كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية


فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجَنَائِزِ وَالصّلَاةِ عَلَيْهَا وَاتّبَاعِهَا وَدَفْنِهَا
وَمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ لِلْمَيّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَبَعْدَ الدّفْنِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ
كَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجَنَائِزِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ مُخَالِفًا لِهَدْيِ سَائِرِ الْأُمَمِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيّتِ وَمُعَامَلَتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ مَعَادِهِ وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَعَلَى إقَامَةِ عُبُودِيّةِ الْحَيّ لِلّهِ وَحْدَهُ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمَيّتَ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ فِي الْجَنَائِزِ إقَامَةُ الْعُبُودِيّةِ لِلرّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْمَيّتِ وَتَجْهِيزُهُ إلَى اللّهِ عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلِهَا وَوُقُوفُهُ وَوُقُوفُ أَصْحَابِهِ صُفُوفًا يَحْمَدُونَ اللّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرّحْمَةَ وَالتّجَاوُزَ عَنْهُ ثُمّ الْمَشْيُ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى أَنْ يُودِعُوهُ حُفْرَتَهُ ثُمّ يَقُومُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ سَائِلِينَ لَهُ التّثْبِيتَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ ثُمّ يَتَعَاهَدُهُ بِالزّيَارَةِ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَالسّلَامِ عَلَيْهِ وَالدّعَاءِ لَهُ كَمَا يَتَعَاهَدُ الْحَيّ صَاحِبَهُ فِي دَارِ الدّنْيَا . فَأَوّلُ ذَلِكَ تَعَاهُدُهُ فِي مَرَضِهِ وَتَذْكِيرُهُ الْآخِرَةَ وَأَمْرُهُ بِالْوَصِيّةِ وَالتّوْبَةِ وَأَمْرُ مَنْ حَضَرَهُ بِتَلْقِينِهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ لِتَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ ثُمّ النّهْيُ عَنْ [ ص 480 ] وَسَنّ الْخُشُوعَ لِلْمَيّتِ وَالْبُكَاءَ الّذِي لَا صَوْتَ مَعَهُ وَحُزْنَ الْقَلْبِ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَقُولُ تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إلّا مَا يُرْضِي الرّبّ وَسَنّ لِأُمّتِهِ الْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ وَالرّضَى عَنْ اللّهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِدَمْعِ الْعَيْنِ وَحُزْنِ الْقَلْبِ وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنْ اللّهِ فِي قَضَائِهِ وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ حَمْدًا وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ رَأْفَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ وَرِقّةً عَلَيْهِ وَالْقَلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرّضَى عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَشُكْرِهِ وَاللّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ . وَلَمّا ضَاقَ هَذَا الْمَشْهَدُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ يَوْمَ مَاتَ وَلَدُهُ جَعَلَ يَضْحَكُ فَقِيلَ لَهُ أَتَضْحَكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؟ قَالَ إنّ اللّهَ تَعَالَى قَضَى بِقَضَاءِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا : كَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ وَهُوَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنْ اللّهِ وَيَبْلُغُ الرّضَى بِهَذَا الْعَارِفِ إلَى أَنْ يَضْحَكَ فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ هَدْيُ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ هَذَا الْعَارِفِ فَإِنّهُ أَعْطَى الْعُبُودِيّةَ حَقّهَا فَاتّسَعَ قَلْبُهُ لِلرّضَى عَنْ اللّهِ وَلِرَحْمَةِ الْوَلَدِ وَالرّقّةِ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ وَرَضِيَ عَنْهُ فِي قَضَائِهِ وَبَكَى رَحْمَةً وَرَأْفَةً فَحَمَلَتْهُ الرّأْفَةُ عَلَى الْبُكَاءِ وَعُبُودِيّتُهُ لِلّهِ وَمَحَبّتُهُ لَهُ عَلَى الرّضَى وَالْحَمْدِ وَهَذَا الْعَارِفُ ضَاقَ قَلْبُهُ عَنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَتّسِعْ بَاطِنُهُ لِشُهُودِهِمَا وَالْقِيَامِ بِهِمَا فَشَغَلَتْهُ عُبُودِيّةُ الرّضَى عَنْ عُبُودِيّةِ الرّحْمَةِ وَالرّأْفَةِ [ ص 481 ]

[ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ الْمَيّتِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ الْمَيّتِ إلَى اللّهِ وَتَطْهِيرُهُ وَتَنْظِيفُهُ وَتَطْيِيبُهُ وَتَكْفِينُهُ فِي الثّيَابِ الْبِيضِ ثُمّ يُؤْتَى بِهِ إلَيْهِ فَيُصَلّي عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُدْعَى إلَى الْمَيّتِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ فَيُقِيمُ عِنْدَهُ حَتّى يَقْضِيَ ثُمّ يَحْضُرُ تَجْهِيزَهُ ثُمّ يُصَلّي عَلَيْهِ وَيُشَيّعُهُ إلَى قَبْرِهِ ثُمّ رَأَى الصّحَابَةُ أَنّ ذَلِكَ يَشُقّ عَلَيْهِ فَكَانُوا إذَا قَضَى الْمَيّتُ دَعَوْهُ فَحَضَرَ تَجْهِيزَهُ وَغُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ . ثُمّ رَأَوْا أَنّ ذَلِكَ يَشُقّ عَلَيْهِ فَكَانُوا هُمْ يُجَهّزُونَ مَيّتَهُمْ وَيَحْمِلُونَهُ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَرِيرِهِ فَيُصَلّي عَلَيْهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ .

[ حُكْمُ الصّلَاةِ عَلَى الْمَيّتِ فِي الْمَسْجِدِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ الرّاتِبِ الصّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنّمَا كَانَ يُصَلّي عَلَى الْجِنَازَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَرُبّمَا كَانَ يُصَلّي أَحْيَانًا عَلَى الْمَيّتِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا صَلّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ وَأَخِيهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سُنّتَهُ وَعَادَتَهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ مَوْلَى التّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ صَلّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ فَقَالَ الْخَطِيبُ فِي رِوَايَتِهِ لِكِتَابِ السّنَنِ فِي الْأَصْلِ " فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " وَغَيْرُهُ يَرْوِيهِ فَلَا شَيْءَ لَه وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " وَلَفْظُهُ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ وَلَكِنْ قَدْ ضَعّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ هَذَا [ ص 482 ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : هُوَ مِمّا تَفَرّدَ بِهِ صَالِحٌ مَوْلَى التّوْأَمَةِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : هَذَا حَدِيثٌ يُعَدّ فِي أَفْرَادِ صَالِحٍ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحّ مِنْهُ وَصَالِحٌ مُخْتَلَفٌ فِي عَدَالَتِهِ كَانَ مَالِكٌ يُجَرّحُهُ ثُمّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ صَلّى عَلَيْهِمَا فِي الْمَسْجِدِ . قُلْت : وَصَالِحٌ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَالَ عَبّاسٌ الدّورِيّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ : هُوَ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَيَحْيَى : ثِقَةٌ حُجّةٌ فَقُلْت لَهُ إنّ مَالِكًا تَرَكَهُ فَقَالَ إنّ مَالِكًا أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ خَرِفَ وَالثّوْرِيّ إنّمَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ خَرِفَ فَسَمِعَ مِنْهُ لَكِنّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرَفَ . وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ : هُوَ ثِقَةٌ إلّا أَنّهُ خَرِفَ وَكَبِرَ فَسَمِعَ مِنْهُ الثّوْرِيّ بَعْدَ الْخَرَفِ وَسَمَاعُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : تَغَيّرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَجَعَلَ يَأْتِي بِمَا يُشْبِهُ الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثّقَاتِ فَاخْتَلَطَ حَدِيثُهُ الْأَخِيرُ بِحَدِيثِهِ الْقَدِيمِ وَلَمْ يَتَمَيّزْ فَاسْتَحَقّ التّرْكَ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ فَإِنّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ وَسَمَاعُهُ مِنْهُ قَدِيمٌ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ فَلَا يَكُونُ اخْتِلَاطُهُ مُوجِبًا لِرَدّ مَا حَدَثَ بِهِ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ . وَقَدْ سَلَكَ الطّحَاوِيّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَحَدِيثِ عَائِشَةَ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَ صَلَاةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْسُوخَةٌ وَتَرْكُ ذَلِكَ آخِرُ الْفِعْلَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدَلِيلِ إنْكَارِ عَامّةِ الصّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَى عَائِشَةَ وَمَا كَانُوا لِيَفْعَلُوهُ إلّا لَمّا عَلِمُوا خِلَافَ مَا نَقَلْت . وَرَدّ ذَلِكَ عَلَى الطّحَاوِيّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَلَوْ كَانَ عِنْد أَبِي هُرَيْرَةَ نَسْخٌ مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ لِذِكْرِهِ يَوْمَ صُلّيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَوْمَ صُلّيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فِي الْمَسْجِدِ وَلِذِكْرِهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ أَمْرَهَا بِإِدْخَالِهِ الْمَسْجِدَ وَلِذِكْرِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ رَوَتْ فِيهِ الْخَبَرَ وَإِنّمَا أَنْكَرَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْجَوَازِ فَلَمّا رَوَتْ فِيهِ الْخَبَرَ سَكَتُوا وَلَمْ يُنْكِرُوهُ وَلَا عَارَضُوهُ بِغَيْرِهِ . قَالَ الْخَطّابِيّ : وَقَدْ ثَبَتَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا صَلّى عَلَيْهِمَا فِي [ ص 483 ] وَالْأَنْصَارِ شَهِدُوا الصّلَاةَ عَلَيْهِمَا وَفِي تَرْكِهِمْ الْإِنْكَارَ الدّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ ثَبَتَ مُتَأَوّلًا عَلَى نُقْصَانِ الْأَجْرِ وَذَلِكَ أَنّ مَنْ صَلّى عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ فَالْغَالِبُ أَنّهُ يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِهِ وَلَا يَشْهَدُ دَفْنَهُ وَأَنّ مَنْ سَعَى إلَى الْجِنَازَةِ فَصَلّى عَلَيْهَا بِحَضْرَةِ الْمَقَابِرِ شَهِدَ دَفْنَهُ وَأَحْرَزَ أَجْرَ الْقِيرَاطَيْنِ وَقَدْ يُؤْجَرُ أَيْضًا عَلَى كَثْرَةِ خُطَاهُ وَصَارَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْقُوصَ الْأَجْرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنْ يُصَلّي عَلَيْهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ . وَتَأَوّلَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَيْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِيَتّحِدَ مَعْنَى اللّفْظَيْنِ وَلَا يَتَنَاقَضَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الْإِسْرَاءُ 7 ] أَيْ فَعَلَيْهَا فَهَذِهِ طُرُقُ النّاسِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ . وَالصّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوّلًا وَأَنّ سُنّتَهُ وَهَدْيَهُ الصّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إلّا لِعُذْرٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ وَالْأَفْضَلُ الصّلَاةُ عَلَيْهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْجِيَةُ الْمَيّتِ إذَا مَاتَ وَتَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ وَتَغْطِيَةُ وَجْهِهِ وَبَدَنِهِ وَكَانَ رُبّمَا يُقَبّلُ الْمَيّتَ كَمَا قَبّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَبَكَى وَكَذَلِكَ الصّدّيقُ أَكَبّ عَلَيْهِ فَقَبّلَهُ بَعْدَ مَوْتِه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ يَأْمُرُ بِغُسْلِ الْمَيّتِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْغَاسِلُ [ ص 484 ] وَكَانَ لَا يُغَسّلُ الشّهَدَاءَ قَتْلَى الْمَعْرَكَةِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنّهُ نَهَى عَنْ تَغْسِيلِهِمْ وَكَانَ يَنْزِعُ عَنْهُمْ الْجُلُودَ وَالْحَدِيدَ وَيَدْفِنُهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ أَمَرَ أَنْ يُغَسّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَيُكَفّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَهُمَا ثَوْبَا حْرَامِهِ إزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ وَيَنْهَى عَنْ تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ وَلِيَ [ ص 485 ] كَفَنَهُ وَيُكَفّنَهُ فِي الْبَيَاضِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي الْكَفَنِ وَكَانَ إذَا قَصُرَ الْكَفَنُ عَنْ سَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ غَطّى رَأْسَهُ وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْعُشْبِ

فَصْلٌ [ لَمْ يَكُنْ يُصَلّي عَلَى الْمَدِينِ ]
وَكَانَ إذَا قُدّمَ إلَيْهِ مَيّتٌ يُصَلّي عَلَيْهِ سَأَلَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَلّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُصَلّوا عَلَيْهِ فَإِنّ صَلَاتَهُ شَفَاعَةٌ وَشَفَاعَتَهُ مُوجَبَةٌ وَالْعَبْدُ مُرْتَهَنٌ بِدِينِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ حَتّى يُقْضَى عَنْهُ فَلَمّا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ كَانَ يُصَلّي عَلَى الْمَدِينِ وَيَتَحَمّلُ دَيْنَهُ وَيَدَعُ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ . فَإِذَا أَخَذَ فِي الصّلَاةِ عَلَيْهِ كَبّرَ وَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلّى ابْنُ عَبّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بَعْدَ التّكْبِيرَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ جَهْرًا وَقَالَ لِتَعْلَمُوا أَنّهَا سُنّة وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ : إنّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأَوْلَى سُنّةٌ [ ص 486 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ أَمَرَ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَلَا يَصِحّ إسْنَادُهُ . قَالَ شَيْخُنَا : لَا تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَلْ هِيَ سُنّةٌ وَذَكَرَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ الصّلَاةَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ سَأَلَ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ عَنْ الصّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَقَالَ أَنَا وَاَللّهِ أُخْبِرُك : تَبْدَأُ فَتُكَبّرُ ثُمّ تُصَلّي عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَقُولُ اللّهُمّ إنّ عَبْدَكَ فُلَانًا كَانَ لَا يُشْرِكُ بِك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ اللّهُمّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلّنَا بَعْدَهُ

فَصْلٌ [ الدّعَاءُ لِلْمَيّتِ فِي الصّلَاةِ عَلَيْهِ ]
وَمَقْصُودُ الصّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ هُوَ الدّعَاءُ لِلْمَيّتِ لِذَلِكَ حُفِظَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنُقِلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُنْقَلْ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالصّلَاةِ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ اللّهُمّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ واعَفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقّى الثّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النّارِ [ ص 487 ] وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ اللّهُمّ اغْفِرْ لِحَيّنَا وَمَيّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا اللّهُمّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَوَفّيْتَهُ مِنّاُ فَتَوَفّهُ عَلَى الْإِيمَانِ اللّهُمّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنّا بَعْدَه وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ اللّهُمّ إنّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِك فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النّارِ فَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إنّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرّحِيم وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ أَيْضًا : اللّهُمّ أَنْتَ رَبّهَا وَأَنْتَ خَلَقْتهَا وَأَنْتَ رَزَقْتهَا وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا لِلْإِسْلَامِ وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا وَتَعْلَمُ سِرّهَا وَعَلَانِيَتَهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهَا [ ص 488 ]
[ التّكْبِيرُ فِي الصّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُ بِإِخْلَاصِ الدّعَاءِ لِلْمَيّتِ وَكَانَ يُكَبّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ كَبّرَ خَمْسًا وَكَانَ الصّحَابَةُ بَعْدَهُ يُكَبّرُونَ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتّا فَكَبّرَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ خَمْسًا وَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرَهَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَكَبّرَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتّا وَكَانَ يُكَبّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتّا وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الصّحَابَةِ خَمْسًا وَعَلَى سَائِرِ النّاسِ أَرْبَعًا ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . [ ص 489 ] وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنّهُ قَالَ كَانُوا يُكَبّرُونَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسًا وَسِتّا وَسَبْعًا . وَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ فَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ مِنْهَا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَمْنَعْ مِمّا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ بَلْ فَعَلَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ . وَاَلّذِينَ مَنَعُوا مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْهُمْ مَنْ احْتَجّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ آخِرَ جِنَازَةٍ صَلّى عَلَيْهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرَ أَرْبَعًا . قَالُوا : وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ وَإِنّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرُ مِنْ فِعْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قَالَ الْخَلّالُ فِي " الْعِلَلِ " : أَخْبَرَنِي حَرْبٌ قَالَ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا كَذِبٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إنّمَا رَوَاهُ مُحَمّدُ بْنُ زِيَادٍ الطّحّانُ وَكَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ . وَاحْتَجّوا بِأَنّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ الْمَلَائِكَةَ لَمّا صَلّتْ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ كَبّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالُوا : تِلْكَ سُنّتُكُمْ يَا بَنِي آدَم وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قَالَ فِي الْأَثْرَمِ : جَرَى ذِكْرُ مُحَمّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ النّيْسَابُورِيّ الّذِي كَانَ بِمَكّةَ فَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَالَ رَأَيْت أَحَادِيثَهُ مَوْضُوعَةً فَذَكَرَ مِنْهَا عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ الْمَلَائِكَةَ لَمّا صَلّتْ عَلَى آدَم كَبّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَاسْتَعْظَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ وَقَالَ أَبُو الْمَلِيحِ كَانَ أَصَحّ حَدِيثًا وَأَتْقَى لِلّهِ مِنْ أَنْ يَرْوِيَ مِثْلَ هَذَا . [ ص 490 ] وَاحْتَجّوا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى عَنْ أُبَيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ لَمّا صَلّتْ عَلَى آدَم فَكَبّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالَتْ هَذِهِ سُنّتُكُمْ يَا بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَصِحّ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا . وَكَانَ أَصْحَابُ مُعَاذٍ يُكَبّرُونَ خَمْسًا قَالَ عَلْقَمَةُ قُلْتُ لِعَبْدِ اللّهِ إنّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ قَدِمُوا مِنْ الشّامِ فَكَبّرُوا عَلَى مَيّتٍ لَهُمْ خَمْسًا فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ لَيْسَ عَلَى الْمَيّتِ فِي التّكْبِيرِ وَقْتٌ كَبّرْ مَا كَبّرَ الْإِمَامُ فَإِذَا انْصَرَفَ الْإِمَامُ فَانْصَرِفْ

فَصْلٌ [ التّسْلِيمُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ]
وَأَمّا هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّسْلِيمِ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُسَلّمُ وَاحِدَةً . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُسَلّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ . فَرَوَى الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبّرَ أَرْبَعًا وَسَلّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي مَوْضُوعٌ ذَكَرَهُ الْخَلّالُ فِي " الْعِلَلِ " . [ ص 491 ] وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْهَجَرِيّ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى : أَنّهُ صَلّى عَلَى جِنَازَةِ ابْنَتِهِ فَكَبّرَ أَرْبَعًا فَمَكَثَ سَاعَةً حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ يُكَبّرُ خَمْسًا ثُمّ سَلّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَلَمّا انْصَرَفَ قُلْنَا لَهُ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ إنّي لَا أَزِيدُكُمْ عَلَى مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصْنَعُ أَوْ هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : ثَلَاثُ خِلَالٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْعَلُهُنّ تَرَكَهُنّ النّاسُ إحْدَاهُنّ التّسْلِيمُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِثْلَ التّسْلِيمِ فِي الصّلَاةِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيّ . وَلَكِنّ إبْرَاهِيمَ بْنَ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيّ الْهَجَرِيّ ضَعّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالنّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَحَدِيثُهُ هَذَا قَدْ رَوَاهُ الشّافِعِيّ فِي كِتَاب حَرْمَلَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْهُ وَقَالَ كَبّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا ثُمّ قَامَ سَاعَةً فَسَبّحَ بِهِ الْقَوْمُ فَسَلّمَ ثُمّ قَالَ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنْ أَزِيدَ عَلَى أَرْبَعَ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرَ أَرْبَعًا وَلَمْ يَقُلْ ثُمّ سَلّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُحَارِبِيّ عَنْهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ ثُمّ سَلّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ . وَذَكَرَ السّلَامَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ انْفَرَدَ بِهَا شَرِيكٌ عَنْهُ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : ثُمّ عَزَاهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّكْبِيرِ فَقَطْ أَوْ فِي التّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ . قُلْت : وَالْمَعْرُوفُ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى خِلَافُ ذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يُسَلّمُ وَاحِدَةً ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ أَتَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ [ ص 492 ] كَانَ يُسَلّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَتَيْنِ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ عَنْ سِتّةٍ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُمْ كَانُوا يُسَلّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً خَفِيفَةً عَنْ يَمِينِهِ فَذَكَرَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَوَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَابْنَ أَبِي أَوْفَى وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ . وَزَادَ الْبَيْهَقِيّ : عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَأَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَأَبُو أُمَامَةَ أَدْرَكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمّاهُ بِاسْمِ جَدّهِ لِأُمّه ِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصّحَابَةِ وَمِنْ كِبَارِ التّابِعِينَ

[ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ]
وَأَمّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشّافِعِيّ : تُرْفَعُ لِلْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ عَلَى السّنّةِ فِي الصّلَاةِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلّ تَكْبِيرَةٍ كَبّرَهَا فِي الصّلَاةِ وَهُوَ قَائِمٌ قُلْت : يُرِيدُ بِالْأَثَرِ مَا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَر َ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا كُلّمَا كَبّرَا عَلَى الْجِنَازَةِ وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوّلِ التّكْبِيرِ وَيَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَنِ .
[ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشّمَالِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ]
وَفِي التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فِي صَلَاةِ الْجِنَازَة وَهُوَ ضَعِيفٌ بيَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرّهَاوِيّ . [ ص 493 ]

[ الصّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا فَاتَتْهُ الصّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ صَلّى عَلَى الْقَبْر فَصَلّى مَرّةً عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ لَيْلَةٍ وَمَرّةً بَعْدَ ثَلَاثٍ وَمَرّةً بَعْدَ شَهْرٍ وَلَمْ يُوَقّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا . قَالَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللّهُ مَنْ يَشُكّ فِي الصّلَاة عَلَى الْقَبْرِ ؟ وَيُرْوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا فَاتَتْهُ الْجِنَازَةُ صَلّى عَلَى الْقَبْرِ مِنْ سِتّةِ أَوْجُهٍ كُلّهَا حِسَانٌ فَحَدّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الصّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ بِشَهْرٍ إذْ هُوَ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ صَلّى بَعْدَهُ وَحَدّهُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ بِمَا إذَا لَمْ يَبْلَ الْمَيّتُ وَمَنَعَ مِنْهَا مالِكٌ وَ أَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُمَا اللّهُ إلّا لِلْوَلِيّ إذَا كَانَ غَائِبًا .

فَصْلٌ [ الصّلَاةُ عَلَى الطّفْلِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّلَاةُ عَلَى الطّفْلِ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ الطّفْلُ يُصَلّى عَلَيْهِ [ ص 494 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مَرْفُوعًا صَلّوا عَلَى أَطْفَالِكُمْ فَإِنّهُمْ مِنْ أَفْرَاطِكُمْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدَةَ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ : مَتَى يَجِبُ أَنْ يُصَلّى عَلَى السّقْطِ ؟ قَالَ إذَا أَتَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِأَنّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرّوحُ . قُلْتُ فَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الطّفْلُ يُصَلّى عَلَيْه ؟ قَالَ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ قُلْتُ لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَلَا غَيْرِهَا ؟ قَالَ قَدْ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ صَلّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ يَوْمَ مَاتَ ؟ قِيلَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا فَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ . . . فَذَكَرَهُ . [ ص 495 ] وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدّا وَوَهّى ابْنَ إسْحَاقَ . وَقَالَ الْخَلّالُ وَقُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنِي أَبِي حَدّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدّثَنَا إسْرَائِيلُ قَالَ حَدّثَنَا جَابِرٌ الْجُعْفِيّ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ الْبَهِيّ قَالَ لَمّا مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَقَاعِدِ وَهُوَ مُرْسَلٌ وَالْبَهِيّ اسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَسَار ٍ كُوفِيّ . وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ لَيْلَةً . وَهَذَا مُرْسَلٌ وَهِمَ فِيهِ عَطَاءٌ فَإِنّهُ قَدْ كَانَ تَجَاوَزَ السّنَةَ . فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الصّلَاةَ عَلَيْهِ وَمَنَعَ صِحّةَ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ قَالُوا : وَهَذِهِ الْمَرَاسِيلُ مَعَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ يَشُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعّفَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بِجَابِرٍ الْجُعْفِيّ وَضَعّفَ هَذِهِ الْمَرَاسِيلَ وَقَالَ حَدِيثُ ابْنِ إسْحَاقَ أَصَحّ مِنْهَا . ثُمّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي السّبَبِ الّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ اسْتَغْنَى بِبُنُوّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قُرْبَةِ الصّلَاةِ الّتِي هِيَ شَفَاعَةٌ لَهُ كَمَا اسْتَغْنَى الشّهِيدُ بِشَهَادَتِهِ عَنْ الصّلَاةِ عَلَيْهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : إنّهُ مَاتَ يَوْمَ كَسَفَتْ الشّمْسُ فَاشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ عَنْ الصّلَاة عَلَيْهِ . [ ص 496 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ فَإِنّهُ أَمَرَ بِالصّلَاةِ عَلَيْهِ فَقِيلَ صُلّيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَاشِرْهَا بِنَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَقِيلَ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ رِوَايَةُ الْمُثْبِتِ أَوْلَى لِأَنّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ وَإِذَا تَعَارَضَ النّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ قُدّمَ الْإِثْبَاتُ

فَصْلٌ [ الصّلَاةُ عَلَى الْمُنْتَحِرِ وَالْغَالّ وَالْمَقْتُولِ حَدّا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَا يُصَلّي عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَلَا عَلَى مَنْ غَلّ مِنْ الْغَنِيمَةِ . وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي الصّلَاةِ عَلَى الْمَقْتُولِ حَدّا كَالزّانِي الْمَرْجُومِ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى عَلَى الْجُهَنِيّةِ الّتِي رَجَمَهَا فَقَالَ عُمَرُ تُصَلّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللّهِ وَقَدْ زَنَتْ ؟ فَقَالَ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وُجِدَتْ تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلّهِ تَعَالَى [ ص 497 ] ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَذَكَرَ الْبُخَارِي ّ فِي " صَحِيحِهِ " قِصّةَ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا وَصَلّى عَلَيْهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى الزّهْرِيّ فِي ذِكْرِ الصّلَاةِ عَلَيْهِ فَأَثْبَتَهَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْهُ وَخَالَفَهُ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرّزّاقِ فَلَمْ يَذْكُرُوهَا وَهُمْ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى الذّهْلِيّ وَنُوحُ بْنُ حَبِيبٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ الْمُتَوَكّلِ وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ وَأَحْمَد بْنُ مَنْصُورٍ الرّمَادِيّ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَوْلُ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ : إنّهُ صَلّى عَلَيْهِ خَطَأٌ لِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَلَى خِلَافِهِ ثُمّ إجْمَاعِ أَصْحَابِ الزّهْرِيّ عَلَى خِلَافِهِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قِصّةِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ : مَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَا سَبّهُ وَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْب ِ إنّهُ قَالَ اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِك فَقَالُوا : غَفَرَ اللّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ . ذَكَرَهُمَا مُسْلِمٌ . وَقَالَ جَابِرٌ : فَصَلّى عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرّزّاقِ الْمُعَلّلُ وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ : لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الصّلَاةِ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ . [ ص 498 ] الْغَامِدِيّةِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنّهُ صَلّى عَلَيْهَا وَحَدِيثُ مَاعِزٍ إمّا أَنْ يُقَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ فَإِنّ الصّلَاةَ فِيهِ هِيَ دُعَاؤُهُ لَهُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُ وَتَرْكَ الصّلَاةِ فِيهِ هِيَ تَرْكُهُ الصّلَاةَ عَلَى جِنَازَتِهِ تَأْدِيبًا وَتَحْذِيرًا وَإِمّا أَنْ يُقَالَ إذَا تَعَارَضَتْ أَلْفَاظُهُ عُدِلَ عَنْهُ إلَى حَدِيثِ الْغَامِدِيّةِ :

فَصْلٌ [ أَبْحَاثُ الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَالْإِسْرَاعِ بِهَا ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَلّى عَلَى مَيّتٍ تَبِعَهُ إلَى الْمَقَابِرِ مَاشِيًا أَمَامَهُ . وَهَذِهِ كَانَتْ سُنّةَ خُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ وَسُنّ لِمَنْ تَبِعَهَا إنْ كَانَ رَاكِبًا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهَا وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهَا إمّا خَلْفَهَا أَوْ أَمَامَهَا أَوْ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ عَنْ شِمَالِهَا . وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْإِسْرَاعِ بِهَا حَتّى إنْ كَانُوا لَيَرْمُلُونَ بِهَا رَمَلًا وَأَمّا دَبِيبُ النّاسِ الْيَوْمَ خُطْوَةً خُطْوَةً فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلسّنّةِ وَمُتَضَمّنَةٌ لِلتّشَبّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ . وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يَرْفَعُ السّوْطَ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَرْمُلُ رَمَلًا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَأَلْنَا نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ مَا دُونَ الْخَبَبِ رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ وَكَانَ يَمْشِي إذَا تَبِعَ الْجِنَازَةَ وَيَقُولُ [ ص 499 ] لَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَالْمَلَائِكَةُ يَمْشُون فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا فَرُبّمَا مَشَى وَرُبّمَا رَكِبَ . وَكَانَ إذَا تَبِعَهَا لَمْ يَجْلِسْ حَتّى تُوضَعَ وَقَالَ إذَا تَبِعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتّى تُوضَعَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْمُرَادُ وَضْعُهَا بِالْأَرْضِ . قُلْت : قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيث الثّوْرِي ّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . قَالَ وَفِيهِ " حَتّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ " وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ سُهَيْلٍ وَقَالَ " حَتّى تُوضَعَ فِي اللّحْدِ " . قَالَ وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِي ّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُومُ فِي الْجِنَازَةِ حَتّى تُوضَعَ فِي اللّحْدِ لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ قَالَ التّرْمِذِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الْحَدِيث وَقَالَ الْبُخَارِيّ : لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ : ضَعِيفٌ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : حَدّثَ بِمَنَاكِيرَ وَقَالَ النّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : يَرْوِي أَشْيَاءَ مَوْضُوعَةً كَأَنّهُ الْمُتَعَمّدُ لَهَا . [ ص 500 ]

فَصْلٌ [ الصّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَسُنّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّلَاةُ عَلَى كُلّ مَيّتٍ غَائِبٍ . فَقَدْ مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ غُيّبٌ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى عَلَى النّجَاشِيّ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيّتِ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ أَحَدُهَا : أَنّ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ وَسُنّةٌ لِلْأُمّةِ الصّلَاةُ عَلَى كُلّ غَائِبٍ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : هَذَا خَاصّ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ قَالَ أَصْحَابُهُمَا : وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ رُفِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فَصَلّى عَلَيْهِ وَهُوَ يَرَى صَلَاتَهُ عَلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهِدِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ مِنْ الْبُعْدِ وَالصّحَابَةُ وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ فَهُمْ تَابِعُونَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّلَاةِ . قَالُوا : وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُصَلّي عَلَى كُلّ الْغَائِبِينَ غَيْرَهُ وَتَرْكُهُ سُنّةٌ كَمَا أَنّ فِعْلَهُ سُنّةٌ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَى أَنْ يُعَايِنَ سَرِيرَ الْمَيّتِ مِنْ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَيُرْفَعُ لَهُ حَتّى يُصَلّيَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى [ ص 501 ] مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ اللّيْثِيّ وَهُوَ غَائِبٌ وَلَكِنْ لَا يَصِحّ فَإِنّ فِي إسْنَادِهِ الْعَلَاءَ بْنَ زَيْدٍ وَيُقَالُ ابْنُ زَيْدَلٍ قَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ : كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ مَحْبُوبُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ . قَالَ الْبُخَارِيّ : لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ : الصّوَابُ أَنّ الْغَائِبَ إنْ مَاتَ بِبَلَدٍ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ فِيهِ صُلّيَ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ كَمَا صَلّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى النّجَاشِيّ لِأَنّهُ مَاتَ بَيْنَ الْكُفّارِ وَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ وَإِنْ صُلّيَ عَلَيْهِ حَيْثُ مَاتَ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ لِأَنّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى عَلَى الْغَائِبِ وَتَرَكَهُ وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سُنّةٌ وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَصَحّهَا : هَذَا التّفْصِيلُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ الصّلَاةُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا . [ ص 502 ]

فَصْلٌ [الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ ]
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمّا مَرّتْ بِهِ وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ لَهَا وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَعَدَ فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ الْقِيَامُ مَنْسُوخٌ وَالْقُعُودُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ وَقِيلَ بَلْ الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلِاسْتِحْبَابِ وَتَرْكُهُ بَيَانٌ لِلْجَوَازِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ادّعَاءِ النّسْخِ .

