كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية

فَصْلٌ [ آدَابُ الْعُطَاسِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعُطَاسِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد َ وَالتّرْمِذِيّ ، عَن ْ أَبِي هُرَيْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ وَخَفَضَ أَوْ غَضّ بَهْ صَوْتَه قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ التَثَاؤُبَ الشّدِيدَ وَالْعَطْسَةَ الشّدِيدَةَ مِنْ الشّيْطَانِ وَيُذْكَرُ عَنْهُ إنّ اللّهَ يَكْرَهُ رَفْعَ الصّوْتِ بِالتّثَاؤُبِ وَالْعُطَاسِ [ ص 402 ]
[ مَتَى يُقْطَعُ التّشْمِيتُ ]
وَصَحّ عَنْهُ إنّهُ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ " يَرْحَمُكَ اللّهُ " . ثُمّ عَطَسَ أُخْرَى ، فَقَالَ الرّجُلُ مَزْكُومٌ . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ وَأَمّا التّرْمِذِيّ : فَقَالَ فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ : عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَرْحَمُكَ اللّهُ " ، ثُمّ عَطَسَ الثّانِيَةَ وَالثّالِثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ . قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ شَمّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا ، فَمَا زَادَ ، فَهُوَ زُكَامٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنّهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَعْنَاهُ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَى . وَمُوسَى بْنُ قَيْسٍ هَذَا الّذِي رَفَعَهُ هُوَ الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِيّ يُعْرَفُ بِعُصْفُورِ الْجَنّةِ . قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تُشَمّتُ الْعَاطِسَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ شِئْتَ فَشَمّتْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَكُف وَلَكِنْ لَهُ عِلّتَانِ إحْدَاهُمَا : إرْسَالُهُ فَإِنّ عُبَيْدًا هَذَا لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَالثّانِيَةُ أَنّ فِيهِ أَبَا خَالِدٍ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَن ِ الدّالَانِيّ ، وَقَدْ تُكُلّمَ فِيهِ . [ ص 403 ] أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمّتْهُ جَلِيسُهُ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثّلَاثَةِ فَهُوَ مَزْكُومٌ وَلَا تُشَمّتْهُ بَعْدَ الثّلَاثِ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الّذِي قَالَ فِيهِ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ بَهْ زُكَامٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُدْعَى لَهُ مِمّنْ لَا عِلّةَ بِهِ ؟ قِيلَ يُدْعَى لَهُ كَمَا يُدْعَى لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ دَاءٌ وَوَجَعٌ . وَأَمّا سُنّةُ الْعُطَاسِ الّذِي يُحِبّهُ اللّهُ وَهُوَ نِعْمَةٌ وَيَدُلّ عَلَى خِفّةِ الْبَدَنِ وَخُرُوجِ الْأَبْخِرَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فَإِنّمَا يَكُونُ إلَى تَمَامِ الثّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يُدْعَى لِصَاحِبِهِ بِالْعَافِيَةِ . وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرّجُلُ مَزْكُومٌ تَنْبِيهٌ عَلَى الدّعَاءِ لَهُ بِالْعَافِيَةِ لِأَنّ الزّكْمَةَ عِلّةٌ وَفِيهِ اعْتِذَارٌ مِنْ تَرْكِ تَشْمِيتِهِ بَعْدَ الثّلَاثِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِلّةِ لِيَتَدَارَكَهَا وَلَا يُهْمِلُهَا ، فَيَصْعُبُ أَمْرُهَا ، فَكَلَامُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعِلْمٌ وَهُدًى .
[ هَلْ التّشْمِيتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ حَمْدَ الْعَاطِسِ ] ؟
وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ الْعَاطِسَ إذَا حَمِدَ اللّهَ فَسَمِعَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ دُونَ بَعْضٍ هَلْ يُسَنّ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ تَشْمِيتُهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَالْأَظْهَرُ أَنّهُ يُشَمّتُهُ إذَا تَحَقّقَ أَنّهُ حَمِدَ اللّهَ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ سَمَاعَ الْمُشَمّتِ لِلْحَمْدِ وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ نَفْسُ حَمْدِهِ فَمَتَى تَحَقّقَ تَرَتّبَ عَلَيْهِ التّشْمِيتُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشَمّتُ أَخْرَسَ وَرَأَى حَرَكَةَ شَفَتَيْهِ بِالْحَمْدِ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَإِنْ حَمِدَ اللّهَ فَشَمّتُوهُ هَذَا هُوَ الصّوَابُ .
[ هَلْ يُسْتَحَبّ تَذْكِيرُ الْعَاطِسِ بِالْحَمْدِ ]
الثّانِيَةُ إذَا تَرَكَ الْحَمْدَ فَهَلْ يُسْتَحَبّ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنْ يُذَكّرَهُ الْحَمْدَ ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ : لَا يُذَكّرُهُ قَالَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ . وَقَالَ النّوَوِيّ : أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ [ ص 404 ] إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ . قَالَ وَهُوَ مِنْ بَابِ النّصِيحَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتّعَاوُنِ عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى ، وَظَاهِرُ السّنّةِ يُقَوّي قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيّ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُشَمّتْ الّذِي عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدْ اللّهَ وَلَمْ يُذَكّرْهُ وَهَذَا تَعْزِيرٌ لَهُ وَحِرْمَانٌ لِبَرَكَةِ الدّعَاءِ لَمّا حَرَمَ نَفْسَهُ بَرَكَةَ الْحَمْدِ فَنَسِيَ اللّهَ فَصَرَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنْ تَشْمِيتِهِ وَالدّعَاءِ لَهُ وَلَوْ كَانَ تَذْكِيرُهُ سُنّةً لَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْلَى بِفِعْلِهَا وَتَعْلِيمِهَا ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ [ الرّدّ عَلَى مَنْ عَطَسَ مِنْ الْيَهُودِ ]
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ فَكَانَ يَقُولُ يَهْدِيكُمْ اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ السّفَرِ وَآدَابِهِ
[ الِاسْتِخَارَةُ ]
صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إذَا هَمّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمّ لْيَقُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ اللّهُمّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي ، وَعَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي ، وَيَسّرْهُ لِي ، وَبَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ شَرّا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي ، وَعَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنّي ، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمّ رَضّنِي بِهِ " قَالَ وَيُسَمّي حَاجَتَهُ قَالَ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . [ ص 405 ] فَعَوّضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّتَهُ بِهَذَا الدّعَاءِ عَمّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ مِنْ زَجْرِ الطّيْرِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الّذِي نَظِيرُهُ هَذِهِ الْقُرْعَةُ الّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا إخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ بِهَا عِلْمَ مَا قُسِمَ لَهُمْ فِي الْغَيْبِ وَلِهَذَا سُمّيَ ذَلِكَ اسْتِقْسَامًا ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْقَسْمِ وَالسّينُ فِيهِ لِلطّلَبِ وَعَوّضَهُمْ بِهَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ تَوْحِيدٌ وَافْتِقَارٌ وَعُبُودِيّةٌ وَتَوَكّلٌ وَسُؤَالٌ لِمَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ الّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَصْرِفُ السّيّئَاتِ إلّا هُوَ الّذِي إِذَا فَتَحَ لِعَبْدِهِ رَحْمَةً لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ حَبْسَهَا عَنْهُ وَإِذَا أَمْسَكَهَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ إرْسَالَهَا إلَيْهِ مِنْ التّطَيّرِ وَالتّنْجِيمِ وَاخْتِيَارِ الطّالِعِ وَنَحْوِهِ . فَهَذَا الدّعَاءُ هُوَ الطّالِعُ الْمَيْمُونُ السّعِيدُ طَالِعُ أَهْلِ السّعَادَةِ وَالتّوْفِيقِ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ اللّهِ الْحُسْنَى ، لَا طَالِعُ أَهْلِ الشّرْكِ وَالشّقَاءِ وَالْخِذْلَانِ الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . فَتَضَمّنَ هَذَا الدّعَاءُ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِهِ سُبْحَانَهُ وَالْإِقْرَارَ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْإِقْرَارَ بِرُبُوبِيّتِهِ وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَالتّوَكّلَ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَةِ نَفْسِهِ وَالتّبَرّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ إلّا بِهِ وَاعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِعَجْزِهِ عَنْ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ، وَإِرَادَتِهِ لَهَا ، وَأَنّ ذَلِكَ كُلّهُ بِيَدِ وَلِيّهِ وَفَاطِرِهِ وَإِلَهِهِ الْحَقّ . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى اللّهُ وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللّهِ وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللّهُ [ ص 406 ] فَتَأَمّلْ كَيْفَ وَقَعَ الْمَقْدُورُ مُكْتَنِفًا بِأَمْرَيْنِ التّوَكّلِ الّذِي هُوَ مَضْمُونُ الِاسْتِخَارَةِ قَبْلَهُ وَالرّضَى بِمَا يَقْضِي اللّهُ لَهُ بَعْدَهُ وَهُمَا عِنْوَانُ السّعَادَةِ . وَعِنْوَانُ الشّقَاءِ أَنْ يَكْتَنِفَهُ تَرْكُ التّوَكّلِ وَالِاسْتِخَارَةِ قَبْلَهُ وَالسّخَطُ بَعْدَهُ وَالتّوَكّلُ قَبْلَ الْقَضَاءِ . فَإِذَا أُبْرِمَ الْقَضَاءُ وَتَمّ انْتَقَلَتْ الْعُبُودِيّةُ إلَى الرّضَى بَعْدَهُ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " ، وَزَادَ النّسَائِيّ فِي الدّعَاءِ الْمَشْهُورِ وَأَسْأَلُكَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الرّضَى بِالْقَضَاءِ فَإِنّهُ قَدْ يَكُونُ عَزْمًا فَإِذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ تَنْحَلُ الْعَزِيمَةُ فَإِذَا حَصَلَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ حَالًا أَوْ مَقَامًا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الِاسْتِخَارَةَ تَوَكّلٌ عَلَى اللّهِ وَتَفْوِيضٌ إلَيْهِ وَاسْتِقْسَامٌ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحُسْنُ اخْتِيَارِهِ لِعَبْدِهِ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الرّضَى بِهِ رَبّا ، الّذِي لَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِك ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْمَقْدُورِ بَعْدَهَا ، فَذَلِكَ عَلَامَةُ سَعَادَتِهِ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يُرِدْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَفَرًا قَطّ إلّا قَالَ حِينَ يَنْهَضُ مِنْ جُلُوسِهِ اللّهُمّ بِكَ انْتَشَرْتُ وَإِلَيْكَ تَوَجّهْتُ ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكّلْتُ اللّهُمّ أَنْتَ ثِقَتِي ، وَأَنْتَ رَجَائِي ، اللّهُمّ اكْفِنِي مَا أَهَمّنِي وَمَا لَا أَهْتَمّ لَهُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي ، عَزّ جَارُكَ وَجَلّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ اللّهُمّ زَوّدْنِي التّقْوَى ، وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَوَجّهْنِي لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْتُ ثُمّ يَخْرَجُ [ ص 407 ]

فَصْلٌ [ الذّكْرُ عِنْدَ رُكُوبِ الرّاحِلَةِ ]
وَكَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبّرَ ثَلَاثًا ، ثُمّ قَالَ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا ، وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُونَ . ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَى ، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى ، اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنّا بُعْدَهُ اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللّهُمّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا ، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا . وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنّ وَزَادَ فِيهِنّ آيِبُونَ تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ . وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الضّبْنَةِ فِي السّفَرِ وَالْكَآبَةِ فِي الْمُنْقَلَبِ اللّهُمّ اقْبِضْ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوّنْ عَلَيْنَا السّفَرَ . وَإِذَا أَرَادَ الرّجُوعَ قَالَ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ . وَإِذَا دَخَلَ أَهْلَهُ قَالَ تَوْبًا تَوْبًا ، لِرَبّنَا أَوْبًا ، لَا يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْبًا . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : أَنّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَمِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ . [ ص 408 ] فَصْلٌ وَكَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ لِرُكُوبِ دَابّتِهِ قَالَ بِسْمِ اللّهِ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا ، قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ ثَلَاثًا اللّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا ، ثُمّ يَقُولُ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا ، وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُون ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّه ثَلَاثًا ، اللّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا ، ثُمّ يَقُولُ سُبْحَانَ اللّهِ ثَلَاثًا ، ثُمّ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنْ الظّالِمِينَ سُبْحَانَكَ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لِي ، إنّهُ لَا يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلّا أَنْتَ .
[ تَوْدِيعُ الْمُسَافِرِ ]
وَكَانَ إِذَا وَدّعَ أَصْحَابَهُ فِي السّفَرِ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ أَسْتَوْدِعُ اللّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ . وَجَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُرِيدُ سَفَرًا ، فَزَوّدْنِي . فَقَالَ [ ص 409 ] زَوّدَكَ اللّهُ التّقْوَى . قَالَ زِدْنِي . قَالَ وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ . قَالَ زِدْنِي . قَالَ وَيَسّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْت .
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إنّي أُرِيدُ سَفَرًا ، فَقَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ وَالتّكْبِيرِ عَلَى كُلّ شَرَفٍ " فَلَمّا وَلّى ، قَالَ " اللّهُمّ ازْوِ لَهُ الْأَرْضَ وَهَوّنْ عَلَيْهِ السّفَرَ .
[ الذّكْرُ عِنْدَ عُلُوّ الثّنَايَا وَالْهُبُوطِ ]
وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا عَلَوْا الثّنَايَا ، كَبّرُوا ، وَإِذَا هَبَطُوا ، سَبّحُوا ، فَوُضِعَتْ الصّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ أَنَسٌ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِذَا عَلَا شَرَفًا مِنْ الْأَرْضِ أَوْ نَشْزًا ، قَالَ اللّهُمّ لَكَ الشّرَفُ عَلَى كُلّ شَرَفٍ ، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى كُلّ حَمْدٍ
[ كَيْفِيّةُ السّيْرِ ]
وَكَانَ سَيْرُهُ فِي حَجّهِ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً رَفَعَ السّيْرَ فَوْقَ ذَلِكَ وَكَانَ [ ص 410 ] لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَس .
[ كَرَاهَةُ السّفَرِ وَحِيدًا ]
وَكَانَ يُكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ وَحْدَهُ أَنْ يَسِيرَ بِاللّيْلِ فَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا سَارَ أَحَدٌ وَحْدَهُ بِلَيْلٍ . بَلْ كَانَ يَكْرَهُ السّفَرَ لِلْوَاحِدِ بِلَا رُفْقَةٍ وَأَخْبَرَ أَنّ الْوَاحِدَ شَيْطَانٌ . وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثّلَاثَةُ رَكْبٌ
[ دُعَاءُ النّزُولِ ]
وَكَانَ يَقُولُ إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ فَإِنّهُ لَا يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ .
[ دُعَاءُ إدْرَاكِ الْمُسَافِرِ اللّيْلُ ]
وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ فَأَدْرَكَهُ اللّيْلُ قَالَ يَا أَرْضُ رَبّي وَرَبّكِ اللّهُ ، أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شَرّكِ وَشَرّ مَا فِيكِ وَشَرّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَشَرّ مَا دَبّ عَلَيْكِ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شَرّ كُلّ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ وَحَيّةٍ وَعَقْرَبٍ وَمِنْ شَرّ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ شَرّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ . [ ص 411 ]
[ التّعْرِيسُ وَالسّفَرُ فِي الْخِصْبِ ]
وَكَانَ يَقُولُ إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظّهَا مِنْ الْأَرْضِ وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السّنَةِ فَبَادِرُوا نِقْيَهَا . وَفِي لَفْظٍ فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السّيْرَ وَإِذَا عَرّسْتُمْ ، فَاجْتَنِبُوا الطّرِيقَ فَإِنّهَا طُرُقُ الدّوَابّ وَمَأْوَى الْهَوَامّ بِاللّيْلِ .
[ دُعَاءُ الدّخُولِ إلَى قَرْيَةٍ ]
وَكَانَ إِذَا رَأَى قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا قَالَ حِينَ يَرَاهَا : اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ ، وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبّ الرّيحِ وَمَا ذَرَيْنَ إنّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا فِيهَا .
[ دُعَاءُ بُدُوّ الْفَجْرِ فِي السّفَرِ ]
وَكَانَ إِذَا بَدَا لَهُ الْفَجْرُ فِي السّفَرِ قَالَ سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللّهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا ، رَبّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاَللّهِ مِنْ النّار [ ص 412 ] وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوّ . وَكَانَ يَنْهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَوْ مَسَافَةَ بَرِيدٍ .
[ السّرْعَةُ فِي الْإِيَابِ ]
وَكَانَ يَأْمُرُ الْمُسَافِرَ إِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يُعَجّلَ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ . [ ص 413 ]
[ دُعَاءُ الْإِيَابِ ]
وَكَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ سَفَرِهِ يُكَبّرُ عَلَى كُلّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمّ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .
[ النّهْيُ عَنْ طُرُوقِ الْأَهْلِ لَيْلًا ]
وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَطْرُقَ الرّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهُمْ . [ ص 414 ] الصّحِيحَيْنِ " : كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَدْخُلُ عَلَيْهِنّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيّةً .
[ مَسَائِلُ تَتَعَلّقُ بِالْقُدُومِ مِنْ السّفَرِ ]
وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يُلَقّى بِالْوِلْدَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَإِنّهُ قَدِمَ مَرّةً مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ إمّا حَسَنٌ وَإِمّا حُسَيْنٌ فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ . قَالَ فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابّةٍ . وَكَانَ يَعْتَنِقُ الْقَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ وَيُقَبّلُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ . قَالَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِي ، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُرْيَانًا يَجُرّ ثَوْبَهُ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبّلَه . [ ص 415 ] قَالَتْ عَائِشَةُ لَمّا قَدِمَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ تَلَقّاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَبّلَ مَعًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ . قَالَ الشّعْبِيّ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا . وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْن

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ النّكَاحِ
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ عَلّمَهُمْ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ الْحَمْدُ لِلّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمّ يَقْرَأُ الْآيَاتِ الثّلَاثَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عِمْرَانَ 102 ] ، { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النّسَاءِ 1 ] { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الْأَحْزَابِ 70 - 71 ] . [ ص 416 ] قَالَ شُعْبَةُ : قُلْت لِأَبِي إسْحَاقَ هَذِهِ فِي خُطْبَةِ النّكَاحِ أَوْ فِي غَيْرِهَا ؟ قَالَ فِي كُلّ حَاجَةٍ . وَقَالَ إِذَا أَفَادَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ خَادِمًا ، أَوْ دَابّةً فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا ، وَلْيَدْعُ اللّهَ بِالْبَرَكَةِ وَيُسَمّي اللّهَ عَزّ وَجَلّ وَلْيَقُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ لِلْمُتَزَوّجِ بَارَكَ اللّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ . [ ص 417 ] وَقَالَ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ ، قَالَ بِسْمِ اللّهِ اللّهُمّ جَنّبْنَا الشّيْطَانَ وَجَنّبْ الشّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ، فَإِنّهُ إنْ يُقَدّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا يَقُولُ مَنْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ
يُذْكَرُ عَنْ أَنَس ٍ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلٍ وَلَا مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ } [ الْكَهْفِ 39 ] .

فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُ مَنْ رَأَى مُبْتَلًى
صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي عَافَانِي مِمّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إلّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كَانَ [ ص 418 ]

فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ مَنْ لَحِقَتْهُ الطّيَرَةُ
ذُكِرَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ذُكِرَتْ الطّيَرَةُ عِنْدَهُ فَقَالَ أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا تَرُدّ مُسْلِمًا ، فَإِذَا رَأَيْتَ مِنْ الطّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ فَقُلْ اللّهُمّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السّيّئَاتِ إلّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ اللّهُمّ لَا طَيْرَ إلّا طَيْرُكَ ، وَلَا خَيْرَ إلّا خَيْرُكَ وَلَا رَبّ غَيْرُكَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهَا لَرَأْسُ التّوَكّلِ وَكَنْزُ الْعَبْدِ فِي الْجَنّةِ وَلَا يَقُولُهُنّ عَبْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمّ يَمْضِي إلّا لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ [ ص 419 ]

فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُهُ
صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنْ اللّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشّيْطَانِ ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا ، وَلْيَتَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ فَإِنّهَا لَا تَضُرّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا . وَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيَسْتَبْشِرْ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إلّا مَنْ يُحِبّ و َأَمَرَ مَنْ رَأَى مَا يَكْرَهُهُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلّيَ فَأَمَرَهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ أَنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَأَنْ لَا يُخْبِرَ بِهَا أَحَدًا ، وَأَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُومَ يُصَلّي ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَضُرّهُ الرّؤْيَا الْمَكْرُوهَةُ بَلْ هَذَا يَدْفَعُ شَرّهَا . وَقَالَ الرّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبّرْ ، فَإِذَا عُبّرَتْ وَقَعَتْ وَلَا يَقُصّهَا إلّا عَلَى وَادّ أَوْ ذِي رَأْي [ ص 420 ] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إِذَا قُصّتْ عَلَيْهِ الرّؤْيَا ، قَالَ اللّهُمّ إنْ كَانَ خَيْرًا فَلَنَا ، وَإِنْ كَانَ شَرّا ، فَلِعَدُوّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا ، فَلْيَقُلْ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرّائِي قَبْلَ أَنْ يَعْبُرَهَا لَهُ خَيْرًا رَأَيْتَ ، ثُمّ يَعْبُرُهَا . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ رُؤْيَا ، قَالَ إنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا

فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَاسِ وَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْوَسْوَسَةِ
رَوَى صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ [ ص 421 ] ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ إنّ لِلْمَلَكِ الْمُوَكّلِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمّةً ، وَلِلشّيْطَانِ لَمّةً فَلَمّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقّ وَرَجَاءُ صَالِحِ ثَوَابِهِ . وَلَمّةُ الشّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشّرّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقّ وَقُنُوطٌ مِنْ الْخَيْرِ فَإِذَا وَجَدْتُمْ لَمّةَ الْمَلَكِ فَاحْمَدُوا اللّهَ وَسَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِذَا وَجَدْتُمْ لَمّةَ الشّيْطَانِ فَاسْتَعِيذُوا بِاَللّهِ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ الشّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي ، قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا وَشَكَا إلَيْهِ الصّحَابَةُ أَنّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ - يُعَرّضُ بِالشّيْءِ - لِأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلّمَ بِهِ فَقَالَ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي رَدّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ [ ص 422 ] وَأَرْشَدَ مَنْ بُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ وَسْوَسَةِ التّسَلْسُلِ فِي الْفَاعِلِينَ إِذَا قِيلَ لَهُ هَذَا اللّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ ؟ أَنْ يَقْرَأَ { هُوَ الْأَوّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الْحَدِيدِ 3 ] . كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِأَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ الْحَنَفِي ّ وَقَدْ سَأَلَهُ مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي ؟ قَالَ مَا هُوَ ؟ قَالَ قُلْتُ وَاَللّهِ لَا أَتَكَلّمُ بِهِ . قَالَ فَقَالَ لِي : أَشَيْءٌ مِنْ شَكّ ؟ قُلْتُ بَلَى ، فَقَالَ لِي : مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [ يُونُسَ 94 ] قَالَ فَقَالَ لِي : فَإِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِك شَيْئًا ، فَقُلْ { هُوَ الْأَوّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَأَرْشَدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى بُطْلَانِ التّسَلْسُلِ الْبَاطِلِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَأَنّ سِلْسِلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ابْتِدَائِهَا تَنْتَهِي إلَى أَوّلٍ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ كَمَا تَنْتَهِي فِي آخِرِهَا إلَى آخِرٍ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ كَمَا أَنّ ظُهُورَهُ هُوَ الْعُلُوّ الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَبُطُونَهُ هُوَ الْإِحَاطَةُ الّتِي لَا يَكُونُ دُونَهُ فِيهَا شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ مُؤَثّرًا فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرّبّ الْخَلّاقُ وَلَا بُدّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ وَغَنِيّ عَنْ غَيْرِهِ وَكُلّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَكُلّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ وَكُلّ شَيْءٍ مَوْجُودٌ بِهِ . قَدِيمٌ لَا أَوّلَ لَهُ وَكُلّ مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ بَاقٍ بِذَاتِهِ وَبَقَاءُ كُلّ شَيْءٍ بِهِ فَهُوَ الْأَوّلُ الّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ الّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ الظّاهِرُ الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ الْبَاطِنُ الّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ . وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَزَالُ النّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ هَذَا اللّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللّهِ وَلْيَنْتَهِ [ ص 423 ] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 36 ] . وَلَمّا كَانَ الشّيْطَانُ عَلَى نَوْعَيْنِ نَوْعٍ يُرَى عِيَانًا ، وَهُوَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ وَنَوْعٍ لَا يُرَى ، وَهُوَ شَيْطَانُ الْجِنّ ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَكْتَفِيَ مِنْ شَرّ شَيْطَانِ الْإِنْسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالْعَفْوِ وَالدّفْعِ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَمِنْ شَيْطَانِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُ وَالْعَفْوِ وَجَمَعَ بَيْنَ النّوْعَيْنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَسُورَةِ فُصّلَتْ وَالِاسْتِعَاذَةِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذّكْرِ أَبْلَغُ فِي دَفْعِ شَرّ شَيَاطِينِ الْجِنّ ، وَالْعَفْوُ وَالْإِعْرَاضُ وَالدّفْعُ بِالْإِحْسَانِ أَبْلَغُ فِي دَفْعِ شَرّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ . قَالَ
فَمَا هُوَ إلّا الِاسْتِعَاذَةُ ضَارِعًا
أَوْ الدّفْعُ بِالْحُسْنَى هُمَا خَيْرُ مَطْلُوبِ
فَهَذَا دَوَاءُ الدّاءِ مِنْ شَرّ مَا يُرَى
وَذَاكَ دَوَاءُ الدّاءِ مِنْ شَرّ مَحْجُوبِ

فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ مَنْ اشْتَدّ غَضَبُهُ
أَمَرَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُطْفِئَ عَنْهُ جَمْرَةَ الْغَضَبِ بِالْوُضُوءِ وَالْقُعُودِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَالِاضْطِجَاعِ إنْ كَانَ قَاعِدًا ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ . وَلَمّا كَانَ الْغَضَبُ وَالشّهْوَةُ جَمْرَتَيْنِ مِنْ نَارٍ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَمَرَ أَنْ يُطْفِئَهُمَا بِالْوُضُوءِ وَالصّلَاةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : [ ص 424 ] { أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ 44 ] . وَهَذَا إنّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ شِدّةُ الشّهْوَةِ فَأَمَرَهُمْ بِمَا يُطْفِئُونَ بِهَا جَمْرَتَهَا ، وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشّيْطَانِ عِنْدَ نَزَغَاتِهِ . وَلَمّا كَانَتْ الْمَعَاصِي كُلّهَا تَتَوَلّدُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشّهْوَةِ وَكَانَ نِهَايَةُ قُوّةِ الْغَضَبِ الْقَتْلَ وَنِهَايَةُ قُوّةِ الشّهْوَةِ الزّنَا ، جَمَعَ اللّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالزّنَا ، وَجَعَلَهُمَا قَرِينَيْنِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ الْإِسْرَاءِ ، وَسُورَةِ الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلَى مَا يَدْفَعُونَ بِهِ شَرّ قُوّتَيْ الْغَضَبِ وَالشّهْوَةِ مِنْ الصّلَاةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ .

فَصْلٌ [ الدّعَاءُ لِرُؤْيَةِ مَا يُحِبّ وَمَا يَكْرَهُ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِذَا رَأَى مَا يُحِبّ ، قَالَ " الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمّ الصّالِحَاتُ . وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ " الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلّ حَالٍ .

فَصْلٌ [ مَا يَفْعَلُ مَعَ مَنْ صَنَعَ إلَيْهِ مَعْرُوفًا ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو لِمَنْ تَقَرّبَ إلَيْهِ بِمَا يُحِبّ وَبِمَا يُنَاسِبُ فَلَمّا وَضَعَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وَضُوءَهُ قَالَ اللّهُمّ فَقّهْهُ فِي الدّينِ وَعَلّمْهُ التّأْوِيلَ [ ص 425 ] دَعّمَهُ أَبُو قَتَادَة فِي مَسِيرِهِ بِاللّيْلِ لَمّا مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ قَالَ حَفِظَكَ اللّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيّه وَقَالَ مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثّنَاءِ وَاسْتَقْرَضَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مَالًا ، ثُمّ وَفّاهُ إيّاهُ وَقَالَ "بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِك ، إنّمَا جَزَاءُ السّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ وَلَمّا أَرَاحَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ صَنَمِ دَوْسٍ ، بَرّكَ عَلَى خَيْلِ قَبِيلَتِهِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرّاتٍ
[ الْإِثَابَةُ عَلَى الْهَدِيّةِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِذَا أُهْدِيَتْ إلَيْهِ هَدِيّةٌ فَقَبِلَهَا ، كَافَأَ عَلَيْهَا بِأَكْثَرَ [ ص 426 ] رَدّهَا اعْتَذَرَ إلَى مُهْدِيهَا ، كَقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ لَمّا أَهْدَى إلَيْهِ لَحْمَ الصّيْدِ " إنّا لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْكَ إلّا أَنّا حُرُمٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْل
وَأَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّتَهُ إِذَا سَمِعُوا نَهِيقَ الْحِمَارِ أَنْ يَتَعَوّذُوا بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ وَإِذَا سَمِعُوا صِيَاحَ الدّيَكَةِ أَنْ يَسْأَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ . وَيُرْوَى عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ أَمَرَهُمْ بِالتّكْبِيرِ عَنْدَ رُؤْيَةِ الْحَرِيقِ فَإِنّ التّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ .
[ الذّكْرُ فِي الْمَجْلِسِ ]
وَكَرِهَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَهْلِ الْمَجْلِسِ أَنْ يُخْلُوا مَجْلِسَهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَقَالَ مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللّهَ فِيهِ إلّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ الْحِمَارِ [ ص 427 ] وَقَالَ مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللّهِ تِرَةٌ وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللّهَ فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ اللّهِ تِرَة وَالتّرَةُ الْحَسْرَةُ . وَفِي لَفْظٍ وَمَا سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقًا لَمْ يَذْكُرْ اللّهَ فِيهِ ، إلّا كَانَتْ عَلَيْهِ تِرَةٌ وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ سُبْحَانَكَ اللّهُمّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ إلّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَ " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنْ الْمَجْلِسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّكَ لَتَقُولُ قَوْلًا مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى . قَالَ ذَلِكَ كَفّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ

فَصْلٌ [ الدّعَاءُ عِنْدَ الْأَرَقِ ]
وَشَكَا إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْأَرَقَ بِاللّيْلِ فَقَالَ لَهُ " إِذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقَلّتْ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضَلّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرّ خَلْقِكَ كُلّهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَنْ يَفْرُطَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيّ أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيّ عَزّ جَارُكَ وَجَلّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إلَهَ إلّا أَنْتَ [ ص 428 ]
[ الدّعَاءُ عِنْدَ الْفَزَعِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُعَلّمُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْفَزَعِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَمِنْ شَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ شَرّ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ وَيُذْكَرُ أَنّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ يَفْزَعُ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ " إِذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ . .. " ثُمّ ذَكَرَهَا ، فَقَالَهَا فَذَهَبَ عَنْهُ

فَصْلٌ فِي أَلْفَاظٍ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ أَنْ تُقَالَ
فَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ خَبُثَتْ نَفْسِي ، أَوْ جَاشَتْ نَفْسِي ، وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُسَمّيَ شَجَرُ الْعِنَبِ كَرْمًا ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَقُولُوا : الْكَرْمُ وَلَكِنْ قُولُوا : الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ . وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ هَلَكَ النّاسُ . وَقَالَ " إِذَا قَال ذَلِكَ فَهُوَ [ ص 429 ] أَهْلَكُهُمْ . وَفِي مَعْنَى هَذَا : فَسَدَ النّاسُ وَفَسَدَ الزّمَانُ وَنَحْوُهُ . وَنَهَى أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ بَلْ يُقَالُ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شَاءَ فُلَانٌ . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ . فَقَالَ أَجَعَلْتَنِي لِلّهِ نِدّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللّهُ وَحْدَهُ . وَفِي مَعْنَى هَذَا : لَوْلَا اللّهُ وَفُلَانٌ لَمَا كَانَ كَذَا ، بَلْ وَهُوَ أَقْبَحُ وَأَنْكَرُ وَكَذَلِكَ أَنَا بِاَللّهِ وَبِفُلَانٍ وَأَعُوذُ بِاَللّهِ وَبِفُلَانٍ وَأَنَا فِي حَسْبِ اللّهِ وَحَسْبِ فُلَانٍ وَأَنَا مُتّكِلٌ عَلَى اللّهِ وَعَلَى فُلَانٍ فَقَائِلُ هَذَا ، قَدْ جَعَلَ فُلَانًا نِدّا لِلّهِ عَزّ وَجَلّ . وَمِنْهَا : أَنْ يُقَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ، بَلْ يَقُولُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللّهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللّهِ . صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ .
[ ص 430 ] نَصْرَانِيّ ، أَوْ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا . وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ لِلسّلْطَانِ مَلِكُ الْمُلُوكِ . وَعَلَى قِيَاسِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ السّيّدُ لِغُلَامِهِ وَجَارِيَتِهِ عَبْدِي ، وَأَمَتِي ، وَيَقُولَ الْغُلَامُ لِسَيّدِهِ رَبّي ، وَلْيَقُلْ السّيّدُ فَتَايَ وَفَتَاتِي ، وَلْيَقُلْ الْغُلَامُ سَيّدِي وَسَيّدَتِي .
وَمِنْهَا : سَبّ الرّيحِ إِذَا هَبّتْ بَلْ يَسْأَلُ اللّهَ خَيْرَهَا ، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَيَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ .
وَمِنْهَا : سَبّ الْحُمّى ، نَهَى عَنْهُ وَقَالَ إنّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ . [ ص 431 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا الدّيكَ فَإِنّهُ يُوقِظُ لِلصّلَاةِ . وَمِنْهَا : الدّعَاءُ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَالتّعَزّي بِعَزَائِهِمْ كَالدّعَاءِ إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَصَبِيّةِ لَهَا وَلِلْأَنْسَابِ وَمِثْلُهُ التّعَصّبُ لِلْمَذَاهِبِ وَالطّرَائِقِ وَالْمَشَايِخِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْهَوَى وَالْعَصَبِيّةِ وَكَوْنُهُ مُنْتَسِبًا إلَيْهِ فَيَدْعُو إلَى ذَلِكَ وَيُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي عَلَيْهِ وَيَزِنُ النّاسَ بِهِ كُلّ هَذَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ . وَمِنْهَا : تَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ تَسْمِيَةً غَالِبَةً يُهْجَرُ فِيهَا لَفْظُ الْعِشَاءِ .
وَمِنْهَا : النّهْيُ عَنْ سِبَابِ الْمُسْلِمِ وَأَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثّالِثِ . وَأَنْ تُخْبِرَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِمَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ " اللّهُمّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ وَارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ " . [ ص 432 ] أَحَدًا بِوَجْهِ اللّهِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُسَمّيَ الْمَدِينَةَ بِيَثْرِبَ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُسْأَلَ الرّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ إلّا إِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ .
وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ صُمْتُ رَمَضَانَ كُلّهُ أَوْ قُمْتُ اللّيْلَ كُلّهُ [ ص 433 ] فَصْلٌ وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَكْرُوهَةِ الْإِفْصَاحُ عَنْ الْأَشْيَاءِ الّتِي يَنْبَغِي الْكِنَايَةُ عَنْهَا بِأَسْمَائِهَا الصّرِيحَةِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ أَطَالَ اللّهُ بَقَاءَك ، وَأَدَامَ أَيّامَكَ وَعِشْتَ أَلْفَ سَنَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ الصّائِمُ وَحَقّ الّذِي خَاتَمُهُ عَلَى فَمِ الْكَافِرِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ لِلْمُكُوسِ حُقُوقًا . وَأَنْ يَقُولَ لِمَا يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ غَرِمْتُ أَوْ خَسِرْتُ كَذَا وَكَذَا : وَأَنْ يَقُولَ أَنْفَقْتُ فِي هَذِهِ الدّنْيَا مَالًا كَثِيرًا .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقُولَ الْمُفْتِي : أَحَلّ اللّهُ كَذَا ، وَحَرّمَ اللّهُ كَذَا فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيّةِ وَإِنّمَا يَقُولُهُ فِيمَا وَرَدَ النّصّ بِتَحْرِيمِهِ .
[ كَرَاهَةُ تَسْمِيَةِ أَدِلّةِ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ ظَوَاهِرَ لَفْظِيّةٍ وَمَجَازَاتٍ ]
وَمِنْهَا : أَنْ يُسَمّيَ أَدِلّةَ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ ظَوَاهِرَ لَفْظِيّةٍ وَمَجَازَاتٍ فَإِنّ هَذِهِ التّسْمِيَةَ تُسْقِطُ حُرْمَتَهَا مِنْ الْقُلُوبِ وَلَا سِيّمَا إِذَا أَضَافَ إلَى ذَلِكَ تَسْمِيَةَ شُبَهِ الْمُتَكَلّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ قَوَاطِعَ عَقْلِيّةٍ فَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ كَمْ حَصَلَ بِهَاتَيْنِ التّسْمِيَتَيْنِ مِنْ فَسَادٍ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَالدّنْيَا وَالدّينِ . فَصْلٌ وَمِنْهَا : أَنْ يُحَدّثَ الرّجُلُ بِجِمَاعِ أَهْلِهِ وَمَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، [ ص 434 ] وَقَالُوا ، وَنَحْوَهُ .
وَمِمّا يُكْرَهُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِلسّلْطَانِ خَلِيفَةُ اللّهِ أَوْ نَائِبُ اللّهِ فِي أَرْضِهِ فَإِنّ الْخَلِيفَةَ وَالنّائِبَ إنّمَا يَكُونُ عَنْ غَائِبٍ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلِيفَةُ الْغَائِبِ فِي أَهْلِهِ وَوَكِيلُ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ .
فَصْلٌ [ التّحْذِيرُ مِنْ " أَنَا " وَ " لِي " و " عِنْدِي " ]
وَلْيَحْذَرْ كُلّ الْحَذَرِ مِنْ طُغْيَانِ " أَنَا " ، " وَلِي " ، " وَعِنْدِي " ، فَإِنّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثّلَاثَةَ اُبْتُلِيَ بِهَا إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ ، وَقَارُونُ ، فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِإِبْلِيسَ وَلِي مُلْكُ مِصْرَ لِفِرْعَوْنَ و إنّمَا أُوتِيته عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي لِقَارُونَ . وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَتْ " أَنَا " فِي قَوْلِ الْعَبْدِ أَنَا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ الْمُخْطِئُ الْمُسْتَغْفِرُ الْمُعْتَرِفُ وَنَحْوُهُ . " وَلِي " ، فِي قَوْلِهِ لِي الذّنْبُ وَلِي الْجُرْمُ وَلِي الْمَسْكَنَةُ وَلِي الْفَقْرُ [ ص 435 ] وَعِنْدِي " فِي قَوْلِهِ " اغْفِرْ لِي جِدّي ، وَهَزْلِي ، وَخَطَئِي ، وَعَمْدِي ، وَكُلّ ذَلِكَ عِنْدِي " .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي وَالسّرَايَا وَالْبُعُوثِ
[ ص 5 ] كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبّتَهُ وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنّةِ كَمَا لَهُمْ الرّفْعَةُ فِي الدّنْيَا فَهُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا .
[ كَانَ الْجِهَادُ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ ]
وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 52 ] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التّوْبَةُ 73 ] فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا . وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا - صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ .
[ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ ]
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ [ ص 6 ] قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ .
[ هُنَاكَ جِهَادٌ ثَالِثٌ هُوَ جِهَادُ الشّيْطَانِ ]
فَهَذَانِ عَدُوّانِ قَدْ اُمْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا وَبَيْنَهُمَا عَدْوٌ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إلّا بِجِهَادِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا وَيَخْذُلُهُ وَيَرْجُفُ بِهِ وَلَا يَزَالُ يُخَيّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنْ الْمَشَاقّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللّذّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوّيْنِ إلّا بِجِهَادِهِ فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلُ لِجِهَادِهِمَا وَهُوَ الشّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى : { إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّا } [ فَاطِرٌ 6 ] وَالْأَمْرُ بِاِتّخَاذِهِ عَدْوًا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ كَأَنّهُ عَدُوّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ .
[ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الثّلَاثَةِ لِيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ ]
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدّارِ وَسُلّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنْ اللّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً فَأَعْطَى اللّهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا لِهَذَا الْجِهَادِ وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا وَبَلَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ وَيَتَوَلّى رُسُلَهُ مِمّنْ يَتَوَلّى الشّيْطَانَ وَحِزْبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 20 ] [ ص 7 ] وَقَالَ تَعَالَى { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ مُحَمّدٌ 4 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ مُحَمّدٌ 31 ] فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْعُقُولَ وَالْقُوَى وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَأَمَدّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَقَالَ لَهُمْ { أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا } [ الْأَنْفَالُ 12 ] وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حَرْبِ عَدُوّهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إنْ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوّهِ وَعَدُوّهِمْ وَأَنّهُ إنْ سَلّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَلِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ ثُمّ لَمْ يُؤَيّسْهُمْ وَلَمْ يُقَنّطْهُمْ بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمْرَهُمْ وَيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ وَيَعُودُوا إلَى مُنَاهَضَةِ عَدُوّهِمْ فَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِ وَيُظْفِرُهُمْ بِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ مَعَ الْمُتّقِينَ مِنْهُمْ وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ وَمَعَ الصّابِرِينَ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بَلْ بِدِفَاعِهِ عَنْهُمْ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوّهِمْ وَلَوْلَا دِفَاعُهُ عَنْهُمْ لَتَخَطّفَهُمْ عَدُوّهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ . وَهَذِهِ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ بِحَسْبِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى قَدْرِهِ فَإِنْ قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَتْ الْمُدَافَعَةُ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
[ مَعْنَى وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ ]
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقّ جِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ وَكَمَا أَنّ حَقّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ فَحَقّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لِلّهِ فَيَكُونُ كُلّهُ لِلّهِ وَبِاَللّهِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ فَإِنّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيّ وَيُمَنّي الْغُرُورَ وَيَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَنْهَى عَنْ التّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفّةِ وَالصّبْرِ [ ص 8 ] الْإِيمَانِ كُلّهَا فَجَاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَهَادَيْنِ قُوّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللّهِ فِي الْخَارِجِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السّلَفِ فِي حَقّ الْجِهَادِ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطّاقَةِ فِيهِ وَأَلّا يَخَافَ فِي اللّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : اعْمَلُوا لِلّهِ حَقّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقّ عِبَادَتِهِ . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : هُوَ مُجَاهَدَةُ النّفْسِ وَالْهَوَى . وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ إنّ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ لِظَنّهِ أَنّهُمَا تَضَمّنَتَا الْأَمْرَ بِمَا لَا يُطَاقُ وَحَقّ تُقَاتِهِ وَحَقّ جِهَادِهِ هُوَ مَا يُطِيقُهُ كُلّ عَبْدٍ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُكَلّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ . فَحَقّ التّقْوَى وَحَقّ الْجِهَادِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْقَادِرِ الْمُتَمَكّنِ الْعَالِمِ شَيْءٌ وَبِالنّسْبَةِ إلَى الْعَاجِزِ الْجَاهِلِ الضّعِيفِ شَيْءٌ وَتَأَمّلْ كَيْفَ عَقّبَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجّ 78 ] وَالْحَرَجُ الضّيقُ بَلْ جَعَلَهُ وَاسِعًا يَسَعُ كُلّ أَحَدٍ كَمَا جَعَلَ رِزْقَهُ يَسَعُ كُلّ حَيّ وَكَلّفَ الْعَبْدَ بِمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ وَرَزَقَ الْعَبْدَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ فَهُوَ يَسَعُ تَكْلِيفَهُ وَيَسَعُهُ رِزْقُهُ وَمَا جَعَلَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ بِوَجْهِ مَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيّةِ السّمْحَةِ أَيْ بِالْمِلّةِ فَهِيَ حَنِيفِيّةٌ فِي التّوْحِيدِ سَمْحَةٌ فِي الْعَمَلِ . وَقَدْ وَسّعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ غَايَةَ التّوْسِعَةِ فِي دِينِهِ وَرِزْقِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَبَسَطَ عَلَيْهِمْ التّوْبَةَ مَا دَامَتْ الرّوحُ فِي الْجَسَدِ وَفَتَحَ لَهُمْ بَابًا لَهَا لَا يُغْلِقُهُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَجَعَلَ لِكُلّ سَيّئَةٍ كَفّارَةً تُكَفّرُهَا مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مُصِيبَةٍ مُكَفّرَةٍ وَجَعَلَ بِكُلّ مَا حَرّمَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا مِنْ الْحَلَالِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْهُ وَأَطْيَبَ وَأَلَذّ فَيَقُومُ مَقَامَهُ لِيَسْتَغْنِيَ الْعَبْدُ [ ص 9 ] وَجَعَلَ لِكُلّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ وَيُسْرًا بَعْدَهُ " فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ مَعَ عِبَادِهِ فَكَيْفَ يُكَلّفُهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ فَضْلًا عَمّا لَا يُطِيقُونَهُ وَلَا يَقْدُرُونَ عَلَيْهِ .
فَصْلُ [ مَرَاتِبِ الْجِهَادِ ]
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جِهَادُ النّفْسِ وَجِهَادُ الشّيْطَانِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ . مَرَاتِبُ جِهَادِ النّفْسِ فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا : إحْدَاهَا : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ . الثّانِيَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا . الثّالِثَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ . الرّابِعَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لِلّهِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ .

فَصْلٌ [مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ ]
[ ص 10 ] الشّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ إحْدَاهُمَا : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ . الثّانِيَةُ جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ . قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السّجْدَةُ 24 ] فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ .
فَصْلٌ [ مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ]
وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ .
فَصْلٌ [ جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ ]
وَأَمّا جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْأُولَى : بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ وَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ
فَصْلٌ [ شَرْطُ الْجِهَادِ ]
وَلَا يَتِمّ الْجِهَادُ إلّا بِالْهِجْرَةِ وَلَا الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ إلّا بِالْإِيمَانِ وَالرّاجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ هُمْ الّذِينَ قَامُوا بِهَذِهِ الثّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 218 ] وَكَمَا أَنّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلّ أَحَدٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلّ وَقْتٍ [ ص 11 ] عَزّ وَجَلّ بِالتّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالتّوَكّلِ وَالْخَوْفِ وَالرّجَاءِ وَالْمَحَبّةِ وَالتّوْبَةِ وَهِجْرَةٌ إلَى رَسُولِهِ بِالْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ وَالتّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ وَتَقْدِيمِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِ جِهَادَ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ اللّهِ وَجِهَادَ شَيْطَانِهِ فَهَذَا كُلّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ . وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَقَدْ يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ الْأُمّةِ إذَا حَصَلَ مِنْهُمْ مَقْصُودُ الْجِهَادِ .

فَصْلٌ [ أَكْمَلُ الْخَلْقِ مَنْ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللّهِ مَنْ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ كُلّهَا وَالْخَلْقُ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللّهِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْجِهَادِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللّهِ خَاتِمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنّهُ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ وَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ وَشَرَعَ فِي الْجِهَادِ مِنْ حِينَ بُعِثَ إلَى أَنْ تَوَفّاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فَإِنّهُ لَمّا نَزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } [ الْمُدّثّرُ ا - 4 ] شَمّرَ عَنْ سَاقِ الدّعْوَةِ وَقَامَ فِي ذَاتِ اللّهِ أَتَمّ قِيَامٍ وَدَعَا إلَى اللّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرّا وَجِهَارًا وَلَمّا نَزَلَ عَلَيْهِ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الْحِجْرُ : 94 ] فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَدَعَا إلَى اللّهِ الصّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالْحُرّ وَالْعَبْدَ وَالذّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ وَالْجِنّ وَالْإِنْسَ . وَلَمّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللّهِ وَصَرّحَ لِقَوْمِهِ بِالدّعْوَةِ وَنَادَاهُمْ بِسَبّ آلِهَتِهِمْ وَعَيّبَ دِينَهُمْ [ ص 12 ] وَنَالُوهُ وَنَالُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى وَهَذِهِ سُنّةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فُصّلَتْ 43 ] وَقَالَ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ } [ الْأَنْعَامُ 112 ] وَقَالَ { كَذَلِكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذّارِيَاتُ 52- 53 ] فَعَزّى سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ بِذَلِكَ وَأَنّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تَقَدّمَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَعَزّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ الْبَقَرَةُ 214 ] وَقَوْلُهُ { الم أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [ الْعَنْكَبُوتُ 1 - 11 ] [ ص 13 ]
[ ذِكْرُ الِابْتِلَاءِ فِي أَوّلِ الدّعْوَةِ ]
فَلْيَتَأَمّلْ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ فَإِنّ النّاسَ إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ آمَنّا وَإِمّا أَلّا يَقُولَ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَمِرّ عَلَى السّيّئَاتِ وَالْكُفْرِ فَمَنْ قَالَ آمَنّا امْتَحَنَهُ رَبّهُ وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنّا فَلَا يَحْسِبْ أَنّهُ يُعْجِزُ اللّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ فَإِنّهُ إنّمَا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ . وَكَيْفَ يَفِرّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ إذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ
فَمَنْ آمَنَ بِالرّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ وَكَانَ هَذَا الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدُومَ مِنْ أَلَمِ اتّبَاعِهِمْ فَلَا بُدّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلّ نَفْسٍ آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَلَمُ فِي الدّنْيَا ابْتِدَاءً ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللّذّةُ ابْتِدَاءً ثُمّ يَصِيرُ إلَى الْأَلَمِ الدّائِمِ . وَسُئِلَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَيّمَا أَفْضَلُ لِلرّجُلِ أَنْ يُمَكّنَ أَوْ يُبْتَلَى ؟ فَقَالَ لَا يُمَكّنُ حَتّى يُبْتَلَى وَاَللّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ فَلَمّا صَبَرُوا مَكّنَهُمْ فَلَا يَظُنّ أَحَدٌ أَنّهُ يَخْلُصُ مِنْ الْأَلَمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا ؟ قِيلَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النّقْدُ وَالنّسِيئَةُ . و َالنّفْسُ مُوَكّلَةٌ بِحُبّ الْعَاجِل ِ
[ مَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا ]
{ كَلّا بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } [ الْقِيَامَةُ 20 ] { إِنّ هَؤُلَاءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } [ الدّهْرُ 27 ] وَهَذَا يَحْصُلُ لِكُلّ أَحَدٍ فَإِنّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيّ بِالطّبْعِ لَا بُدّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النّاسِ وَالنّاسُ لَهُمْ إرَادَاتٌ وَتَصَوّرَاتٌ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ آذَوْهُ وَعَذّبُوهُ وَإِنْ [ ص 14 ] حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ تَارَةً مِنْهُمْ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجّارٍ ظَلَمَةٍ وَلَا يَتَمَكّنُونَ مِنْ فُجُورِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلّا بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ أَوْ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَهُمْ أَوْ سَكَتَ عَنْهُمْ سَلِمَ مِنْ شَرّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمّ يَتَسَلّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابْتِدَاءً لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ فَلَا بُدّ أَنْ يُهَانَ وَيُعَاقَبَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لِمُعَاوِيَةَ : مَنْ أَرْضَى اللّهَ بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ اللّهُ مُؤْنَةَ النّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا وَمَنْ تَأَمّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ رَأَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَنْ يُعِينُ الرّؤَسَاءَ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَفِيمَنْ يُعِينُ أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمْ فَمَنْ هَدَاهُ اللّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَوَقَاهُ شَرّ نَفْسِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْمُوَافَقَةِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرّمِ وَصَبَرَ عَلَى عِدْوَانِهِمْ ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا كَانَتْ لِلرّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَصَالِحِي الْوُلَاةِ وَالتّجّارِ وَغَيْرِهِمْ .
[ تَعْزِيَةُ اللّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا قَصِيرَةٌ ]
وَلَمّا كَانَ الْأَلَمُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ الْبَتّةَ عَزّى اللّهُ - سُبْحَانَهُ - مَنْ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ بِقَوْلِهِ { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الْعَنْكَبُوتُ 5 ] فَضَرَبَ لِمُدّةِ هَذَا الْأَلَمِ أَجَلًا لَا بُدّ أَنْ يَأْتِيَ وَهُوَ يَوْمُ لِقَائِهِ فَيَلْتَذّ الْعَبْدُ أَعْظَمَ اللّذّةِ بِمَا تَحَمّلَ [ ص 15 ] أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ وَتَكُونُ لَذّتُهُ وَسُرُورُهُ وَابْتِهَاجُهُ بِقَدْرِ مَا تَحَمّلَ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَأَكّدَ هَذَا الْعَزَاءَ وَالتّسْلِيَةَ بِرَجَاءِ لِقَائِهِ لِيَحْمِلَ الْعَبْدُ اشْتِيَاقَهُ إلَى لِقَاءِ رَبّهِ وَوَلِيّهِ عَلَى تَحَمّلِ مَشَقّةِ الْأَلَمِ الْعَاجِلِ بَلْ رُبّمَا غَيّبَهُ الشّوْقُ إلَى لِقَائِهِ عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ وَلِهَذَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ الشّوْقَ إلَى لِقَائِهِ فَقَالَ فِي الدّعَاءِ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ : اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقّ فِي الْغَضَبِ وَالرّضَى وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذّةَ النّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُكَ الشّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرّاءَ مُضِرّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلّةٍ اللّهُمّ زَيّنّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ فَالشّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدّ فِي السّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَيُقَرّبُ عَلَيْهِ الطّرِيقَ وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ وَيُهَوّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ وَلَكِنْ لِهَذِهِ النّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السّبَبُ الّذِي تُنَالُ بِهِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ [ ص 16 ] قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامُ 53 ] فَإِذَا فَاتَتْ الْعَبْدَ نَعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ
{ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ }
[ مَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ]
ثُمّ عَزّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ جِهَادَهُمْ فِيهِ إنّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ وَثَمَرَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَمَصْلَحَةُ هَذَا الْجِهَادِ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَا إلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصّالِحِينَ .
[ مَعْنَى فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ ]
ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الدّاخِلِ فِي الْإِيمَانِ بِلَا بَصِيرَةٍ وَأَنّهُ إذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ لَهُ كَعَذَابِ اللّهِ وَهِيَ أَذَاهُمْ لَهُ وَنَيْلُهُمْ إيّاهُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ الّذِي لَا بُدّ أَنْ يَنَالَهُ الرّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِمّنْ خَالَفَهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي فِرَارِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ السّبَبَ الّذِي نَالَهُ كَعَذَابِ اللّهِ الّذِي فَرّ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ فَالْمُؤْمِنُونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِمْ فَرّوا مِنْ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ إلَى الْإِيمَانِ وَتَحَمّلُوا مَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ الزّائِلِ الْمُفَارِقِ عَنْ قَرِيبٍ وَهَذَا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِ أَعْدَاءِ الرّسُلِ إلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ فَفَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِهِمْ إلَى أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ النّاسِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ وَغُبِنَ كُلّ الْغَبْنِ إذْ اسْتَجَارَ مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ وَفَرّ مِنْ أَلَمِ سَاعَةٍ إلَى أَلَمِ الْأَبَدِ وَإِذَا نَصَرَ اللّهُ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ قَالَ إنّي كُنْتُ مَعَكُمْ وَاَللّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنْ النّفَاقِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنّهُ لَا بُدّ أَنْ يَمْتَحِنَ النّفُوسَ وَيَبْتَلِيَهَا فَيُظْهِرُ بِالِامْتِحَانِ طَيّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا وَمَنْ يَصْلُحُ لِمُوَالَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَلْيُمَحّصْ النّفُوسَ الّتِي تَصْلُحُ لَهُ وَيُخَلّصُهَا بِكِيرِ الِامْتِحَانِ كَالذّهَبِ الّذِي لَا يَخْلُصُ وَلَا يَصْفُو مِنْ غِشّهِ إلّا بِالِامْتِحَانِ إذْ النّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْجَهْلِ وَالظّلْمِ مِنْ الْخُبْثِ مَا يَحْتَاجُ خُرُوجُهُ إلَى السّبْكِ وَالتّصْفِيَةِ فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِلّا فَفِي كِيرِ جَهَنّمَ فَإِذَا هُذّبَ الْعَبْدُ وَنُقّيَ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنّةِ . [ ص 17 ]

فَصْلٌ [ ذِكْرُ السّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ ]

[ أبوبكر الصديق ]
وَلَمّا دَعَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ اسْتَجَابَ لَهُ عِبَادُ اللّهِ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَكَانَ حَائِزَ قَصَبِ سَبْقِهِمْ صِدّيقُ الْأُمّةِ وَأَسْبَقَهَا إلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَآزَرَهُ فِي دِينِ اللّهِ وَدَعَا مَعَهُ إلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَاسْتَجَابَ لِأَبِي بَكْر ٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ .
[ خديجة الكبرى ]وَبَادَرَ إلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِدّيقَةُ النّسَاءِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَقَامَتْ بِأَعْبَاءِ الصّدّيقِيّةِ وَقَالَ لَهَا : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ لَهُ أَبْشِرْ فَوَاَللّهِ لَا يُخْزِيكَ اللّهُ أَبَدًا ثُمّ اسْتَدَلّتْ بِمَا فِيهِ مِنْ الصّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ عَلَى أَنّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُخْزَى أَبَدًا فَعَلِمَتْ بِكَمَالِ عَقْلِهَا وَفِطْرَتِهَا أَنّ الْأَعْمَالَ الصّالِحَةَ وَالْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ وَالشّيَمَ الشّرِيفَةَ تُنَاسِبُ أَشْكَالَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَلَا تُنَاسِبُ الْخِزْيَ وَالْخِذْلَانَ وَإِنّمَا يُنَاسِبُهُ أَضْدَادُهَا فَمَنْ رَكّبَهُ اللّهُ عَلَى أَحْسَنِ الصّفَاتِ وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ إنّمَا يَلِيقُ بِهِ كَرَامَتُهُ وَإِتْمَامُ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَمَنْ رَكّبَهُ عَلَى أَقْبَحِ الصّفَاتِ وَأَسْوَإِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ إنّمَا يَلِيقُ بِهِ مَا يُنَاسِبُهَا وَبِهَذَا الْعَقْلِ وَالصّدّيقِيّة اسْتَحَقّتْ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا رَبّهَا بِالسّلَامِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فصل [ من السابقين إلى الإسلام علي وزيد ]وَبَادَرَ إلَى الْإِسْلَامِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ [ ص 18 ] وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ فِي كَفَالَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَهُ مِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ إعَانَةً لَهُ فِي سَنَةِ مَحْلٍ . وَبَادَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ غُلَامًا لِخَدِيجَةَ فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا تَزَوّجَهَا وَقَدِمَ أَبُوهُ وَعَمّهُ فِي فِدَائِهِ فَسَأَلَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقِيلَ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَقَالَا : يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَا ابْنَ هَاشِمٍ يَا ابْنَ سَيّدِ قَوْمِهِ أَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللّه وَجِيرَانِهِ تَفُكّونَ الْعَانِيَ وَتُطْعِمُونَ الْأَسِيرَ جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا عِنْدَك فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَأَحْسِنْ إلَيْنَا فِي فِدَائِهِ قَالَ وَمَنْ هُوَ ؟ " قَالُوا : زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَهَلّا غَيْرَ ذَلِكَ " قَالُوا : مَا هُوَ ؟ قَالَ " أَدْعُوهُ فَأُخَيّرُهُ فَإِنْ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَوَاَللّهِ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ اخْتَارَنِي أَحَدًا " قَالَا : قَدْ رَدَدْتَنَا عَلَى النّصَفِ وَأَحْسَنْت فَدَعَاهُ فَقَالَ " هَلْ تَعْرِفُ هَؤُلَاءِ ؟ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ هَذَا أَبِي وَهَذَا عَمّي قَالَ " فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَرَأَيْت وَعَرَفْتَ صُحْبَتِي لَك فَاخْتَرْنِي أَوْ اخْتَرْهُمَا " قَالَ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَيْك أَحَدًا أَبَدًا أَنْتَ مِنّي مَكَانُ الْأَبِ وَالْعَمّ فَقَالَا : وَيْحُكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ عَلَى الْحُرّيّةِ وَعَلَى أَبِيك وَعَمّك وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك ؟ قَالَ نَعَمْ قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا أَبَدًا فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إلَى الْحِجْرِ فَقَالَ " أُشْهِدُكُمْ أَنّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ " فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ وَعَمّهُ طَابَتْ نَفُوسُهُمَا فَانْصَرَفَا وَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمّدٍ حَتّى جَاءَ اللّهُ بِالْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [ الْأَحْزَابُ 5 ] [ ص 19 ] زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ . قَالَ مَعْمَرٍ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ الزّهْرِيّ : مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَهُوَ الّذِي أَخْبَرَ اللّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ أَنّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ وَسَمّاهُ بِاسْمِهِ .
[ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ]
وَأَسْلَمَ الْقَسّ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَل ٍ وَتَمَنّى أَنْ يَكُونَ جَذَعًا إذْ يُخْرِجُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمُهُ وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ رَآهُ فِي ثِيَابِ بَيَاضٍ . وَدَخَلَ النّاسُ فِي الدّينِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُ ذَلِكَ حَتّى بَادَأَهُمْ بِعَيْبِ دِينِهِمْ وَسَبّ آلِهَتَهُمْ وَأَنّهَا لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَعُ فَحِينَئِذٍ شَمّرُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ فَحَمَى اللّهُ رَسُولَهُ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ لِأَنّهُ كَانَ شَرِيفًا مُعَظّمًا فِي قُرَيْشٍ مُطَاعًا فِي أَهْلِهِ وَأَهْلُ مَكّةَ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذَى . وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الّتِي تَبْدُو لِمَنْ تَأَمّلَهَا . [ ص 20 ] وَأَمّا أَصْحَابُهُ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ امْتَنَعَ بِعَشِيرَتِهِ وَسَائِرُهُمْ تَصَدّوْا لَهُ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ مِنْهُمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَأُمّهُ سُمَيّةُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ عُذّبُوا فِي اللّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَرّ بِهِمْ وَهُمْ يُعَذّبُونَ يَقُولُ صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنّةُ وَمِنْهُمْ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ فَإِنّهُ عُذّبَ فِي اللّهِ أَشَدّ الْعَذَابِ فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللّهِ وَكَانَ كُلّمَا اشْتَدّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فَيَمُرّ بِهِ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ . فَيَقُولُ إي وَاَللّهِ يَا بِلَالُ أَحَدٌ أَحَدٌ أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتّخِذَنّهُ حَنَانًا .

