجَيْنِ وَهَذِهِ قَدْ بَانَتْ بِلِعَانِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا . قَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ هَذَا فِيهِ إلْزَامُهُ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ وَسَدّ بَابِ الِانْتِفَاءِ مِنْ أَوْلَادِ الزّنَى وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ طَرِيقًا فَلَا يَجُوزُ سَدّهَا قَالُوا : وَإِنّمَا تُعْتَبَرُ الزّوْجِيّةُ فِي الْحَالِ الّتِي أَضَافَ الزّنَى إلَيْهَا فِيهَا لِأَنّ الْوَلَدَ الّذِي تَأْتِي بِهِ يَلْحَقُهُ إذَا لَمْ يَنْفِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ وَهَذِهِ كَانَتْ زَوْجَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَمَلَكَ نَفْيَ وَلَدِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَمُحَمّدٌ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْحَمْلَ مَا بَيْنَ الْوِلَادَةِ إلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْهَا . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِ الْحَمْلِ إلّا أَنْ يَنْفِيَهُ ثَانِيَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ : إذَا عَلِمَ بِالْحَمْلِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ مِنْ اللّعَانِ فَلَمْ يُلَاعِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدُ .

[مَسْأَلَةٌ فِيمَا لَوْ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ وَقَذَفَهَا بِالزّنَى ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ وَقَذَفَهَا بِالزّنَى فَقَالَ هَذَا الْوَلَدُ مِنّي وَقَدْ زَنَتْ مَا حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ قِيلَ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنّهُ يُحَدّ وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَلَا يُمَكّنُ مِنْ اللّعَانِ . وَالثّانِي : أَنّهُ يُلَاعِنُ وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ . وَالثّالِثُ أَنّهُ يُلَاعِنُ لِلْقُذُفِ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ وَالثّلَاثَةُ رِوَايَاتٍ عَنْ مَالِكٍ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنّهُ لَا يَصِحّ اسْتِلْحَاقُ الْوَلَدِ كَمَا لَا يَصِحّ نَفْيُهُ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَإِنْ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ فَمَنْ قَالَ لَا يَصِحّ نَفْيُه قَالَ لَا يَصِحّ اسْتِلْحَاقُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ . وَمَنْ أَجَازَ نَفْيَهُ قَالَ يَصِحّ [ ص 348 ] مَذْهَبُ الشّافِعِيّ لِأَنّهُ مَحْكُومٌ بِوُجُودِهِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ النّفَقَةِ وَوَقْفِ الْمِيرَاثِ فَصَحّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالْمَوْلُودِ وَإِذَا اسْتَلْحَقَهُ لَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ . وَمَنْ قَالَ لَا يَصِحّ اسْتِلْحَاقُهُ قَالَ لَوْ صَحّ اسْتِلْحَاقُهُ لَلَزِمَهُ بِتَرْكِ نَفْيِهِ كَالْمَوْلُودِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلشّبَهِ أَثَرٌ فِي الْإِلْحَاقِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ وَذَلِكَ مُخْتَصّ بِمَا بَعْدَ الْوَضْعِ فَاخْتَصّ صِحّةُ الْإِلْحَاقِ بِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَلْحَقَهُ ثُمّ نَفَاهُ بَعْدَ وَضْعِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَأَمّا إنْ سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يَنْفِهِ وَلَمْ يَسْتَلْحِقْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَا قَوْلَهُ لِأَنّهُ تَرْكُهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنّهُ لَا يَتَحَقّقُ وُجُودُهُ إلّا أَنْ يُلَاعِنَهَا فَإِنّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَهُ الْوَلَدَ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
فَصْلٌ
وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ فَفَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَلّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَلَا تُرْمَى وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدّ وَقَضَى أَنْ لَا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا قُوتَ مِنْ أَجْلِ أَنّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا . وَقَوْلُ سَهْلٍ فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إلَى أُمّهِ ثُمّ جَرَتْ السّنّةُ أَنّهُ يَرِثُهَا وَتَرِثُ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللّهُ لَهَا . وَقَوْلُهُ مَضَتْ السّنّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمَا ثُمّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَقَالَ الزّهْرِيّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَقَوْلُ الزّوْجِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَالِي ؟ قَالَ " لَا مَالَ لَك إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا ؟ فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَبْعَدُ لَك مِنْهَا . فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَشَرَةَ أَحْكَامٍ .

[التّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ]
[ ص 349 ]
[مَنْ يُفَرّقُ بِمُجَرّدِ الْقَذْفِ ]
[مَنْ قَالَ لَا يَقَعُ بِاللّعَانِ فُرْقَةٌ ]
أَحَدُهَا : أَنّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرّدِ الْقَذْفِ هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ ثُمّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ الْبَتّيّ وَمُحَمّدُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ : لَا يَقَعُ بِاللّعَانِ فُرْقَةٌ أَلْبَتّةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي صُفْرَةَ اللّعَانُ لَا يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ وَاحْتَجّوا بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الطّلَاقَ بَعْد اللّعَانِ بَلْ هُوَ أَنْشَأَ طَلَاقَهَا وَنَزّهَ نَفْسَهُ أَنْ يُمْسِكَ مَنْ قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنّهَا زَنَتْ أَوْ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَذِبٌ بِإِمْسَاكِهَا فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِعْلَهُ سُنّةً وَنَازَعَ هَؤُلَاءِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا : اللّعَانُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ثُمّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ .
[قَوْلُ مَنْ قَالَ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِمُجَرّدِ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ ]
أَحَدُهَا أَنّهَا تَقَعُ بِمُجَرّدِ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِمّا تَفَرّدَ بِهِ الشّافِعِيّ وَاحْتَجّ لَهُ بِأَنّهَا فُرْقَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْقَوْلِ فَحَصَلَتْ بِقَوْلِ الزّوْجِ وَحْدَهُ كَالطّلَاقِ . [قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بَعْدَ اللّعَانِ ]
الْمَذْهَبُ الثّانِي : أَنّهَا لَا تَحْصُلُ إلّا بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَمّ لِعَانُهُمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَا يُعْتَبَرُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد َ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُ مَالِك ٍ وَأَهْلِ الظّاهِرِ وَاحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الشّرْعَ إنّمَا وَرَدَ بِالتّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَلَا يَكُونَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ وَإِنّمَا فَرّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِ اللّعَانِ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ السّنّةِ وَفِعْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحْتَجّوا بِأَنّ لَفْظَ اللّعَانِ لَا يَقْتَضِي فُرْقَةً فَإِنّهُ إمّا أَيْمَانٌ عَلَى زِنَاهَا وَإِمّا شَهَادَةٌ بِهِ وَكِلَاهُمَا لَا يَقْتَضِي فُرْقَةً وَإِنّمَا وَرَدَ الشّرْعُ بِالتّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِ لِعَانِهِمَا لِمَصْلَحَةِ ظَاهِرَةٍ وَهِيَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَيْنَ الزّوْجَيْنِ مَوَدّةً وَرَحْمَةً وَجَعَلَ كُلّا مِنْهُمَا سَكَنًا لِلْآخَرِ وَقَدْ زَالَ هَذَا بِالْقَذْفِ وَأَقَامَهَا مَقَامَ الْخِزْيِ وَالْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ فَإِنّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ فَضَحَهَا وَبَهَتَهَا وَرَمَاهَا بِالدّاءِ الْعُضَالِ وَنَكّسَ رَأْسَهَا وَرُءُوسَ قَوْمِهَا وَهَتَكَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ . وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ وَعَرّضَتْهُ لِلْفَضِيحَةِ وَالْخِزْيِ وَالْعَارِ بِكَوْنِهِ زَوْجَ بَغِيّ [ ص 350 ] فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ التّفْرِيقُ بَيْنهمَا وَالتّحْرِيمُ الْمُؤَبّدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَلَا يَتَرَتّبُ هَذَا عَلَى بَعْضِ اللّعَانِ كَمَا لَا يَتَرَتّبُ عَلَى بَعْضٍ لِعَانُ الزّوْجِ قَالُوا : وَلِأَنّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ بِأَيْمَانِ مُتَحَالِفَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَيْمَانِ أَحَدِهِمَا كَالْفَسْخِ لِتَخَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ .

[قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إلّا بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا وَتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ ]
الْمَذْهَبُ الثّالِثُ : أَنّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إلّا بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا وَتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيّ فَإِنّهُ قَالَ وَمَتَى تَلَاعَنَا وَفَرّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا . وَاحْتَجّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي حَدِيثِهِ فَفَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَحْصُلْ قَبْلَهُ وَاحْتَجّوا بِأَنْ عُوَيْمِرًا قَالَ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَطَلّقْهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا حُجّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يَقْتَضِي إمْكَانَ إمْسَاكِهَا . وَالثّانِي : وُقُوعُ الطّلَاقِ وَلَوْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِاللّعَانِ وَحْدَهُ لَمَا ثَبَتَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلْفُرْقَةِ بِتَمَامِ اللّعَانِ بِدُونِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ : اللّعَانُ مَعْنًى يَقْتَضِي التّحْرِيمَ الْمُؤَبّدَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ كَالرّضَاعِ قَالُوا : وَلِأَنّ الْفُرْقَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَسَاغَ تَرْكُ التّفْرِيقِ إذَا كَرِهَهُ الزّوْجَانِ كَالتّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ قَالُوا : وَقَوْلُهُ فَرّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَمِلُ أُمُورًا ثَلَاثَةً . أَحَدُهَا : إنْشَاءُ الْفُرْقَةِ . وَالثّانِي : الْإِعْلَامُ بِهَا . وَالثّالِثُ إلْزَامُهُ بِمُوجَبِهَا مِنْ الْفُرْقَةِ الْحِسّيّةِ . وَأَمّا قَوْلُهُ كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا فَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ إمْسَاكَهَا بَعْدَ [ ص 351 ] كَانَ الْأَمْرُ صَائِرًا إلَى مَا بَادَرَ إلَيْهِ وَأَمّا طَلَاقُهُ ثَلَاثَةً فَمَا زَادَ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ إلّا تَأْكِيدًا فَإِنّهَا حُرّمَتْ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبّدًا فَالطّلَاقُ تَأْكِيدٌ لِهَذَا التّحْرِيمِ وَكَأَنّهُ قَالَ لَا تَحِلّ لِي بَعْدَ هَذَا . وَأَمّا إنْفَاذُ الطّلَاقِ عَلَيْهِ فَتَقْرِيرٌ لِمُوجَبِهِ مِنْ التّحْرِيمِ فَإِنّهَا إذَا لَمْ تَحِلّ لَهُ بِاللّعَانِ أَبَدًا كَانَ الطّلَاقُ الثّلَاثَ تَأْكِيدًا لِلتّحْرِيمِ الْوَاقِعِ بِاللّعَانِ فَهَذَا مَعْنَى إنْفَاذِهِ فَلَمّا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ وَأَقَرّهُ عَلَى التّكَلّمِ بِهِ وَعَلَى مُوجَبِهِ جُعِلَ هَذَا إنْفَاذًا مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَهْلٌ لَمْ يَحْكِ لَفْظَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ وَقَعَ طَلَاقُك وَإِنّمَا شَاهَدَ الْقِصّةَ وَعَدَمُ إنْكَارِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلطّلَاقِ فَظَنّ ذَلِكَ تَنْفِيذًا وَهُوَ صَحِيحٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [فُرْقَةُ اللّعَانِ فَسْخُ ]
الْحُكْمِ الثّانِي : أَنّ فُرْقَةَ اللّعَانِ فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا وَاحْتَجّوا بِأَنّهَا فُرْقَةٌ تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبّدًا فَكَانَتْ فَسْخًا كَفُرْقَةِ الرّضَاعِ وَاحْتَجّوا بِأَنّ اللّعَانَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الطّلَاقِ وَلَا نَوَى الزّوْجُ بِهِ الطّلَاقَ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ قَالُوا : وَلَوْ كَانَ اللّعَانُ صَرِيحًا فِي الطّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً فِيهِ لَوَقَعَ بِمُجَرّدِ لِعَانِ الزّوْجِ وَلَمْ يَتَوَقّفْ عَلَى لِعَانِ الْمَرْأَةِ قَالُوا : وَلِأَنّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ مِنْ مَدْخُولٍ بِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَنْوِ بِهِ الثّلَاثَ فَكَانَ يَكُونُ رَجْعِيّا . قَالُوا : وَلِأَنّ الطّلَاقَ بِيَدِ الزّوْجِ إنْ شَاءَ طَلّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَهَذَا الْفَسْخُ حَاصِلٌ بِالشّرْعِ وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ قَالُوا : وَإِذَا ثَبَتَ بِالسّنّةِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ وَدِلَالَةِ الْقُرْآنِ أَنّ فُرْقَةَ الْخُلْعِ لَيْسَتْ بِطَلَاقِ بَلْ هِيَ فَسْخٌ مَعَ كَوْنِهَا بِتَرَاضِيهِمَا فَكَيْفَ تَكُونُ فُرْقَةُ اللّعَانِ طَلَاقًا ؟ .

