كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

مِسْكٌ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَطْيَبُ الطّيبِ الْمِسْكُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : كُنْتُ أُطَيّبُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ [ ص 363 ] . الْمِسْكُ مَلِكُ أَنْوَاعِ الطّيبِ وَأَشْرَفُهَا وَأَطْيَبُهَا ، وَهُوَ الّذِي تُضْرَبُ بِهِ الْأَمْثَالُ وَيُشَبّهُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يُشَبّهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ كُثْبَانُ الْجَنّةِ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ يَسُرّ النّفْسَ وَيُقَوّيهَا ، وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ جَمِيعَهَا شُرْبًا وَشَمّا ، وَالظّاهِرَةَ إذَا وُضِعَ عَلَيْهَا . نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَالْمَبْرُودِينَ لَا سِيّمَا زَمَنَ الشّتَاءِ جَيّدٌ لِلْغَشْيِ وَالْخَفَقَانِ وَضَعْفِ الْقُوّةِ بِإِنْعَاشِهِ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ وَيَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ وَيُنَشّفُ رُطُوبَتَهَا ، وَيَفُشّ الرّيَاحَ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَيُبْطِلُ عَمَلَ السّمُومِ وَيَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْأَفَاعِي ، وَمَنَافِعُهُ كَثِيرَةٌ جِدّا ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْمُفَرّحَاتِ .
مَرْزَنْجُوش
وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُ صِحّتَهُ عَلَيْكُمْ بالمَرْزَنْجُوش فَإِنّهُ جَيّدٌ لِلْخُشَامِ . وَالْخُشَامُ الزّكَامُ . وَهُوَ حَارّ فِي الثّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ يَنْفَعُ شَمّهُ مِنْ الصّدَاعِ الْبَارِدِ وَالْكَائِنِ عَنْ الْبَلْغَمِ وَالسّوْدَاءِ وَالزّكَامِ وَالرّيَاحِ الْغَلِيظَةِ وَيَفْتَحُ السّدُدَ الْحَادِثَةَ فِي الرّأْسِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَيُحَلّلُ أَكْثَرَ الْأَوْرَامِ الْبَارِدَةِ فَيَنْفَعُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَوْرَامِ وَالْأَوْجَاعِ الْبَارِدَةِ الرّطْبَةِ وَإِذَا اُحْتُمِلَ أَدَرّ الطّمْثَ وَأَعَانَ عَلَى الْحَبَلِ وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ الْيَابِسُ وَكُمِدَ بِهِ أَذْهَبَ آثَارَ الدّمِ الْعَارِضِ تَحْتَ الْعَيْنِ وَإِذَا ضُمّدَ بِهِ مَعَ الْخَلّ نَفَعَ لَسْعَةَ الْعَقْرَبِ . وَدُهْنُهُ نَافِعٌ لِوَجَعِ الظّهْرِ وَالرّكْبَتَيْنِ وَيُذْهِبُ بِالْإِعْيَاءِ وَمَنْ أَدْمَنَ شَمّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَإِذَا اُسْتُعِطَ بِمَائِهِ مَعَ دُهْنِ اللّوْزِ الْمُرّ فَتَحَ سُدُدَ الْمَنْخِرَيْنِ وَنَفَعَ مِنْ الرّيحِ الْعَارِضَةِ فِيهَا ، وَفِي الرّأْسِ . [ ص 364 ]
مِلْحٌ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِه " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ سَيّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ . وَسَيّدُ الشّيْءِ هُوَ الّذِي يُصْلِحُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَغَالِبُ الْإِدَامِ إنّمَا يَصْلُحُ بِالْمِلْحِ وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " مَرْفُوعًا : سَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا فِي النّاسِ مِثْلَ الْمِلْحِ فِي الطّعَامِ وَلَا يَصْلُحُ الطّعَامُ إلّا بِالْمِلْحِ . وَذَكَر الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيرِه " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا : إنّ اللّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الْحَدِيدَ وَالنّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ . وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ . الْمِلْحُ يُصْلِحُ أَجْسَامَ النّاسِ وَأَطْعِمَتَهُمْ وَيُصْلِحُ كُلّ شَيْءٍ يُخَالِطُهُ حَتّى الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَذَلِكَ أَنّ فِيهِ قُوّةً تَزِيدُ الذّهَبَ صُفْرَةً وَالْفِضّةَ بَيَاضًا ، وَفِيهِ جِلَاءٌ وَتَحْلِيلٌ وَإِذْهَابٌ لِلرّطُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ وَتَنْشِيفٌ لَهَا ، وَتَقْوِيَةٌ لِلْأَبْدَانِ وَمَنْعٌ مِنْ عُفُونَتِهَا وَفَسَادِهَا ، وَنَفْعٌ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرّحِ . وَإِذَا اُكْتُحِلَ بِهِ قَلَعَ اللّحْمَ الزّائِدَ مِنْ الْعَيْنِ وَمَحَقَ الظّفَرَة . والأندراني أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ مِنْ الِانْتِشَارِ وَيُحْدِرُ الْبَرَازَ وَإِذَا دُلِكَ بِهِ بُطُونُ أَصْحَابِ الِاسْتِسْقَاءِ نَفَعَهُمْ وَيُنَقّي الْأَسْنَانَ وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْعُفُونَةَ وَيَشُدّ اللّثَةَ وَيُقَوّيهَا ، وَمَنَافِعُهُ كَثِيرَةٌ جِدّا .

حَرْفُ النّونِ
نَخْلٌ
مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " [ ص 365 ] ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ أُتِيَ بِجُمّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ مِنْ الشّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا مَثَلُ الرّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا أَخْبِرُونِي مَا هِيَ ؟ فَوَقَعَ النّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهَا النّخْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النّخْلَةُ ثُمّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا أَصْغُرُ الْقَوْمِ سِنّا فَسَكَتّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هِيَ النّخْلَةُ " فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ كَذَا وَكَذَا .
[فَوَائِدُ حَدِيثِ النّخْلَةِ ]
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إلْقَاءُ الْعَالِمِ الْمَسَائِلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَمْرِينُهُمْ وَاخْتِبَارُ مَا عِنْدَهُمْ . وَفِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وَالتّشْبِيهُ . وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مِنْ الْحَيَاءِ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَإِجْلَالِهِمْ وَإِمْسَاكِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ . وَفِيهِ فَرَحُ الرّجُلِ بِإِصَابَةِ وَلَدِهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلصّوَابِ . وَفِيهِ أَنّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْوَلَدِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا يَعْرِفُ بِحَضْرَةِ أَبِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْأَبُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَيْهِ . وَفِيهِ مَا تَضَمّنَهُ تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ بِالنّخْلَةِ مِنْ كَثْرَةِ خَيْرِهَا وَدَوَامِ ظِلّهَا وَطِيبِ ثَمَرِهَا وَوُجُودِهِ عَلَى الدّوَامِ . وَثَمَرُهَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَبَلَحًا وَيَانِعًا وَهُوَ غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ وَقُوتٌ وَحَلْوَى وَشَرَابٌ وَفَاكِهَةٌ وَجُذُوعُهَا لِلْبِنَاءِ وَالْآلَاتِ وَالْأَوَانِي وَيُتّخَذُ مِنْ خُوصِهَا الْحُصُرُ وَالْمَكَاتِلُ وَالْأَوَانِي وَالْمَرَاوِحُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمِنْ لِيفِهَا الْحِبَالُ [ ص 366 ] نَوَاهَا عَلَفٌ لِلْإِبِلِ وَيَدْخُلُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَكْحَالِ ثُمّ جَمَالُ ثَمَرَتِهَا وَنَبَاتِهَا وَحُسْنُ هَيْئَتِهَا وَبَهْجَةُ مَنْظَرِهَا وَحُسْنُ نَضْدِ ثَمَرِهَا وَصَنْعَتِهِ وَبَهْجَتُهُ وَمَسَرّةُ النّفُوسِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَرُؤْيَتُهَا مُذَكّرَةٌ لِفَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ وَلَا شَيْءَ أَشْبَهُ بِهَا مِنْ الرّجُلِ الْمُؤْمِنِ إذْ هُوَ خَيْرٌ كُلّهُ وَنَفْعٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ . وَهِيَ الشّجَرَةُ الّتِي حَنّ جِذْعُهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا فَارَقَهُ شَوْقًا إلَى قُرْبِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَهِيَ الّتِي نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ لَمّا وَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ فِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ أَكْرِمُوا عَمّتَكُمْ النّخْلَةَ فَإِنّهَا خُلِقَتْ مِنْ الطّينِ الّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ
[اخْتِلَافُ النّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى الْحَبَلَةِ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى الْحَبَلَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمَا أَقْرَبَ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلّ سُلْطَانِهِ وَمَنْبَتِهِ وَالْأَرْضِ الّتِي تُوَافِقُهُ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ .
نَرْجِسُ
فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَصِحّ عَلَيْكُمْ بِشَمّ النّرْجِسِ فَإِنّ فِي الْقَلْبِ حَبّةَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ لَا يَقْطَعُهَا إلّا شَمّ النّرْجِسِ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ وَأَصْلُهُ يُدْمِلُ الْقُرُوحَ الْغَائِرَةَ إلَى الْعَصَبِ وَلَهُ قُوّةُ غُسَالَةٍ جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ وَإِذَا طُبِخَ وَشُرِبَ مَاؤُهُ أَوْ أُكِلَ مَسْلُوقًا هَيّجَ الْقَيْءَ وَجَذَبَ الرّطُوبَةَ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ وَإِذَا طُبِخَ مَعَ الْكِرْسِنّةِ وَالْعَسَلِ نَقّى أَوْسَاخَ الْقُرُوحِ وَفَجّرَ الدّبَيْلَاتِ الْعَسِرَةِ النّضْجِ . [ ص 367 ] شُقّ بَصَلُهُ صَلِيبًا وَغُرِسَ صَارَ مُضَاعَفًا وَمَنْ أَدْمَنَ شَمّهُ فِي الشّتَاءِ أَمِنَ مِنْ الْبِرْسَامِ فِي الصّيْفِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الرّأْسِ الْكَائِنَةِ مِنْ الْبَلْغَمِ وَالْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَفِيهِ مِنْ الْعِطْرِيّةِ مَا يُقَوّي الْقَلْبَ وَالدّمَاغَ وَيَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهَا . وَقَالَ صَاحِبُ التّيْسِيرِ : شَمّهُ يُذْهِبُ بِصَرْعِ الصّبْيَانِ .
نُورَةٌ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ : مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم كَانَ إذَا اطّلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنّورَةِ وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا عِدّةُ أَحَادِيثَ هَذَا أَمْثَلُهَا . قِيلَ إنّ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمّامَ وَصُنِعَتْ لَهُ النّورَةُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَأَصْلُهَا : كِلْسٌ جُزْءَانِ وَزَرْنِيخٌ جُزْءٌ يُخْلَطَانِ بِالْمَاءِ وَيُتْرَكَانِ فِي الشّمْسِ أَوْ الْحَمّامِ بِقَدْرِ مَا تَنْضَجُ وَتَشْتَدّ زُرْقَتُهُ ثُمّ يُطْلَى بِهِ وَيَجْلِسُ سَاعَةً رَيْثَمَا يَعْمَلُ وَلَا يُمَسّ بِمَاءٍ ثُمّ يُغْسَلُ وَيُطْلَى مَكَانُهَا بِالْحِنّاءِ لِإِذْهَابِ نَارِيّتِهَا .
نَبْقٌ
ذَكَر َ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ " الطّبّ النّبَوِيّ " مَرْفُوعًا : إنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ كَانَ أَوّلَ شَيْءٍ أَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا النّبْقُ وَقَدْ ذَكَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّبْقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ أَنّهُ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلَ قِلَالِ هَجَرَ وَالنّبْقُ ثَمَرُ شَجَرِ السّدْرِ يُعْقِلُ الطّبِيعَةَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْإِسْهَالِ وَيَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيُسَكّنُ الصّفْرَاءَ وَيَغْذُو الْبَدَنَ وَيُشَهّي الطّعَامَ وَيُوَلّدُ بَلْغَمًا وَيَنْفَعُ [ ص 368 ] وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصّحِيحُ أَنّ رَطْبُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ وَيَابِسَهُ بَارِدٌ يَابِسٌ

حَرْفُ الْهَاءِ
هِنْدَبَا
وَرَدَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَثْبُتُ مِثْلُهَا بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَحَدُهَا : كُلُوا الْهِنْدَبَاءَ وَلَا تَنْفُضُوهُ فَإِنّهُ لَيْسَ يَوْمٌ مِنْ الْأَيّامِ إلّا وَقَطَرَاتٌ مِنْ الْجَنّةِ تَقْطُرُ عَلَيْهِ .
الثّانِي : مَنْ أَكَلَ الْهِنْدَبَاءَ ثُمّ نَامَ عَلَيْهَا لَمْ يَحُلّ فِيهِ سُمّ وَلَا سِحْرٌ .
الثّالِثُ مَا مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَق ِ الْهِنْدَبَاءِ إلّا وَعَلَيْهَا قَطْرَةٌ مِنْ الْجَنّةِ . وَبَعْدُ فَهِيَ مُسْتَحِيلَةُ الْمِزَاجِ مُنْقَلِبَةٌ بِانْقِلَابِ فُصُولِ السّنَةِ فَهِيَ فِي الشّتَاءِ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ وَفِي الصّيْفِ حَارّةٌ يَابِسَةٌ وَفِي الرّبِيعِ وَالْخَرِيفِ مُعْتَدِلَةٌ وَفِي الْغَالِبِ أَحْوَالُهَا تَمِيلُ إلَى الْبُرُودَةِ وَالْيُبْسِ وَهِيَ قَابِضَةٌ مُبَرّدَةٌ جَيّدَةٌ لِلْمَعِدَةِ وَإِذَا طُبِخَتْ وَأُكِلَتْ بِخَلّ عَقَلَتْ الْبَطْنَ وَخَاصّةً الْبَرّيّ مِنْهَا فَهِيَ أَجْوَدُ لِلْمَعِدَةِ وَأَشَدّ قَبْضًا وَتَنْفَعُ مِنْ ضَعْفِهَا . وَإِذَا تُضُمّدَ بِهَا سَلَبَتْ الِالْتِهَابَ الْعَارِضَ فِي الْمَعِدَةِ وَتَنْفَعُ مِنْ النّقْرِسِ وَمِنْ أَوْرَامِ الْعَيْنِ الْحَارّةِ وَإِذَا تُضُمّدَ بِوَرَقِهَا وَأُصُولِهَا نَفَعَتْ مِنْ لَسْعِ الْعَقْرَبِ وَهِيَ تُقَوّي الْمَعِدَةَ وَتَفْتَحُ السّدَدَ الْعَارِضَةَ فِي الْكَبِدِ وَتَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِهَا حَارّهَا وَبَارِدُهَا وَتَفْتَحُ سُدَدَ الطّحَالِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَحْشَاءِ وَتُنَقّي مَجَارِيَ الْكُلَى . [ ص 369 ] وَأَنْفَعُهَا لِلْكَبِدِ أَمَرّهَا وَمَاؤُهَا الْمُعْتَصَرُ يَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ السّدَدِيّ وَلَا سِيّمَا إذَا خُلِطَ بِهِ مَاءُ الرازيانج الرّطْبُ وَإِذَا دُقّ وَرَقُهَا وَوُضِعَ عَلَى الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ بَرّدَهَا وَحَلّلَهَا وَيَجْلُو مَا فِي الْمَعِدَةِ وَيُطْفِئُ حَرَارَةَ الدّمِ وَالصّفْرَاءَ وَأَصْلَحَ مَا أُكِلَتْ غَيْرَ مَغْسُولَةٍ وَلَا مَنْفُوضَةٍ لِأَنّهَا مَتَى غُسِلَتْ أَوْ نُفِضَتْ فَارَقَتْهَا قُوّتُهَا وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ قُوّةٌ تِرْيَاقِيّةٌ تَنْفَعُ مِنْ جَمِيعِ السّمُومِ . وَإِذَا اُكْتُحِلَ بِمَائِهَا نَفَعَ مِنْ الْعَشَا وَيَدْخُلُ وَرَقُهَا فِي التّرْيَاقِ وَيَنْفَعُ مِنْ لَدْغِ الْعَقْرَبِ وَيُقَاوِمُ أَكْثَرَ السّمُومِ وَإِذَا اُعْتُصِرَ مَاؤُهَا وَصُبّ عَلَيْهِ الزّيْتُ خَلّصَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتّالَةِ وَإِذَا اُعْتُصِرَ أَصْلُهَا وَشُرِبَ مَاؤُهُ نَفَعَ مِنْ لَسْعِ الْأَفَاعِي وَلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَلَسْعِ الزّنْبُورِ وَلَبَنُ أَصْلِهَا يَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ .
حَرْفُ الْوَاوِ
وَرْسٌ
ذَكَرَ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِه " : مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَنْعَتُ الزّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ قَالَ قَتَادَةُ يُلَدّ بِهِ وَيُلَدّ مِنْ الْجَانِبِ الّذِي يَشْتَكِيهِ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَيْضًا قَالَ نَعَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَرْسًا وَقُسْطًا وَزَيْتًا يُلَدّ بِهِ . وَصَحّ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَتْ النّفَسَاءُ تَقْعُدُ بَعْدَ نِفَاسِهَا [ ص 370 ] وَكَانَتْ إحْدَانَا تَطْلِي الْوَرْسَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ الْكَلَف . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اللّغَوِيّ الْوَرْسُ يُزْرَعُ زَرْعًا وَلَيْسَ بِبَرّيّ وَلَسْتُ أَعْرِفُهُ بِغَيْرِ أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ بِلَادِ الْيَمَنِ . وَقُوّتُهُ فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي أَوّلِ الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَأَجْوَدُهُ الْأَحْمَرُ اللّيّنُ فِي الْيَدِ الْقَلِيلُ النّخَالَةِ يَنْفَعُ مِنْ الْكَلَفِ وَالْحَكّةِ وَالْبُثُورِ الْكَائِنَةِ فِي سَطْحِ الْبَدَنِ إذَا طُلِيَ بِهِ وَلَهُ قُوّةٌ قَابِضَةٌ صَابِغَةٌ وَإِذَا شُرِبَ نَفَعَ مِنْ الْوَضَحِ وَمِقْدَارُ الشّرْبَةِ مِنْهُ وَزْنُ دِرْهَمٍ . وَهُوَ فِي مِزَاجِهِ وَمَنَافِعِهِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَافِعِ الْقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَإِذَا لُطّخَ بِهِ عَلَى الْبَهَقِ وَالْحَكّةِ وَالْبُثُورِ وَالسّفْعَةِ نَفَعَ مِنْهَا وَالثّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ يُقَوّي عَلَى الْبَاهِ .
وَسْمَةٌ
هِيَ وَرَقُ النّيلِ وَهِيَ تُسَوّدُ الشّعْرَ وَقَدْ تَقَدّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الصّبْغِ بِالسّوَادِ وَمَنْ فَعَلَهُ .
حَرْفُ الْيَاءِ
يَقْطِينٌ
وَهُوَ الدّبّاءُ وَالْقَرْعُ وَإِنْ كَانَ الْيَقْطِينُ أَعَمّ فَإِنّهُ فِي اللّغَةِ كُلّ شَجَرٍ لَا تَقُومُ عَلَى سَاقُ كَالْبِطّيخِ وَالْقِثّاءِ وَالْخِيَارِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } [ الصّافّاتُ 146 ] .
[السّبَبُ فِي إطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْيَقْطِينِ اسْمَ الشّجَرِ ]
فَإِنْ قِيلَ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ يُسَمّى نَجْمًا لَا شَجَرًا وَالشّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ قَالَهُ أَهْلُ اللّغَةِ فَكَيْفَ قَالَ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ؟ . [ ص 371 ] أُطْلِقَ كَانَ مَا لَهُ سَاقٌ يَقُومُ عَلَيْهِ وَإِذَا قُيّدَ بِشَيْءٍ تَقَيّدَ بِهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيّدِ فِي الْأَسْمَاءِ بَابٌ مُهِمّ عَظِيمُ النّفْعِ فِي الْفَهْمِ وَمَرَاتِبِ اللّغَةِ . وَالْيَقْطِينُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ نَبَاتُ الدّبّاءِ وَثَمَرُهُ يُسَمّى الدّبّاءَ وَالْقَرْعَ وَشَجَرَةَ الْيَقْطِينِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ خَيّاطًا دَعَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَرّبَ إلَيْهِ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَتَبّعُ الدّبّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبّ الدّبّاءَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ . وَقَالَ أَبُو طَالُوتَ دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِك ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَأْكُلُ الْقَرْعَ وَيَقُولُ يَا لَك مِنْ شَجَرَةٍ مَا أَحَبّكِ إلَيّ لِحُبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاكَ . وَفِي " الْغَيْلَانِيّاتِ " : مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا عَائِشَةُ إذَا طَبَخْتُمْ قِدْرًا فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنْ الدّبّاءِ فَإِنّهَا تَشُدّ قَلْبَ الْحَزِينِ . الْيَقْطِينُ بَارِدٌ رَطْبٌ يَغْذُو غِذَاءً يَسِيرًا وَهُوَ سَرِيعُ الِانْحِدَارِ وَإِنْ لَمْ يَفْسُدْ قَبْلَ الْهَضْمِ تَوَلّدَ مِنْهُ خَلْطٌ مَحْمُودٌ وَمِنْ خَاصّيّتِهِ أَنّهُ يَتَوَلّدُ مِنْهُ خَلْطٌ مَحْمُودٌ مُجَانِسٌ لِمَا يَصْحَبُهُ فَإِنْ أُكِلَ بِالْخَرْدَلِ تَوَلّدَ مِنْهُ خَلْطٌ حِرّيفٌ وَبِالْمَلْحِ خَلْطٌ مَالِحٌ وَمَعَ الْقَابِضِ قَابِضٌ وَإِنْ طُبِخَ بِالسّفَرْجَلِ غَذَا الْبَدَنَ غِذَاءً جَيّدًا . وَهُوَ لَطِيفٌ مَائِيّ يَغْذُو غِذَاءً رَطْبًا بَلْغَمِيّا وَيَنْفَعُ الْمَحْرُورِينَ وَلَا يُلَائِمُ الْمَبْرُودِينَ وَمَنْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْبَلْغَمُ وَمَاؤُهُ يَقْطَعُ الْعَطَشَ وَيُذْهِبُ الصّدَاعَ [ ص 372 ] كَيْفَ اُسْتُعْمِلَ وَلَا يَتَدَاوَى الْمَحْرُورُونَ بِمِثْلِهِ وَلَا أَعْجَلَ مِنْهُ نَفْعًا . وَمِنْ مَنَافِعِهِ أَنّهُ إذَا لُطّخَ بِعَجِينٍ وَشُوِيَ فِي الْفُرْنِ أَوْ التّنّورِ وَاسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ وَشُرِبَ بِبَعْضِ الْأَشْرِبَةِ اللّطِيفَةِ سَكّنَ حَرَارَةَ الْحُمّى الْمُلْتَهِبَةَ وَقَطَعَ الْعَطَشَ وَغَذّى غِذَاءً حَسَنًا وَإِذَا شُرِبَ بترنجبين وَسَفَرْجَلٍ مُرَبّى أَسْهَلَ صَفْرَاءَ مَحْضَةً . وَإِذَا طُبِخَ الْقَرْعُ وَشُرِبَ مَاؤُهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَسَلٍ وَشَيْءٍ مِنْ نَطْرُونٍ أَحْدَرَ بَلْغَمًا وَمِرّةً مَعًا وَإِذَا دُقّ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ عَلَى الْيَافُوخِ نَفَعَ مِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ فِي الدّمَاغِ . وَإِذَا عُصِرَتْ جُرَادَتُهُ وَخُلِطَ مَاؤُهَا بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَقُطِرَ مِنْهَا فِي الْأُذُنِ نَفَعَتْ مِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ وَجُرَادَتُهُ نَافِعَةٌ مِنْ أَوْرَامِ الْعَيْنِ الْحَارّةِ وَمِنْ النّقْرِسِ الْحَارّ وَهُوَ شَدِيدُ النّفْعِ لِأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ وَالْمَحْمُومِينَ وَمَتَى صَادَفَ فِي الْمَعِدَةِ خَلْطًا رَدِيئًا اسْتَحَالَ إلَى طَبِيعَتِهِ وَفَسَدَ وَوَلّدَ فِي الْبَدَنِ خَلْطًا رَدِيئًا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ بِالْخَلّ وَالْمُرّيّ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْأَغْذِيَةِ وَأَسْرَعِهَا انْفِعَالًا وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهِ .

فَصْلٌ الوصايا الكلية لحفظ الصحة
[ مَحَاذِرُ طِبّيّةٌ لِابْنِ مَاسَوَيْهِ ]
وَقَدْ رَأَيْتُ أَنّ أَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ بِفَصْلٍ مُخْتَصَرٍ عَظِيمِ النّفْعِ فِي الْمَحَاذِرِ وَالْوَصَايَا الْكُلّيّةِ النّافِعَةِ لِتَتِمّ مَنْفَعَةُ الْكِتَابِ وَرَأَيْتُ لِابْن ِ مَاسُوَيْهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ " الْمَحَاذِيرِ " نَقَلْتُهُ بِلَفْظِهِ قَالَ [ ص 373 ] أَكَلَ الْبَصَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَلِفَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ افْتَصَدَ فَأَكَلَ مَالِحًا فَأَصَابَهُ بَهَقٌ أَوْ جَرَبٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ الْبَيْضَ وَالسّمَكَ فَأَصَابَهُ فَالِجٌ أَوْ لَقْوَةٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ دَخَلَ الْحَمّامَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ فَأَصَابَهُ فَالِجٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ اللّبَنَ وَالسّمَكَ فَأَصَابَهُ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ أَوْ نِقْرِسٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ اللّبَنَ وَالنّبِيذَ فَأَصَابَهُ بَرَصٌ أَوْ نِقْرِسٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ احْتَلَمَ فَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتّى وَطِئَ أَهْلَهُ فَوَلَدَتْ مَجْنُونًا أَوْ مُخْبَلًا فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ أَكَلَ بَيْضًا مَسْلُوقًا بَارِدًا وَامْتَلَأَ مِنْهُ فَأَصَابَهُ رَبْوٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ جَامَعَ فَلَمْ يَصْبِرْ حَتّى يَفْرُغَ فَأَصَابَهُ حَصَاةٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ لَيْلًا فَأَصَابَهُ لَقْوَةٌ أَوْ أَصَابَهُ دَاءٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
فَصْلٌ [ مَحَاذِرُ طِبّيّةٌ لِابْنِ بَخْتَيْشُوعَ ]
وَقَالَ ابْنُ بَخْتَيْشُوعَ احْذَرْ أَنْ تَجْمَعَ الْبَيْضَ وَالسّمَكَ فَإِنّهُمَا يُورِثَانِ الْقُولَنْجَ وَالْبَوَاسِيرَ وَوَجَعَ الْأَضْرَاسِ . وَإِدَامَةُ أَكْلِ الْبَيْضِ يُوَلّدُ الْكَلَفَ فِي الْوَجْهِ وَأَكْلُ الْمُلُوحَةِ وَالسّمَكِ الْمَالِحِ وَالِافْتِصَادُ بَعْدَ الْحَمّامِ يُوَلّدُ الْبَهَقَ وَالْجَرَبَ . [ ص 374 ] أَكْلِ كُلَى الْغَنَمِ يَعْقِرُ الْمَثَانَةَ . الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ بَعْدَ أَكْلِ السّمَكِ الطّرِيّ يُوَلّدُ الْفَالِجَ . وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ يُوَلّدُ الْجُذَامَ الْجِمَاعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهْرِيقَ الْمَاءَ عُقَيْبَهُ يُوَلّدُ الْحَصَاةَ طُولُ الْمُكْثِ فِي الْمَخْرَجِ يُوَلّدُ الدّاءَ الدّوِيّ .
[ وَصَايَا أبقراط ]
قَالَ أبقراط : الْإِقْلَالُ مِنْ الضّارّ خَيْرٌ مِنْ الْإِكْثَارِ مِنْ النّافِعِ . وَقَالَ اسْتَدِيمُوا الصّحّةَ بِتَرْكِ التّكَاسُلِ عَنْ التّعَبِ وَبِتَرْكِ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ .
[وَصَايَا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَغَيْرِه]
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ أَرَادَ الصّحّةَ فَلْيُجَوّدْ الْغِذَاءَ وَلْيَأْكُلْ عَلَى نَقَاءٍ وَلْيَشْرَبْ عَلَى ظَمَأٍ وَلْيُقْلِلْ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ وَيَتَمَدّدْ بَعْدَ الْغَدَاءِ وَيَتَمَشّ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَلَا يَنَمْ حَتّى يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْخَلَاءِ وَلْيَحْذَرْ دُخُولَ الْحَمّامِ عُقَيْبَ الِامْتِلَاءِ وَمَرّةً فِي الصّيْفِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرٍ فِي الشّتَاءِ وَأَكْلُ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ بِاللّيْل ِ مُعِينٌ عَلَى الْفِنَاءِ وَمُجَامَعَةُ الْعَجَائِزِ تُهْرِمُ أَعْمَارَ الْأَحْيَاءِ وَتُسْقِمُ أَبْدَانَ الْأَصِحّاءِ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِي رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يَصِحّ عَنْهُ وَإِنّمَا بَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ طَبِيبِ الْعَرَبِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ . وَقَالَ الْحَارِثُ : مَنْ سَرّهُ الْبَقَاءُ - وَلَا بَقَاءَ - فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ وَلْيُعَجّلْ الْعِشَاءَ وَلْيُخَفّفْ الرّدَاءَ وَلْيُقْلِلْ غَشَيَانَ النّسَاءِ . وَقَالَ الْحَارِثُ : أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تَهْدِمُ الْبَدَنَ الْجِمَاعُ عَلَى الْبِطْنَةِ وَدُخُولُ الْحَمّامِ عَلَى الِامْتِلَاءِ وَأَكْلُ الْقَدِيدِ وَجِمَاعُ الْعَجُوزِ . وَلَمّا احْتَضَرَ الْحَارِثُ اجْتَمَعَ إلَيْهِ النّاسُ فَقَالُوا : مُرْنَا بِأَمْرٍ نَنْتَهِي إلَيْهِ مِنْ بَعْدِ ك فَقَالَ لَا تَتَزَوّجُوا مِنْ النّسَاءِ إلّا شَابّةً وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ الْفَاكِهَةِ إلّا فِي أَوَانِ نُضْجِهَا وَلَا يَتَعَالَجَنّ أَحَدُكُمْ مَا احْتَمَلَ بَدَنُهُ الدّاءَ وَعَلَيْكُمْ بِتَنْظِيفِ الْمَعِدَةِ فِي كُلّ شَهْرٍ فَإِنّهَا مُذِيبَةٌ لِلْبَلْغَمِ مُهْلِكَةٌ لِلْمِرّةِ مُنْبِتَةٌ لِلّحْمِ وَإِذَا تَغَدّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنَمْ [ ص 375 ]
[وَصَايَا لِطَبِيبٍ]
وَقَالَ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِطَبِيبِهِ لَعَلّك لَا تَبْقَى لِي فَصِفْ لِي صِفَةً آخُذُهَا عَنْكُ فَقَالَ لَا تَنْكِحْ إلّا شَابّةً وَلَا تَأْكُلْ مِنْ اللّحْمِ إلّا فَتِيّا وَلَا تَشْرَبْ الدّوَاءَ إلّا مِنْ عِلّةٍ وَلَا تَأْكُلْ الْفَاكِهَةَ إلّا فِي نُضْجِهَا وَأَجِدْ مَضْغَ الطّعَامِ . وَإِذَا أَكَلْت نَهَارًا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَنَامَ وَإِذَا أَكَلْت لَيْلًا فَلَا تَنَمْ حَتّى تَمْشِيَ وَلَوْ خَمْسِينَ خُطْوَةً وَلَا تَأْكُلَنّ حَتّى تَجُوعَ وَلَا تَتَكَارَهَنّ عَلَى الْجِمَاعِ وَلَا تَحْبِسْ الْبَوْلَ وَخُذْ مِنْ الْحَمّامِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْك وَلَا تَأْكُلَنّ طَعَامًا وَفِي مَعِدَتِك طَعَامٌ وَإِيّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا تَعْجِزُ أَسْنَانُك عَنْ مَضْغِهِ فَتَعْجِزَ مَعِدَتُك عَنْ هَضْمِهِ وَعَلَيْك فِي كُلّ أُسْبُوعٍ بِقَيْئَةٍ تُنَقّي جِسْمَك وَنِعْمَ الْكَنْزُ الدّمُ فِي جَسَدِك فَلَا تُخْرِجْهُ إلّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَعَلَيْكَ بِدُخُولِ الْحَمّامِ فَإِنّهُ يُخْرِجُ مِنْ الْأَطْبَاقِ مَا لَا تَصِلُ الْأَدْوِيَةُ إلَى إخْرَاجِهِ .
[وَصَايَا لِلشّافِعِيّ]
وَقَالَ الشّافِعِيّ : أَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْبَدَنَ أَكْلُ اللّحْمِ وَشَمّ الطّيبِ وَكَثْرَةُ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلُبْسُ الْكَتّانِ . وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَدَنَ كَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَكَثْرَةُ الْهَمّ وَكَثْرَةُ شُرْبِ الْمَاءِ عَلَى الرّيقِ وَكَثْرَةُ أَكْلِ الْحَامِضِ . وَأَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْبَصَرَ الْجُلُوسُ حِيَالَ الْكَعْبَةِ وَالْكُحْلُ عِنْدَ النّوْمِ وَالنّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَتَنْظِيفُ الْمَجْلِسِ . وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَصَرَ النّظَرُ إلَى الْقَذَرِ وَإِلَى الْمَصْلُوبِ وَإِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَالْقُعُودُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ . وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْجِمَاعِ أَكْلُ الْعَصَافِيرِ والإطريفل وَالْفُسْتُقِ وَالْخَرّوبِ . [ ص 376 ] تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْكَلَامِ وَالسّوَاكُ وَمُجَالَسَةُ الصّالِحِينَ وَمُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ .
[ مَحَاذِرُ أَفْلَاطُونَ ]
وَقَالَ أَفْلَاطُونُ : خَمْسٌ يُذِبْنَ الْبَدَنَ وَرُبّمَا قَتَلْنَ قِصَرُ ذَاتِ الْيَدِ وَفِرَاقُ الْأَحِبّةِ وَتَجَرّعُ الْمَغَايِظِ وَرَدّ النّصْحِ وَضَحِكُ ذَوِي الْجَهْلِ بِالْعُقَلَاءِ .
[ مَحَاذِرُ لِطَبِيبِ الْمَأْمُونِ ]
وَقَالَ طَبِيبُ الْمَأْمُونِ : عَلَيْك بِخِصَالٍ مَنْ حَفِظَهَا فَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَعْتَلّ إلّا عِلّةَ الْمَوْتِ لَا تَأْكُلْ طَعَامًا وَفِي مَعِدَتِك طَعَامٌ وَإِيّاكَ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامًا يُتْعِبُ أَضْرَاسَك فِي مَضْغِهِ فَتَعْجِزَ مَعِدَتُك عَنْ هَضْمِهِ وَإِيّاكَ وَكَثْرَةَ الْجِمَاعِ فَإِنّهُ يُطْفِئُ نُورَ الْحَيَاةِ وَإِيّاكَ وَمُجَامَعَةَ الْعَجُوزِ فَإِنّهُ يُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ وَإِيّاكَ وَالْفَصْدَ إلّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَعَلَيْك بِالْقَيْءِ فِي الصّيْفِ .
[ وَصِيّةٌ لأبقراط ]
وَمِنْ جَوَامِعِ كَلِمَاتِ أبقراط قَوْلُهُ كُلّ كَثِيرٍ فَهُوَ مُعَادٍ لِلطّبِيعَةِ .
[ وَصِيّةٌ لِجَالِينُوسَ ]
وَقِيلَ لِجَالِينُوسَ مَا لَك لَا تَمْرَضُ ؟ فَقَالَ لِأَنّي لَمْ أَجْمَعْ بَيْنَ طَعَامَيْنِ رَدِيئَيْنِ وَلَمْ أُدْخِلْ طَعَامًا عَلَى طَعَامٍ وَلَمْ أَحْبِسْ فِي الْمَعِدَةِ طَعَامًا تَأَذّيْت بِهِ .
فَصْلٌ [أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تُمْرِضُ الْبَدَنَ ]
وَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تُمْرِضُ الْجِسْمَ الْكَلَامُ الْكَثِيرُ وَالنّوْمُ الْكَثِيرُ وَالْأَكْلُ الْكَثِيرُ وَالْجِمَاعُ الْكَثِيرُ .
[مَضَارّ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ ]
فَالْكَلَامُ الْكَثِير: يُقَلّلُ مُخّ الدّمَاغِ وَيُضْعِفُهُ وَيُعَجّلُ الشّيْبَ .
[مَضَارّ النّوْمِ الْكَثِيرِ ]
وَالنّوْمُ الْكَثِيرُ يُصَفّرُ الْوَجْهَ وَيُعْمِي الْقَلْبَ وَيُهَيّجُ الْعَيْنَ وَيُكْسِلُ عَنْ الْعَمَلِ وَيُوَلّدُ الرّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ . [ ص 377 ]
[مَضَارّ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ ]
وَالْأَكْلُ الْكَثِيرُ يُفْسِدُ فَمَ الْمَعِدَةِ وَيُضْعِفُ الْجِسْمَ وَيُوَلّدُ الرّيَاحَ الْغَلِيظَةَ وَالْأَدْوَاءَ الْعَسِرَةَ .
[مَضَارّ الْجِمَاعِ الْكَثِيرِ]
وَالْجِمَاعُ الْكَثِيرُ يَهُدّ الْبُدْنَ وَيُضْعِفُ الْقُوَى وَيُجَفّفُ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُورِثُ السّدَدَ وَيَعُمّ ضَرَرُهُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَيَخُصّ الدّمَاغَ لِكَثْرَةِ مَا يَتَحَلّلُ بِهِ مِنْ الرّوحِ النّفْسَانِيّ وَإِضْعَافِهِ أَكْثَرَ مِنْ إضْعَافِ جَمِيعِ الْمُسْتَفْرِغَاتِ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ جَوْهَرِ الرّوحِ شَيْئًا كَثِيرًا .
[ أَنْفَعُ الْجِمَاعِ ]
وَأَنْفَعَ مَا يَكُونُ إذَا صَادَفَ شَهْوَةً صَادِقَةً مِنْ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ حَدِيثَةِ السّنّ حَلَالًا مَعَ سِنّ الشّبُوبِيّةِ وَحَرَارَةِ الْمِزَاجِ وَرُطُوبَتِهِ وَبُعْدِ الْعَهْدِ بِهِ وَخَلَاءِ الْقَلْبِ مِنْ الشّوَاغِلِ النّفْسَانِيّةِ وَلَمْ يُفَرّطْ فِيهِ وَلَمْ يُقَارِنْهُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مَعَهُ مِنْ امْتِلَاءٍ مُفْرِطٍ أَوْ خَوَاءٍ أَوْ اسْتِفْرَاغٍ أَوْ رِيَاضَةٍ تَامّةٍ أَوْ حَرّ مُفْرِطٍ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ فَإِذَا رَاعَى فِيهِ هَذِهِ الْأُمُورَ الْعَشْرَةَ انْتَفَعَ بِهِ جِدّا وَأَيّهَا فَقَدَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الضّرَرِ بِحَسَبِهِ وَإِنْ فُقِدَتْ كُلّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا فَهُوَ الْهَلَاكُ الْمُعَجّلُ .
فَصْلٌ [الْحِمْيَةُ ]
[وَصَايَا جَالِينُوسَ ]
وَالْحِمْيَةُ الْمُفْرِطَةُ فِي الصّحّةِ كَالتّخْلِيطِ فِي الْمَرَضِ وَالْحِمْيَةُ الْمُعْتَدِلَةُ نَافِعَةٌ وَقَالَ جَالِينُوسُ لِأَصْحَابِهِ اجْتَنِبُوا ثَلَاثًا وَعَلَيْكُمْ بِأَرْبَعٍ وَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إلَى طَبِيبٍ اجْتَنِبُوا الْغُبَارَ وَالدّخَانَ وَالنّتْنَ وَعَلَيْك بِالدّسَمِ وَالطّيبِ وَالْحَلْوَى وَالْحَمّامِ وَلَا تَأْكُلُوا فَوْقَ شِبَعِكُمْ وَلَا تَتَخَلّلُوا بالباذروج وَالرّيْحَانِ وَلَا تَأْكُلُوا الْجَوْزَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَلَا يَنَمْ مَنْ بِهِ زُكْمَةٌ عَلَى قَفَاهُ وَلَا يَأْكُلْ مَنْ بِهِ غَمّ حَامِضًا وَلَا يُسْرِعْ الْمَشْيَ مَنْ افْتَصَدَ فَإِنّهُ مُخَاطَرَةُ الْمَوْتِ وَلَا يَتَقَيّأُ مَنْ تُؤْلِمُهُ عَيْنُهُ وَلَا تَأْكُلُوا فِي الصّيْفِ لَحْمًا كَثِيرًا وَلَا يَنَمْ صَاحِبُ الْحُمّى الْبَارِدَةِ فِي الشّمْسِ وَلَا تَقْرُبُوا الْبَاذِنْجَانَ الْعَتِيقَ الْمُبَزّرَ وَمَنْ شَرِبَ كُلّ يَوْمٍ فِي الشّتَاءِ [ ص 378 ] مَاءٍ حَارّ أَمِنَ مِنْ الْأَعْلَالِ وَمَنْ دَلّكَ جِسْمَهُ فِي الْحَمّامِ بِقُشُورِ الرّمّانِ أَمِنَ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحَكّةِ وَمَنْ أَكَلَ خَمْسَ سَوْسَنَاتٍ مَعَ قَلِيلٍ مَصْطَكَا رُومِيّ وَعُودٍ خَامٍ وَمِسْكٍ بَقِيَ طُولَ عُمْرِهِ لَا تَضْعُفَ مَعِدَتُهُ وَلَا تَفْسُدُ وَمَنْ أَكَلَ بِزْرَ الْبِطّيخِ مَعَ السّكّرِ نَظّفَ الْحَصَى مِنْ مَعِدَتِهِ وَزَالَتْ عَنْهُ حُرْقَةُ الْبَوْلِ .
فَصْلٌ [ وَصَايَا عَامّةٌ ]
أَرْبَعَةٌ تَهْدِمُ الْبَدَنَ الْهَمّ وَالْحُزْنُ وَالْجُوعُ وَالسّهَرُ . وَأَرْبَعَةٌ تُفْرِحُ النّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي وَالْمَحْبُوبِ وَالثّمَارِ . وَأَرْبَعَةٌ تُظْلِمُ الْبَصَرَ الْمَشْيُ حَافِيًا وَالتّصَبّحُ وَالتّمَسّي بِوَجْهِ الْبَغِيضِ وَالثّقِيلِ وَالْعَدُوّ وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ وَكَثْرَةُ النّظَرِ فِي الْخَطّ الدّقِيقِ . وَأَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْجِسْمَ لُبْسُ الثّوْبِ النّاعِمِ وَدُخُولُ الْحَمّامِ الْمُعْتَدِلُ وَأَكْلُ الطّعَامِ الْحُلْوِ وَالدّسِمِ وَشَمّ الرّوَائِحِ الطّيّبَةِ . وَأَرْبَعَةٌ تُيَبّسُ الْوَجْهَ وَتُذْهِبُ مَاءَهُ وَبَهْجَتَهُ وَطَلَاوَتَهُ الْكَذِبُ وَالْوَقَاحَةُ وَكَثْرَةُ السّؤَالِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَثْرَةُ الْفُجُورِ . وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي مَاءِ الْوَجْهِ وَبَهْجَتِهِ الْمُرُوءَةُ وَالْوَفَاءُ وَالْكَرَمُ وَالتّقْوَى . وَأَرْبَعَةٌ تَجْلِبُ الْبَغْضَاءَ وَالْمَقْتَ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ وَالْكَذِبُ وَالنّمِيمَةُ . وَأَرْبَعَةٌ تَجْلِبُ الرّزْقَ قِيَامُ اللّيْلِ وَكَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ وَتَعَاهُدُ الصّدَقَةِ وَالذّكْرُ أَوّلَ النّهَارِ وَآخِرَهُ . وَأَرْبَعَةٌ تَمْنَعُ الرّزْقَ نَوْمُ الصّبْحَةِ وَقِلّةُ الصّلَاةِ وَالْكَسَلُ وَالْخِيَانَةُ . وَأَرْبَعَةٌ تَضُرّ بِالْفَهْمِ وَالذّهْنِ إدْمَانُ أَكْلِ الْحَامِضِ وَالْفَوَاكِهِ وَالنّوْمُ عَلَى الْقَفَا وَالْهَمّ وَالْغَمّ . [ ص 379 ] وَمِمّا يَضُرّ بِالْعَقْلِ إدْمَانُ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْبَاقِلّا وَالزّيْتُونِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَكَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَالْوَحْدَةُ وَالْأَفْكَارُ وَالسّكّرُ وَكَثْرَةُ الضّحِكِ وَالْغَمّ . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النّظَرِ قُطِعَتْ فِي ثَلَاثِ مَجَالِسَ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ عِلّةً إلّا أَنّي أَكْثَرْتُ مِنْ أَكْلِ الْبَاذِنْجَانِ فِي أَحَدِ تِلْكَ الْأَيّامِ وَمِنْ الزّيْتُونِ فِي الْآخَرِ وَمِنْ الْبَاقِلّا فِي الثّالِثِ .
فَصْلٌ [ فَضْلُ الطّبّ النّبَوِيّ ]
قَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمْلَةٍ نَافِعَةٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطّبّ الْعِلْمِيّ وَالْعَمَلِيّ لَعَلّ النّاظِرَ لَا يَظْفَرُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا إلّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَرَيْنَاكَ قُرْبَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّرِيعَةِ وَأَنّ الطّبّ النّبَوِيّ نِسْبَةُ طِبّ الطّبَائِعِيّينَ إلَيْهِ أَقَلّ مِنْ نِسْبَةِ طِبّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ . وَالْأَمْرُ فَوْقَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَعْظَمُ مِمّا وَصَفْنَاهُ بِكَثِيرٍ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ بِالْيَسِيرِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يَرْزُقْهُ اللّهُ بَصِيرَةً عَلَى التّفْصِيلِ فَلْيَعْلَمْ مَا بَيْنَ الْقُوّةِ الْمُؤَيّدَةِ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَالْعُلُومِ الّتِي رَزَقَهَا اللّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ الّتِي مَنَحَهُمْ اللّهُ إيّاهَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ . وَلَعَلّ قَائِلًا يَقُولُ مَا لِهَدْيِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا لِهَذَا الْبَابِ وَذِكْرِ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَقَوَانِينِ الْعِلَاجِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الصّحّةِ ؟ . وَهَذَا مِنْ تَقْصِيرِ هَذَا الْقَائِلِ فِي فَهْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ هَذَا وَأَضْعَافَهُ وَأَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ فَهْمِ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَإِرْشَادِهِ إلَيْهِ وَدِلَالَتِهِ عَلَيْهِ وَحُسْنُ الْفَهْمِ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ مَنّ يَمُنّ اللّهُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . [ ص 380 ] الطّبّ الثّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ وَكَيْفَ تُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْمَبْعُوثِ بِصَلَاحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى صَلَاحِ الْأَبْدَانِ كَاشْتِمَالِهَا عَلَى صَلَاحِ الْقُلُوبِ وَأَنّهَا مُرْشِدَةٌ إلَى حِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ آفَاتِهَا بِطُرُقٍ كُلّيّةٍ قَدْ وُكِلَ تَفْصِيلُهَا إلَى الْعَقْلِ الصّحِيحِ وَالْفِطْرَةِ السّلِيمَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالتّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ كَمَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ فُرُوعِ الْفِقْهِ وَلَا تَكُنْ مِمّنْ إذَا جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ . وَلَوْ رُزِقَ الْعَبْدُ تَضَلّعًا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ وَفَهْمًا تَامّا فِي النّصُوصِ وَلَوَازِمِهَا لَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ كُلّ كَلَامٍ سِوَاهُ وَلَاسْتَنْبَطَ جَمِيعَ الْعُلُومِ الصّحِيحَةِ مِنْهُ . فَمَدَارُ الْعُلُومِ كُلّهَا عَلَى مَعْرِفَةِ اللّهِ وَأَمْرِهِ وَخَلْقِهِ وَذَلِكَ مُسَلّمٌ إلَى الرّسُلِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ فَهُمْ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاَللّهِ وَأَمْرِهِ وَخَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ . وَطِبّ أَتْبَاعِهِمْ أَصَحّ وَأَنْفَعُ مِنْ طِبّ غَيْرِهِمْ . وَطِبّ أَتْبَاعِ خَاتَمِهِمْ وَسَيّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَكْمَلُ الطّبّ وَأَصَحّهُ وَأَنْفَعُهُ وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إلّا مَنْ عَرَفَ طِبّ النّاسِ سِوَاهُمْ وَطِبّهُمْ ثُمّ وَازَنَ بَيْنَهُمَا فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُ التّفَاوُتُ وَهُمْ أَصَحّ الْأُمَمِ عُقُولًا وَفِطَرًا وَأَعْظَمُهُمْ عِلْمًا وَأَقْرَبُهُمْ فِي كُلّ شَيْءٍ إلَى الْحَقّ لِأَنّهُمْ خِيرَةُ اللّهِ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا أَنّ رَسُولَهُمْ خِيرَتُهُ مِنْ الرّسُلِ . وَالْعِلْمُ الّذِي وَهَبَهُمْ إيّاهُ وَالْحِلْمُ وَالْحِكْمَةُ أَمْرٌ لَا يُدَانِيهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " : مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللّهِ فَظَهَرَ أَثَرُ كَرَامَتِهَا عَلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فِي عُلُومِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ وَفِطَرِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عُلُومُ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَدَرَجَاتُهُمْ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ عِلْمًا وَحِلْمًا وَعُقُولًا إلَى مَا [ ص 381 ] أَفَاضَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ .
[ غَلَبَ عَلَى النّصَارَى الْبَلَادَةُ وَعَلَى الْيَهُودِ الْهَمّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَقْلُ وَالشّجَاعَةُ . . ]
وَلِذَلِكَ كَانَتْ الطّبِيعَةُ الدّمَوِيّةُ لَهُمْ وَالصّفْرَاوِيّةُ لِلْيَهُودِ وَالْبَلْغَمِيّةُ لِلنّصَارَى وَلِذَلِكَ غَلَبَ عَلَى النّصَارَى الْبَلَادَةُ وَقِلّةُ الْفَهْمِ وَالْفِطْنَةِ وَغَلَبَ عَلَى الْيَهُودِ الْحُزْنُ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَالصّغَارُ وَغَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَقْلُ وَالشّجَاعَةُ وَالْفَهْمُ وَالنّجْدَةُ وَالْفَرَحُ وَالسّرُورُ . وَهَذِهِ أَسْرَارٌ وَحَقَائِقُ إنّمَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا مِنْ حُسْنِ فَهْمِهِ وَلُطْفِ ذِهْنِهِ وَغُزْرِ عِلْمِهِ وَعَرَفَ مَا عِنْدَ النّاسِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . بِعَوْنِهِ تَعَالَى تَمّ الْجُزْءُ الرّابِعُ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَأَوّلُهُ فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ
[ ص 5 ] كَانَتْ أَقْضِيَتُهُ الْخَاصّةُ تَشْرِيعًا عَامّا وَإِنّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُزْئِيّةِ الّتِي فَصَلَ بِهَا بَيْنَ الْخُصُومِ وَكَيْفَ كَانَ هَدْيُهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ وَنَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ قَضَايَا مِنْ أَحْكَامِهِ الْكُلّيّةِ .

فَصْلٌ [ جَوَازُ الْحَبْسِ ]
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ قَالَ أَحْمَدُ وَعَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ : هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . وَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي " أَحْكَامِهِ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَجَنَ رَجُلًا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِتْمَامَ عِتْقِهِ حَتّى بَاعَ غُنَيْمَةً لَهُ

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ فِيمَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ
رَوَى الْأَوْزَاعِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمّدًا فَجَلَدَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ سَنَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ [ ص 6 ] أَحْمَدُ : مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ الْحَسَنُ كَانَ قَتْلُهُ تَعْزِيرًا إلَى الْإِمَامِ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ . وَأَمَرَ رَجُلًا بِمُلَازَمَةِ غَرِيمِهِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ النّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِغَرِيمٍ لِي فَقَالَ لِي : الْزَمْهُ " ثُمّ قَالَ لِي " يَا أَخَا بَنِي سَهْمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك " وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْقَاتِل وَصَبْرِ الصّابِر قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَيْ بِحَبْسِهِ لِلْمَوْتِ حَتّى يَمُوتَ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ عَلِيّ : يُحْبَسُ الْمُمْسَكُ فِي السّجْنِ حَتّى يَمُوت

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ فِي الْمُحَارِبِينَ
حَكَمَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسَمْلِ أَعْيُنِهِمْ كَمَا سَمَلُوا عَيْنَ الرّعَاءِ [ ص 7 ] وَتَرَكَهُمْ حَتّى مَاتُوا جَوْعًا وَعَطَشًا كَمَا فَعَلُوا بِالرّعَاءِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَوَلِيّ الْمَقْتُولِ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَجُلًا ادّعَى عَلَى آخَرَ أَنّهُ قَتَلَ أَخَاهُ فَاعْتَرَفَ فَقَالَ دُونَكَ صَاحِبَكَ " فَلَمّا وَلّى قَالَ إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ فَقَالَ إنّمَا أَخَذْتُهُ بِأَمْرِك فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ ؟ فَقَالَ بَلَى فَخَلّى سَبِيلَهُ وَفِي قَوْلِهِ " فَهُوَ مِثْلُهُ " قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْقَاتِلَ إذَا قِيدَ مِنْهُ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ فَصَارَ هُوَ وَالْمُسْتَقِيدُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إنّهُ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَإِنّمَا قَالَ إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ " وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَلَا إشْكَالَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنّمَا فِيهِ التّعْرِيضُ لِصَاحِبِ الْحَقّ بِتَرْكِ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ . وَالثّانِي : أَنّهُ إنْ كَانَ لَمْ يُرِدْ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ بَهْ فَهُوَ مُتَعَدّ مِثْلَهُ إذْ كَانَ الْقَاتِلُ مُتَعَدّيًا بِالْجِنَايَةِ وَالْمُقْتَصّ مُتّعَدٍ بِقَتْلِ مَنْ لَمْ يَتَعَمّدْ الْقَتْلَ وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التّأْوِيلِ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرُفِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَفَعَهُ إلَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ فَقَالَ الْقَاتِلُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْوَلِيّ [ ص 8 ] أَمَا إنّهُ إذَا كَانَ صَادِقًا ثُمّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النّارَ فَخَلّى سَبِيلَه وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَهِيَ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْدُ يَدٍ وَخَطَأُ قَلْبٍ

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ بِالْقَوَدِ عَلَى مَنْ قَتَلَ جَارِيَةً
وَأَنّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّ يَهُودِيّا رَضّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا أَيْ حُلِيّ فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُرَضّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ الرّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَعَلَى أَنّ الْجَانِيَ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ وَأَنّ الْقَتْلَ غِيلَةً لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إذْنُ الْوَلِيّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى أَوْلِيَائِهَا وَلَمْ يَقُلْ إنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْفُوا عَنْهُ بَلْ قَتَلَهُ حَتْمًا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِك ٍ وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ وَمَنْ قَالَ إنّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِنَقْضِ الْعَهْدِ لَمْ يَصِحّ فَإِنّ نَاقِضَ الْعَهْدِ لَا تُرْضَخُ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ بَلْ يُقْتَلُ بِالسّيْفِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ ضَرَبَ امْرَأَةً حَامِلًا فَطَرَحَهَا
فِي " الصّحِيحَيْن ِ " أَنّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَقَضَى فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِغُرّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ فِي الْجَنِينِ وَجَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ [ ص 9 ] الصّحِيحَيْنِ " . وَفِي النّسَائِيّ فَقَضَى فِي حَمْلِهَا بِغُرّةٍ وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا وَكَذَلِك قَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا : إنّهُ قَتَلَهَا مَكَانَهَا وَالصّحِيحُ أَنّهُ لَمْ يَقْتُلْهَا لِمَا تَقَدّمَ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مَنْ بَنِي لَحْيَانَ بِغُرّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ ثُمّ إنّ الْمَرْأَةَ الّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرّةِ تُوُفّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا وَفِي هَذَا الْحُكْمِ أَنّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَأَنّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الْغُرّةَ تَبَعًا لِلدّيَةِ وَأَنّ الْعَاقِلَةَ هُمْ الْعَصَبَةُ وَأَنّ زَوْجَ الْقَاتِلَةِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ وَأَنّ أَوْلَادَهَا أَيْضًا لَيْسُوا مِنْ الْعَاقِلَةِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْقَسَامَةِ فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَكَمَ بِهَا بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ وَقَالَ لِحُوَيّصَةَ وَمُحَيّصَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ وَقَالَ [ ص 10 ] الْبُخَارِيّ : وَتَسْتَحِقّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ " فَقَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ وَلَمْ نَرَهُ فَقَالَ " فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانٍ خَمْسِينَ " فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفّارٍ ؟ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِ وَفِي لَفْظٍ وَيُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمّتِهِ إلَيْه ِ وَاخْتَلَفَ لَفْظُ الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ فِي مَحَلّ الدّيَةِ فَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ وَفِي بَعْضِهَا وَدَاهُ مِنْ إبِلِ الصّدَقَةِ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْقَى دِيَتَهُ عَلَى الْيَهُودِ لِأَنّهُ وُجِدَ بَيْنَهُمْ وَفِي " مُصَنّفِ عَبْدِ الرّزّاقِ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَدَأَ بِيَهُودَ فَأَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا فَرَدّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا فَجَعَلَ عَقْلَهُ عَلَى يَهُودَ
[ مَا تَضَمّنَهُ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ الْأُمُورِ ]
وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " : فَجَعَلَ عَقْلَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَأَعَانَهُمْ بِبَعْضِهَا وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أُمُورًا : دمِنْهَا : الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ وَأَنّهَا مِنْ دِينِ اللّهِ وَشَرْعِهِ . [ ص 11 ] وَمِنْهَا : الْقَتْلُ بِهَا لِقَوْلِهِ فَيُدْفَعُ بِرُمّتِهِ إلَيْهِ وَقَوْلُهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ الْقَتْلُ بِأَيْمَانِ الزّوْجِ الْمُلَاعِنِ وَأَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْقَسَامَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
الْمَدِينَةِ . وَأَمّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَلَا يَقْتُلُونَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَحْمَدُ يَقْتُلُ فِي الْقَسَامَةِ دُونَ اللّعَانِ وَالشّافِعِيّ عَكْسُهُ . وَمِنْهَا : أَنّهُ يَبْدَأُ بِأَيْمَانِ الْمُدّعِينَ فِي الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الدّعَاوَى . وَمِنْهَا : أَنّ أَهْلَ الذّمّةِ إذَا مَنَعُوا حَقّا عَلَيْهِمْ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إمّا أَنْ تَدُوهُ وَإِمّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ وَمِنْهَا : أَنّ الْمُدّعَى عَلَيْهِ إذَا بَعُدَ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَتَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يُشْخِصْهُ . وَمِنْهَا : جَوَازُ الْعَمَلِ وَالْحُكْمِ بِكِتَابِ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا : الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ . وَمِنْهَا : أَنّهُ لَا يُكْتَفَى فِي الْقَسَامَةِ بِأَقَلّ مِنْ خَمْسِينَ إذَا وُجِدُوا . وَمِنْهَا : الْحُكْمُ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .

[ الْإِشْكَالُ فِي مَحَلّ الدّيَةِ ]
وَمِنْهَا : - وَهُوَ الّذِي أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ - إعْطَاؤُهُ الدّيَةَ مِنْ إبِلِ الصّدَقَةِ وَقَدْ ظَنّ بَعْضُ النّاسِ أَنّ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَهَذَا لَا يَصِحّ فَإِنّ غَارِمَ أَهْلِ الذّمّةِ لَا يُعْطَى مِنْ الزّكَاةِ وَظَنّ بَعْضُهُمْ أَنّ ذَلِكَ مِمّا فَضَلَ مِنْ الصّدَقَةِ عَنْ أَهْلِهَا فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي الْمَصَالِحِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوّلِ وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ وَاقْتَرَضَ الدّيَةَ مِنْ إبِلِ الصّدَقَةِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ " فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ " وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا كُلّهِ أَنْ يُقَالَ لَمّا تَحَمّلَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَارِمِ لِمَا غَرّمَهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلَعَلّ هَذَا مُرَادُ مَنْ قَالَ إنّهُ قَضَاهَا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا [ ص 12 ] أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ " فَجَعَلَ عَقْلَهُ عَلَى الْيَهُودِ " ؟ فَيُقَالُ هَذَا مُجْمَلٌ لَمْ يَحْفَظْ رَاوِيهِ كَيْفِيّةَ جَعْلِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يَدُوا الْقَتِيلَ أَوْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ كَانَ هَذَا كَالْإِلْزَامِ لَهُمْ بِالدّيَةِ وَلَكِنّ الّذِي حَفِظُوا أَنّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوا وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ حَفِظُوا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ أَوْلَى بِالتّقْدِيمِ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِرِوَايَةِ النّسَائِيّ : أَنّهُ قَسّمَهَا عَلَى الْيَهُودِ وَأَعَانَهُمْ بِبَعْضِهَا ؟ قِيلَ هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ قَطْعًا فَإِنّ الدّيَةَ لَا تُلْزِمُ الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ بِمُجَرّدِ دَعْوَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ بَلْ لَا بُدّ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ بَيّنَةٍ أَوْ أَيْمَانِ الْمُدّعِينَ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِك وَقَدْ عَرَضَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدّعِينَ فَأَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا فَكَيْفَ يُلْزِمُ الْيَهُودَ بِالدّيَةِ بِمُجَرّدِ الدّعْوَى .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَرْبَعَةٍ سَقَطُوا فِي بِئْرٍ فَتَعَلّقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَهَلَكُوا
ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزّارُ وَغَيْرُهُمَا أَنّ قَوْمًا احْتَفَرُوا بِئْرًا بِالْيَمَنِ فَسَقَطَ فِيهَا رَجُلٌ فَتَعَلّقَ بِآخَرَ وَالثّانِي بِالثّالِثِ وَالثّالِثُ بِالرّابِعِ فَسَقَطُوا جَمِيعًا فَمَاتُوا فَارْتَفَعَ أَوْلِيَاؤُهُمْ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ اجْمَعُوا مَنْ حَفَرَ الْبِئْرَ مِنْ النّاسِ وَقَضَى لِلْأَوّلِ بِرُبْعِ الدّيَةِ لِأَنّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِلثّانِي بِثُلُثِهَا لِأَنّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ اثْنَانِ وَلِلثّالِثِ بِنِصْفِهَا لِأَنّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ وَاحِدٌ وَلِلرّابِعِ بِالدّيَةِ تَامّةً فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ فَقَصّوا عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ " هُوَ مَا قَضَى بَيْنَكُمْ هَكَذَا سِيَاقُ الْبَزّارِ . وَسِيَاقُ أَحْمَدَ نَحْوُهُ وَقَالَ إنّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَرْضَوْا بِقَضَاءِ عَلِيّ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَصّوا عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَأَجَازَهُ [ ص 13 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَ الدّيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الّذِينَ ازْدَحَمُوا .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنّسَائِيّ وَغَيْرُهُمَا : عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَقِيتُ خَالِي أَبَا بُرْدَةَ وَمَعَهُ الرّايَةُ فَقَالَ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ أَقْتُلَهُ وَآخُذَ مَالَهُ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَهُ إلَى رَجُلٍ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَخَمّسَ مَالَهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوه [ ص 14 ] وَذَكَرَ الْجُوزَجَانِيّ أَنّهُ رُفِعَ إلَى الْحَجّاجِ رَجُلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَه عَلَى نَفْسِهَا فَقَالَ احْبِسُوهُ وَسَلُوا مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي مُطَرّفٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ تَخَطّى حَرَمَ الْمُؤْمِنِينَ فَخُطّوا وَسَطَهُ بِالسّيْفِ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ فِي رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ فَقَالَ يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَال وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصّحِيحُ وَهُوَ مُقْتَضَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : حَدّهُ حَدّ الزّانِي ثُمّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ وَطِئَهَا بِعِقْدٍ عُزّرَ وَلَا حَدّ عَلَيْهِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَضَاؤُهُ أَحَقّ وَأَوْلَى .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِ مَنْ اُتّهِمَ بِأُمّ وَلَدِهِ فَلَمّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ أَمْسَكَ
عَنْهُ رَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَابْنُ السّكَنِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ ابْنَ عَمّ مَارِيَةَ كَانَ يُتّهَمُ بِهَا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اذْهَبْ فَإِنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَ مَارِيَةَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ " فَأَتَاهُ عَلِيّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيّ يَتَبَرّدُ فِيهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : اُخْرُجْ فَنَاوَلَهُ يَدهُ فأخرجه فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرَ فَكَفّ عَنْهُ علي ثُمّ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُول اللّهِ إنّهُ مَجْبُوبُ مَا لَهُ ذَكَرَ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَنّهُ وَجَدَهُ فِي نَخْلَةٍ يَجْمَعُ تَمْرًا وَهُوَ [ ص 15 ] ذَكَرَ لَهُ وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْقَضَاءُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ فَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ يُتَعَلّقُ عَلَيْهِ وَتَأَوّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْقَتْلِ إنّمَا أَرَادَ تَخْوِيفَهُ لِيَزْدَجِرَ عَنْ مَجِيئِهِ إلَيْهَا . قَالَ وَهَذَا كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللّتَيْنِ اخْتَصَمَتَا إلَيْهِ فِي الْوَلَدِ " عَلَيّ بِالسّكّينِ حَتّى أَشُقّ الْوَلَدَ بَيْنَهُمَا " وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَلْ قَصَدَ اسْتِعْلَامَ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَرَاجِمِ الْأَئِمّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابُ الْحَاكِمِ يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقّ لَيُتَوَصّلَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقّ فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَعْرِفَ الصّحَابَةُ بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ مَارِيَةَ وَعُلِمَ أَنّهُ إذَا عَايَنَ السّيْفَ كَشَفَ عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِ فَجَاءَ الْأَمْرُ كَمَا قَدّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِقَتْلِهِ تَعْزِيرًا لِإِقْدَامِهِ وَجُرْأَتِهِ عَلَى خَلْوَتِهِ بِأُمّ وَلَدِهِ فَلَمّا تَبَيّنَ لِعَلِيّ حَقِيقَةُ الْحَالِ وَأَنّهُ بَرِيءٌ مِنْ الرّيبَةِ كَفّ عَنْ قَتْلِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْقَتْلِ بِتَبْيِينِ الْحَالِ وَالتّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ كَالْحَدّ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ دَائِرٌ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذُرِعَ مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى شِبْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَلْقَاهُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا [ ص 16 ] وَفِي " مُصَنّفِ عَبْدِ الرّزّاقِ " قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنَا فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ دِيَارِ قَوْمٍ أَنّ الْأَيْمَانَ عَلَى الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ فَإِنْ نَكَلُوا حُلّفَ الْمُدّعُونَ وَاسْتَحَقّوا فَإِنْ نَكَلَ الْفَرِيقَانِ كَانَتْ الدّيَةُ نِصْفُهَا عَلَى الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ وَبَطَلَ النّصْفُ إذَا لَمْ يَحْلِفُوا وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيّ عَلَى الْقَوْلِ بِمِثْلِ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ الْقَوْمُ إذَا أُعْطُوا الشّيْءَ فَتَبَيّنُوا أَنّهُ ظُلِمَ فِيهِ قَوْمٌ ؟ فَقَالَ يُرَدّ عَلَيْهِمْ إنْ عُرِفَ الْقَوْمُ . قُلْت : فَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا ؟ قَالَ يُفَرّقُ عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقُلْت : فَمَا الْحُجّةُ فِي أَنْ يُفَرّقَ عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَعَلَ الدّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَكَانِ يَعْنِي الْقَرْيَةَ الّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ فَأَرَاهُ قَالَ كَمَا أَنّ عَلَيْهِمْ الدّيَةَ هَكَذَا يُفَرّقُ فِيهِمْ يَعْنِي : إذَا ظُلِمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْرَفُوا فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ قَضَى بِمُوجِبِ هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَ الدّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَكَانِ الّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ وَاحْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ وَجَعَلَ هَذَا أَصْلًا فِي تَفْرِيقِ الْمَالِ الّذِي ظُلِمَ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يُعْرَفُوا بِأَعْيَانِهِمْ .