فَصْلٌ
وَلَمّا اشْتَدّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَفُتِنَ مِنْهُمْ مَنْ فُتِنَ حَتّى يَقُولُوا لِأَحَدِهِمْ اللّاتُ وَالْعُزّى إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ وَحَتّى إنّ الْجُعَلَ لَيَمُرّ بِهِمْ فَيَقُولُونَ وَهَذَا إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ نَعَمْ وَمَرّ عَدُوّ اللّهِ أَبُو جَهْلٍ بِسُمَيّةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهِيَ تُعَذّبُ وَزَوْجُهَا وَابْنُهَا فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي فَرْجِهَا حَتّى قَتَلَهَا . [ ص 21 ]
[ شِرَاءُ الصّدّيقِ لِلْعَبِيدِ الْمُعَذّبِينَ ]
كَان الصّدّيقُ إذَا مَرّ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَبِيدِ يُعَذّبُ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ وَأَعْتَقَهُ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَأُمّ عُبَيْسٍ وزنيرة وَالنّهْدِيّة وَابْنَتُهَا وَجَارِيَةٌ لِبَنِي عَدِي ّ كَانَ عُمَرُ يُعَذّبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا بُنَيّ أَرَاك تَعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا فَلَوْ أَنّك إذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ قَوْمًا جِلْدًا يَمْنَعُونَك فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إنّي أُرِيدُ مَا أُرِيدُ
[ الْهِجْرَةُ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ ]
[ هَلْ قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَكّةَ مِنْ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ ]
فَلَمّا اشْتَدّ الْبَلَاءُ أَذِنَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَهْلُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ عُثْمَانُ وَامْرَأَتُه وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَأَبُو سَلَمَةَ وَامْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْت أَبِي أُمّيّةَ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو وَسُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . وَخَرَجُوا مُتَسَلّلِينَ سِرّا فَوَفّقَ اللّهُ لَهُمْ سَاعَةَ وُصُولِهِمْ إلَى السّاحِلِ سَفِينَتَيْنِ لِلتّجّارِ فَحَمَلُوهُمْ فِيهِمَا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ مَخْرَجُهُمْ فِي رَجَبٍ فِي السّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ الْمَبْعَثِ وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمْ حَتّى جَاءُوا الْبَحْرَ فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمّ بَلَغَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ كَفّوا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعُوا فَلَمّا كَانُوا دُونَ مَكّةَ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ بَلَغَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا أَشَدّ مَا كَانُوا عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ مَنْ دَخَلَ بِجِوَارٍ وَفِي تِلْكَ الْمَرّةِ دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَسَلّمَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي الصّلَاةِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتّى قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ : إنّ اللّهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلّمُوا فِي الصّلَاةِ هَذَا هُوَ الصّوَابُ وَزَعَمَ ابْنُ سَعْدٍ وَجَمَاعَةٌ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَدْخُلْ وَأَنّهُ رَجَعَ إلَى الْحَبَشَةِ [ ص 22 ] الثّانِيَةِ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ مَنْ قَدِمَ وَرَدّ هَذَا بِأَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا وَأَجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ إنّمَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ . قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ بَلْ هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ يُوَافِقُ قَوْلَ زَيْدِ بْن أَرْقَمَ : كُنّا نَتَكَلّمُ فِي الصّلَاةِ يُكَلّمُ الرّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصّلَاةِ حَتّى نَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } [ الْبَقَرَةُ 238 ] فَأُمِرْنَا بِالسّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالسّورَةُ مَدَنِيّةٌ وَحِينَئِذٍ فَابْنُ مَسْعُودٍ سَلّمَ عَلَيْهِ لَمّا قَدِمَ وَهُوَ فِي الصّلَاةِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ حَتّى سَلّمَ وَأَعْلَمَهُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَاتّفَقَ حَدِيثُهُ وَحَدِيثُ ابْنِ أَرْقَمَ . قِيلَ يُبْطِلُ هَذَا شُهُودُ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدْرًا وَأَهْلُ الْهِجْرَةِ الثّانِيَةِ إنّمَا قَدِمُوا عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَر ٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِمّنْ قَدِمَ قَبْلَ بَدْرٍ لَكَانَ لِقُدُومِهِ ذِكْرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ قُدُومَ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ إلّا فِي الْقَدْمَةِ الْأَوْلَى بِمَكّةَ وَالثّانِيَةُ عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَرٍ فَمَتَى قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْمَرّتَيْنِ وَمَعَ مَنْ ؟ وَبِنَحْوِ [ ص 23 ] قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ خَرَجُوا إلَى الْحَبَشَةِ إسْلَامُ أَهْلِ مَكّةَ فَأَقْبَلُوا لَمّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ بَلَغَهُمْ أَنّ إسْلَامَ أَهْلِ مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا . فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ؟ قِيلَ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ النّهْيُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَكّةَ ثُمّ أُذِنَ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ ثُمّ نُهِيَ عَنْهُ . وَالثّانِي : أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَ مِنْ صِغَارِ الصّحَابَةِ وَكَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ يَتَكَلّمُونَ فِي الصّلَاةِ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ النّهْيُ فَلَمّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا وَزَيْدٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كُلّهِمْ بِأَنّهُمْ كَانُوا يَتَكَلّمُونَ فِي الصّلَاةِ إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ قُدّرَ أَنّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَكَانَ وَهْمًا مِنْهُ .
[ الْهِجْرَةُ الثّانِيَةُ إلَى الْحَبَشَةِ ]
ثُمّ اشْتَدّ الْبَلَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ قَدِمَ مِنْ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَطَتْ بِهِمْ عَشَائِرُهُمْ وَلَقُوا مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدًا فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَرّةً ثَانِيَةً وَكَانَ خُرُوجُهُمْ الثّانِي أَشَقّ عَلَيْهِمْ وَأَصْعَبَ وَلَقُوا مِنْ قُرَيْشٍ تَعْنِيفًا شَدِيدًا وَنَالُوهُمْ بِالْأَذَى وَصَعُبَ عَلَيْهِمْ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ النّجَاشِيّ مِنْ حُسْنِ جِوَارِهِ لَهُمْ وَكَانَ عِدّةُ مَنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الْمَرّةِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا إنْ كَانَ فِيهِمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَإِنّهُ يُشَكّ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَمِنْ النّسَاءِ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً . قُلْتُ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ الثّانِيَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَجَمَاعَةٌ مِمّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَإِمّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَهْمًا وَإِمّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَدْمَةٌ أُخْرَى قَبْلَ بَدْرٍ فَيَكُونُ لَهُمْ ثَلَاثُ قَدَمَاتٍ قَدْمَةٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَدْمَةٌ قَبْلَ بَدْرٍ وَقَدْمَةٌ عَامَ خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ إنّهُمْ لَمّا سَمِعُوا مُهَاجَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَمِنْ النّسَاءِ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكّةَ وَحُبِسَ بِمَكّةَ سَبْعَةٌ وَشَهِدَ بَدْرًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا . [ ص 24 ] كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَة كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا إلَى النّجَاشِيّ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَسْلَمَ وَقَالَ لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَهُ لَآتِيَنّهُ . وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُزَوّجَهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ فِيمَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ فَتَنَصّرَ هُنَاكَ وَمَاتَ فَزَوّجَهُ النّجَاشِيّ إيّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانَ الّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . وَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمِلُهُمْ فَفَعَلَ وَحَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتَيْنِ مَعَ عَمْرو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرَ فَوَجَدُوهُ قَدْ فَتَحَهَا فَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ فَفَعَلُوا . [ ص 25 ] ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَيَكُونُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدِمَ فِي الْمَرّةِ الْوُسْطَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ وَكَانَ الْعَهْدُ حَدِيثًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكّةَ وَهَذَا أَنْسَبُ بِالنّسْخِ الّذِي وَقَعَ فِي الصّلَاةِ وَالتّغْيِيرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَجَعْلِهَا أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ وَوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ مَا أَحْسَنَهُ مِنْ جَمْعٍ وَأَثْبَتَهُ لَوْلَا أَنّ مُحَمّدَ بْنَ إسْحَاقَ قَدْ قَالَ مَا حَكَيْتُمْ عَنْهُ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ بِمَكّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ الْحَبَشَةِ حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَهَذَا يَدْفَعُ مَا ذُكِرَ . قِيلَ إنْ كَانَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ قَدْ قَالَ هَذَا فَقَدْ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي " طَبَقَاتِهِ " : إنّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَكَثَ يَسِيرًا بَعْدَ مَقْدَمِهِ ثُمّ رَجَعَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكّةَ مَنْ يَحْمِيهِ وَمَا حَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ قَدْ تَضَمّنَ زِيَادَةَ أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنُ إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدّثَهُ وَمُحَمّدُ بْنُ سَعْدٍ أَسْنَدَ مَا حَكَاهُ إلَى الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَنْطَبٍ فَاتّفَقَتْ الْأَحَادِيثُ وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَزَالَ عَنْهَا الْإِشْكَالُ و لِلّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنّةُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْس ٍ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَهْلُ السّيَرِ مِنْهُمْ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : كَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ أَوْ عَلَى مَنْ دُونَهُ ؟ قُلْتُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمّا يَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَضْلًا عَنْهُ وَإِنّمَا نَشَأَ الْوَهْمُ أَنّ أَبَا مُوسَى هَاجَرَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إلَى عِنْدِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ لَمّا سَمِعَ بِهِمْ ثُمّ قَدِمَ مَعَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرَ كَمَا جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ فِي " الصّحِيحِ " فَعَدّ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ لِأَبِي مُوسَى هِجْرَةً وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ هَاجَرَ مِنْ مَكّةَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ [ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ رَدّ النّجَاشِيّ الْمُهَاجِرِينَ ]
[ ص 26 ] الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَمْلَكَةِ أَصْحَمَةَ النّجَاشِيّ آمِنِينَ فَلَمّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ بَعَثَتْ فِي أَثَرِهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ مِنْ بَلَدِهِمْ إلَى النّجَاشِيّ لِيَرُدّهُمْ عَلَيْهِمْ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَشَفَعُوا إلَيْهِ بِعُظَمَاءِ بِطَارِقَتِهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إلَى مَا طَلَبُوا فَوَشَوْا إلَيْهِ إنّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا يَقُولُونَ إنّهُ عَبْدُ اللّهِ فَاسْتَدْعَى الْمُهَاجِرِينَ إلَى مَجْلِسِهِ وَمُقَدّمُهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَلَمّا أَرَادُوا الدّخُولَ عَلَيْهِ قَالَ جَعْفَرٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْك حِزْبَ اللّهِ فَقَالَ لِلْآذِنِ قُلْ لَهُ يُعِيدُ اسْتِئْذَانَهُ فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ؟ فَتَلَا عَلَيْهِ جَعْفَرٌ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ " كهيعص " فَأَخَذَ النّجَاشِيّ عُودًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ مَا زَادَ عِيسَى عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا الْعُودُ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ عِنْدَهُ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي مَنْ سَبّكُمْ غُرّم وَالسّيُومُ الْآمِنُونَ فِي لِسَانِهِمْ ثُمّ قَالَ لِلرّسُولَيْنِ لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ يَقُولُ جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ مَا أَسْلَمْتهمْ إلَيْكُمَا ثُمّ أَمَرَ فَرُدّتْ عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا وَرَجَعَا مَقْبُوحِينَ .
فَصْلٌ [ مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ ]
ثُمّ أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَمّهُ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ وَفَشَا الْإِسْلَامُ فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَ [ ص 27 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْلُو وَالْأُمُورُ تَتَزَايَدُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُكَلّمُوهُمْ وَلَا يُجَالِسُوهُمْ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ كَتَبَهَا مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالصّحِيحُ أَنّهُ بَغِيضُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشُلّتْ يَدُهُ فَانْحَازَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إلّا أَبَا لَهَبٍ فَإِنّهُ ظَاهَرَ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَحُبِسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الشّعْبِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ لَيْلَةَ هِلَالِ الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْبَعْثَةِ وَعُلّقَتْ الصّحِيفَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَبَقُوا مَحْبُوسِينَ وَمَحْصُورِينَ مُضَيّقًا عَلَيْهِمْ جِدّا مَقْطُوعًا عَنْهُمْ الْمِيرَةُ وَالْمَادّةُ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَتّى بَلَغَهُمْ الْجَهْدُ وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشّعْبِ وَهُنَاكَ عَمِلَ أَبُو طَالِب ٍ قَصِيدَتَهُ اللّامِيّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوّلُهَا : جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ
[ نَقْضُ الصّحِيفَةِ ]
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَاضٍ وَكَارِهٍ فَسَعَى فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَنْ كَانَ كَارِهًا لَهَا وَكَانَ الْقَائِمُ بِذَلِكَ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ مَشَى فِي ذَلِكَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَجَابُوهُ إلَى ذَلِكَ ثُمّ أَطْلَعَ اللّهُ رَسُولَهُ عَلَى أَمْرِ صَحِيفَتِهِمْ وَأَنّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْأَرَضَةَ فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إلّا ذِكْرَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَمّهُ فَخَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّ ابْنَ أَخِيهِ قَدْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا خَلّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا رَجَعْتُمْ عَنْ قَطِيعَتِنَا وَظُلِمْنَا قَالُوا : قَدْ أَنْصَفْت فَأَنْزَلُوا الصّحِيفَةَ فَلَمّا رَأَوْا الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ازْدَادُوا كُفْرًا إلَى كُفْرِهِمْ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الشّعْبِ . [ ص 28 ] قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : بَعْدَ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ مِنْ الْمَبْعَثِ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .

فَصْل ٌ[ الْخُرُوجُ إلَى الطّائِفِ ]
فَلَمّا نُقِضَتْ الصّحِيفَةُ وَافَقَ مَوْتَ أَبِي طَالِبٍ وَمَوْتَ خَدِيجَةَ وَبَيْنَهُمَا يَسِيرٌ فَاشْتَدّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ وَتَجَرّءُوا عَلَيْهِ فَكَاشَفُوهُ بِالْأَذَى فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الطّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمِهِ وَيَمْنَعُوهُ مِنْهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ نَاصِرًا وَآذَوْهُ مَعَ ذَلِكَ أَشَدّ الْأَذَى وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَنَلْهُ قَوْمُهُ وَكَانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إلّا جَاءَهُ وَكَلّمَهُ فَقَالُوا : اُخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ فِي رَأْسِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا مِنْ الطّائِفِ إلَى مَكّةَ مَحْزُونًا وَفِي مَرْجِعِهِ ذَلِكَ دَعَا بِالدّعَاءِ الْمَشْهُورِ دُعَاءِ الطّائِفِ : اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي إلَى مَنْ تَكِلُنِي إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَوْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلّ عَلَيّ غَضَبُك أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ . فَأَرْسَلَ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ وَهُمَا جَبَلَاهَا اللّذَانِ هِيَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلّ اللّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [ ص 29 ]
[ اسْتِمَاعُ الْجِنّ لِقِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم ]
فَلَمّا نَزَلَ بِنَخْلَةَ مَرْجِعَهُ قَامَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ فَاسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [ الْأَحْقَافُ 29 - 32 ] . [ ص 30 ] وَأَقَامَ بِنَخْلَةَ أَيّامًا فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ : كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك ؟ يَعْنِي قُرَيْشًا فَقَالَ يَا زَيْدُ إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ
[ دُخُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ بِجِوَارِ الْمُطْعِمِ ]
ثُمّ انْتَهَى إلَى مَكّةَ فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ أَدَخَلَ فِي جِوَارِكَ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ الْبِسُوا السّلَاحَ وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحِرَامِ فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَلَا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ .
فَصْل ٌ[ الْإِسْرَاءُ ]
ثُمّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَسَدِهِ عَلَى الصّحِيحِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا عَلَى الْبُرَاقِ صُحْبَة جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصّلَاةُ وَالسّلَامُ فَنَزَلَ [ ص 31 ] وَصَلّى بِالْأَنْبِيَاءِ إمَامًا وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْمَسْجِدِ . وَقَدْ قِيلَ إنّهُ نَزَلَ بِبَيْتِ لَحْمٍ وَصَلّى فِيهِ وَلَمْ يَصِحّ ذَلِكَ عَنْهُ الْبَتّةَ .
[الْمِعْرَاجُ ]
ثُمّ عُرِجَ بِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ لَهُ جِبْرِيلُ فَفُتِحَ لَهُ فَرَأَى هُنَالِكَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَرَدّ عَلَيْهِ السّلَامَ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ وَأَرَاهُ اللّهُ أَرْوَاحَ السّعَدَاءِ عَنْ يَمِينِهِ وَأَرْوَاحَ الْأَشْقِيَاءِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ لَهُ فَرَأَى فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَلَقِيَهُمَا وَسَلّمَ عَلَيْهِمَا فَرَدّا عَلَيْهِ وَرَحّبَا بِهِ وَأَقَرّا بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ فَرَأَى فِيهَا يُوسُفَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَرَدّ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ فَرَأَى فِيهَا إدْرِيسَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَرَأَى فِيهَا هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ فَلَقِيَ فِيهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ فَلَمّا جَاوَزَهُ بَكَى مُوسَى فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ أَبْكِي لِأَنّ غُلَامًا بُعِثَ مِنْ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِهِ أَكْثَرُ مِمّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمّتِي ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَلَقِيَ فِيهَا إبْرَاهِيمَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ رُفِعَ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمّ رُفِعَ لَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى الْجَبّارِ جَلّ جَلَالُهُ فَدَنَا مِنْهُ حَتّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا [ ص 32 ] مَرّ عَلَى مُوسَى فَقَالَ لَهُ بِمَ أُمِرْتَ ؟ قَالَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ إنّ أُمّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ارْجِعْ إلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ لِأُمّتِك فَالْتَفَتَ إلَى جِبْرِيلَ كَأَنّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إنْ شِئْت فَعَلَا بِهِ جِبْرِيلُ حَتّى أَتَى بِهِ الْجَبّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ فِي مَكَانِهِ . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيّ فِي بَعْضِ الطّرُقِ فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا ثُمّ أَنْزَلَ حَتَى مَرّ بِمُوسَى فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ إلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ حَتَى جَعَلَهَا خَمْسًا فَأَمَرَهُ مُوسَى بِالرّجُوعِ وَسُؤَالِ التّخْفِيفِ فَقَالَ قَدْ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبّي وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلّمُ فَلَمّا بَعُدَ نَادَى مُنَادٍ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفّفْتُ عَنْ عِبَادِي .