فَصْلٌ حُكْمُ الدّفْنِ وَسُنّيّةُ اللّحْدِ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلّا يَدْفِنَ الْمَيّتَ عِنْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا وَلَا حِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظّهِيرَةِ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ اللّحْدُ وَتَعْمِيقُ الْقَبْرِ وَتَوْسِيعُهُ مِنْ [ ص 503 ] كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ بِسْمِ اللّهِ وَبِاَللّهِ وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ اللّهِ . وَفِي رِوَايَةٍ بِسْمِ اللّهِ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ اللّهِ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ كَانَ يَحْثُو التّرَابَ عَلَى قَبْرِ الْمَيّتِ إذَا دُفِنَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا . وَكَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيّتِ قَامَ عَلَى قَبْرِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَسَأَلَ لَهُ التّثْبِيتَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ التَثْبِيتَ .
[ تَلْقِينُ الْمَيّتِ ]
وَلَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ يَقْرَأُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلَا يُلَقّنُ الْمَيّتَ كَمَا يَفْعَلُهُ النّاسُ الْيَوْمَ وَأَمّا الْحَدِيث الّذِي رَوَاهُ الطّبَرَانِيّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِكُم ْ فَسَوّيْتُمْ التّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثُمّ لْيَقُلْ يَا فُلَانُ فَإِنّهُ يَسْمَعُهُ وَلَا يُجِيبُ ثُمّ يَقُولُ يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ فَإِنّهُ يَسْتَوِي قَاعِدًا ثُمّ يَقُولُ يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ فَإِنّهُ يَقُولُ أَرْشِدْنَا يَرْحَمُك اللّهُ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ثُمّ يَقُولُ اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدّنْيَا : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنّكَ رَضِيتَ بِاَللّهِ رَبّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمّدٍ نَبِيّا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا فَإِنّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ انْطَلِقْ بِنَا مَا نَقْعُدُ عِنْدَ مَنْ لُقّنَ حُجّتَهُ فَيَكُونُ اللّهُ حَجِيجَهُ دُونَهُمَا . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أُمّهُ ؟ قَالَ فَيَنْسِبُهُ إلَى حَوّاءَ : يَا فُلَانُ بْنُ حَوّاءَ . [ ص 504 ] فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحّ رَفْعُهُ وَلَكِنْ قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ فَهَذَا الّذِي يَصْنَعُونَهُ إذَا دُفِنَ الْمَيّتُ يَقِفُ الرّجُلُ وَيَقُولُ يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ اُذْكُرْ مَا فَارَقْت عَلَيْهِ الدّنْيَا : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . فَقَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَلَ هَذَا إلّا أَهْلُ الشّامِ حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ جَاءَ إنْسَانٌ فَقَالَ ذَلِكَ وَكَانَ أَبُو الْمُغِيرَةِ يَرْوِي فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ أَنّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَكَانَ ابْنُ عَيّاشٍ يَرْوِي فِيهِ . قُلْت : يُرِيدُ حَدِيثَ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيّاشٍ هَذَا الّذِي رَوَاهُ الطّبَرَانِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَحَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالُوا : إذَا سُوّيَ عَلَى الْمَيّتِ قَبْرُهُ وَانْصَرَفَ النّاسُ عَنْهُ فَكَانُوا يَسْتَحِبّونَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ يَا فُلَانُ قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ثَلَاثَ مَرّاتٍ يَا فُلَانُ قُلْ رَبّيَ اللّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ نَبِيّي مُحَمّدٌ

فَصْلٌ [ لَا تُعَلّى الْقُبُورُ وَلَا تُشَيّدُ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَعْلِيَةُ الْقُبُورِ وَلَا بِنَاؤُهَا بِآجُرّ وَلَا بِحَجَرٍ وَلَبَنٍ وَلَا [ ص 505 ] بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ بَعَثَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ أَلّا يَدَعَ تِمْثَالًا إلّا طَمَسَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلّا سَوّاهُ فَسُنّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْوِيَةُ هَذِهِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ كُلّهَا وَنَهَى أَنْ يُجَصّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ . وَكَانَتْ قُبُورُ أَصْحَابِهِ لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُهُ الْكَرِيمُ وَقَبْرُ صَاحِبَيْهِ فَقَبْرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسَنّمٌ مَبْطُوحٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ لَا مَبْنِيّ وَلَا مُطَيّنٌ وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُ صَاحِبَيْهِ . [ ص 506 ]

فَصْلٌ [ لَا تُتّخَذُ الْقُبُورُ مَسَاجِدَ ]
وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ اتّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَإِيقَادِ السّرُجِ عَلَيْهَا وَاشْتَدّ نَهْيُهُ فِي ذَلِكَ حَتّى لَعَنَ فَاعِلَهُ وَنَهَى عَنْ الصّلَاة إلَى الْقُبُورِ وَنَهَى أُمّتَهُ أَنْ يَتّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا وَلَعَنَ زوّراتِ الْقُبُورِ . [ ص 507 ] وَكَانَ هَدْيُهُ أَنْ لَا تُهَانَ الْقُبُورُ وَتُوطَأَ وَأَلّا يُجْلَسَ عَلَيْهَا وَيُتّكَأَ عَلَيْهَا وَلَا تُعَظّمَ بِحَيْثُ تُتّخَذُ مَسَاجِدَ فَيُصَلّى عِنْدَهَا وَإِلَيْهَا وَتُتّخَذَ أَعْيَادًا وَأَوْثَانًا .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ
كَانَ إذَا زَارَ قُبُورَ أَصْحَابِهِ يَزُورُهَا لِلدّعَاءِ لَهُمْ وَالتّرَحّمِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَهَذِهِ هِيَ الزّيَارَةُ الّتِي سَنّهَا لِأُمّتِهِ وَشَرَعَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوهَا : السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنّا إنْ شَاءَ اللّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ نَسْأَلُ اللّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . وَكَانَ هَدْيُهُ أَنْ يَقُولَ وَيَفْعَلَ عِنْدَ زِيَارَتِهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ الصّلَاةِ عَلَى الْمَيّتِ مِنْ الدّعَاءِ وَالتّرَحّمِ وَالِاسْتِغْفَارِ . فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إلّا دُعَاءَ الْمَيّتِ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ وَالْإِقْسَامَ عَلَى اللّهِ بِهِ وَسُؤَالَهُ الْحَوَائِجَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَالتّوَجّهَ إلَيْهِ بِعَكْسِ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ هَدْيُ تَوْحِيدٍ وَإِحْسَانٍ إلَى الْمَيّتِ وَهَدْيُ هَؤُلَاءِ شِرْكٌ وَإِسَاءَةٌ إلَى نَفُوسِهِمْ وَإِلَى الْمَيّتِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إمّا أَنْ يَدْعُوَا الْمَيّتَ أَوْ يَدْعُوَا بِهِ أَوْ عِنْدَهُ وَيَرَوْنَ الدّعَاءَ عِنْدَهُ أَوْجَبَ وَأَوْلَى مِنْ الدّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ [ ص 508 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ تَبَيّنَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ

فَصْلٌ [ حُكْمُ التّعْزِيَةِ وَعَدَمِ الِاجْتِمَاعِ لَهَا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيّتِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْعَزَاءِ وَيَقْرَأَ لَهُ الْقُرْآنَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِهِ وَكُلّ هَذَا بِدْعَةٌ حَادِثَةٌ مَكْرُوهَةٌ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ السّكُونُ وَالرّضَى بِقَضَاءِ اللّهِ وَالْحَمْدُ لِلّهِ وَالِاسْتِرْجَاعُ وَيَبْرَأُ مِمّنْ خَرَقَ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ ثِيَابَهُ أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالنّدْبِ وَالنّيَاحَةِ أَوْ حَلَقَ لَهَا شَعْرَهُ . [ ص 509 ] وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ أَهْلَ الْمَيّتِ لَا يَتَكَلّفُونَ الطّعَامَ لِلنّاسِ بَلْ أَمَرَ أَنْ يَصْنَعَ النّاسُ لَهُمْ طَعَامًا يُرْسِلُونَهُ إلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ وَالْحَمْلِ عَنْ أَهْلِ الْمَيّتِ فَإِنّهُمْ فِي شُغْلٍ بِمُصَابِهِمْ عَنْ إطْعَامِ النّاسِ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرْكُ نَعْيِ الْمَيّتِ بَلْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ وَيَقُولُ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ كَرِهَ حُذَيْفَةُ أَنْ يُعْلِمَ بِهِ أَهْلُهُ النّاسَ إذَا مَاتَ وَقَالَ أَخَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْ النّعْيِ

فَصْلٌ صَلَاةُ الْخَوْفِ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ أَبَاحَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَصْرَ أَرْكَانِ الصّلَاةِ وَعَدَدَهَا إذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسّفَرُ وَقَصْرُ الْعَدَدِ وَحْدَهُ إذَا كَانَ سَفَرٌ لَا خَوْفَ مَعَهُ وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إذَا كَانَ خَوْفٌ لَا سَفَرَ مَعَهُ وَهَذَا كَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِهِ تُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا كَانَ الْعَدُوّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَنْ يَصُفّ الْمُسْلِمِينَ كُلّهُمْ خَلْفَهُ وَيُكَبّرَ وَيُكَبّرُونَ جَمِيعًا ثُمّ يَرْكَعُ فَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا ثُمّ يَرْفَعُ وَيَرْفَعُونَ جَمِيعًا مَعَهُ ثُمّ يَنْحَدِرُ بِالسّجُودِ وَالصّفّ الّذِي يَلِيهِ خَاصّةً وَيَقُومُ الصّفّ الْمُؤَخّرُ مُوَاجِهَ الْعَدُوّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الرّكْعَةِ الْأُولَى وَنَهَضَ إلَى الثّانِيَةِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ بَعْدَ قِيَامِهِ سَجْدَتَيْنِ ثُمّ قَامُوا فَتَقَدّمُوا إلَى مَكَانِ الصّفّ الْأَوّلِ وَتَأَخّرَ الصّفّ الْأَوّلُ مَكَانَهُمْ لِتَحْصُلَ فَضِيلَةُ الصّفّ الْأَوّلِ لِلطّائِفَتَيْنِ وَلِيُدْرِكَ الصّفّ الثّانِي مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّجْدَتَيْنِ فِي الرّكْعَةِ الثّانِيَةِ كَمَا أَدْرَكَ الْأَوّلُ مَعَهُ السّجْدَتَيْنِ فِي الْأُولَى فَتَسْتَوِي الطّائِفَتَانِ فِيمَا أَدْرَكُوا مَعَهُ وَفِيمَا قَضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ غَايَةُ الْعَدْلِ فَإِذَا رَكَعَ صَنَعَ الطّائِفَتَانِ كَمَا صَنَعُوا أَوّلَ مَرّةٍ فَإِذَا جَلَسَ لِلتّشَهّدِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ سَجْدَتَيْنِ وَلَحِقُوهُ فِي التّشَهّدِ فَيُسَلّمُ بِهِمْ جَمِيعًا . [ ص 511 ] كَانَ الْعَدُوّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنّهُ كَانَ تَارَةً يَجْعَلُهُمْ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوّ وَفِرْقَةً تُصَلّي مَعَهُ فَتُصَلّي مَعَهُ إحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ رَكْعَةٌ ثُمّ تَنْصَرِفُ فِي صَلَاتِهَا إلَى مَكَانِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى وَتَجِيءُ الْأُخْرَى إلَى مَكَانِ هَذِهِ فَتُصَلّي مَعَهُ الرّكْعَةَ الثّانِيَةَ ثُمّ تُسَلّمُ وَتَقْضِي كُلّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ . وَتَارَةً كَانَ يُصَلّي بِإِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ثُمّ يَقُومُ إلَى الثّانِيَةِ وَتَقْضِي هِيَ رَكْعَةً وَهُوَ وَاقِفٌ وَتُسَلّمُ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَتَأْتِي الطّائِفَةُ الْأُخْرَى فَتُصَلّي مَعَهُ الرّكْعَةَ الثّانِيَةَ فَإِذَا جَلَسَ فِي التّشَهّدِ قَامَتْ فَقَضَتْ رَكْعَةً وَهُوَ يَنْتَظِرُهَا فِي التّشَهّدِ فَإِذَا تَشَهّدَتْ يُسَلّمُ بِهِمْ . وَتَارَةً كَانَ يُصَلّي بِإِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَتُسَلّمُ قَبْلَهُ وَتَأْتِي الطّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلّي بِهِمْ الرّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَيُسَلّمُ بِهِمْ فَتَكُونُ لَهُ أَرْبَعًا وَلَهُمْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . [ ص 512 ] كَانَ يُصَلّي بِإِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلّمُ بِهِمْ وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَيُصَلّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلّمُ فَيَكُونُ قَدْ صَلّى بِهِمْ بِكُلّ طَائِفَةٍ صَلَاةً . وَتَارَةً كَانَ يُصَلّي بِإِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً فَتَذْهَبُ وَلَا تَقْضِي شَيْئًا وَتَجِيءُ الْأُخْرَى فَيُصَلّي بِهِمْ رَكْعَةً وَلَا تَقْضِي شَيْئًا فَيَكُونُ لَهُ رَكْعَتَانِ وَلَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلّهَا تَجُوزُ الصّلَاة بِهَا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كُلّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ . وَقَالَ سِتّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ تُرْوَى فِيهَا كُلّهَا جَائِزَةٌ وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلّهَا كُلّ حَدِيثٍ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا ؟ قَالَ أَنَا أَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهَا كُلّهَا فَحَسَنٌ . وَظَاهِرُ هَذَا أَنّهُ جَوّزَ أَنْ تُصَلّيَ كُلّ طَائِفَةٍ مَعَهُ رَكْعَةً رَكْعَةً وَلَا تَقْضِي شَيْئًا وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ [ ص 513 ] وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ . قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : وَعُمُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ وَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَهُ . وَقَدْ رَوَى عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ صِفَاتٍ أُخَرَ تَرْجِعُ كُلّهَا إلَى هَذِهِ وَهَذِهِ أُصُولُهَا وَرُبّمَا اخْتَلَفَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا وَقَدْ ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَشْرَ صِفَاتٍ وَذَكَرَهَا أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ صِفَةً وَالصّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوّلًا وَهَؤُلَاءِ كُلّمَا رَأَوْا اخْتِلَافَ الرّوَاةِ فِي قِصّةٍ جَعَلُوا ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ فِعْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ اخْتِلَافِ الرّوَاةِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّدَقَةِ وَالزّكَاةِ
[ ص 5 ] الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طُهْرَةً لِلْمَالِ وَلِصَاحِبِهِ وَقَيّدَ النّعْمَةَ بِهَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَمَا زَالَتْ النّعْمَةُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ أَدّى زَكَاتَهُ بَلْ يَحْفَظُهُ عَلَيْهِ وَيُنَمّيهِ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِهَا الْآفَاتِ وَيَجْعَلُهَا سُورًا عَلَيْهِ وَحِصْنًا لَهُ وَحَارِسًا لَهُ .
[ الْأَصْنَافُ الّتِي تَجِبُ فِيهَا الزّكَاةُ ]
ثُمّ إنّهُ جَعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْ الْمَالِ وَهِيَ أَكْثَرُ الْأَمْوَالِ دَوَرَانًا بَيْنَ الْخَلْقِ وَحَاجَتُهُمْ إلَيْهَا ضَرُورِيّةٌ . أَحَدُهَا : الزّرْعُ وَالثّمَارُ . الثّانِي : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . الثّالِثُ الْجَوْهَرَانِ اللّذَانِ بِهِمَا قِوَامُ الْعَالَمِ وَهُمَا الذّهَبُ وَالْفِضّةُ . الرّابِعُ أَمْوَالُ التّجَارَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا .
[ وَقْتُ وُجُوبِهَا ]
ثُمّ إنّهُ أَوْجَبَهَا مَرّةً كُلّ عَامٍ وَجَعَلَ حَوْلَ الزّرُوعِ وَالثّمَارِ عِنْدَ كَمَالِهَا وَاسْتِوَائِهَا وَهَذَا أَعْدَلُ مَا يَكُونُ إذْ وُجُوبُهَا كُلّ شَهْرٍ أَوْ كُلّ جُمُعَةٍ يَضُرّ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَوُجُوبُهَا فِي الْعُمْرِ مَرّةً مِمّا يَضُرّ بِالْمَسَاكِينِ فَلَمْ يَكُنْ أَعْدَلَ مِنْ وُجُوبِهَا كُلّ عَامٍ مَرّةً .
[ نِصَابُ الزّكَاةِ ]
ثُمّ إنّهُ فَاوَتَ بَيْنَ مَقَادِيرِ الْوَاجِبِ بِحَسْبِ سَعْيِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي تَحْصِيلِهَا [ ص 6 ] فَأَوْجَبَ الْخُمُسَ فِيمَا صَادَفَهُ الْإِنْسَانُ مَجْمُوعًا مُحَصّلًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ الرّكَازُ . وَلَمْ يَعْتَبِرْ لَهُ حَوْلًا بَلْ أَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ مَتَى ظَفَرَ بِهِ . وَأَوْجَبَ نِصْفَهُ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا كَانَتْ مَشَقّةُ تَحْصِيلِهِ وَتَعَبُهُ وَكُلْفَتُهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَذَلِكَ فِي الثّمَارِ وَالزّرُوعِ الّتِي يُبَاشِرُ حَرْثَ أَرْضِهَا وَسَقْيِهَا وَبَذْرِهَا وَيَتَوَلّى اللّهُ سَقْيَهَا مِنْ عِنْدِهِ بِلَا كُلْفَةٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا شِرَاءَ مَاءٍ وَلَا إثَارَةَ بِئْرٍ وَدُولَابٍ . وَأَوْجَبَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا تَوَلّى الْعَبْدُ سَقْيَهُ بِالْكُلْفَةِ وَالدّوَالِي وَالنّوَاضِحِ وَغَيْرِهَا . وَأَوْجَبَ نِصْفَ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرُ فِيمَا كَانَ النّمَاءُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَلٍ مُتّصِلٍ مِنْ رَبّ الْمَالِ بِالضّرْبِ فِي الْأَرْضِ تَارَةً وَبِالْإِدَارَةِ تَارَةً وَبِالتّرَبّصِ تَارَةً وَلَا رَيْبَ أَنّ كُلْفَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُلْفَةِ الزّرْعِ وَالثّمَارِ وَأَيْضًا فَإِنّ نُمُوّ الزّرْعِ وَالثّمَارِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ نُمُوّ التّجَارَةِ فَكَانَ وَاجِبُهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاجِبِ التّجَارَةِ وَظُهُورُ النّمُوّ فِيمَا يُسْقَى بِالسّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ أَكْثَرُ مِمّا يُسْقَى بِالدّوَالِي وَالنّوَاضِحِ وَظُهُورُهُ فِيمَا وُجِدَ مُحَصّلًا مَجْمُوعًا كَالْكَنْزِ أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ الْجَمِيعِ . [ ص 7 ] كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ كُلّ مَالٍ وَإِنْ قَلّ جَعَلَ لِلْمَالِ الّذِي تَحْتَمِلُهُ الْمُوَاسَاةُ نُصُبًا مُقَدّرَةً الْمُوَاسَاةُ فِيهَا لَا تُجْحِفُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَتَقَعُ مَوْقِعَهَا مِنْ الْمَسَاكِينِ فَجَعَلَ لِلْوَرِقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلِلذّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَلِلْحُبُوبِ وَالثّمَارِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَهِيَ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ مِنْ أَحْمَالِ إبِلِ الْعَرَبِ وَلِلْغَنَمِ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلِلْبَقَرِ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً وَلِلْإِبِلِ خَمْسًا لَكِنْ لَمّا كَانَ نِصَابُهَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْجَبَ فِيهَا شَاةً . فَإِذَا تَكَرّرَتْ الْخُمُسُ خَمْسَ مَرّاتٍ وَصَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ احْتَمَلَ نِصَابُهَا وَاحِدًا مِنْهَا فَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ . ثُمّ إنّهُ لَمّا قَدّرَ سِنّ هَذَا الْوَاجِبِ فِي الزّيَادَةِ وَالنّقْصَانِ بِحَسْبِ كَثْرَةِ الْإِبِلِ وَقِلّتِهَا مِنْ ابْنِ مَخَاضٍ وَبِنْتِ مَخَاضٍ وَفَوْقَهُ ابْنُ لَبُونٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَفَوْقَهُ الْحِقّ وَالْحِقّةُ وَفَوْقَهُ الْجَذَعُ وَالْجَذَعَةُ وَكُلّمَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ زَادَ السّنّ إلَى أَنْ [ ص 8 ] السّنُ إلَى مُنْتَهَاهُ فَحِينَئِذٍ جَعَلَ زِيَادَةَ عَدَدِ الْوَاجِبِ فِي مُقَابَلَةِ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمَالِ .
[ أَصْنَافُ مَنْ يَأْخُذُ الزّكَاةَ ]
فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ فِي الْأَمْوَالِ قَدْرًا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ وَلَا يُجْحِفُ بِهَا وَيَكْفِي الْمَسَاكِينَ وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى شَيْءٍ فَفَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَكْفِي الْفُقَرَاءَ فَوَقَعَ الظّلْمُ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ الْغَنِيّ يَمْنَعُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَالْآخِذُ يَأْخُذُ مَا لَا يَسْتَحِقّهُ فَتَوَلّدَ مِنْ بَيْنِ الطّائِفَتَيْنِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَفَاقَةٌ شَدِيدَةٌ أَوْجَبَتْ لَهُمْ أَنْوَاعَ الْحِيَلِ وَالْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالرّبّ سُبْحَانَهُ تَوَلّى قَسْمَ الصّدَقَةِ بِنَفْسِهِ وَجَزّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ يَجْمَعُهَا صِنْفَانِ مِنْ النّاسِ
أَحَدُهُمَا : مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَةِ فَيَأْخُذُ بِحَسْبِ شِدّةِ الْحَاجَةِ وَضَعْفِهَا وَكَثْرَتِهَا وَقِلّتِهَا وَهُمْ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَفِي الرّقَابِ وَابْنِ السّبِيلِ .
وَالثّانِي : مَنْ يَأْخُذُ لِمَنْفَعَتِهِ وَهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمُونَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآخِذُ مُحْتَاجًا وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا سَهْمَ لَهُ فِي الزّكَاةِ

فَصْلٌ [ إعْطَاؤُهُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلزّكَاةِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا عَلِمَ مِنْ الرّجُلِ أَنّهُ مِنْ أَهْلِ الزّكَاةِ أَعْطَاهُ وَإِنْ سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الزّكَاةِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ أَعْطَاهُ بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَهُ أَنّهُ لَا حَظّ فِيهَا لِغَنِيّ وَلَا لِقَوِيّ مُكْتَسِبٍ . [ ص 9 ] وَكَانَ يَأْخُذُهَا مِنْ أَهْلِهَا وَيَضَعُهَا فِي حَقّهَا .
[ تَفْرِيقُ الزّكَاةِ عَلَى الْمُسْتَحِقّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ تَفْرِيقُ الزّكَاةِ عَلَى الْمُسْتَحِقّينَ الّذِينَ فِي بَلَدِ الْمَالِ وَمَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنْهَا حُمِلَتْ إلَيْهِ فَفَرّقَهَا هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِذَلِكَ كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتَهُ إلَى الْبَوَادِي وَلَمْ يَكُنْ يَبْعَثُهُمْ إلَى الْقُرَى بَلْ أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْ يَأْخُذَ الصّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَيُعْطِيهَا فُقَرَاءَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِحَمْلِهَا إلَيْهِ .
[ بَعَثَ السّعَاةَ لِجِبَايَةِ الزّكَاةِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَبْعَثَ سُعَاتَهُ إلّا إلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ الظّاهِرَةِ مِنْ الْمَوَاشِي وَالزّرُوعِ وَالثّمَارِ وَكَانَ يَبْعَثُ الْخَارِصَ فَيَخْرُصُ عَلَى أَرْبَابِ النّخِيلِ تَمْرَ نَخِيلِهِمْ وَيَنْظُرُ كَمْ يَجِيءُ مِنْهُ وَسْقًا فَيَحْسِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الزّكَاةِ بِقَدْرِهِ وَكَانَ يَأْمُرُ [ ص 10 ] وَكَانَ هَذَا الْخَرْصُ لِكَيْ تُحْصَى الزّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثّمَارُ وَتُصْرَمَ وَلْيَتَصَرّفْ فِيهَا أَرْبَابُهَا بِمَا شَاءُوا وَيَضْمَنُوا قَدْرَ الزّكَاةِ وَلِذَلِكَ كَانَ يَبْعَثُ الْخَارِصَ إلَى مَنْ سَاقَاهُ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ وَزَارِعِهِ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ الثّمَارَ وَالزّرُوعَ وَيُضَمّنُهُمْ شَطْرَهَا وَكَانَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ تُطْعِمُونِي السّحْتَ ؟ وَاَللّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبّ النّاسِ إلَيّ وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إلَيّ مِنْ عِدّتِكُمْ مِنْ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي لَك وَحُبّي إيّاهُ أَنْ لَا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا : بِهَذَا قَامَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
[ بَعْضُ الْأَصْنَافِ الّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزّكَاةُ ]
[ ص 11 ] أَخْذُ الزّكَاةِ مِنْ الْخَيْلِ وَالرّقِيقِ وَلَا الْبِغَالِ وَلَا الْحَمِيرِ وَلَا الْخُضْرَاوَات وَلَا الْمَبَاطِخِ وَالْمَقَاثِي وَالْفَوَاكِهِ الّتِي لَا تُكَالُ وَلَا تُدّخَرُ إلّا الْعِنَبُ وَالرّطَبُ فَإِنّهُ كَانَ يَأْخُذُ الزّكَاةَ مِنْهُ جُمْلَةً وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ مَا يَبِسَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَيْبَسْ

فَصْلٌ [ زَكَاةُ الْعَسَلِ ]
وَاخْتَلَفَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَسَلِ فَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعان إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَكَانَ سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا يقُال لَهُ سَلَبَةُ فَحَمَى لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الْوَادِيَ فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ عُمَرُ إنْ أَدّى إلَيْك مَا كَانَ يُؤَدّي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَة وَإِلّا فَإِنّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كُلّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ - 12 - وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَبِي سَيّارَةَ الْمُتَعِيّ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ لِي نَحْلًا . قَالَ أَدّ الْعُشْرَ " قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ احْمِهَا لِي فَحَمَاهَا لِي وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَرّرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ قَالَ الشّافِعِيّ : أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمْتُ ثُمّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لِقَوْمِي مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَفَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ ثُمّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ ثُمّ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَهْلِ السّرَاةِ قَالَ فَكَلّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَلِ فَقُلْت لَهُمْ فِيهِ زَكَاةٌ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكّى . فَقَالُوا : كَمْ تَرَى ؟ قُلْتَ الْعُشْرُ . فَأَخَذْت مِنْهُمْ الْعُشْرَ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ . قَالَ فَقَبَضَهُ عُمَرُ ثُمّ جَعَلَ ثَمَنَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ لِلشّافِعِيّ . [ ص 13 ]
[ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْعَسَلِ الزّكَاةُ ]
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَحُكْمِهَا فَقَالَ الْبُخَارِيّ : لَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحّ وَقَالَ التّرْمِذِيّ : يَصِحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرُ شَيْءٍ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَيْسَ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْعَسَلِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا إجْمَاعَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَالَ الشّافِعِيّ : الْحَدِيثُ فِي أَنّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ ضَعِيفٌ وَفِي أَنّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ ضَعِيفٌ إلّا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . قَالَ هَؤُلَاءِ وَأَحَادِيثُ الْوُجُوبِ كُلّهَا مَعْلُولَةٌ أَمّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَر َ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ صَدَقَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَصَدَقَةُ ضَعّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا وَقَالَ الْبُخَارِيّ : هُوَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرْسَلٌ وَقَالَ النّسَائِيّ : صَدَقَةُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي سَيّارَةَ الْمُتَعِيّ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْهُ قَالَ الْبُخَارِيّ : سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَمّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْآخَرُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ فَفِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَرْوِيهِ عَنْ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ : بَنُو زَيْدٍ ثَلَاثَتُهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءِ وَقَالَ التّرْمِذِيّ : لَيْسَ فِي وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ثِقَةٌ . وَأَمّا حَدِيثُ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : فَمَا أَظْهَرَ دَلَالَتِهِ لَوْ سَلِمَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَرّرٍ رَاوِيهِ عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ الْبُخَارِيّ فِي حَدِيثِهِ هَذَا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَرّرٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحّ . وَأَمّا حَدِيثُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : رَوَاهُ الصّلْتُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ( هُوَ ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ . قَالَ الْبُخَارِيّ : عَبْدُ اللّهِ وَالِدُ مُنِيرٍ عَنْ [ ص 14 ] سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ لَمْ يَصِحّ حَدِيثُهُ وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ : مُنِيرٌ هَذَا لَا نَعْرِفُهُ إلّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَذَا قَالَ لِي . قَالَ الشّافِعِيّ : وَسَعْدُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ يَحْكِي مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِأَخْذِ الصّدَقَةِ مِنْ الْعَسَلِ وَإِنّمَا هُوَ شَيْءٌ رَآهُ فَتَطَوّعَ لَهُ بِهِ أَهْلُهُ . قَالَ الشّافِعِيّ : وَاخْتِيَارِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ لِأَنّ السّنَنَ وَالْآثَارَ ثَابِتَةٌ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَيْسَتْ ثَابِتَةً فِيهِ فَكَأَنّهُ عَفْوٌ . وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَيْسَ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ قَالَ يَحْيَى : وَسُئِلَ حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْعَسَلِ ؟ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا . وَذَكَرَ عَنْ مُعَاذٍ أَنّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْعَسَلِ شَيْئًا . قَالَ الْحُمَيْدِيّ حَدّثَنَا سُفْيَانُ حَدّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّهُ أَتَى بِوَقَصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَقَالَ مُعَاذٌ : كِلَاهُمَا لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ الشّافِعِيّ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللّهُ إلَى أَبِي وَهُوَ بِمِنَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْخَيْلِ وَلَا مِنْ الْعَسَلِ صَدَقَةً وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ .
[ مَنْ قَالَ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ ]
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنّ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ وَرَأَوْا أَنّ هَذِهِ الْآثَارَ يُقَوّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَقَدْ تَعَدّدَتْ مَخَارِجُهَا وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُهَا وَمُرْسِلُهَا يُعْضَدُ بِمَسْنَدِهَا . وَقَدْ سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ وَالِدِ مُنِيرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ يَصِحّ حَدِيثُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ هَؤُلَاءِ وَلِأَنّهُ يَتَوَلّدُ مِنْ نُورِ - 15 - الشّجَرِ وَالزّهْرِ وَيُكَالُ وَيَدّخِرُ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزّكَاةُ كَالْحُبُوبِ وَالثّمَارِ . قَالُوا : وَالْكُلْفَةُ فِي أَخْذِهِ دُونَ الْكُلْفَةِ فِي الزّرْعِ وَالثّمَارِ ثُمّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنّمَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَإِنْ أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُ لِأَنّ أَرْضَ الْخَرَاجِ قَدْ وَجَبَ عَلَى مَالِكِهَا الْخَرَاجُ لِأَجْلِ ثِمَارِهَا وَزَرْعِهَا فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا حَقّ آخَرَ لِأَجْلِهَا وَأَرْضُ الْعُشْرِ لَمْ يَجِبْ فِي ذِمّتِهِ حَقّ عَنْهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْحَقّ فِيمَا يَكُونُ مِنْهَا . وَسَوّى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَ الأَرَضينَ فِي ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ فِيمَا أُخِذَ مِنْ مُلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ عُشْرِيّةً كَانَتْ الْأَرْضُ أَوْ خَرَاجِيّةً . ثُمّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ لَهُ هَلْ لَهُ نِصَابٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَة َ رَحِمَهُ اللّهِ وَالثّانِي : أَنّ لَهُ نِصَابًا مُعَيّنًا ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ : هُوَ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ وَالْفَرَقُ سِتّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيّ . وَقَالَ أَحْمَدُ : نِصَابُهُ عَشَرَةُ أَفْرَاقٍ ثُمّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْفَرَقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : إنّهُ سِتّونَ رِطْلًا وَالثّانِي : إنّهُ سِتّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا . وَالثّالِثُ سِتّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ دُعَاؤُهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِجَابِي الزّكَاةِ ]
[ النّهْيُ عَنْ الْأَخْذِ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا جَاءَهُ الرّجُلُ بِالزّكَاةِ دَعَا لَهُ . فَتَارَةً يَقُولُ اللّهُمّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إبِلِه وَتَارَةً يَقُولُ اللّهُمّ صَلّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَخْذُ كَرَائِمِ [ ص 16 ] وَسَطَ الْمَالِ وَلِهَذَا نَهَى مُعَاذًا عَنْ ذَلِكَ .

فَصْلٌ [ التّصَرّفُ فِي الصّدَقَةِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَى الْمُتَصَدّقَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ وَكَانَ يُبِيحُ لِلْغَنِيّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الصّدَقَةِ إذَا أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْفَقِيرُ وَأَكَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ لَحْمٍ تَصَدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَقَالَ هوَعَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدْيُهُ " . وَكَانَ أَحْيَانًا يَسْتَدِينُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصّدَقَةِ كَمَا جَهّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو [ ص 17 ] وَكَانَ يَسِمُ إبِلَ الصّدَقَةِ بِيَدِهِ وَكَانَ يَسِمُهَا فِي آذَانِهَا وَكَانَ إذَا عَرّاهُ أَمْرٌ اسْتَسْلَفَ الصّدَقَةَ مِنْ أَرْبَابِهَا كَمَا اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبّاسِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ . [ ص 18 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ
[ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمِقْدَارُهَا ]
فَرَضَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَعَلَى مَنْ يَمُونُهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حُرّ وَعَبْدٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ وَرُوِيَ عَنْهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرّ . وَالْمَعْرُوفُ أَنّ عُمَر بْنَ الْخَطّابِ جَعَلَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرّ مَكَانَ الصّاعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ أَنّ مُعَاوِيَةَ هُوَ الّذِي قَوّمَ ذَلِك وَفِيهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آثَارٌ مُرْسَلَةٌ وَمُسْنَدَةٌ يُقَوّي بَعْضُهَا بَعْضًا . [ ص 19 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي صعير عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَاعٌ مِنْ بُرّ أَوْ قَمْحٍ عَلَى كُلّ اثْنَيْن رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكّةَ أَلَا إنّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُدّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ سِوَاهُ صَاعًا مِنْ طَعَام قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ عَمْرَو بْنَ حَزْم ٍ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَثّقَهُ بَعْضُهُمْ وَتَكَلّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ : خَطَبَ ابْنُ عَبّاسٍ فِي آخِرِ رَمَضَانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ فَكَأَنّ النّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا . فَقَالَ مِنْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؟ قُومُوا إلَى إخْوَانِكُمْ فَعَلّمُوهُمْ فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَرَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ الصّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ عَلَى كُلّ حُرّ أَوْ مَمْلُوكٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَلَمّا قَدِمَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَأَى رُخَصَ السّعْرِ قَالَ قَدْ أَوْسَعَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَلَوْ جَعَلْتُمُوهُ صَاعًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ [ ص 20 ] أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَالنّسَائِيّ وَعِنْدَهُ فَقَالَ عَلِيّ : أَمّا إذْ أَوْسَعَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا اجْعَلُوهَا صَاعًا مِنْ بُرّ وَغَيْرِهِ وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يُقَوّي هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَقُولُ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْكَفّارَاتِ أَنّ الْوَاجِبَ فِيهَا مِنْ الْبُرّ نصف الواجب من غيره .

فَصْلٌ [ وَقْتَ إخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَذَا الْأُضْحِيّةُ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إخْرَاجُ هَذِهِ الصّدَقَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَدّاهَا قَبْلَ الصّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدّاهَا بَعْدَ الصّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصّدَقَاتِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ ابْنِ عُمَر َ قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدّى قَبْلَ خُرُوجِ النّاسِ إلَى الصّلَاةِ - 21ُ - وَمُقْتَضَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَأَنّهَا تَفُوتُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصّلَاةِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَإِنّهُ لَا مُعَارِضَ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلَا نَاسِخَ وَلَا إجْمَاعَ يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِهِمَا وَكَانَ شَيْخُنَا يُقَوّي ذَلِكَ وَيَنْصُرُهُ وَنَظِيرُهُ تَرْتِيبُ الْأُضْحِيّةِ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ لَا عَلَى وَقْتِهَا وَأَنّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَمْ تَكُنْ ذَبِيحَتُهُ أُضْحِيّةً بَلْ شَاةَ لَحْمٍ . وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الصّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى وَهَذَا هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
فَصْلٌ [ لَا تُعْطَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ إلّا لِلْمَسَاكِينِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَخْصِيصُ الْمَسَاكِينِ بِهَذِهِ الصّدَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ يَقْسِمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثّمَانِيَةِ قَبْضَةً قَبْضَةً وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا : إنّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إلّا عَلَى الْمَسَاكِينِ خاصة ، وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَدَقَةِ التّطَوّعِ
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْظَمَ النّاسِ صَدَقَةً بِمَا مَلَكَتْ يَدُهُ وَكَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أَعْطَاهُ لِلّهِ تَعَالَى وَلَا يَسْتَقِلّهُ وَكَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إلّا أَعْطَاهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَكَانَ عَطَاؤُهُ عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ وَكَانَ الْعَطَاءُ وَالصّدَقَةُ أَحَبّ شَيْءٍ إلَيْهِ وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِ الْآخِذِ بِمَا يَأْخُذُهُ وَكَانَ أَجْوَدَ النّاسِ بِالْخَيْرِ يَمِينُهُ كَالرّيحِ الْمُرْسَلَةِ . وَكَانَ إذَا عَرَضَ لَهُ مُحْتَاجٌ آثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ تَارَةً بِطَعَامِهِ وَتَارَةً بِلِبَاسِهِ . وَكَانَ يُنَوّعُ فِي أَصْنَافِ عَطَائِهِ وَصَدَقَتِهِ فَتَارَةً بِالْهِبَةِ وَتَارَةً بِالصّدَقَةِ وَتَارَةً بِالْهَدِيّةِ وَتَارَةً بِشِرَاءِ الشّيْءِ ثُمّ يُعْطِي الْبَائِعَ الثّمَنَ وَالسّلْعَةَ جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بِبَعِيرِ [ ص 22 ] جَابِرٍ .
وَتَارَةً كَانَ يَقْتَرِضُ الشّيْءَ فَيَرُدّ أَكْثَرَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ وَأَكْبَرَ وَيَشْتَرِي الشّيْءَ فَيُعْطِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَقْبَلُ الْهَدِيّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ بِأَضْعَافِهَا تَلَطّفًا وَتَنَوّعًا فِي ضُرُوبِ الصّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ بِكُلّ مُمْكِنٍ وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ وَإِحْسَانُهُ بِمَا يَمْلِكُهُ وَبِحَالِهِ وَبِقَوْلِهِ فَيُخْرِجُ مَا عِنْدَهُ وَيَأْمُرُ بِالصّدَقَةِ وَيَحُضّ عَلَيْهَا وَيَدْعُو إلَيْهَا بِحَالِهِ وَقَوْلُهُ فَإِذَا رَآهُ الْبَخِيلُ الشّحِيحُ دَعَاهُ حَالُهُ إلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ وَكَانَ مَنْ خَالَطَهُ وَصَحِبَهُ وَرَأَى هَدْيَهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ السّمَاحَةِ وَالنّدَى . وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو إلَى الْإِحْسَانِ وَالصّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشْرَحَ الْخَلْقِ صَدْرًا وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمَهُمْ قَلْبًا فَإِنّ لِلصّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي شَرْحِ الصّدْرِ وَانْضَافَ ذَلِكَ إلَى مَا خَصّهُ اللّهُ بِهِ مِنْ شَرْحِ صَدْرِهِ بِالنّبُوّةِ وَالرّسَالَةِ وَخَصَائِصِهَا وَتَوَابِعِهَا وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسّا وَإِخْرَاجِ حَظّ الشّيْطَانِ مِنْهُ

فَصْلٌ فِي أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَعْظَمُ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ التّوْحِيدُ وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } [ الزّمَرُ 22 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَاءِ } [ الْأَنْعَامُ 125 ] [ ص 23 ] فَالْهُدَى وَالتّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ وَالشّرْكُ وَالضّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ وَمِنْهَا : النّورُ الّذِي يَقْذِفُهُ اللّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ . فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ وَحَرَجَ وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إذَا دَخَلَ النّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ . قَالُوا : وَمَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا النّورِ وَكَذَلِكَ النّورُ الْحِسّيّ وَالظّلْمَةُ الْحِسّيّةُ هَذِهِ تَشْرَحُ الصّدْرَ وَهَذِهِ تُضَيّقُهُ . وَمِنْهَا : الْعِلْمُ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ حَتّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الدّنْيَا وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضّيقُ وَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ فَكُلّمَا اتّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتّسَعَ وَلَيْسَ هَذَا لِكُلّ عِلْمٍ بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الْعِلْمُ النّافِعُ فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا . وَمِنْهَا : الْإِنَابَةُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَحَبّتُهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتّنَعّمُ بِعِبَادَتِهِ فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ . حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا : إنْ [ ص 24 ] كُنْتُ فِي الْجَنّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنّي إذًا فِي عَيْشٍ طَيّبٍ وَلِلْمَحَبّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَطِيبِ النّفْسِ وَنَعِيمُ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ حِسّ بِهِ وَكُلّمَا كَانَتْ الْمَحَبّةُ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَ الصّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ وَلَا يَضِيقُ إلّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشّأْنِ فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمّى رُوحِهِ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَتَعَلّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبّةُ سِوَاهُ فَإِنّ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا غَيْرَ اللّهِ عُذّبَ بِهِ وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا فَهُمَا مَحَبّتَانِ مَحَبّةٌ هِيَ جَنّةُ الدّنْيَا وَسُرُورُ النّفْسِ وَلَذّةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُ الرّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرّةُ عَيْنِهَا وَهِيَ مَحَبّةُ اللّهِ وَحْدَهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَحَبّةُ كُلّهَا إلَيْهِ . وَمَحَبّةٌ هِيَ عَذَابُ الرّوحِ وَغَمّ النّفْسِ وَسِجْنُ الْقَلْبِ وَضِيقُ الصّدْرِ وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنّكَدِ وَالْعَنَاءِ وَهِيَ مَحَبّةُ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ . وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَفِي كُلّ مَوْطِنٍ فَلِلذّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ . وَمِنْهَا : الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ فَإِنّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا وَالْبَخِيلُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا وَأَعْظَمُهُمْ همّا وَغَمّا . وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّحِيحِ مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ كُلّمَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةِ اتّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتّى يَجُرّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ وَكُلّمَا هَمّ الْبَخِيلُ بِالصّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتّسِعْ عَلَيْهِ فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدّقِ وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ [ ص 25 ] وَمِنْهَا الشّجَاعَةُ فَإِنّ الشّجَاعَ مُنْشَرِحُ الصّدْرِ وَاسِعُ الْبِطَان مُتّسِعُ الْقَلْبِ وَالْجَبَانُ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَحْصَرُهُمْ قَلْبًا لَا فَرْحَةٌ لَهُ وَلَا سُرُورٌ وَلَا لَذّةٌ لَهُ وَلَا نَعِيمٌ إلّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيّ وَأَمّا سُرُورُ الرّوحِ وَلَذّتُهَا وَنَعِيمُهَا وَابْتِهَاجُهَا فَمُحَرّمٌ عَلَى كُلّ جَبَانٍ كَمَا هُوَ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ بَخِيلٍ وَعَلَى كُلّ مُعْرِضٍ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ غَافِلٍ عَنْ ذِكْرِهِ جَاهِلٍ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ مُتَعَلّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ .
وَإِنّ هَذَا النّعِيمَ وَالسّرُورَ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِيَاضًا وَجَنّةً وَذَلِكَ الضّيقُ وَالْحَصْرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذَابًا وَسِجْنًا . فَحَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ فَإِنّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا وَإِنّمَا الْمُعَوّلُ عَلَى الصّفَةِ الّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ فَهِيَ الْمِيزَانُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَمِنْهَا بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا : إخْرَاجُ دَغَلِ القْلبِ مِنْ الصّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الّتِي [ ص 26 ] يَكُونَ لَهُ مَادّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لِلْمَادّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا . وَمِنْهَا : تَرْكُ فُضُولِ النّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنّوُمِ فَإِنّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيّقُهُ وَيَتَعَذّبُ بِهَا بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا فَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمِ وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ وَمَا أَسْوَأَ حَالِهِ وَمَا أَشَدّ حَصْرِ قَلْبِهِ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشِ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمِ وَكَانَتْ هِمّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا حَائِمَةً حَوْلَهَا فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [ الِانْفِطَارُ 13 ] وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الِانْفِطَارُ 14 ] وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلّا اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصّدْرِ وَاتّسَاعُ الْقَلْبِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَحَيَاةُ الرّوحِ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشّرْحِ وَالْحَيَاةِ وَقُرّةِ الْعَيْنِ مَعَ مَا خُصّ بِهِ مِنْ الشّرْحِ الْحِسّيّ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ أَكْمَلُهُمْ انْشِرَاحًا وَلَذّةً وَقُرّةَ عَيْنٍ وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ وَلَذّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ فَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصّدْرِ وَرَفْعِ الذّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ اتّبَاعِهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللّهِ لَهُمْ وَعِصْمَتِهِ إيّاهُمْ وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ وَنَصْرِهِ لَهُمْ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّيَامِ
[ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ وَفَوَائِدِهِ ]
[ ص 27 ] كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ وَفِطَامَهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ الْمَسَاكِينِ . وَتُضَيّقُ مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ الْمُتّقِينَ وَجُنّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرّبِينَ وَهُوَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ فَإِنّ الصّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النّفْسِ وَتَلَذّذَاتِهَا إيثَارًا لِمَحَبّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَهُوَ سِرّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبّهِ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَالْعِبَادُ قَدْ يَطّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ وَأَمّا كَوْنُهُ تَرْكَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ . [ ص 28 ] أَيْدِي الشّهَوَاتِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّوْمُ جُنّةٌ . وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَصَالِحَ الصّوْمِ لَمّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنّةً . وَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلْمَقْصُودِ وَأَسْهَلَهُ عَلَى النّفُوسِ . [ ص 29 ] كَانَ فَطْمُ النّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا تَأَخّرَ فَرْضُهُ إلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمّا تَوَطّنَتْ النّفُوسُ عَلَى التّوْحِيدِ وَالصّلَاةِ وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ فَنُقِلَتْ إلَيْهِ بِالتّدْرِيجِ

[ زَمَنُ فَرْضِيّةِ الصّيَامِ ]
وَكَانَ فَرْضُهُ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ وَفُرِضَ أَوّلًا عَلَى وَجْهِ التّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلّ يَوْمٍ مِسْكِينًا ثُمّ نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ التّخْيِيرِ إلَى تَحَتّمِ الصّوْمِ وَجَعَلَ الْإِطْعَامَ لِلشّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ إذَا لَمْ يُطِيقَا الصّيَامَ فَإِنّهُمَا يُفْطِرَانِ وَيُطْعِمَانِ عَنْ كُلّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَرَخّصَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَا وَيَقْضِيَا وَلِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا كَذَلِكَ فَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا زَادَتَا مَعَ الْقَضَاءِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ لِكُلّ يَوْمٍ فَإِنّ فِطْرَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِخَوْفِ مَرَضٍ وَإِنّمَا كَانَ مَعَ الصّحّةِ فَجُبِرَ بِإِطْعَامِ - 30ُ - الْمِسْكِينِ كَفِطْرِ الصّحِيحِ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ . وَكَانَ لِلصّوْمِ رُتَبٌ ثَلَاثٌ إحْدَاهَا : إيجَابُهُ بِوَصْفِ التّخْيِيرِ . وَالثّانِيَةُ تَحَتّمُهُ لَكِنْ كَانَ الصّائِمُ إذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطّعَامُ وَالشّرَابُ إلَى اللّيْلَةِ الْقَابِلَةِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالرّتْبَةِ الثّالِثَةِ وَهِيَ الّتِي اسْتَقَرّ عَلَيْهَا الشّرْعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

فَصْلٌ [ إكْثَارُ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فَكَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ إذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرّيحِ الْمُرْسَلَةِ وَكَانَ أَجْوَدَ النّاسِ وَأَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ يُكْثِرُ فِيهِ مِنْ الصّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالصّلَاةِ وَالذّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ [ ص 31 ]

[ الْوِصَالُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يُطْعِمُنِي رَبّي وَيَسْقِينِي ]
وَكَانَ يَخُصّ رَمَضَانَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا لَا يَخُصّ غَيْرَهُ بِهِ مِنْ الشّهُورِ حَتّى إنّهُ كَانَ لَيُوَاصِلَ فِيهِ أَحْيَانًا لِيُوَفّرَ سَاعَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْوِصَالِ فَيَقُولُونَ لَهُ إنّك تُوَاصِلُ فَيَقُولُ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنّي أَبِيت - وَفِي رِوَايَةٍ إنّي أَظَلّ - عِنْدَ رَبّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَا الطّعَامِ وَالشّرَابِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسّيّ لِلْفَمِ قَالُوا : وَهَذِهِ حَقِيقَةُ اللّفْظِ وَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنْهَا . الثّانِي : أَنّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُغَذّيهِ اللّهُ بِهِ مِنْ مَعَارِفِهِ وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ لَذّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ وَتَنَعّمِهِ بِحُبّهِ وَالشّوْقِ إلَيْهِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَبَهْجَةُ النّفُوسِ وَالرّوحِ وَالْقَلْبِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ غِذَاءً وَأَجْوَدُهُ وَأَنْفَعُهُ وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الْغِذَاءُ حَتّى يُغْنِيَ عَنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ مُدّةً مِنْ الزّمَانِ كَمَا قِيلَ لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا عَنْ الشّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ وَمِنْ حَدِيثِك فِي أَعْقَابِهَا حَادِي
إذَا شَكَتْ مِنْ كَلالِ السّيْرِ أَوْعَدَهَا رُوْحُ الْقُدُومِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادٍ
وَمَنْ لَهُ أَدْنَى تَجْرِبَةٍ وَشَوْقٍ يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ الْجِسْمِ بِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغِذَاءِ الْحَيَوَانِيّ وَلَا سِيّمَا الْمَسْرُورُ الْفَرْحَانُ الظّافِرُ بِمَطْلُوبِهِ الّذِي قَدْ [ ص 32 ] قَرّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ وَتَنَعّمَ بِقُرْبِهِ وَالرّضَى عَنْهُ وَأَلْطَافِ مَحْبُوبِهِ وَهَدَايَاهُ وَتُحَفِهِ تَصِلُ إلَيْهِ كُلّ وَقْتٍ وَمَحْبُوبُهُ حَفِيّ بِهِ مُعْتَنٍ بِأَمْرِهِ مُكْرِمٌ لَهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ مَعَ الْمَحَبّةِ التّامّةِ لَهُ أَفَلَيْسَ فِي هَذَا أَعْظَمُ غِذَاءً لِهَذَا الْمُحِبّ ؟ فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الّذِي لَا شَيْءَ أَجَلّ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ وَلَا أَجْمَلُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ إحْسَانًا إذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْمُحِبّ بِحُبّهِ وَمَلَكَ حُبّهُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ وَتَمَكّنَ حُبّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ تَمَكّنٍ وَهَذَا حَالُهُ مَعَ حَبِيبِهِ أَفَلَيْسَ هَذَا الْمُحِبّ عِنْدَ حَبِيبِهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا ؟ وَلِهَذَا قَالَ إنّي أَظَلّ عِنْدَ رَبّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَعَامًا وَشَرَابًا لِلْفَمِ لَمَا كَانَ صَائِمًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُوَاصِلًا وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي اللّيْلِ لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا وَلَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إذْ قَالُوا لَهُ إنّك تُوَاصِلُ " لَسْتُ أُوَاصِلُ " . وَلَمْ يَقُلْ " لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ " بَلْ أَقَرّهُمْ عَلَى نِسْبَةِ الْوِصَالِ إلَيْهِ وَقَطَعَ الْإِلْحَاقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا بَيّنَهُ مِنْ الْفَارِقِ كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ فَوَاصَلَ النّاسُ فَنَهَاهُمْ فَقِيلَ لَهُ أَنْتَ تُوَاصِلُ . فَقَالَ إنّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إنّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى . وَسِيَاقُ الْبُخَارِيّ لِهَذَا الْحَدِيثِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْوِصَالِ فَقَالُوا : إنّك تُوَاصِلُ . قَالَ إنّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إنّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْوِصَالِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنّك يَا رَسُولَ اللّهِ تُوَاصِلُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَيّكُمْ مِثْلِي إنّي أَبِيتُ يُطْعِمنُي رَبّي وَيَسْقِينِي . وَأَيْضًا : فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا نَهَاهُمْ عَنْ الْوِصَالِ فَأَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمّ يَوْمًا ثُمّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ لَوْ تَأَخّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ . كَالْمُنَكّلِ لَهُمْ [ ص 33 ] أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لَوْ مُدّ لَنَا الشّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمّقُونَ تَعَمّقَهُمْ إنّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ أَوْ قَالَ إنّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي فَإِنّي أَظَلّ يُطْعِمُنِي رَبّي وَيَسْقِينِي فَأَخْبَرَ أَنّهُ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مَعَ كَوْنِهِ مُوَاصِلًا وَقَدْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مُنَكّلًا بِهِمْ مُعَجّزًا لَهُمْ فَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ تَنْكِيلًا وَلَا تَعْجِيزًا بَلْ وَلَا وِصَالًا وَهَذَا بِحَمْدِ اللّهِ وَاضِحٌ . وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لِلْأُمّةِ وَأَذِنَ فِيهِ إلَى السّحَرِ وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا تُوَاصِلُوا فَأَيّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السّحَرِ
[ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمِ الْوِصَالِ وَتَرْجِيحِ الْمُصَنّفِ بِجَوَازِهِ مِنْ السّحَرِ إلَى السّحَرِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَلْ الْوِصَالُ جَائِزٌ أَوْ مُحَرّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ قِيلَ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ جَائِزٌ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ السّلَفِ وَكَانَ ابْنُ الزّبَيْرِ يُوَاصِلُ الْأَيّامَ وَمِنْ حُجّةِ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاصَلَ بِالصّحَابَةِ مَعَ نَهْيِهِ لَهُمْ عَنْ الْوِصَالِ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ وَقَالَ إنّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ فَلَمّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمّ يَوْمًا فَهَذَا وِصَالُهُ بِهِمْ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ الْوِصَالِ وَلَوْ كَانَ النّهْيُ لِلتّحْرِيمِ لَمَا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَلَمَا أَقَرّهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالُوا : فَلَمّا فَعَلُوهُ بَعْدَ نَهْيِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُقِرّهُمْ عُلِمَ أَنّهُ أَرَادَ الرّحْمَةَ بِهِمْ وَالتّخْفِيفَ عَنْهُمْ [ ص 34 ] قَالَتْ عَائِشَةُ : نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : لَا يَجُوزُ الْوِصَالُ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ وَالثّوْرِيّ رَحِمَهُمْ اللّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُمْ إنّهُمْ لَمْ يُجِيزُوهُ لِأَحَدِ قُلْت : الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ نَصّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَاحْتَجّ الْمُحَرّمُونَ بِنَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : وَالنّهْيُ يَقْتَضِي التّحْرِيمَ . قَالُوا : وَقَوْلُ عَائِشَةَ : " رَحْمَةً لَهُمْ " لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلتّحْرِيمِ بَلْ يُؤَكّدُهُ فَإِنّ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَرّمَهُ عَلَيْهِمْ بَلْ سَائِرُ مَنَاهِيهِ لِلْأُمّةِ رَحْمَةٌ وَحِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ . قَالُوا : وَأَمّا مُوَاصَلَتُهُ بِهِمْ بَعْدَ نَهْيِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَقْرِيرًا لَهُمْ كَيْفَ وَقَدْ نَهَاهُمْ وَلَكِنْ تَقْرِيعًا وَتَنْكِيلًا فَاحْتَمَلَ مِنْهُمْ الْوِصَالَ بَعْدَ نَهْيِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ النّهْيِ فِي تَأْكِيدِ زَجْرِهِمْ وَبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي نَهْيِهِمْ عَنْهُ بِظُهُورِ الْمَفْسَدَةِ الّتِي نَهَاهُمْ لِأَجْلِهَا فَإِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ مَفْسَدَةُ الْوِصَالِ وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ النّهْيِ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لَهُ فَإِنّهُمْ إذَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا فِي الْوِصَالِ وَأَحَسّوا مِنْهُ الْمَلَلَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ أَهَمّ وَأَرْجَحُ مِنْ وَظَائِفِ الدّينِ مِنْ الْقُوّةِ فِي أَمْرِ اللّهِ وَالْخُشُوعِ فِي فَرَائِضِهِ وَالْإِتْيَانِ بِحُقُوقِهَا الظّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْجُوعُ الشّدِيدُ يُنَافِي ذَلِكَ وَيَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ تَبَيّنَ لَهُمْ حِكْمَةُ النّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ وَالْمَفْسَدَةِ الّتِي فِيهِ لَهُمْ دُونَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : وَلَيْسَ إقْرَارُهُ لَهُمْ عَلَى الْوِصَالِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ إقْرَارِ الْأَعْرَابِيّ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَصْلَحَةِ التّأْلِيفِ وَلِئَلّا يُنَفّرَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا بِأَعْظَمِ مِنْ إقْرَارِهِ [ ص 35 ] أَخْبَرَهُمْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةِ وَأَنّ فَاعِلَهَا غَيْرُ مُصَلّ بَلْ هِيَ صَلَاةٌ بَاطِلَةٌ فِي دِينِهِ فَأَقَرّهُ عَلَيْهَا لِمَصْلَحَةِ تَعْلِيمِهِ وَقَبُولِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنّهُ أَبْلَغُ فِي التّعْلِيمِ وَالتّعَلّمِ قَالُوا : وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . قَالُوا : وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْوِصَالَ مِنْ خَصَائِصِهِ . فَقَالَ إنّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِهِ . قَالُوا : وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَقْبَلَ اللّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصّائِمُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى . قَالُوا : فَجَعَلَهُ مُفْطِرًا حُكْمًا بِدُخُولِ وَقْتِ الْفِطْرِ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ وَذَلِكَ يُحِيلُ الْوِصَالَ شَرْعًا . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَزَالُ أُمّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ أَوْ لَا تَزَالُ أُمّتِي بِخَيْرِ مَا عَجّلُوا الْفِطْرَ
[ ص 36 ] أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ لَا يَزَالُ الدّينُ ظَاهِرًا مَا عَجّلَ النّاسُ الْفِطْرَ إنّ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى يُؤَخّرُونَ
وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ قَالَ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَحَبّ عِبَادِي إلَيّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا وَهَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ فَكَيْفَ تَرْكُهُ وَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً فَإِنّ أَقَلّ دَرَجَاتِ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبّةً . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنّ الْوِصَالَ يَجُوزُ مِنْ سَحَرٍ إلَى سَحَرٍ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُوَاصِلُوا فَأَيّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السّحَرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَهُوَ أَعْدَلُ الْوِصَالِ وَأَسْهَلُهُ عَلَى الصّائِمِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ عَشَائِهِ إلّا أَنّهُ تَأَخّرَ فَالصّائِمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ أَكْلَةٌ فَإِذَا أَكَلَهَا فِي السّحَرِ كَانَ قَدْ نَقَلَهَا مِنْ أَوّلِ اللّيْلِ إلَى آخِرِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ [ ثُبُوتُ رَمَضَانَ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلّا بِرُؤْيَةِ مُحَقّقَةٍ أَوْ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ كَمَا صَامَ بِشَهَادَةِ ابْنِ عُمَرَ وَصَامَ مَرّةً بِشَهَادَةِ [ ص 37 ] فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا فَقَدْ اكْتَفَى فِي رَمَضَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ شَهَادَةٌ فَلَمْ يُكَلّفْ الشّاهِدَ لَفْظَ الشّهَادَةِ . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةٌ وَلَا شَهَادَةٌ أَكْمَلَ عِدّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .

[ حكم صوم يوم الغيم ]
وَكَانَ إذَا حَالَ لَيْلَةَ الثّلَاثِينَ دُونَ مَنْظَرِهِ غَيْمٌ أَوْ سَحَابٌ أَكْمَلَ عِدّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمّ صَامَهُ . وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْإِغْمَامِ وَلَا أَمَرَ بِهِ بَلْ أَمَرَ بِأَنْ تُكَمّلَ عِدّةُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ إذَا غُمّ وَكَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فَهَذَا فِعْلُهُ وَهَذَا أَمْرُهُ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ فإنُ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ فَإِنّ الْقَدْرَ هُوَ الْحِسَابُ الْمُقَدّرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِكْمَالُ كَمَا قَالَ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ وَالْمُرَادُ بِالْإِكْمَالِ إكْمَالُ عِدّةِ الشّهْرِ الّذِي غُمّ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ الّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فَأَكْمِلُوا عِدّةَ شَعْبَانَ . وَقَالَ لَا تَصُومُوا حَتّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَةَ . وَاَلّذِي أَمَرَ بِإِكْمَالِ عِدّتِهِ هُوَ الشّهْرُ الّذِي يُغَمّ وَهُوَ [ ص 38 ] وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ الشّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ . وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَوّلِ الشّهْرِ بِلَفْظِهِ وَإِلَى آخِرِهِ بِمَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ مَا دَلّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَاعْتِبَارُ مَا دَلّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَقَالَ الشّهّرُ ثَلَاثُونَ وَالشّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَعُدّوا ثَلَاثِينَ . وَقَالَ لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ وَقَالَ لَا تُرُوهَاُ الشّهْرَ حَتّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدّةَ ثُمّ صُومُوا حَتّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدّةَ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَحَفّظُ مِنْ هِلَالِ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمّ يَصُومُ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمّ عَلَيْهِ عَدّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمّ صَامَ صَحّحَهُ الدّارَقُطْنِيّ وَابْنُ حِبّانَ . [ ص 39 ] وَقَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ . وَقَالَ لَا تَصُومُوا حَتّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتّى تَرَوْهُ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ . وَقَالَ لَا تَقَدّمُوا رَمَضَانَ وَفِي لَفْظٍ لَا تَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ إلّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ . وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّ يَوْمَ الْإِغْمَامِ دَاخِلٌ فِي هَذَا النّهْيِ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبّانَ فِي " صَحِيحِهِ " . فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ صَوْمَ يَوْمِ الْإِغْمَامِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا إكْمَالِ ثَلَاثِينَ صَوْمًا قَبْلَ رَمَضَانَ . وَقَالَ لَا تَقَدّمُوا الشّهْرَ إلّا أَنْ تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدّةَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدّةَ [ ص 40 ] وَقَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشّهْرَ اسْتِقْبَالًا قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي النّسَائِيّ : مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَعُدّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمّ صُومُوا وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا فَإِنّ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ عِدّةَ شَعْبَانَ وَقَالَ سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : تَمَارَى النّاسُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالٍ رَمَضَانَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْيَوْمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَدًا . فَجَاءَ أَعْرَابِيّ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَ أَنّهُ رَآهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ . فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النّاسِ صُومُوا " . ثُمّ قَالَ " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَعُدّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمّ صُومُوا وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَكُلّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ فَبَعْضُهَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَبَعْضُهَا فِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ أُعِلّ بَعْضُهَا بِمَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْمُوعِهَا وَتَفْسِيرِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ وَاعْتِبَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ وَكُلّهَا يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْمُرَادُ مِنْهَا مُتّفَقٌ عَلَيْهِ .
[ سَرْدُ الْمُصَنّفِ لِرِوَايَاتِ مَنْ صَامَ يَوْمَ الْغَيْمِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ هَذَا هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ خَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ العَاصِ وَالْحَكَمُ بْنُ أَيّوبَ الْغِفَارِيّ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ ابْنَتَا أَبِي بَكْرٍ - 41 - وَخَالَفَهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُوسٌ وَأَبُو عُثْمَانَ النّهْدِيّ وَمُطَرّفُ بْنُ الشّخّيرِ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ وَكَيْفَ خَالَفَهُ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسّنّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَنَحْنُ نُوجَدكُمْ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ مُسْنَدَةً ؟ فَأَمّا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ : أَخْبَرَنَا ثَوْبَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ كَانَ يَصُومُ إذَا كَانَتْ السّمَاءُ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ مُغَيّمَة وَيَقُولُ لَيْسَ هَذَا بِالتّقَدّمِ وَلَكِنّهُ التّحَرّي وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ الشّافِعِيّ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُمّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ حُسَيْنٍ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ . وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَفِي كِتَابِ عَبْدِ الرّزّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ إذَا كَانَ سَحَابٌ أَصْبَحَ صَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ . زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتْرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتْرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا [ ص 42 ] أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إسْحَاقَ قَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالَ إمّا الظّهْرُ وَإِمّا قَرِيبًا مِنْهُ فَأَفْطَرَ نَاسٌ مِنْ النّاسِ فَأَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَأَخْبَرْنَاهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَبِإِفْطَارِ مَنْ أَفْطَرَ فَقَالَ هَذَا الْيَوْمُ يَكْمُلُ لِي أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَذَلِكَ لِأَنّ الْحَكَمَ بْنَ أَيّوبَ أَرْسَلَ إلَيّ قَبْلَ صِيَامِ النّاسِ إنّي صَائِمٌ غَدًا فَكَرِهْت الْخِلَافَ عَلَيْهِ فَصُمْتُ وَأَنَا مُتِمٌ يَوْمِي هَذَا إلَى اللّيْلِ وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ أَحْمَدُ حَدّثْنَا الْمُغِيرَةُ حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدّثَنِي مَكْحُولٌ وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حلبس أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ . وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ . فَقَالَ أَحْمَدُ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنّهُ كَانَ يَصُومُ الْيَوْمَ الّذِي يُشَكّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لَأَنْ أَتَعَجّلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَخّرَ لِأَنّي إذَا تَعَجّلْتُ لَمْ يَفُتْنِي وَإِذَا تَأَخّرْت فَاتَنِي وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ عَنْ الرّسُولِ الّذِي أَتَى عَائِشَةَ فِي الْيَوْمِ الّذِي يُشَكّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ - 43 - وَأَمّا الرّوَايَةُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ سَعِيدُ أَيْضًا : حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ قَالَتْ مَا غُمّ هِلَالُ رَمَضَانَ إلّا كَانْت أَسْمَاءُ مُتَقَدّمَةً بِيَوْمِ وَتَأْمُرُ بِتَقَدّمِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبّادٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنّهَا كَانَتْ تَصُومُ الْيَوْمَ الّذِي يُشَكّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ . وَكُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فَمِنْ مَسَائِلِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : إذَا كَانَ فِي السّمَاءِ سَحَابَةٌ أَوْ عِلّةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السّمَاءِ عِلّةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللّهِ وَالْمَرْوَزِيّ وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُمْ .

[الْجَوَابُ عَلَى مَنْ صَامَ يَوْمَ الْغَيْمِ ]
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ عَنْ الصّحَابَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ صَوْمِهِ حَتّى يَكُونَ فِعْلُهُمْ مُخَالِفًا لِهَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا غَايَةُ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ صَوْمُهُ احْتِيَاطًا وَقَدْ صَرّحَ أَنَسٌ بِأَنّهُ إنّمَا صَامَهُ كَرَاهَةً لِلْخِلَافِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ النّاسُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي صَوْمِهِ وَإِفْطَارِهِ وَالنّصُوصُ الّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ إنّمَا تَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا يَجِبُ صَوْمُ يَوْمِ الْإِغْمَامِ وَلَا تَدُلّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَمَنْ أَفْطَرَهُ أَخَذَ بِالْجِوَازِ وَمَنْ صَامَهُ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ . الثّانِي : أَنّ الصّحَابَةَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَصُومُهُ كَمَا حَكَيْتُمْ وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَصُومُهُ وَأَصَحّ وَأَصْرَحُ مَنْ رَوَى عَنْهُ صَوْمَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَإِلَى قَوْلِهِ ذَهَبَ طَاوُوسٌ الْيَمَانِيّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ غَيْرَهُمْ قَالَ وَمِمّنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةَ صَوْمِ يَوْمِ الشّكّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ [ ص 44 ] وَابْنُ عَبّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . قُلْت : الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيّ وَعُمَرَ وَعَمّارٍ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَنْعُ مِنْ صِيَامِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوّعًا وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيهِ عَمّارٌ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الّذِي يُشَكّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ لِجَوَازِ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ احْتِيَاطًا وَالنّهْيُ عَنْهُ تَطَوّعًا ]
فَأَمّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ احْتِيَاطًا عَلَى أَنّهُ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضُهُ وَإِلّا فَهُوَ تَطَوّعٌ . فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصّحَابَةِ يَقْتَضِي جِوَازَهُ وَهُوَ الّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ عُمَر وَعَائِشَةُ . هَذَا مَعَ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا غُمّ هِلَالُ شَعْبَانَ عَدّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمّ صَامَ . وَقَدْ رُدّ حَدِيثُهَا هَذَا بِأَنّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا خَالَفَتْهُ وَجُعِلَ صِيَامُهَا عِلّةً فِي الْحَدِيثِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنّهَا لَمْ تُوجِبْ صِيَامَهُ وَإِنّمَا صَامَتْهُ احْتِيَاطًا وَفَهِمَتْ مِنْ فِعْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمْرِهِ أَنّ الصّيَامَ لَا يَجِبُ حَتّى تَكْمُلَ الْعِدّةُ وَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ وَلَا ابْنُ عُمَرَ أَنّهُ لَا يَجُوزُ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ وَيَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي رَوّاد عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ ثَلَاثِينَ وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ فَاقْدُرُوا لَهُ فَدَلّ عَلَى أَنّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ الْحَدِيثِ وُجُوبَ إكْمَالِ الثّلَاثِينَ بَلْ جَوَازَهُ فَإِنّهُ إذَا صَامَ يَوْمَ الثّلَاثِينَ فَقَدْ أَخَذَ بِأَحَدِ الْجَائِزِينَ احْتِيَاطًا وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَوْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُقْدُرُوا لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمّ صُومُوا كَمَا يَقُولُهُ الْمُوجِبُونَ [ ص 45 ] لِصَوْمِهِ لَكَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى صَوْمِهِ فِي خَاصّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ وَلَبَيّنَ أَنّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى النّاسِ . وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَصُومُهُ وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَصُومُوا حَتّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ ثَلَاثِينَ وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي " مُوَطّئِهِ " هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ كَأَنّهُ جَعَلَهُ مُفَسّرًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ فَاقْدُرُوا لَه وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ عَجِبْتُ مِمّنْ يَتَقَدّمُ الشّهْرَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَقَدّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمِ وَلَا يَوْمَيْنِ كَأَنّهُ يُنْكِرُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
[بَعْضُ الْمَسَائِلِ الّتِي تَرَخّصَ بِهَا ابْنُ عَبّاسٍ وَتَشَدّدَ بِهَا ابْنُ عُمَرَ ]
وَكَذَلِكَ كَانَ هَذَانِ الصّاحِبَانِ الْإِمَامَانِ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ إلَى التّشْدِيدِ وَالْآخَرُ إلَى التّرْخِيصِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : كَانَ يَأْخُذُ مِنْ التّشْدِيدَاتِ بِأَشْيَاءَ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا الصّحَابَةُ فَكَانَ يَغْسِلُ دَاخِلَ عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ حَتّى عَمِيَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ أَفْرَدَ أُذُنَيْهِ بِمَاءِ جَدِيدٍ وَكَانَ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَمّامِ وَكَانَ إذَا دَخَلَهُ اغْتَسَلَ مِنْهُ وَابْنُ عَبّاسٍ : كَانَ يَدْخُلُ الْحَمّامَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَيَمّمُ بِضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عَلَى الْكَفّيْن وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُخَالِفُهُ وَيَقُولُ التّيَمّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَوَضّأُ مِنْ قُبْلَةِ امْرَأَتِهِ وَيُفْتِي بِذَلِكَ وَكَانَ إذَا قَبّلَ أَوْلَادَهُ تَمَضْمَضَ ثُمّ صَلّى وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ مَا أُبَالِي قَبّلْتُهَا أَوْ شَمَمْتُ رَيْحَانًا وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ ذَكَرَ أَنّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَنْ يُتِمّهَا ثُمّ يُصَلّي الصّلَاةَ الّتِي ذَكَرَهَا ثُمّ يُعِيدُ الصّلَاةَ الّتِي كَانَ فِيهَا وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي " مُسْنَدِهِ " وَالصّوَابُ أَنّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحّ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحّ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْلُكُ طَرِيقَ التّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ . [ ص 46 ] كَانَ إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السّهْوِ . قَالَ الزّهْرِيّ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَعَلَهُ غَيْرَهُ . قُلْت : وَكَأَنّ هَذَا السّجُودَ لَمّا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْجُلُوسِ عَقِيبَ الرّكْعَةِ وَإِنّمَا مَحَلّهُ عَقِيبَ الشّفْعِ .
[الدّلِيلُ عَلَى أَنّ الصّحَابَةَ لَمْ يَصُومُوا الْغَيْمَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ]
وَيَدُلّ عَلَى أَنّ الصّحَابَةَ لَمْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَنّهُمْ قَالُوا : لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ حَتْمًا عِنْدَهُمْ لَقَالُوا : هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا فِطْرُهُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَيَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ إنّمَا صَامُوهُ اسْتِحْبَابًا وَتَحَرّيًا مَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ فِطْرِهِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ قَالَ حَنْبَلٌ فِي " مَسَائِلِهِ " : حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ الْحَضْرَمِيّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَوْ صُمْتُ السّنَةَ كُلّهَا لَأَفْطَرْتُ الْيَوْمَ الّذِي يُشَكّ فِيهِ قَالَ حَنْبَلٌ وَحَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَكِيمٍ قَالَ سَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ . قَالُوا : نَسْبِقُ قَبْلَ رَمَضَانَ حَتّى لَا يَفُوتَنَا مِنْهُ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ أُفّ أُفّ صُومُوا مَعَ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَر أَنّهُ قَالَ لَا يَتَقَدّمَنّ الشّهْرَ مِنْكُمْ أَحَد وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ صُومُوا لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَعُدّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ قَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَإِنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَعُدّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا [ ص 47 ] أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا النّصُوصَ الْمَرْفُوعَةَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنْ قُدّرَ أَنّهَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا فَهَاهُنَا طَرِيقَتَانِ مِنْ الْجَمْعِ إحْدَاهُمَا : حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْإِغْمَامِ أَوْ عَلَى الْإِغْمَامِ فِي آخِرِ الشّهْرِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُوجِبُونَ لِلصّوْمِ . وَالثّانِيَةُ حَمْلُ آثَارِ الصّوْمِ عَنْهُمْ عَلَى التّحَرّي وَالِاحْتِيَاطِ اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا وَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الطّرِيقَةُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ النّصُوصِ وَقَوَاعِدِ الشّرْعِ وَفِيهَا السّلَامَةُ مِنْ التّفْرِيقِ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الشّكّ فَيُجْعَلُ أَحَدُهُمَا يَوْمَ شَكّ وَالثّانِي يَوْمَ يَقِينٍ مَعَ حُصُولِ الشّكّ فِيهِ قَطْعًا وَتَكْلِيفُ الْعَبْدِ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ قَطْعًا مَعَ شَكّهِ هَلْ هُوَ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ثُبُوتُ شَوّالٍ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ النّاسَ بِالصّوْمِ بِشَهَادَةِ الرّجُلِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ إذَا شَهِدَ الشّاهِدَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْعِيدِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْفِطْرِ وَيُصَلّيَ الْعِيدَ مِنْ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا . [ ص 48 ] وَكَانَ يُعَجّلُ الْفِطْرَ وَيَحُضّ عَلَيْهِ وَيَتَسَحّرُ وَيَحُثّ عَلَى السّحُورِ وَيُؤَخّرُهُ وَيُرَغّبُ فِي تَأْخِيرِهِ . وَكَانَ يَحُضّ عَلَى الْفِطْرِ بِالتّمْرِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ هَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمّتِهِ وَنُصْحِهِمْ فَإِنّ إعْطَاءَ الطّبِيعَةِ الشّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إلَى قَبُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ وَلَا سِيّمَا الْقُوّةُ الْبَاصِرَةُ فَإِنّهَا تَقْوَى بِهِ وَحَلَاوَةُ الْمَدِينَةِ التّمْرُ وَمُرَبّاهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ قُوتٌ وَأُدْمٌ وَرُطَبُهُ فَاكِهَةٌ . وَأَمّا الْمَاءُ فَإِنّ الْكَبِدَ يَحْصُلُ لَهَا بِالصّوْمِ نَوْعُ يُبْسٍ . فَإِذَا رُطّبَتْ بِالْمَاءِ كَمُلَ انْتِفَاعُهَا بِالْغِذَاءِ بَعْدَهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَى بِالظّمْآنِ الْجَائِعِ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِشُرْبِ قَلِيلٍ مِنْ الْمَاءِ ثُمّ يَأْكُلَ بَعْدَهُ هَذَا مَعَ مَا فِي التّمْرِ وَالْمَاءِ مِنْ الْخَاصّيّةِ الّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلّا أَطِبّاءُ الْقُلُوبِ .

فَصْلٌ [مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلّيَ وَكَانَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبَاتٍ إنْ وَجَدَهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَعَلَى تَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ . [ ص 49 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ فِطْرِهِ اللّهُمّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْت فَتَقَبّلْ مِنّا إنّك أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَا يَثْبُتُ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَفْطَرَ ذَهَبَ الظّمَأُ وَابْتَلّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ الْمُقَفّعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
[إجَابَةُ دَعْوَةِ الصّائِمِ ]
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ لِلصّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً مَا تُرَدّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
[ تَحْدِيدُ وَقْتِ الْإِفْطَارِ ]
[ نَهْيُ الصّائِمِ عَنْ الرّفَثِ . . . ]
[ ص 50 ] قَالَ إذَا أَقْبَلَ اللّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النّهَارُ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصّائِمُ وَفُسّرَ بِأَنّهُ قَدْ أَفْطَرَ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ وَبِأَنّهُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ كَأَصْبَح وَأَمْسَى وَنَهَى الصّائِمَ عَنْ الرّفَثِ وَالصّخَبِ وَالسّبَابِ وَجَوَابِ السّبَابِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَابّهُ إنّي صَائِمٌ فَقِيلَ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ وَقِيلَ بِقَلْبِهِ تَذْكِيرًا لِنَفْسِهِ بِالصّوْمِ وَقِيلَ يَقُولُهُ فِي الْفَرْضِ بِلِسَانِهِ وَفِي التّطَوّعِ فِي نَفْسِهِ لِأَنّهُ أَبْعَدُ عَنْ الرّيَاءِ .

فَصْلٌ [الْفِطْرُ فِي السّفَرِ ]
وَسَافَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ وَأَفْطَرَ وَخَيّرَ الصّحَابَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
[الْفِطْرِ فِي الْقِتَالِ ]
وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْفِطْرِ إذَا دَنَوْا مِنْ عَدُوّهِمْ لِيَتَقَوّوْا عَلَى قِتَالِهِ . فَلَوْ اتّفَقَ مِثْلُ هَذَا فِي الْحَضَرِ وَكَانَ فِي الْفِطْرِ قُوّةً لَهُمْ عَلَى لِقَاءِ عَدُوّهِمْ فَهَلْ لَهُمْ الْفِطْرُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحّهُمَا دَلِيلًا : أَنّ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيّةَ وَبِهِ أَفْتَى الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيّةُ لَمّا لَقُوا الْعَدُوّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْفِطْرَ [ ص 51 ] أَوْلَى مِنْ الْفِطْرِ لِمُجَرّدِ السّفَرِ بَلْ إبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ تَنْبِيهٌ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنّهَا أَحَقّ بِجِوَازِهِ لِأَنّ الْقُوّةَ هُنَاكَ تَخْتَصّ بِالْمُسَافِرِ وَالْقُوّةُ هُنَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلِأَنّ مَشَقّةَ الْجِهَادِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقّةِ السّفَرِ وَلِأَنّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْفِطْرِ لِلْمُجَاهِدِ أَعْظَمُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ بِفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَلِأَنّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ { وَأَعِدّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ } [ الْأَنْفَالُ 60 ] . وَالْفِطْرُ عِنْدَ اللّقَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوّةِ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَسّرَ الْقُوّةَ بِالرّمْيِ . وَهُوَ لَا يَتِمّ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ إلّا بِمَا يُقَوّي وَيُعِينُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِطَرِ وَالْغِذَاءِ وَلِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلصّحَابَةِ لَمّا دَنَوْا مِنْ عَدُوّهِمْ إنّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ وَكَانَتْ رُخْصَةً ثُمّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ إنّكُمْ مُصَبّحُو عَدُوّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا فَكَانَتْ عَزْمَةً [ فَأَفْطَرْنَا ] فَعَلّلَ بِدُنُوّهِمْ مِنْ عَدُوّهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إلَى الْقُوّةِ الّتِي يَلْقَوْنَ بِهَا الْعَدُوّ وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ السّفَرِ وَالسّفَرُ مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي تَعْلِيلِهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ فَالتّعْلِيلُ بِهِ اعْتِبَارًا لِمَا أَلْغَاهُ الشّارِعُ فِي هَذَا الْفِطْرِ الْخَاصّ وَإِلْغَاءُ [ ص 52 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَتَنْبِيهُ الشّارِعِ وَحِكْمَتُهُ يَقْتَضِي أَنّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ أَوْلَى مِنْهُ لِمُجَرّدِ السّفَرِ فَكَيْفَ وَقَدْ أَشَارَ إلَى الْعِلّةِ وَنَبّهَ عَلَيْهَا وَصَرّحَ بِحُكْمِهَا وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُفْطِرُوا لِأَجْلِهَا . وَيَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ : إنّهُ يَوْمُ قِتَالٍ فَأَفْطِرُوا تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الرّبِيعِ عَنْ شُعْبَةَ . فَعَلّلَ بِالْقِتَالِ وَرَتّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْفِطْرِ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَكُلّ أَحَدٍ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا اللّفْظِ أَنّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْقِتَالِ . وَأَمّا إذَا تَجَرّدَ السّفَرُ عَنْ الْجِهَادِ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ فِي الْفِطْرِ هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ
فَصْلٌ [الْفِطْرُ فِي السّفَرِ ]
وَسَافَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَمَضَانَ فِي أَعْظَمِ الْغَزَوَاتِ وَأَجَلّهَا فِي غَزَاةِ بَدْر ٍ وَفِي غَزَاةِ الْفَتْحِ . قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَمَضَانَ غَزْوَتَيْنِ يَوْمَ بَدْر وَالْفَتْحِ فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا
[ مَا اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا فِي ذِي الْقِعْدَةِ ]
وَأَمّا مَا رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصُمْت وَقَصّرَ وَأَتْمَمْت فَغَلَطٌ إمّا عَلَيْهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ مِنْهَا وَأَصَابَهَا فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ - 53ُ - اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا وَهُوَ مَعَهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطّ وَكَذَلِكَ أَيْضًا عُمَرُهُ كُلّهَا فِي ذِي الْقَعَدَةِ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ قَطّ .

فَصْلٌ [حَدّ السّفَرِ لِرُخْصَةِ الْإِفْطَارِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ الّتِي يُفْطِرُ فِيهَا الصّائِمُ بِحَدّ وَلَا صَحّ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ . وَقَدْ أَفْطَرَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ فِي سَفَرِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَقَالَ لِمَنْ صَامَ قَدْ رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[الْفِطْرُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُجَاوَزَةُ الْبُيُوتِ ]
وَكَانَ الصّحَابَةُ حِينَ يُنْشِئُونَ السّفَرَ يُفْطِرُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ وَيُخْبِرُونَ أَنّ ذَلِكَ سُنّتَهُ وَهَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا قَال عُبَيْدُ بْنُ جَبْرٍ : رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيّ صَاحِبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتّى دَعَا بِالسّفْرَةِ . قَالَ اقْتَرِبْ . قُلْتُ أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ أَتَرْغَبُ عَنْ سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ .
وَلَفْظُ أَحْمَدَ رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ مِنْ الْفُسْطَاطِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيّة فِي سَفِينَةٍ فَلَمّا دَنَوْنَا مِنْ مَرْسَاهَا أَمَرَ بِسُفْرَتِهِ فَقَرُبَتْ ثُمّ دَعَانِي إلَى الْغِذَاءِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ . فَقُلْتُ يَا أَبَا بَصْرَةَ وَاَللّهِ مَا تَغَيّبَتْ عَنّا مَنَازِلُنَا بَعْدُ ؟ قَالَ أَتَرْغَبُ عَنْ سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَقُلْتُ لَا . قَالَ فَكُلْ . قَالَ فَلَمْ نَزَلْ مُفْطِرِينَ حَتّى بَلَغْنَا وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ كَعْبٍ أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا وَقَدْ رَحَلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَقَدْ لَبِسَ ثِيَابَ السّفَرِ فَدَعَا بِطَعَامِ فَأَكَلَ فَقُلْتُ لَهُ سُنّةٌ ؟ [ ص 54 ] قَالَ سُنّةٌ ثُمّ رَكِبَ . قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ فِيهِ فَأَكَلَ وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوبُ الشّمْسِ وَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي أَنّ مَنْ أَنْشَأَ السّفَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَهُ الْفِطْرُ فِيهِ .