وَأَمّا الْأَثَرُ الْآخَرُ فَمُرْسَلٌ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجّةٌ وَلَوْ صَحّ تَعَيّنَ الْقَوْلُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ وَلَا يُخَالِفُ بَابَ الدّعَاوَى وَلَا بَابَ الْقَسَامَةِ فَإِنّهُ لَيْسَ فِيهِمْ لَوْثٌ ظَاهِرٌ يُوجِبُ تَقْدِيمَ الْمُدّعِينَ فَيُقَدّمُ الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ فِي الْيَمِينِ فَإِذَا نَكَلُوا قَوِيَ جَانِبُ الْمُدّعِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : وُجُودُ الْقَتِيلِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ . وَالثّانِي : نُكُولُهُمْ عَنْ بَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ بِالْيَمِينِ وَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ اللّوْثِ الظّاهِرِ فَيَحْلِفُ الْمُدّعُونَ وَيَسْتَحِقّونَ فَإِذَا نَكَلَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا أَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً مُرَكّبَةً مِنْ نُكُولِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَنْهَضْ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيجَابِ كَمَالِ الدّيَةِ عَلَيْهِمْ [ ص 17 ] وَوَجَبَ نِصْفُهَا عَلَى الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ لِثُبُوتِ الشّبْهَةِ فِي حَقّهِمْ بِتَرْكِ الْيَمِينِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ بِكَمَالِهَا لِأَنّ خُصُومَهُمْ لَمْ يَحْلِفُوا فَلَمّا كَانَ اللّوْثُ مُتَرَكّبًا مِنْ يَمِينِ الْمُدّعِينَ وَنُكُولِ الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَتِمّ سَقَطَ مَا يُقَابِلُ أَيْمَانَ الْمُدّعِينَ وَهُوَ النّصْفُ وَوَجَبَ مَا يُقَابِلُ نُكُولَ الْمُدّعَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ النّصْفُ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلِهَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَأْخِيرِ الْقِصَاصِ مِنْ الْجُرْحِ حَتّى يَنْدَمِلَ
ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِه ِ " وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَجُلٍ طَعَنَ آخَرَ بِقَرْنٍ فِي رِجْلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِدْنِي فَقَالَ حَتّى تَبْرَأَ جِرَاحُكَ " فَأَبَى الرّجُلُ إلّا أَنْ يَسْتَقِيدَهُ فَأَقَادَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَصَحّ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ وَعَرِجَ الْمُسْتَقِيدُ فَقَالَ عَرِجْتُ وَبَرَأَ صَاحِبِي فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا تَسْتَقِيدَ حَتّى تَبْرَأَ جِرَاحُكَ فَعَصَيْتنِي فَأَبْعَدَكَ اللّهُ وَبَطَلَ عَرَجُك " ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ بِهِ جُرْحٌ بَعْدَ الرّجُلِ الّذِي عَرِجَ أَنْ لَا يُسْتَقَادَ مِنْهُ حَتّى يَبْرَأَ جُرْحُ صَاحِبِهِ فَالْجِرَاحُ عَلَى مَا بَلَغَ حَتّى يَبْرَأَ فَمَا كَانَ مِنْ عَرَجٍ أَوْ شَلَلٍ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَهُوَ عَقْلٌ وَمَنْ اسْتَقَادَ جُرْحًا فَأُصِيبَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ فَعَقَلَ مَا فَضَلَ مِنْ دِيَتِهِ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِهِ لَهُ . قُلْت : الْحَدِيثُ فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ مُتّصِلٌ أَنّ رَجُلًا طُعِنَ بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَقِدْنِي . فَقَالَ " حَتّى تَبْرَأَ " فَقَالَ أَقِدْنِي . فَأَقَادَهُ ثُمّ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ يَا [ ص 18 ] فَقَالَ " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتنِي فَأَبْعَدَكَ اللّهُ وَبَطّلَ عَرْجَتَكَ " ثُمّ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقْتَصّ مِنْ جُرْحٍ حَتّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ وَفِي سُنَنِ الدّارَقُطْنِيّ : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا جُرِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيدَ فَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ الْجَارِحِ حَتّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أَنّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ مِنْ الْجُرْحِ حَتّى يَسْتَقِرّ أَمْرُهُ إمّا بِانْدِمَالٍ أَوْ بِسِرَايَةٍ مُسْتَقِرّةٍ وَأَنّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِالْقَوَدِ وَجَوَازِ الْقِصَاصِ فِي الضّرْبَةِ بِالْعَصَا وَالْقَرْنِ وَنَحْوِهِمَا وَلَا نَاسِخَ لِهَذِهِ الْحُكُومَةِ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا وَاَلّذِي نَسَخَ بِهَا تَعْجِيلَ الْقِصَاصِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَا نَفْسَ الْقِصَاصِ فَتَأَمّلْهُ وَأَنّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ إذَا بَادَرَ وَاقْتَصّ مِنْ الْجَانِي ثُمّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْقِصَاصِ فَالسّرَايَةُ هَدَرٌ . وَأَنّهُ يُكْتَفَى بِالْقِصَاصِ وَحْدَهُ دُونَ تَعْزِيرِ الْجَانِي وَحَبْسِهِ قَالَ عَطَاءٌ : الْجُرُوحُ قِصَاصٌ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضْرِبَهُ وَلَا يَسْجُنَهُ إنّمَا هُوَ الْقِصَاصُ { وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّا } وَلَوْ شَاءَ لَأَمَرَ بِالضّرْبِ وَالسّجْنِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْتَصّ مِنْهُ بِحَقّ الْآدَمِيّ وَيُعَاقَبُ لِجُرْأَتِهِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ الْقِصَاصُ يُغْنِي عَنْ الْعُقُوبَةِ الزّائِدَةِ فَهُوَ كَالْحَدّ إذَا أُقِيمَ عَلَى الْمَحْدُودِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إلَى عُقُوبَةٍ أُخْرَى .

[ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ ]
وَالْمَعَاصِي ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ عَلَيْهِ حَدّ مُقَدّرٌ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ [ ص 19 ] وَنَوْعٌ لَا حَدّ فِيهِ وَلَا كَفّارَةَ فَهَذَا يُرْدَعُ فِيهِ بِالتّعْزِيرِ وَنَوْعٌ فِيهِ كَفّارَةٌ وَلَا حَدّ فِيهِ كَالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ وَالصّيَامِ فَهَلْ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفّارَةِ وَالتّعْزِيرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْقِصَاصُ يَجْرِي مَجْرَى الْحَدّ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التّعْزِيرِ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْقِصَاصِ فِي كَسْرِ السّنّ
فِي " الصّحِيحَيْن ِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَس ٍ أَنّ ابْنَةَ النّضْرِ أُخْتَ الرّبِيعِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ سِنّهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَتْ أُمّ الرّبِيعِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَيُقْتَصّ مِنْ فُلَانَةَ لَا وَاَللّهِ لَا يُقْتَصّ مِنْهَا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " سُبْحَانَ اللّهِ يَا أُمّ الرّبِيعِ كِتَابُ اللّهِ الْقِصَاصُ " فَقَالَتْ لَا وَاَللّهِ لَا يُقْتَصّ مِنْهَا أَبَدًا فَعَفَا الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الدّيَةَ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللّهِ لَأَبَرّهُ .

فًصْلُ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ عَضّ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ ثَنِيّةُ الْعَاضّ بِإِهْدَارِهَا
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ أَنّ رَجُلًا عَضّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ فَاخْتَصَمُوا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " يَعَضّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَكَ وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أَنّ مَنْ خَلّصَ نَفْسَهُ مِنْ يَدِ ظَالِمٍ لَهُ فَتَلِفَتْ نَفْسُ [ ص 20 ] مَالِهِ بِذَلِكَ فَهُوَ هَدَرٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَحَذَفَهُ بِحَصَاةٍ أَوْ عُودٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَوْ أَنّ امْرَأً اطّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةِ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ وَفِي لَفْظٍ فِيهِمَا : مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاص وَفِيهِمَا : أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَعْضِ حُجَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ فَذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَى الّتِي قَبْلَهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ .

فَصْلٌ [ مَا يُفْعَلُ بِالْحَامِلِ إذَا قَتَلَتْ عَمْدًا ]
وَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْحَامِلَ إذَا قَتَلَتْ عَمْدًا لَا تُقْتَلُ حَتّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا وَحَتّى تُكَفّلَ وَلَدَهَا . ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِه ِ " . [ ص 21 ] وَقَضَى أَنْ لَا يُقْتَلَ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ ذَكَرَهُ النّسَائِيّ وَأَحْمَدُ . وَقَضَى أَنّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ [ ص 22 ] وَقَضَى أَنّ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إمّا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْل وَقَضَى أَنّ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرّجْلَيْنِ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ . وَقَضَى فِي الْأَسْنَانِ فِي كُلّ سِنّ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَأَنّهَا كُلّهَا سَوَاءٌ وَقَضَى فِي الْمَواضِحِ بِخَمْسٍ خَمْسٍ وَقَضَى فِي الْعَيْنِ السّادَةِ لِمَكَانِهَا إذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا وَفِي الْيَدِ الشّلّاءِ إذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا وَفِي السّنّ السّوْدَاءِ إذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا [ ص 23 ] وَقَضَى فِي الْأَنْفِ إذَا جُدِعَ كُلّهُ بِالدّيَةِ كَامِلَةً وَإِذَا جُدِعَتْ أَرْنَبَتُهُ بِنِصْفِ الدّيَةِ وَقَضَى فِي الْمَأْمُومَةِ بِثُلُثِ الدّيَةِ وَفِي الْجَائِفَةِ بِثُلُثِهَا وَفِي الْمُنَقّلَةِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْإِبِلِ وَقَضَى فِي اللّسَانِ بِالدّيَةِ وَفِي الشّفَتَيْنِ بِالدّيَةِ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ بِالدّيَةِ وَفِي الذّكَرِ بِالدّيَةِ وَفِي الصّلْبِ بِالدّيَةِ وَفِي الْعَيْنَيْنِ بِالدّيَةِ وَفِي إحْدَاهُمَا بِنِصْفِهَا وَفِي الرّجْلِ الْوَاحِدَةِ بِنِصْفِ الدّيَةِ وَفِي الْيَدِ بِنِصْفِ الدّيَةِ وَقَضَى أَنّ الرّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَة

[ دِيَةُ الْخَطَإِ ]
وَقَضَى أَنّ دِيَةَ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ عَنْهُ فِي أَسْنَانِهَا فَفِي السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَثَلَاثُونَ حِقّةً وَعَشَرَةُ بَنِي لَبُونٍ ذَكَرٍ [ ص 24 ] قَالَ الْخَطّابِيّ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهَذَا . وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنّهَا أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبَوْنٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاصٍ وَعِشْرُونَ حِقّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً
[ دِيَةُ الْعُمَدِ إذَا رَضِيَهَا أَهْلُهُ ]
وَقَضَى فِي الْعَمْدِ إذَا رَضُوا بِالدّيَةِ ثَلَاثِينَ حِقّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ فَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَجَعَلَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ بَدَلَ ابْنِ مَخَاضٍ ابْنَ لَبُونٍ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ . وَفَرَضَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلّةٍ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَهَا ثَمَانَمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ ثَمَانَمِائَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ذَكَرَ أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَجُلًا قُتِلَ فَجُعِلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ [ ص 25 ] عَشَرَ أَلْفًا . وَثَبَتَ عَنْ عُمَر َ أَنّهُ خَطَبَ فَقَالَ إنّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلّةٍ وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذّمّةِ فَلَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنْ الدّيَةِ .

[ دِيَةُ الْمُعَاهِدِ ]
وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرّ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ قَضَى أَنّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ : دِيَتُهُمْ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ وَقَالَ الشّافِعِيّ : ثُلُثُهَا فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَلْ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْعَمْدِ . وَعَنْهُ فِي الْخَطَإِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا : نِصْفُ الدّيَةِ وَهِيَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَالثّانِيَةُ ثُلُثُهَا [ ص 26 ] فَأَخَذَ مَالِكٌ بِظَاهِرِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَأَخَذَ الشّافِعِيّ بِأَنّ عُمَر جَعَلَ دِيَتَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَهِيَ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ عَمْرِو إلّا أَنّهُ فِي الْعَمْدِ ضِعْفُ الدّيَةِ عُقُوبَةً لِأَجْلِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَهَكَذَا عِنْدَهُ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ ضُعّفَتْ عَلَيْهِ الدّيَةُ عُقُوبَةً نَصّ عَلَيْهِ تَوْقِيفًا وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا هُوَ أَصْلُهُ مِنْ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَتَتَسَاوَى دِيَتُهُمَا .

[ عَقْلُ الْمَرْأَةِ ]
وَقَضَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرّجُلِ إلَى الثّلُثِ مِنْ دِيَتِهَا ذَكَرَهُ النّسَائِيّ . فَتَصِيرُ عَلَى النّصْفِ مِنْ دِيَتِهِ وَقَضَى بِالدّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبَرَأَ مِنْهَا الزّوْجُ وَوَلَدُ الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ

[ الدّيَةُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْمَكَاتِبَ ]
وَقَضَى فِي الْمَكَاتِبِ أَنّهُ إذَا قُتِلَ يُودَى بِقَدْرِ مَا أَدّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ الْحُرّ وَمَا بَقِيَ فَدِيَةُ الْمَمْلُوكِ قُلْت : يَعْنِي قِيمَتَهُ . وَقَضَى بِهَذَا الْقَضَاءِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ وَيُذْكَرُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَال َ عُمَر : إذَا أَدّى شَطْرَ كِتَابَتِهِ كَانَ غَرِيمًا وَلَا يَرْجِعُ رَقِيقًا وَبِهِ قَضَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا أَدَى الثّلُثَ وَقَالَ عَطَاءٌ : إذَا أَدّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ غَرِيمٌ وَالْمَقْصُودُ أَنّ هَذَا الْقَضَاءَ النّبَوِيّ لَمْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ نَسْخُهُ . وَأَمّا حَدِيثُ الْمَكَاتِبِ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْقَضَاءِ فَإِنّهُ فِي الرّقّ بَعْدُ وَلَا تَحْصُلُ حُرّيّتُهُ التّامّةُ إلّا بِالْأَدَاءِ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَقَرّ بِالزّنَى
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمٍ أَنّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 27 ] فَأَعْرَضَ عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ " قَالَ لَا . قَالَ " أَحْصَنْتَ " ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فِي الْمُصَلّى فَلَمّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا وَصَلّى عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا : أَنّهُ قَالَ لَهُ أَحَقّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ " قَالَ وَمَا بَلَغَك عَنّي قَالَ " بَلَغَنِي أَنّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ بَنِي فُلَانٍ " فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ثُمّ دَعَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَبِكَ جُنُونٌ " قَالَ لَا قَالَ " أَحْصَنْتَ " قَالَ نَعَمْ ثُمّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا : فَلَمّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ " قَالَ لَا . قَالَ " أَحْصَنْتَ " ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ اذْهَبُوا بَهْ فَارْجُمُوه وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَعَلّكَ قَبّلْتَ أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْتَ " قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ " أَنِكْتَهَا " لَا يَكُنّي قَالَ نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ : أَنّهُ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ كُلّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ أَنِكْتَهَا ؟ " قَالَ نَعَمْ . قَالَ " حَتّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ؟ " قَالَ نَعَمْ . قَالَ " كَمَا يَغِيبُ الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ " قَالَ نَعَمْ . قَالَ " فَهَلْ تَدْرِي مَا الزّنَى ؟ " قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا . قَالَ " فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ " قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهّرَنِي قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ

[ ص 28 ] مَسّ الْحِجَارَةِ قَالَ يَا قَوْمِ رُدّونِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ قَوْمِي قَتَلُونِي وَغَرّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرُ قَاتِلِي . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : فَجَاءَتْ الْغَامِدِيّة فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهّرْنِي وَأَنّهُ رَدّهَا فَلَمّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ تَرُدّنِي لَعَلّك أَنْ تَرُدّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا ؟ فَوَاَللّهِ إنّي لَحُبْلَى قَالَ إمّا لَا فَاذْهَبِي حَتّى تَلِدِي " فَلَمّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصّبِيّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْته قَالَ " اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتّى تَفْطِمِيهِ " فَلَمّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصّبِيّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيّ اللّهِ قَدْ فَطَمْته وَقَدْ أَكَلَ الطّعَامَ فَدَفَعَ الصّبِيّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النّاسَ فَرَجَمُوهَا فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَانْتَضَحَ الدّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَسَبّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ " ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَصَلّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ

وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ [ ص 29 ] عَامٍ وَإِقَامَةِ الْحَدّ عَلَيْه وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ أَنْشُدُكَ بِاَللّهِ إلّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ فَقَالَ صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللّهِ وَأْذَنْ لِي فَقَال : قُلْ " قَالَ إنّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ وَإِنّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرّجْمَ فَقَالَ " وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللّهِ الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الثّيّبُ بِالثّيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ

[ ص 30 ] أَرْبَعَ مَرّاتٍ وَأَنّهُ إذَا أَقَرّ دُونَ الْأَرْبَعِ لَمْ يَلْزَمْ بِتَكْمِيلِ نِصَابِ الْإِقْرَارِ بَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ وَيَعْرِضَ لَهُ بِعَدَمِ تَكْمِيلِ الْإِقْرَارِ . وَأَنّ إقْرَارَ زَائِلِ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ مُلْغًى لَا عِبْرَةَ بِهِ وَكَذَلِكَ طَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ وَأَيْمَانُهُ وَوَصِيّتُهُ . وَجَوَازُ إقَامَةِ الْحَدّ فِي الْمُصَلّى وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ نَهْيَهُ أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ . وَأَنّ الْحُرّ الْمُحْصَنَ إذَا زَنَى بِجَارِيَةٍ فَحَدّهُ الرّجْمُ كَمَا لَوْ زَنَى بِحُرّةٍ . وَأَنّ الْإِمَامَ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ لِلْمُقِرّ بِأَنْ لَا يُقِرّ وَأَنّهُ يَجِبُ اسْتِفْسَارُ الْمُقِرّ فِي مَحَلّ الْإِجْمَالِ لِأَنّ الْيَدَ وَالْفَمَ وَالْعَيْنَ لَمّا كَانَ اسْتِمْتَاعُهَا زِنًى اسْتَفْسَرَ عَنْهُ دَفْعًا لِاحْتِمَالِهِ . وَأَنّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يُصَرّحَ بِاسْمِ الْوَطْءِ الْخَاصّ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَالسّؤَالِ عَنْ الْفِعْلِ . وَأَنّ الْحَدّ لَا يَجِبُ عَلَى جَاهِلٍ بِالتّحْرِيمِ لِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِ الزّنَى فَقَالَ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا . وَأَنّ الْحَدّ لَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ وَأَنّهَا إذَا وَلَدَتْ الصّبِيّ أُمْهِلَتْ حَتّى تُرْضِعَهُ وَتَفْطِمَهُ وَأَنّ الْمَرْأَةَ يُحْفَرُ لَهَا دُونَ الرّجُلِ وَأَنّ الْإِمَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالرّجْمِ . وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ سَبّ أَهْلِ الْمَعَاصِي إذَا تَابُوا وَأَنّهُ يُصَلّى عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَدّ الزّنَى وَأَنّ الْمُقِرّ إذَا اسْتَقَالَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدّ وَفَرّ تُرِكَ وَلَمْ يُتَمّمْ عَلَيْهِ الْحَدّ [ ص 31 ] فَقِيلَ لِأَنّهُ رُجُوعٌ . وَقِيلَ لِأَنّهُ تَوْبَةٌ قَبْلَ تَكْمِيلِ الْحَدّ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَابَ قَبْلَ الشّرُوعِ فِيهِ . وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِنَا . وَأَنّ الرّجُلَ إذَا أَقَرّ أَنّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حَدّ الْقَذْفِ مَعَ حَدّ الزّنَى . وَأَنّ مَا قُبِضَ مِنْ الْمَالِ بِالصّلْحِ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ يَجِبُ رَدّهُ . وَأَنّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يُوَكّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدّ .

[ لَا يُجْمَعُ عَلَى الثّيّبِ الْجَلْدُ وَالرّجْمُ ]
وَأَنّ الثّيّبَ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرّجْمِ لِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَمْ يَجْلِدْ مَاعِزًا وَلَا الْغَامِدِيّة وَلَمْ يَأْمُرْ أُنَيْسًا أَنْ يَجْلِدَ الْمَرْأَةَ الّتِي أَرْسَلَهُ إلَيْهَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلًا الثّيّبُ بِالثّيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ مَنْسُوخٌ . فَإِنّ هَذَا كَانَ فِي أَوّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ حَدّ الزّانِي ثُمّ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيّة وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا وَهَذَا كَانَ بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بِلَا شَكّ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي " السّنَنِ " : أَنّ رَجُلًا زَنَى فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجُلِدَ الْحَدّ ثُمّ أَقَرّ أَنّهُ مُحْصَنٌ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ . فَقَدْ قَالَ جَابِرٌ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ إنّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ فَجُلِدَ ثُمّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ فَرُجِمَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .

[ لَا يُسْقِطُ الْجَهْلُ بِالْعُقُوبَةِ الْحَدّ ]
وَفِيهِ أَنّ الْجَهْلَ بِالْعُقُوبَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالتّحْرِيمِ فَإِنّ مَاعِزًا لَمْ يَعْلَمْ أَنّ عُقُوبَتَهُ الْقَتْلُ وَلَمْ يُسْقِطْ هَذَا الْجَهْلُ الْحَدّ عَنْهُ .
[ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسِهِ دُونَ شَاهِدَيْنِ ]
وَفِيهِ أَنّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مَعَهُ شَاهِدَانِ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقُلْ لِأُنَيْسٍ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ فَارْجُمْهَا . وَأَنّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ حَقّا مَحْضًا لِلّهِ لَمْ يُشْتَرَطْ الدّعْوَى بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ . وَأَنّ الْحَدّ إذَا وَجَبَ عَلَى امْرَأَةٍ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا مَنْ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا وَلَا [ ص 32 ] النّسَائِيّ عَلَى ذَلِكَ صَوْنًا لِلنّسَاءِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ . وَأَنّ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ وَالْمُفْتِيَ يَجُوزُ لَهُ الْحَلِفُ عَلَى أَنّ هَذَا حُكْمُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ إذَا تَحَقّقَ ذَلِكَ وَتَيَقّنَهُ بِلَا رَيْبٍ وَأَنّهُ يَجُوزُ التّوْكِيلُ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنّ هَذَا اسْتِنَابَةٌ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَضَمّنَ تَغْرِيبَ الْمَرْأَةِ كَمَا يُغَرّبُ الرّجُلِ لَكِنْ يُغَرّبُ مَعَهَا مَحْرَمُهَا إنْ أَمْكَنَ وَإِلّا فَلَا وَقَالَ مَالِك ٌ : لَا تَغْرِيبَ عَلَى النّسَاءِ . لِأَنّهُنّ عَوْرَةٌ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْحُدُودِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَ " الْمَسَانِيدِ " : أَنّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا تَجِدُونَ فِي التّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرّجْمِ " ؟ قَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ إنّ فِيهَا الرّجْمَ فَأَتَوْا بِالتّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّه بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَك فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرّجْمِ فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمّدُ إنّ فِيهَا الرّجْمَ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرُجِمَا فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أَنّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِحْصَانِ وَأَنّ الذّمّيّ يُحَصّنُ الذّمّيّةَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَد وَالشّافِعِيّ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي [ ص 33 ] فَقَالَ مَالِكٌ فِي غَيْرِ " الْمُوَطّأِ " : لَمْ يَكُنْ الْيَهُودُ بِأَهْلِ ذِمّةٍ . وَاَلّذِي فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّهُمْ أَهْلُ ذِمّةٍ وَلَا شَكّ أَنّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الْعَهْدِ الّذِي وَقَعَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا إذْ ذَاكَ حَرْبًا كَيْفَ وَقَدْ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَرَضُوا بِحُكْمِهِ ؟ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنّهُمْ قَالُوا : اذْهَبُوا بِنَا إلَى هَذَا النّبِيّ فَإِنّهُ بُعِثَ بِالتّخْفِيف وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنّهُمْ دَعَوْهُ إلَى بَيْتِ مِدْرَاسِهِمْ فَأَتَاهُمْ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ وَصَلَحَ بِلَا شَكّ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : إنّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التّوْرَاةِ . قَالُوا : وَسِيَاقُ الْقِصّةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمّا لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ شَيْئًا الْبَتّةَ فَإِنّهُ حَكَمَ بَيْنِهِمْ بِالْحَقّ الْمَحْضِ فَيَجِبُ اتّبَاعُهُ بِكُلّ حَالٍ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إلّا الضّلَالُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ رَجَمَهُمَا سِيَاسَةً وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْأَقْوَالِ بَلْ رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ اللّهِ الّذِي لَا حُكْمَ سِوَاهُ . وَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أَنّ أَهْلَ الذّمّةِ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْنَا لَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إلّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ .

[ قَبُولُ شَهَادَةِ الذّمّيّينَ عَلَى بَعْضِهِمْ ]
وَتَضَمّنَتْ قَبُولَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذّمّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنّ الزّانِيَيْنِ لَمْ يُقِرّا وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا زِنَاهُمَا كَيْفَ وَفِي " السّنَنِ " فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالشّهُودِ فَجَاءُوا أَرْبَعَةُ فَشَهِدُوا أَنّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ . [ ص 34 ] فَقَال لِلْيَهُودِ : ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ

[ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرّجْمِ وَالْجَلْدِ ]
وَتَضَمّنَتْ الِاكْتِفَاءِ بِالرّجْمِ وَأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَلْدِ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : الرّجْمُ فِي كِتَابِ اللّهِ لَا يَغُوصُ عَلَيْهِ إلّا غَوّاصٌ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } [ الْمَائِدَةُ 15 ] وَاسْتَنْبَطَهُ غَيْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ { إِنّا أَنْزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا } [ الْمَائِدَةُ 44 ] . قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ فَبَلَغَنَا أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ { إِنّا أَنْزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا } كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّجُلِ يَزْنِي بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ
فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السّنَنِ " الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ أَنّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حُنَيْنٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَرُفِعَ إلَى النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ لَأَقْضِيَنّ فِيكَ بِقَضِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ كَانَتْ أَحَلّتْهَا لَك جَلَدْتُك مِائَةَ جَلْدَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلّتْهَا رَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ فَوَجَدُوهُ أَحَلّتْهَا لَهُ فَجَلَدَهُ مِائَةً قَالَ التّرْمِذِيّ : فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابٌ سَمِعْتُ مُحَمّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيّ يَقُولُ لَمْ يَسْمَعُ قَتَادَةُ مِنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ هَذَا الْحَدِيثَ إنّمَا رَوَاهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ وَأَبُو بِشْرٍ لَمْ يَسْمَعْهُ [ ص 35 ] عُرْفُطَةَ وَسَأَلْت مُحَمّدًا عَنْهُ ؟ فَقَالَ أَنَا أَنْفِي هَذَا الْحَدِيثَ . وَقَالَ النّسَائِيّ : هُوَ مُضْطَرِبٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ مَجْهُولٌ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السّنَنِ " عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبّقِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرّةٌ وَعَلَيْهِ لِسَيّدَتِهَا مِثْلُهَا " وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ لِسَيّدَتِهَا مِثْلُهَا فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي الْقَوْلِ بِهَذَا الْحُكْمِ فَأَخَذَ بِهِ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ فَإِنّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ وَخَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ قَدْ رَوَى عَنْهُ ثِقَتَانِ قَتَادَةُ وَأَبُو بِشْرٍ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ قَدْحٌ وَالْجَهَالَةُ تَرْتَفِعُ عَنْهُ بِرِوَايَةِ ثِقَتَيْنِ وَالْقِيَاسُ وَقَوَاعِدُ الشّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْحُكُومَةِ فَإِنّ إحْلَالَ الزّوْجَةِ شُبْهَةٌ تُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدّ وَلَا تُسْقِطُ التّعْزِيرَ فَكَانَتْ الْمِائَةُ تَعْزِيرًا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَحَلّتْهَا كَانَ زِنًى لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَفِيهِ الرّجْمُ فَأَيّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ مِمّا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ .

[ ص 36 ] قَالَ النّسَائِيّ : لَا يَصِحّ هَذَا الْحَدِيثُ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ الّذِي رَوَاهُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبّقِ شَيْخٌ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُحَدّثُ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ يَعْنِي قَبِيصَةَ بْنَ حُرَيْثٍ . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي " التّارِيخِ " : قَبِيصَةُ بْنُ حُرَيْثٍ سَمِعَ سَلَمَةَ بْنَ الْمُحَبّقِ فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَثْبُتُ خَبَرُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبّقِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَبِيصَةُ بْنُ حُرَيْثٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَقَالَ الْخَطّابِيّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَقَبِيصَةُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَالْحُجّةُ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يُبَالِي أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ مِمّنْ سَمِعَ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَبِلَتْ الْحَدِيثَ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مَنْسُوخٌ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ وَجْهُهُ أَنّهُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيّدَتِهَا وَلَمْ تَبْقَ مِمّنْ تَصْلُحُ لَهَا وَلَحِقَ بِهَا الْعَارَ وَهَذَا مُثْلَةٌ مَعْنَوِيّةٌ فَهِيَ كَالْمُثْلَةِ الْحِسّيّةِ أَوْ أَبْلَغُ مِنْهَا وَهُوَ قَدْ تَضَمّنَ أَمْرَيْنِ إتْلَافُهَا عَلَى سَيّدَتِهَا وَالْمُثْلَةُ الْمَعْنَوِيّةُ بِهَا فَيَلْزَمُهُ غَرَامَتُهَا لِسَيّدَتِهَا وَتَعْتِقُ عَلَيْهِ وَأَمّا إنْ طَاوَعَتْهُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيّدَتِهَا فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا لَهَا وَيَمْلِكُهَا لِأَنّ الْقِيمَةَ قَدْ اسْتَحَقّتْ عَلَيْهِ وَبِمُطَاوَعَتِهَا وَإِرَادَتِهَا خَرَجَتْ عَنْ شُبْهَةِ الْمُثْلَةِ . قَالُوا : وَلَا بُعْدَ فِي تَنْزِيلِ الْإِتْلَافِ الْمَعْنَوِيّ مَنْزِلَةُ الْإِتْلَافِ الْحِسّيّ إذْ كِلَاهُمَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ جَارِيَةَ الزّوْجَةِ إذَا صَارَتْ مَوْطُوءَةً لَزَوْجِهَا فَإِنّهَا لَا تَبْقَى لِسَيّدَتِهَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْوَطْءِ فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ الْأُصُولِيّ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ مَبْنِيّ عَلَى قَبُولِ الْحَدِيثِ وَلَا تَضُرّ كَثْرَةُ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلَوْ كَانُوا أَضْعَافَ أَضْعَافِهِمْ .