[ هَلْ رَأَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ]
[ ص 33 ] رَأَى رَبّهُ تِلْكَ اللّيْلَةَ أَمْ لَا ؟ فَصَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَأَى رَبّهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَصَحّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُ ذَلِكَ وَقَالَا : إنّ قَوْلَهُ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } [ النّجْمُ 13 ] إنّمَا هُوَ جِبْرِيلُ . وَصَحّ عَنْ أَبِي ذَرّ أَنّهُ سَأَلَهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبّك ؟ فَقَالَ نُورٌ أَنّى أَرَاهُ أَيْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ النّورُ كَمَا قَالَ فِي لَفْظٍ آخَرَ رَأَيْتُ نُورًا وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيّ اتّفَاقَ الصّحَابَةِ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَرَهُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ وَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : " إنّهُ رَآهُ " مُنَاقِضًا لِهَذَا وَلَا قَوْلُهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَقَدْ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ " رَأَيْتُ رَبّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى " وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْإِسْرَاءِ وَلَكِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ لَمّا اُحْتُبِسَ عَنْهُمْ فِي صَلَاةِ الصّبْحِ ثُمّ أَخْبَرَهُمْ [ ص 34 ] رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي مَنَامِهِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَقَالَ نَعَمْ رَآهُ حَقّا فَإِنّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقّ وَلَا بُدّ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى : إنّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ يَقَظَةً وَمَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ قَالَ مَرّةً رَآهُ وَمَرّةً قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ فَحُكِيَتْ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَحُكِيَتْ عَنْهُ الثّالِثَةُ مِنْ تَصَرّفِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهَذِهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ . وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ النّجْمُ 11 ] ثُمّ قَالَ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [ النّجْمُ 13 ] وَالظّاهِرُ أَنّهُ مُسْتَنَدُهُ فَقَدْ صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذَا الْمَرْئِيّ جِبْرِيلُ رَآهُ مَرّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ الّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النّجْمِ { ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى } [ النّجْمُ 8 ] فَهُوَ غَيْرُ الدّنُوّ وَالتّدَلّي فِي قِصّةِ الْإِسْرَاءِ فَإِنّ الّذِي فِي ( سُورَةِ النّجْمِ هُوَ دُنُوّ جِبْرِيلَ وَتَدَلّيهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالسّيَاقُ يَدُلّ عَلَيْهِ فَإِنّهُ قَالَ { عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ النّجْمُ 5 ] وَهُوَ جِبْرِيل { ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى } [ النّجْمُ 6 - 8 ] فَالضّمَائِرُ كُلّهَا رَاجِعَةٌ إلَى هَذَا الْمُعَلّمِ الشّدِيدِ الْقُوَى وَهُوَ ذُو الْمِرّةِ أَيْ الْقُوّةُ وَهُوَ الّذِي اسْتَوَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ الّذِي دَنَى فَتَدَلّى فَكَانَ مِنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْرَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي الّذِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ دُنُوّ الرّبّ تَبَارَكَ وَتَدَلّيهِ وَلَا تَعَرّضَ فِي ( سُورَةِ النّجْمِ لِذَلِكَ بَلْ فِيهَا أَنّهُ رَآهُ نَزْلَةً [ ص 35 ] سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا هُوَ جِبْرِيلُ رَآهُ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى صُورَتِهِ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ بِالْإِسْرَاءِ ]
فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَوْمِهِ أَخْبَرَهُمْ بِمَا أَرَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى فَاشْتَدّ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ وَأَذَاهُمْ وَضَرَاوَتُهُمْ عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجَلّاهُ اللّهُ لَهُ حَتّى عَايَنَهُ فَطَفِقَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِ شَيْئًا . وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ عِيرِهِمْ فِي مَسْرَاهُ وَرُجُوعِهِ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ وَقْتِ قُدُومِهَا وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ الْبَعِيرِ الّذِي يَقْدُمُهَا وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إلّا نُفُورًا وَأَبَى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا . [ ص 36 ]

فِصَلٌ [ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالرّوحِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا ]
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهُمَا قَالَا : إنّمَا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ وَنُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ وَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ لَمْ يَقُولَا : كَانَ مَنَامًا وَإِنّمَا قَالَا : أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنّ مَا يَرَاهُ النّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ فَيَرَى كَأَنّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ أَوْ ذُهِبَ بِهِ إلَى مَكّةَ وَأَقْطَارِ الْأَرْضِ وَرُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ وَلَمْ تَذْهَبْ وَإِنّمَا مَلَكُ الرّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ وَاَلّذِينَ قَالُوا : عُرِجَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ قَالَتْ عُرِجَ بِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ وَطَائِفَةٌ قَالَتْ عُرِجَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ بَدَنَهُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُرِيدُوا أَنّ الْمِعْرَاجَ كَانَ مَنَامًا وَإِنّمَا أَرَادُوا أَنّ الرّوحَ ذَاتَهَا أُسْرِيَ بِهَا وَعُرِجَ بِهَا حَقِيقَةً وَبَاشَرَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تُبَاشِرُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَكَانَ حَالُهَا فِي ذَلِكَ كَحَالِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فِي صُعُودِهَا إلَى السّمَاوَاتِ سَمَاءً سَمَاءً حَتّى يُنْتَهَى بِهَا إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَتَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَيَأْمُرُ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ ثُمّ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ وَاَلّذِي كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَكْمَلُ مِمّا يَحْصُلُ لِلرّوحِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا أَمْرٌ فَوْقَ مَا يَرَاهُ النّائِمُ لَكِنْ لَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَقَامِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ حَتّى شُقّ بَطْنُهُ وَهُوَ حَيّ لَا يَتَأَلّمُ بِذَلِكَ عُرِجَ بِذَاتِ رُوحِهِ الْمُقَدّسَةِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ إمَاتَةٍ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَنَالُ بِذَاتِ رُوحِهِ الصّعُودَ إلَى السّمَاءِ إلّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمُفَارَقَةِ فَالْأَنْبِيَاءُ إنّمَا اسْتَقَرّتْ أَرْوَاحُهُمْ هُنَاكَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبَدَانِ وَرَوْحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ [ ص 37 ] حَالِ الْحَيَاةِ ثُمّ عَادَتْ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ اسْتَقَرّتْ فِي الرّفِيقِ الْأَعْلَى مَعَ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ - وَمَعَ هَذَا فَلَهَا إشْرَافٌ عَلَى الْبَدَنِ وَإِشْرَاقٌ وَتَعَلّقٌ بِهِ بِحَيْثُ يَرُدّ السّلَامَ عَلَى مَنْ سَلّمَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا التّعَلّقِ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسَى مِنْ قَبْرِهِ ثُمّ رُدّ إلَيْهِ وَإِنّمَا ذَلِكَ مَقَامُ رُوحِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا وَقَبْرُهُ مَقَامُ بَدَنِهِ وَاسْتِقْرَارُهُ إلَى يَوْمِ مَعَادِ الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا فَرَآهُ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَرْفَعِ مَكَانٍ فِي الرّفِيقِ الْأَعْلَى مُسْتَقَرّا هُنَاكَ وَبَدَنُهُ فِي ضَرِيحِهِ غَيْرُ مَفْقُودٍ وَإِذَا سَلّمَ عَلَيْهِ الْمُسَلّمُ رَدّ اللّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتّى يَرُدّ عَلَيْهِ السّلَامَ وَلَمْ يُفَارِقْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَمَنْ كَثُفَ إدْرَاكُهُ وَغَلُظَتْ طِبَاعُهُ عَنْ إدْرَاكِ هَذَا فَلْيُنْظَرْ إلَى الشّمْسِ فِي عُلُوّ مَحِلّهَا وَتَعَلّقِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ وَحَيَاةِ النّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِهَا هَذَا وَشَأْنُ الرّوحِ فَوْقَ هَذَا فَلَهَا شَأْنٌ وَلِلْأَبْدَانِ شَأْنٌ وَهَذِهِ النّارُ تَكُونُ فِي مَحِلّهَا وَحَرَارَتُهَا تُؤَثّرُ فِي الْجِسْمِ الْبَعِيدِ عَنْهَا مَعَ أَنّ الِارْتِبَاطَ وَالتّعَلّقَ الّذِي بَيْنَ الرّوحِ وَالْبَدَنِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَتَمّ فَشَأْنُ الرّوحِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَلْطَفُ .
فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرّمْدِ إيّاكِ أَنْ تَرِي ... سَنَا الشّمْسِ فَاسْتَغْشِي ظَلَامَ اللّيَالِيَا
فَصْلٌ [ الصّحِيحُ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّةً ]
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزّهْرِيّ : عُرِجَ بِرُوحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السّمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ وَغَيْرُهُ كَانَ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْهِجْرَةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ انْتَهَى . وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّةً وَاحِدَةً . وَقِيلَ مَرّتَيْنِ مَرّةً يَقَظَةً وَمَرّةً مَنَامًا وَأَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ حَدِيثِ شَرِيكٍ [ ص 38 ] سَائِرِ الرّوَايَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ كَانَ هَذَا مَرّتَيْنِ مَرّةً قَبْلَ الْوَحْيِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ " وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ " وَمَرّةً بَعْدَ الْوَحْي كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ ثَلَاثُ مَرّاتٍ مَرّةً قَبْلَ الْوَحْيِ وَمَرّتَيْنِ بَعْدَهُ وَكُلّ هَذَا خَبْطٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ضُعَفَاءِ الظّاهِرِيّةِ مِنْ أَرْبَابِ النّقْلِ الّذِينَ إذَا رَأَوْا فِي الْقِصّةِ لَفْظَةً تُخَالِفُ سِيَاقَ بَعْضِ الرّوَايَاتِ جَعَلُوهُ مَرّةً أُخْرَى فَكُلّمَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمْ الرّوَايَاتُ عَدّدُوا الْوَقَائِعَ وَالصّوَابُ الّذِي عَلَيْهِ أَئِمّةُ النّقْلِ أَنّ الْإِسْرَاءِ كَانَ مَرّةً وَاحِدَةً بِمَكّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ . وَيَا عَجَبًا لِهَؤُلَاءِ الّذِينَ زَعَمُوا أَنّهُ مِرَارًا كَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَظُنّوا أَنّهُ فِي كُلّ مَرّةٍ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الصّلَاةُ خَمْسِينَ ثُمّ يَتَرَدّدُ بَيْنَ رَبّهِ وَبَيْنَ مُوسَى حَتّى تَصِيرَ خَمْسًا ثُمّ يَقُولُ " أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفّفْتُ عَنْ عِبَادِي " ثُمّ يُعِيدُهَا فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ إلَى خَمْسِينَ ثُمّ يَحُطّهَا عَشْرًا عَشْرًا وَقَدْ غَلّطَ الْحُفّاظُ شَرِيكًا فِي أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ ثُمّ قَالَ فَقَدّمَ وَأَخّرَ وَزَادَ وَنَقّصَ وَلَمْ يَسْرُدْ الْحَدِيثَ فَأَجَادَ رَحِمَهُ اللّهُ .

فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الّتِي فَرّقَ اللّهُ فِيهَا بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ
وَجَعَلَهَا مَبْدَأً لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَنَصْرِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
[ دَعْوَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَبَائِلَ ]
[ ص 39 ] قَالَ الْوَاقِدِيّ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِح ٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَاز ِ يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا قَالَ وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة وَفَزَارَةُ وَغَسّانُ وَمُرّةُ وَحَنِيفَةُ وَسُلَيْمٌ وَعَبْسُ وَبَنُو النّضْر ِ وَبَنُو الْبَكّاءِ وَكِنْدَةُ وَكَلْبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَعُذْرَةُ وَالْحَضَارِمَةُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ
فَصْلٌ [ لُقْيَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ]
وَكَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ لِرَسُولِهِ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَنّ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَبْعُوثٌ [ ص 40 ] عَادٍ وَإِرَمٍ وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَحُجّونَ الْبَيْتَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّهُ دُونَ الْيَهُودِ فَلَمّا رَأَى الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو النّاسَ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَأَمّلُوا أَحْوَالَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعْلَمُونَ وَاَللّهِ يَا قَوْمِ أَنّ هَذَا الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا يَسْبِقُنّكُمْ إلَيْهِ . وَكَانَ سُوِيدُ بْنُ الصّامِتِ مِنْ الْأَوْسِ قَدْ قَدِمَ مَكّةَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يُبْعِدْ وَلَمْ يُجِبْ حَتّى قَدِمَ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ أَبُو الحيسر فِي فِتْيَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَطْلُبُونَ الْحِلْفَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ شَابّا حَدَثًا : يَا قَوْمِ هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِمّا جِئْنَا لَهُ فَضَرَبَهُ أَبُو الحيسر وَانْتَهَرَهُ فَسَكَتَ ثُمّ لَمْ يَتِمّ لَهُمْ الْحِلْفَ فَانْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ
[ فَصْلٌ لَقِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّةَ نَفَرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ ]
ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي الْمَوْسِمِ سِتّةَ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كُلّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِر ٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا
[ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى ]
ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَفَشَا الْإِسْلَامُ فِيهَا حَتَى لَمْ يَبْقَ دَارٌ إلّا وَقَدْ دَخَلَهَا الْإِسْلَامُ فَلَمّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ جَاءَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا السّتّةُ الْأُوَلُ خَلَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَمَعَهُمْ مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ أَخُو عَوْفٍ الْمُتَقَدّمِ وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَقَدْ أَقَامَ ذَكْوَانُ بِمَكّةَ حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَيُقَالُ إنّهُ مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ وَعُبَادَة بْنُ الصّامِتِ وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيْهَانِ [ ص 41 ] وَعُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ هُمْ اثْنَا عَشَرَ . وَقَالَ أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا : حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ فَقَالَ لَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ يَا ابْنَ أَخِي مَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ جَاءُوك إنّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمّا نَظَرَ الْعَبّاسُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ " تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا [ ص 42 ] فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنّةَ ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ يُعَلّمَانِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ وَيَدْعُوَانِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَنَزَلَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَة َ وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَؤُمّهُمْ وَجَمَعَ بِهِمْ لَمّا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أُسَيْد بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِمَا يَوْمئِذٍ جَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ الرّجَالُ وَالنّسَاءُ إلّا أُصَيْرِم عَمْرَو بْنَ ثَابِتِ بْنِ وَقْش ٍ فَإِنّهُ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ إلَى يَوْمِ أُحُدٍ وَأَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَقَاتَلَ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لِلّهِ سَجْدَةً فَأُخْبِرَ عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا
[ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةُ ]
[ ص 43 ] بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرَ ثُمّ رَجَعَ مُصْعَبُ إلَى مَكّةَ وَوَافَى الْمَوْسِمَ ذَلِكَ الْعَامَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَزَعِيمُ الْقَوْمِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَلَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْعَقَبَةِ الثّلُثُ الْأَوّلُ مِنْ اللّيْلِ تَسَلّلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خِفْيَةً مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنْ كُفّارِ مَكّةَ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَأُزُرَهُمْ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتئِذٍ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ إذْ أَكّدَ الْعِقْدَ وَبَادَرَ إلَيْهِ وَحَضَرَ الْعَبّاسُ عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُؤَكّدًا لِبَيْعَتِهِ كَمَا تَقَدّمَ وَكَانَ إذْ ذَاكَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَاخْتَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَة وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِر ٍ وَكَانَ إسْلَامُهُ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو وَعُبَادَة بْنُ الصّامِتِ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ : أُسَيْد بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ . وَقِيلَ بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيْهَانِ مَكَانَهُ . وَأَمّا الْمَرْأَتَانِ فَأُمّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهِيَ الّتِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةُ ابْنَهَا حَبِيبَ بْنَ زَيْدٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ . فَلَمّا تَمّتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَمِيلُوا عَلَى أَهْلِ الْعَقَبَةِ بِأَسْيَافِهِمْ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَصَرَخَ الشّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سُمِعَ يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكَمَ فِي مُذَمّمٍ وَالصّبَاةُ مَعَهُ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ ؟ فَقَالَ [ ص 44 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا أَزَبّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ أَمَا وَاَللّهِ يَا عَدُوّ اللّهِ لَأَتَفَرّغَنّ لَكَ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْفَضّوا إلَى رِحَالِهِمْ فَلَمّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ غَدَتْ عَلَيْهِمْ جِلّةُ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافُهُمْ حَتّى دَخَلُوا شِعْبَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إنّهُ بَلَغَنَا أَنّكُمْ لَقِيتُمْ صَاحِبَنَا الْبَارِحَةَ وَوَاعَدْتُمُوهُ أَنْ تُبَايِعُوهُ عَلَى حَرْبِنَا وَاَيْمُ اللّهِ مَا حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضَ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يَنْشَبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ الْحَرْبُ مِنْكُمْ فَانْبَعَثَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاَللّهِ مَا كَانَ هَذَا وَمَا عَلِمْنَا وَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُول َ يَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ وَمَا كَانَ هَذَا وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَفْتَاتُوا عَلَيّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هَذَا حَتّى يُؤَامِرُونِي فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ مِنْ عِنْدَهُمْ وَرَحَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَتَقَدّمَ إلَى بَطْنِ يَأْجَج وَتَلَاحَقَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَطَلّبَتْهُمْ قُرَيْشٌ فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ رَحْلِهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَجُرّونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمّتِهِ حَتّى أَدْخَلُوهُ مَكّةَ فَجَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَالْحَارِثُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ فَخَلّصَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَتَشَاوَرَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ فَقَدُوهُ أَنْ يَكِرّوا إلَيْهِ فَإِذَا سَعْدٌ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ فَوَصَلَ الْقَوْمُ جَمِيعًا إلَى الْمَدِينَةِ .
[ بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ]
فَأَذِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَادَرَ النّاسُ إلَى ذَلِكَ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ وَلَكِنّهَا احْتَبَسَتْ دُونَهُ وَمُنِعَتْ مِنْ اللّحَاقِ بِهِ سَنَةً [ ص 45 ] وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا سَلَمَةَ ثُمّ خَرَجَتْ بَعْدَ السّنَةِ بِوَلَدِهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَشَيّعَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ . ثُمّ خَرَجَ النّاسُ أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيّ أَقَامَا بِأَمْرِهِ لَهُمَا وَإِلّا مَنْ احْتَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ كَرْهًا وَقَدْ أَعَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِهَازَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ وَأَعَدّ أَبُو بَكْرٍ جَهَازَهُ .