فَصْلٌ [تُوجِبُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ تَحْرِيمًا مُؤَبّدًا وَالْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ ]
الْحُكْمِ الثّالِثِ أَنّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبّدًا لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَهَا أَبَدًا . قَالَ الْأَوْزَاعِيّ : حَدّثَنَا الزّبَيْدِيّ حَدّثَنَا الزّهْرِيّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَذَكَرَ قِصّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَالَ فَفَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا [ ص 352 ] وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَا لَ الْمُتَلَاعِنَانِ إذَا تَفَرّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا قَالَ وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيّ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالَا : مَضَتْ السّنّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ وَمَالِك ٌ وَالثّوْرِيّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنّهُ إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلّتْ لَهُ وَعَادَ فِرَاشُهُ بِحَالِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذّةٌ شَذّ بِهَا حَنْبَلٌ عَنْهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا غَيْرَهُ وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرّوَايَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَهُمَا . فَأَمّا مَعَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَلَا وَجْهَ لِبَقَاءِ النّكَاحِ بِحَالِهِ . قُلْت : الرّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ وَلَا أَثَرَ لِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ فِي دَوَامِ التّحْرِيمِ فَإِنّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِنَفْسِ اللّعَانِ أَقْوَى مِنْ الْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ فَإِذَا كَانَ إكْذَابُ نَفْسِهِ مُؤَثّرًا فِي تِلْكَ الْفُرْقَةِ الْقَوِيّةِ رَافِعًا لِلتّحْرِيمِ النّاشِئِ مِنْهَا فَلَأَنْ يُؤَثّرَ فِي الْفُرْقَةِ الّتِي هِيَ دُونَهَا وَيَرْفَعَ تَحْرِيمَهَا أَوْلَى . وَإِنّمَا قُلْنَا : إنّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللّعَانِ أَقْوَى مِنْ الْفُرْقَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لِأَنّ فُرْقَةَ اللّعَانِ تَسْتَنِدُ إلَى حُكْمِ اللّهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْحَاكِمُ والمتلاعنان التّفْرِيقَ [ ص 353 ] أَبَوْهُ فَهِيَ فُرْقَةٌ مِنْ الشّارِعِ بِغَيْرِ رِضَى أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا اخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ فُرْقَةِ الْحَاكِمِ فَإِنّهُ إنّمَا يُفَرّقُ بِاخْتِيَارِهِ . وَأَيْضًا فَإِنّ اللّعَانَ يَكُونُ قَدْ اقْتَضَى بِنَفْسِهِ التّفْرِيقَ لِقُوّتِهِ وَسُلْطَانِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَوَقّفَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ فَإِنّهُ لَمْ يَقْوَ بِنَفْسِهِ عَلَى اقْتِضَاءِ الْفُرْقَةِ وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا وَهَذِهِ الرّوَايَةُ هِيَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطّابِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَة َ وَمُحَمّدٍ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ اطّرَدَ لِأَنّ فُرْقَةَ اللّعَانِ عِنْدَهُ طَلَاقٌ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ رُدّتْ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدّةِ . وَالصّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوّلُ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَأَقْوَالُ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللّعَانِ وَلَا تَقْتَضِي سِوَاهُ فَإِنّ لَعْنَةَ اللّهِ تَعَالَى وَغَضَبَهُ قَدْ حَلّ بِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ وَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ إنّهَا الْمُوجِبَةُ أَيْ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الْوَعِيدِ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَيْنَ مَنْ حَلّتْ بِهِ يَقِينًا فَفَرّقَ بَيْنَهُمَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْعُونَ الّذِي قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَبَاءَ بِهَا فَيَعْلُو امْرَأَةً غَيْرَ مَلْعُونَةٍ وَحِكْمَةُ الشّرْعِ تَأْبَى هَذَا كَمَا أَبَتْ أَنْ يَعْلُوَ الْكَافِرُ مُسْلِمَةً وَالزّانِي عَفِيفَةً . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يُوجِبُ أَلّا يَتَزَوّجَ غَيْرَهَا لِمَا ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ ؟ . قِيلَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِأَنّا لَمْ نَتَحَقّقْ أَنّهُ هُوَ الْمَلْعُونُ وَإِنّمَا تَحَقّقْنَا أَنّ أَحَدَهُمَا كَذَلِكَ وَشَكَكْنَا فِي عَيْنِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَا لَزِمَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَلَا بُدّ إمّا هَذَا وَإِمّا إمْسَاكُهُ مَلْعُونَةً مَغْضُوبًا عَلَيْهَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا غَضَبُ اللّهِ وَبَاءَتْ بِهِ فَأَمّا إذَا تَزَوّجَتْ بِغَيْرِهِ أَوْ تَزَوّجَ بِغَيْرِهَا لَمْ تَتَحَقّقْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِيهِمَا . وَأَيْضًا فَإِنّ النّفْرَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ إسَاءَةِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَا تَزُولُ أَبَدًا فَإِنّ الرّجُلَ إنْ كَانَ صَادِقًا عَلَيْهَا فَقَدْ أَشَاعَ فَاحِشَتَهَا وَفَضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَأَقَامَهَا مَقَامَ الْخِزْيِ وَحَقّقَ عَلَيْهَا الْخِزْيَ وَالْغَضَبَ وَقَطَعَ نَسَبَ [ ص 354 ] كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ بَهْتَهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِحْرَاقَ قَلْبِهَا بِهَا وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَقَدْ أَكْذَبَتْهُ عَلَى رُءُوسٍ الْأَشْهَادِ وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ . وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ وَخَانَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَأَلْزَمَتْهُ الْعَارَ وَالْفَضِيحَةَ وَأَحْوَجَتْهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْمُخْزِي فَحَصَلَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مِنْ النّفْرَةِ وَالْوَحْشَةِ وَسُوءِ الظّنّ مَا لَا يَكَادُ يَلْتَئِمُ مَعَهُ شَمْلُهُمَا أَبَدًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ مَنْ شَرْعُهُ كُلّهُ حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ تَحَتّمَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَقَطْعَ الصّحْبَةِ الْمُتَمَحّضَةِ مَفْسَدَةً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلّطَ عَلَى إمْسَاكِهَا مَعَ مَا صَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا وَيَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ زَوْجَ بَغِيّ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً ثُمّ اشْتَرَاهَا هَلْ يَحِلّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ؟ قُلْنَا : لَا تَحِلّ لَهُ لِأَنّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَبّدٌ فَحُرّمَتْ عَلَى مُشْتَرِيهَا كَالرّضَاعِ وَلِأَنّ الْمُطَلّقَ ثَلَاثًا إذَا اشْتَرَى مُطَلّقَتَهُ لَمْ تَحِلّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ فَهَاهُنَا أَوْلَى لِأَنّ هَذَا التّحْرِيمَ مُؤَبّدٌ وَتَحْرِيمُ الطّلَاقِ غَيْرُ مُؤَبّدٍ .

فَصْلٌ [لَا يَسْقُطُ صَدَاقُ الْمُلَاعَنَةِ بَعْدَ الدّخُولِ ]
الْحُكْمُ الرّابِعُ أَنّهَا لَا يَسْقُطُ صَدَاقُهَا بَعْدَ الدّخُولِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا فَإِنّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا عِوَضَ الصّدَاقِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَوْلَى وَأَحْرَى .