فَصْلٌ [ الْحُكْم فِي اللّوَاطِ ]
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَضَى فِي اللّوَاطِ بِشَيْءِ لِأَنّ هَذَا لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ [ ص 37 ] الْعَرَبُ وَلَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَحَكَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الصّحَابَةِ وَكَانَ عَلِي أَشَدّهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ الْقَصّارِ وَشَيْخُنَا : أَجْمَعَتْ الصّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِ وَإِنّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيّةِ قَتْلِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : يُرْمَى مِنْ شَاهِق وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يُهْدَمُ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : يُقْتَلَانِ بِالْحِجَارَةِ فَهَذَا اتّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيّتِهِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ وَطِئَ ذَاتَ مَحْرَمٍ لِأَنّ الْوَطْءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُبَاحُ لِلْوَاطِئِ بِحَالٍ وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَإِنّهُ رَوَى عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ وَرَوَى أَيْضًا عَنْهُ مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوه وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ [ ص 38 ] تَغَلّظَتْ تَغَلّظَتْ عُقُوبَاتُهَا وَوَطْءُ مَنْ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ وَطْءِ مَنْ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ حَدّهُ أَغْلَظَ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنّ حُكْمَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً حُكْمُ اللّوَاطِ سَوَاءٌ فَيُقْتَلُ بِكُلّ حَالٍ أَوْ يَكُونُ حَدّهُ حَدّ الزّانِي . وَاخْتَلَفَ السّلَفُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْحَسَنُ حَدّهُ حَدّ الزّانِي . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ عَنْهُ يُقْتَلُ بِكُلّ حَالٍ وَقَالَ الشّعْبِيّ وَالنّخَعِيّ : يُعَزّرُ وَبِهِ أَخَذَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَإِنّ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَفْتَى بِذَلِكَ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ .

فَصْلٌ [ الْحُكْمُ فِيمَنْ أَقَرّ بِالزّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيّنَةٍ ]
وَحَكَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَقَرّ بِالزّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيّنَةٍ بِحَدّ الزّنَى دُونَ حَدّ الْقَذْفِ فَفِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَرّ عِنْدَهُ أَنّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمّاهَا فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَرْأَةِ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ فَجَلَدَهُ الْحَدّ وَتَرَكَهَا . فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْحَدّ عَلَى الرّجُلِ وَإِنْ كَذّبَتْهُ الْمَرْأَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُفَ أَنّهُ لَا يُحَدّ . الثّانِي : أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدّ الْقَذْفِ لِلْمَرْأَةِ . وَأَمّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَرّ أَنّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرّاتٍ فَجَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَكَانَ بِكْرًا ثُمّ سَأَلَهُ الْبَيّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ كَذَبَ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَجُلِدَ حَدّ الْفِرْيَةِ [ ص 39 ] فَقَالَ النّسَائِيّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . انْتَهَى وَفِي إسْنَادِهِ الْقَاسِمُ بْنُ فَيّاضٍ الْأَنْبَارِيّ الصّنْعَانِيّ تَكَلّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .

فَصْلٌ [ الْحُكْمُ فى الْأَمَةِ الزّانِيَةِ ]
وَحَكَمَ فِي الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ بِالْجَلْدِ . وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ { فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [ النّسَاءُ 25 ] فَهُوَ نَصّ فِي أَنّ حَدّهَا بَعْدَ التّزْوِيجِ نِصْفُ حَدّ الْحُرّةِ مِنْ الْجَلْدِ وَأَمّا قَبْلَ التّزْوِيجِ فَأَمَرَ بِجَلْدِهَا . وَفِي هَذَا الْجَلْدِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ الْحَدّ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ قَبْلَ التّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ فَإِنّ لِلسّيّدِ إقَامَتَهُ قَبْلَهُ وَأَمّا بَعْدَهُ فَلَا يُقِيمُهُ إلّا الْإِمَامُ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ جَلْدَهَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ تَعْزِيرٌ لَا حَدّ وَلَا يُبْطِلُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُعَيّرْهَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَإِنْ عَادَتْ فِي الرّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ وَفِي لَفْظٍ فَلْيَضْرِبْهَا كِتَابُ اللّهِ [ ص 40 ] عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَيّهَا النّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقّائِكُمْ الْحَدّ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُنّ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ فَإِنّ أَمَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَحْسَنْتَ فَإِنّ التّعْزِيرَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ لَفْظُ الْحَدّ فِي لِسَانِ الشّارِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُضْرَبُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلّا فِي حَدّ مِنْ حُدُودِ اللّهِ تَعَالَى وَقَدْ ثَبَتَ التّعْزِيرُ بِالزّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ جِنْسًا وَقَدْرًا فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى خِلَافِهَا . وَعَلَى كُلّ حَالٍ فَلَا بُدّ أَنْ يُخَالِفَ حَالُهَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ حَالَهَا قَبْلَهُ وَإِلّا لَمْ يَكُنْ لِلتّقْيِيدِ فَائِدَةٌ فَإِمّا أَنْ يُقَالَ قَبْلَ الْإِحْصَانِ لَا حَدّ عَلَيْهَا وَالسّنّةُ الصّحِيحَةُ تُبْطِلُ ذَلِكَ وَإِمّا أَنْ يُقَالَ حَدّهَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ حَدّ الْحُرّةِ وَبَعْدَهُ نِصْفُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ الشّرْعِ وَأُصُولِهِ وَإِمّا أَنْ يُقَالَ جَلْدُهَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ تَعْزِيرٌ وَبَعْدَهُ حَدّ وَهَذَا أَقْوَى وَإِمّا أَنْ يُقَالَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي إقَامَةِ الْحَدّ لَا فِي قَدْرِهِ وَأَنّهُ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ لِلسّيّدِ وَفِي الْأُخْرَى لِلْإِمَامِ وَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ . وَقَدْ يُقَالُ إنّ تَنْصِيصَهُ عَلَى التّنْصِيفِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ لِئَلّا يَتَوَهّمَ مُتَوَهّمٌ أَنّ بِالْإِحْصَانِ يَزُولُ التّنْصِيفُ وَيَصِيرُ حَدّهَا حَدّ الْحُرّةِ كَمَا أَنّ الْجَلْدَ زَالَ عَنْ الْبِكْرِ بِالْإِحْصَانِ وَانْتَقَلَ إلَى الرّجْمِ فَبَقِيَ عَلَى التّنْصِيفِ فِي أَكْمَلِ حَالَتَيْهَا وَهِيَ [ ص 41 ] أَوْلَى وَأَحْرَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ فِيمَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْحَدّ ]
وَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَرِيضٍ زَنَى وَلَمْ يَحْتَمِلْ إقَامَةَ الْحَدّ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ عِثْكَالٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَيُضْرَبُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً .

فَصْلٌ [ مَتَى نَزَلَ حَدّ الْقَذْفِ ]
وَحَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَدّ الْقَذْفِ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بَرَاءَةَ زَوْجَتِهِ مِنْ السّمَاءِ فَجَلَدَ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً . وَهُمَا : حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّفَيْلِيّ : وَيَقُولُونَ الْمَرْأَةُ حَمْنَة بِنْتُ جَحْشٍ .
[ حُكْمُ الْمُرْتَدّ ]
[ وَحَكَمَ فِيمَنْ بَدّلَ دِينَهُ بِالْقَتْلِ ]
وَلَمْ يَخُصّ رَجُلًا مِنْ امْرَأَةٍ وَقَتَلَ الصّدّيقُ امْرَأَةً ارْتَدّتْ بَعْدَ إسْلَامِهَا يُقَالُ لَهَا : أُمّ قِرْفَةَ [ ص 42 ]

[حُكْمُ شُرْبِ الْخَمْرِ ]
وَحَكَمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ بِضَرْبِهِ بِالْجَرِيدِ وَالنّعَالِ وَضَرْبِهِ أَرْبَعِينَ وَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى الْأَرْبَعِين وَفِي " مُصَنّفِ عَبْدِ الرّزّاقِ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يُوَقّتْ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا . وَقَالَ عَلِي رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَلَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَكَمّلَهَا عُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلّ سُنّةٌ
[ حُكْمُ مَنْ شَرِبَ فِي الرّابِعَةِ ]
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فِي الرّابِعَةِ أَوْ الْخَامِسَةِ . وَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ [ ص 43 ] لَا يَحِلّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإِحْدَى ثَلَاث وَقِيلَ هُوَ مُحْكَمٌ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْخَاصّ وَالْعَامّ وَلَا سِيّمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَأَخّرُ الْعَامّ . وَقِيلَ نَاسِخُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ حِمَارٍ فَإِنّهُ أُتِيَ بِهِ مِرَارًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ . وَقِيلَ قَتْلُهُ تَعْزِيرٌ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِذَا كَثُرَ مِنْهُ وَلَمْ يَنْهَهُ الْحَدّ وَاسْتَهَانَ بِهِ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ تَعْزِيرًا لَا حَدّا وَقَدْ صَحّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ ائْتُونِي بِهِ فِي الرّابِعَةِ فَعَلَيّ أَنْ أَقْتُلَهُ لَكُمْ وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ مُعَاوِيَة وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . [ ص 44 ] قَبِيصَةَ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِحَدّ أَوْ أَنّهُ مَنْسُوخٌ فَإِنّهُ قَالَ فِيهِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ ثُمّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ ثُمّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ وَرُفِعَ الْقَتْلُ وَكَانَتْ رُخْصَةً . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَا كُنْت لِأَدِيَ مَنْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْحَدّ إلّا شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسُنّ فِيهِ شَيْئًا إنّمَا هُوَ شَيْءٌ قُلْنَاهُ نَحْن لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ . وَلَفْظُهُمَا : فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاتَ وَلَمْ يَسُنّه قِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُقَدّرْ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَقْدِيرًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَإِلّا فَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ شَهِدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ ضَرَبَ فِيهَا أَرْبَعِينَ . وَقَوْلُهُ إنّمَا هُوَ شَيْءٌ قُلْنَاهُ نَحْنُ يَعْنِي التّقْدِيرَ بِثَمَانِينَ فَإِنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَمَعَ الصّحَابَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارُوا بِثَمَانِينَ فَأَمْضَاهَا ثُمّ جَلَدَ عَلِيّ فِي خِلَافَتِهِ أَرْبَعِينَ وَقَالَ هَذَا أَحَبّ إلَي وَمَنْ تَأَمّلَ الْأَحَادِيثَ رَآهَا تَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَرْبَعِينَ حَدّ وَالْأَرْبَعُونَ الزّائِدَةُ عَلَيْهَا تَعْزِيرٌ اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَالْقَتْلُ إمّا مَنْسُوخٌ وَإِمّا أَنّهُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِحَسْبِ تَهَالُكِ النّاسِ فِيهَا وَاسْتِهَانَتِهِمْ بِحَدّهَا فَإِذَا رَأَى قَتْلَ وَاحِدٍ لِيَنْزَجِرَ الْبَاقُونَ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ حَلَقَ فِيهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَغَرّبَ وَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلّقَةِ بِالْأَئِمّةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّارِقِ
[ ص 45 ] قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَقَضَى أَنّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِك َ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنّ تُرْسٍ أَوْ جُحْفَةٍ وَكَانَ كُلّ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَعَنَ اللّهُ السّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ فَقِيلَ هَذَا حَبْلُ السّفِينَةِ وَبَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَقِيلَ بَلْ كُلّ حَبْلٍ وَبَيْضَةٍ وَقِيلَ هُوَ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ أَيْ إنّهُ يَسْرِقُ هَذَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِقَطْعِ يَدِهِ [ ص 46 ] أَكْبَرُ مِنْهُ . قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانُوا يَرَوْنَ أَنّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنّ مِنْهُ مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ . وَحَكَمَ فِي امْرَأَةٍ كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ بِقَطْعِ يَدِهَا وَقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ بِهَذِهِ الْحُكُومَةِ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا . وَحَكَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِسْقَاطِ الْقَطْعِ عَنْ الْمُنْتَهِبِ وَالْمُخْتَلِسِ وَالْخَائِن وَالْمُرَادُ بِالْخَائِنِ خَائِنُ الْوَدِيعَةِ .

[ جَحْدُ الْعَارِيَةِ كَالسّرِقَةِ ]
وَأَمّا جَاحِدُ الْعَارِيَةِ فَيَدْخُلُ فِي اسْمِ السّارِقِ شَرْعًا لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا كَلّمُوهُ فِي شَأْنِ الْمُسْتَعِيرَةِ الْجَاحِدَةِ قَطَعَهَا وَقَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا فَإِدْخَالُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاحِدَ الْعَارِيَةِ فِي اسْمِ السّارِقِ كَإِدْخَالِهِ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ فِي اسْمِ الْخَمْرِ فَتَأَمّلْهُ وَذَلِكَ تَعْرِيفٌ لِلْأُمّةِ بِمُرَادِ اللّهِ مِنْ كَلَامِهِ . وَأَسْقَطَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَطْعَ عَنْ سَارِقِ الثّمَرِ وَالْكَثَرِ وَحَكَمَ أَنّ مَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا [ ص 47 ] مُحْتَاجٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا فِي جَرِينِهِ هُوَ بَيْدَرُهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنّ فَهَذَا قَضَاؤُهُ الْفَصْلُ وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ . وَقَضَى فِي الشّاةِ الّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا بِثَمَنِهَا مَرّتَيْنِ وَضَرْبِ نَكَالٍ وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَن وَقَضَى بِقَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ بْنِ أُمّيّةَ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ . فَأَرَادَ صَفْوَانُ أَنْ يَهَبَهُ إيّاهُ أَوْ يَبِيعَهُ مِنْهُ فَقَالَ " هَلّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِه وَقَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ تُرْسًا مِنْ صُفّةِ النّسَاءِ فِي الْمَسْجِد وَدَرَأَ الْقَطْعَ عَنْ عَبْدٍ مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ . وَقَالَ " مَالُ اللّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَرُفِعَ إلَيْهِ سَارِقٌ فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ فَقَالَ لَهُ " مَا إخَالُهُ [ ص 48 ] سَرَقَ " ؟ قَالَ بَلَى فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِع وَرُفِعَ إلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ مَا إخَالُهُ سَرَقَ " ؟ فَقَالَ بَلَى فَقَالَ " اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمّ احْسِمُوهُ ثُمّ ائْتُونِي بِهِ " فَقَطَعَ ثُمّ أُتِيَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ " تُبْ إلَى اللّهِ " فَقَالَ تُبْتُ إلَى اللّهِ فَقَالَ تَابَ اللّهُ عَلَيْكَ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ أَنّهُ قَطَعَ سَارِقًا وَعَلّقَ يَدَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ اتّهَمَ رَجُلًا بِسَرِقَةٍ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ : عَنْ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ قَوْمًا سُرِقَ لَهُمْ مَتَاعٌ فَاتّهَمُوا نَاسًا مِنْ الْحَاكَةِ فَأَتَوْا النّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَبَسَهُمْ أَيّامًا ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُمْ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا : خَلّيْتَ سَبِيلَهُمْ بِغَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا امْتِحَانٍ فَقَالَ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ أَنْ أَضْرِبَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ مَتَاعُكُمْ فَذَاكَ وَإِلّا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَ الّذِي أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِهِمْ . فَقَالُوا : هَذَا حُكْمُكَ ؟ فَقَالَ حُكْمُ اللّهِ وَحُكْمُ رَسُولِهِ

فَصْلٌ [ مَا تَضَمّنَتْهُ الْأَقْضِيَةُ السّابِقَةُ فِي السّرِقَةِ مِنْ الْأُمُورِ ]
[ ص 49 ] أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يَقْطَعُ فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ رُبُعِ دِينَارٍ .
[ جَوَازُ لَعْنِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بِأَنْوَاعِهِمْ دُونَ أَعْيَانِهِمْ ]
الثّانِي : جَوَازُ لَعْنِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بِأَنْوَاعِهِمْ دُونَ أَعْيَانِهِمْ كَمَا لَعَنَ السّارِقَ وَلَعَنَ آكِلَ الرّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ وَعَاصِرَهَا وَلَعَنَ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَنَهَى عَنْ لَعْنِ عَبْدِ اللّهِ حِمَارٍ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنّ الْوَصْفَ الّذِي عُلّقَ عَلَيْهِ اللّعْنُ مُقْتَضٍ . وَأَمّا الْمُعَيّنُ فَقَدْ يَقُومُ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللّعْنِ بِهِ مِنْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفّرَةٍ أَوْ عَفْوٍ مِنْ اللّهِ عَنْهُ فَتُلْعَنُ الْأَنْوَاعُ دُونَ الْأَعْيَانِ . الثّالِثُ الْإِشَارَةُ إلَى سَدّ الذّرَائِعِ فَإِنّهُ أَخْبَرَ أَنّ سَرِقَةَ الْحَبْلِ وَالْبَيْضَةِ لَا تَدَعُهُ حَتّى تُقْطَعُ يَدُهُ . الرّابِعُ قَطْعُ جَاحِدِ الْعَارِيَةِ وَهُوَ سَارِقٌ شَرْعًا كَمَا تَقَدّمَ .

[ مُضَاعَفَةُ الْغُرْمِ ]
الْخَامِسُ أَنّ مَنْ سَرَقَ مَالًا قُطِعَ فِيهِ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّه فَقَالَ كُلّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ وَقَدْ تَقَدّمَ الْحُكْمُ النّبَوِيّ بِهِ فِي صُورَتَيْنِ سَرِقَةُ الثّمَارِ الْمُعَلّقَةُ وَالشّاةُ مِنْ الْمَرْتَعِ . [ ص 50 ]
[ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فِي إقَامَةِ الْحَدّ ]
السّابِعُ اعْتِبَارُ الْحَرَزِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْقَطَ الْقَطْعَ عَنْ سَارِقِ الثّمَارِ مِنْ الشّجَرَةِ وَأَوْجَبَهُ عَلَى سَارِقِهِ مِنْ الْجَرِينِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنّ هَذَا لِنُقْصَانِ مَالِيّتِهِ لِإِسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ وَجَعَلَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلّ مَا نَقَصَتْ مَالِيّتُهُ بِإِسْرَاعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ .
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحّ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ حَالَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا وَهُوَ مَا إذَا أَكَلَ مِنْهُ بِفِيهِ . وَحَالَةٌ يُغَرّمُ مِثْلَيْهِ وَيُضْرَبُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَهُوَ مَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ شَجَرِهِ وَأَخْرَجَهُ . وَحَالَةٌ يُقْطَعُ فِيهَا وَهُوَ مَا إذَا سَرَقَهُ مِنْ بَيْدَرِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ انْتَهَى جَفَافُهُ أَوْ لَمْ يَنْتَهِ فَالْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ وَالْحِرْزِ لَا لِيُبْسِهِ وَرُطُوبَتِهِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْقَطَ الْقَطْعَ عَنْ سَارِقِ الشّاةِ مِنْ مَرْعَاهَا وَأَوْجَبَهُ عَلَى سَارِقِهَا مِنْ عَطَنِهَا فَإِنّهُ حِرْزُهَا .
[ إثْبَاتُ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيّةِ ]
الثّامِنُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيّةِ وَفِيهِ عِدّةُ سُنَنٍ ثَابِتَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . التّاسِعُ أَنّ الْإِنْسَانَ حِرْزٌ لِثِيَابِهِ وَلِفِرَاشِهِ الّذِي هُوَ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَيْنَ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ . الْعَاشِرُ أَنّ الْمَسْجِدَ حِرْزٌ لِمَا يَعْتَادُ وَضْعُهُ فِيهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطَعَ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ تُرْسًا وَعَلَى هَذَا فَيُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ حَصِيرِهِ وَقَنَادِيلِهِ وَبُسُطِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَقْطَعْهُ قَالَ لَهُ فِيهَا حَقّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَقّ قُطِعَ كَالذّمّيّ .

[ الْمُطَالَبَةُ فِي الْمَسْرُوقِ شَرْطٌ فِي الْقَطْعِ ]
الْحَادِيَ عَشَرَ أَنّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْمَسْرُوقِ شَرْطٌ فِي الْقَطْعِ فَلَوْ وَهَبَهُ إيّاهُ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ كَمَا صَرّحَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ هَلّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ [ ص 51 ]
[ لَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بَعْدَ رَفْعِهَا لِلْإِمَامِ ]
الثّانِيَ عَشَرَ أَنّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ وَكَذَلِكَ كُلّ حَدّ بَلَغَ الْإِمَامَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ وَفِي " السّنَنِ " : عَنْهُ إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللّهُ الشّافِعَ وَالْمُشَفّع الثّالِثَ عَشَرَ أَنّ مَنْ سَرَقَ مِنْ شَيْءٍ لَهُ فِيهِ حَقّ لَمْ يُقْطَعْ . لَا يُقْطَعُ إلّا الْإِقْرَارِ مَرّتَيْنِ أَوْ لِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ الرّابِعَ عَشَرَ أَنّهُ لَا يُقْطَعُ إلّا بِالْإِقْرَارِ مَرّتَيْنِ أَوْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنّ السّارِقَ أَقَرّ عِنْدَهُ مَرّةً فَقَالَ مَا إِخَالُكَ سَرَقْت ؟ فَقَالَ بَلَى فَقَطَعَهُ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَقْطَعْهُ حَتّى أَعَادَ عَلَيْهِ مَرّتَيْنِ التّعْرِيضُ لِلسّارِقِ بِعَدَمِ الْإِقْرَارِ الْخَامِسَ عَشَرَ التّعْرِيضُ لِلسّارِقِ بِعَدَمِ الْإِقْرَارِ وَبِالرّجُوعِ عَنْهُ وَلَيْسَ هَذَا حُكْمَ كُلّ سَارِقٍ بَلْ مِنْ السّرّاقِ مَنْ يُقِرّ بِالْعُقُوبَةِ وَالتّهْدِيدِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .

[ الْحَسْمُ بَعْدَ الْقَطْعِ ]
السّادِسَ عَشَرَ أَنّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ حَسْمُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لِئَلّا يَتْلَفَ . وَفِي قَوْلِهِ " احْسِمُوهُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مُؤْنَةَ الْحَسْمِ لَيْسَتْ عَلَى السّارِقِ . السّابِعَ عَشَرَ تَعْلِيقُ يَدِ السّارِقِ فِي عُنُقِهِ تَنْكِيلًا لَهُ وَبِهِ لِيَرَاهُ غَيْرُهُ . الثّامِنَ عَشَرَ ضَرْبُ الْمُتّهَمِ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَمَارَاتُ الرّيبَةِ وَقَدْ عَاقَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تُهْمَةٍ وَحَبَسَ فِي تُهْمَةٍ . [ ص 52 ] التّاسِعَ عَشَرَ وُجُوبُ تَخْلِيَةِ الْمُتّهَمِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمّا اُتّهِمَ بِهِ وَأَنّ الْمُتّهَمَ إذَا رَضِيَ بِضَرْبِ الْمُتّهَمِ فَإِنْ خَرَجَ مَالُهُ عِنْدَهُ وَإِلّا ضُرِبَ هُوَ مِثْلَ ضَرْبِ مَنْ اتّهَمَهُ إنْ أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا كُلّهُ مَعَ أَمَارَاتِ الرّيبَةِ كَمَا قَضَى بِهِ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَخْبَرَ أَنّهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . الْعِشْرُونَ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي الضّرْبَةِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا وَنَحْوِهِمَا .

فَصْلٌ [ مَنْ تَكَرّرَ مِنْهُ الْحَدّ فِي السّرِقَةِ ]
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ : أَنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ سَارِقٍ فَقَالُوا : إنّمَا سَرَقَ فَقَالَ " اقْطَعُوهُ " ثُمّ جِيءَ بِهِ ثَانِيًا فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقَالُوا : إنّمَا سَرَقَ فَقَالَ " اقْطَعُوهُ " ثُمّ جِيءَ بِهِ فِي الثّالِثَةِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقَالُوا : إنّمَا سَرَقَ فَقَالَ " اقْطَعُوهُ " ثُمّ جِيءَ بِهِ رَابِعَةً فَقَالَ " اُقْتُلُوهُ " فَقَالُوا : إنّمَا سَرَقَ فَقَالَ " اقْطَعُوهُ " فَأُتِيَ بِهِ فِي الْخَامِسَةِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ فَالنّسَائِيّ وَغَيْرُهُ لَا يُصَحّحُونَ هَذَا الْحَدِيثَ . قَالَ النّسَائِيّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَمَصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَغَيْرُهُ يُحَسّنُهُ وَيَقُولُ هَذَا حُكْمٌ خَاصّ بِذَلِكَ الرّجُلِ وَحْدَهُ لِمَا عَلِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي قَتْلِهِ وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ تَقْبَلُهُ وَتَقُولُ بِهِ وَأَنّ السّارِقَ إذَا سَرَقَ خَمْسَ مَرّاتٍ قُتِلَ فِي الْخَامِسَةِ وَمِمّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو مُصْعَبٍ مِنْ الْمَالِكِيّةِ . وَفِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ الْإِتْيَانُ عَلَى أَطْرَافِ السّارِقِ الْأَرْبَعَةِ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُتِيَ بِعَبْدٍ سَرَقَ فَأُتِيَ بِهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ فَتَرَكَهُ ثُمّ أُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمّ السّادِسَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ثُمّ السّابِعَةَ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمّ الثّامِنَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ [ ص 53 ] يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ كُلّهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ يُؤْتَى عَلَيْهَا كُلّهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لَا يُقْطَعُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَدٍ وَرِجْلٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَلْ الْمَحْذُورُ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ أَوْ ذَهَابُ عُضْوَيْنِ مِنْ شَقّ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِيمَا لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطْ أَوْ أَقْطَعَ الرّجْلِ الْيُسْرَى فَقَطْ فَإِنْ قُلْنَا : يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا : لَا يُؤْتَى عَلَيْهَا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي الصّورَةِ الْأُولَى وَيَدُهُ الْيُمْنَى فِي الثّانِيَةِ عَلَى الْعِلّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى مَعَ الرّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الْعِلّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَقَطْ لَمْ تُقْطَعْ يُمْنَاهُ عَلَى الْعِلّتَيْنِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَتَأَمّلْ . وَهَلْ قَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى يَبْتَنِي عَلَى الْعِلّتَيْنِ ؟ فَإِنْ عَلّلْنَا بِذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ قُطِعَتْ رِجْلُهُ وَإِنْ عَلّلْنَا بِذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شَقّ لَمْ تُقْطَعْ . وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ فَقَطْ وَعَلّلْنَا بِذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَإِنْ عَلّلْنَا بِذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شَقّ لَمْ تُقْطَعْ هَذَا طَرْدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُحَرّرِ " فِيهِ تُقْطَعُ يُمْنَى يَدَيْهِ عَلَى الرّوَايَتَيْنِ وَفَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَاَلّذِي يُقَالُ فِي الْفَرْقِ إنّهُ إذَا كَانَ أَقْطَعَ الرّجْلَيْنِ فَهُوَ كَالْمُقْعَدِ وَإِذَا قُطِعَتْ إحْدَى يَدَيْهِ انْتَفَعَ بِالْأُخْرَى فِي الْأَكْلِ وَالشّرْبِ وَالْوُضُوءِ وَالِاسْتِجْمَارِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَنْتَفِعْ إلّا بِرِجْلَيْهِ فَإِذَا ذَهَبَتْ إحْدَاهُمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِانْتِفَاعُ بِالرّجْلِ الْوَاحِدَةِ بِلَا يَدٍ وَمِنْ الْفَرْقِ أَنّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ [ ص 54 ]