فَصْلٌ [ ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِه ِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَتْلِهِ ]
فَلَمّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَجَهّزُوا وَخَرَجُوا وَحَمَلُوا وَسَاقُوا الذّرَارِيّ وَالْأَطْفَالَ وَالْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَعَرَفُوا أَنّ الدّارَ دَارُ مَنَعَةٍ وَأَنّ الْقَوْمَ أَهْلُ حَلْقَةٍ وَشَوْكَةٍ وَبَأْسٍ فَخَافُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ وَلُحُوقَهُ بِهِمْ فَيَشْتَدّ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ وَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الرّأْيِ وَالْحِجَا مِنْهُمْ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِ وَحَضَرَهُمْ وَلِيّهُمْ وَشَيْخُهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ مُشْتَمِلٌ الصّمّاءَ فِي كِسَائِهِ فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَشَارَ كُلّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِرَأْيٍ وَالشّيْخُ يَرُدّهُ وَلَا يَرْضَاهُ إلَى أَنْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ : قَدْ فُرِقَ لِي فِيهِ رَأْيٌ مَا أَرَاكُمْ قَدْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ قَالُوا : مَا هُوَ ؟ قَالَ أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ غُلَامًا نَهْدًا جَلْدًا ثُمّ نُعْطِيهِ سَيْفًا صَارِمًا فَيَضْرِبُونَهُ [ ص 46 ] ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَتَفَرّقُ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَلَا تَدْرِي بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ تَصْنَعُ وَلَا يُمْكِنُهَا مُعَادَاةُ الْقَبَائِلِ كُلّهَا وَنَسُوقُ إلَيْهِمْ دِيَتَهُ فَقَالَ الشّيْخُ لِلّهِ دَرّ الْفَتَى هَذَا وَاَللّهِ الرّأْيُ قَالَ فَتَفَرّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنَامَ فِي مَضْجَعِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ .
[ قِصّةُ هِجْرَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ نِصْفَ النّهَارِ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ فِيهَا مُتَقَنّعًا فَقَالَ لَهُ " أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك " فَقَالَ إنّمَا هُمْ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ إنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي وَأُمّي إحْدَى رَاحِلَتَيْ هَاتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالثّمَنِ
[ نَوْمُ عَلِيّ فِي مَضْجَعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ]
وَأَمَرَ عَلِيّا أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَطَلّعُونَ مِنْ صَيْرِ الْبَابِ وَيَرْصُدُونَهُ وَيُرِيدُونَ بَيَاتَهُ وَيَأْتَمِرُونَ أَيّهُمْ يَكُونُ أَشْقَاهَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الْبَطْحَاءِ فَجَعَلَ يَذَرُهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ وَهُوَ يَتْلُو { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِ أَبِي بَكْر ٍ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ فِي دَارِ أَبِي بَكْرٍ لَيْلًا وَجَاءَ رَجُلٌ وَرَأَى الْقَوْمَ بِبَابِهِ فَقَالَ مَا تَنْتَظِرُونَ ؟ قَالُوا : مُحَمّدًا قَالَ خِبْتُمْ وَخَسِرْتُمْ قَدْ وَاَللّهِ مَرّ بِكُمْ وَذَرّ عَلَى رُءُوسِكُمْ التّرَابَ قَالُوا : وَاَللّهِ مَا أَبْصَرْنَاهُ وَقَامُوا يَنْفُضُونَ التّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ وَهُمْ أَبُو جَهْل ٍ وَالْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ [ ص 47 ] وَزَمْعَة بْنُ الْأَسْوَدِ وَطُعَيْمَة بْنُ عَدِيّ وَأَبُو لَهَبٍ وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ وَنُبَيْه وَمُنَبّهُ ابْنَا الْحَجّاجِ فَلَمّا أَصْبَحُوا قَامَ عَلِيّ عَنْ الْفِرَاشِ فَسَأَلُوهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهِ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْر ٍ إلَى غَارِ ثَوْرٍ فَدَخَلَاهُ وَضَرَبَ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى بَابِهِ . وَكَانَا قَدْ اسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُرَيْقِط اللّيْثِي ّ وَكَانَ هَادِيًا مَاهِرًا بِالطّرِيقِ وَكَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَمِنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَلّمَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَجَدّتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِمَا وَأَخَذُوا مَعَهُمْ الْقَافَةَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ فَوَقَفُوا عَلَيْهِ . فَفِي " الصّحِيحَيْنِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُمَا لَا تَحْزَنْ فَإِنّ اللّهَ مَعَنَا وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْر [ ص 48 ] يَسْمَعَانِ كَلَامَهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمَا وَلَكِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ عَمّى عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمَا وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى عَلَيْهِمَا غَنَمًا لِأَبِي بَكْر ٍ وَيَتَسَمّعُ مَا يُقَالُ بِمَكّةَ ثُمّ يَأْتِيهِمَا بِالْخَبَرِ فَإِذَا كَانَ السّحَرُ سَرَحَ مَعَ النّاسِ . قَالَتْ عَائِشَة ُ وَجَهّزْنَاهُمَا أَحْسَنَ الْجَهَازِ وَوَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ وَقَطَعَتْ الْأُخْرَى فَصَيّرَتْهَا عِصَامًا لِفَمِ الْقِرْبَةِ فَلِذَلِكَ لُقّبَتْ ذَاتَ النّطَاقَيْنِ . وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنْ عُمَرَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَذْكُرُ الطّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَك ثُمّ أَذْكُرُ الرّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْك فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي ؟ [ ص 49 ] قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَتّى أَسْتَبْرِئَ لَك الْغَارَ فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ حَتّى إذَا كَانَ فِي أَعْلَاهُ ذَكَرَ أَنّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئْ الْجِحَرَةَ فَقَالَ مَكَانَك يَا رَسُولَ اللّهِ حَتّى أَسْتَبْرِئَ الْجِحَرَةَ ثُمّ قَالَ انْزِلْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَنَزَلَ فَمَكَثَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لِيَالٍ حَتّى خَمَدَتْ عَنْهُمَا نَارُ الطّلَبِ فَجَاءَهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُرَيْقِط بِالرّاحِلَتَيْنِ فَارْتَحَلَا وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَة َ وَسَارَ الدّلِيلُ أَمَامَهُمَا وَعَيْنُ اللّهِ تَكْلَؤُهُمَا وَتَأْيِيدُهُ يَصْحَبُهُمَا وَإِسْعَادُهُ يُرَحّلُهُمَا وَيُنْزِلُهُمَا .
[ قِصّةُ سُرَاقَةَ ]
وَلَمّا يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الظّفَرِ بِهِمَا جَعَلُوا لِمَنْ جَاءَ بِهِمَا دِيَةَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَدّ النّاسُ فِي الطّلَبِ وَاَللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ فَلَمّا مَرّوا بِحَيّ بَنِي مُدْلِجٍ مُصْعِدِينَ مِنْ قُدَيْد بَصُرَ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْحَيّ فَوَقَفَ عَلَى الْحَيّ فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ آنِفًا بِالسّاحِلِ أَسْوِدَةً مَا أُرَاهَا إلّا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَفَطِنَ بِالْأَمْرِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِك ٍ فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الظّفَرُ لَهُ خَاصّةً وَقَدْ سَبَقَ لَهُ مِنْ الظّفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ فَقَالَ بَلْ هُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ خَرَجَا فِي طَلَبِ حَاجَةٍ لَهُمَا ثُمّ مَكَثَ قَلِيلًا ثُمّ قَامَ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ وَقَالَ لِخَادِمِهِ اُخْرُجْ بِالْفَرَسِ مِنْ وَرَاءِ الْخِبَاءِ وَمَوْعِدُك وَرَاءَ الْأَكَمَةِ ثُمّ أَخَذَ رُمْحَهُ وَخَفَضَ عَالِيَهُ يَخُطّ بِهِ الْأَرْضَ حَتّى رَكِبَ فَرَسَهُ فَلَمّا قَرُبَ مِنْهُمْ وَسَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْر ٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَلْتَفِتُ فَقَالَ أَبُو بَكْر ٍ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ رَهِقَنَا فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَاخَتْ يَدَا فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنّ الّذِي أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا فَادْعُوَا اللّهَ لِي وَلَكُمَا عَلَيّ أَنْ أَرُدّ النّاسَ عَنْكُمَا فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَطْلَقَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا فَكَتَبَ لَهُ أَبُو [ ص 50 ] ٍ بِأَمْرِهِ فِي أَدِيمٍ وَكَانَ الْكِتَابُ مَعَهُ إلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكّةَ فَجَاءَهُ بِالْكِتَابِ فَوَفّاهُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الزّادَ وَالْحِمْلَانِ فَقَالَا : لَا حَاجَةَ لَنَا بِهِ وَلَكِنْ عَمّ عَنّا الطّلَبَ فَقَالَ قَدْ كَفَيْتُمْ وَرَجَعَ فَوَجَدَ النّاسَ فِي الطّلَبِ فَجَعَلَ يَقُولُ قَدْ اسْتَبْرَأْتُ لَكُمْ الْخَبَرَ وَقَدْ كَفَيْتُمْ مَا هَا هُنَا وَكَانَ أَوّلُ النّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا وَآخِرُهُ حَارِسًا لَهُمَا .

فَصْلٌ [ أُمّ مَعْبَدٍ ]
ثُمّ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ حَتّى مَرّ بِخَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّة وَكَانَتْ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً تَحْتَبِي بِفَنَاءِ الْخَيْمَةِ ثُمّ تُطْعِمُ وَتَسْقِي مَنْ مَرّ بِهَا فَسَأَلَاهَا : هَلْ عِنْدَهَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَا أَعْوَزَكُمْ الْقِرَى وَالشّاءُ عَازِبٌ وَكَانَتْ مُسِنّةً شَهْبَاءَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ فَقَالَ مَا هَذِهِ الشّاةُ يَا أُمّ مَعْبَدٍ ؟ قَالَتْ شَاةٌ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ فَقَالَ هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا ؟ قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي وَأُمّي إنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلُبْهَا فَمَسَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا وَسَمّى اللّهَ وَدَعَا فَتَفَاجّتْ عَلَيْهِ وَدَرّتْ فَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرّهْطَ فَحَلَبَ فِيهِ حَتّى عَلَتْهُ الرّغْوَةُ فَسَقَاهَا فَشَرِبَتْ حَتّى رَوَيْت وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتّى رَوَوْا ثُمّ شَرِبَ وَحَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا حَتّى مَلَأَ الْإِنَاءَ ثُمّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا فَارْتَحَلُوا فَقَلّمَا لَبِثَتْ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكُنّ هُزَالًا لَا نِقْيَ بِهِنّ فَلَمّا رَأَى اللّبَنَ عَجِبَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا وَالشّاةُ عَازِبٌ ؟ وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ ؟ فَقَالَتْ لَا وَاَللّهِ إلّا أَنّهُ مَرّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَمِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَاهُ صَاحِبَ قُرَيْشٍ الّذِي تَطْلُبُهُ صِفِيهِ لِي يَا أُمّ مَعْبَدٍ قَالَتْ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخَلْقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَة وَلَمْ تُزْرِ بِهِ [ ص 51 ] صُعْلَة وَسِيمٌ قَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجّ أَقْرَنُ شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ إذَا صَمَتَ عَلَاهُ الْوَقَارُ وَإِنْ تَكَلّمَ عَلَاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلَاهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ لَا نَزْرٌ وَلَا هَذْرٌ كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدّرْنَ رَبْعَةٌ لَا تُقْحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ وَلَا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثّلَاثَةِ مَنْظَرًا وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ إذَا قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ وَإِذَا أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لَا عَابِسٌ وَلَا مُفْنِدٌ فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ وَاَللّهِ هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ الّذِي ذَكَرُوا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرُوا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبُهُ وَلَأَفْعَلَنّ إنْ وَجَدْتُ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكّةَ عَالِيًا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ الْقَائِلَ
جَزَى اللّهُ رَبّ الْعَرْشِ خَيْرَ جَزَائِه ِ
رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدٍ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ وَارْتَحَلَا بِه
وَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
فَيَالَقُصَيّ مَا زَوَى اللّهُ عَنْكُمْ
بِهِ مِنْ فَعَالٍ لَا يُجَازَى وَسُودَدِ
لِيَهْنَ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ
وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا
فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاءَ تَشْهَدِ
[ ص 52 ] قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ : مَا دَرَيْنَا أَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ فَأَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَالنّاسَ يَتْبَعُونَهُ وَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَاهَا قَالَتْ فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ تَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ [ وُصُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ]
وَبَلَغَ الْأَنْصَارَ مَخْرَجُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ وَقَصْدُهُ الْمَدِينَةُ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ كُلّ يَوْمٍ إلَى الْحَرّةِ يَنْتَظِرُونَهُ أَوّلَ النّهَارِ فَإِذَا اشْتَدّ حَرّ الشّمْسِ رَجَعُوا عَلَى عَادَتِهِمْ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ النّبُوّةِ خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فَلَمّا حَمِيَ حَرّ الشّمْسِ رَجَعُوا وَصَعِدَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ شَأْنِهِ فَرَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ مُبَيّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السّرَابُ فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ جَاءَ هَذَا جَدّكُمْ الّذِي تَنْتَظِرُونَهُ فَبَادَرَ الْأَنْصَارُ إلَى السّلَاحِ لِيَتَلَقّوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسُمِعَتْ الرّجّةُ وَالتّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِهِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ فَتَلَقّوْهُ وَحَيّوْهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ فَأَحْدَقُوا بِهِ مُطِيفِينَ حَوْلَهُ وَالسّكِينَةُ تَغْشَاهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ { فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التّحْرِيمُ 4 ] فَسَارَ حَتّى نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَنَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ وَقِيلَ بَلْ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ فَأَقَامَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسّسَ مَسْجِدَ قُبَاءَ وَهُوَ أَوّلُ مَسْجِدٍ أُسّسَ بَعْدَ النّبُوّةِ . [ ص 53 ] كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَكِبَ بِأَمْرِ اللّهِ لَهُ فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَجَمَعَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي . ثُمّ رَكِبَ فَأَخَذُوا بِخِطَامِ رَاحِلَتِهِ هَلُمّ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالسّلَاحِ وَالْمَنَعَةِ فَقَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَة فَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ سَائِرَةً بِهِ لَا تَمُرّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا رَغِبُوا إلَيْهِ فِي النّزُولِ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ دَعُوهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ فَسَارَتْ حَتّى وَصَلَتْ إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ وَبَرَكَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا حَتّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا ثُمّ الْتَفَتَتْ فَرَجَعَتْ فَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الْأَوّلِ فَنَزَلَ عَنْهَا وَذَلِكَ فِي بَنِي النّجّار ِ أَخْوَالِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَكَانَ مِنْ تَوْفِيقِ اللّهِ لَهَا فَإِنّهُ أَحَبّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ يُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ فَجَعَلَ النّاسُ يُكَلّمُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّزُولِ عَلَيْهِمْ وَبَادَرَ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ إلَى رَحْلِهِ فَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ وَجَاءَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَتْ عِنْدَهُ وَأَصْبَحَ كَمَا قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ يَتَحَفّظُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً
يُذَكّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ
فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمّا أَتَانَا وَاسْتَقَرّتْ بِهِ النّوَى
وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا
وَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى ظُلَامَةَ ظَالِمٍ
بَعِيدٍ وَلَا يَخْشَى مِنْ النّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلّ مَالِنَا
وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتّآسِيَا
نُعَادِي الّذِي عَادَى مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ
جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
وَنَعْلَمُ أَنّ اللّهَ لَا رَبّ غَيْرُهُ
وَأَنّ كِتَابَ اللّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا
[ مَعْنَى أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق ٍ ]
[ ص 54 ] قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ فَأُمِرَ بِالْهِجْرَةِ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ { وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } [ الْإِسْرَاءُ 80 ] . قَالَ قَتَادَةُ : أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مَخْرَجَ صِدْقٍ وَنَبِيّ اللّهِ يَعْلَمُ أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إلّا بِسُلْطَانٍ فَسَأَلَ اللّهُ سُلْطَانًا نَصِيرًا وَأَرَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ دَارَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ بِمَكّةَ فَقَالَ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ بِسَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ قَالَ الْبَرَاءُ أَوّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ فَجَعَلَا يُقْرِئَانِ النّاسَ الْقُرْآنَ ثُمّ جَاءَ عَمّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا ثُمّ جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا رَأَيْتُ النّاسَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ كَفَرَحِهِمْ بِهِ حَتّى رَأَيْتُ النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ وَالْإِمَاءَ يَقُولُونَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ قَدْ جَاءَ [ ص 55 ] وَقَالَ أَنَسٌ شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخْلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطّ كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَيْنَا وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَاتَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطّ كَانَ أَقْبَحَ وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمِ مَاتَ

[ قُدُومُ أَهْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ ]
فَأَقَامَ فِي مَنْزِلِ أَبِي أَيّوب َ حَتّى بَنَى حُجَرَهُ وَمَسْجِدَهُ وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي مَنْزِلِ أَبِي أَيّوبَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ وَأَعْطَاهُمَا بَعِيرَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى مَكّةَ فَقَدِمَا عَلَيْهِ بِفَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ابْنَتَيْهِ وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجَتِهِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْد ٍ وَأُمّهِ أُمّ أَيْمَنَ وَأَمّا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يُمَكّنْهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَخَرَجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مَعَهُمْ بِعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْهُمْ عَائِشَةُ فَنَزَلُوا فِي بَيْتِ حَارِثَةَ بْنِ النّعْمَانِ .
فَصْلٌ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
قَالَ الزّهْرِيّ : بَرَكَتْ نَاقَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَوْضِعَ مَسْجِدِهِ وَهُوَ يَوْمئِذٍ يُصَلّي فِيهِ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ فَسَاوَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغُلَامَيْنِ بِالْمِرْبَدِ لِيَتّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا : بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَكَانَ جِدَارًا لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ وَقِبْلَتُهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ يُصَلّي فِيهِ وَيُجَمّعُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِيهِ شَجَرَةُ غَرْقَدٍ وَخِرَبٌ وَنَخْلٌ وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخَرِبِ [ ص 56 ] وَجَعَلَ طُولَهُ مِمّا يَلِي الْقِبْلَةَ إلَى مُؤَخّرِهِ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَالْجَانِبَيْنِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ وَجَعَلَ أَسَاسَهُ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ ثُمّ بَنَوْهُ بِاللّبِنِ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَبْنِي مَعَهُمْ وَيَنْقُلُ اللّبِنَ وَالْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ
اللّهُمّ لَا عَيْشَ إلّا عَيْشُ الْآخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَكَانَ يَقُولُ
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرَ
هَذَا أَبَرّ رَبّنَا وَأَطْهَر
وَجَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ وَهُمْ يَنْقُلُونَ اللّبِنَ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي رَجْزِهِ
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرّسُولُ يَعْمَلُ
لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ
وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَابًا فِي مُؤَخّرِهِ وَبَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الرّحْمَةِ وَالْبَابُ الّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَ عُمُدَهُ الْجُذُوعَ وَسَقْفَهُ بِالْجَرِيدِ وَقِيلَ لَهُ أَلَا تُسَقّفُهُ فَقَالَ لَا عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى وَبَنَى إلَى جَنْبِهِ بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ بِاللّبِنِ وَسَقّفَهَا بِالْجَرِيدِ وَالْجُذُوعِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْبِنَاءِ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْبَيْتِ الّذِي بَنَاهُ لَهَا شَرْقِيّ الْمَسْجِدِ قِبْلِيّهُ وَهُوَ مَكَانُ حُجْرَتِهِ الْيَوْمَ وَجَعَلَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَة َ بَيْتًا آخَرَ .
فَصْلٌ [ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ]
ثُمّ آخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانُوا تِسْعِينَ رَجُلًا نِصْفُهُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَنِصْفُهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ آخَى بَيْنَهُمْ عَلَى الْمُوَاسَاةِ يَتَوَارَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَى حِينِ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَلَمّا [ ص 57 ] أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الْأَحْزَابُ 6 ] رَدّ التّوَارُثَ إلَى الرّحِمِ دُونَ عَقْدِ الْأُخُوّةِ . وَقَدْ قِيلَ إنّهُ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مُؤَاخَاةً ثَانِيَةً وَاِتّخَذَ فِيهَا عَلِيّا أَخًا لِنَفْسِهِ وَالثّبْتُ الْأُوَلُ وَالْمُهَاجِرُونَ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ بِأُخُوّةِ الْإِسْلَامِ [ ص 58 ] وَقُرَابَةِ النّسَبِ عَنْ عَقْدِ مُؤَاخَاةٍ بِخِلَافِ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ الْأَنْصَارِ وَلَوْ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ أَحَقّ النّاسِ بِأُخُوّتِهِ أَحَبّ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَرَفِيقُهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ وَأَفْضَلُ الصّحَابَةِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ وَقَدْ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُتّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ أُخُوّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ
وَفِي لَفْظٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي وَهَذِهِ الْأُخُوّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ عَامّةً كَمَا قَالَ وَدِدْتُ أَنْ قَدْ رَأَيْنَا إخْوَانَنَا قَالُوا : أَلَسْنَا إخْوَانَكَ ؟ قَالَ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي فَلِلصّدّيقِ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوّةِ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا كَمَا لَهُ مِنْ الصّحْبَةِ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا فَالصّحَابَةُ لَهُمْ الْأُخُوّةُ وَمَزِيّةُ الصّحْبَةِ وَلِأَتْبَاعِهِ بَعْدَهُمْ الْأُخُوّةُ دُونَ الصّحْبَةِ .

فَصْل ٌ [ مُعَاهَدَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ الْيَهُودِ ]
وَوَادَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا وَبَادَرَ حَبْرُهُمْ وَعَالِمُهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامٍ فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ [ ص 59 ] وَأَبَى عَامّتُهُمْ إلّا الْكُفْرَ . وَكَانُوا ثَلَاثَ قَبَائِلَ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو النّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ وَحَارَبَهُ الثّلَاثَةُ فَمَنّ عَلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ وَأَجْلَى بَنِي النّضِيرِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبَى ذُرّيّتَهُمْ وَنَزَلَتْ ( سُورَةُ الْحَشْرِ ) فِي بَنِي النّضِيرِ وَ ( سُورَةُ الْأَحْزَابِ ) فِي بَنِي قُرَيْظَةَ .