[هَلْ يُحْكَمُ لِلْمُلَاعَنَةِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إذَا وَقَعَ اللّعَانُ قَبْلَ الدّخُولِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ وَقَعَ اللّعَانُ قَبْلَ الدّخُولِ هَلْ تَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ أَوْ تَقُولُونَ يَسْقُطُ جُمْلَةً ؟ . قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد َ مَأْخَذُهُمَا : أَنّ الْفُرْقَةَ إذَا كَانَتْ بِسَبَبِ مِنْ الزّوْجَيْنِ كَلِعَانِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا وَمِنْ أَجْنَبِيّ كَشِرَائِهَا لِزَوْجِهَا قَبْلَ الدّخُولِ فَهَلْ يَسْقُطُ الصّدَاقُ تَغْلِيبًا لِجَانِبِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ مُسْتَقِلّةً بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ أَوْ [ ص 355 ] بَاعَهُ مُتَسَبّبٌ إلَى إسْقَاطِهِ بِبَيْعِهِ إيّاهَا ؟ فَهَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ . وَكُلّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزّوْجِ نَصّفَتْ الصّدَاقَ كَطَلَاقِهِ إلّا فَسْخَهُ لِعَيْبِهَا أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ شَرَطَهُ فَإِنّهُ يَسْقُطُ كُلّهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الّذِي فَسَخَ لِأَنّ سَبَبَ الْفَسْخِ مِنْهَا وَهِيَ الْحَامِلَةُ لَهُ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ أَوْ تُنَصّفُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . فَوَجْهُ إسْقَاطِهِ أَنّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُمْتَنِعَةُ مَنْ فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا فَهِيَ الْمُتَسَبّبَةُ إلَى إسْقَاطِ صَدَاقِهَا بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الْإِسْلَامِ وَوَجْهُ التّنْصِيفِ أَنّ سَبَبَ الْفَسْخِ مِنْ جِهَتِهِ .
[هَلْ يُنَصّفُ الْخُلْعُ الْمَهْرَ أَوْ يُسْقِطُهُ إذَا وَقَعَ قَبْلَ الدّخُولِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْخُلْعِ هَلْ يُنَصّفُهُ أَوْ يُسْقِطُهُ ؟ . قِيلَ إنْ قُلْنَا : هُوَ طَلَاقٌ نَصّفَهُ وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ فَسْخٌ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : كَذَلِكَ تَغْلِيبًا لِجَانِبِهِ . وَالثّانِي : يُسْقِطُهُ لِأَنّهُ لَمْ يَسْتَقِلّ بِسَبَبِ الْفَسْخِ وَعِنْدِي أَنّهُ إنْ كَانَ مَعَ أَجْنَبِيّ نَصّفَهُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِشِرَائِهِ لِزَوْجَتِهِ مِنْ سَيّدِهَا : هَلْ يُسْقِطُهُ أَوْ يُنَصّفُهُ ؟ . قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : يُسْقِطُهُ لِأَنّ مُسْتَحِقّ مَهْرِهَا تَسَبّبَ إلَى إسْقَاطِهِ بِبَيْعِهَا وَالثّانِي : يُنَصّفُهُ لِأَنّ الزّوْجَ تَسَبّبَ إلَيْهِ بِالشّرَاءِ وَكُلّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مَنْ قِبَلِهَا كَرِدّتِهَا وَإِرْضَاعِهَا مَنْ يَفْسَخُ إرْضَاعُهُ نِكَاحَهَا وَفَسْخِهَا لِإِعْسَارِهِ أَوْ عَيْبِهِ فَإِنّهُ يُسْقِطُ مَهْرَهَا . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ إنّ الْمَرْأَةَ إذَا فَسَخَتْ لِعَيْبِ فِي الزّوْجِ سَقَطَ مَهْرُهَا إذْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا وَقُلْتُمْ إنّ الزّوْجَ إذَا فَسَخَ لِعَيْبِ فِي الْمَرْأَةِ سَقَطَ أَيْضًا وَلَمْ تَجْعَلُوا الْفَسْخَ مِنْ جِهَتِهِ فَتُنَصّفُوهُ كَمَا جَعَلْتُمُوهُ لِفَسْخِهَا لِعَيْبِهِ مِنْ جِهَتِهَا فَأَسْقَطْتُمُوهُ فَمَا الْفَرْقُ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّهُ إنّمَا بَذَلَ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ [ ص 356 ] وَفَسَخَ عَادَ إلَيْهَا كَمَا خَرَجَ مِنْهَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ الصّدَاقِ كَمَا أَنّهَا إذَا فَسَخَتْ لِعَيْبِهِ لَمْ تُسَلّمْ إلَيْهِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ فَلَا تَسْتَحِقّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الصّدَاقِ
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21