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ سَبّهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمّيّ أَوْ مُعَاهَدٍ
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَضَى بِإِهْدَارِ دَمِ أُمّ وَلَدٍ الْأَعْمَى لَمّا قَتَلَهَا مَوْلَاهَا عَلَى السّبّ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ عَلَى سَبّهِ وَأَذَاهُ وَأَمّنَ النّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ إلّا نَفَرًا مِمّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيَهْجُوهُ وَهُمْ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَان وَقَالَ مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنّهُ قَدْ آذَى اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَهْدَرَ دَمَهُ وَدَمَ أَبِي رَافِعٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ وَقَدْ أَرَادَ قَتْلَ مَنْ [ ص 55 ] سَبّهُ لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَذَا قَضَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَضَاءُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللّهُ مِنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الْحُكْمِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ يَهُودِيّةً كَانَتْ تَشْتِمُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَقَعُ فِيهِ فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَمَهَا وَذَكَرَ أَصْحَابُ السّيَرِ وَالْمَغَازِي عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ هَجَتْ امْرَأَةٌ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " مَنْ لِي بِهَا " ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا : أَنَا فَنَهَضَ فَقَتَلَهَا فَأُخْبِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ وَفِي ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مَا بَيْنَ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ وَمَشَاهِيرَ وَهُوَ إجْمَاعُ الصّحَابَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ حَرْبٌ فِي " مَسَائِلِهِ " : عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ سَبّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَتَلَهُ ثُمّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَنْ سَبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ سَبّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَاقْتُلُوهُ ثُمّ قَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : أَيّمَا مُسْلِمٍ سَبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ سَبّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَذّبَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ رِدّةٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ رَجَعَ وَإِلّا قُتِلَ وَأَيّمَا مُعَاهَدٍ عَانَدَ فَسَبّ اللّهَ أَوْ سَبّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ جَهَرَ بِهِ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَاقْتُلُوهُ وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ مَرّ بِهِ رَاهِبٌ فَقِيلَ لَهُ هَذَا يَسُبّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْتُهُ إنّا لَمْ نُعْطِهِمْ الذّمّةَ عَلَى أَنْ يَسُبّوا نَبِيّنَا وَالْآثَارُ عَنْ الصّحَابَةِ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَتْلِهِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إجْمَاعِ الصّدْرِ الْأَوّلِ مِنْ [ ص 56 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَضَائِهِ فِيمَنْ سَبّهُ .
[ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَفْوُ عَمّنْ سَبّهُ فِي حَيَاتِهِ ]
وَأَمّا تَرْكُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلَ مَنْ قَدَحَ فِي عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ " اعْدِلْ فَإِنّكَ لَمْ تَعْدِلْ " وَفِي حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ " أَنْ كَانَ ابْنَ عَمّتِكَ " وَفِي قَصْدِهِ بِقَوْلِهِ " إنّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللّهِ " أَوْ فِي خَلْوَتِهِ بِقَوْلِهِ " يَقُولُونَ إنّكَ تَنْهَى عَنْ الْغَيّ وَتَسْتَخْلِي بِه وَغَيْرُ ذَلِكَ فَذَلِكَ أَنّ الْحَقّ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ . وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَيْسَ لِأُمّتِهِ تَرْكُ اسْتِيفَاءِ حَقّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا كَانَ فِي أَوّلِ الْأَمْرِ حَيْثُ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَأْمُورًا بِالْعَفْوِ وَالصّفْحِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حَقّهِ لِمَصْلَحَةِ التّأْلِيفِ وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ وَلِئَلّا يُنَفّرَ النّاسَ عَنْهُ وَلِئَلّا يَتَحَدّثُوا أَنّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَكُلّ هَذَا يَخْتَصّ بِحَيَاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ سَمّهُ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن " : أَنّ يَهُودِيّةً سَمّتْهُ فِي شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمّ لَفَظَهَا وَأَكَلَ مَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاء فَعَفَا عَنْهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُعَاقِبْهَا [ ص 57 ] الصّحِيحَيْنِ " . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهَا فَقِيلَ إنّهُ عَفَا عَنْهَا فِي حَقّهِ فَلَمّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا بِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ قَدّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا مَسْمُومًا يُعْلَمُ بِهِ دُونَ آكِلِهِ فَمَاتَ بِهِ أُقِيدَ مِنْهُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّاحِر
فِي التّرْمِذِيّ . عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدّ السّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسّيْف وَالصّحِيحُ أَنّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ . وَصَحّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَحّ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَتَلَتْ مُدَبّرَةً سَحَرَتْهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا عُثْمَانُ إذْ فَعَلَتْهُ دُونَ أَمْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَيْضًا أَنّهَا قَتَلَتْ مُدَبّرَةً سَحَرَتْهَا وَرُوِيَ أَنّهَا بَاعَتْهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ صَحّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْتُلْ مَنْ سَحَرَهُ مِنْ الْيَهُودِ فَأَخَذَ بِهَذَا الشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَأَمّا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللّهُ فَإِنّهُمَا يَقْتُلَانِهِ وَلَكِنْ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّه أَنّ سَاحِرَ أَهْلِ الذّمّةِ لَا يُقْتَلُ وَاحْتَجّ [ ص 58 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْتُلْ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيّ حِينَ سَحَرَهُ وَمَنْ قَالَ بِقَتْلِ سَاحِرِهِمْ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنّهُ لَمْ يُقِرّ وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ وَبِأَنّهُ خَشِيَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُثِيرَ عَلَى النّاسِ شَرّا بِتَرْكِ إخْرَاجِ السّحْرِ مِنْ الْبِئْرِ فَكَيْفَ لَوْ قَتَلَهُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَوّلِ غَنِيمَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوّلِ قَتِيلٍ
لَمّا بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ وَمَنْ مَعَهُ سَرِيّةً إلَى نَخْلَةَ تَرَصّدَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَأَعْطَاهُ كِتَابًا مَخْتُومًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأْهُ إلّا بَعْدَ يَوْمَيْنِ فَقَتَلُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ وَأَسَرُوا عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَعَنّفَهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَنِيمَةَ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحِرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ } [ الْبَقَرَةُ 217 ] فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَبَعَثَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فِدَائِهِمَا فَقَالَ لَا حَتّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا - يَعْنِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ - فَإِنّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ فَلَمّا قَدِمَا فَادَاهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعُثْمَانَ وَالْحَكَمِ وَقَسَمَ الْغَنِيمَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ الْغَنِيمَةَ وَوَدَى الْقَتِيلَ . وَالْمَعْرُوفُ فِي السّيَرِ خِلَافُ هَذَا .
[ إجَازَةُ الشّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيّةِ الْمَخْتُومَةِ ]
وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ الْفِقْهِ إجَازَةُ الشّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيّةِ الْمَخْتُومَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ السّلَفِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مَا حَقّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي بِهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلّا وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ .
[ عَدَمُ مَعْرِفَةِ حَامِلِ الْكِتَابِ بِمَضْمُونِهِ ]
[ ص 59 ] وَالْحَاكِمِ الْبَيّنَةُ وَلَا أَنْ يَقْرَأَهُ الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ عَلَى الْحَامِلِ لَهُ وَكُلّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْفَعُ كُتُبَهُ مَعَ رُسُلِهِ وَيُسَيّرُهَا إلَى مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ وَلَا يَقْرَؤُهَا عَلَى حَامِلِهَا وَلَا يُقِيمُ عَلَيْهَا شَاهِدَيْنِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضّرُورَةِ مِنْ هَدْيِهِ وَسُنّتِهِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجَاسُوس
ثَبَتَ أَنّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمّا جَسّ عَلَيْهِ سَأَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ضَرْبَ عُنُقَهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ وَقَالَ " مَا يُدْرِيكَ لَعَلّ اللّهَ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَقَدْ تَقَدّمَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ سَحْنُونٌ إذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْحَرْبِ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ وَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِك ٍ رَحِمَهُ اللّهُ يُجْلَدُ جَلْدًا وَجِيعًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنْ مَوْضِعٍ يَقْرُبُ مِنْ الْكُفّارِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُقْتَلُ وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا تَوْبَةٌ وَهُوَ كَالزّنْدِيقِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمْ اللّهُ لَا يُقْتَلُ وَالْفَرِيقَانِ احْتَجّوا بِقِصّةِ حَاطِبٍ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ وَجْهِ احْتِجَاجِهِمْ وَوَافَقَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ فِي الْأَسْرَى
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَسْرَى أَنّهُ قَتَلَ بَعْضَهُمْ وَمَنْ عَلَى بَعْضِهِمْ وَفَادَى [ ص 60 ] بِمَالٍ وَبَعْضَهُمْ بِأَسْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرَقّ بَعْضَهُمْ وَلَكِنّ الْمَعْرُوفَ أَنّهُ لَمْ يَسْتَرِقْ رَجُلًا بَالِغًا . فَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْأَسْرَى عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ . وَقَتَلَ مِنْ يَهُودَ جَمَاعَةً كَثِيرِينَ مِنْ الْأَسْرَى وَفَادَى أَسْرَى بَدْرٍ بِالْمَالِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ وَفَادَى بَعْضَهُمْ عَلَى تَعْلِيمِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْكِتَابَةَ وَمَنّ عَلَى أَبِي عَزّةَ الشّاعِرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ فِي أَسَارَى بِدْرٍ : لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيّا ثُمّ كَلّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ وَفَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفَدَى رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِامْرَأَةٍ مِنْ السّبْيِ اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَمَنّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ وَأَطْلَقَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُمْ الطّلَقَاءُ . وَهَذِهِ أَحْكَامٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يُخَيّرُ الْإِمَامُ فِيهَا بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ [ ص 61 ] وَاسْتَرَقّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فَسَبَايَا أَوْطَاسٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ لَمْ يَكُونُوا كِتَابِيّينَ وَإِنّمَا كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ مِنْ الْعَرَبِ . وَاسْتَرَقّ الصّحَابَةُ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَكُونُوا كِتَابِيّينَ . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : خَيّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْفِدَاءِ وَالْمَنّ وَالْقَتْلِ وَالِاسْتِعْبَادِ يَفْعَلُ مَا شَاءَ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ الّذِي لَا قَوْلَ سِوَاهُ .

فَصْلٌ [ حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْيَهُود ]
وَحَكَمَ فِي الْيَهُودِ بِعِدّةِ قَضَايَا فَعَاهَدَهُمْ أَوّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَة ثُمّ حَارَبَهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ فَظَفَرَ بِهِمْ وَمَنّ عَلَيْهِمْ ثُمّ حَارَبَهُ بَنُو النّضِيرِ فَظَفَرَ بِهِمْ وَأَجَلَاهُمْ ثُمّ حَارَبَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ فَظَفَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ ثُمّ حَارَبَهُ أَهْلُ خَيْبَرَ فَظَفَرَ بِهِمْ وَأَقَرّهُمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ مَا شَاءَ سِوَى مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ . وَلَمّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيّهُمْ وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذَا حُكْمُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَنّ نَاقِضِي الْعَهْدِ يَسْرِي نَقْضُهُمْ إلَى نِسَائِهِمْ وَذُرّيّتِهِمْ إذَا كَانَ نَقْضُهُمْ بِالْحَرْبِ وَيَعُودُونَ أَهْلَ حَرْبٍ وَهَذَا عَيْنُ حُكْمِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ
حَكَمَ يَوْمئِذٍ بِإِقْرَارِ يَهُودَ فِيهَا عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ [ ص 62 ] وَحَكَمَ بِقَتْلِ ابْنَيْ أَبِي الْحَقِيقِ لَمّا نَقَضُوا الصّلْحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَلَى أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيّبُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَتَمُوا وَغَيّبُوا وَحَكَمَ بِعُقُوبَةِ الْمُتّهَمِ بِتَغْيِيبِ الْمَالِ حَتّى أَقَرّ بِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ . وَكَانَتْ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصّةً وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إلّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَسَمَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْمَهُ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي فَتْحِ مَكّةَ
حَكَمَ بِأَنّ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ أَوْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوْ وَضَعَ السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَحَكَمَ بِقَتْلِ نَفَرٍ سِتّةٍ مِنْهُمْ مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ وَابْنُ خَطَلٍ وَمُغَنّيَتَانِ كَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَائِهِ وَحَكَمَ بِأَنّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُتْبَعُ مُدَبّرٌ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ " . وَحَكَمَ لِخُزَاعَةَ أَنْ يَبْذُلُوا سُيُوفَهُمْ فِي بَنِي بَكْرٍ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمّ قَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْل

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ
[ الْفَارِسُ وَالرّاجِلُ ]
حَكَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ هَذَا حُكْمُهُ الثّابِتُ عَنْهُ فِي مُغَازِيهِ كُلّهَا وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . [ ص 63 ] وَحَكَمَ أَنّ السّلَبَ لِلْقَاتِلِ . الْخُمُسُ وَأَمّا حُكْمُهُ بِإِخْرَاجِ الْخُمُسِ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : كَانَتْ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَكَانَ أَوّلَ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السّهْمَانِ وَأَخْرَجَ مِنْهُ الْخُمُسَ وَمَضَتْ بِهِ السّنّةُ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فَقَالَ إسْمَاعِيلُ وَأَحْسِبُ أَنّ بَعْضَهُمْ قَالَ تَرَكَ أَمْرَ الْخُمْسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ مَا فِيهِ بَيَانٌ شَافٍ وَإِنّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْخُمُسِ يَقِينًا فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : أَوّلُ خُمُسٍ خُمّسَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَثَلَاثَةِ أَيّامٍ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنّ لَهُ أَمْوَالَهُمْ وَلَهُمْ النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ وَخَمّسَ أَمْوَالَهُمْ . وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَدْرٍ فَلَمّا هَزَمَ اللّهُ الْعَدُوّ تَبِعَتْهُمْ طَائِفَةٌ يَقْتُلُونَهُمْ وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطَائِفَةٌ اسْتَوْلَتْ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالْغَنِيمَةِ فَلَمّا رَجَعَ الّذِينَ طَلَبُوهُمْ قَالُوا : لَنَا النّفَلُ نَحْنُ طَلَبْنَا الْعَدُوّ وَقَالَ الّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ أَحَقّ بِهِ لِأَنّا أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ لَا يَنَالَ الْعَدُوّ غِرّتَهُ وَقَالَ الّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْعَسْكَرِ هُوَ لَنَا نَحْنُ حَوَيْنَاهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } [ الْأَنْفَالُ 1 ] . فَقَسّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَوَاءٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ { وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ } [ الْأَنْفَالُ 41 ] .

[ الْعِلّةُ فِي قَسْمِ أَمْوَالِ بَنِي النّضِيرِ فِي الْمُهَاجِرِينَ ]
[ ص 64 ] وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ إنّمَا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْوَالَ بَنِي النّضِيرِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَأَبِي دُجَانَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ الصّمَةِ لِأَنّ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ شَاطَرَهُمْ الْأَنْصَارُ ثِمَارَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِي النّضِيرِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَأَقَمْتُمْ عَلَى مُوَاسَاتِهِمْ فِي ثِمَارِكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاهَا لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَكُمْ وَقَطَعْتُمْ عَنْهُمْ مَا كُنْتُمْ تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ فَقَالُوا : بَلْ تُعْطِيهِمْ دُونَنَا وَنُمْسِكُ ثِمَارَنَا فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ الْمُهَاجِرِينَ فَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَخَذُوا وَاسْتَغْنَى الْأَنْصَارُ بِمَا رَجَعَ إلَيْهِمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الثّلَاثَةُ مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَوْا حَاجَة [ ص 65 ]
[ مَنْ ضُرِبَ لَهُ سَهْمٌ وَلَمْ يَحْضُرْ ]
وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بِالشّام ِ لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَقَسَمَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْمَيْهِمَا فَقَالَا : وَأُجُورُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ " وَأُجُورُكُمَا " . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ وَابْنُ حَبِيبٍ أَنّ أَبَا لُبَابَة َ وَالْحَارِثَ بْنَ حَاطِبٍ وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيّ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَدّهُمْ وَأَمّرَ أَبَا لُبَابَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الصّلَاةِ وَأَسْهَمَ لَهُمْ وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمَةِ كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسَهْمِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَخَوّات بْنُ جُبَيْرٍ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسَهْمِهِ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَخَلّفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رُقَيّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ فَقَالَ وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ وَأَجْرُكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهَذَا خَاصّ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ لَا يُقْسَمَ لِغَائِبٍ . قُلْتُ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ إنّ الْإِمَامَ إذَا بَعَثَ أَحَدًا فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ فَلَهُ سَهْمُهُ . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَلَمْ يَكُنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُسْهِمُ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَلَكِنْ كَانَ يَحْذِيهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ

فَصْلٌ [ مَا يَعْدِلُ الْبَعِيرُ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ ]
[ ص 66 ] وَعَدَلَ فِي قِسْمَةِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كُلّ عَشْرَةٍ مِنْهَا بِبَعِيرٍ فَهَذَا فِي التّقْوِيمِ وَقِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ . وَأَمّا فِي الْهَدْيِ فَقَدْ قَالَ جَابِرٌ نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . فَهَذَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ . وَأَمّا فِي حِجّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ جَابِرٌ أَيْضًا : أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلّ سَبْعَةٍ مِنّا فِي بَدَنَةٍ وَكِلَاهُمَا فِي الصّحِيحِ . وَفِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَجُلًا : أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ عَلَيّ بَدَنَةً وَأَنَا مُوسِرٌ بِهَا وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيَهَا فَأَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحُهُنّ .

فَصْلٌ [هَلْ السّلَبِ مِنْ الْخُمُسِ ]
حَكَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّلَبِ كُلّهِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمّسْهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ الْخُمُسِ بَلْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ . قَالَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " : السّلَبُ لِلْقَاتِلِ إنّمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ وَحَكَمَ بِهِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَحَكَمَ بِهِ بَعْدَ الْقَتْلِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ تَضَمّنَهَا حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّلَبِ لِمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ السّلَبُ لَا يَكُونُ إلّا مِنْ الْخُمُسِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ [ ص 67 ] قَالَ مَالِكٌ : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ وَلَا فَعَلَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ حُنَيْن ٍ وَلَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْر ٍ وَلَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . قَالَ ابْنُ الْمَوّازِ : وَلَمْ يُعْطِ غَيْرَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ وَخَمّسَهُ . قَالَ أَصْحَابُهُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ } فَجَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ غَنِمَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلَهُ اللّهُ لَهُمْ بِالِاحْتِمَالِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إنّمَا هِيَ فِي غَيْرِ الْأَسْلَابِ لَمْ يُؤَخّرْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمَهَا إلَى حُنَيْنٍ وَقَدْ نَزَلَتْ فِي قِصّةِ بَدْرٍ وَأَيْضًا إنّمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُه بَعْدَ أَنْ بَرُدَ الْقِتَالُ . وَلَوْ كَانَ أَمْرًا مُتَقَدّمًا لِعِلْمِهِ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحَدُ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ لَمْ يَطْلُبْهُ حَتّى سَمِعَ مُنَادِيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ ذَلِكَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ إيّاهُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ بِلَا يَمِينٍ فَلَوْ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَخْرُجْ حَقّ مَغْنَمٌ إلّا بِمَا تُخْرَجُ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِنْ الْبَيّنَات أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يَجِدْ بَيّنَةً لَكَانَ يُوقَفُ كَاللّقَطَةِ وَلَا يَقْسِمْ وَهُوَ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيّنَةً يَقْسِمُ فَخَرَجَ مِنْ مَعْنَى الْمُلْكِ وَدَلّ عَلَى أَنّهُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ يَجْعَلُهُ مِنْ الْخُمُسِ الّذِي يُجْعَلُ فِي غَيْرِهِ هَذَا مَجْمُوعُ مَا اُحْتُجّ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ . قَالَ الْآخَرُونَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَعَلَهُ قَبْلَ حُنَيْنٍ بِسِتّةِ أَعْوَامٍ فَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِه " : أَنّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ الْأَنْصَارِيّيْنِ ضَرَبَا أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفَيْهِمَا حَتّى قَتَلَاهُ فَانْصَرَفَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ أَيّكُمَا قَتَلَهُ ؟ فَقَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْته فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ؟ قَالَا : لَا فَنَظَرَ إلَى السّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَسَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ [ ص 68 ] حُنَيْنٍ الْإِعْلَامُ الْعَامّ وَالْمُنَادَاةُ بِهِ لَا شَرْعِيّتُهُ .

وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ الْمَوّازِ : إنّ أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ لَمْ يَفْعَلَاهُ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ هَذَا شَهَادَةٌ عَلَى النّفْيِ فَلَا تُسْمَعُ الثّانِي : أَنّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمُنَادَاةِ بِذَلِكَ عَلَى عَهْدِهِمَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَرّرَ وَثَبَتَ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَضَائِهِ وَحَتّى لَوْ صَحّ عَنْهُمَا تَرْكُ ذَلِكَ تَرْكًا صَحِيحًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ لَمْ يُقَدّمْ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَمّا قَوْلُهُ وَلَمْ يُعْطِ غَيْرَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ فَقَدْ أَعْطَى السّلَبَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَلِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو وَلِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيّ قَتَلَ عِشْرِينَ يَوْمَ حُنَيْن ٍ فَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ وَهَذِهِ كُلّهَا وَقَائِعُ صَحِيحَةٌ مُعْظَمُهَا فِي الصّحِيحِ فَالشّهَادَةُ عَلَى النّفْيِ لَا تَكَادُ تَسْلَمُ مِنْ النّقْضِ . وَأَمّا قَوْلُهُ " وَخَمّسَهُ " فَهَذَا لَمْ يُحْفَظْ بِهِ أَثَرٌ الْبَتّةَ بَلْ الْمَحْفُوظُ خِلَافُهُ فَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : عَنْ خَالِدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُخَمّسْ السّلَبَ وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ } فَهَذَا [ ص 69 ] وَقَوْلُهُ " لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِغَيْرِ أَهْلِهَا بِالِاحْتِمَالِ " جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّا لَمْ نَجْعَلْ السّلَبَ لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ . الثّانِي : إنّمَا جَعَلْنَاهُ لِلْقَاتِلِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا بِالِاحْتِمَالِ وَلَمْ يُؤَخّرْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمَ الْآيَةِ إلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ كَمَا ذَكَرْتُمْ بَلْ قَدْ حَكَمَ بِذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ قَالَهُ بَعْدَ الْقِتَالِ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْقَتْلِ . وَأَمّا كَوْنُ أَبِي قَتَادَةَ لَمْ يَطْلُبْهُ حَتّى سَمِعَ مُنَادِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُهُ فَلَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَقَرّرًا مَعْلُومًا وَإِنّمَا سَكَتَ عَنْهُ أَبُو قَتَادَةَ لِأَنّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ بِمُجَرّدِ دَعْوَاهُ فَلَمّا شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدٌ أَعْطَاهُ . وَالصّحِيحُ أَنّهُ يُكْتَفَى فِي هَذَا بِالشّاهِدِ الْوَاحِدِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ آخَرَ وَلَا يَمِينٍ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ الّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمّا قَوْلُهُ " إنّهُ لَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ لَوَقَفَ وَلَمْ يُقَسّمْ كَاللّقَطَةِ " فَجَوَابُهُ أَنّهُ لِلْغَانِمِينَ وَإِنّمَا لِلْقَاتِلِ حَقّ التّقْدِيمِ فَإِذَا لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْقَاتِلِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْغَانِمُونَ فَإِنّهُ حَقّهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مُسْتَحِقّ التّقْدِيمِ مِنْهُمْ فَاشْتَرَكُوا فِيهِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَازَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَوْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ
فِي " الْبُخَارِيّ " : أَنّ فَرَسًا لِابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ذَهَبَ وَأَخَذَهُ الْعَدُوّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرُدّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِقَ لَهُ عَبْدٌ فَلَحِقَ بِالرّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَدّهُ عَلَيْهِ خَالِدٌ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . [ ص 70 ] سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي رَدّ عَلَيْهِ الْغُلَامَ وَفِي " الْمُدَوّنَةِ " وَ " الْوَاضِحَةِ أَنّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ فِي الْمَغَانِمِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ وَجَدْتَهُ لَمْ يُقْسَمْ فَخُذْهُ وَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُسِمَ فَأَنْتَ أَحَقّ بِهِ بِالثّمَنِ إنْ أَرَدْتَهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّ الْمُهَاجِرِينَ طَلَبُوا مِنْهُ دُورَهُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكّةَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَى أَحَدٍ دَارَهُ . وَقِيلَ لَهُ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا مِنْ دَارِك بِمَكّةَ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا وَذَلِكَ أَنّ الرّسُولَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَثَبَ عَقِيلٌ عَلَى رِبَاعِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ فَحَازَهَا كُلّهَا وَحَوَى عَلَيْهَا ثُمّ أَسْلَمَ وَهِيَ فِي يَدِهِ وَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيّ لِتَقَدّمِ إسْلَامِهِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِيرَاثٌ مِنْ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَإِنّ أَبَاهُ عَبْدَ اللّهِ مَاتَ وَأَبَوْهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَيّ ثُمّ مَاتَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ فَوَرِثَهُ أَوْلَادُهُ وَهُمْ أَعْمَامُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَاتَ أَكْثَرُ أَوْلَادِهِ وَلَمْ يُعْقِبُوا فَحَازَ أَبُو طَالِبٍ رِبَاعَهُ ثُمّ مَاتَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ دُونَ عَلِيّ لِاخْتِلَافِ الدّينِ ثُمّ هَاجَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَوْلَى عَقِيلٌ عَلَى دَارِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْمِدُونَ إلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَيَسْتَوْلُونَ عَلَى دَارِهِ وَعَقَارِهِ فَمَضَتْ السّنّةُ أَنّ الْكُفّارَ الْمُحَارِبِينَ إذَا أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ الّتِي غَصَبُوهَا عَلَيْهِمْ بَلْ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ هَذَا حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا كَانَ يُهْدَى إلَيْهِ
[ ص 71 ] كَانَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ يُهْدُونَ إلَيْهِ الطّعَامَ وَغَيْرَهُ فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ وَيُكَافِئُهُمْ أَضْعَافَهَا . وَكَانَتْ الْمُلُوكُ تُهْدِي إلَيْهِ فَيَقْبَلُ هَدَايَاهُمْ وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهَا لِنَفَسِهِ مَا يَخْتَارُهُ فَيَكُونُ كَالصّفِيّ الّذِي لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ أَقْبِيَةُ دِيبَاجٍ مُزَرّرَةٌ بِالذّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَجَاءَ وَمَعَهُ الْمِسْوَرُ ابْنُهُ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ اُدْعُهُ لِي فَسَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَوْتَهُ فَتَلَقّاهُ بِهِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَقَالَ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ وَأَهْدَى لَهُ الْمُقَوْقَسُ مَارِيَةَ أُمّ وَلَدِهِ وَسِيرِينَ الّتِي وَهَبَهَا لِحَسّانَ وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ وَحِمَارًا . وَأَهْدَى لَهُ النّجَاشِيّ هَدِيّةً فَقَبِلَهَا مِنْهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ هَدِيّةً عِوَضَهَا وَأَخْبَرَ أَنّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَيْهِ وَأَنّهَا تَرْجِعُ فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ . وَأَهْدَى لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيّ بَغْلَةً بَيْضَاءَ رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . [ ص 72 ] وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ : أَنّ مَلِكَ أَيْلَةَ أَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ فَكَسَاهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُرْدَةً وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ . وَأَهْدَى لَهُ أَبُو سُفْيَانَ هَدِيّةً فَقَبِلَهَا . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ أَهْدَى لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَسًا فَرَدّهُ وَقَالَ إنّا لَا نَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ وَكَذَلِكَ قَالَ لِعِيَاضٍ الْمُجَاشِعِيّ إنّا لَا نَقْبَلُ زَبَدَ الْمُشْرِكِينَ يَعْنِي : رِفْدَهُمْ . إنّا لَا نَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ وَكَذَلِكَ قَالَ لِعِيَاضٍ الْمُجَاشِعِيّ إنّا لَا نَقْبَلُ زَبَدَ الْمُشْرِكِين يَعْنِي : رِفْدَهُمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَإِنّمَا قَبِلَ هَدِيّةَ أَبِي سُفْيَانَ لِأَنّهَا كَانَتْ فِي مُدّةِ الْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكّةَ وَكَذَلِكَ الْمُقَوْقَسُ صَاحِبُ الْإسْكَنْدَريّة إنّمَا قَبِلَ هَدِيّتَهُ لِأَنّهُ أَكْرَمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَهُ إلَيْهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ وَلَمْ يُؤَيّسْهُ مِنْ إسْلَامِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ مُحَارِبٍ لَهُ قَطّ .

فَصْلٌ [حُكْمُ الْمُهْدَى لِلْأَئِمّةِ ]
وَأَمّا حُكْمُ هَدَايَا الْأَئِمّةِ بَعْدَهُ فَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إذَا أَهْدَى أَمِيرُ الرّومِ هَدِيّةً إلَى الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا وَتَكُونُ لَهُ خَاصّةً وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُكَافِئُهُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَصْحَابُهُ مَا أَهْدَاهُ الْكُفّارُ لِلْإِمَامِ أَوْ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ قُوّادِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ حُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَائِمِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ
[ ص 73 ] كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْسِمُهَا ثَلَاثَةٌ الزّكَاةُ وَالْغَنَائِمُ وَالْفَيْءُ . فَأَمّا الزّكَاةُ وَالْغَنَائِمُ فَقَدْ تَقَدّمَ حُكْمُهُمَا وَبَيّنّا أَنّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَوْعِبُ الْأَصْنَافَ الثّمَانِيَةَ وَأَنّهُ كَانَ رُبّمَا وَضَعَهَا فِي وَاحِدٍ .
[الْحُكْمُ فِي الْفَيْءِ ]
وَأَمّا حُكْمُهُ فِي الْفَيْءِ فَثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ يَوْمَ حُنَيْن ٍ فِي الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَعَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ أَلّا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَقُودُونَهُ إلَى رِحَالِكُمْ فَوَاَللّهِ لِمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْقِصّةِ وَفَوَائِدُهَا فِي مَوْضِعِهَا . وَالْقِصّةُ هُنَا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لِرَسُولِهِ مِنْ الْحُكْمِ فِي مَالِ الْفَيْءِ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِغَيْرِهِ وَفِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي لَأُعْطِي أَقْوَامًا وَأَدَعُ غَيْرَهُمْ وَاَلّذِي أَدَعُ أَحَبّ إلَيّ مِنْ الّذِي أُعْطِي وَفِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ إنّي لَأُعْطِي أَقْوَامًا أَخَافُ ظَلْعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ وَأَكِلُ أَقْوَامًا إلَى مَا جَعَلَ اللّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ فَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُمْرَ النّعَمِ . [ ص 74 ] أَنّ عَلِيّا بُعِثَ إلَيْهِ بِذُهَيْبَةٍ مِنْ الْيَمَنِ فَقَسَمَهَا أَرْبَاعًا فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَأَعْطَى زَيْدَ الْخَيْرِ وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبْهَةِ كَثّ اللّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرّأْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اتّقِ اللّهَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيْلك أَوَلَسْت أَحَقّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتّقِيَ اللّهَ ؟ الْحَدِيثَ .

[سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى ]
وَفِي " السّنَنِ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَضَعَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَفِي بَنِي الْمُطّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَانْطَلَقَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ إلَيْهِ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللّهِ لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَوْضِعِهِمْ مِنْك فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكَتْنَا وَإِنّمَا نَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا وَبَنُو الْمُطّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيّةٍ وَلَا إسْلَامٍ إنّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَذَكَرَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَل ٍ كَمَا يُصْرَفُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِب ِ قَالَ لِأَنّ عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِم ًا وَالْمُطّلِب َ وَنَوْفَلًا إخْوَةٌ وَهُمْ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافٍ . وَيُقَالُ إنّ عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا تَوْأَمَانِ . وَالصّوَابُ اسْتِمْرَارُ هَذَا الْحُكْمِ النّبَوِيّ وَأَنّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِبَنِي هَاشِم ٍ وَبَنِي الْمُطّلِب ِ حَيْثُ خَصّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِمْ وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ إنّ هَذَا خَاصّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَاطِلٌ فَإِنّهُ بَيّنَ مَوَاضِعَ الْخُمُسِ الّذِي جَعَلَهُ اللّهُ لِذَوِي الْقُرْبَى فَلَا [ ص 75 ] السّوَاءِ بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَلَا كَانَ يَقْسِمُهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ بَلْ كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِمْ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ فَيُزَوّجُ مِنْهُ عَزَبَهُمْ وَيَقْضِي مِنْهُ عَنْ غَارِمِهِمْ وَيُعْطِي مِنْهُ فَقِيرَهُمْ كِفَايَتَهُ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ وَلّانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَيَاةَ أَبِي بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَحَيَاةَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَقَدْ اُسْتُدِلّ بِهِ عَلَى أَنّهُ كَانَ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهِ الْخَمْسَةِ وَلَا يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إذْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنّهُ صَرَفَهُ فِي مَصَارِفِهِ الّتِي كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصْرِفُهُ فِيهَا وَلَمْ يَعْدُهَا إلَى سِوَاهَا فَأَيْنَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِهِ ؟ وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحْكَامُهُ أَنّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَصَارِفَ الْخُمُسِ كَمَصَارِفِ الزّكَاةِ وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا أَنّهُ يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَمَنْ تَأَمّلَ سِيرَتَهُ وَهَدْيَهُ حَقّ التّأَمّلِ لَمْ يَشُكّ فِي ذَلِكَ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النّضِيرِ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَاصّةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَفِي لَفْظٍ " يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ عُدّةً فِي سَبِيلِ اللّهِ . وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِك ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ [ ص 76 ]

[هَلْ كَانَ الْفَيْءُ مِلْكًا لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفَيْءِ هَلْ كَانَ مِلْكًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَصَرّفُ فِيهِ كَيْفَ يُشَاءُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَاَلّذِي تَدُلّ عَلَيْهِ سُنّتُهُ وَهَدْيُهُ أَنّهُ كَانَ يَتَصَرّفُ فِيهِ بِالْأَمْرِ فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللّهُ وَيَقْسِمُهُ عَلَى مَنْ أُمِرَ بِقِسْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ يَتَصَرّفُ فِيهِ تَصَرّفَ الْمَالِكِ بِشَهْوَتِهِ وَإِرَادَتِهِ يُعْطِي مَنْ أَحَبّ وَيَمْنَعُ مَنْ أَحَبّ وَإِنّمَا كَانَ يَتَصَرّفُ فِيهِ تَصَرّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ يُنَفّذُ مَا أَمَرَهُ بِهِ سَيّدُهُ وَمَوْلَاهُ فَيُعْطِي مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ وَيَمْنَعُ مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ . وَقَدْ صَرّحَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَذَا فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُهُ إنّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ فَكَانَ عَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ وَقَسَمُهُ بِمُجَرّدِ الْأَمْرِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَيّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا .
[الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبْدِ الرّسُولِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ الرّسُولِ]
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْعَبْدَ الرّسُولَ لَا يَتَصَرّفُ إلّا بِأَمْرِ سَيّدِهِ وَمُرْسِلِهِ وَالْمَلِكُ الرّسُولُ لَهُ أَنْ يُعْطِي مَنْ يُشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِلْمَلِكِ الرّسُولِ سُلَيْمَان : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] . أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَامْنَعْ مَنْ شِئْتُ لَا نُحَاسِبُك وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَغِبَ عَنْهَا إلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْعُبُودِيّةِ الْمَحْضَةِ الّتِي تَصَرّفَ صَاحِبُهَا فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى أَمْرِ السّيّدِ فِي كُلّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ تَصَرّفَهُ فِي الْفَيْءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهُوَ مَلِكٌ يُخَالِفُ حُكْمَ [ ص 77 ] كَانَ يُنْفِقُ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ مِمّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ عُدّةً فِي سَبِيلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهَذَا النّوْعُ مِنْ الْأَمْوَالِ هُوَ السّهْمُ الّذِي وَقَعَ بَعْدَهُ فِيهِ مِنْ النّزَاعِ مَا وَقَعَ إلَى الْيَوْمِ .