فِصَلٌ [ لَا حَرَجَ فِي اغْتِسَالِ الْجُنُبِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَفِي تَقْبِيلِ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ فَيَغْتَسِلُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيَصُومُ . وَكَانَ يُقَبّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ [ ص 55 ] وَشَبَهُ قُبْلَةُ الصّائِمِ بِالْمَضْمَضَةِ بِالْمَاءِ . وَأَمّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مِصْدَع بْنِ يَحْيَى عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُقَبّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَيَمُصّ لِسَانَهَا فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَضَعّفَهُ طَائِفَةٌ بمِصْدَع هَذَا وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ السّعْدِيّ : زَائِغٌ جَائِرٌ عَنْ الطّرِيقِ وَحَسّنَهُ طَائِفَةٌ وَقَالُوا : هُوَ ثِقَةٌ صَدُوقٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمّدُ بْنُ دِينَارٍ الطّاحِيّ الْبَصْرِيّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا قَالَ يَحْيَى : ضَعِيفٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ غَيْرُهُ صَدُوقٌ وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ : قَوْلُهُ وَيَمُصّ لِسَانَهَا لَا يَقُولُهُ إلّا مُحَمّدُ بْنُ دِينَارٍ وَهُوَ الّذِي رَوَاهُ وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا قَالَ يَحْيَى : بَصْرِيّ ضَعِيفٌ وَقَالَ غَيْرُهُ ثِقَةٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبّانَ فِي الثّقَاتِ . . . وَأَمّا الْحَدِيثُ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مَيْمُونَةَ مُوَلّاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ " سُئِلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ رَجُلٍ قَبّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ فَقَالَ قَدْ أَفْطَرَ " فَلَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِيهِ أَبُو يَزِيدَ الضّنّيّ رَوَاهُ عَنْ مَيْمُونَةَ وَهِيَ بِنْتُ سَعْدٍ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : لَيْسَ بِمَعْرُوفِ وَلَا يَثْبُتُ هَذَا وَقَالَ الْبُخَارِيّ : هَذَا لَا أُحَدّثُ بِهِ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَبُو يَزِيدَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ . وَلَا يَصِحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ التّفْرِيقُ بَيْنَ الشّابّ وَالشّيْخِ وَلَمْ يَجِئْ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ [ ص 56 ] أَبِي دَاوُد عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ : حَدّثَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ عَنْ الْأَغَرّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَجُلًا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصّائِمِ فَرَخّصَ لَهُ وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَنَهَاهُ فَإِذَا الّذِي رَخّصَ لَهُ شَيْخٌ وَإِذَا الّذِي نَهَاهُ شَابّ وَإِسْرَائِيلُ وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم ٌ قَدْ احْتَجّا بِهِ وَبَقِيّةُ السّتّةِ فَعَلَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَغَرّ فِيهِ أَبَا الْعَنْبَسِ الْعَدَوِيّ الْكُوفِيّ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ سَكَتُوا عَنْهُ

فَصْلٌ [ صِحّةُ صِيَامِ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمّنْ أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا وَأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ فَلَيْسَ هَذَا الْأَكْلُ وَالشّرْبُ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُفْطِرُ بِهِ فَإِنّمَا يُفْطِرُ بِمَا فَعَلَهُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ فِي نُوُمِهِ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِفِعْلِ النّائِمِ وَلَا بِفِعْلِ النّاسِي .
فَصْلٌ [ الْمُفْطِرَاتُ ]
وَاَلّذِي صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الّذِي يَفْطُرُ بِهِ الصّائِمُ الْأَكْلُ وَالشّرْبُ [ ص 57 ] [ ص 58 ]
[ غَيْرُ الْمُفْطِرَاتِ ]
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ .
[ إنْكَارُ الْمُصَنّفِ - تَبَعًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - احْتِجَامُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ صَائِمٌ مَعَ أَنّهُ فِي الْبُخَارِيّ ]
وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَهُوَ صَائِمٌ وَمَنَعَ الصّائِمَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ . وَلَا يَصِحّ عَنْهُ أَنّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ أَحْمَد ُ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيد ٍ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ حَدِيثَ مِقْسَم فِي الْحِجَامَةِ فِي الصّيَامِ يَعْنِي حَدِيثَ سَعِيدٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَم عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ . [ ص 59 ] قَالَ مُهَنّا : وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشّهِيدِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ . فَقَالَ لَيْسَ بِصَحِيحِ قَدْ أَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ إنّمَا كَانَتْ أَحَادِيثُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَضَعّفَهُ وَقَالَ مُهَنّا : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : احْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَائِمًا مُحْرِمًا فَقَالَ هُوَ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ قَبِيصَةَ وَسَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ عُقْبَةَ فَقَالَ رَجُلُ صِدْقٍ وَالْحَدِيثُ الّذِي يُحَدّثُ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِهِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْأَشْجَعِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ صَائِمًا . قَالَ مُهَنّا : وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ " صَائِمٌ " إنّمَا هُوَ مُحْرِمٌ ذَكَرَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ احْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ خُثَيْم عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
وَرَوْحٌ عَنْ زَكَرِيّا بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ " صَائِمًا " . وَقَالَ حَنْبَلٌ حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يَاسِينَ الزّيّاتِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ مَا قَالَ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الرّجُلُ أَرَاهُ أَبَانَ بْنَ أَبِي عَيّاشٍ يَعْنِي وَلَا يُحْتَجّ بِهِ . [ ص 60 ] وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ رَوَى مُحَمّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النّيْسَابُورِيّ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ السّدّيّ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَنْكَرَ هَذَا ثُمّ قَالَ السّدّيّ عَنْ أَنَسٍ قُلْت : نَعَمْ فَعَجِبَ مِنْ هَذَا . قَالَ أَحْمَدُ وَفِي قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ غَيْرُ حَدِيثِ ثَابِتٍ . وَقَالَ إسْحَاقُ قَدْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ لَمْ يَصِحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَلَا صَحّ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى الصّائِمَ عَنْ السّوَاكِ أَوّلَ النّهَارِ وَلَا آخِرَهُ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصّائِمِ السّوَاكُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ

فَصْلٌ [ الِاكْتِحَالُ لِلصّائِمِ ]
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ مِنْ الْإِثْمِدِ وَلَا يَصِحّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي الْإِثْمِدِ لِيَتّقِهِ الصّائِمُ وَلَا يَصِحّ . قَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . [ ص 61 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِ التّطَوّعِ
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُ حَتّى يُقَالَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتّى يُقَالَ لَا يَصُومُ وَمَا اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرَ رَمَضَانَ وَمَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِمّا يَصُومُ فِي شَعْبَانَ وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْهُ شَهْرٌ حَتّى يَصُومَ مِنْهُ . وَلَمْ يَصُمْ الثّلَاثَةَ الْأَشْهُرَ سَرْدًا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النّاسِ وَلَا صَامَ رَجَبًا قَطّ وَلَا اسْتَحَبّ صِيَامَهُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ النّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَكَانَ يَتَحَرّى صِيَامَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُفْطِرُ أَيّامَ الْبِيضِ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ ذَكَرَهُ النّسَائِيّ . وَكَانَ يَحُضّ عَلَى صِيَامِهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ [ ص 62 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُ مِنْ غُرّةِ كُلّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَالنّسَائِيّ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيّ الشّهْرِ صَامَهَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ . وَأَمّا صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ مَا رَأَيْته صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطّ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَتْ حَفْصَةُ : أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعَهُنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرُ وَثَلَاثَةُ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ . [ ص 63 ] وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجّةِ وَيَصُومُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيّامٍ مِنْ الشّهْرِ أَوْ الِاثْنَيْنِ مِنْ الشّهْرِ وَالْخَمِيس وَفِي لَفْظٍ الْخَمِيسَيْنِ . وَالْمُثْبِتُ مُقَدّمٌ عَلَى النّافِي إنْ صَحّ . وَأَمّا صِيَامُ سِتّةِ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ صِيَامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدّهْرِ " .

[ صِيَامُ عَاشُورَاءَ ]
وَأَمّا صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَإِنّهُ كَانَ يَتَحَرّى صَوْمَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَيّامِ وَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُهُ وَتُعَظّمُهُ فَقَالَ نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْكُمْ " . فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ فَلَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ " مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النّاسِ هَذَا وَقَالَ إنّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ فَكَيْفَ يَقُولُ ابْنُ عَبّاسٍ : إنّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ؟ [ ص 64 ] وَفِيهِ إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ يَصُومُهُ فَلَمّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ " مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَتَغَدّى فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمّدٍ اُدْنُ إلَى الْغِدَاءِ . فَقَالَ أَوَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ؟ قَالَ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ إنّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَهُ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ يَوْمٌ تُعَظّمُهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَهَذَا فِيهِ أَنّ صَوْمَهُ وَالْأَمْرَ بِصِيَامِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامِ وَحَدِيثُهُ الْمُتَقَدّمُ فِيهِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ ثُمّ إنّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخْبَرَ أَنّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُرِكَ بِرَمَضَانَ وَهَذَا يُخَالِفُهُ حَدِيثُ ابْنُ عَبّاسٍ الْمَذْكُورُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تُرِكَ فَرْضُهُ لِأَنّهُ لَمْ يُفْرَضْ لِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ " هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ " [ ص 65 ] وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ مُسْلِمًا رَوَى فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمّا قِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا الْيَوْمَ تُعَظّمُهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى قَالَ " إنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ " فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْقَابِلُ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ انْتَهَيْتُ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ مُتَوَسّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ . فَقَالَ إذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرّم فَاعْدُدْ وَأَصْبَحَ يَوْمَ التّاسِعِ صَائِمًا قُلْتُ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ صَوْمَهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا مَفْرُوضًا فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَائِهِ وَقَدْ فَاتَ تَبْيِيتُ النّيّةِ لَهُ مِنْ اللّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَكَيْفَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْإِمْسَاكِ مَنْ كَانَ أَكَلَ ؟ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَالسّنَنِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدّدَةٍ أَنّهُ عَلَيْهِ - 66ُ - السّلَامُ أَمَرَ مَنْ كَانَ طَعِمَ فِيهِ أَنْ يَصُومَ بَقِيّةَ يَوْمِهِ وَهَذَا إنّمَا يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ وَكَيْفَ يَصِحّ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : فَلَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ وَاسْتِحْبَابُهُ لَمْ يُتْرَكْ ؟ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ جَعَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ التّاسِعِ وَأَخْبَرَ أَنّ هَكَذَا كَانَ يَصُومُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الّذِي رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ ذَكَرَهُ أَحْمَدُ . وَهُوَ الّذِي رَوَى : أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ . فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ بِعَوْنِ اللّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ أَمّا الْإِشْكَالُ الْأَوّلُ وَهُوَ أَنّهُ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنّ يَوْمَ قُدُومِهِ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَهُ فَإِنّهُ إنّمَا قَدِمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ ثَانِيَ عَشْرَةَ وَلَكِنّ أَوّلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ بِوُقُوعِ الْقِصّةِ فِي الْعَامِ الثّانِي الّذِي كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمُدِينَةَ وَلَمْ يَكُنْ وَهُوَ بِمَكّةَ هَذَا إنْ كَانَ حِسَابُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي صَوْمِهِ بِالْأَشْهُرِ الْهِلَالِيّةِ وَإِنْ كَانَ بِالشّمْسِيّةِ زَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلّيّةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ الّذِي نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى هُوَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ أَوّلِ الْمُحَرّمِ فَضَبَطَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالشّهُورِ الشّمْسِيّةِ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَقْدَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَصَوْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ إنّمَا هُوَ بِحِسَابِ سَيْرِ الشّمْسِ وَصَوْمُ الْمُسْلِمِينَ إنّمَا هُوَ بِالشّهْرِ الْهِلَالِيّ وَكَذَلِكَ [ ص 67 ] فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْكُمْ " فَظَهَرَ حُكْمُ هَذِهِ الْأَوْلَوِيّةِ فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ وَفِي تَعْيِينِهِ وَهُمْ أَخْطَئُوا تَعْيِينَهُ لِدَوَرَانِهِ فِي السّنَةِ الشّمْسِيّةِ كَمَا أَخْطَأَ النّصَارَى فِي تَعْيِينِ صَوْمِهِمْ بِأَنْ جَعَلُوهُ فِي فَصْلٍ مِنْ السّنَةِ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَشْهُرُ . وَأَمّا الْإِشْكَالُ الثّانِي وَهُوَ أَنّ قُرَيْشًا كَانْت تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ فَلَا رَيْبَ أَنّ قُرَيْشًا كَانْت تُعَظّمُ هَذَا الْيَوْمَ وَكَانُوا يَكْسُونَ الْكَعْبَةَ فِيهِ وَصَوْمُهُ مِنْ تَمَامِ تَعْظِيمِهِ وَلَكِنْ إنّمَا كَانُوا يَعُدّونَ بِالْأَهِلّةِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ عَاشِرُ الْمُحَرّمِ فَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يُعَظّمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَصُومُونَهُ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا : هُوَ الْيَوْمُ الّذِي نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ أَحَقّ مِنْكُمْ بِمُوسَى فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ تَقْرِيرًا لِتَعْظِيمِهِ وَتَأْكِيدًا وَأَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ وَأُمّتَهُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْ الْيَهُودِ فَإِذَا صَامَهُ مُوسَى شُكْرًا لِلّهِ كُنّا أَحَقّ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ الْيَهُودِ لَا سِيّمَا إذَا قُلْنَا : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا . فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّ مُوسَى صَامَهُ ؟ قُلْنَا : ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا يَوْمٌ عَظِيمٌ نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا لِلّهِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَنَحْنُ أَحَقّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ " . فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمّا أَقَرّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُكَذّبْهُمْ عَلِمَ أَنّ مُوسَى صَامَهُ شُكْرًا لِلّهِ فَانْضَمّ هَذَا الْقَدْرُ إلَى التّعْظِيمِ الّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَازْدَادَ تَأْكِيدًا حَتّى بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْأَمْصَارِ بِصَوْمِهِ وَإِمْسَاكِ مَنْ كَانَ أَكَلَ وَالظّاهِرُ أَنّهُ حَتّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَوْجَبَهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ . وَأَمّا الْإِشْكَالُ الثّالِثُ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ - 68ُ - أَنْ يَنْزِلَ فَرْضُ رَمَضَانَ فَلَمّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ تَرَكَهُ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ التّخَلّصُ مِنْهُ إلّا بِأَنّ صِيَامَهُ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ رَمَضَانَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَتْرُوكُ وُجُوبَ صَوْمِهِ لَا اسْتِحْبَابَهُ وَيَتَعَيّنُ هَذَا وَلَا بُدّ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ إنّ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ أَيْ مَعَهُ وَقَالَ خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ أَيْ مَعَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَأَمّا فِي أَوّلِ الْأَمْرِ فَكَانَ يُحِبّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ فَعُلِمَ أَنّ اسْتِحْبَابَهُ لَمْ يُتْرَكْ . وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنّ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَحَدُ لْأَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ بِتَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحَبّا أَوْ يَقُولُ هَذَا قَالَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِرَأْيِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ اسْتِحْبَابُ صَوْمِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَثّهُمْ عَلَى صِيَامِهِ وَأَخْبَرَ أَنّ صَوْمَهُ يُكَفّرُ السّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَاسْتَمَرّ الصّحَابَةُ عَلَى صِيَامِهِ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ بِالنّهْيِ عَنْهُ وَكَرَاهَةُ صَوْمِهِ فَعُلِمَ أَنّ الّذِي تُرِكَ وُجُوبُهُ لَا اسْتِحْبَابُهُ . فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ الْمُتّفَقُ عَلَى صِحّتِهِ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ فَرْضِيّتِهِ وَإِنّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَطّ . فَالْجَوَابُ أَنّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ اسْتِمْرَارِ وُجُوبِهِ وَأَنّهُ الْآنَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَا يَنْفِي وُجُوبًا مُتَقَدّمًا مَنْسُوخًا فَإِنّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لَمّا كَانَ وَاجِبًا وَنُسِخَ وُجُوبُهُ إنّ اللّهَ لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْنَا . وَجَوَابٌ ثَانٍ أَنّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ النّفْيُ عَامّا فِي الزّمَانِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ فَيُخَصّ بِأَدِلّةِ الْوُجُوبِ فِي الْمَاضِي وَتَرْكُ النّفْيِ فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ . وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ وَوُجُوبُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ [ ص 69 ] أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } [ الْبَقَرَةُ 183 ] فَأَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي هَذَا الْمَكْتُوبِ الّذِي كَتَبَهُ اللّهُ عَلَيْنَا دَفْعًا لِتَوَهّمِ مَنْ يَتَوَهّمُ أَنّهُ دَاخِلٌ فِيمَا كَتَبَهُ اللّهُ عَلَيْنَا فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ السّابِقِ بِصِيَامِهِ الّذِي صَارَ مَنْسُوخًا بِهَذَا الصّيَامِ الْمَكْتُوبِ . يُوَضّحُ هَذَا أَنّ مُعَاوِيَةَ إنّمَا سُمِعَ هَذَا مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ وَاسْتِقْرَارِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَنَسْخِ وُجُوبِ عَاشُورَاءَ بِهِ . وَاَلّذِينَ شَهِدُوا أَمْرَهُ بِصِيَامِهِ وَالنّدَاءِ بِذَلِكَ وَبِالْإِمْسَاكِ لِمَنْ أَكَلَ شَهِدُوا ذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ وَفَرْضُ رَمَضَانَ كَانَ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ فَمَنْ شَهِدَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ شَهِدَهُ قَبْلَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَمَنْ شَهِدَ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ فَرْضِهِ شَهِدَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا الْمَسْلَكَ تَنَاقَضَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَاضْطَرَبَتْ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَكُونُ فَرْضًا وَلَمْ يَحْصُلْ تَبْيِيتُ النّيّةِ مِنْ اللّيْلِ وَقَدْ قَالَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيّتْ الصّيَامَ مِنْ اللّيْلِ ؟ " فَالْجَوَابُ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ [ ص 70 ] كَلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ مِنْ قَوْلِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ ؟ فَأَمّا حَدِيثُ حَفْصَةَ فَأَوْقَفَهُ عَلَيْهَا مَعْمَرٌ وَالزّهْرِيّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيّ عَنْ الزّهْرِيّ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ الْمَوْقُوفُ أَصَحّ قَالَ التّرْمِذِيّ : وَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ وَهُوَ أَصَحّ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحّحُ رَفْعَهُ لِثِقَةِ رَافِعِهِ وَعَدَالَتِهِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا : رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَاخْتُلِفَ فِي تَصْحِيحِ رَفْعِهِ . فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ ثَبَتَ رَفْعُهُ فَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا إنّمَا قَالَهُ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ مُتَأَخّرٌ عَنْ الْأَمْرِ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَذَلِكَ تَجْدِيدُ حُكْمٍ وَاجِبٍ وَهُوَ التّبْيِيتُ وَلَيْسَ نَسْخًا لِحُكْمِ ثَابِتٍ بِخِطَابِ فَإِجْزَاءُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ فَرْضِ التّبْيِيتِ مِنْ اللّيْلِ ثُمّ نُسِخَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِرَمَضَانَ وَتَجَدّدَ وُجُوبُ التّبْيِيتِ فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ . وَطَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ هِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنّ وُجُوبَ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَضَمّنَ أَمْرَيْنِ وُجُوبَ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِجْزَاءَ صَوْمِهِ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ ثُمّ نُسِخَ تَعْيِينُ الْوَاجِبِ بِوَاجِبِ آخَرَ فَبَقِيَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ . وَطَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنّ الْوَاجِبَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ وَوُجُوبُ عَاشُورَاءَ إنّمَا عُلِمَ مِنْ النّهَارِ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ التّبْيِيتُ مُمْكِنًا فَالنّيّةُ وَجَبَتْ وَقْتَ تَجَدّدِ الْوُجُوبِ وَالْعِلْمِ بِهِ وَإِلّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ . قَالُوا : وَعَلَى هَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيّنَةُ بِالرّؤْيَةِ فِي أَثْنَاءِ النّهَارِ أَجْزَأَ صَوْمُهُ بِنِيّةِ مُقَارِنَةٍ لِلْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ وَأَصْلُهُ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا وَهِيَ كَمَا تَرَاهَا أَصَحّ الطّرُقِ وَأَقْرَبُهَا إلَى مُوَافَقَةِ أُصُولِ الشّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ وَعَلَيْهَا تَدُلّ [ ص 71 ] الطّرِيقَةِ لَا بُدّ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشّرْعِ أَوْ مُخَالَفَةُ بَعْضِ الْآثَارِ . وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ قُبَاءَ بِإِعَادَةِ الصّلَاةِ الّتِي صَلّوْا بَعْضَهَا إلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ وُجُوبُ التّحَوّلِ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ وُجُوبُ فَرْضِ الصّوْمِ أَوْ لَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ الْعِلْمِ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ وَلَا يُقَالُ إنّهُ تَرَكَ التّبْيِيتَ الْوَاجِبَ إذْ وُجُوبُ التّبْيِيتِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْمُبَيّتِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ . وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ الطّرِيقَةَ أَصَحّ مِنْ طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ كَانَ عَاشُورَاءُ فَرْضًا وَكَانَ يُجْزِئُ صِيَامُهُ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ ثُمّ نُسِخَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهِ فَنُسِخَتْ مُتَعَلّقَاتُهُ وَمِنْ مُتَعَلّقَاتِهِ إجْزَاءُ صِيَامِهِ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ لِأَنّ مُتَعَلّقَاتِهِ تَابِعَةٌ لَهُ وَإِذَا زَالَ الْمَتْبُوعُ زَالَتْ تَوَابِعُهُ وَتَعَلّقَاتُهُ فَإِنّ إجْزَاءِ الصّوْمِ الْوَاجِبِ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَعَلّقَاتِ خُصُوصِ هَذَا الْيَوْمِ بَلْ مِنْ مُتَعَلّقَاتِ الصّوْمِ الْوَاجِبِ وَالصّوْمُ الْوَاجِبُ لَمْ يَزُلْ وَإِنّمَا زَالَ تَعْيِينُهُ فَنُقِلَ مِنْ مَحَلّ إلَى مَحَلّ وَالْإِجْزَاءُ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ وَعَدَمِهِ مِنْ تَوَابِعِ أَصْلِ الصّوْمِ لَا تَعْيِينِهِ . وَأَصَحّ مِنْ طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ إنّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطّ لِأَنّهُ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهِ وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالنّدَاءِ الْعَامّ وَزِيَادَةُ تَأْكِيدِهِ بِالْأَمْرِ لِمَنْ كَانَ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ وَكُلّ هَذَا ظَاهِرٌ قَوِيّ فِي الْوُجُوبِ وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنّهُ لَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ وَمَعْلُومٌ أَنّ اسْتِحْبَابَهُ لَمْ يُتْرَكْ بِالْأَدِلّةِ الّتِي تَقَدّمَتْ وَغَيْرُهَا فَيَتَعَيّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ وُجُوبَهُ فَهَذِهِ خَمْسُ طُرُقٍ لِلنّاسِ فِي ذَلِكَ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا الْإِشْكَالُ الرّابِعُ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ وَأَنّهُ تُوُفّيَ قَبْلَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ التّاسِعَ فَابْنُ عَبّاسٍ رَوَى هَذَا وَهَذَا وَصَحّ عَنْهُ هَذَا وَهَذَا وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَصُومَ التّاسِعَ وَيُخْبِرَ أَنّهُ إنْ بَقِيَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَهُ أَوْ يَكُونُ ابْنُ عَبّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِهِ مُسْتَنِدًا إلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ [ ص 72 ] كَانَ يَفْعَلُ لَوْ بَقِيَ وَمُطْلَقًا إذَا عُلِمَ الْحَالُ وَعَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ . وَأَمّا الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ فَقَدْ تَقَدّمَ جَوَابُهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ . وَأَمّا الْإِشْكَالُ السّادِسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : اُعْدُدْ وَأَصْبَحَ يَوْمَ التّاسِعِ صَائِمًا . فَمَنْ تَأَمّلَ مَجْمُوعَ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبّاسٍ تَبَيّنَ لَهُ زَوَالُ الْإِشْكَالِ وَسِعَةُ عِلْمِ ابْنِ عَبّاسٍ فَإِنّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ التّاسِعُ بَلْ قَالَ لِلسّائِلِ صُمْ الْيَوْمَ التّاسِعَ وَاكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ السّائِلِ أَنّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ الّذِي يَعُدّهُ النّاسُ كُلّهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَأَرْشَدَ السّائِلَ إلَى صِيَامِ التّاسِعِ مَعَهُ وَأَخْبَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُهُ كَذَلِكَ . فَإِمّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى وَإِمّا أَنْ يَكُونَ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ هُوَ الّذِي رَوَى : " صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ " وَهُوَ الّذِي رَوَى : أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَكُلّ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْهُ يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُؤَيّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا . فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا : أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ وَبَعْدَهُ يَوْمٌ وَيَلِي ذَلِكَ أَنْ يُصَامَ التّاسِعُ وَالْعَاشِرُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ وَيَلِي ذَلِكَ إفْرَادُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ بِالصّوْمِ . وَأَمّا إفْرَادُ التّاسِعِ فَمِنْ نَقْصِ فَهْمِ الْآثَارِ وَعَدَمِ تَتَبّعِ أَلْفَاظِهَا وَطُرُقِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ اللّغَةِ وَالشّرْعِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ . [ ص 73 ] فَقَالَ قَدْ ظَهَرَ أَنّ الْقَصْدَ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمّا بِنَقْلِ الْعَاشِرِ إلَى التّاسِعِ أَوْ بِصِيَامِهِمَا مَعًا . وَقَوْلُهُ إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا التّاسِعَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ . فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيّنَ لَنَا مُرَادُهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ صِيَامَ الْيَوْمَيْنِ مَعًا وَالطّرِيقَةُ الّتِي ذَكَرْنَاهَا أَصْوَبُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَمَجْمُوعُ أَحَادِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عَلَيْهَا تَدُلّ لِأَنّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ خَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ أُمِرْنَا بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِر يُبَيّنُ صِحّةَ الطّرِيقَةِ الّتِي سَلَكْنَاهَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ [ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إفْطَارُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ رَوَاهُ عَنْهُ أَهْلُ السّنَنِ . وَصَحّ عَنْهُ أَنّ صِيَامَهُ يُكَفّرُ السّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَة ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ .
[ الْحُكْمُ مَنْ فَطَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ]
وَقَدْ ذُكِرَ لِفِطْرِهِ بِعَرَفَةَ عِدّةُ حِكَمٍ . مِنْهَا أَنّهُ أَقْوَى عَلَى الدّعَاءِ [ ص 74 ] وَمِنْهَا : أَنّ الْفِطْرَ فِي السّفَرِ أَفْضَلُ فِي فَرْضِ الصّوْمِ فَكَيْفَ بِنَفْلِهِ . وَمِنْهَا : أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَد نَهَى عَنْ إفْرَادِهِ بِالصّوْمِ فَأَحَبّ أَنْ يَرَى النّاسُ فِطْرَهُ فِيهِ تَأْكِيدًا لِنَهْيِهِ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِالصّوْمِ وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا يَوْمِ جُمُعَةٍ وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يَسْلُكُ مَسْلَكًا آخَرَ وَهُوَ أَنّهُ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفَةَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ كَاجْتِمَاعِ النّاسِ يَوْمِ الْعِيدِ وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ يَخْتَصّ بِمَنْ بِعَرَفَةَ دُونَ أَهْلِ الْآفَاقِ . قَالَ وَقَدْ أَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَذَا فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النّحْرِ وَأَيّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَمَعْلُومٌ أَنّ كَوْنَهُ عِيدًا هُوَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ صَوْمُ يَوْمَيْ السّبْتِ وَالْأَحَدِ ]
وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ السّبْتَ وَالْأَحَدَ كَثِيرًا يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " سُنَنِ النّسَائِيّ " عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أُمّ سَلَمَةَ أَسْأَلُهَا ؟ أَيّ الْأَيّامِ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْثَرَهَا صِيَامًا ؟ قَالَتْ يَوْمُ السّبْتِ وَالْأَحَدِ وَيَقُولُ إنّهُمَا عِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ وَفِي صِحّةِ هَذَا [ ص 75 ] مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب ٍ وَقَدْ اسْتَنْكَرَ بَعْضَ حَدِيثِهِ . وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَقّ فِي " أَحْكَامِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبّاسِ بْن ِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ عَنْ عَمّهِ الْفَضْلِ زَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبّاسًا فِي بَادِيَةٍ لَنَا . ثُمّ قَالَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ . قَالَ ابْنُ الْقَطّانِ : هُوَ كَمَا ذُكِرَ ضَعِيفٌ وَلَا يُعْرَفُ حَالُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَر َ وَذُكِرَ حَدِيثُهُ هَذَا عَنْ أُمّ سَلَمَةَ فِي صِيَامِ يَوْمِ السّبْتِ وَالْأَحَدِ وَقَالَ سَكَتَ عَنْهُ عَبْدُ الْحَقّ مُصَحّحًا لَهُ وَمُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ هَذَا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ وَيَرْوِيهِ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ وَلَا يُعْرَفُ أَيْضًا حَالُهُ فَالْحَدِيثُ أَرَاهُ حَسَنًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ السّلَمِيّ عَنْ أُخْتِهِ الصّمّاءِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تَصُومُوا يَوْمَ السّبْتِ إلّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ . فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا كَذِبٌ يُرِيدُ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُد قَالَ التّرْمِذِيّ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ النّسَائِيّ : هُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ فَإِنّ النّهْيَ عَنْ صَوْمِهِ إنّمَا هُوَ عَنْ إفْرَادِهِ وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُد فَقَالَ بَابُ النّهْيِ أَنْ يُخَصّ يَوْمُ السّبْتِ بِالصّوْمِ وَحَدِيثُ صِيَامِهِ إنّمَا هُوَ مَعَ يَوْمِ الْأَحَدِ . قَالُوا : [ ص 76 ] نَهَى عَنْ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ إلّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الّذِي ظَنّهُ مَنْ قَالَ إنّ صَوْمَهُ نَوْعُ تَعْظِيمٍ لَهُ فَهُوَ مُوَافَقَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْظِيمِهِ وَإِنْ تَضَمّنَ مُخَالَفَتَهُمْ فِي صَوْمِهِ فَإِنّ التّعْظِيمَ إنّمَا يَكُونُ إذَا أُفْرِدَ بِالصّوْمِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْحَدِيثَ لَمْ يَجِئْ بِإِفْرَادِهِ وَأَمّا إذَا صَامَهُ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْظِيمٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ [ صِيَامُ الدّهْرِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرْدُ الصّوْمِ وَصِيَامُ الدّهْرِ بَلْ قَدْ قَالَ مَنْ صَامَ الدّهْرَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا مَنْ صَامَ الْأَيّامَ الْمُحَرّمَةَ فَإِنّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ أَرَأَيْت مَنْ صَامَ الدّهْرَ ؟ وَلَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرّمَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ فَإِنّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنّهُ سَوَاءٌ فِطْرُهُ وَصَوْمُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ الصّيَامِ فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسّؤَالِ عَنْ الْمُحَرّمِ مِنْ الصّوْمِ وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا عِنْدَ مَنْ اسْتَحَبّ صَوْمَ الدّهْرِ قَدْ فَعَلَ مُسْتَحَبّا وَحَرَامًا وَهُوَ عِنْدَهُمْ قَدْ صَامَ بِالنّسْبَةِ إلَى أَيّامِ الِاسْتِحْبَابِ وَارْتَكَبَ مُحَرّمًا بِالنّسْبَةِ إلَى أَيّامِ التّحْرِيمِ وَفِي كُلّ مِنْهُمَا لَا يُقَالُ " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ " . فَتَنْزِيلُ قَوْلِهِ عَلَى ذَلِكَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ . وَأَيْضًا فَإِنّ أَيّامَ التّحْرِيمِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشّرْعِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصّوْمِ شَرْعًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللّيْلِ شَرْعًا وَبِمَنْزِلَةِ أَيّامِ الْحَيْضِ فَلَمْ يَكُنْ الصّحَابَةُ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ صَوْمِهَا وَقَدْ عَلِمُوا عَدَمَ قَبُولِهَا لِلصّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِيُجِيبَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا التّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلتّحْرِيمِ . [ ص 77 ] شَكّ فِيهِ أَنّ صِيَامَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدّهْرِ وَأَحَبّ إلَى اللّهِ . وَسَرْدُ صِيَامِ الدّهْرِ مَكْرُوهٌ فَإِنّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا لَزِمَ أَحَد ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُمْتَنِعَةٍ أَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَى اللّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ وَأَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنّهُ زِيَادَةُ عَمَلٍ وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ . إن أَحَبّ الصّيَامِ إلَى اللّهِ صِيَامُ دَاوُد وَإِنّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْهُ . وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مُتَسَاوِيَ الطّرَفَيْنِ لَا اسْتِحْبَابَ فِيهِ وَلَا كَرَاهَةَ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إذْ لَيْسَ هَذَا شَأْنُ الْعِبَادَاتِ بَلْ إمّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً أَوْ مَرْجُوحَةً وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتّةَ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ فَكَأَنّمَا صَامَ الدّهْرَ وَقَالَ فِيمَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ إنّ ذَلِكَ يَعْدِلُ صَوْمَ الدّهْرِ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ صَوْمَ الدّهْرِ أَفْضَلُ مِمّا عُدِلَ بِهِ وَأَنّهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَثَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الصّائِمِينَ حَتّى شَبّهَ بِهِ مَنْ صَامَ هَذَا الصّيَامَ . قِيلَ نَفْسُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَدّرِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فَضْلًا عَنْ اسْتِحْبَابِهِ وَإِنّمَا يَقْتَضِي التّشْبِيهَ بِهِ فِي ثَوَابِهِ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبّا وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ فَإِنّهُ جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدّهْرِ إذْ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا فَعُلِمَ أَنّ الْمُرَادَ بِهِ حُصُولُ هَذَا الثّوَابِ عَلَى [ ص 78 ] ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي صِيَامِ سِتّةِ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ إنّهُ يَعْدِلُ مَعَ صِيَامِ رَمَضَانَ السّنَةَ ثُمّ قَرَأَ { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الْأَنْعَامُ 160 ] فَهَذَا صِيَامُ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا تَعْدِلُ صِيَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالِاتّفَاقِ بَلْ قَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَمْتَنِعُ فِعْلُ الْمُشَبّهِ بِهِ عَادَةً بَلْ يَسْتَحِيلُ وَإِنّمَا شَبّهَ بِهِ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ إمْكَانِهِ كَقَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهَدُ أَنْ تَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَأَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً كَامْتِنَاعِ صَوْمِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا شَرْعًا وَقَدْ شَبّهَ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ بِكُلّ مِنْهُمَا يُزِيدُهُ وُضُوحًا : أَنّ أَحَبّ الْقِيَامِ إلَى اللّهِ قِيَامُ دَاوُد وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللّيْلِ كُلّهِ بِصَرِيحِ السّنّةِ الصّحِيحَةِ وَقَدْ مَثّلَ مَنْ صَلّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالصّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ بِمَنْ قَامَ اللّيْلَ كُلّهُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ؟ مَنْ صَامَ الدّهْرَ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنّمُ حَتّى تَكُونَ هَكَذَا وَقَبَضَ كَفّهُ وَهُوَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " . قِيلَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ . فَقِيلَ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ حَصْرًا لَهُ فِيهَا لِتَشْدِيدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاعْتِقَادِهِ أَنّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ [ ص 79 ] الطّائِفَةُ هَذَا التّأْوِيلَ بِأَنّ الصّائِمَ لَمّا ضَيّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَسَالِكَ الشّهَوَاتِ وَطُرُقَهَا بِالصّوْمِ ضَيّقَ اللّهُ عَلَيْهِ النّارَ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَكَانٌ لِأَنّهُ ضَيّقَ طُرُقَهَا عَنْهُ وَرَجّحَتْ الطّائِفَةُ الْأُولَى تَأْوِيلَهَا بِأَنْ قَالَتْ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ ضُيّقَتْ عَنْهُ وَأَمّا التّضْيِيقُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلّا وَهُوَ فِيهَا . قَالُوا : وَهَذَا التّأْوِيلُ مُوَافِقٌ لِأَحَادِيثِ كَرَاهَةِ صَوْمِ الدّهْرِ وَأَنّ فَاعِلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَصُمْ وَاَللّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ [ إنْشَاءُ نِيّةِ التّطَوّعِ مِنْ النّهَارِ ]
[ لَا حَرَجَ فِي الْفِطْرِ فِي صِيَامِ التّطَوّعِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ " فَإِنْ قَالُوا : لَا . قَالَ " إنّي إذًا صَائِمٌ " فَيُنْشِئُ النّيّةَ لِلتّطَوّعِ مِنْ النّهَارِ وَكَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْمَ التّطَوّعِ ثُمّ يُفْطِرُ بَعْدُ أَخْبَرَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِهَذَا وَهَذَا فَالْأَوّلُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَالثّانِي : فِي " كِتَابِ النّسَائِيّ " [ ص 80 ] وَأَمّا الْحَدِيثُ الّذِي فِي " السّنَنِ " عَنْ عَائِشَةَ : كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَقَالَاقْضِيَا يَوْمَا مَكَانَهُ فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ . قَالَ التّرْمِذِيّ : رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفّاظِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عُرْوَةَ وَهَذَا أَصَحّ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنّسَائِيّ عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ ابْنِ الْهَادِ عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْصُولًا قَالَ النّسَائِيّ : زُمَيْلٌ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ وَقَالَ الْبُخَارِيّ : لَا يُعْرَفُ لِزُمَيْلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ وَلَا لِيَزِيدَ بْنِ الْهَادِ مِنْ زُمَيْلٍ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ .
[ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ وَكَانَ صَائِمًا فَلْيَقُلْ إنّي صَائِمٌ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ صَائِمًا وَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ أَتَمّ صِيَامَهُ وَلَمْ يُفْطِرْ كَمَا دَخَلَ عَلَى أُمّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ فَقَالَ أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرِكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنّي صَائِم وَلَكِنّ أُمّ سُلَيْمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إنّي صَائِمٌ [ ص 81 ] ابْنُ مَاجَهْ وَالتّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَرْفَعُهُ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَا يَصُومَنّ تَطَوّعًا إلّا بِإِذْنِهِمْ فَقَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الثّقَاتِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ .

فَصْلٌ [ كَرَاهِيَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرَاهَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ فِعْلًا مِنْهُ وَقَوْلًا . فَصَحّ النّهْيُ عَنْ إفْرَادِهِ بِالصّوْمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو وَجُنَادَة الْأَزْدِيّ وَغَيْرِهِمْ . وَشَرِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُرِيهِمْ أَنّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَلّلَ الْمَنْعَ مِنْ صَوْمِهِ بِأَنّهُ يَوْمُ عِيدٍ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ قِيلَ فَيَوْمُ الْعِيدِ لَا يُصَامُ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ . قِيلَ لَمّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُشَبّهًا بِالْعِيدِ أَخَذَ مِنْ شَبَهِهِ النّهْيَ عَنْ تَحَرّي صِيَامِهِ فَإِذَا صَامَ مَا قَبْلَهُ أَوْ [ ص 82 ] تَحَرّاهُ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ صَوْمِ الشّهْرِ أَوْ الْعُشْرِ مِنْهُ أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ أَوْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ إذَا وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَإِنّهُ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؟ قَالَ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُفْطِرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ . قِيلَ نَقْبَلُهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَيَتَعَيّنُ حَمْلُهُ عَلَى صَوْمِهِ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَنَرُدّهُ إنْ لَمْ يَصِحّ فَإِنّهُ مِنْ الْغَرَائِبِ قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاعْتِكَافِ
[ مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ عُكُوفُ الْقَلْبِ إلَى اللّهِ ]
لَمّا كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، مُتَوَقّفًا عَلَى جَمْعِيّتِهِ عَلَى اللّهِ وَلَمّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلّيّةِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، فَإِنّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمّهُ إلّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَكَانَ فُضُولُ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ الْمَنَامِ مِمّا يَزِيدُهُ شَعَثًا ، وَيُشَتّتُهُ فِي كُلّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ الصّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشّهَوَاتِ الْمَعُوقَةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهْ الْعَبْدُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَلَا يَضُرّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ
وَشَرَعَ لَهُمْ الِاعْتِكَافَ الّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَجَمْعِيّتُهُ عَلَيْهِ وَالْخَلْوَةُ بِهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبّهُ وَالْإِقْبَالُ [ ص 83 ] بَدَلَهَا ، وَيَصِيرُ الْهَمّ كُلّهُ بِهِ وَالْخَطَرَاتُ كُلّهَا بِذِكْرِهِ وَالتّفَكّرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاَللّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ فَيَعُدّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ ]
وَلَمّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إنّمَا يَتِمّ مَعَ الصّوْمِ شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيّامِ الصّوْمِ وَهُوَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا قَطّ ، بَلْ قَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَا اعْتِكَافَ إلّا بِصَوْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إلّا مَعَ الصّوْمِ وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا مَعَ الصّوْمِ . فَالْقَوْلُ الرّاجِحُ فِي الدّلِيلِ الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُرَجّحُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّةَ . وَأَمّا الْكَلَامُ فَإِنّهُ شُرِعَ لِلْأُمّةِ حَبْسُ اللّسَانِ عَنْ كُلّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ . وَأَمّا فُضُولُ الْمَنَامِ فَإِنّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً وَهُوَ السّهَرُ الْمُتَوَسّطُ الّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَلَا يَعُوقُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرّيَاضَاتِ وَالسّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ [ ص 84 ] وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا الْمِنْهَاجَ النّبَوِيّ الْمُحَمّدِيّ وَلَمْ يَنْحَرِفْ انْحِرَافَ الْغَالّينَ وَلَا قَصّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرّطِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتّى تَوَفّاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَتَرَكَهُ مَرّةً فَقَضَاهُ فِي شَوّالٍ . وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ ثُمّ الْأَوْسَطِ ثُمّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ تَبَيّنَ لَهُ أَنّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتّى لَحِقَ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ . وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ . وَكَانَ إذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلّى الْفَجْرَ ثُمّ دَخَلَهُ فَأَمَرَ بِهِ مَرّةً فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَخْبِيَتِهِنّ فَضُرِبَتْ فَلَمّا صَلّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوّضَ ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ مِنْ شَوّالٍ . وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيّامٍ فَلَمّا كَانَ فِي الْعَامِ الّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ [ ص 85 ] وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السّنَةِ مَرّتَيْنِ . وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبّتَهُ وَحْدَهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِ عَائِشَةَ فَتُرَجّلُهُ وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ . فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا ، وَلَمْ يُبَاشِرْ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ . وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي قُبّةٍ تُرْكِيّةٍ ، وَجَعَلَ عَلَى سُدّتِهَا حَصِيرًا ، كُلّ [ ص 86 ] اتّخَاذِ الْمُعْتَكِفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزّائِرِينَ وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاعْتِكَافُ النّبَوِيّ لَوْنٌ . وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّهِ وَعُمَرِهِ
[ الْعُمُرَاتُ الّتِي اعْتَمَرَهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ]
اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلّهُنّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ . الْأُولَى : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهِيَ أُولَاهُنّ سَنَةَ سِتّ فَصَدّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ فَنَحَرَ الْبُدْنَ حَيْثُ صُدّ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ وَحَلّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَرَجَعَ مِنْ عَامِهِ إلَى الْمَدِينَةِ . الثّانِيَةُ عُمْرَةُ الْقَضِيّةِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ دَخَلَ مَكّةَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا ، ثُمّ خَرَجَ بَعْدَ إكْمَالِ عُمْرَتِهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَتْ قَضَاءً لِلْعُمْرَةِ الّتِي صُدّ عَنْهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي ، أَمْ عُمْرَةً مُسْتَأْنَفَةً ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد َ إحْدَاهُمَا : أَنّهَا قَضَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ . وَالثّانِيَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَاَلّذِينَ قَالُوا : كَانَتْ قَضَاءً احْتَجّوا بِأَنّهَا سُمّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَهَذَا الِاسْمُ تَابِعٌ لِلْحُكْمِ . وَقَالَ آخَرُونَ الْقَضَاءُ هُنَا مِنْ الْمُقَاضَاةِ لِأَنّهُ قَاضَى أَهْلَ مَكّةَ عَلَيْهَا ، لَا أَنّهُ مِنْ قَضَى قَضَاءً . قَالُوا : وَلِهَذَا سُمّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ . قَالُوا : وَاَلّذِينَ صُدّوا عَنْ الْبَيْتِ ، كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، وَهَؤُلَاءِ كُلّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ ، وَلَوْ كَانَتْ قَضَاءً لَمْ يَتَخَلّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحّ ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْقَضَاءِ . - 8ُ7 - الثّالِثَةُ عُمْرَتُهُ الّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجّتِهِ فَإِنّهُ كَانَ قَارِنًا لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا ، سَنَذْكُرُهَا عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ . الرّابِعَةُ عُمْرَتُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ ، لَمّا خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ ، ثُمّ رَجَعَ إلَى مَكّةَ ، فَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ دَاخِلًا إلَيْهَا . فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلّهُنّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلّا الّتِي كَانَتْ مَعَ حَجّتِهِ عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَة ِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجّتِهِ وَلَمْ يُنَاقِضْ هَذَا مَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجّ مَرّتَيْنِ لِأَنّهُ أَرَادَ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ الْمُسْتَقِلّةَ وَلَا رَيْبَ أَنّهُمَا اثْنَتَانِ فَإِنّ عُمْرَةَ الْقِرَانِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلّةً وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ صُدّ عَنْهَا ، وَحِيلَ بَيْنَهُ [ ص 88 ] قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ . عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَة ِ وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ وَالثّالِثَةُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ ، وَالرّابِعَةُ مَعَ حَجّتِهِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ : أَنّهُنّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلّا الّتِي مَعَ حَجّتِهِ وَبَيْنَ قَوْلِ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبّاسٍ : لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ لِأَنّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَنِهَايَتُهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجّةِ مَعَ انْقِضَاءِ الْحَجّ فَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبّاسٍ أَخْبَرَا عَنْ ابْتِدَائِهَا ، وَأَنَسٌ أَخْبَرَ عَنْ انْقِضَائِهَا . فَأَمّا قَوْلُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ : إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا ، إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ ، فَوَهْمٌ مِنْهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . قَالَتْ عَائِشَةُ لَمّا بَلَغَهَا ذَلِكَ عَنْهُ يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمْرَةً قَطّ إلّا وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطّ . وَأَمّا مَا رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمّي ، أَفْطَرْت وَصُمْت ، وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت ، فَقَالَ : أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ [ ص 89 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطّ ، وَعُمَرُهُ مَضْبُوطَةُ الْعَدَدِ وَالزّمَانِ وَنَحْنُ نَقُولُ يَرْحَمُ اللّهُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَمَضَانَ قَطّ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ . وَلَا خِلَافَ أَنّ عُمَرَهُ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَرْبَعٍ فَلَوْ كَانَ قَدْ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ لَكَانَتْ خَمْسًا ، وَلَوْ كَانَ قَدْ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ سِتّا ، إلّا أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُنّ فِي رَجَبٍ وَبَعْضُهُنّ فِي رَمَضَانَ وَبَعْضُهُنّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَمْ يَقَعْ وَإِنّمَا الْوَاقِعُ اعْتِمَارُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ وَهَذَا إذَا كَانَ مَحْفُوظًا ، فَلَعَلّهُ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ حِينَ خَرَجَ فِي شَوّالٍ وَلَكِنْ إنّمَا أَحْرَمَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ .
فَصْلٌ [ الْعُمْرَةُ لِلدّاخِلِ إلَى مَكّةَ ]
وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمَرِهِ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَارِجًا مِنْ مَكّةَ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ الْيَوْمَ وَإِنّمَا كَانَتْ عُمَرُهُ كُلّهَا دَاخِلًا إلَى مَكّةَ ، وَقَدْ أَقَامَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِمَكّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنّهُ اعْتَمَرَ خَارِجًا مِنْ مَكّةَ فِي تِلْكَ الْمُدّةِ أَصْلًا . فَالْعُمْرَةُ الّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرَعَهَا ، هِيَ عُمْرَةُ الدّاخِلِ إلَى مَكّةَ ، لَا عُمْرَةُ مَنْ كَانَ بِهَا فَيَخْرُجُ إلَى الْحِلّ لِيَعْتَمِرَ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا عَلَى عَهْدِهِ أَحَدٌ قَطّ إلّا عَائِشَةُ وَحْدَهَا بَيْنَ سَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُ لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ أَهَلّتْ بِالْعُمْرَةِ فَحَاضَتْ [ ص 90 ] فَأَمَرَهَا ، فَأَدْخَلَتْ الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَصَارَتْ قَارِنَةً وَأَخْبَرَهَا أَنّ طَوَافَهَا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ وَقَعَ عَنْ حَجّتِهَا وَعُمْرَتِهَا ، فَوَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا أَنْ يَرْجِعَ صَوَاحِبَاتُهَا بِحَجّ وَعُمْرَةٍ مُسْتَقِلّيْنِ فَإِنّهُنّ كُنّ مُتَمَتّعَاتٍ وَلَمْ يَحِضْنَ وَلَمْ يَقْرِنّ وَتَرْجِعُ هِيَ بِعُمْرَةٍ فِي ضِمْنِ حَجّتِهَا ، فَأَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التّنْعِيمِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ هُوَ مِنْ التّنْعِيمِ فِي تِلْكَ الْحَجّةِ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ كَانَ مَعَهُ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرٍ لِهَذَا وَبَسْطٍ لَهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ [ كَانَتْ عُمَرُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ ]
دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ خَمْسَ مَرّاتٍ سِوَى الْمَرّةِ الْأُولَى ، فَإِنّهُ وَصَلَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ ، وَصُدّ عَنْ الدّخُولِ إلَيْهَا ، أَحْرَمَ فِي أَرْبَعٍ مِنْهُنّ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا قَبْلَهُ فَأَحْرَمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، ثُمّ دَخَلَهَا الْمَرّةَ الثّانِيَةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا ، ثُمّ خَرَجَ ثُمّ دَخَلَهَا فِي الْمَرّةِ الثّالِثَةِ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى حُنَيْنٍ ، ثُمّ دَخَلَهَا بِعُمْرَةٍ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَدَخَلَهَا فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ لَيْلًا ، وَخَرَجَ لَيْلًا ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكّةَ إلَى الْجِعْرَانَةِ لِيَعْتَمِرَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ مَكّةَ الْيَوْمَ وَإِنّمَا أَحْرَمَ مِنْهَا فِي حَالِ دُخُولِهِ إلَى مَكّةَ ، وَلَمّا قَضَى عُمْرَتَهُ لَيْلًا ، رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ إلَى الْجِعْرَانَةِ ، فَبَاتَ بِهَا ، فَلَمّا أَصْبَحَ وَزَالَتْ الشّمْسُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ سَرِفٍ حَتّى جَامَعَ الطّرِيقَ [ طَرِيقَ جَمْعٍ بِبَطْنِ سَرِفٍ ] ، وَلِهَذَا خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ عُمَرَهُ كُلّهَا كَانَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ مُخَالِفَةً لِهَدْيِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ وَيَقُولُونَ هِيَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي رَجَبٍ بِلَا شَكّ .
[ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ ]
وَأَمّا الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ فَمَوْضِعُ نَظَرٍ فَقَدْ صَحّ عَنْهُ [ ص 91 ] أَمَرَ أُمّ مَعْقِلٍ لَمّا فَاتَهَا الْحَجّ مَعَهُ أَنْ تَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ وَأَخْبَرَهَا أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجّةً . وَأَيْضًا : فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الزّمَانِ وَأَفْضَلُ الْبِقَاعِ وَلَكِنّ اللّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُمَرِهِ إلّا أَوْلَى الْأَوْقَاتِ وَأَحَقّهَا بِهَا ، فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ نَظِيرَ وُقُوعِ الْحَجّ فِي أَشْهُرِهِ وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ قَدْ خَصّهَا اللّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَجَعَلَهَا وَقْتًا لَهَا ، وَالْعُمْرَةُ حَجّ أَصْغَرُ فَأَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِهَا أَشْهُرُ الْحَجّ وَذُو الْقَعْدَةِ أَوْسَطُهَا ، وَهَذَا مِمّا نَسْتَخِيرُ اللّهَ فِيهِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ فَلْيَرْشُدْ إلَيْهِ .
[ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ الْمَشَقّةِ عَلَى أُمّتِهِ ]
وَقَدْ يُقَال : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَشْتَغِلُ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِمَا هُوَ أَهَمّ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ فَأَخّرَ [ ص 92 ] بِأُمّتِهِ وَالرّأْفَةِ بِهِمْ فَإِنّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَبَادَرَتْ الْأُمّةُ إلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالصّوْمِ وَرُبّمَا لَا تَسْمَحُ أَكْثَرُ النّفُوسِ بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ حِرْصًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعُمْرَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ فَتَحْصُلُ الْمَشَقّةُ فَأَخّرَهَا إلَى أَشْهُرِ الْحَجّ وَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ يُحِبّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ الْمَشَقّةِ عَلَيْهِمْ . وَلَمّا دَخَلَ الْبَيْتَ خَرَجَ مِنْهُ حَزِينًا ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ إنّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمّتِي وَهَمّ أَنْ يَنْزِلَ يَسْتَسْقِي مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ لِلْحَاجّ فَخَافَ أَنْ يُغْلَبَ أَهْلُهَا عَلَى سِقَايَتِهِمْ بَعْدَهُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ لَمْ يَعْتَمِرْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّنَةِ إلّا مَرّةً وَاخْتِلَافُ النّاسِ فِي تَكْرَارِهَا ]
وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَمَرَ فِي السّنَةِ إلّا مَرّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سَنَةٍ مَرّتَيْنِ وَقَدْ ظَنّ بَعْضُ النّاسِ أَنّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرّتَيْنِ وَاحْتَجّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَائِشَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةً فِي شَوّالٍ قَالُوا : وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذِكْرَ مَجْمُوعِ مَا اعْتَمَرَ فَإِنّ أَنَسًا ، [ ص 93 ] وَعَائِشَةَ ، وَابْنَ عَبّاسٍ ، وَغَيْرَهُمْ قَدْ قَالُوا : إنّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ، فَعُلِمَ أَنّ مُرَادَهَا بِهِ أَنّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَمَرّةً فِي شَوّالٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهْمٌ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَنْهَا ، فَإِنّ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطّ ، فَإِنّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ بِلَا رَيْبٍ الْعُمْرَةُ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، ثُمّ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ فَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى مَكّةَ حَتّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ ذَلِكَ الْعَامَ ثُمّ خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي سِتّ مِنْ شَوّالٍ وَهَزَمَ اللّهُ أَعْدَاءَهُ فَرَجَعَ إلَى مَكّةَ ، وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ ، وَابْنُ عَبّاسٍ : فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ ؟ وَلَكِنْ لَقِيَ الْعَدُوّ فِي شَوّالٍ وَخَرَجَ فِيهِ مِنْ مَكّةَ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ لَمّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا ، وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ الْعَامَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَمَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَيّامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ لَا يَشُكّ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ فَبِأَيّ شَيْءٍ يَسْتَحِبّونَ الْعُمْرَةَ فِي السّنَةِ مِرَارًا إذَا لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قِيلَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ : أَكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَالَفَهُ مُطَرّفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَابْنُ الْمَوّازِ ، قَالَ مُطَرّفٌ لَا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي السّنَةِ مِرَارًا ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوّازِ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَقَدْ اعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ مَرّتَيْنِ فِي شَهْرٍ وَلَا أَرَى أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ التّقَرّبِ إلَى اللّهِ بِشَيْءٍ مِنْ الطّاعَاتِ وَلَا مِنْ الِازْدِيَادِ مِنْ الْخَيْرِ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصّ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ إلّا أَنّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى ، اسْتَثْنَى خَمْسَةَ أَيّامٍ لَا يُعْتَمَرُ فِيهَا : يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النّحْرِ ، وَأَيّامَ التّشْرِيقِ . وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى : يَوْمَ النّحْرِ وَأَيّامَ التّشْرِيقِ خَاصّةً وَاسْتَثْنَتْ الشّافِعِيّةُ : الْبَائِتَ بِمِنًى لِرَمْيِ أَيّامِ التّشْرِيقِ . وَاعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ فِي سَنَةٍ مَرّتَيْنِ . فَقِيلَ لِلْقَاسِمِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ ؟ فَقَالَ أَعَلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَمّمَ رَأْسَهُ [ ص 94 ] خَرَجَ فَاعْتَمَرَ . وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي السّنَةِ مِرَارًا ، وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَيَكْفِي فِي هَذَا ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْ التّنْعِيمِ سِوَى عُمْرَتِهَا الّتِي كَانَتْ أَهَلّتْ بِهَا ، وَذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَلَا يُقَالُ عَائِشَةُ كَانَتْ قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ فَهَذِهِ الّتِي أَهَلّتْ بِهَا مِنْ التّنْعِيمِ قَضَاءً عَنْهَا ؛ لِأَنّ الْعُمْرَةَ لَا يَصِحّ رَفْضُهَا . وَقَدْ قَالَ لَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسَعُكِ طَوَافُك لِحَجّكِ وَعُمْرَتِك وَفِي لَفْظٍ حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : اُرْفُضِي عُمْرَتَك ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَفِي لَفْظٍ آخَرَ اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَفِي لَفْظٍ أَهِلّي بِالْحَجّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَفْضِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ اُرْفُضِيهَا وَدَعِيهَا ، وَالثّانِي : أَمْرُهُ لَهَا بِالِامْتِشَاطِ . قِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ اُرْفُضِيهَا : اُتْرُكِي أَفْعَالَهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا ، وَكُونِي فِي حَجّةٍ مَعَهَا ، وَيَتَعَيّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَمّا قَضَتْ أَعْمَالَ الْحَجّ . وَقَوْلُهُ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجّكِ وَعُمْرَتِكِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ لَمْ يُرْفَضْ وَإِنّمَا رُفِضَتْ أَعْمَالُهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا ، وَأَنّهَا بِانْقِضَاءِ [ ص 95 ] أَعْمَرَهَا مِنْ التّنْعِيمِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا ، إذْ تَأْتِي بِعُمْرَةٍ مُسْتَقِلّةٍ كَصَوَاحِبَاتِهَا ، وَيُوَضّحُ ذَلِكَ إيضَاحًا بَيّنًا ، مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَلَمْ أُهِلّ إلّا بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ ، وَأُهِلّ بِالْحَجّ ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ قَالَتْ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتّى إذَا قَضَيْتُ حَجّي ، بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنْ التّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجّ وَلَمْ أُهِلّ مِنْهَا فَهَذَا حَدِيثٌ فِي غَايَةِ الصّحّةِ وَالصّرَاحَةِ أَنّهَا لَمْ تَكُنْ أَحَلّتْ مِنْ عُمْرَتِهَا ، وَأَنّهَا بَقِيَتْ مُحْرِمَةً حَتّى أَدْخَلَتْ عَلَيْهَا الْحَجّ فَهَذَا خَبَرُهَا عَنْ نَفْسِهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا ، كُلّ مِنْهُمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلّا الْجَنّةُ دَلِيلٌ عَلَى التّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ فِي التّكْرَارِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَوْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ كَالْحَجّ لَا تُفْعَلُ فِي السّنَةِ إلّا مَرّةً لَسَوّى بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَرّقْ . وَرَوَى الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ عَلِيّ رضي الله عنه، أَنّهُ قَالَ : اعْتَمِرْ فِي كُلّ شَهْرٍ مَرّةً وَرَوَى وَكِيعٌ ، عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَال، قَالَ عَلِيّ رضي الله عنه : اعْتَمِرْ فِي الشّهْرِ إنْ أَطَقْتَ مِرَارًا وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ أَنَسٍ ، أَنّ أَنَسًا كَانَ إذَا كَانَ بِمَكّةَ فَحَمّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ إلَى التّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَ

فَصْلٌ فِي سِيَاقِ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّتِهِ
[ لَمّا فُرِضَ الْحَجّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ بَادَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ سَنَةَ عَشْرٍ وَهِيَ حَجّتُهُ الْوَحِيدَةُ ]
[ ص 96 ] الْمَدِينَةِ سِوَى حَجّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَجّةُ الْوَدَاعِ وَلَا خِلَافَ أَنّهَا كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ . وَاخْتُلِفَ هَلْ حَجّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ؟ فَرَوَى التّرْمِذِيّ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ حَجّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ حِجَجٍ حَجّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحَجّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ . قَالَ وَسَأَلْتُ مُحَمّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيّ - عَنْ هَذَا ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَدِيثِ الثّوْرِيّ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُعَدّ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظًا . وَلَمّا نَزَلَ فَرْضُ الْحَجّ بَادَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْحَجّ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ فَإِنّ فَرْضَ الْحَجّ تَأَخّرَ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى { وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [ الْبَقَرَةُ 196 ] ، فَإِنّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَيْسَ فِيهَا فَرْضِيّةُ الْحَجّ وَإِنّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ وَإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشّرُوعِ فِيهِمَا ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَأْخِيرُ نُزُولِ فَرْضِهِ إلَى التّاسِعَةِ أَوْ الْعَاشِرَةِ ؟ قِيلَ لِأَنّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ وَفِيهِ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَالْجِزْيَةُ إنّمَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَفِيهَا نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَان ، وَنَاظَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَعَاهُمْ إلَى التّوْحِيدِ وَالْمُبَاهَلَةِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ أَهْلَ مَكّةَ وَجَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ التّجَارَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التّوْبَةُ 28 ] ، فَأَعَاضَهُمْ اللّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ . وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُنَادَاةُ بِهَا ، إنّمَا كَانَ فِي سَنَةِ [ ص 97 ] ، وَبَعَثَ الصّدّيقَ يُؤَذّنُ بِذَلِكَ فِي مَكّةَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجّ وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السّلَفِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ خُرُوجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ النّاسَ ]
لَمّا عَزَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْحَجّ أَعْلَمَ النّاسَ أَنّهُ حَاجّ ، فَتَجَهّزُوا لِلْخُرُوجِ مَعَهُ وَسَمِعَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، فَقَدِمُوا يُرِيدُونَ الْحَجّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَافَاهُ فِي الطّرِيقِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ فَكَانُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مَدّ الْبَصَرِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ نَهَارًا بَعْدَ الظّهْرِ لِسِتّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ أَنْ صَلّى الظّهْرَ بِهَا أَرْبَعًا ، وَخَطَبَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ خُطْبَةً عَلّمَهُمْ فِيهَا الْإِحْرَامَ وَوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنَهُ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ خُرُوجَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَوْمَ السّبْتِ ]
وَقَالَ بْنُ حَزْمٍ : وَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قُلْتُ وَالظّاهِرُ أَنّ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ السّبْتِ وَاحْتَجّ بْنُ حَزْم عَلَى قَوْلِهِ بِثَلَاثِ مُقَدّمَاتٍ . إحْدَاهَا : أَنّ خُرُوجَهُ كَانَ لِسِتّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ . وَالثّانِيَةُ أَنّ اسْتِهْلَالَ ذِي الْحِجّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالثّالِثَةُ أَنّ يَوْمَ عَرَفَةَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاحْتَجّ عَلَى أَنّ خُرُوجَهُ كَانَ لِسِتّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ بِمَا رَوَى الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ ، انْطَلَقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجّلَ وَادّهَنَ . .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَقَالَ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ . قَالَ بْنُ حَزْمٍ وَقَدْ نَصّ بْنُ عُمَرَ عَلَى أَنّ يَوْمَ عَرَفَةَ ، كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ التّاسِعُ وَاسْتِهْلَالَ ذِي الْحِجّةِ بِلَا شَكّ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ فَآخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ يَوْمُ [ ص 98 ] كَانَ خُرُوجُهُ لِسِتّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إذْ الْبَاقِي بَعْدَهُ سِتّ لَيَالٍ سِوَاهُ . وَوَجْهُ مَا اخْتَرْنَاهُ أَنّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ وَهِيَ يَوْمُ السّبْتِ وَالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَهَذِهِ خَمْسٌ وَعَلَى قَوْلِهِ يَكُون خُرُوجُهُ لِسَبْعٍ بَقَيْنَ . فَإِنْ لَمْ يُعَدّ يَوْمُ الْخُرُوجِ كَانَ لِسِتّ وَأَيّهُمَا كَانَ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ . وَإِنْ اعْتَبَرَ اللّيَالِي ، كَانَ خُرُوجُهُ لِسِتّ لَيَالٍ بَقَيْنَ لَا لِخَمْسٍ فَلَا يَصِحّ الْجَمْعُ بَيْنَ خُرُوجِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَبَيْنَ بَقَاءِ خَمْسٍ مِنْ الشّهْرِ أَلْبَتّةَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ يَوْمَ السّبْتِ فَإِنّ الْبَاقِيَ بِيَوْمِ الْخُرُوجِ خَمْسٌ بِلَا شَكّ وَيَدُلّ عَلَيْهِ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرَ لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِهِ شَأْنَ الْإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ بِالْمَدِينَةِ وَالظّاهِرُ أَنّ هَذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنّهُ جَمَعَهُمْ وَنَادَى فِيهِمْ لِحُضُورِ الْخُطْبَةِ وَقَدْ شَهِدَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا هَذِهِ الْخُطْبَةَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِهِ . وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعَلّمَهُمْ فِي كُلّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذَا حَضَرَ فِعْلُهُ فَأَوْلَى الْأَوْقَاتِ بِهِ الْجُمُعَةُ الّتِي يَلِيهَا خُرُوجُهُ وَالظّاهِرُ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْجُمُعَةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْضُ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ اجْتَمَعَ إلَيْهِ الْخَلْقُ وَهُوَ أَحْرَصُ النّاسِ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ الدّينَ وَقَدْ حَضَرَ ذَلِكَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجّ مُمْكِنٌ بِلَا تَفْوِيتٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَلَمّا عَلِمَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ ، أَنّ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ أَوّلَهُ بِأَنْ قَالَ مَعْنَاهُ أَنّ انْدِفَاعَهُ مِنْ ذ ِي الْحُلَيْفَةِ كَانَ لِخَمْسٍ قَالَ وَلَيْسَ بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ إلّا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ فَقَطْ فَلَمْ تُعَدّ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ الْقَرِيبَةُ لِقِلّتِهَا ، وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ . قَالَ وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ لِذِي الْقَعْدَةِ لَكَانَ خُرُوجُهُ بِلَا شَكّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنّ الْجُمُعَةَ لَا تُصَلّى أَرْبَعًا ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَسٌ ، أَنّهُمْ صَلّوْا الظّهْرَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا قَالَ وَيَزِيدُهُ [ ص 99 ] سَاقَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيّ ، حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : قَلّمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ إذَا خَرَجَ إلّا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَبَطَلَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَنَسٍ وَبَطَلَ خُرُوجُهُ يَوْمَ السّبْتِ لِأَنّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ . قَالَ وَأَيْضًا قَدْ صَحّ مَبِيتُهُ بِذِي الْحُلَيْفَة ِ اللّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ مِنْ يَوْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ ،

فَكَانَ يَكُونُ انْدِفَاعُهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة ِ يَوْمَ الْأَحَدِ يَعْنِي : لَوْ كَانَ خُرُوجُهُ يَوْمَ السّبْتِ وَصَحّ مَبِيتُهُ بِذِي طُوَى لَيْلَةَ دُخُولِهِ مَكّةَ ، وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ دَخَلَهَا صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجّةِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مُدّةُ سَفَرِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ سَبْعَةَ أَيّامٍ لِأَنّهُ كَانَ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ بَقَيْنَ لِذِي الْقَعْدَةِ وَاسْتَوَى عَلَى مَكّةَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَفِي اسْتِقْبَالِ اللّيْلَةِ الرّابِعَةِ فَتِلْكَ سَبْعُ لَيَالٍ لَا مَزِيدَ وَهَذَا خَطَأٌ بِإِجْمَاعٍ وَأَمْرٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ ، فَصَحّ أَنّ خُرُوجَهُ كَانَ لِسِتّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَائْتَلَفَتْ الرّوَايَاتُ كُلّهَا ، وَانْتَفَى التّعَارُضُ عَنْهَا بِحَمْدِ اللّهِ انْتَهَى . قُلْت : هِيَ مُتَآلِفَةٌ مُتَوَافِقَةٌ وَالتّعَارُضُ مُنْتَفٍ عَنْهَا مَعَ خُرُوجِهِ يَوْمَ السّبْتِ وَيَزُولُ عَنْهَا الِاسْتِكْرَاهُ الّذِي أَوّلَهَا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَمّا قَوْلُ أَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ : لَوْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى آخِرِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ يَصِحّ أَنْ يَخْرُجَ لِخَمْسٍ وَيَكُونُ خُرُوجُهُ يَوْمَ السّبْتِ وَاَلّذِي غَرّ أَبَا مُحَمّدٍ أَنّهُ رَأَى الرّاوِيَ قَدْ حَذَفَ التّاءَ مِنْ الْعَدَدِ وَهِيَ إنّمَا تُحْذَفُ مِنْ الْمُؤَنّثِ فَفَهِمَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ وَهَذَا إنّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَلَوْ كَانَ يَوْمَ السّبْتِ لَكَانَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقَيْنَ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِ فَإِنّهُ لَوْ كَانَ [ ص 100 ] بَقَيْنَ وَإِنّمَا يَكُونُ لِسِتّ لَيَالٍ بَقَيْنَ وَلِهَذَا اُضْطُرّ إلَى أَنْ يُؤَوّلَ الْخُرُوجَ الْمُقَيّدَ بِالتّارِيخِ الْمَذْكُورِ بِخَمْسٍ عَلَى الِانْدِفَاعِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ كَانَ نَاقِصًا ، فَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَارِيخِ الْخُرُوجِ بِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الشّهْرِ وَهَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَالنّاسِ فِي تَوَارِيخِهِمْ أَنْ يُؤَرّخُوا بِمَا بَقِيَ مِنْ الشّهْرِ بِنَاءً عَلَى كَمَالِهِ ثُمّ يَقَعُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَظُهُورِ نَقْصِهِ كَذَلِكَ لِئَلّا يَخْتَلِفَ عَلَيْهِمْ التّارِيخُ فَيَصِحّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ كُتِبَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ وَيَكُونُ الشّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَأَيْضًا فَإِنّ الْبَاقِيَ كَانَ خَمْسَةَ أَيّامٍ بِلَا شَكّ بِيَوْمِ الْخُرُوجِ وَالْعَرَبُ إذَا اجْتَمَعَتْ اللّيَالِي وَالْأَيّامُ فِي التّارِيخِ غَلّبَتْ لَفْظَ اللّيَالِي لِأَنّهَا أَوّلُ الشّهْرِ وَهِيَ أَسْبَقُ مِنْ الْيَوْمِ فَتَذْكُرُ اللّيَالِيَ وَمُرَادُهَا الْأَيّامُ فَيَصِحّ أَنْ يُقَالَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ بِاعْتِبَارِ الْأَيّامِ وَيُذَكّرُ لَفْظُ الْعَدَدِ بِاعْتِبَارِ اللّيَالِي ، فَصَحّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ وَلَا يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَأَمّا حَدِيثُ كَعْبٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ قَطّ إلّا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَإِنّمَا فِيهِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ خُرُوجِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَقَيّدُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْغَزَوَاتِ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ . وَأَمّا قَوْلُهُ لَوْ خَرَجَ يَوْمَ السّبْتِ لَكَانَ خَارِجًا لِأَرْبَعٍ فَقَدْ تَبَيّنَ أَنّهُ لَا يَلْزَمُ لَا بِاعْتِبَارِ اللّيَالِي ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَيّام .
[ إكْمَالُ الْمُصَنّفِ لِسِيَاقِ حَجّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَأَمّا قَوْلُهُ إنّهُ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ اللّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ مِنْ يَوْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى آخِرِهِ فَإِنّهُ يَلْزَمُ مِنْ خُرُوجِهِ يَوْمَ السّبْتِ أَنْ تَكُونَ مُدّةُ سَفَرِهِ سَبْعَةَ أَيّامٍ فَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ فَإِنّهُ إذَا خَرَجَ يَوْمَ السّبْتِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الشّهْرِ خَمْسَةُ أَيّامٍ وَدَخَلَ مَكّةَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ فَبَيْنَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَدُخُولِهِ مَكّةَ تِسْعَةُ أَيّامٍ وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنّ الطّرِيقَ الّتِي سَلَكَهَا إلَى مَكّةَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهَا هَذَا الْمِقْدَارُ وَسَيْرُ الْعَرَبِ أَسْرَعُ مِنْ سَيْرِ الْحَضَرِ بِكَثِيرٍ وَلَا سِيّمَا مَعَ عَدَمِ الْمَحَامِلِ وَالْكَجّاوَاتِ وَالزّوَامِلِ الثّقَالِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 101 ] عُدْنَا إلَى سِيَاقِ حَجّهِ فَصَلّى الظّهْرَ بِالْمَدِينَةِ بِالْمَسْجِدِ أَرْبَعًا ، ثُمّ تَرَجّلَ وَادّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ وَخَرَجَ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَزَلَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلّى بِهَا الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ بَاتَ بِهَا وَصَلّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصّبْحَ وَالظّهْرَ فَصَلّى بِهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلّهُنّ مَعَهُ ، وَطَافَ عَلَيْهِنّ تِلْكَ اللّيْلَةَ ، فَلَمّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لِإِحْرَامِهِ غَيْرَ غُسْلِ الْجِمَاعِ الْأَوّلِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ حَزْمٍ أَنّهُ اغْتَسَلَ غَيْرَ الْغُسْلِ الْأَوّلِ لِلْجَنَابَةِ وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُ النّاسِ ذِكْرَهُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ عَمْدًا ، لِأَنّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ سَهْوًا مِنْهُ وَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إنّهُ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَجَرّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

[ حَجّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَارِنًا وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ]
وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخِطْمِيّ وَأُشْنَانٍ . ثُمّ طَيّبَتْهُ عَائِشَةُ بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ وَطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ حَتّى كَانَ وَبِيصُ الْمِسْكِ يُرَى فِي مَفَارِقِهِ وَلِحْيَتِهِ ثُمّ اسْتَدَامَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ ثُمّ لَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ ثُمّ صَلّى الظّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ فِي مُصَلّاهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى لِلْإِحْرَامِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ فَرْضِ الظّهْرِ . [ ص 102 ] وَقَلّدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بُدُنَهُ نَعْلَيْنِ ، وَأَشْعَرَهَا فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ فَشَقّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا ، وَسَلَتَ الدّمَ عَنْهَا وَإِنّمَا قُلْنَا : إنّهُ أَحْرَمَ قَارِنًا لِبَضْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا صَحِيحَةً صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ . أَحَدُهَا : مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ وَأَهْدَى ، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَثَانِيهَا : مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر سَوَاءٌ . وَثَالِثُهَا : مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ عَنْ اللّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ ، أَنّهُ قَرَنَ الْحَجّ إلَى الْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، ثُمّ قَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَابِعُهَا : مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ النّفَيْلِيّ ، حَدّثَنَا زُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ حَدّثَنَا إسْحَاقُ عَنْ مُجَاهِدٍ : سُئِلَ ابْنُ عُمَر َ كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَرّتَيْنِ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَر َ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الّتِي قَرَنَ بِحَجّتِهِ . [ ص 103 ] ابْنِ عُمَرَ : إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنّهُ أَرَادَ الْعُمْرَةَ الْكَامِلَةَ الْمُفْرَدَةَ وَلَا رَيْبَ أَنّهُمَا عُمْرَتَانِ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَتَيْنِ الْمُسْتَقِلّتَيْنِ وَعُمْرَةُ الْقِرَانِ وَاَلّتِي صُدّ عَنْهَا ، وَلَا رَيْبَ أَنّهَا أَرْبَعٌ . وَخَامِسُهَا : مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجّ ثَلَاثَ حِجَجٍ : حَجّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحَجّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ . رَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَغَيْرُهُ . وَسَادِسُهَا : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ النّفَيْلِيّ وَقُتَيْبَةَ قَالَا : حَدّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْعَطّارُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالثّانِيَةُ حِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى عُمْرَةٍ مِنْ قَابِلٍ وَالثّالِثَةُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ ، وَالرّابِعَةُ الّتِي قَرَنَ مَعَ حَجّتِهِ وَسَابِعُهَا : مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ أَتَانِي اللّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبّي عَزّ وَجَلّ ، فَقَالَ صَلّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجّةٍ وَثَامِنُهَا : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كُنْت مَعَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ أَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْيَمَنِ ، فَأَصَبْتُ مَعَهُ أَوَاقِيّ مِنْ ذَهَبٍ فَلَمّا قَدِمَ عَلِيّ مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ وَجَدْتُ فَاطِمَةَ قَدْ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغَات ، وَقَدْ نَضَحَتْ الْبَيْتَ بِنَضُوحٍ فَقَالَتْ مَا لَك ؟ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَحَلّوا ، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا : إنّي أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَأَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لِي : كَيْفَ صَنَعْتَ ؟ قَالَ قُلْتُ أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَإِنّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [ ص 104 ] وَتَاسِعُهَا : مَا رَوَاهُ النّسَائِيّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ الدّمَشْقِيّ ، حَدّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، حَدّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ ، عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ ، فَسَمِعَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يُلَبّي بِعُمْرَةٍ وَحَجّةٍ فَقَالَ أَلَمْ تَكُنْ تَنْهَى عَنْ هَذَا ؟ قَالَ بَلَى لَكِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَبّي بِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَمْ أَدَعْ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِكَ وَعَاشِرُهَا : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ سَمِعْتُ مُطَرّفًا قَالَ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أُحَدّثُك حَدِيثًا عَسَى اللّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجّةٍ وَعُمْرَةٍ ، ثُمّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرّمُهُ وَحَادِي عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَة ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ إنّمَا جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنّهُ عَلِمَ أَنّهُ لَا يَحُجّ بَعْدَهَا وَلَهُ طُرُقٌ صَحِيحَةٌ إلَيْهِمَا . [ ص 105 ] وَثَانِي عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ وَقَرَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ . وَثَالِثُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَرَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَفِيهِ الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ . وَرَابِعُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَخَامِسُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ الْبَزّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنّ ابْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ إنّمَا جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنّهُ عَلِمَ أَنّهُ لَا يَحُجّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ إنّ يَزِيدَ بْنَ عَطَاءٍ أَخْطَأَ فِي إسْنَادِهِ وَقَالَ آخَرُونَ لَا سَبِيلَ إلَى تَخْطِئَتِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ . وَسَادِسُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، [ ص 106 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ ، وَفِيهِ الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَحَدِيثُهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ مَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِشَيْءٍ أَوْ يُخَالِفُ الثّقَاتِ . وَسَابِعُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أَهِلّوا يَا آَلَ مُحَمّدٍ بِعُمْرَةٍ فِي حَجّ وَثَامِنُ عَشْرِهَا : مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا شَأْنُ النّاسِ حَلّوا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟ قَالَ إنّي قَلّدْتُ هَدْيِي ، وَلَبّدْتُ رَأْسِي ، فَلَا أَحِلّ حَتَى أَحِلّ مِنْ الْحَجّ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ فِي عُمْرَةٍ مَعَهَا حَجّ ، فَإِنّهُ لَا يَحِلّ مِنْ الْعُمْرَةِ حَتّى يَحِلّ مِنْ الْحَجّ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ أَلْزَمُ لِأَنّ الْمُعْتَمِرَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً لَا يَمْنَعُهُ عِنْدَهُمَا الْهَدْيُ مِنْ التّحَلّلِ وَإِنّمَا يَمْنَعُهُ عُمْرَةُ الْقِرَانِ فَالْحَدِيثُ عَلَى أَصْلِهِمَا نَصّ .

وَتَاسِعُ عَشْرِهَا : مَا رَوَاهُ النّسَائِيّ ، وَالتّرْمِذِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَنّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَالضّحّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَهُمَا يَذْكُرَانِ التّمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ فَقَالَ الضّحّاكُ لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إلّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللّهِ فَقَالَ سَعْدٌ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي . قَالَ الضّحّاكُ فَإِنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ نَهَى عَنْ [ ص 107 ] قَالَ سَعْدٌ قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
[ الْقِرَانُ أَحَدُ نَوْعَيْ التّمَتّعِ وَهُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ ]
وَمُرَادُهُ بِالتّمَتّعِ هُنَا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ : أَحَدُ نَوْعَيْهِ وَهُوَ تَمَتّعُ الْقِرَانِ فَإِنّهُ لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالصّحَابَةُ الّذِينَ شَهِدُوا التّنْزِيلَ وَالتّأْوِيلَ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ فَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ ، وَأَيْضًا : فَإِنّ الّذِي صَنَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ مُتْعَةُ الْقِرَانِ بِلَا شَكّ كَمَا قَطَعَ بِهِ أَحْمَدُ ، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَمَتّعْنَا مَعَهُ . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَهُوَ الّذِي قَالَ لِمُطَرّفٍ أُحَدّثُك حَدِيثًا عَسَى اللّهُ أَنْ يَنْفَعَك بِهِ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجّ وَعُمْرَةٍ ثُمّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتّى مَاتَ . وَهُوَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فَأَخْبَرَ عَنْ قِرَانِهِ بِقَوْلِهِ تَمَتّعَ وَبِقَوْلِهِ جَمَعَ بَيْنَ حَجّ وَعُمْرَةٍ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا ، مَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ اجْتَمَعَ عَلِيّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ ، فَقَالَ كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيّ : مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَنْهَى عَنْهُ ؟ قَالَ عُثْمَانُ : دَعْنَا مِنْك ، فَقَالَ إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك ، فَلَمّا أَنْ رَأَى عَلِيّ ذَلِكَ أَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيّ : اخْتَلَفَ عَلِيّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ عَلِيّ : مَا تُرِيدُ إلّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيّ ، أَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ شَهِدْتُ عُثْمَانَ [ ص 108 ] وَعَلِيّا ، وَعُثْمَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمّا رَأَى عَلِيّ ذَلِكَ أَهَلّ بِهِمَا : لَبّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجّةٍ وَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنّةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ . فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، كَانَ مُتَمَتّعًا عِنْدَهُمْ وَأَنّ هَذَا هُوَ الّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ وَافَقَهُ عُثْمَانُ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَمّا قَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَنْهَى عَنْهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْلَا أَنّهُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ لَأَنْكَرَهُ ثُمّ قَصَدَ عَلِيّ إلَى مُوَافَقَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيَانُ أَنّ فِعْلَهُ لَمْ يُنْسَخْ وَأَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا تَقْرِيرًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ وَمُتَابَعَتِهِ فِي الْقِرَانِ وَإِظْهَارًا لِسُنّةٍ نَهَى عَنْهَا عُثْمَانُ مُتَأَوّلًا ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلّ تَمَامَ الْعِشْرِينَ . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطّأِ " ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجّ مَعَ الْعُمْرَةِ ، ثُمّ لَا يَحِلّ حَتّى يَحِلّ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَمَعْلُومٌ أَنّهُ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَهُوَ أَوْلَى مَنْ بَادَرَ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَقَدْ دَلّ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا وَنَذْكُرُهَا . وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى إيجَابِ الْقِرَانِ عَلَى مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَالتّمَتّعِ بِالْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ مِنْهُمْ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ وَجَمَاعَةٌ فَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَمّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ فَإِنّهُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَأَمَرَ كُلّ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِالْفَسْخِ إلَى عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ نَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوْ كَمَا أَمَرَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحّ مِنْ قَوْلِ [ ص 109 ] كَثِيرَةٍ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . الثّانِي وَالْعِشْرُونَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . قَالَ صَلّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَة ِ الظّهْرَ أَرْبَعًا ، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَة ِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا حَتّى أَصْبَحَ ثُمّ رَكِبَ حَتّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ ، حَمِدَ اللّهَ وَسَبّحَ [ وَكَبّرَ ] ثُمّ أَهَلّ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلّ النّاسُ بِهِمَا ، فَلَمّا قَدِمْنَا ، أَمَرَ النّاسَ فَحَلّوا ، حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ التّرْوِيَةِ أَهَلّوا بِالْحَجّ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا : عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَبّي بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ، قَالَ بَكْرٌ فَحَدّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ فَلَقِيتُ أَنَسًا ، فَحَدّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ مَا تَعُدّونَنَا إلّا صِبْيَانًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَبّيْكَ عُمْرَةً وحَجّا وَبَيْنَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي السّنّ سَنَةٌ أَوْ سَنَةٌ وَشَيْءٌ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إسْحَاقَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ ، وَحُمَيْدٍ أَنّهُمْ سَمِعُوا أَنَسًا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِهِمَا لَبّيْكَ عُمْرَةً وحَجّا وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَبّيْكَ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ مَعًا [ ص 110 ] النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَبّي بِهِمَا . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ حِينَ صَلّى الظّهْرَ وَرَوَى الْبَزّارُ ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِحَجّ وَعُمْرَة وَمِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ وَعَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ . وَذَكَرَ وَكِيعٌ : حَدّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْت أَنَسًا مِثْلَهُ قَالَ وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ وَذَكَرَ الْخُشَنِيّ : حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فَذَكَرَهَا وَقَالَ وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجّتِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ فَهَؤُلَاءِ سِتّةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ الثّقَاتِ كُلّهُمْ مُتّفِقُونَ عَنْ أَنَسٍ أَنّ لَفْظَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إهْلَالًا بِحَجّ وَعُمْرَةٍ مَعًا ، وَهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ ، وَأَبُو قِلَابَةَ ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الطّوِيلُ ، وَقَتَادَةُ : وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيّ ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ ، وَسُلَيْمَانُ التّيْمِيّ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إسْحَاقَ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَمُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ ، وَأَبُو أَسْمَاءَ ، وَأَبُو قُدَامَةَ عَاصِمُ بْنُ حُسَيْنٍ وَأَبُو قَزَعَةَ وَهُوَ سُوَيْدُ بْنُ حَجَرٍ الْبَاهِلِيّ . [ ص 111 ] أَنَسٍ عَنْ لَفْظِ إهْلَالِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ وَهَذَا عَلِيّ وَالْبَرَاءُ يُخْبِرَانِ عَنْ إخْبَارِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِرَانِ وَهَذَا عَلِيّ أَيْضًا ، يُخْبِرُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَهُ وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَبّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَهُ وَعَلّمَهُ اللّفْظَ الّذِي يَقُولُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَهَذَا عَلِيّ أَيْضًا يُخْبِرُ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَبّي بِهِمَا جَمِيعًا ، وَهَؤُلَاءِ بَقِيّةُ مَنْ ذَكَرْنَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِأَنّهُ فَعَلَهُ وَهَذَا هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُ بِهِ آلَهُ وَيَأْمُرُ بِهِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ .

وَهَؤُلَاءِ الّذِينَ رَوَوْا الْقِرَانَ بِغَايَةِ الْبَيَانِ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِين ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بِإِقْرَارِهِ لِعَلِيّ وَتَقْرِيرِ عَلِيّ لَهُ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَحَفْصَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِين َ ، وَأَبُو قَتَادَةَ ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَأَبُو طَلْحَةَ وَالْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَاد ٍ وَأُمّ سَلَمَةَ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى فِعْلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى لَفْظَ إحْرَامِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى خَبَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى أَمْرَهُ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجْعَلُونَ مِنْهُمْ ابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا ، وَعَائِشَةَ وَابْنَ عَبّاسٍ ؟ وَهَذِهِ عَائِشَةُ تَقُولُ أَهَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجّ وَفِي لَفْظٍ أَفْرَدَ الْحَجّ وَالْأَوّلُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " ، وَالثّانِي فِي مُسْلِم ٍ وَلَهُ لَفْظَانِ هَذَا أَحَدُهُمَا وَالثّانِي: أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرِدًا وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يَقُول: لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ ، وَهَذَا ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ وَأَهَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ [ ص 112 ] جَابِر ٌ يَقُولُ أَفْرَدَ الْحَجّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . قِيلَ إنْ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ هَؤُلَاءِ تَعَارَضَتْ وَتَسَاقَطَتْ فَإِنّ أَحَادِيثَ الْبَاقِينَ لَمْ تَتَعَارَضْ فَهَبْ أَنّ أَحَادِيثَ مَنْ ذَكَرْتُمْ لَا حُجّةَ فِيهَا عَلَى الْقِرَانِ وَلَا عَلَى الْإِفْرَادِ لِتَعَارُضِهَا ، فَمَا الْمُوجِبُ لِلْعُدُولِ عَنْ أَحَادِيثِ الْبَاقِينَ مَعَ صَرَاحَتِهَا وَصِحّتِهَا ؟ فَكَيْفَ وَأَحَادِيثُهُمْ يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا ، وَإِنّمَا ظَنّ مَنْ ظَنّ التّعَارُضَ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِ بِمُرَادِ الصّحَابَةِ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ وَحَمْلِهَا عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ بَعْدَهُمْ . وَرَأَيْت لِشَيْخِ الْإِسْلَام ِ فَصْلًا حَسَنًا فِي اتّفَاقِ أَحَادِيثِهِمْ نَسُوقُهُ بِلَفْظِهِ قَالَ وَالصّوَابُ أَنّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ مُتّفِقَةٌ لَيْسَتْ بِمُخْتَلِفَةٍ إلّا اخْتِلَافًا يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنّ الصّحَابَةَ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنّهُ تَمَتّعَ وَالتّمَتّعُ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ وَاَلّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنّهُ أَفْرَدَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنّهُ تَمَتّعَ أَمّا الْأَوّلُ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ اجْتَمَعَ عَلِيّ وَعُثْمَان بِعُسْفَان ، وَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَنْهَى عَنْهُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ دَعْنَا مِنْك فَقَالَ إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك . فَلَمّا رَأَى عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ذَلِكَ أَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا . فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتّعًا عِنْدَهُمْ وَأَنّ هَذَا هُوَ الّذِي فَعَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ عَلَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ النّزَاعُ بَيْنَهُمَا ، هَلْ ذَلِكَ الْأَفْضَلُ فِي حَقّنَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ شُرِعَ فَسْخُ الْحَجّ إلَى الْعُمْرَةِ فِي حَقّنَا كَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ ؟ فَقَدْ اتّفَقَ عَلِيّ وَعُثْمَانُ عَلَى أَنّهُ تَمَتّعَ وَالْمُرَادُ بِالتّمَتّعِ عِنْدَهُمْ الْقِرَانُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ مُطَرّفٍ قَالَ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجّ وَعُمْرَةٍ ، ثُمّ إنّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرّمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 113 ] وَتَمَتّعْنَا مَعَهُ فَهَذَا عِمْرَانُ وَهُوَ مِنْ أَجَلّ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ أَخْبَرَ أَنّهُ تَمَتّعَ وَأَنّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقَارِنُ عِنْدَ الصّحَابَةِ مُتَمَتّعٌ وَلِهَذَا أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْهَدْيَ وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [ الْبَقَرَةُ 196 ] ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبّي فَقَالَ صَلّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجّةٍ قَالَ فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيّ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رُوِيَ عَنْهُمْ بِأَصَحّ الْأَسَانِيدِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجّ وَكَانُوا يُسَمّونَ ذَلِكَ تَمَتّعًا ، وَهَذَا أَنَسٌ يَذْكُرُ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَبّي بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا . وَمَا ذَكَرَهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَه فَجَوَابُهُ أَنّ الثّقَاتِ الّذِينَ هُمْ أَثْبَتُ فِي ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ مِثْلَ سَالِمٍ ابْنِهِ وَنَافِعٍ رَوَوْا عَنْهُ أَنّهُ قَالَ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ فِي ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ . فَتَغْلِيطُ بَكْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنْهُ وَأَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِهِ هُوَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُشْبِهُ أَنّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ أَفْرَدَ الْحَج فَظَنّ أَنّهُ قَالَ لَبّى بِالْحَجّ فَإِنّ إفْرَادَ الْحَجّ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ بِهِ إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجّ وَذَلِكَ رَدّ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ إنّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى فِيهِ سَعْيَيْنِ وَعَلَى مَنْ يَقُولُ إنّهُ حَلّ مِنْ إحْرَامِهِ فَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ تَرُدّ عَلَى هَؤُلَاءِ يُبَيّنُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجّ مُفْرَدًا ، وَفِي رِوَايَةٍ أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرِدًا فَهَذِهِ الرّوَايَةُ إذَا قِيلَ إنّ مَقْصُودَهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِحَجّ مُفْرِدًا ، قِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ بِإِسْنَادٍ أَصَحّ مِنْ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى [ ص 114 ] أَهَلّ بِالْحَجّ ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَمَا عَارَضَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ إمّا أَنْ يَكُونَ غَلَطًا عَلَيْهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مُوَافِقًا لَهُ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ لَمّا عَلِمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحِلّ ظَنّ أَنّهُ أَفْرَدَ كَمَا وَهِمَ فِي قَوْلِهِ إنّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَكَانَ ذَلِكَ نِسْيَانًا مِنْهُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا لَمْ يَحِلّ مِنْ إحْرَامِهِ وَكَانَ هَذَا حَالَ الْمُفْرِدِ ظَنّ أَنّهُ أَفْرَدَ ثُمّ سَاقَ حَدِيثَ الزّهْرِيّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَدِيثَ . وَقَوْلَ الزّهْرِيّ : وَحَدّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فَهَذَا مِنْ أَصَحّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسّنّةِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ مِنْ أَصَحّ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ، الرّابِعَةُ مَعَ حَجّتِه وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجّ بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَيَتَعَيّنُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتّعًا تَمَتّعَ قِرَانٍ أَوْ التّمَتّعَ الْخَاصّ . وَقَدْ صَحّ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " الصّحِيحِ " . قَالَ وَأَمّا الّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ إفْرَادُ الْحَجّ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَالثّلَاثَةُ نُقِلَ عَنْهُمْ التّمَتّعُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنّهُ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِهِمَا ، وَمَا صَحّ فِي ذَلِكَ عَنْهُمَا ، فَمَعْنَاهُ إفْرَادُ أَعْمَالِ الْحَجّ أَوْ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ غَلَطٌ كَنَظَائِرِهِ فَإِنّ أَحَادِيثَ التّمَتّعِ مُتَوَاتِرَةٌ رَوَاهَا أَكَابِرُ الصّحَابَةِ كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيّ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَرَوَاهَا أَيْضًا : عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ بَلْ رَوَاهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصّحَابَةِ . [ ص 115 ] وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبّاسٍ عَلَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَر وَإِنّمَا وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ فِي كَوْنِ إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ وَكُلّهُمْ قَالُوا : وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجّتِهِ وَهُمْ سِوَى ابْنِ عَبّاسٍ . قَالُوا : إنّه أَفْرَدَ الْحَجّ وَهُمْ سِوَى أَنَسٍ قَالُوا : تَمَتّعَ . فَقَالُوا : هَذَا ، وَهَذَا ، وَهَذَا ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ فَإِنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعَ قِرَانٍ وَأَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجّ وَقَرَنَ بَيْنَ النّسُكَيْنِ وَكَانَ قَارِنًا بِاعْتِبَارِ جَمْعِهِ بَيْنَ النّسُكَيْنِ وَمُفْرِدًا بِاعْتِبَارِ اقْتِصَارِهِ عَلَى أَحَدِ الطّوَافَيْنِ وَالسّعْيَيْنِ وَمُتَمَتّعًا تَرَفّهَهُ بِتَرْكِ أَحَدِ السّفَرَيْنِ . وَمَنْ تَأَمّلَ أَلْفَاظَ الصّحَابَةِ ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَاعْتَبَرَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَفَهِمَ لُغَةَ الصّحَابَةِ أَسْفَرَ لَهُ صُبْحُ الصّوَابِ وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلْمَةُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ وَاَللّهُ الْهَادِي لِسَبِيلِ الرّشَادِ وَالْمُوَفّقُ لِطَرِيقِ السّدَادِ .
[ الرّدّ عَلَى مَنْ ادّعَى حَجّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفْرِدًا ]
فَمَنْ قَالَ إنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ وَأَرَادَ بِهِ أَنّهُ أَتَى بِالْحَجّ مُفْرِدًا ، ثُمّ فَرَغَ مِنْهُ وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ بَعْدَهُ مِنْ التّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ فَهَذَا غَلَطٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا التّابِعِينَ وَلَا الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا ، لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ فَوَهْمٌ أَيْضًا ، وَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ تَرُدّهُ كَمَا تَبَيّنَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُفْرِدْ لِلْعُمْرَةِ أَعْمَالًا ، فَقَدْ أَصَابَ وَعَلَى قَوْلِهِ تَدُلّ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ . وَمَنْ قَالَ إنّهُ قَرَنَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ طَافَ لِلْحَجّ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ وَسَعَى لِلْحَجّ سَعْيًا ، وَلِلْعُمْرَةِ سَعْيًا ، فَالْأَحَادِيثُ الثّابِتَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ . وَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ قَرَنَ بَيْنَ النّسُكَيْنِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا ، فَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ هُوَ الصّوَابُ .
[ الرّدّ عَلَى مَنْ ادّعَى حَجّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَمَتّعًا ]
وَمَنْ قَالَ إنّهُ تَمَتّعَ فَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا حَلّ مِنْهُ ثُمّ أَحْرَمَ بِالْحَجّ [ ص 116 ] أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا لَمْ يَحِلّ مِنْهُ بَلْ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ أَيْضًا ، وَهُوَ أَقَلّ غَلَطًا ، وَإِنْ أَرَادَ تَمَتّعَ الْقِرَانِ فَهُوَ الصّوَابُ الّذِي تَدُلّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الثّابِتَةِ وَيَأْتَلِفُ بِهِ شَمْلُهَا ، وَيَزُولُ عَنْهَا الْإِشْكَالُ وَالِاخْتِلَافُ .

فَصْلٌ [ غَلَطُ النّاسِ فِي عُمَرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
غَلِطَ فِي عُمَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسُ طَوَائِفَ . إحْدَاهَا : مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنّ عُمَرَهُ مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَمْ يَخْرُجْ فِي رَجَبٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتّةَ . الثّانِيَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ فِي شَوّال وَهَذَا أَيْضًا وَهْمٌ وَالظّاهِرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ بَعْضَ الرّوَاةِ غَلِطَ فِي هَذَا ، وَأَنّهُ اعْتَكَفَ فِي شَوّالٍ فَقَالَ اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ ، لَكِنّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَقَوْلَهُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ عُمْرَةً فِي شَوّالٍ وَعُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يَدُلّ عَلَى أَنّ عَائِشَةَ أَوْ مَنْ دُونَهَا ، إنّمَا قَصَدَ الْعُمْرَةَ . الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ حَجّهِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنّمَا يَظُنّهُ الْعَوَامّ ، وَمَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالسّنّةِ . الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي حَجّتِهِ أَصْلًا ، وَالسّنّةُ الصّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ الّتِي لَا يُمْكِنُ رَدّهَا تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ . الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا ، ثُمّ أَحْرَمَ بَعْدَهَا بِالْحَجّ مِنْ مَكّةَ ، وَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَتَرُدّهُ [ ص 117 ]
فَصْلٌ [ غَلَطُ النّاسِ فِي حَجّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَوَهِمَ فِي حَجّهِ خَمْسُ طَوَائِفَ . الطّائِفَةُ الْأُولَى : الّتِي قَالَتْ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ . الثّانِيَةُ مَنْ قَالَ حَجّ مُتَمَتّعًا تَمَتّعًا حَلّ مِنْهُ ثُمّ أَحْرَمَ بَعْدَهُ بِالْحَجّ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ حَجّ مُتَمَتّعًا تَمَتّعًا لَمْ يَحِلّ مِنْهُ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَلَمْ يَكُنْ قَارِنًا ، كَمَا قَالَهُ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ قُدَامَة َ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " وَغَيْرُهُ . الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ حَجّ قَارِنًا قِرَانًا طَافَ لَهُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُ سَعْيَيْنِ . الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا ، وَاعْتَمَرَ بَعْدَهُ مِنْ التّنْعِيمِ .
فَصْلٌ [ غَلَطُ النّاسِ فِي إحْرَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَغَلِطَ فِي إحْرَامِهِ خَمْسُ طَوَائِفَ . إحْدَاهَا : مَنْ قَالَ لَبّى بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا ، وَاسْتَمَرّ عَلَيْهَا . الثّانِيَةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ ، وَاسْتَمَرّ عَلَيْه . الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْحَجّ مُفْرَدًا ، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَزَعَمَ أَنّ ذَلِكَ خَاصّ بِهِ . الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا ، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ فِي ثَانِي الْحَالِ . الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيّنْ فِيهِ نُسُكًا ، ثُمّ عَيّنَهُ بَعْدَ إحْرَامِهِ . [ ص 118 ] أَحْرَمَ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا مِنْ حِينِ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَحِلّ حَتّى حَلّ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا . وَسَاقَ الْهَدْيَ كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ النّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ الّتِي تَوَاتَرَتْ تَوَاتُرًا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي أَعْذَارِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ وَبَيَانِ مَنْشَأِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ
[ عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَجَبٍ ]
أَمّا عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ ، فَحَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ غَلّطَتْهُ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا ، كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسًا إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضّحَى ، قَالَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ . فَقَالَ بِدْعَةٌ . ثُمّ قُلْنَا لَهُ كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ أَرْبَعًا . إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدّ عَلَيْهِ قَالَ وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ فَقَالَ عُرْوَةُ : يَا أُمّهُ أَوْ يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ ؟ قَالَتْ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ يَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ، إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ . قَالَتْ يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً قَطّ إلّا وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطّ وَكَذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ ، وَابْنُ عَبّاسٍ : إنّ عُمَرَهُ كُلّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ .
فَصْلٌ [ عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَوّالٍ ]
وَأَمّا مَنْ قَالَ : اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ ، فَعُذْرُهُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطّأ ِ " ، عَنْ [ ص 119 ] ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ إلّا ثَلَاثًا ، إحْدَاهُنّ فِي شَوّالٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَكِنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا ، إمّا مِنْ هِشَامٍ وَإِمّا مِنْ عُرْوَةَ أَصَابَهُ فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا لَا يَصِحّ رَفْعُهُ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَلَيْسَ رِوَايَتُهُ مُسْنَدًا مِمّا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ فِي صِحّةِ النّقْلِ . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبّاسٍ ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالُوا : لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَإِنّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَة ِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيّةِ ، كَانَتَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةَ الْقِرَانِ إنّمَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ أَيْضًا كَانَتْ فِي أَوّلِ ذِي الْقَعْدَةِ وَإِنّمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ أَنّهُ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فِي شَوّالٍ لِلِقَاءِ الْعَدُوّ وَفَرَغَ مِنْ عَدُوّهِ وَقَسَمَ غَنَائِمَهُمْ وَدَخَلَ مَكّةَ لَيْلًا مُعْتَمِرًا مِنْ الْجِعْرَانَةِ ، وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا ، فَخَفِيَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَرّشٌ الْكَعْبِيّ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ الْحَجّ ]
وَأَمّا مَنْ ظَنّ أَنّهُ اعْتَمَرَ مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ الْحَجّ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ عُذْرًا ، فَإِنّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَفِيضِ مِنْ حَجّتِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ قَطّ ، وَلَا قَالَهُ إمَامٌ وَلَعَلّ ظَانّ هَذَا سَمِعَ أَنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ ، وَرَأَى أَنّ كُلّ مَنْ أَفْرَدَ الْحَجّ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا بُدّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَهُ إلَى التّنْعِيمِ ، فَنَزّلَ حَجّةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا عَيْنُ الْغَلَطِ . [ ص 120 ]
فَصْلٌ [ عُذْرُ مَنْ قَالَ لَمْ يَعْتَمِرْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّتِهِ ]
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي حَجّتِهِ أَصْلًا ، فَعُذْرُهُ أَنّهُ لَمّا سَمِعَ أَنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ ، وَعَلِمَ يَقِينًا أَنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجّتِهِ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ الْحَجّةِ اكْتِفَاءً مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ الْمُتَقَدّمَةِ وَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الصّحِيحَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ كَمَا تَقَدّمَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا ، وَقَدْ قَالَ هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا وَقَالَتْ حَفْصَةُ : مَا شَأْنُ النّاسِ حَلّوا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ : تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَابْنُ عَبّاس ٍ وَصَرّحَ أَنَسٌ ، وَابْنُ عَبّاسٍ وَعَائِشَةُ أَنّهُ اعْتَمَرَ فِي حَجّتِهِ وَهِيَ إحْدَى عُمَرِهِ الْأَرْبَعِ .
فَصْلٌ [ عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا ]
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ وَافَقَهُ فَعُذْرُهُمْ مَا صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمَتّعَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنّهُ تَمَتّعٌ حَلّ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنّهُ لَمْ يَحِلّ فَلَمّا أَخْبَرَ مُعَاوِيَةُ أَنّهُ قَصّرَ عَنْ رَأْسِهِ بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ ، وَحَدِيثُهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " دَلّ عَلَى أَنّهُ حَلّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي غَيْرِ حَجّةِ الْوَدَاعِ لِأَنّ مُعَاوِيَةَ إنّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ زَمَنَ الْفَتْحِ مُحْرِمًا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحِ " وَذَلِكَ فِي حَجّتِهِ " . وَالثّانِي : أَنّ فِي رِوَايَةِ النّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَذَلِكَ فِي أَيّامِ الْعَشْر وَهَذَا إنّمَا كَانَ فِي حَجّتِهِ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ لَهُ خَاصّةً [ ص 121 ] طَائِفَةً مِنْهُمْ خُصّوا بِالتّحْلِيلِ مِنْ الْإِحْرَامِ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ دُونَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الصّحَابَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ مِنْهُمْ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ . وَقَالُوا : مَنْ تَأَمّلَ الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَفِيضَةَ الصّحِيحَةَ تَبَيّنَ لَهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحِلّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ سَاقَ الْهَدْيَ .
فَصْلٌ فِي أَعْذَارِ الّذِينَ وَهِمُوا فِي صِفَةِ حَجّتِهِ
[عُذْرُ مَنْ قَالَ حَجّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفْرِدًا وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِيهِ ]
أَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا ، لَمْ يَعْتَمِرْ فِيهِ فَعُذْرُهُ مَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ فَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِعُمْرَةٍ وَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ ، وَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِحَجّ وَأَهَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجّ . وَقَالُوا : هَذَا التّقْسِيمُ وَالتّنْوِيعُ صَرِيحٌ فِي إهْلَالِهِ بِالْحَجّ وَحْدَهُ . وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرَدًا وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِالْحَجّ . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا نَنْوِي إلّا الْحَجّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ . [ ص 122 ] " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ حَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أنَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكّةَ ، أَنّهُ تَوَضّأَ ثُمّ طَافَ بِالْبَيْتِ [ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ] ، ثُمّ حَجّ أَبُو بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَكَانَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمّ حَجّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بالبَيْتَ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، ثُمّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، فَكَانَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوّلَ مِنْ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَا يَحِلّونَ وَقَدْ رَأَيْت أُمّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمّ إنّهُمَا لَا تَحِلّانِ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمّي أَنّهَا أَهَلّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمّا مَسَحُوا الرّكْنَ حَلّوا وَفِي" سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ، حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، ووُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجّةِ فَلَمّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَالَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلّ بِحَجّ فَلْيُهِلّ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلّ بِعُمْرَةٍ ثُمّ انْفَرَدَ وُهَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ بِأَنْ قَالَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّي لَوْلَا أَنّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ وَأَمّا أَنَا فَأُهِلّ بِالْحَجّ فَصَحّ بِمَجْمُوعِ الرّوَايَتَيْنِ أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرَدًا فَأَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عُذْرُهُمْ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى ، وَلَكِنْ مَا عُذْرُهُمْ فِي حُكْمِهِ وَخَبَرِهِ الّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْت ، وَخَبَرُ مَنْ هُوَ تَحْتَ بَطْنِ نَاقَتِهِ وَأَقْرَبُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْدَقِ النّاسِ يَسْمَعُهُ [ ص 123 ] لَبّيْكَ بِحَجّةٍ وَعُمْرَةٍ وَخَبَرُ مَنْ هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النّاسِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ يُخْبِرُ أَنّهُ أَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَلَبّى بِهِمَا جَمِيعًا ، وَخَبَرُ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ فِي تَقْرِيرِهِ لَهَا عَلَى أَنّهُ مُعْتَمِرٌ بِعُمْرَةٍ لَمْ يَحِلّ مِنْهَا ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، بَلْ صَدّقَهَا ، وَأَجَابَهَا بِأَنّهُ مَعَ ذَلِكَ حَاجّ ، وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُقِرّ عَلَى بَاطِلٍ يَسْمَعُهُ أَصْلًا ، بَلْ يُنْكِرُهُ . وَمَا عُذْرُهُمْ عَنْ خَبَرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْوَحْيِ الّذِي جَاءَهُ مِنْ رَبّهِ يَأْمُرُهُ فِيهِ أَنْ يُهِلّ بِحَجّةٍ فِي عُمْرَةٍ وَمَا عُذْرُهُمْ عَنْ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنّهُ قَرَنَ لِأَنّهُ عَلِمَ أَنّهُ لَا يَحُجّ بَعْدَهَا ، وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجّتِهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ قَالَ إنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتّةَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ إنّي أَفْرَدْت ، وَلَا أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبّي يَأْمُرُنِي بِالْإِفْرَادِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ : مَا بَالُ النّاسِ حَلّوا ، وَلَمْ تَحِلّ مِنْ حَجّتِك ، كَمَا حَلّوا هُمْ بِعُمْرَةٍ وَلَا قَالَ أَحَدٌ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَبّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ أَلْبَتّةَ وَلَا بِحَجّ مُفْرَدٍ وَلَا قَالَ أَحَدٌ : إنّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ الرّابِعَةَ بَعْدَ حَجّتِهِ وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُمْ سَمِعُوهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنّهُ قَارِنٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ إلّا بِأَنْ يُقَالَ لَمْ يَسْمَعُوهُ . وَمَعْلُوم قَطْعًا أَنّ تَطَرّقَ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ عَمّا فَهِمَهُ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ يَظُنّهُ كَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَطَرّقِ التّكْذِيبِ إلَى مَنْ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا وَإِنّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ فَإِنّ هَذَا لَا يَتَطَرّقُ إلَيْهِ إلّا التّكْذِيبُ بِخِلَافِ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَمّا ظَنّهُ مِنْ فِعْلِهِ وَكَانَ وَاهِمًا ، فَإِنّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْكَذِبِ وَلَقَدْ نَزّهَ اللّهُ عَلِيّا ، وَأَنَسًا ، وَالْبَرَاءَ وَحَفْصَةَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا : سَمِعْنَاهُ يَقُولُ كَذَا وَلَمْ يَسْمَعُوهُ وَنَزّهَهُ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ أَنْ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ وَأَبْطَلِ الْبَاطِلِ فَكَيْفَ وَاَلّذِينَ ذَكَرُوا الْإِفْرَادَ عَنْهُ لَمْ يُخَالِفُوا هَؤُلَاءِ فِي مَقْصُودِهِمْ وَلَا نَاقَضُوهُمْ وَإِنّمَا أَرَادُوا إفْرَادَ الْأَعْمَالِ وَاقْتِصَارَهُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرَدِ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرَدِ . وَمَنْ رَوَى عَنْهُمْ مَا يُوهِمُ خِلَافَ هَذَا ، فَإِنّهُ عَبّرَ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ كَمَا سَمِعَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : أَفْرَدَ الْحَجّ ، فَقَالَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَه فَحَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى . وَقَالَ سَالِمٌ ابْنُهُ عَنْهُ وَنَافِعٌ مَوْلَاهُ . إنّهُ تَمَتّعَ فَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ [ ص 124 ] ، فَهَذَا سَالِمٌ يُخْبِرُ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَكْرٌ وَلَا يَصِحّ تَأْوِيلُ هَذَا عَنْهُ بِأَنّهُ أُمِرَ بِهِ فَإِنّهُ فَسّرَهُ بِقَوْلِهِ وَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ ، وَكَذَا الّذِينَ رَوَوْا الْإِفْرَادَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، فَهُمَا : عُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ وَرَوَى الْقِرَانَ عَنْهَا عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْأَسْوَدِ يَرْوِي عَنْ عُرْوَةَ الْإِفْرَادَ ، وَالزّهْرِيّ يَرْوِي عَنْهُ الْقِرَانَ . فَإِنْ قَدّرْنَا تَسَاقُطَ الرّوَايَتَيْنِ سَلِمَتْ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ ، وَإِنْ حُمِلَتْ رِوَايَةُ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجّ تَصَادَقَتْ الرّوَايَاتُ وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا رَيْبَ أَنّ قَوْلَ عَائِشَةَ وَابْنَ عُمَرَ أَفْرَدَ الْحَج ، مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : الْإِهْلَالُ بِهِ مُفْرَدًا . الثّانِي : إفْرَادُ أَعْمَالِهِ . الثّالِثُ أَنّهُ حَجّ حَجّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجّ مَعَهَا غَيْرَهَا ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنّهَا كَانَتْ أَرْبَعَ مَرّاتٍ . وَأَمّا قَوْلُهُمَا : تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ وَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ ، فَحَكَيَا فِعْلَهُ فَهَذَا صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنًى وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ رَدّهُ بِالْمُجْمَلِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ مَا يُنَاقِضُ رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ عَنْهَا أَنّهُ قَرَنَ فَإِنّ الْقَارِنَ حَاجّ مُهِلّ بِالْحَجّ قَطْعًا ، وَعُمْرَتُهُ جُزْءٌ مِنْ حَجّتِهِ فَمَنْ أَخْبَرَ عَنْهَا أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ ، فَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ . فَإِنْ ضُمّتْ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ إلَى رِوَايَةِ عَمْرَةَ وَالْأَسْوَدِ ثُمّ ضُمّتَا إلَى رِوَايَةِ عُرْوَةَ تَبَيّنَ مِنْ مَجْمُوعِ الرّوَايَاتِ أَنّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، حَتّى لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ إلّا مَعْنَى الْإِهْلَالِ بِهِ مُفْرَدًا ، لَوَجَبَ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَقَوْلِ عَائِشَةَ أَوْ عُرْوَةَ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ فِي شَوّال ، إلّا أَنّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الصّحِيحَةَ الصّرِيحَةَ لَا سَبِيلَ أَصْلًا إلَى تَكْذِيبِ رُوَاتِهَا ، وَلَا تَأْوِيلِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مَا دَلّتْ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيمِ هَذِهِ الرّوَايَةِ الْمُجْمَلَةِ الّتِي قَدْ اضْطَرَبَتْ عَلَى رُوَاتِهَا ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُمْ فِيهَا ، وَعَارَضَهُمْ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ عَلَيْهَا . [ ص 125 ] أَفْرَدَ الْحَجّ ، فَالصّرِيحُ مِنْ حَدِيثِهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ، وَإِنّمَا فِيهِ إخْبَارُهُ عَنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ لَا يَنْوُونَ إلّا الْحَجّ فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبّى بِالْحَجّ مُفْرَدًا . وَأَمّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ ، فَلَهُ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَجْوَدُهَا : طَرِيقُ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهَذَا يَقِينًا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطّوِيلِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ وَمَرْوِيّ بِالْمَعْنَى ، وَالنّاسُ خَالَفُوا الدّرَاوَرْدِيّ فِي ذَلِكَ . وَقَالُوا : أَهَلّ بِالْحَجّ ، وَأَهَلّ بِالتّوْحِيدِ . وَالطّرِيقُ الثّانِي : فِيهَا مُطَرّفُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ جَعْفَرٍ وَمُطَرّفٍ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ مَجْهُولٌ قُلْتُ لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ وَلَكِنّهُ ابْنُ أُخْتِ مَالِكٍ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيّ ، وَبِشْرُ بْنُ مُوسَى ، وَجَمَاعَةٌ . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَدُوقٌ مُضْطَرَبُ الْحَدِيثِ هُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْس ٍ وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ : يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ وَكَأَنّ أَبَا مُحَمّدِ بْنَ حَزْمٍ رَأَى فِي النّسْخَةِ مُطَرّفَ بْنَ مُصْعَبٍ فَجَهِلَهُ وَإِنّمَا هُوَ مُطَرّفُ أَبُو مُصْعَبٍ وَهُوَ مُطَرّفُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُطّرِفِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار ٍ . وَمِمّنْ غَلِطَ فِي هَذَا أَيْضًا، مُحَمّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذّهَبِيّ فِي كِتَابِهِ " الضّعَفَاءِ " فَقَالَ : مُطَرّفُ بْنُ مُصْعَبٍ الْمَدَنِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . قُلْتُ وَالرّاوِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، وَالدّرَاوَرْدِيّ ، وَمَالِكٍ هُوَ مُطَرّفُ أَبُو مُصْعَبٍ الْمَدَنِيّ ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرِ الْحَدِيثِ وَإِنّمَا غَرّهُ قَوْلُ ابْنِ عَدِيّ يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ ثُمّ سَاقَ لَهُ مِنْهَا ابْنُ عَدِيّ جُمْلَةً لَكِنْ هِيَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ كَذّبَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَالْبَلَاءُ فِيهَا مِنْهُ . وَالطّرِيقُ الثّالِثُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِيهَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهّابِ يُنْظَرُ فِيهِ مَنْ هُوَ وَمَا حَالُهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ إنْ كَانَ الطّائِفِيّ فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَعِينٍ ، ضَعِيفٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ سَاقِطٌ أَلْبَتّةَ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ ؟ قُلْت : لَيْسَ بِغَيْرِهِ بَلْ هُوَ الطّائِفِيّ يَقِينًا . وَبِكُلّ حَالٍ فَلَوْ صَحّ هَذَا عَنْ جَابِرٍ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرْوِيّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَائِرِ الرّوَاةِ الثّقَاتِ إنّمَا قَالُوا : [ ص 126 ] أَهَلّ بِالْحَجّ فَلَعَلّ هَؤُلَاءِ حَمَلُوهُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَقَالُوا: أَفْرَدَ الْحَج وَمَعْلُومٌ أَنّ الْعُمْرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَجّ فَمَنْ قَالَ : أَهَلّ بِالْحَج لَا يُنَاقِضُ مَنْ قَالَ أَهَلّ بِهِمَا ، بَلْ هَذَا فَصّلَ وَذَاكَ أَجْمَلَ . وَمَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَج يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ وَلَكِنْ هَلْ قَالَ أَحَدٌ قَطّ عَنْهُ إنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ " لَبّيْكَ بِحَجّةٍ مُفْرَدَةٍ " ، هَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ حَتّى لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمْ يُقَدّمْ عَلَى تِلْكَ الْأَسَاطِينِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا وَاَلّتِي لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهَا أَلْبَتّةَ وَكَانَ تَغْلِيطُ هَذَا أَوْ حَمْلُهُ عَلَى أَوّلِ الْإِحْرَامِ وَأَنّهُ صَارَ قَارِنًا فِي أَثْنَائِهِ مُتَعَيّنًا ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَقَدْ قَدّمْنَا عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ . رَوَاهُ زَكَرِيّا السّاجِيّ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الْقَطْوَانِيّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ، عَنْ سُفْيَانَ . وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَهَلّ بِالْحَجّ ، وَأَفْرَدَ بِالْحَجّ وَلَبّى بِالْحَجّ كَمَا تَقَدّمَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21