[مَصَارِفُ الْفَيْءِ ]
فَأَمّا الزّكَوَاتُ وَالْغَنَائِمُ وَقِسْمَةُ الْمَوَارِيثِ فَإِنّهَا مُعَيّنَةٌ لِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا فَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَيْءِ وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مِنْ النّزَاعِ مَا وَقَعَ فِيهِ وَلَوْلَا إشْكَالٌ أَمْرِهِ عَلَيْهِمْ لَمَا طَلَبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِيرَاثَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ وَظَنّتْ أَنّهُ يُورَثُ عَنْهُ مَا كَانَ مَلِكًا لَهُ كَسَائِرِ الْمَالِكِينَ وَخَفِيَ عَلَيْهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا حَقِيقَةُ الْمَلِكِ الّذِي لَيْسَ مِمّا يُورَثُ عَنْهُ بَلْ هُوَ صَدَقَةٌ بَعْدَهُ وَلَمّا عَلِمَ ذَلِكَ خَلِيفَتُهُ الرّاشِدُ الْبَارّ الصّدّيقُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ لَمْ يَجْعَلُوا مَا خَلّفَهُ مِنْ الْفَيْءِ مِيرَاثًا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بَلْ دَفَعُوهُ إلَى عَلِيّ وَالْعَبّاسِ يَعْمَلَانِ فِيهِ عَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تَنَازَعَا فِيهِ وَتَرَافَعَا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَعُمَرَ وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا ذَلِكَ مِيرَاثًا وَلَا مَكّنَا مِنْهُ عَبّاسًا وَعَلِي ا . وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ [ الْحَشْرُ 7 - 10 ] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ مَا أَفَاءَ عَلَى رَسُولِهِ بِجُمْلَتِهِ لِمَنْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَخُصّ مِنْهُ خُمُسَهُ بِالْمَذْكُورِينَ بَلْ عَمّمَ وَأَطْلَقَ وَاسْتَوْعَبَ . وَيُصْرَفُ عَلَى الْمَصَارِفِ الْخَاصّةِ وَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ ثُمّ عَلَى الْمَصَارِفِ الْعَامّةِ وَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَتْبَاعُهُمْ إلَى [ ص 78 ] فَاَلّذِي عَمِلَ بِهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرّاشِدُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ مَا أَحَدٌ أَحَقّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا أَنَا أَحَقّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ وَاَللّهِ مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إلّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَلَكِنّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَقَسَمِنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَالرّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرّجُلُ وَغِنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرّجُلُ وَحَاجَتُهُ وَوَاللّهِ لَئِنْ بَقِيَتْ لَهُمْ لَيَأْتِيَنّ الرّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ فَهَؤُلَاءِ الْمُسَمّوْنَ فِي آيَةِ الْفَيْءِ هُمْ الْمُسَمّوْنَ فِي آيَةِ الْخُمُسِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي آيَةِ الْخُمُسِ لِأَنّهُمْ الْمُسْتَحَقّونَ لِجُمْلَةِ الْفَيْءِ وَأَهْلُ الْخُمُسِ لَهُمْ اسْتِحْقَاقَانِ اسْتِحْقَاقٌ خَاصّ مِنْ الْخُمُسِ وَاسْتِحْقَاقٌ عَامّ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ فَإِنّهُمْ دَاخِلُونَ فِي النّصِيبَيْنِ . وَكَمَا أَنّ قِسْمَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مَنْ جُعِلَ لَهُ لَيْسَ قِسْمَةَ الْأَمْلَاكِ الّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمَالِكُونَ كَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ وَالنّفْعِ وَالْغِنَاءِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْبَلَاءِ فِيهِ فَكَذَلِكَ قِسْمَةُ الْخُمُسِ فِي أَهْلِهِ فَإِنّ مَخْرَجَهُمَا وَاحِدٌ فِي كِتَابِ اللّهِ وَالتّنْصِيصُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إدْخَالِهِمْ وَأَنّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِحَالٍ وَأَنّ الْخُمُسَ لَا يَعْدُوهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ كَأَصْنَافِ الزّكَاةِ لَا تَعْدُوهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ كَمَا أَنّ الْفَيْءَ الْعَامّ فِي آيَةِ الْحَشْرِ لِلْمَذْكُورِينَ فِيهَا لَا يَتَعَدّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا أَفْتَى أَئِمّةُ الْإِسْلَامِ كَمَالِكٍ وَالْإِمَام أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنّ الرّافِضَةَ لَا حَقّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ لِأَنّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَا مِنْ الّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الّذِي سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْقُرْآنُ وَفِعْلُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ .

[هَلْ تُقْسَمُ الزّكَاةُ وَالْفَيْءُ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلّهَا ]
[ ص 79 ] فَقَالَ الشّافِعِيّ : تَجِبُ قِسْمَةُ الزّكَاةِ وَالْخُمُسِ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلّهَا وَيُعْطِي مِنْ كُلّ صِنْفٍ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ . وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ : بَلْ يُعْطِي فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِمَا وَلَا يَعْدُوهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ وَلَا تَجِبُ قِسْمَةُ الزّكَاةِ وَلَا الْفَيْءُ فِي جَمِيعِهِمْ . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ : بِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُمْ اللّهُ فِي آيَةِ الزّكَاةِ وَبِقَوْلِ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فِي آيَةِ الْخُمُسِ . وَمَنْ تَأَمّلَ النّصُوصَ وَعَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ وَجَدَهُ يَدُلّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْخُمُسِ هُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ وَعَيّنَهُمْ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ وَتَقْدِيمًا لَهُمْ وَلِمَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ خَاصّةً بِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ نَصّ عَلَى خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَلَمّا كَانَ الْفَيْءُ لَا يَخْتَصّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ جَعَلَ جُمْلَتَهُ لَهُمْ وَلِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَابِعِيهِمْ فَسَوّى بَيْنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ الْفَيْءِ فِي الْمَصْرِفِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصْرِفُ سَهْمَ اللّهِ وَسَهْمَهُ فِي مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ فِي أَهْلِهَا مُقَدّمًا لِلْأَهَمّ فَالْأَهَمّ وَالْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ فَيُزَوّجُ مِنْهُ عُزّابَهُمْ وَيَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُمْ وَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ مِنْهُمْ وَيُعْطِي عَزَبَهُمْ حَظّا وَمُتَزَوّجَهُمْ حَظّيْنِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ يَجْمَعُونَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَأَبْنَاءَ السّبِيلِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَيَقْسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ بَيْنَهُمْ عَلَى السّوِيّةِ وَلَا عَلَى التّفْضِيلِ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الزّكَاةِ فَهَذَا هَدْيُهُ وَسِيرَتُهُ وَهُوَ فَصْلُ الْخُطّابِ وَمَحْضُ الصّوَابِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لِعَدُوّهِ وَفِي رُسُلِهِمْ أَنْ لَا يُقْتَلُوا وَلَا يُحْبَسُوا وَفِي النّبْذِ إلَى مَنْ عَاهَدَهُ عَلَى سَوَاءٍ إذَا خَافَ مِنْهُ نَقْضَ الْعَهْدِ
[ ص 80 ] ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ لَمّا قَالَا : نَقُولُ إنّهُ رَسُولُ اللّهِ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِأَبِي رَافِعٍ وَقَدْ أَرْسَلَتْهُ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فَأَرَادَ الْمَقَامَ عِنْدَهُ وَأَنّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ وَلَكِنْ ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الّذِي فِيهَا الْآنَ فَارْجِعْ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ رَدّ إلَيْهِمْ أَبَا جَنْدَلٍ لِلْعَهْدِ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَرُدّ النّسَاءَ وَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيّةُ مُسْلِمَةً فَخَرَجَ زَوْجُهَا فِي طَلَبِهَا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ } الْآيَةُ [ الْمُمْتَحِنَةُ 10 ] فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا إلّا الرّغْبَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنّهَا لَمْ تَخْرُجْ لِحَدَثٍ أَحْدَثَتْهُ فِي قَوْمِهَا وَلَا بُغْضًا لَزَوْجِهَا فَحَلَفَتْ فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَلَمْ يَرُدّهَا عَلَيْهِ . فَهَذَا حُكْمُهُ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ اللّهِ وَلَمْ يَجِئْ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ الْبَتّةَ . وَمَنْ زَعَمَ أَنّهُ مَنْسُوخٌ فَلَيْسَ [ ص 81 ] الْحُدَيْبِيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِمّا تَخَافَنّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْخَائِنِينَ } [ الْأَنْفَالُ 58 ] . وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلّنّ عَقْدًا وَلَا يَشُدّنّهُ حَتّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ التّرْمِذِيّ ُ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَلَمّا أَسَرَتْ قُرَيْشٌ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَأَبَاهُ أَطْلَقُوهُمَا وَعَاهَدُوهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا خَارِجِينَ إلَى بَدْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللّهَ عَلَيْهِمْ

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَمَانِ الصّادِرِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّه أَجَارَ رَجُلَيْنِ أَجَارَتْهُمَا أُمّ هَانِئٍ ابْنَةُ عَمّهِ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ [ ص 82 ] أَجَارَ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ لَمّا أَجَارَتْهُ ابْنَتُهُ زَيْنَبُ ثُمّ قَالَ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَضَايَا كُلّيّةٌ أَحَدُهَا : تَكَافُؤُ دِمَائِهِمْ وَهُوَ يَمْنَعُ قَتْلَ مُسْلِمِهِمْ بِكَافِرِهِمْ . وَالثّانِيَةُ أَنّهُ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُوَ يُوجِبُ قَبُولَ أَمَانِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ . وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ . لَا يَجُوزُ الْأَمَانُ إلّا لِوَالِي الْجَيْشِ أَوْ وَالِي السّرِيّةِ . قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ النّاسِ كُلّهِمْ . وَالثّالِثَةُ أَنّ الْمُسْلِمِينَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَوْلِيَةِ الْكُفّارِ شَيْئًا مِنْ الْوِلَايَاتِ فَإِنّ لِلْوَالِي يَدًا عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ . وَالرّابِعَةُ أَنّهُ يَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهَذَا يُوجِبُ أَنّ السّرِيّةَ إذَا غَنِمَتْ غَنِيمَةً بِقُوّةِ جَيْشِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُمْ وَلِلْقَاصِي مِنْ الْجَيْشِ إذْ بِقُوّتِهِ غَنِمُوهَا وَأَنّ مَا صَارَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ كَانَ لِقَاصِيهِمْ وَدَانِيهِمْ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ دَانِيهِمْ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ وَغَيْرُهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كَلِمَاتِهِ الْأَرْبَعَةِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِزْيَةِ وَمِقْدَارِهَا وَمِمّنْ تُقْبَلُ
[الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ ]
قَدْ تَقَدّمَ أَنّ أَوّلَ مَا بَعَثَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِهِ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الدّعْوَةَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِمَكّةَ ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ لَمّا هَاجَرَ مِنْ [ ص 83 ] أَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ وَالْكَفّ عَمّنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ لَمّا نَزَلَتْ ( بَرَاءَةُ ) سَنَةَ ثَمَانٍ أَمَرَهُ بِقِتَالِ جَمِيعِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ الْعَرَبِ : مَنْ قَاتَلَهُ أَوْ كَفّ عَنْ قِتَالِهِ إلّا مَنْ عَاهَدَهُ وَلَمْ يَنْقُصْهُ مِنْ عَهْدِهِ شَيْئًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِعَهْدِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَحَارَبَ الْيَهُودَ مِرَارًا وَلَمْ يُؤْمَرْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ . ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلّهِمْ حَتّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبّهِ فَقَاتَلَهُمْ فَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ وَأَعْطَى بَعْضَهُمْ الْجِزْيَةَ وَاسْتَمَرّ بَعْضُهُمْ عَلَى مُحَارَبَتِهِ فَأَخَذَهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَأَيْلَةَ وَهُمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَكْثَرُهُمْ عَرَبٌ وَأَخَذَهَا مِنْ الْمَجُوسِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْيَمَنِ وَكَانُوا يَهُودًا .

[ هَلْ تَقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَهَلْ تُقْبَلُ مِنْ الْعَرَبِ ]
وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَقَالَ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ : لَا تُؤْخَذُ إلّا مِنْ الطّوَائِفِ الثّلَاثِ الّتِي أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى وَالْمَجُوسُ . وَمَنْ عَدَاهُمْ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلّا الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ فِي الْأُمَمِ كُلّهَا إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ بِالْقُرْآنِ وَالْمَجُوسُ بِالسّنّةِ وَمَنْ عَدَاهُمْ مُلْحَقٌ بِهِمْ لِأَنّ الْمَجُوسَ أَهْلُ شِرْكٍ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَأَخْذُهَا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنّمَا لَمْ يَأْخُذْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنّهُمْ أَسْلَمُوا كُلّهُمْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ فَإِنّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ تَبُوكَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَرَغَ مِنْ قِتَالِ الْعَرَبِ وَاسْتَوْثَقَتْ كُلّهَا لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ الْيَهُودِ الّذِينَ حَارَبُوهُ لِأَنّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ فَلَمّا نَزَلَتْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَمِنْ الْمَجُوسِ وَلَوْ بَقِيَ حِينَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بَذَلَهَا لِقِبَلِهَا مِنْهُ كَمَا قَبِلَهَا مِنْ عَبَدَةِ الصّلْبَانِ وَالنّيرَانِ وَلَا فَرْقَ وَلَا تَأْثِيرَ لِتَغْلِيظِ كُفْرِ بَعْضِ الطّوَائِفِ عَلَى بَعْضٍ ثُمّ إنّ كُفْرَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَيْسَ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ الْمَجُوسِ وَأَيّ فَرْقٍ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنّيرَانِ بَلْ كُفْرُ الْمَجُوسِ أَغْلَظُ وَعُبّادُ الْأَوْثَانِ كَانُوا يُقِرّونَ بِتَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَأَنّهُ لَا خَالِقَ إلّا اللّهُ وَأَنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَتَهُمْ لِتَقَرّبِهِمْ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَمْ يَكُونُوا يُقِرّونَ بِصَانِعَيْنِ لِلْعَالَمِ أَحَدُهُمَا : خَالِقٌ لِلْخَيْرِ [ ص 84 ] الْمَجُوسُ وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِلّونَ نِكَاحَ الْأُمّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَكَانُوا عَلَى بَقَايَا مِنْ دِينِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ . وَأَمّا الْمَجُوسُ فَلَمْ يَكُونُوا عَلَى كِتَابٍ أَصْلًا وَلَا دَانُوا بِدِينِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا فِي عَقَائِدِهِمْ وَلَا فِي شَرَائِعِهِمْ وَالْأَثَرُ الّذِي فِيهِ أَنّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ وَرُفِعَتْ شَرِيعَتُهُمْ لَمّا وَقَعَ مَلِكُهُمْ عَلَى ابْنَتِهِ لَا يَصِحّ الْبَتّةَ وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ وَشَرِيعَتُهُمْ بَطَلَتْ فَلَمْ يَبْقَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنّ الْعَرَبَ كَانُوا عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَكَانَ لَهُ صُحُفٌ وَشَرِيعَةٌ وَلَيْسَ تَغْيِيرُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَشَرِيعَتِهِ بِأَعْظَمَ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَجُوسِ لِدِينِ نَبِيّهِمْ وَكِتَابِهِمْ لَوْ صَحّ فَإِنّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ التّمَسّكُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصّلَوَاتُ وَالسّلَامُ بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَجْعَلُ الْمَجُوسُ الّذِينَ دِينُهُمْ أَقْبَحُ الْأَدْيَانِ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحّ فِي الدّلِيلِ كَمَا تَرَى . وَفَرّقَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالُوا : تُؤْخَذُ مِنْ كُلّ كَافِرٍ إلّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَرَابِعَةٌ فَرّقَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا لَا مَعْنًى لَهُ فَإِنّ قُرَيْشًا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ كَافِرٌ يَحْتَاجُ إلَى قِتَالِهِ وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ الْبَتّة وَقَدْ كَتَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِ هَجَرَ وَإِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى وَإِلَى مُلُوكِ الطّوَائِفِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ عَرَبِيّ وَغَيْرِهِ .

[مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ ]
وَأَمّا حُكْمُهُ فِي قَدْرِهَا فَإِنّهُ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مَعَافِرَ وَهِيَ ثِيَابٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْيَمَنِ . ثُمّ زَادَ فِيهَا عُمَرُ [ ص 85 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهَا أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذّهَبِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ فِي كُلّ سَنَةٍ فَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِمَ ضَعْفَ أَهْلِ الْيَمَنِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلِمَ غِنَى أَهْلِ الشّامِ وَقُوّتَهُمْ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهُدْنَةِ وَمَا يَنْقُضُهَا
[مُصَالَحَتُهُ أَهْلَ مَكّة َ]
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ صَالَحَ أَهْلَ مَكّةَ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ وَدَخَلَ حُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ مَعَهُمْ وَحُلَفَاؤُهُ مِنْ خُزَاعَةَ مَعَهُ فَعَدَتْ حُلَفَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى حُلَفَائِهِ فَغَدَرُوا بِهِمْ فَرَضِيَتْ قُرَيْشٌ وَلَمْ تُنْكِرْهُ فَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ وَاسْتَبَاحَ غَزْوَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذِ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ لِأَنّهُمْ صَارُوا مُحَارِبِينَ لَهُ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ بِرِضَاهُمْ وَإِقْرَارِهِمْ لِحُلَفَائِهِمْ عَلَى الْغَدْرِ بِحُلَفَائِهِ وَأَلْحَقَ رِدْأَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمُبَاشِرِهِمْ .
[ مُصَالَحَتُهُ الْيَهُودَ ]
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ صَالَحَ الْيَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَغَدَرُوا بِهِ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ مِرَارًا وَكُلّ ذَلِكَ يُحَارِبُهُمْ وَيَظْفَرُ بِهِمْ وَآخَرُ مَا صَالَحَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنّ الْأَرْضَ لَهُ وَيُقِرّهُمْ فِيهَا عُمّالًا لَهُ مَا شَاءَ وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْهُ فِيهِمْ حُجّةً عَلَى جَوَازِ صُلْحِ الْإِمَامِ لِعَدُوّهِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدّةِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ جَائِزًا لَهُ فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَهُوَ مُوجِبُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي لَا نَاسِخَ لَهُ .

فَصْلٌ [مَا كَانَ فِي صُلْحِهِ لِأَهْلِ مَكّةَ مِنْ دُخُولِ بَعْضِهِمْ فِي عَهْدِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم]
[ ص 86 ] وَكَانَ فِي صُلْحِهِ لِأَهْلِ مَكّةَ أَنّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ ، وَعَقْدِهِ دَخَلَ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ دَخَلَ وَأَنّ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَرُدّونَهُ إلَيْهِ وَمَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ رَدّهُ إلَيْهِمْ وَأَنّهُ يَدْخُلُ الْعَامَ الْقَابِلَ إلَى مَكّةَ فَيُخَلّونَهَا لَهُ ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلُهَا إلّا بِجُلْبَانِ السّلَاحِ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصّةِ وَفِقْهُهَا فِي مَوْضِعِهِ .

ذِكْرُ أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الثّيّبِ وَالْبِكْرِ يُزَوّجُهُمَا أَبُوهُمَا
[إذْنُ الْبِكْرِ وَالثّيّبِ ]
[ ص 87 ] ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِدَامٍ زَوّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ وَكَانَتْ ثَيّبًا فَأَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَدّ نِكَاحَهَا وَفِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنّ أَبَاهَا زَوّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيّرَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهَذِهِ غَيْرُ خَنْسَاءَ [ ص 88 ] قَضَى فِي إحْدَاهُمَا بِتَخْيِيرِ الثّيّبِ وَقَضَى فِي الْأُخْرَى بِتَخْيِيرِ الْبِكْرِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحِ " أَنّهُ قَالَ لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا ؟ قَالَ أَنْ تَسْكُتَ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَمُوجِبُ هَذَا الْحُكْمِ أَنّهُ لَا تُجْبِرُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ عَلَى النّكَاحِ وَلَا تُزَوّجُ إلّا بِرِضَاهَا وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَهُوَ الْقَوْلُ الّذِي نَدِينُ اللّهَ بِهِ وَلَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَوَاعِدِ شَرِيعَتِهِ وَمَصَالِحِ أُمّتِهِ .
[مُوَافَقَةُ الْإِذْنِ لِحُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
أَمّا مُوَافَقَتُهُ لِحُكْمِهِ فَإِنّهُ حَكَمٌ بِتَخْيِيرِ الْبِكْرِ الْكَارِهَةِ وَلَيْسَ رِوَايَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مُرْسَلَةً بِعِلّةٍ فِيهِ فَإِنّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنّ الِاتّصَالَ زِيَادَةٌ وَمَنْ وَصَلَهُ مُقَدّمٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ فَظَاهِرٌ وَهَذَا تَصَرّفُهُمْ فِي غَالِبِ الْأَحَادِيثِ فَمَا بَالُ هَذَا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ أَمْثَالِهِ وَإِنْ حَكَمْنَا بِالْإِرْسَالِ كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَدّثِينَ فَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيّ قَدْ عَضّدَتْهُ الْآثَارُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَالْقِيَاسُ وَقَوَاعِدُ الشّرْعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَيَتَعَيّنُ الْقَوْلُ بِهِ .
[مُوَافَقَةُ الْإِذْنِ لِأَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
[ ص 89 ] مُوَافَقَةُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَمْرِهِ فَإِنْ قَالَ " وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ وَهَذَا أَمْرٌ مُؤَكّدٌ لِأَنّهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ الدّالّ عَلَى تَحَقّقِ الْمُخْبِرِ بِهِ وَثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ وَالْأَصْلُ فِي أَوَامِرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَكُونَ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَقُمْ إجْمَاعٌ عَلَى خِلَافِهِ .
[مُوَافَقَةُ الْإِذْنِ لِنَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَأَمّا مُوَافَقَتُهُ لِنَهْيِهِ فَلِقَوْلِهِ لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتّى تُسْتَأْذَنَ فَأَمَرَ وَنَهَى وَحَكَمَ بِالتّخْيِيرِ وَهَذَا إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِأَبْلَغَ الطّرُقِ .
[مُوَافَقَةُ الْإِذْنِ لِقَوَاعِدِ الشّرْعِ ]
وَأَمّا مُوَافَقَتُهُ لِقَوَاعِدِ شِرْعِهِ فَإِنّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ الرّشِيدَةَ لَا يَتَصَرّفُ أَبُوهَا فِي أَقَلّ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا إلّا بِرِضَاهَا وَلَا يُجْبِرُهَا عَلَى إخْرَاجِ الْيَسِيرِ مِنْهُ بِدُونِ رِضَاهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُرِقّهَا وَيُخْرِجَ بُضْعَهَا مِنْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا إلَى مَنْ يُرِيدُهُ هُوَ وَهِيَ مِنْ أَكْرَهِ النّاسِ فِيهِ أَبْغَضِ شَيْءٍ إلَيْهَا ؟ وَمَعَ هَذَا فَيُنْكِحُهَا إيّاهُ قَهْرًا بِغَيْرِ رِضَاهَا إلَى مَنْ يُرِيدُهُ وَيَجْعَلُهَا أَسِيرَةً عِنْدَهُ كَمَا قَالَ النّبِيّ اتّقُوا اللّهَ فِي النّسَاءِ فَإِنّهُنّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ أَيْ أَسْرَى وَمَعْلُومٌ أَنّ إخْرَاجَ مَالِهَا كُلّهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا أَسْهَلُ عَلَيْهَا مِنْ تَزْوِيجِهَا بِمَنْ لَا تَخْتَارُهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَقَدْ أَبْطَلَ مَنْ قَالَ إنّهَا إذَا عَيّنَتْ كُفْئًا تُحِبّهُ وَعَيّنّ أَبُوهَا كُفْئًا فَالْعِبْرَةُ بِتَعْيِينِهِ وَلَوْ كَانَ بَغِيضًا إلَيْهَا قَبِيحَ الْخِلْقَةِ .

[ مُوَافَقَةُ الْإِذْنِ لِمَصَالِحِ الْأُمّةِ ]
وَأَمّا مُوَافَقَتُهُ لِمَصَالِحِ الْأُمّةِ فَلَا يَخْفَى مَصْلَحَةُ الْبِنْتِ فِي تَزْوِيجِهَا بِمَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ وَحُصُولُ مَقَاصِدِ النّكَاحِ لَهَا بِهِ وَحُصُولُ ضِدّ ذَلِكَ بِمَنْ تُبْغِضُهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السّنّةُ الصّرِيحَةُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَكَانَ الْقِيَاسُ الصّحِيحُ وَقَوَاعِدُ الشّرِيعَةِ لَا تَقْتَضِي غَيْرَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ الْحُجّةُ عَلَى مَنْ اسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِ " الْأَيّمُ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا " فِي إجْبَارِ الْبِكْرِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثّيّبِ وَقَالَ وَلَا تُنْكَحُ الْأَيّمُ حَتّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتّى تُسْتَأْذَنَ [ ص 90 ] وَقَالَ الْأَيّمُ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فَجَعَلَ الْأَيّمَ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا فَعُلِمَ أَنّ وَلِيّ الْبِكْرِ أَحَقّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا وَإِلّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأَيّمِ بِذَلِكَ مَعْنًى . وَأَيْضًا فَإِنّهُ فَرّقَ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ فَجَعَلَ إذْنَ الثّيّبِ النّطْقَ وَإِذْنَ الْبِكْرِ الصّمْتَ وَهَذَا كُلّهُ يَدُلّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا وَأَنّهَا لَا حَقّ لَهَا مَعَ أَبِيهَا . فَالْجَوَابُ أَنّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلّ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا مَعَ بُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا وَرُشْدِهَا وَأَنْ يُزَوّجَهَا بِأَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَيْهَا إذَا كَانَ كُفْئًا وَالْأَحَادِيثُ الّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا صَرِيحَةٌ فِي إبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَيْسَ مَعَكُمْ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ الْأَيّمُ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا هَذَا إنّمَا يَدُلّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَمُنَازِعُوكُمْ يُنَازِعُونَكُمْ فِي كَوْنِهِ حُجّةً وَلَوْ سَلّمَ أَنّهُ حُجّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَنْطُوقِ الصّرِيحِ وَهَذَا أَيْضًا إنّمَا يَدُلّ إذَا قُلْت : إنّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا وَالصّوَابُ أَنّهُ لَا عُمُومَ لَهُ إذْ دَلَالَتُهُ تَرْجِعُ إلَى أَنّ التّخْصِيصَ بِالْمَذْكُورِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ وَهِيَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَمّا عَدَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنّ انْقِسَامَ مَا عَدَاهُ إلَى ثَابِتِ الْحُكْمِ وَمُنَتّفِيهِ فَائِدَةٌ وَأَنّ إثْبَاتَ حُكْمٍ آخَرَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَائِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضِدّ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَأَنّ تَفْصِيلَهُ فَائِدَةٌ كَيْفَ وَهَذَا مَفْهُومٌ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الصّرِيحِ بَلْ قِيَاسُ الْأَوْلَى كَمَا تَقَدّمَ وَيُخَالِفُ النّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ . وَتَأَمّلْ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ الْأَيّمُ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا قَطْعًا لِتَوَهّمِ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنّ الْبِكْرَ تُزَوّجُ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَا إذْنِهَا فَلَا حَقّ لَهَا فِي نَفْسِهَا الْبَتّةَ فَوَصَلَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى دَفْعًا لِهَذَا التّوَهّمِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الثّيّبِ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبِكْرِ فِي نَفْسِهَا حَقّ الْبَتّةَ .

[ مَنَاطُ الْإِجْبَارِ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنَاطِ الْإِجْبَارِ عَلَى سِتّةِ أَقْوَالٍ [ ص 91 ] أَحَدُهَا : أَنّهُ يُجْبَرُ بِالْبَكَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ . الثّانِي : أَنّهُ يُجْبَرُ بِالصّغَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الرّوَايَةِ الثّانِيَةِ . الثّالِثُ أَنّهُ يُجْبَرُ بِهِمَا مَعًا وَهُوَ الرّوَايَةُ الثّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ . الرّابِعُ أَنّهُ يُجْبَرُ بِأَيّهِمَا وُجِدَ وَهُوَ الرّوَايَةُ الرّابِعَةُ عَنْهُ . الْخَامِسُ أَنّهُ يُجْبَرُ بِالْإِيلَادِ فَتُجْبَرُ الثّيّبُ الْبَالِغُ حَكَاهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ قَالَ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . قَالَ وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ الْفِقْهِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذَا الْوَجْهُ الْأَسْوَدُ الْمُظْلِمُ ؟ السّادِسُ أَنّهُ يُجْبَرُ من يَكُونُ فِي عياله وَلَا يَخْفَى عَلَيْك الرّاجِحُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ .

فَصْلٌ [ إذْنُ الْبِكْرِ الصّمَاتُ وَإِذْنُ الثّيّبِ الْكَلَامُ ]
وَقَضَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ إذْنَ الْبِكْرِ الصّمَاتُ وَإِذْنَ الثّيّبِ الْكَلَامُ فَإِنْ نَطَقَتْ الْبِكْرُ بِالْإِذْنِ بِالْكَلَامِ فَهُوَ آكَدُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : لَا يَصِحّ أَنْ تُزَوّجَ إلّا بِالصّمَاتِ وَهَذَا هُوَ اللّائِقُ بِظَاهِرِيّتِهِ .

فَصْلٌ [ جَوَازُ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ]
وَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْيَتِيمَةَ تُسْتَأْمَرُ فى نَفْسِهَا وَلَا يَتِمّ بَعْدَ احْتِلَامٍ فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغ وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْقُرْآنُ وَالسّنّةُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا . قَالَ تَعَالَى [ ص 92 ] { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ اللّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ } [ النّسَاءُ 127 ] . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيّهَا فَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا وَلَا يُقْسِطُ لَهَا سُنّةَ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنّ إلّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنّ سُنّةَ صَدَاقِهِنّ وَفِي السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّكَاحِ بِلَا وَلِيّ
فِي " السّنَنِ " عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَيّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ لَا نِكَاحَ إلّا بِوَلِي [ ص 93 ] لَا تُزَوّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنّ الزّانِيَةَ هِيَ الّتِي تُزَوّجُ نَفْسَهَا

فَصْلٌ [ إذَا زَوّجَ الْمَرْأَةَ الْوَلِيّانِ فَهِيَ لِلْأَوّلِ مِنْهُمَا ]
وَحَكَمَ أَنّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوّجَهَا الْوَلِيّانِ فَهِيَ لِلْأَوّلِ مِنْهُمَا وَأَنّ الرّجُلَ إذَا بَاعَ لِلرّجُلَيْنِ فَالْبَيْعُ لِلْأَوّلِ مِنْهُمَا .

فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ فِي نِكَاحِ التّفْوِيض
ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ [ ص 94 ] قَضَى فِي رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتّى مَاتَ أَنّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَرْضَى أَنْ أُزَوّجَكَ فُلَانَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوّجَكِ فُلَانًا ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَزَوّجَ أَحَدَهُمَا صَاحِبَهُ فَدَخَلَ بِهَا الرّجُلُ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا فَلَمّا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ عَوّضَهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمًا لَهُ بِخَيْبَرَ وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ جَوَازَ النّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ صَدَاقٍ وَجَوَازَ الدّخُولِ قَبْلَ التّسْمِيَةِ وَاسْتِقْرَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَوُجُوبَ عِدّةِ الْوَفَاةِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزّوْجُ وَبِهَذَا أَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَفُقَهَاءُ الْعِرَاقِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَد ُ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . [ ص 95 ] وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : لَا صَدَاقَ لَهَا وَبِهِ أَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَالِك وَالشّافِعِيّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ . وَتَضَمّنَتْ جَوَازَ تَوَلّي الرّجُلِ طَرَفَيْ الْعَقْدِ كَوَكِيلٍ مِنْ الطّرَفَيْنِ أَوْ وَلِيّ فِيهِمَا أَوْ وَلِيّ وَكّلَهُ الزّوْجُ أَوْ زَوْجٍ وَكّلَهُ الْوَلِيّ وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ زَوّجْتُ فُلَانًا فُلَانَةَ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَزَوّجْتُ فُلَانَةَ إذَا كَانَ هُوَ الزّوْجُ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا لِلْوَلِيّ الْمُجْبِرِ كَمَنْ زَوّجَ أَمَتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ الْمُجْبَرَةَ بِعَبْدِهِ الْمُجْبَرِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَى وَاحِدٍ مِنْ الطّرَفَيْنِ . وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا لِلزّوْجِ خَاصّةً فَإِنّهُ لَا يَصِحّ مِنْهُ تَوَلّي الطّرَفَيْنِ لِتَضَادّ أَحْكَامِ الطّرَفَيْنِ فِيهِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ تَزَوّجَ امْرَأَةً فَوَجَدَهَا فِي الْحَبَلِ
فِي " السّنَنِ " وَ " الْمُصَنّفِ " : عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ بُصْرَةَ بْنِ أَكْثَمَ قَالَ تَزَوّجْتُ امْرَأَةً بِكْرًا فِي سِتْرِهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ حُبْلَى فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا الصّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَك وَإِذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوهَا وَفَرّقَ بَيْنَهُمَا . [ ص 96 ] أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ الْمُسَمّى فِي النّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ الثّلَاثَةِ . وَالثّانِي : يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . وَالثّالِثُ يَجِبُ أَقَلّ الْأَمْرَيْنِ . وَتَضَمّنَتْ وُجُوبَ الْحَدّ بِالْحَبَلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ وَالْحَبَلُ مِنْ أَقْوَى الْبَيّنَاتِ وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَأَمّا حُكْمُهُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ عَبْدًا لِلزّوْجِ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ لَمّا كَانَ وَلَدَ زِنًى لَا أَبَ لَهُ وَقَدْ غَرّتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَغَرِمَ صَدَاقَهَا أَخْدَمَهُ وَلَدَهَا وَجَعَلَهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لَا أَنّهُ أَرَقّهُ فَإِنّهُ انْعَقَدَ حُرّا تَبَعًا لِحُرّيّةِ أُمّهِ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَقّهُ عُقُوبَةً لِأُمّهِ عَلَى زِنَاهَا وَتَغْرِيرِهَا لِلزّوْجِ وَيَكُونُ هَذَا خَاصّا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِذَلِكَ الْوَلَدِ لَا يَتَعَدّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْسُوخًا . وَقَدْ قِيلَ إنّهُ [ ص 97 ] كَانَ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ يُسْتَرَقّ الْحُرّ فِي الدّينِ وَعَلَيْهِ حِمْلُ بَيْعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُسْتَرَقّ فِي دِينِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَم .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرُوطِ فِي النّكَاحِ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَحَقّ الشّرُوطِ أَنْ تُوَفّوا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ وَفِيهِمَا عَنْهُ لَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَنْكِحَ فَإِنّمَا لَهَا مَا قُدّرَ لَهَا وَفِيهِمَا : أَنّهُ نَهَى أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " : عَنْهُ لَا يَحِلّ أَنْ تُنْكَحَ امْرَأَةٌ بِطَلَاقِ أُخْرَى فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالشّرُوطِ الّتِي شُرِطَتْ فِي الْعَقْدِ إذَا لَمْ تَتَضَمّنْ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ اللّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ اُتّفِقَ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِتَعْجِيلِ الْمَهْرِ أَوْ تَأْجِيلِهِ وَالضّمِينُ وَالرّهْنُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِاشْتِرَاطِ تَرْكِ الْوَطْءِ وَالْإِنْفَاقِ وَالْخُلُوّ عَنْ الْمَهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . [ ص 98 ] الْإِقَامَةِ فِي بَلَدِ الزّوْجَةِ وَشَرْطِ دَارِ الزّوْجَةِ وَأَنْ لَا يَتَسَرّى عَلَيْهَا وَلَا يَتَزَوّجَ عَلَيْهَا فَأَوْجَبَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ الْوَفَاءَ بِهِ وَمَتَى لَمْ يَفِ بِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ أَحْمَدَ . وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ وَالنّسَبِ وَالْجَمَالِ وَالسّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الّتِي لَا يُفْسَخُ بِهَا النّكَاحُ وَهَلْ يُؤَثّرُ عَدَمُهَا فِي فَسْخِهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . ثَالِثُهَا : الْفَسْخُ عِنْدَ عَدَمِ النّسَبِ خَاصّةً .
[ بُطْلَانُ اشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ طَلَاقَ أُخْتِهَا ]
وَتَضَمّنَ حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُطْلَانَ اشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ طَلَاقَ أُخْتِهَا وَأَنّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اشْتِرَاطِهَا أَنْ لَا يَتَزَوّجَ عَلَيْهَا حَتّى صَحّحْتُمْ هَذَا وَأَبْطَلْتُمْ شَرْطَ طَلَاقِ الضّرّةِ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ فِي اشْتِرَاطِ طَلَاقِ الزّوْجَةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا وَكَسْرِ قَلْبِهَا وَخَرَابِ بَيْتِهَا وَشَمَاتَةِ أَعْدَائِهَا مَا لَيْسَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ غَيْرِهَا وَقَدْ فَرّقَ النّصّ بَيْنَهُمَا فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَاسِدٌ .

فَصْلٌ فِي حُكْمه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِكَاحِ الشّغَارِ وَالْمُحَلّلِ وَالْمُتْعَةِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَنِكَاحِ الزّانِيَةِ
[ النّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشّغَارِ ]
أَمّا الشّغَارُ فَصَحّ النّهْيُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةَ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَام وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَالشّغَارُ أَنْ يُزَوّجَ الرّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ [ ص 99 ] أَبِي هُرَيْرَةَ وَالشّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ لِلرّجُلِ : زَوّجْنِي ابْنَتَك وَأُزَوّجُك ابْنَتِي أَوْ زَوّجْنِي أُخْتَك وَأُزَوّجُك أُخْتِي وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنّ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ أَنْكَحَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَتَهُ وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتّفْرِيقِ بَيْنهمَا وَقَالَ هَذَا الشّغَارُ الّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : الشّغَارُ الْبَاطِلُ أَنْ يُزَوّجَهُ وَلِيّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوّجَهُ الْآخَرُ وَلِيّتَهُ وَلَا مَهْرَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ سَمّوْا مَعَ ذَلِكَ مَهْرًا صَحّ الْعَقْدُ بِالْمُسَمّى عِنْدَهُ . وَقَالَ الْخِرَقِيّ لَا يَصِحّ وَلَوْ سَمّوْا مَهْرًا عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ . وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيّةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إنْ سَمّوْا مَهْرًا وَقَالُوا : مَعَ ذَلِكَ بُضْعُ كُلّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْأُخْرَى لَمْ يَصِحّ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ صَحّ .
[ عِلّةُ النّهْيِ عَنْهُ ]
وَاخْتُلِفَ فِي عِلّةِ النّهْيِ فَقِيلَ هِيَ جَعْلُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ وَقِيلَ الْعِلّةُ التّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ وَجَعْلُ بُضْعِ كُلّ وَاحِدَةٍ مَهْرًا لِلْأُخْرَى وَهِيَ لَا تَنْتَفِعُ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهَا الْمَهْرُ بَلْ عَادَ الْمُهْرُ إلَى الْوَلِيّ وَهُوَ مِلْكُهُ لِبُضْعِ زَوْجَتِهِ بِتَمْلِيكِهِ لِبُضْعِ مُوَلّيَتِهِ وَهَذَا ظُلْمٌ لِكُلّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ وَإِخْلَاءٌ لِنِكَاحِهِمَا عَنْ مَهْرٍ تَنْتَفِعُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلُغَةِ الْعَرَبِ فَإِنّهُمْ يَقُولُونَ بَلَدٌ شَاغِرٌ مِنْ أَمِيرٍ وَدَارٌ شَاغِرَةٌ مِنْ أَهْلِهَا : إذَا خَلَتْ وَشَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ رِجْلَهُ وَأَخْلَى مَكَانَهَا . فَإِذَا سَمّوْا مَهْرًا مَعَ ذَلِكَ زَالَ الْمَحْذُورُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا اشْتِرَاطُ كُلّ [ ص 100 ] أَحْمَدَ . وَأَمّا مَنْ فَرّقَ فَقَالَ إنْ قَالُوا مَعَ التّسْمِيَةِ إنّ بُضْعَ كُلّ وَاحِدَةٍ مَهْرٌ لِلْأُخْرَى فَسَدَ لِأَنّهَا لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهَا مَهْرُهَا وَصَارَ بُضْعُهَا لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقّ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ صَحّ وَاَلّذِي يَجِيءُ عَلَى أَصْلِهِ أَنّهُمْ مَتَى عَقَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنّهُ لَا يَصِحّ لِأَنّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبِرَةٌ وَالْمَشْرُوطُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِشَرْطِ ذَلِكَ وَالتّوَاطُؤِ عَلَيْهِ وَنِيّتِهِ فَإِنْ سَمّى لِكُلّ وَاحِدَةٍ مَهْرَ مِثْلِهَا صَحّ وَبِهَذَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ النّهْيِ وَاتّفَاقُ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ .

فَصْلٌ [ نِكَاحُ التّحْلِيلِ ]
وَأَمّا نِكَاحُ الْمُحَلّلِ فَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُحَلّلَ وَالْمُحَلّلَ لَهُ قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا : لَعَنَ اللّهُ الْمُحَلّلَ وَالْمُحَلّلَ لَهُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ . وَفِيهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلُهُ . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ [ ص 101 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ هُوَ الْمُحَلّلُ لَعَنَ اللّهُ الْمُحَلّلَ وَالْمُحَلّلَ لَهُ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ سَادَاتِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ شَهِدُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَعْنِهِ أَصْحَابَ التّحْلِيلِ وَهُمْ الْمُحَلّلُ وَالْمُحَلّلُ لَهُ وَهَذَا إمّا خَبَرٌ عَنْ اللّهِ فَهُوَ خَبَرُ صِدْقٍ وَإِمّا دُعَاءٌ فَهُوَ دُعَاءٌ مُسْتَجَابٌ قَطْعًا وَهَذَا يُفِيدُ أَنّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمَلْعُونُ فَاعِلُهَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَائِهِمْ بَيْنَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالتّوَاطُؤِ وَالْقَصْدِ فَإِنّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ عِنْدَهُمْ مُعْتَبِرَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ وَالشّرْطُ الْمُتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ كَالْمَلْفُوظِ عِنْدَهُمْ وَالْأَلْفَاظُ لَا تُرَادُ لَعَيْنِهَا بَلْ لِلدّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي فَإِذْ ظَهَرَتْ الْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدُ فَلَا عِبْرَةَ بِالْأَلْفَاظِ لِأَنّهَا وَسَائِلُ وَقَدْ تَحَقّقَتْ غَايَاتُهَا فَتَرَتّبَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا .

فَصْلٌ [ النّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ]
وَأَمّا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ أَحَلّهَا عَامَ الْفَتْحِ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْهَا عَامَ الْفَتْحِ وَاخْتُلِفَ هَلْ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصّحِيحُ أَنّ النّهْيَ إنّمَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ وَأَنّ النّهْيَ يَوْمَ خَيْبَرَ إنّمَا كَانَ عَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَإِنّمَا قَالَ عَلِيّ لِابْنِ عَبّاسٍ : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ وَنَهَى عَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ [ ص 102 ] مُحْتَجّا عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَظَنّ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّ التّقْيِيدَ بِيَوْمِ خَيْبَرَ رَاجِعٌ إلَى الْفَصْلَيْنِ فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمّ أَفْرَدَ بَعْضُهُمْ أَحَدَ الْفَصْلَيْنِ وَقَيّدَهُ بِيَوْمِ خَيْبَرَ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ . وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ إبَاحَتُهَا فَإِنّ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْهُ كُنّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمّ رَخّصَ لَنَا بَعْدَ أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثّوْبِ إلَى أَجَلٍ ثُمّ قَرَأَ عَبْدُ اللّهِ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } [ الْمَائِدَةُ 87 ] وَلَكِنْ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَلِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ وَهَذَا التّحْرِيمُ إنّمَا كَانَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَإِلّا لَزِمَ مِنْهُ النّسْخُ مَرّتَيْنِ وَلَمْ يَحْتَجّ بِهِ عَلَى عَلِيّ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنّ النّظَرَ هَلْ هُوَ تَحْرِيمُ بَتَاتٍ أَوْ تَحْرِيمٌ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدّمِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَيُبَاحُ عِنْدَ الضّرُورَةِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ ؟ هَذَا هُوَ الّذِي لَحِظَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وَأَفْتَى بِحَلّهَا لِلضّرُورَةِ فَلَمّا تَوَسّعَ النّاسُ فِيهَا وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَوْضِعِ الضّرُورَةِ أَمْسَكَ عَنْ فُتْيَاهُ وَرَجَعَ عَنْهَا .

فَصْلٌ نِكَاحُ الْمُحرمِ فِي حَجّ أَوْ عُمْرَةٍ
وَأَمّا نِكَاحُ الْمُحْرِمِ فَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَح
[هَلْ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ]
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : [ ص 103 ] تَزَوّجَهَا مُحْرِمًا وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ تَزَوّجَهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرّسُولَ بَيْنَهُمَا . وَقَوْلُ أَبِي رَافِعٍ أَرْجَحُ لِعِدّةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : أَنّهُ إذْ ذَاكَ كَانَ رَجُلًا بَالِغًا وَابْنُ عَبّاسٍ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مِمّنْ بَلَغَ الْحُلُمَ بَلْ كَانَ لَهُ نَحْوُ الْعَشْرِ سِنِينَ فَأَبُو رَافِعٍ إذْ ذَاكَ كَانَ أَحْفَظَ مِنْهُ . الثّانِي : أَنّهُ كَانَ الرّسُولَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَهَا وَعَلَى يَدِهِ دَارَ الْحَدِيثُ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ بِلَا شَكّ وَقَدْ أَشَارَ بِنَفْسِهِ إلَى هَذَا إشَارَةَ مُتَحَقّقٍ لَهُ وَمُتَيَقّنٍ وَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ غَيْرِهِ بَلْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ . الثّالِثُ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ فَإِنّهَا كَانَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ إذْ ذَاكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ الّذِينَ عَذَرَهُمْ اللّهُ مِنْ الْوِلْدَانِ وَإِنّمَا سَمِعَ الْقِصّةَ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ مِنْهُ لَهَا . الرّابِعُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَخَلَ مَكّةَ بَدَأَ بِالطّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمّ سَعَى بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ وَحَلَقَ ثُمّ حَلّ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمْ يَتَزَوّجْ بِهَا فِي طَرِيقِهِ وَلَا بَدَأَ بِالتّزْوِيجِ بِهَا قَبْلَ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا تَزَوّجَ فِي حَالِ طَوَافِهِ هَذَا مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمْ يَقَعْ فَصَحّ قَوْلُ أَبِي رَافِعٍ يَقِينًا . الْخَامِسُ أَنّ الصّحَابَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ غَلّطُوا ابْنَ عَبّاسٍ وَلَمْ يُغَلّطُوا أَبَا رَافِعٍ . السّادِسُ أَنّ قَوْلَ أَبِي رَافِعٍ مُوَافِقٌ لِنَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ يُخَالِفُهُ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمّا لِنَسْخِهِ وَإِمّا لِتَخْصِيصِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَوَازِ النّكَاحِ مُحْرِمًا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَلَا يُقْبَلُ . [ ص 104 ] السّابِعُ أَنّ ابْنَ أُخْتِهَا يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمّ شَهِدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَهَا حَلَالًا قَالَ وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبّاسٍ . ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الزّانِيَةِ ]
وَأَمّا نِكَاحُ الزّانِيَةِ فَقَدْ صَرّحَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَحْرِيمِهِ فِي سُورَةِ النّورِ وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ نَكَحَهَا فَهُوَ إمّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَإِنّهُ إمّا أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَهُ سُبْحَانَهُ وَيَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ أَوَلَا فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ . وَإِنْ الْتَزَمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ وَخَالَفَهُ فَهُوَ زَانٍ ثُمّ صَرّحَ بِتَحْرِيمِهِ فَقَالَ { وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النّورُ 3 ] وَلَا يَخْفَى أَنّ دَعْوَى نَسْخِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } [ النّورُ 34 ] مِنْ أَضْعَفِ مَا يُقَالُ وَأَضْعَفُ مِنْهُ حَمْلُ النّكَاحِ عَلَى الزّنَى إذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ الزّانِي لَا يَزْنِي إلّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ وَالزّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إلّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَكَلَامُ اللّهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِ هَذَا .
[ الرّدّ عَلَى مَنْ حَمَلَ مَعْنَى الزّانِيَةِ فِي الْآيَةِ عَلَى بَغْيِ مُشْرِكَةٍ ]
وَكَذَلِكَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ بَغِيّ مُشْرِكَةٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ لَفْظِهَا وَسِيَاقِهَا كَيْفَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ الْعِفّةُ فَقَالَ { فَانْكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النّسَاءُ 25 ] فَإِنّمَا أَبَاحَ نِكَاحَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فَإِنّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التّحْرِيمِ فَيُقْتَصَرُ فِي إبَاحَتِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشّرْعُ وَمَا عَدَاهُ فَعَلَى أَصْلِ التّحْرِيمِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ ص 105 ] تَزَوّجَ بِهِنّ فَهُوَ خَبِيثٌ مِثْلُهُنّ . وَأَيْضًا . فَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ أَنْ يَكُونَ الرّجُلُ زَوْجَ بَغِيّ وَقُبْحُ هَذَا مُسْتَقِرّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ الْمَسَبّةِ . وَأَيْضًا : فَإِنّ الْبَغِيّ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَى الرّجُلِ فِرَاشَهُ وَتُعَلّقَ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ وَالتّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا . وَأَيْضًا : فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرّقَ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الّتِي وَجَدَهَا حُبْلَى مِنْ الزّنَى . وَأَيْضًا فَإِنّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ اسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَتَزَوّجَ عَنَاقَ وَكَانَتْ بَغِيّا فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ آيَةَ النّورِ وَقَالَ لَا تَنْكِحْهَا .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ عَلَى أُخْتَيْنِ
فِي التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : أَنّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اخْتَرْ مِنْهُنّ أَرْبَعًا . وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى : وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ . [ ص 106 ] وَأَسْلَمَ فَيْرُوزُ الدّيْلَمِيّ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اخْتَرْ أَيّتَهُمَا شِئْتَ . فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ صِحّةَ نِكَاحِ الْكُفّارِ وَأَنّهُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ شَاءَ مِنْ السّوَابِقِ وَاللّوَاحِقِ لِأَنّهُ جَعَلَ الْخِيرَةَ إلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ تَزَوّجَهُنّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ وَإِنْ تَزَوّجَهُنّ مُتَرَتّبَاتٍ ثَبَتَ [ ص 107 ]

فَصْلٌ [ إذَا تَزَوّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ ]
وَحَكَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ .

فَصْلٌ [ مَنْعُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ فَاطِمَةَ وَبِنْتِ أَبِي جَهْلٍ ]
وَاسْتَأْذَنَهُ بَنُو هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنْ يُزَوّجُوا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ فَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ إلّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ فَإِنّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا إنّي أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فَاطِمَةُ فِي دِينِهَا وَإِنّي لَسْتُ أُحَرّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلّ حَرَامًا وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ وَبِنْتُ عَدُوّ اللّهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبَدًا . وَفِي لَفْظٍ فَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ حَدّثَنِي فَصَدّقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي .
[ إذَا شَرَطَ الرّجُلُ لِزَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَتَزَوّجَ عَلَيْهَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ ]
فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أُمُورًا : أَحَدُهَا : أَنّ الرّجُلَ إذَا شَرَطَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَتَزَوّجَ عَلَيْهَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِالشّرْطِ وَمَتَى تَزَوّجَ عَلَيْهَا فَلَهَا الْفَسْخُ وَوَجْهُ تَضَمّنِ الْحَدِيثِ لِذَلِكَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ أَنّ ذَلِكَ يُؤْذِي فَاطِمَةَ وَيُرِيبُهَا وَأَنّهُ يُؤْذِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُرِيبُهُ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا زَوّجَهُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ لَا يُؤْذِيَهَا وَلَا يُرِيبَهَا وَلَا يُؤْذِيَ أَبَاهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَرِيبهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُشْتَرَطًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَإِنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضّرُورَةِ أَنّهُ إنّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَفِي ذِكْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِهْرَهُ الْآخَرَ وَثَنَاءَهُ عَلَيْهِ بِأَنّهُ حَدّثَهُ فَصَدّقَهُ [ ص 108 ] بِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَتَهْيِيجٌ لَهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنّهُ جَرَى مِنْهُ وَعْدٌ لَهُ بِأَنّهُ لَا يَرِيبُهَا وَلَا يُؤْذِيهَا فَهَيّجَهُ عَلَى الْوَفَاءِ لَهُ كَمَا وَفَى لَهُ صِهْرُهُ الْآخَرُ .

[ الْمَشْرُوطُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا ]
فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنّ الْمَشْرُوطَ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا وَأَنّ عَدَمَهُ يُمَلّكُ الْفَسْخَ لِمُشْتَرِطِهِ فَلَوْ فُرِضَ مِنْ عَادَةِ قَوْمٍ أَنّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ نِسَاءَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَلَا يُمَكّنُونَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبَتّةُ وَاسْتَمَرّتْ عَادَتُهُمْ بِذَلِكَ كَانَ كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا وَهُوَ مُطّرِدٌ عَلَى قَوَاعِدِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَوَاعِدِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ أَنّ الشّرْطَ الْعُرْفِيّ كَاللّفْظِيّ سَوَاءٌ وَلِهَذَا أَوْجَبُوا الْأُجْرَةَ عَلَى مَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسّالٍ أَوْ قَصّارٍ أَوْ عَجِينَهُ إلَى خَبّازٍ أَوْ طَعَامَهُ إلَى طَبّاخٍ يَعْمَلُونَ بِالْأُجْرَةِ أَوْ دَخَلَ الْحَمّامَ أَوْ اسْتَخْدَمَ مَنْ يَغْسِلُهُ مِمّنْ عَادَتُهُ يَغْسِلُ بِالْأُجْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ يَشْرُطْ لَهُمْ أُجْرَةَ أَنّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ فُرِضَ أَنّ الْمَرْأَةَ مِنْ بَيْتٍ لَا يَتَزَوّجُ الرّجُلُ عَلَى نِسَائِهِمْ ضَرّةً وَلَا يُمَكّنُونَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَادَتُهُمْ مُسْتَمِرّةٌ بِذَلِكَ كَانَ كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مِمّنْ يَعْلَمُ أَنّهَا لَا تُمَكّنُ إدْخَالَ الضّرّةِ عَلَيْهَا عَادَةً لِشَرَفِهَا وَحَسَبِهَا وَجَلَالَتِهَا كَانَ تَرْكُ التّزَوّجِ عَلَيْهَا كَالْمَشْرُوطِ لَفْظًا سَوَاءٌ . وَعَلَى هَذَا فَسَيّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَابْنَةُ سَيّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ أَحَقّ النّسَاءِ بِهَذَا فَلَوْ شَرَطَهُ عَلِيّ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَانَ تَأْكِيدًا لَا تَأْسِيسًا . وَفِي مَنْعِ عَلِيّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَبَيْنَ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ أَنّ الْمَرْأَةَ مَعَ زَوْجِهَا فِي دَرَجَتِهِ تَبَعٌ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا ذَاتَ دَرَجَة عَالِيَةٍ وَزَوْجُهَا كَذَلِكَ كَانَتْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ بِنَفْسِهَا وَبِزَوْجِهَا وَهَذَا شَأْنُ فَاطِمَةَ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيَجْعَلَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ مَعَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَا بِنَفْسِهَا وَلَا تَبَعًا وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ نِكَاحُهَا عَلَى سَيّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مُسْتَحْسَنًا لَا شَرْعًا وَلَا قَدْرًا [ ص 109 ] أَشَارَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ وَاَللّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ وَبِنْتُ عَدُوّ اللّهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبَدًا فَهَذَا إمّا أَنْ يَتَنَاوَلَ دَرَجَةَ الْآخَرِ بِلَفْظِهِ أَوْ إشَارَتِهِ .

فَصْلٌ فِيمَا حَكَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ النّسَاءِ عَلَى لِسَانِ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ تَحْرِيمُ الْأُمّهَاتِ ]
حَرّمَ الْأُمّهَاتِ وَهُنّ كُلّ مَنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ إيلَادٌ مِنْ جِهَةِ الْأُمُومَةِ أَوْ الْأُبُوّةِ كَأُمّهَاتِهِ وَأُمّهَاتِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ جِهَةِ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَإِنْ عَلَوْنَ .
[ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ ]
وَحَرّمَ الْبَنَاتِ وَهُنّ كُلّ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ بِإِيلَادٍ كَبَنَاتِ صُلْبِهِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِ وَأَبْنَائِهِنّ وَإِنْ سَفُلْنَ .
[ تَحْرِيمُ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمّاتِ ]
وَحَرّمَ الْأَخَوَاتِ مِنْ كُلّ جِهَةٍ وَحَرّمَ الْعَمّاتِ وَهُنّ أَخَوَاتُ آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ كُلّ جِهَةٍ .
[ التّفْصِيلُ فِي عَمّةِ الْعَمّ ]
وَأَمّا عَمّةُ الْعَمّ فَإِنْ كَانَ الْعَمّ لِأَبٍ فَهِيَ عَمّةُ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ لَأُمّ فَعَمّتُهُ أَجْنَبِيّةٌ مِنْهُ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْعَمّاتِ وَأَمّا عَمّةُ الْأُمّ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عَمّاتِهِ كَمَا دَخَلَتْ عَمّةُ أَبِيهِ فِي عَمّاتِهِ .
[ تَحْرِيمُ الْخَالَاتِ ]
[ التّفْصِيلُ فِي خَالَةِ الْعَمّةِ وَعَمّةِ الْخَالَةِ ]
وَحَرّمَ الْخَالَاتِ وَهُنّ أَخَوَاتُ أُمّهَاتِهِ وَأُمّهَاتُ آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْنَ وَأَمّا خَالَةُ الْعَمّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْعَمّةُ لِأَبٍ فَخَالَتُهَا أَجْنَبِيّةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِأُمّ فَخَالَتُهَا حَرَامٌ لِأَنّهَا خَالَةٌ وَأَمّا عَمّةُ الْخَالَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْخَالَةُ لِأُمّ فَعَمّتُهَا أَجْنَبِيّةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ فَعَمّتُهَا حَرَامٌ لِأَنّهَا عَمّةُ الْأُمّ .
[ تَحْرِيمُ بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ ]
وَحَرّمَ بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ فَيَعُمّ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنْ كُلّ جِهَةٍ وَبَنَاتِهِمَا وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُنّ .

[ التّفْصِيلُ فِي تَحْرِيمِ الرّضَاعَةِ ]
وَحَرّمَ الْأُمّ مِنْ الرّضَاعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ أُمّهَاتُهَا مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ وَإِذَا صَارَتْ الْمُرْضِعَةُ أُمّهُ صَارَ صَاحِبَ اللّبَنِ - وَهُوَ الزّوْجُ أَوْ السّيّدُ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً - أَبَاهُ وَآبَاؤُهُ أَجْدَادُهُ فَنَبّهَ بِالْمُرْضِعَةِ صَاحِبَةَ اللّبَنِ الّتِي هِيَ مُودَعٌ [ ص 110 ] أَبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنّ اللّبَنَ لَهُ وَبِوَطْئِهِ ثَابَ وَلِهَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ فَثَبَتَ بِالنّصّ وَإِيمَائِهِ انْتِشَارُ حُرْمَةِ الرّضَاعِ إلَى أُمّ الْمُرْتَضِعِ وَأَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَأَنّهُ قَدْ صَارَ ابْنًا لَهُمَا وَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إخْوَتُهُمَا وَأَخَوَاتُهُمَا خَالَاتٍ لَهُ وَعَمّاتٍ وَأَبْنَاؤُهُمَا وَبَنَاتُهُمَا إخْوَةً لَهُ وَأَخَوَاتٍ فَنَبّهَ بِقَوْلِهِ { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ } [ النّسَاءُ 22 ] عَلَى انْتِشَارِ حُرْمَةِ الرّضَاعِ إلَى إخْوَتِهِمَا وَأَخَوَاتِهِمَا كَمَا انْتَشَرَتْ مِنْهُمَا إلَى أَوْلَادِهِمَا فَكَمَا صَارُوا إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِلْمُرْتَضِعِ فَأَخْوَالُهُمَا وَخَالَاتُهُمَا أَخْوَالٌ وَخَالَاتٌ لَهُ وَأَعْمَامٌ وَعَمّاتٌ لَهُ الْأَوّلُ بِطَرِيقِ النّصّ وَالْآخَرُ بِتَنْبِيهِهِ كَمَا أَنّ الِانْتِشَارَ إلَى الْأُمّ بِطَرِيقِ النّصّ وَإِلَى الْأَبِ بِطَرِيقِ تَنْبِيهِهِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَجِيبَةٌ مُطّرِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلّا كُلّ غَائِصٍ عَلَى مَعَانِيهِ وَوُجُوهِ دَلَالَاتِهِ وَمِنْ هُنَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَلَكِنّ الدّلَالَةَ دَلَالَتَانِ خَفِيّةٌ وَجَلِيّةٌ فَجَمَعَهُمَا لِلْأُمّةِ لِيَتِمّ الْبَيَانُ وَيَزُولَ الِالْتِبَاسُ وَيَقَعَ عَلَى الدّلَالَةِ الْجَلِيّةِ الظّاهِرَةِ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ الْخُفْيَةِ .
[ تَحْرِيمُ أُمّهَاتِ الزّوْجَاتِ ]
وَحَرّمَ أُمّهَاتِ النّسَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أُمّ الْمَرْأَةِ وَإِنْ عَلَتْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَى هَؤُلَاءِ كُلّهِنّ .
[ تَحْرِيمُ بَنَاتِ الزّوْجَاتِ ]
وَحَرّمَ الرّبَائِبَ اللّاتِي فِي حُجُورِ الْأَزْوَاجِ وَهُنّ بَنَاتُ نِسَائِهِمْ الْمَدْخُولِ بِهِنّ فَتَنَاوَلَ بِذَلِكَ بَنَاتِهِنّ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنّ وَبَنَاتِ أَبْنَائِهِنّ فَإِنّهُنّ دَاخِلَاتٌ فِي اسْمِ الرّبَائِبِ وَقَيّدَ التّحْرِيمَ بِقَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا : كَوْنُهُنّ فِي حُجُورِ الْأَزْوَاجِ . وَالثّانِي : [ ص 111 ] وَسَوَاءٌ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ هَذَا مُقْتَضَى النّصّ . وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنّ مَوْتَ الْأُمّ فِي تَحْرِيمِ الرّبِيبَةِ كَالدّخُولِ بِهَا لِأَنّهُ يُكْمِلُ الصّدَاقَ وَيُوجِبُ الْعِدّةَ وَالتّوَارُثَ فَصَارَ كَالدّخُولِ وَالْجُمْهُورُ أَبَوْا ذَلِكَ وَقَالُوا : الْمَيّتَةُ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا تَحْرُمُ ابْنَتُهَا وَاَللّهُ تَعَالَى قَيّدَ التّحْرِيمَ بِالدّخُولِ وَصَرّحَ بِنَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ الدّخُولِ . وَأَمّا كَوْنُهَا فِي حِجْرِهِ فَلَمّا كَانَ الْغَالِبُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ لَا تَقْيِيدًا لِلتّحْرِيمِ بِهِ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ } [ الْإِسْرَاءُ : 31 ] وَلَمّا كَانَ مِنْ شَأْنِ بِنْتِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمّهَا فَهِيَ فِي حِجْرِ الزّوْجِ وُقُوعًا وَجَوَازًا فَكَأَنّهُ قَالَ اللّاتِي مِنْ شَأْنِهِنّ أَنْ يَكُنّ فِي حُجُورِكُمْ فَفِي ذِكْرِ هَذَا فَائِدَةٌ شَرِيفَةٌ وَهِيَ جَوَازُ جَعْلِهَا فِي حِجْرِهِ وَأَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إبْعَادُهَا عَنْهُ وَتَجَنّبُ مُؤَاكَلَتِهَا وَالسّفَرُ وَالْخَلْوَةُ بِهَا فَأَفَادَ هَذَا الْوَصْفُ عَدَمَ الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ . وَلَمّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الظّاهِرِ شَرَطَ فِي تَحْرِيمِ الرّبِيبَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزّوْجِ وَقَيّدَ تَحْرِيمَهَا بِالدّخُولِ بِأُمّهَا وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ أُمّ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُقَيّدْهُ بِالدّخُولِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدِهِمْ إنّ الْأُمّ تَحْرُمُ بِمُجَرّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ إلّا بِالدّخُولِ بِالْأُمّ وَقَالُوا : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللّهُ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنّ قَوْلَهُ { اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } وَصْفٌ لِنِسَائِكُمْ الْأُولَى وَالثّانِيَةِ وَأَنّهُ لَا تَحْرُمُ الْأُمّ إلّا بِالدّخُولِ بِالْبِنْتِ وَهَذَا يَرُدّهُ نَظْمُ الْكَلَامِ وَحَيْلُولَةُ الْمَعْطُوفِ بَيْنَ الصّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَامْتِنَاعُ جَعْلِ الصّفَةِ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ إلّا عِنْدَ الْبَيَانِ فَإِذَا قُلْت : مَرَرْت بِغُلَامِ زَيْدٍ الْعَاقِلِ فَهُوَ صِفَةٌ لِلْغُلَامِ لَا لِزَيْدٍ إلّا عِنْدَ زَوَالِ اللّبْسِ كَقَوْلِك : مَرَرْت بِغُلَامِ هِنْدٍ الْكَاتِبَةِ وَيَرُدّهُ أَيْضًا جَعْلُهُ صِفَةً وَاحِدَةً لِمَوْصُوفَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحُكْمِ وَالتّعَلّقِ وَالْعَامِلِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي اللّغَةِ الّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . [ ص 112 ] أَوْلَى بِهَا لِجِوَارِهِ وَالْجَارُ أَحَقّ بِصَقْبِهِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى نَقْلِهَا عَنْهُ أَوْ تَخَطّيهَا إيّاهُ إلَى الْأَبْعَدِ .
[ وَجْهُ دُخُولِ بِنْتِ جَارِيَتِهِ فِي التّحْرِيمِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيْنَ أَدْخَلْتُمْ رَبِيبَتَهُ الّتِي هِيَ بِنْتُ جَارِيَتِهِ الّتِي دَخَلَ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ ؟ . قُلْنَا : السّرِيّةُ قَدْ تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ نِسَائِهِ كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } [ الْبَقَرَةُ 223 ] وَدَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 187 ] وَدَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ } [ النّسَاءُ 22 ]

[ دُخُولُ أُمّ الْجَارِيَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي التّحْرِيمِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا إدْخَالُهَا فِي قَوْلِهِ { وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ } [ النّسَاءُ 23 ] فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمّ جَارِيَتِهِ ؟ . قُلْنَا : نَعَمْ وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمّهَا وَابْنَتُهَا . فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ قَدْ قَرّرْتُمْ أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ الدّخُولُ بِالْبِنْتِ فِي تَحْرِيمِ أُمّهَا فَكَيْفَ تَشْتَرِطُونَهُ هَا هُنَا ؟ . قُلْنَا : لِتَصِيرَ مِنْ نِسَائِهِ فَإِنّ الزّوْجَةَ صَارَتْ مِنْ نِسَائِهِ بِمُجَرّدِ الْعَقْدِ وَأَمّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تَصِيرُ مِنْ نِسَائِهِ حَتّى يَطَأَهَا فَإِذَا وَطِئَهَا صَارَتْ مِنْ نِسَائِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمّهَا وَابْنَتُهَا .
[ وَجْهُ عَدَمِ دُخُولِ الْجَوَارِي فِي الظّهَارِ وَالْإِيلَاءِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ أَدْخَلْتُمْ السّرّيّةَ فِي نِسَائِهِ فِي آيَةِ التّحْرِيمِ وَلَمْ تُدْخِلُوهَا فِي نِسَائِهِ فِي آيَةِ الظّهَارِ وَالْإِيلَاءِ ؟ . قِيلَ السّيَاقُ وَالْوَاقِعُ يَأْبَى ذَلِكَ فَإِنّ الظّهَارَ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا وَإِنّمَا مَحَلّهُ الْأَزْوَاجُ لَا الْإِمَاءُ فَنَقَلَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الطّلَاقِ إلَى التّحْرِيمِ الّذِي تُزِيلُهُ الْكَفّارَةُ [ ص 113 ] وَنَقَلَ حُكْمَهُ وَأَبْقَى مَحِلّهُ وَأَمّا الْإِيلَاءُ فَصَرِيحٌ فِي أَنّ مَحِلّهُ الزّوْجَاتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 226 - 227 ]

[ تَحْرِيمُ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ ]
وَحَرّمَ سُبْحَانَهُ حَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ وَهُنّ مَوْطُوآتُ الْأَبْنَاءِ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ فَإِنّهَا حَلِيلَةٌ بِمَعْنَى مُحَلّلَةٍ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ابْنُ صُلْبِهِ وَابْنُ ابْنِهِ وَابْنُ ابْنَتِهِ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ ابْنُ التّبَنّي وَهَذَا التّقْيِيدُ قُصِدَ بِهِ إخْرَاجُهُ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الرّضَاعِ ]
وَأَمّا حَلِيلَةُ ابْنِهِ مِنْ الرّضَاعِ فَإِنّ الْأَئِمّةَ الْأَرْبَعَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ يُدْخِلُونَهَا فِي قَوْلِهِ { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ } [ النّسَاءُ 23 ] وَلَا يُخْرِجُونَهَا بِقَوْلِهِ { الّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } [ النّسَاءُ 23 ] وَيَحْتَجّونَ بِقَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمُوا مِنْ الرّضَاعِ مَا تُحَرّمُونَ مِنْ النّسَب قَالُوا : وَهَذِهِ الْحَلِيلَةُ تَحْرُمُ إذَا كَانَتْ لِابْنِ النّسَبِ فَتَحْرُمُ إذَا كَانَتْ لِابْنِ الرّضَاعِ . قَالُوا : وَالتّقْيِيدُ لِإِخْرَاجِ ابْنِ التّبَنّي لَا غَيْرُ وَحَرّمُوا مِنْ الرّضَاعِ بِالصّهْرِ نَظِيرَ مَا يَحْرُمُ بِالنّسَبِ . وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا : لَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لِأَنّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ وَالتّقْيِيدُ كَمَا يُخْرِجُ حَلِيلَةَ ابْنِ التّبَنّي يُخْرِجُ حَلِيلَةَ ابْنِ الرّضَاعِ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَب فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَدِلّتِنَا وَعُمْدَتِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنّ تَحْرِيمَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ إنّمَا هُوَ بِالصّهْرِ لَا بِالنّسَبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ قَصَرَ تَحْرِيمَ الرّضَاعِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنْ النّسَبِ لَا عَلَى شَقِيقِهِ مِنْ الصّهْرِ فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ بِالتّحْرِيمِ عَلَى مَوْرِدِ النّصّ . قَالُوا : وَالتّحْرِيمُ بِالرّضَاعِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ النّسَبِ لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَنُصّ فِي كِتَابِهِ [ ص 114 ] إيمَاءٍ وَلَا إشَارَةٍ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَنْ يُحَرّمَ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَفِي ذَلِكَ إرْشَادٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِالصّهْرِ وَلَوْلَا أَنّهُ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لَقَالَ " حَرّمُوا مِنْ الرّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَالصّهْرِ " . قَالُوا : وَأَيْضًا فَالرّضَاعَ مُشَبّهٌ بِالنّسَبِ وَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَالْمَحْرَمِيّةُ فَقَطْ دُونَ التّوَارُثِ وَالْإِنْفَاقِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ النّسَبِ فَهُوَ نَسَبٌ ضَعِيفٌ فَأَخَذَ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ النّسَبِ وَلَمْ يَقْوَ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ النّسَبِ وَهُوَ أَلْصَقُ بِهِ مِنْ الْمُصَاهَرَةِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَى أَخْذِ أَحْكَامِ الْمُصَاهَرَةِ مَعَ قُصُورِهِ عَنْ أَحْكَامٍ مُشْبِهَةٍ وَشَقِيقَةٍ ؟ وَأَمّا الْمُصَاهَرَةُ وَالرّضَاعُ فَإِنّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا وَلَا شُبْهَةَ نَسَبٍ وَلَا بَعْضِيّةَ وَلَا اتّصَالَ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الصّهْرِيّةِ ثَابِتًا لَبَيّنَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا يُقِيمُ الْحُجّةَ وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ فَمِنْ اللّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ فَهَذَا مُنْتَهَى النّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ ظَفِرَ فِيهَا بِحُجّةٍ فَلْيُرْشِدْ إلَيْهَا وَلْيُدِلّ عَلَيْهَا فَإِنّا لَهَا مُنْقَادُونَ وَبِهَا مُعْتَصِمُونَ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ نِكَاحِ مَنْ نَكَحَهُنّ الْآبَاءُ ]
وَحَرّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِكَاحَ مَنْ نَكَحَهُنّ الْآبَاءُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْكُوحَاتِهِمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ عَقْدِ نِكَاحٍ وَيَتَنَاوَلُ آبَاءَ الْآبَاءِ وَآبَاءَ الْأُمّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ النّهْيِ وَهُوَ التّحْرِيمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتّأْثِيمِ وَالْعُقُوبَةِ فَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا سَلَفَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجّةِ بِالرّسُولِ وَالْكِتَابِ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ والِاخْتِلَافُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ ]
وَحَرّمَ سُبْحَانَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدِ النّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ كَسَائِرِ مُحَرّمَاتِ الْآيَةِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصّحَابَةِ وَمَنْ [ ص 115 ] طَائِفَةٌ فِي تَحْرِيمِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِمُعَارَضَةِ هَذَا الْعُمُومِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ الْمُؤْمِنُونَ 5 ، 6 ] و [ الْمَعَارِجُ 29 30 ] وَلِهَذَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَحَلّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرّمَتْهُمَا آيَة وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا أَقُولُ هُوَ حَرَامٌ وَلَكِنْ نَنْهَى عَنْهُ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ بِإِبَاحَتِهِ رِوَايَةً عَنْهُ . وَالصّحِيحُ أَنّهُ لَمْ يُبِحْهُ وَلَكِنْ تَأَدّبَ مَعَ الصّحَابَةِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ الْحَرَامِ عَلَى أَمْرٍ تَوَقّفَ فِيهِ عُثْمَانُ بَلْ قَالَ نَنْهَى عَنْهُ . وَاَلّذِينَ جَزَمُوا بِتَحْرِيمِهِ رَجّحُوا آيَةَ التّحْرِيمِ مِنْ وُجُوهٍ .
[ أَدِلّةُ مَنْ رَجّحَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ ]
أَحَدُهَا : أَنّ سَائِرَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْمُحَرّمَاتِ عَامّ فِي النّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَمَا بَالُ هَذَا وَحْدَهُ حَتّى يَخْرُجَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ آيَةُ الْإِبَاحَةِ مُقْتَضِيَةً لِحِلّ الْجَمْعِ بِالْمِلْكِ فَلْتَكُنْ مُقْتَضِيَةً لِحِلّ أُمّ مَوْطُوءَتِهِ بِالْمِلْكِ وَلِمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِالْمِلْكِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا الْبَتّةَ وَلَا يَعْلَمُ بِهَذَا قَائِلٌ . الثّانِي : أَنّ آيَةَ الْإِبَاحَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَخْصُوصَةٌ قَطْعًا بِصُوَرٍ عَدِيدَةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ كَأُمّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمّتِهِ وَخَالَتِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ بَلْ كَأُخْتِهِ وَعَمّتِهِ مِنْ النّسَبِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى عِتْقَهُنّ بِالْمِلْكِ كَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَلَمْ يَكُنْ عُمُومُ قَوْلِهِ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مُعَارِضًا لِعُمُومِ تَحْرِيمِهِنّ بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ فَهَذَا حُكْمُ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ . الثّالِثُ أَنّ حِلّ الْمِلْكِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ بَيَانِ جِهَةِ الْحِلّ وَسَبَبِهِ وَلَا تَعَرّضَ فِيهِ لِشُرُوطِ الْحِلّ وَلَا لِمَوَانِعِهِ وَآيَةُ التّحْرِيمِ فِيهَا بَيَانُ مَوَانِعِ الْحِلّ مِنْ النّسَبِ وَالرّضَاعِ وَالصّهْرِ وَغَيْرِهِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا الْبَتّةَ وَإِلّا كَانَ كُلّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ شَرْطُ الْحِلّ وَمَوَانِعِهِ مُعَارِضًا لِمُقْتَضَى الْحِلّ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِمَا [ ص 116 ] الرّابِعُ أَنّهُ لَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فِي الْوَطْءِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمّ وَابْنَتِهَا الْمَمْلُوكَتَيْنِ فَإِنّ نَصّ التّحْرِيمِ شَامِلٌ لِلصّورَتَيْنِ شُمُولًا وَاحِدًا وَأَنّ إبَاحَةَ الْمَمْلُوكَاتِ إنْ عَمّتْ الْأُخْتَيْنِ عَمّتْ الْأُمّ وَابْنَتُهَا . الْخَامِسُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعْ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنّ جَمْعَ الْمَاءِ كَمَا يَكُونُ بِعَقْدِ النّكَاحِ يَكُونُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْإِيمَانُ يَمْنَعُ مِنْهُ .

فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا ]
وَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَهَذَا التّحْرِيمُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَكِنْ بِطَرِيقٍ خَفِيّ وَمَا حَرّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلُ مَا حَرّمَهُ اللّهُ وَلَكِنْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ .
[ حِرْصُ الصّحَابَةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْقُرْآنِ ]
وَكَانَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى اسْتِنْبَاطِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَقَرَعَ بَابَهُ وَوَجّهَ قَلْبَهُ إلَيْهِ وَاعْتَنَى بِهِ بِفِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ وَقَلْبٍ ذَكِيّ رَأَى السّنّةَ كُلّهَا تَفْصِيلًا لِلْقُرْآنِ وَتَبْيِينًا [ ص 117 ] أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ فَمَنْ ظَفِرَ بِهِ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ وَمَنْ فَاتَهُ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ وَهِمّتَهُ وَعَجْزَهُ . وَاسْتُفِيدَ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا أَنّ كُلّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا حَرُمَ عَلَى الْآخَرِ فَإِنّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَمْ يَحْرُمْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهَلْ يُكْرَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا .
[ تَحْرِيمُ نِكَاحِ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلّا إمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ ]
وَاسْتُفِيدَ مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهِ سُبْحَانَهُ الْمُحَرّمَاتِ الْمَذْكُورَةَ أَنّ كُلّ امْرَأَةٍ حَرُمَ نِكَاحُهَا حَرُمَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلّا إمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنّ نِكَاحَهُنّ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَوَطْؤُهُنّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَائِزٌ وَسَوّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فَأَبَاحَ نِكَاحَهُنّ كَمَا يُبَاحُ وَطْؤُهُنّ بِالْمِلْكِ . وَالْجُمْهُورُ احْتَجّوا عَلَيْهِ بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } [ النّسَاءُ 25 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ الْبَقَرَةُ 221 ] . خَصّ ذَلِكَ بِحَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَقِيَ الْإِمَاءُ عَلَى قَضِيّةِ التّحْرِيمِ وَقَدْ فَهِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصّحَابَةِ إدْخَالَ الْكِتَابِيّاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ إنّ الْمَسِيحَ إلَهُهَا وَأَيْضًا فَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ وَإِنّمَا أُبِيحَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمَنْ عَدَاهُنّ عَلَى أَصْلِ التّحْرِيمِ وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُنّ مُسْتَفَادًا مِنْ الْمَفْهُومِ . وَاسْتُفِيدَ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِهَا أَنّ كُلّ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ حَرُمَتْ ابْنَتُهَا إلّا الْعَمّةُ وَالْخَالَةُ وَحَلِيلَةُ الِابْنِ وَحَلِيلَةُ الْأَبِ وَأُمّ الزّوْجَةِ وَأَنّ كُلّ الْأَقَارِبِ [ ص 118 ]

فَصْلٌ [ الْإِشْكَالُ الْوَارِدُ فِي اسْتِثْنَاءِ مِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُتَزَوّجَاتِ ]
وَمِمّا حَرّمَهُ النّصّ نِكَاحُ الْمُزَوّجَاتِ وَهُنّ الْمُحْصَنَاتُ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مِلْكَ الْيَمِينِ فَأَشْكَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ فَإِنّ الْأَمَةَ الْمُزَوّجَةَ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا عَلَى مَالِكِهَا فَأَيْنَ مَحَلّ الِاسْتِثْنَاءِ ؟ .
[ شَرْحٌ لِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَضَوَابِطِهِ وَالرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ بِأَنّ الْآيَةَ مِنْ هَذَا النّوْعِ ]
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَرُدّ هَذَا لَفْظًا وَمَعْنًى أَمّا اللّفْظُ فَإِنّ الِانْقِطَاعَ إنّمَا يَقَعُ حَيْثُ يَقَعُ التّفْرِيغُ وَبَابُهُ غَيْرَ الْإِيجَابِ مِنْ النّفْيِ وَالنّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ فَلَيْسَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ انْقِطَاعٍ وَأَمّا الْمَعْنَى : فَإِنّ الْمُنْقَطِعَ لَا بُدّ فِيهِ مَنْ رَابِطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِحَيْثُ يَخْرُجُ مَا تُوُهّمَ دُخُولُهُ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّك إذَا قُلْت : مَا بِالدّارِ مِنْ أَحَدٍ دَلّ عَلَى انْتِفَاءِ مَنْ بِهَا بِدَوَابّهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ فَإِذَا قُلْت : إلّا حِمَارًا أَوْ إلّا الْأَثَافِيّ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَزَلْت تَوَهّمَ دُخُولِ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ . وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلّا سَلَامًا } [ مَرْيَمُ : 62 ] فَاسْتِثْنَاءُ السّلَامِ أَزَالَ تَوَهّمَ نَفْيِ السّمَاعِ الْعَامّ فَإِنّ عَدَمَ سَمَاعِ اللّغْوِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ سَمَاعِ كَلَامٍ مَا وَأَنْ يَكُونَ مَعَ سَمَاعِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُزَوّجَةِ مَا يُوهِمُ تَحْرِيمَ وَطْءِ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتّى يُخْرِجَهُ .
[ مَنْ قَالَ بِأَنّ مِلْكَ الرّجُلِ الْأَمَةَ الْمُزَوّجَةَ طَلَاقٌ لَهَا ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى بَابِهِ وَمَتَى مَلَكَ الرّجُلُ الْأَمَةَ الْمُزَوّجَةَ كَانَ مِلْكُهُ طَلَاقًا لَهَا وَحَلّ لَهُ وَطْؤُهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْأَمَةِ هَلْ يَكُونُ طَلَاقًا لَهَا أَمْ لَا ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ لِلصّحَابَةِ فَابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرَاهُ طَلَاقًا وَيَحْتَجّ لَهُ بِالْآيَةِ وَغَيْرُهُ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ كَمَا يُجَامِعُ الْمِلْكَ السّابِقَ لِلنّكَاحِ اللّاحِقَ اتّفَاقًا وَلَا يَتَنَافَيَانِ كَذَلِكَ الْمِلْكُ اللّاحِقُ لَا يُنَافِي النّكَاحَ السّابِقَ قَالُوا : وَقَدْ خَيّرَ [ ص 119 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَرِيرَةَ لَمّا بِيعَتْ وَلَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا لَمْ يُخَيّرْهَا . قَالُوا : وَهَذَا حُجّةٌ عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَإِنّهُ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ الصّحَابِيّ لَا بِرَأْيِهِ .

[ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي امْرَأَةً لَمْ يَنْفَسِخْ النّكَاحُ ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إنّ كَانَ الْمُشْتَرِي امْرَأَةً لَمْ يَنْفَسِخْ النّكَاحُ لِأَنّهَا لَمْ تَمْلِكْ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ الزّوْجَةِ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا انْفَسَخَ لِأَنّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النّكَاحِ وَهَذَا الْمِلْكُ يُبْطِلُ النّكَاحَ دُونَ الْعَكْسِ قَالُوا : وَعَلَى هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي حَدِيثِ بِرَيْرَةَ . وَأَجَابَ الْأَوّلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ تَمْلِكْ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ أَمَتِهَا فَهِيَ تَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَتَزْوِيجَهَا وَأَخْذَ مَهْرِهَا وَذَلِكَ كَمِلْكِ الرّجُلِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمْتِعْ بِالْبُضْعِ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : الْآيَةُ خَاصّةٌ بِالْمَسْبِيّاتِ فَإِنّ الْمَسْبِيّةَ إذَا سُبِيَتْ حَلّ وَطْؤُهَا لِسَابِيهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مُزَوّجَةً وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ الصّحِيحُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ جَيْشًا إلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ عَدُوّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا سَبَايَا وَكَأَنّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَرّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النّسَاءُ 24 ] أَيْ فَهُنّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهُنّ . [ ص 120 ] كَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ الْكُفّارِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى انْفِسَاخِ نِكَاحِهِ وَزَوَالِ عِصْمَةِ بُضْعِ امْرَأَتِهِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَى مَحَلّ حَقّهِ وَعَلَى رَقَبَةِ زَوْجَتِهِ وَصَارَ سَابِيهَا أَحَقّ بِهَا مِنْهُ فَكَيْفَ يَحْرُمُ بُضْعُهَا عَلَيْهِ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَارِضُهُ نَصّ وَلَا قِيَاسٌ .
[ الرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ بِأَنّ وَطْأَهَا إنّمَا يُبَاحُ إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا ]
وَاَلّذِينَ قَالُوا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ إنّ وَطْأَهَا إنّمَا يُبَاحُ إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا . قَالُوا : لِأَنّ الزّوْجَ يَكُونُ بَقَاؤُهُ مَجْهُولًا وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَيَجُوزُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِذَا كَانَ الزّوْجُ مَعَهَا لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا مَعَ بَقَائِهِ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مَا لَوْ سُبِيَتْ وَحْدَهَا وَتَيَقّنّا بَقَاءَ زَوْجِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنّهُمْ يُجَوّزُونَ وَطْأَهَا فَأَجَابُوا بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا وَقَالُوا : الْأَصْلُ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمّ الْأَغْلَبِ فَيُقَالُ لَهُمْ الْأَعَمّ الْأَغْلَبُ بَقَاءُ أَزْوَاجِ الْمَسْبِيّاتِ إذَا سُبِينَ مُنْفَرِدَاتٍ وَمَوْتُهُمْ كُلّهُمْ نَادِرٌ جِدّا ثُمّ يُقَالُ . إذَا صَارَتْ رَقَبَةُ زَوْجِهَا وَأَمْلَاكُهُ مِلْكًا لِلسّابِي وَزَالَتْ الْعِصْمَةُ عَنْ سَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَعَنْ رَقَبَتِهِ فَمَا الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ فِي فَرْجِ امْرَأَتِهِ خَاصّةً وَقَدْ صَارَتْ هِيَ وَهُوَ وَأَمْلَاكُهُمَا لِلسّابِي ؟ .

[ جَوَازُ وَطْءِ الْوَثَنِيّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ]
وَدَلّ هَذَا الْقَضَاءُ النّبَوِيّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْإِمَاءِ الْوَثَنِيّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنّ سَبَايَا أَوْطَاسٍ لَمْ يَكُنّ كِتَابِيّاتٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَطْئِهِنّ إسْلَامَهُنّ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَانِعَ مِنْهُ إلّا الِاسْتِبْرَاءَ فَقَطْ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ مَعَ أَنّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ حَتّى خَفِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُصُولُ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السّبَايَا وَكَانُوا عِدّةَ آلَافٍ بِحَيْثُ لَمْ يَتَخَلّفْ مِنْهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ مِمّا يُعْلَمُ أَنّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَإِنّهُنّ لَمْ [ ص 121 ] الْبَصِيرَةِ وَالرّغْبَةِ وَالْمَحَبّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يَقْتَضِي مُبَادَرَتُهُنّ إلَيْهِ جَمِيعًا فَمُقْتَضَى السّنّةِ وَعَمَلِ الصّحَابَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعْدَهُ جَوَازُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَاتِ عَلَى أَيّ دِينٍ كُنّ وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ وَقَوّاهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " فِيهِ وَرَجّحَ أَدِلّتَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَمِمّا يَدُلّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ إسْلَامِهِنّ مَا رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ وَطْءَ السّبَايَا حَتّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنّ فَجُعِلَ لِلتّحْرِيمِ غَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وَضْعُ الْحَمْلِ وَلَوْ كَانَ مُتَوَقّفًا عَلَى الْإِسْلَامِ لَكَانَ بَيَانُهُ أَهَمّ مِنْ بَيَانِ الِاسْتِبْرَاءِ . وَفِي " السّنَنِ " و " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ لَا يَحِلّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ السّبْيِ حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا وَلَمْ يَقُلْ حَتّى تُسْلِمَ وَلِأَحْمَدَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَنْكِحَنّ شَيْئًا مِنْ السّبَايَا حَتّى تَحِيضَ وَلَمْ يَقُلْ وَتُسْلِمَ . وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَقُلْ وَتُسْلِمَ فَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ اشْتِرَاطُ إسْلَامِ الْمَسْبِيّةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ الْبَتّةَ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الزّوْجَيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ
قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : رَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ بِالنّكَاحِ الْأَوّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا [ ص 122 ] أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتّرْمِذِيّ . وَفِي لَفْظٍ بَعْدَ سِتّ سِنِينَ وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا قَالَ التّرْمِذِيّ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ وَفِي لَفْظٍ وَكَانَ إسْلَامُهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ بِسِتّ سِنِينَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا [ ص 123 ] أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَزَوّجَتْ فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْتُ أَسْلَمْت وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ وَرَدّهَا عَلَى زَوْجِهَا الْأَوّلِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ أَيْضًا : إنّ رَجُلًا جَاءَ مُسْلِمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً بَعْدَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهَا أَسْلَمَتْ مَعِي فَرَدّهَا عَلَيْهِ قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ مَالِكٌ إنّ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكّةَ وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْإِسْلَامِ حَتّى قَدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَتْ أُمّ حَكِيمٍ حَتّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِالْيَمَنِ فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَثَبَ إلَيْهِ فَرَحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتّى بَايَعَهُ فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ذَلِكَ قَالَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ إلّا فَرّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلّا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " الْمُوَطّأِ " فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَنّ الزّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيّةِ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ هَلْ وَقَعَ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ مَا لَمْ يَكُنْ الْمُبْطِلُ قَائِمًا كَمَا إذَا أَسْلَمَا وَقَدْ نَكَحَهَا وَهِيَ فِي عِدّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ تَحْرِيمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُؤَبّدًا كَمَا إذَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ كَانَتْ مِمّا لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا [ ص 124 ] وَالْخَمْسِ وَمَا فَوْقَهُنّ فَهَذِهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ أَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ . فَإِذَا أَسْلَمَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَحْرَمِيّةٌ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صَهْرٍ أَوْ كَانَتْ أُخْتَ الزّوْجَةِ أَوْ عَمّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ مَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا فُرّقَ بَيْنَهُمَا بِإِجْمَاعِ الْأُمّةِ لَكِنْ إنْ كَانَ التّحْرِيمُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ خُيّرَ بَيْنَ إمْسَاكِ أَيّتهِمَا شَاءَ وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَه مِنْ زِنًى فَرّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَ النّسَبِ بِالزّنَى فُرّقَ بَيْنَهُمَا اتّفَاقًا وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهِيَ فِي عِدّةٍ مِنْ مُسْلِمٍ مُتَقَدّمَةٍ عَلَى عَقْدِهِ فُرّقَ بَيْنَهُمَا اتّفَاقًا وَإِنْ كَانَتْ الْعِدّةُ مِنْ كَافِرٍ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا دَوَامَ الْمُفْسِدِ أَوْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَهُمَا لِأَنّ عِدّةَ الْكَافِرِ لَا تَدُومُ وَلَا تَمْنَعُ النّكَاحَ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ أَنْكِحَةَ الْكُفّارِ وَيَجْعَلُ حُكْمَهَا حُكْمَ الزّنَى . وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهِيَ حُبْلَى مِنْ زِنًى قَبْلَ الْعَقْدِ فَقَوْلَانِ مَبْنِيّانِ عَلَى اعْتِبَارِ قِيَامِ الْمُفْسِدِ أَوْ كَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَإِنْ أَسْلَمَا وَقَدْ عَقَدَاهُ بِلَا وَلِيّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدّةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ أَوْ عَلَى أُخْتٍ وَقَدْ مَاتَتْ أَوْ عَلَى خَامِسَةٍ كَذَلِكَ أَقَرّا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ قَهَرَ حَرْبِيّ حَرْبِيّةً وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا ثُمّ أَسْلَمَا أَقَرّا عَلَيْهِ .

[إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزّوْجَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ لَمْ يَنْفَسِخْ النّكَاحُ بِإِسْلَامِهِ ]
وَتَضَمّنَ أَنّ أَحَدَ الزّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْآخَرِ لَمْ يَنْفَسِخْ النّكَاحُ بِإِسْلَامِهِ فَرّقَتْ الْهِجْرَةُ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ تُفَرّقْ فَإِنّهُ لَا يُعْرَفُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّدَ نِكَاحَ زَوْجَيْنِ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِإِسْلَامِهِ قَطّ وَلَمْ يَزَلْ الصّحَابَةُ يُسْلِمُ الرّجُلُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ وَامْرَأَتُهُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْبَتّةَ أَنّهُ تَلَفّظَ بِإِسْلَامِهِ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَتَسَاوَقَا فِيهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ هَذَا مِمّا يُعْلَمُ أَنّهُ لَمْ يَقَعْ الْبَتّةَ وَقَدْ رَدّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَتَهُ
زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ وَهُوَ إنّمَا أَسْلَمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ أَسْلَمَتْ مِنْ أَوّلِ الْبَعْثَةِ فَبَيْنَ إسْلَامِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً . وَأَمّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ كَانَ بَيْنَ إسْلَامِهَا وَإِسْلَامِهِ سِتّ سِنِينَ فَوَهْمٌ إنّمَا أَرَادَ بَيْنَ هِجْرَتِهَا وَإِسْلَامِهِ . [ ص 125 ] قِيلَ وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعِدّةُ تَنْقَضِي فِي هَذِهِ الْمُدّةِ فَكَيْفَ لَمْ يُجَدّدْ نِكَاحَهَا ؟ قِيلَ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إنّمَا نَزَلَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْفَسِخْ النّكَاحُ فِي تِلْكَ الْمُدّةِ لِعَدَمِ شَرْعِيّةِ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا وَلَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُهُنّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمَ أَبُو العاصي فَرُدّتْ عَلَيْهِ .
[لَا دَلِيلَ لِمَنْ قَالَ بِمُرَاعَاةِ زَمَنِ الْعِدّةِ ]
وَأَمّا مُرَاعَاةُ زَمَنِ الْعِدّةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ نَصّ وَلَا إجْمَاعٍ . وَقَدْ ذَكَرَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الزّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا : هُوَ أَمْلَكُ بِبُضْعِهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ هِجْرَتِهَا . ذَكَرَ سُفْيَانُ بْن عُيَيْنَة عَنْ مُطَرّفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ هُوَ أَحَقّ بِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرِهَا . وَذَكَر َ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ إنْ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا إلّا أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمَا سُلْطَانٌ . وَلَا يُعْرَفُ اعْتِبَار الْعِدّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَلَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُ الْمَرْأَةَ هَلْ انْقَضَتْ عِدّتُهَا أَمْ لَا وَلَا رَيْبَ أَنّ الْإِسْلَامَ لَوْ كَانَ بِمُجَرّدِهِ فُرْقَةً لَمْ تَكُنْ فُرْقَةً رَجْعِيّةً بَلْ بَائِنَةً فَلَا أَثَرَ لِلْعِدّةِ فِي بَقَاءِ النّكَاحِ وَإِنّمَا أَثَرُهَا فِي مَنْعِ نِكَاحِهَا لِلْغَيْرِ فَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ نَجّزَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ أَحَقّ بِهَا فِي الْعِدّةِ وَلَكِنْ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ النّكَاحَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدّتِهَا فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَإِنْ انْقَضَتْ عِدّتُهَا فَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ وَإِنْ أَحَبّتْ انْتَظَرَتْهُ فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَتْ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَجْدِيدِ النّكَاحِ . وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَدّدَ لِلْإِسْلَامِ نِكَاحَهُ الْبَتّةَ بَلْ كَانَ الْوَاقِعُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمّا افْتِرَاقُهُمَا وَنِكَاحُهَا غَيْرَهُ وَإِمّا بَقَاؤُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ تَأَخّرَ إسْلَامُهَا أَوْ إسْلَامُهُ وَإِمّا [ ص 126 ] مُرَاعَاةُ الْعِدّةِ فَلَا نَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِهِ مِنْ الرّجَالِ وَأَزْوَاجِهِنّ وَقُرْبِ إسْلَامِ أَحَدِ الزّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ وَبُعْدِهِ مِنْهُ وَلَوْلَا إقْرَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الزّوْجَيْنِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَإِنْ تَأَخّرَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَزَمَنِ الْفَتْحِ لَقُلْنَا بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عِدّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا هُنّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ } وَقَوْلِهِ { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الْمُمْتَحَنَةُ 10 ] وَأَنّ الْإِسْلَامَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ وَكُلّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ تَعْقُبُهُ الْفُرْقَةُ كَالرّضَاعِ وَالْخُلْعِ وَالطّلَاقِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَلّالِ وَأَبِي بَكْرٍ صَاحِبِهِ وَابْنِ الْمُنْذِر وَابْنِ حَزْمٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّه وَابْنِ عَبّاسٍ وَبِهِ قَالَ حَمّادُ بْنُ زَيْد ٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر ٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُدَيّ بْنُ عُدَيّ الْكِنْدِيّ وَالشّعْبِيّ وَغَيْرُهُمْ . قُلْت : وَهُوَ أَحَدُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَلَكِنْ الّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَقَوْلُهُلَا هُنّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ لَمْ يَحْكُمْ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي " مَوْطِئِهِ " عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ إسْلَامِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَبَيْنَ إسْلَامِ امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَبَقِيَ صَفْوَانُ حَتّى شَهِدَ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُفَرّقْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَقَرّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ وَشُهْرَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ إسْنَادِهِ .
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر ٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز وَعُدَيّ بْنُ عُدَيّ الْكِنْدِي ّ وَالشّعْبِيّ وَغَيْرُهُمْ . قُلْت : وَهُوَ أَحَدُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد َ وَلَكِنْ الّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وَقَوْلُهُ { لَا هُنّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ } لَمْ يَحْكُمْ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي " مَوْطِئِهِ " عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ إسْلَامِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّة َ وَبَيْنَ إسْلَامِ امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَبَقِيَ صَفْوَانُ حَتّى شَهِدَ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُفَرّقْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَقَرّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَر ّ : وَشُهْرَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ إسْنَادِهِ . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : أَسْلَمَتْ أُمّ حَكِيمٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ حَتّى أَتَى الْيَمَنَ فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ وَقَدِمَ فَبَايَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا . [ ص 127 ] أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب ٍ خَرَجَ فَأَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ قَبْلَ دُخُولِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ وَلَمْ تُسْلِمْ هِنْدٌ امْرَأَتُهُ حَتّى فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ فَبَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَأَسْلَمَ حَكِيمُ بْنُ حِزَام ٍ قِبَلَ امْرَأَتِهِ وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِث ِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّة َ عَامَ الْفَتْحِ فَلَقِيَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَبْوَاءِ فَأَسْلَمَا قَبْلَ مَنْكُوحَتَيْهِمَا فَبَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرّقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمّنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21