فَصْلٌ [ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ ]
وَكَانَ يُصَلّي إلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيُحِبّ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَالَ لِجِبْرِيلَ وَدِدْتُ أَنْ يَصْرِفَ اللّهُ وَجْهِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ فَقَالَ إنّمَا أَنَا عَبْدٌ فَادْعُ رَبْكَ وَاسْأَلْهُ س فَجَعَلَ يُقَلّبُ وَجْهَهُ فِي السّمَاءِ يَرْجُو ذَلِكَ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الْبَقَرَةُ 144 ] وَذَلِكَ بَعْدَ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْر ٍ بِشَهْرَيْنِ . قَالَ مُحَمّدُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ مَا خَالَفَ نَبِيّ نَبِيّا قَطّ فِي قِبْلَةٍ وَلَا فِي سُنّةٍ إلّا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمّ قَرَأَ { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الشّورَى : 13 ] [ ص 60 ] وَكَانَ لِلّهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمّ تَحْوِيلِهَا إلَى الْكَعْبَةِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ . فَأَمّا الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَالُوا : { آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا } [ آلُ عِمْرَانَ 7 ] وَهُمْ الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ . وَأَمّا الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا : كَمَا رَجَعَ إلَى قِبْلَتِنَا يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دِينِنَا وَمَا رَجَعَ إلَيْهَا إلّا أَنّهُ الْحَقّ . وَأَمّا الْيَهُودُ فَقَالُوا : خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَلَوْ كَانَ نَبِيّا لَكَانَ يُصَلّي إلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ . وَأَمّا الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا : مَا يَدْرِي مُحَمّدٌ أَيْنَ يَتَوَجّهُ إنْ كَانَتْ الْأُولَى حَقّا فَقَدْ تَرَكَهَا وَإِنْ كَانَتْ الثّانِيَةُ هِيَ الْحَقّ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السّفَهَاءِ مِنْ النّاسِ وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ الْبَقَرَةُ 143 ] وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنْ اللّهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ لِيَرَى مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِنْهُمْ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَلَمّا كَانَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ وَشَأْنُهَا عَظِيمًا وَطّأَ - سُبْحَانَهُ - قَبْلَهَا أَمْرَ النّسْخِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَأَنّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ ثُمّ عَقّبَ ذَلِكَ بِالتّوْبِيخِ لِمَنْ تَعَنّتَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ ثُمّ ذَكَرَ بَعْدَهُ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى وَشَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِأَنّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَحَذّرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَاتّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ ثُمّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ وَشِرْكَهُمْ بِهِ وَقَوْلَهُمْ إنّ لَهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ لَهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَأَيْنَمَا يُوَلّي عِبَادُهُ وُجُوهَهُمْ فَثَمّ [ ص 61 ] أَخْبَرَ أَنّهُ لَا يَسْأَلُ رَسُولَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ الّذِينَ لَا يُتَابِعُونَهُ وَلَا يُصَدّقُونَهُ ثُمّ أَعْلَمَهُ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتّى يَتّبِعَ مِلّتَهُمْ وَأَنّهُ إنْ فَعَلَ وَقَدْ أَعَاذَهُ اللّهُ مِنْ ذَلِكَ فَمَا لَهُ مِنْ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ ثُمّ ذَكّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَخَوّفَهُمْ مِنْ بَأْسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمّ ذَكَرَ خَلِيلَهُ بَانِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ وَأَخْبَرَ أَنّهُ جَعَلَهُ إمَامًا لِلنّاسِ يَأْتَمّ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ ثُمّ ذَكَرَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَبِنَاءَ خَلِيلِهِ لَهُ وَفِي ضِمْنِ هَذَا أَنّ بَانِيَ الْبَيْتِ كَمَا هُوَ إمَامٌ لِلنّاسِ فَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الّذِي بَنَاهُ إمَامٌ لَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ هَذَا الْإِمَامِ إلّا أَسْفَهُ النّاسِ ثُمّ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَأْتَمّوا بِرَسُولِهِ الْخَاتَمِ وَيُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِ وَإِلَى إبْرَاهِيمَ وَإِلَى سَائِرِ النّبِيّينَ ثُمّ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ إبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى وَجَعَلَ هَذَا كُلّهُ تَوْطِئَةً وَمُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَقَدْ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى النّاسِ إلّا مَنْ هَدَى اللّهُ مِنْهُمْ وَأَكّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْأَمْرَ مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ بَعْد ثَالِثَةٍ وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ حَيْثُمَا كَانَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجَ وَأَخْبَرَ أَنّ الّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ الّذِي هَدَاهُمْ إلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ وَأَنّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الّتِي تَلِيقُ بِهِمْ وَهُمْ أَهْلُهَا لِأَنّهَا أَوْسَطُ الْقِبَلِ وَأَفْضَلُهَا وَهُمْ أَوْسَطُ الْأُمَمِ وَخِيَارُهُمْ فَاخْتَارَ أَفْضَلَ الْقِبَلِ لِأَفْضَلِ الْأُمَمِ كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرّسُلِ وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ وَأَخْرَجَهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَخَصّهُمْ بِأَفْضَلِ الشّرَائِعِ وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنّةِ خَيْرَ الْمَنَازِلِ وَمَوْقِفُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ خَيْرُ الْمَوَاقِفِ فَهُمْ عَلَى تَلّ عَالٍ وَالنّاسُ تَحْتَهُمْ فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْهِمْ حُجّةٌ وَلَكِنْ الظّالِمُونَ الْبَاغُونَ يَحْتَجّونَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْحُجَجِ الّتِي ذُكِرَتْ وَلَا يُعَارِضُ الْمُلْحِدُونَ الرّسُلَ إلّا بِهَا [ ص 62 ] وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَلِيَهْدِيَهُمْ ثُمّ ذَكّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رَسُولِهِ إلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ كِتَابِهِ عَلَيْهِمْ لِيُزَكّيَهُمْ وَيُعَلّمَهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ثُمّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهِ وَبِشُكْرِهِ إذْ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَوْجِبُونَ إتْمَامَ نِعَمِهِ وَالْمَزِيدَ مِنْ كَرَامَتِهِ وَيَسْتَجْلِبُونَ ذِكْرَهُ لَهُمْ وَمَحَبّتَهُ لَهُمْ ثُمّ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَتِمّ لَهُمْ ذَلِكَ إلّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهُوَ الصّبْرُ وَالصّلَاةُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .
فَصْلٌ [ الْأَذَانُ وَزِيَادَةُ الصّلَاةِ إلَى رُبَاعِيّةٍ ]
وَأَتَمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقِبْلَةِ بِأَنْ شَرَعَ لَهُمْ الْأَذَانَ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ خَمْسَ مَرّاتٍ وَزَادَهُمْ فِي الظّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثُنَائِيّةً فَكُلّ هَذَا كَانَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ .

فَصْلٌ [ الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ ]
فَلَمّا اسْتَقَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ وَأَيّدَهُ اللّهُ بِنَصْرِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْصَارِ وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِحَنِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَتْهُ أَنْصَارُ اللّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ دُونَهُ وَقَدّمُوا مَحَبّتَهُ عَلَى مَحَبّةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَزْوَاجِ وَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ رَمَتْهُمْ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَشَمّرُوا لَهُمْ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَصَاحُوا بِهِمْ مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُهُمْ بِالصّبْرِ وَالْعَفْوِ وَالصّفْحِ حَتّى قَوِيَتْ الشّوْكَةُ [ ص 63 ] فَقَالَ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الْحَجّ 39 ] . وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ هَذَا الْإِذْنَ كَانَ بِمَكّةَ وَالسّورَةُ مَكّيّةٌ وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ اللّهَ لَمْ يَأْذَنْ بِمَكّةَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ وَلَا كَانَ لَهُمْ شَوْكَةٌ يَتَمَكّنُونَ بِهَا مِنْ الْقِتَالِ بِمَكّةَ . الثّانِي : أَنّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْإِذْنَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فَإِنّهُ قَالَ { الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ إِلّا أَنْ يَقُولُوا رَبّنَا اللّهُ } [ الْحَجّ 40 ] وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُهَاجِرُونَ . الثّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ } [ الْحَجّ 19 ] نَزَلَتْ فِي الّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ . الرّابِعُ أَنّهُ قَدْ خَاطَبَهُمْ فِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا وَالْخِطَابُ بِذَلِكَ كُلّهِ مَدَنِيّ فَأَمّا الْخِطَابُ ( يَا أَيّهَا النّاسُ فَمُشْتَرَكٌ . الْخَامِسُ أَنّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ الّذِي يَعُمّ الْجِهَادَ بِالْيَدِ وَغَيْرِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ الْمُطْلَقِ إنّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَمّا جِهَادُ الْحُجّةِ فَأَمَرَ بِهِ فِي مَكّةَ بِقَوْلِهِ { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } أَيْ بِالْقُرْآن { جِهَادًا كَبِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 52 ] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ وَالْجِهَادُ فِيهَا هُوَ التّبْلِيغُ وَجِهَادُ الْحُجّةِ وَأَمّا الْجِهَادُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي ( سُورَةِ الْحَجّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ بِالسّيْفِ . السّادِسُ أَنّ الْحَاكِمَ رَوَى فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : [ ص 64 ] إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيَهْلِكُنّ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا } [ الْحَجّ 39 ] وَهِيَ أَوّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ . وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصّحِيحَيْنِ " وَسِيَاقُ السّورَةِ يَدُلّ عَلَى أَنّ فِيهَا الْمَكّيّ وَالْمَدَنِيّ فَإِنّ قِصّةَ إلْقَاءِ الشّيْطَانِ فِي أُمْنِيّةِ الرّسُولِ مَكّيّةٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ فَرْضُ الْقِتَالِ ]
ثُمّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ فَقَالَ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 190 ] . ثُمّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ كَافّةً وَكَانَ مُحَرّمًا ثُمّ مَأْذُونًا بِهِ ثُمّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ ثُمّ مَأْمُورًا بِهِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ إمّا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ .
[ التّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ فَرْضِيّةِ الْجِهَادِ ]
وَالتّحْقِيقُ أَنّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إمّا بِالْقَلْبِ وَإِمّا بِاللّسَانِ وَإِمّا بِالْمَالِ وَإِمّا بِالْيَدِ فَعَلَى كُلّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ . أَمّا الْجِهَادُ بِالنّفْسِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَأَمّا الْجِهَادُ بِالْمَالِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ وَالصّحِيحُ وُجُوبُهُ لِأَنّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ بِهِ وَبِالنّفْسِ فِي الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ التّوْبَةُ 41 ] وَعَلّقَ النّجَاةَ مِنْ النّارِ بِهِ وَمَغْفِرَةَ الذّنْبِ وَدُخُولَ الْجَنّةِ فَقَالَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ الصّفّ 15 ]

وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَعْطَاهُمْ مَا يُحِبّونَ مِنْ النّصْرِ وَالْفَتْحِ الْقَرِيبِ فَقَالَ [ ص 65 ] { وَأُخْرَى تُحِبّونَهَا } [ الصّفّ 12 ] أَيْ وَلَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى تُحِبّونَهَا فِي الْجِهَادِ وَهِيَ { نَصْرٌ مِنَ اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ { اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ } [ التّوْبَةُ 110 ] وَأَعَاضَهُمْ عَلَيْهَا الْجَنّةَ وَأَنّ هَذَا الْعَقْدَ وَالْوَعْدَ قَدْ أَوْدَعَهُ أَفْضَلَ كُتُبِهِ الْمُنَزّلَةِ مِنْ السّمَاءِ وَهِيَ التّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ ثُمّ أَكّدَ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِمْ أَنّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمّ أَكّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِهِمْ الّذِي عَاقَدُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ أَعْلَمَهُمْ أَنّ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. فَلْيُتَأَمّلْ الْعَاقِدُ مَعَ رَبّهِ عَقْدَ هَذَا التّبَايُعِ مَا أَعْظَمَ خَطَرَهُ وَأَجَلّهُ فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ هُوَ الْمُشْتَرِي وَالثّمَنُ جَنّاتُ النّعِيمِ وَالْفَوْزُ بِرِضَاهُ وَالتّمَتّعُ بِرُؤْيَتِهِ هُنَاكَ. وَاَلّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ هَذَا الْعَقْدُ أَشْرَفُ رُسُلِهِ وَأَكْرَمُهُمْ. عَلَيْهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَإِنّ سِلْعَةً هَذَا شَأْنُهَا لَقَدْ هُيّئَتْ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَخَطْبٍ جَسِيمٍ قَدْ هَيّئُوك لِأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَه فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الْهَمَلِ
مَهْرُ الْمُحِبّةِ وَالْجَنّةِ بَذْلُ النّفْسِ وَالْمَالِ لِمَالِكِهِمَا الّذِي اشْتَرَاهُمَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا لِلْجَبَانِ الْمُعْرِضِ الْمُفْلِسِ وَسَوْمِ هِذِهِ السّلْعَةِ بِاَللّهِ مَا هَزَلَتْ فَيَسْتَامَهَا الْمُفْلِسُونَ وَلَا كَسَدَتْ فَيَبِيعَهَا بِالنّسِيئَةِ الْمُعْسِرُونَ لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ فِي سُوقِ مَنْ يُرِيدُ فَلَمْ يَرْضَ رَبّهَا لَهَا بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النّفُوسِ فَتَأَخّرَ الْبَطّالُونَ وَقَامَ الْمُحِبّونَ يَنْتَظِرُونَ أَيّهُمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ الثّمَنَ فَدَارَتْ السّلْعَةُ بَيْنَهُمْ وَوَقَعَتْ فِي يَدِ { أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الْمَائِدَةُ 54 ] .
[ شِرَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعِيرًا مِنْ جَابِرٍ ]
لَمّا كَثُرَ الْمُدّعُونَ لِلْمَحَبّةِ طُولِبُوا بِإِقَامَةِ الْبَيّنَةِ عَلَى صِحّةِ الدّعْوَى فَلَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادّعَى الْخَلِيّ حِرْفَةَ الشّجِيّ فَتَنَوّعَ الْمُدّعُونَ فِي الشّهُودِ فَقِيلَ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الدّعْوَى إلّا بِبَيّنَةٍ { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آلُ عِمْرَانَ 31 ] فَتَأَخّرَ الْخَلْقُ كُلّهُمْ وَثَبَتَ أَتْبَاعُ الرّسُولِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ [ ص 66 ] وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ الْعَدَالَةُ إلّا بِتَزْكِيَةٍ { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ الْمَائِدَةُ 54 ] فَتَأَخّرَ أَكْثَرُ الْمُدّعِينَ لِلْمَحَبّةِ وَقَامَ الْمُجَاهِدُونَ فَقِيلَ لَهُمْ إنّ نُفُوسَ الْمُحِبّينَ وَأَمْوَالَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ فَسَلّمُوا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِنّ { اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ } وَعَقْدُ التّبَايُعِ يُوجِبُ التّسْلِيمَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَمّا رَأَى التّجّارُ عَظَمَةَ الْمُشْتَرِي وَقَدْرَ الثّمَنِ وَجَلَالَةَ قَدْرِ مَنْ جَرَى عَقْدُ التّبَايُعِ عَلَى يَدْيِهِ وَمِقْدَارَ الْكِتَابِ الّذِي أُثْبِتَ فِيهِ هَذَا الْعَقْدُ عَرَفُوا أَنّ لِلسّلْعَةِ قَدْرًا وَشَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنْ السّلَعِ فَرَأَوْا مِنْ الْخُسْرَانِ الْبَيّنِ وَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ أَنْ يَبِيعُوهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ تَذْهَبُ لَذّتُهَا وَشَهْوَتُهَا وَتَبْقَى تَبِعَتُهَا وَحَسْرَتُهَا فَإِنّ فَاعِلَ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ السّفَهَاءِ فَعَقَدُوا مَعَ الْمُشْتَرِي بَيْعَةَ الرّضْوَانِ رِضًى وَاخْتِيَارًا مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ خِيَارٍ وَقَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ فَلَمّا تَمّ الْعَقْدُ وَسَلّمُوا الْمَبِيعَ قِيلَ لَهُمْ قَدْ صَارَتْ أَنْفُسُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَنَا وَالْآنَ فَقَدْ رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ وَأَضْعَافَ أَمْوَالِكُمْ مَعَهَا { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آلُ عِمْرَانَ 69 ] لَمْ نَبْتَعْ مِنْكُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ طَلَبًا لِلرّبْحِ عَلَيْكُمْ بَلْ لِيَظْهَرَ أَثَرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ فِي قَبُولِ الْمَعِيبِ وَالْإِعْطَاءِ عَلَيْهِ أَجَلّ الْأَثْمَانِ ثُمّ جَمَعْنَا لَكُمْ بَيْنَ الثّمَنِ وَالْمُثَمّنِ . تَأَمّلْ قِصّةَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ " وَقَدْ اشْتَرَى مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعِيرَهُ ثُمّ وَفّاهُ الثّمَنَ وَزَادَهُ وَرَدّ عَلَيْهِ الْبَعِيرَ وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ قُتِلَ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ فَذَكّرَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ حَالَ أَبِيهِ مَعَ اللّهِ وَأَخْبَرَهُ أَنّ اللّهَ أَحْيَاهُ وَكَلّمَهُ كِفَاحًا وَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنّ عَلَيّ " فَسُبْحَانَ مَنْ [ ص 67 ] الْمَبِيعَ عَلَى عَيْبِهِ وَأَعَاضَ عَلَيْهِ أَجَلّ الْأَثْمَانِ وَاشْتَرَى عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِمَالِهِ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الثّمَنِ وَالْمُثَمّنِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الّذِي وَفّقَهُ لَهُ وَشَاءَهُ مِنْهُ . فَحَيّهَلَا إنْ كُنْتَ ذَا هِمّةٍ فَقَد ْ حَدَا بِكَ حَادِي الشّوْقِ فَاطْوِ الْمَرَاحِلَا
وَقُلْ لِمُنَادِي حُبّهِمْ وَرِضَاهُمْ إذَا مَا دَعَا لَبّيْكَ أَلْفًا كَوَامِلَا
وَلَا تَنْظُرْ الْأَطْلَالَ مِنْ دُونِهِمْ فَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْأَطْلَالِ عُدْنَ حَوَائِلَا
وَلَا تَنْتَظِرْ بِالسّيْرِ رِفْقَةَ قَاعِدٍ وَدَعْهُ فَإِنّ الشّوْقَ يَكْفِيك حَامِلَا
وَخُذْ مِنْهُمْ زَادًا إلَيْهِمْ وَسِرْ عَلَى طَرِيقِ الْهُدَى وَالْحُبّ تُصْبِحْ وَاصِلًا
وَأَحْيِي بِذِكْرَاهُمْ شِرَاكَ إذَا دَنَتْ رِكَابُكَ فَالذّكْرَى تُعِيدُك عَامِلَا
وَأَمّا تَخَافَنّ الْكلَالَ فَقُلْ لَهَا أَمَامَكِ وَرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِي الْمَنَاهِلَا
وَخُذْ قَبَسًا مَنْ نُورِهِمْ ثُمّ سِرْ بِهِ فَنُورُهُمْ يَهْدِيكَ لَيْسَ الْمَشَاعِلَا
وَحَيّ عَلَى وَادِي الْأَرَاكِ فَقِلْ بِهِ عَسَاكَ تَرَاهُمْ ثَمّ إنْ كُنْتَ قَائِلَا
وَإِلّا فَفِي نَعْمَانَ عِنْدِي مُعَرّفُ الْ أَحِبّةِ فَاطْلُبْهُمْ إذَا كُنْتَ سَائِلَا
وَإِلّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ تَفُتْ فَمِنًى يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلًا
وَحَيّ عَلَى جَنّاتِ عَدْنٍ فَإِنّهَا مَنَازِلُكَ الْأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلَا
وَلَكِنْ سَبَاكَ الْكَاشِحُونَ لِأَجْلِ ذَا وَقَفْت عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي الْمَنَازِلَا
وَحَيّ عَلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ بِجَنّةِ الْ خُلُودِ فَجُدْ بِالنّفْسِ إنْ كُنْتَ بَاذِلَا
فَدَعْهَا رُسُومًا دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا مَقِيلٌ وَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلَا
رُسُومًا عَفَتْ يَنْتَابُهَا الْخَلْقُ كَمْ بِهَا قَتِيلٌ وَكَمْ فِيهَا لِذَا الْخَلْقِ قَاتِلَا
وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الّذِي عَلَيْهِ سَرى وَفْدُ الْأَحِبّةِ آهِلَا
وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصّبْرِ سَاعَةً فَعِنْدَ اللّقَا ذَا الْكَدّ يُصْبِحُ زَائِلَا
فَمَا هِيَ إلّا سَاعَةٌ ثُمّ تَنْقَضِي وَيُصْبِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا
لَقَدْ حَرّكَ الدّاعِي إلَى اللّهِ وَإِلَى دَارِ السّلَامِ النّفُوسَ الْأَبِيّةَ وَالْهِمَمَ الْعَالِيَةَ [ ص 68 ] وَأَسْمَعَ مُنَادِي الْإِيمَانِ مَنْ كَانَتْ لَهُ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ وَأَسْمَعَ اللّهُ مَنْ كَانَ حَيّا فَهَزّهُ السّمَاعُ إلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ وَحْدًا بِهِ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ فَمَا حَطّتْ بِهِ رِحَالُهُ إلّا بِدَارِ . الْقَرَارِ فَقَالَ انْتَدَبَ اللّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلّا إيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنّةَ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ أَحْيَا ثُمّ أُقْتَلُ ثُمّ أَحْيَا ثُمّ أُقْتَل وَقَالَ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ الصّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَتَوَكّلَ اللّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَقَالَ غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا [ ص 69 ] وَقَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَيّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ضَمِنْتُ لَهُ أَنْ أَرْجِعَهُ إنْ أَرْجَعْتُهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَإِنْ قَبَضْتُهُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ وَأَرْحَمَهُ وَأُدْخِلَهُ الْجَنّةَ " وَقَالَ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ يُنَجّي اللّهُ بِهِ مِنْ الْهَمّ وَالْغَمّ وَقَالَ " أَنَا زَعِيم - وَالزّعِيمُ الْحَمِيلُ - لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنّةِ وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنّةِ وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنّةِ وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا وَلَا مِنْ الشّرّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ وَقَالَ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّة [ ص 70 ] وَقَالَ إنّ فِي الْجَنّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدّهَا اللّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنّهُ أَوْسَطُ الْجَنّةِ وَأَعْلَى الْجَنّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجّرُ أَنْهَارُ الْجَنّةِ وَقَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاَللّهِ رَبّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمّدٍ رَسُولًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ " فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ فَفَعَلَ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنّةِ مَا بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنِ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ " قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّه

وَقَالَ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنّةِ كُلّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُلُ هَلُمّ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرّيّانِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَد مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلّهَا ؟ قَالَ " نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ [ ص 71 ] وَقَالَ مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبِسَبْعِمِائَةٍ وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعَادَ مَرِيضًا أَوْ أَمَاطَ الْأَذَى عَنْ طَرِيقٍ فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالصّوْمُ جُنّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا وَمَنْ ابْتَلَاهُ اللّهُ فِي جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطّةٌ وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ فَلَهُ بِكُلّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ " ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [ الْبَقَرَةُ 261 ] . وَقَالَ مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ غَارِمًا فِي غُرْمِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلّهُ اللّهُ فِي ظِلّهِ يَوْمَ لَا ظِلّ إلَا ظِلّه وَقَالَ مَنْ اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَرّمَهُ اللّهُ عَلَى النّارِ [ ص 72 ] وَقَالَ لَا يَجْتَمِعُ شُحّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَدُخَانُ جَهَنّمَ فِي وَجْهِ عَبْدٍ وَفِي لَفْظٍ " فِي قَلْبِ عَبْدٍ " وَفِي لَفْظٍ " فِي جَوْفِ امْرِئٍ " وَفِي لَفْظٍ " فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى : مَنْ اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النّارِ وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ لَا يَجْمَعُ اللّهُ فِي جَوْفِ رَجُلٍ غُبَارًا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَدُخَانُ جَهَنّمَ وَمِنْ اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَرّمَ اللّهُ سَائِرَ جَسَدِهِ عَلَى النّارِ وَمَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللّهِ بَاعَدَ اللّهُ عَنْهُ النّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ لِلرّاكِبِ الْمُسْتَعْجِلِ وَمَنْ جُرِحَ جِرَاحَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ خُتِمَ لَهُ بِخَاتَمِ الشّهَدَاءِ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهَا لَوْنُ الزّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ يَعْرِفُهُ بِهَا الْأَوّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَيَقُولُونَ فُلَانٌ عَلَيْهِ طَابَعُ الشّهَدَاءِ وَمَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ [ ص 73 ] وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَنْ رَاحَ رَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ كَانَ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْغُبَارِ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَنْهُ مَا خَالَطَ قَلْبَ امْرِئٍ رَهَجٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ النّارَ وَقَالَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ خَيْرٌ مِنْ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَقَالَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَأَمِنَ الْفَتّان وَقَالَ كُلّ مَيّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلّا الّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمّنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ [ ص 74 ] وَقَالَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا وَقَالَ مُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ فِي أَهْلِهِ سِتّينَ سَنَةً أَمَا تُحِبّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَتَدْخُلُونَ الْجَنّةَ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّة وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ مَنْ رَابَطَ فِي شَيْءٍ مِنْ سَوَاحِلِ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ أَجْزَأَتْ عَنْهُ رِبَاطَ سَنَةٍ [ ص 75 ] وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا : حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا وَيُصَامُ نَهَارُهَا وَقَالَ حَرُمَتْ النّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَحَرُمَتْ النّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللّه وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ مُتَطَوّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النّارَ بِعَيْنَيْهِ إلّا تَحِلّةَ الْقَسَمِ فَإِنّ اللّهَ يَقُولُ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } وَقَالَ لِرَجُلٍ حَرَسَ الْمُسْلِمِينَ لَيْلَةً فِي سَفَرِهِمْ مِنْ أَوّلِهَا إلَى الصّبَاحِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ لَمْ يَنْزِلْ إلّا لِصَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ قَدْ أَوْجَبْتَ فَلَا عَلَيْكَ أَلّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا

[ فَضْلُ الرّمْيِ ]
وَقَالَ مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنّةِ وَقَالَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَهُوَ عِدْلُ مُحَرّرٍ وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ النّسَائِيّ تَفْسِيرُ الدّرَجَةِ بِمِائَةِ عَامٍ . [ ص 76 ] وَقَالَ إنّ اللّهَ يُدْخِلُ بِالسّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنّةَ : صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالْمُمِدّ بِهِ وَالرّامِيَ بِهِ وَارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا وَكُلّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرّجُلُ فَبَاطِلٌ إلّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ وَمَنْ عَلّمَهُ اللّهُ الرّمْيَ فَتَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَنِعْمَةٌ كَفَرَهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السّنَنِ وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَنْ تَعَلّمَ الرّمْيَ ثُمّ تَرَكَهُ فَقَدَ عَصَانِي [ ص 77 ] وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ فَإِنّهُ رَأْسُ كُلّ شَيْءٍ وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنّهُ رَهْبَانِيّةُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ رُوحُكَ فِي السّمَاءِ وَذَكَرَ لَكَ فِي الْأَرْضِ " . وَقَالَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ الْجِهَاد وَقَالَ ثَلَاثَةٌ حَقّ عَلَى اللّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ [ ص 78 ] وَقَالَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهّزْ غَازِيًا أَوْ يُخَلّفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ إذَا ضَنّ النّاسُ بِالدّينَارِ وَالدّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَنْزَلَ اللّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتّى يُرَاجِعُوا دِينَهُم [ ص 79 ] وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَنْ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَقِيَ اللّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ } [ الْبَقَرَةُ 195 ] وَفَسّرَ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إلَى التّهْلُكَةِ بِتَرْكِ الْجِهَادِ وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَبْوَابَ الْجَنّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السّيُوفِ [ ص 80 ] مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللّه وَصَحّ عَنْهُ إنّ النّارَ أَوّلُ مَا تُسَعّرُ بِالْعَالِمِ وَالْمُنَفّقِ وَالْمَقْتُولِ فِي الْجِهَادِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّ مَنْ جَاهَدَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدّنْيَا فَلَا أَجْرَ لَهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو : إنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسَبًا بَعَثَكَ اللّهُ صَابِرًا مُحْتَسَبًا وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو عَلَى أَيّ وَجْهٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْت بَعَثَك اللّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ

فَصْلٌ
[ ص 81 ] وَكَانَ يَسْتَحِبّ الْقِتَالَ أَوّلَ النّهَارِ كَمَا يَسْتَحِبّ الْخُرُوجَ لِلسّفَرِ أَوّلَهُ فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوّلَ النّهَارِ أَخّرَ الْقِتَالَ حَتّى تَزُولَ الشّمْسُ وَتَهُبّ الرّيَاحُ وَيَنْزِلَ النّصْرُ .
فَصْلٌ
قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إلّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللّوْنُ لَوْنُ الدّمِ وَالرّيحُ رِيحُ الْمِسْك وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَى اللّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ أَوْ أَثَرَيْنِ قَطْرَةِ دَمْعَةٍ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأَمّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللّه
[ فَضْلُ الشّهِيدِ ]
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لَا يَسُرّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدّنْيَا وَأَنّ لَهُ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا إلّا الشّهِيدُ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشّهَادَةِ فَإِنّهُ يَسُرّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرّةً أُخْرَى وَفِي لَفْظٍ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ [ ص 82 ] وَقَالَ لِأُمّ حَارِثَةَ بِنْتِ النّعْمَان ِ وَقَدْ قُتِلَ ابْنُهَا مَعَهُ يَوْمَ بَدْر ٍ فَسَأَلَتْهُ أَيْنَ هُوَ ؟
قَالَ إنّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى وَقَالَ إنّ أَرْوَاحَ الشّهَدَاءِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطّلَعَ إلَيْهِمْ رَبّهُمْ اطّلَاعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَلَمّا رَأَوْا أَنّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِك مَرّةً أُخْرَى فَلَمّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا وَقَالَ إنّ لِلشّهِيدِ عِنْدَ اللّهِ خِصَالًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنّةِ وَيُحَلّى حِلْيَةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوّجَ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنَ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا . وَيُزَوّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ وَيُشَفّعَ فِي سَبْعِينَ إنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ ذَكَرَهُ أَحْمَد وَصَحّحَهُ التّرْمِذِيّ . وَقَال لِجَابِرٍ : أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللّهُ لَأَبِيَكَ ؟ " قَالَ بَلَى قَالَ مَا كَلّمَ اللّهُ أَحَدًا إلّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنّ عَلَيّ أُعْطِك قَالَ يَا رَبّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً قَالَ إنّهُ سَبَقَ مِنّي ( أَنّهُمْ إلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آلُ عِمْرَانَ 169 ] [ ص 83 ] وَقَالَ لَمّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُد ٍ جَعَلَ اللّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلّ الْعَرْشِ فَلَمّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا : يَا لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللّهُ لَنَا لِئَلّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ اللّهُ أَنَا أُبَلّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الْآيَاتِ { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا } وَفِي " الْمُسْنَد ِ مَرْفُوعًا : الشّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنّةِ فِي قُبّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّةً وَقَالَ لَا تَجِفّ الْأَرْضُ مِنْ دَمِ الشّهِيدِ حَتَى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنّهُمَا طَيْرَانِ أَضَلّتَا فَصِيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنْ الْأَرْضِ بِيَدِ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلّةٌ خَيْرٌ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا وَفِي " الْمُسْتَدْرَك ِ " وَالنّسَائِيّ مَرْفُوعًا : لَأَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي أَهْلُ الْمَدَرِ وَالْوَبَرِ [ ص 84 ] مَا يَجِدُ الشّهِيدُ مِنْ الْقَتْلِ إلّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسّ الْقَرْصَةِ وَفِي " السّنَنِ " : يَشْفَعُ الشّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَفِي " الْمُسْنَدِ " : أَفْضَلُ الشّهَدَاءِ الّذِينَ إنْ يَلْقَوْا فِي الصّفّ لَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتّى يَقْتُلُوا أُولَئِكَ يَتَلَبّطُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنْ الْجَنّةِ وَيَضْحَكُ إلَيْهِمْ رَبّك وَإِذَا ضَحِكَ رَبّكَ إلَى عَبْدٍ فِي الدّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَفْيِهِ الشّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوّ فَصَدَقَ اللّهَ حَتّى قُتِلَ فَذَلِكَ الّذِي يَرْفَعُ إلَيْهِ النّاسُ أَعْنَاقَهُمْ وَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأْسَهُ حَتّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتَهُ وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوّ فَكَأَنّمَا يُضْرَبُ جِلْدُهُ بِشَوْكِ الطّلْحِ أَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَقَتَلَهُ هُوَ فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيّدُ الْإِيمَانِ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا لَقِيَ الْعَدُوّ فَصَدَقَ اللّهَ حَتّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إسْرَافًا كَثِيرًا لَقِيَ الْعَدُوّ فَصَدَقَ اللّهَ حَتّى قُتِلَ فَذَلِكَ فِي الدّرَجَةِ الرّابِعَة [ ص 85 ] الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " : الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَتّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتّى يُقْتَلَ فَذَاكَ الشّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ فِي خَيْمَةِ اللّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ النّبِيّونَ إلّا بِدَرَجَةِ النّبُوّةِ وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ فَرِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الذّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَتّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَ حَتّى يُقْتَلَ فَتِلْكَ مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ إنّ السّيْفَ مَحّاءُ الْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ شَاءَ فَإِنّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِجَهَنّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَتّى يُقْتَلَ فَإِنّ ذَلِكَ فِي النّارِ إنّ السّيْفَ لَا يَمْحُو النّفَاقَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النّارِ أَبَدًا وَسُئِلَ أَيّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ قِيلَ . فَأَيّ الْقَتْلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ فِي سَبِيلِ اللّه [ ص 86 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : إنّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عَنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَهُوَ لِأَحْمَدَ وَالنّسَائِيّ مُرْسَلًا . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقّ لَا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتّى تَقُومَ السّاعَة وَفِي لَفْظٍ حَتّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدّجّال

فَصْلٌ [ مُبَايَعَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ ]
وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُبَايِعُ أَصْحَابَهُ فِي الْحَرْبِ عَلَى أَلّا يَفِرّوا وَرُبّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ وَبَايَعَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ كَمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَبَايَعَهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَايَعَهُمْ عَلَى التّوْحِيدِ وَالْتِزَامِ طَاعَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَبَايَعَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَلّا يَسْأَلُوا النّاسَ شَيْئًا . [ ص 87 ] وَكَانَ السّوْطُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ فَيَنْزِلُ عَنْ دَابّتِهِ فَيَأْخُذُهُ وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيّاهُ
[ مَشُورَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِهَادِ ]
وَكَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ وَأَمْرِ الْعَدُوّ وَتَخَيّرَ الْمَنَازِلَ وَفِي " الْمُسْتَدْرَك ِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ يَتَخَلّفُ فِي سَاقَتِهِمْ فِي الْمَسِيرِ فَيُزْجِي الضّعِيفَ وَيُرْدِفُ الْمُنْقَطِعَ وَكَانَ أَرْفَقَ النّاسِ بِهِمْ فِي الْمَسِير وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرّى بِغَيْرِهَا فَيَقُولُ مَثَلًا إذَا أَرَادَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ : كَيْفَ طَرِيقُ نَجْدٍ وَمِيَاهُهَا وَمَنْ بِهَا مِنْ الْعَدُوّ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَانَ يَقُولُ الْحَرْبُ خَدْعَة [ ص 88 ] وَكَانَ يَبْعَثُ الْعُيُونَ يَأْتُونَهُ بِخَبَرِ عَدُوّهِ وَيُطْلِعُ الطّلَائِعَ وَيُبَيّتُ الْحَرَسَ وَكَانَ إذَا لَقِيَ عَدُوّهُ وَقَفَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ اللّهَ وَأَكْثَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ وَكَانَ يُرَتّبُ الْجَيْشَ وَالْمُقَاتِلَةَ وَيَجْعَلُ فِي كُلّ جَنَبَةٍ كُفْئًا لَهَا وَكَانَ يُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرِهِ وَكَانَ يَلْبَسُ لِلْحَرْبِ عُدّتَهُ وَرُبّمَا ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَكَانَ لَهُ الْأَلْوِيَةُ وَالرّايَات وَكَانَ إذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا ثُمّ قَفَل وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُغَيّرَ انْتَظَرَ فَإِنْ سَمِعَ فِي الْحَيّ مُؤَذّنًا لَمْ يُغِرْ وَإِلّا أَغَار وَكَانَ رُبّمَا بَيّتَ عَدُوّهُ وَرُبّمَا فَاجَأَهُمْ نَهَارًا وَكَانَ يُحِبّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَكْرَةَ النّهَار وَكَانَ الْعَسْكَرُ إذَا نَزَلَ [ ص 89 ] انْضَمّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ حَتّى لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ كِسَاءٌ لَعَمّهُمْ . وَكَانَ يُرَتّبُ الصّفُوفَ وَيُعَبّئُهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ تَقَدّمْ يَا فُلَانُ تَأَخّرْ يَا فُلَانُ وَكَانَ يَسْتَحِبّ لِلرّجُلِ مِنْهُمْ أَنْ يُقَاتِلَ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ .
[ دُعَاءُ لِقَاءِ الْعَدُوّ ]
وَكَانَ إذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَالَ اللّهُمّ مُنَزّلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَرُبّمَا قَالَ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ بَلْ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ وَكَانَ يَقُولُ اللّهُمّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ وَكَانَ يَقُولُ " اللّهُمّ أَنْتَ عَضُدِي وَأَنْتَ نَصِيرِي وَبِكَ أُقَاتِل وَكَانَ إذَا اشْتَدّ لَهُ بَأْسٌ وَحَمِيَ الْحَرْبُ وَقَصَدَهُ الْعَدُوّ يُعْلِمُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَكَانَ النّاسُ إذَا اشْتَدّ الْحَرْبُ اتّقَوْا بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَى الْعَدُوّ . [ ص 90 ] وَكَانَ يَجْعَلُ لِأَصْحَابِهِ شِعَارًا فِي الْحَرْبِ يُعْرَفُونَ بِهِ إذَا تَكَلّمُوا وَكَانَ شِعَارُهُمْ مَرّةً أَمِتْ أَمِتْ وَمَرّةً يَا مَنْصُورُ وَمَرّةً حم لَا يُنْصَرُون

[ عُدّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ ]
وَكَانَ يَلْبَسُ الدّرْعَ وَالْخُوذَةَ وَيَتَقَلّدُ السّيْفَ وَيَحْمِلُ الرّمْحَ وَالْقَوْسَ الْعَرَبِيّةَ وَكَانَ يَتَتَرّسُ بِالتّرْسِ وَكَانَ يُحِبّ الْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ وَقَالَ إنّ مِنْهَا مَا يُحِبّهُ اللّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللّهُ فَأَمّا الْخُيَلَاءُ الّتِي يُحِبّهَا اللّهُ فَاخْتِيَالُ الرّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللّقَاءِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصّدَقَةِ وَأَمّا الّتِي يُبْغِضُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ وَقَاتَلَ مَرّةً بِالْمَنْجَنِيقِ نَصَبَهُ عَلَى أَهْلِ الطّائِفِ . وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمُقَاتِلَةِ ، فَمَنْ رَآهُ أَنْبَتَ قَتَلَهُ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ اسْتَحْيَاهُ . [ ص 91 ] وَكَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيّةً يُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَيَقُولُ سِيرُوا بِسْمِ اللّهِ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ وَلَا تُمَثّلُوا ، وَلَا تَغْدُرُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَكَانَ يَنْهَى عَنْ السّفَرِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوّ .
[ الدّعْوَةُ قَبْلَ الْقَتْلِ ]
وَكَانَ يَأْمُرُ أَمِيرَ سَرِيّتِهِ أَنْ يَدْعُوَ عَدُوّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ إمّا إلَى الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ وَيَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ أَوْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا إلَيْهِ قَبِلَ مِنْهُمْ وَإِلّا اسْتَعَانَ بِاَللّهِ وَقَاتَلَهُمْ .
[ الْأَسْلَابُ وَالْغَنَائِمُ ]
وَكَانَ إذَا ظَفِرَ بِعَدُوّهِ أَمَرَ مُنَادِيًا ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ كُلّهَا ، فَبَدَأَ بِالْأَسْلَابِ فَأَعْطَاهَا لِأَهْلِهَا ، ثُمّ أَخْرَجَ خُمُسَ الْبَاقِي ، فَوَضَعَهُ حَيْثُ أَرَاهُ اللّهُ وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ ثُمّ يَرْضَخُ مِنْ الْبَاقِي لِمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ ثُمّ قَسَمَ الْبَاقِيَ بِالسّوِيّةِ بَيْنَ الْجَيْشِ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ الثّابِتُ عَنْهُ .
[ حُكْمُ الْأَنْفَالِ ]
وَكَانَ يُنَفّلُ مِنْ صُلْبِ الْغَنِيمَةِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَقِيلَ بَلْ كَانَ النّفَلُ مِنْ الْخُمُسِ ، وَقِيلَ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ بَلْ كَانَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ . وَجَمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ بَيْنَ سَهْمِ الرّاجِلِ وَالْفَارِسِ فَأَعْطَاهُ [ ص 92 ] عَدَا النّفَلِ . وَكَانَ إذَا أَغَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوّ ، بَعَثَ سَرِيّةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا غَنِمَتْ أَخْرَجَ خُمُسَهُ وَنَفّلَهَا رُبُعَ الْبَاقِي ، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَيْشِ وَإِذَا رَجَعَ فَعَلَ ذَلِكَ وَنَفّلَهَا الثّلُثَ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَكْرَهُ النّفَلَ وَيَقُولُ لِيَرُدّ قَوِيّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ و كَانَ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ يُدْعَى الصّفِيّ إنْ شَاءَ عَبْدًا ، وَإِنْ شَاءَ أَمَةً وَإِنْ شَاءَ فَرَسًا يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْخُمُسِ . [ ص 93 ] قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَتْ صَفِيّةُ مِنْ الصّفِيّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ إلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ إنّكُمْ إنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَأَقَمْتُمْ الصّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَأَدّيْتُمْ الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ وَسَهْمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَهْمَ الصّفِيّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَكَانَ سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ مِنْ الصّفِيّ .
[ السّهْمُ لِمَنْ غَابَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ]
وَكَانَ يُسْهِمُ لِمَنْ غَابَ عَنْ الْوَقْعَةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَسْهَمَ لِعُثْمَانَ سَهْمَهُ مِنْ بَدْرٍ ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا لِمَكَانِ تَمْرِيضِهِ لِامْرَأَتِهِ رُقَيّةَ ابْنَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " إنّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللّه ِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ فَضَرَبَ لَهُ سَهْمَهُ وَأَجْرَهُ .
[ التّجَارَةُ فِي الْغَزْوِ ]
وَكَانُوا يَشْتَرُونَ مَعَهُ فِي الْغَزْوِ وَيَبِيعُونَ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ وَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنّهُ رَبِحَ رِبْحًا لَمْ يَرْبَحْ أَحَدٌ مِثْلَهُ فَقَالَ مَا هُوَ ؟ قَالَ مَا زِلْتُ أَبِيعُ وَأَبْتَاعُ حَتّى رَبِحْتُ ثَلَاثَمِائَةِ أُوقِيّةٍ فَقَالَ أَنَا أُنَبّئُكَ بِخَيْرِ رَجُلٍ رَبِحَ قَالَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصّلَاةِ وَكَانُوا يَسْتَأْجِرُونَ الْأُجَرَاءَ لِلْغَزْوِ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْرُجَ الرّجُلُ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَخْدِمُهُ فِي سَفَرِهِ . وَالثّانِي : أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَخْرُجُ فِي [ ص 94 ] وَيُسَمّونَ ذَلِكَ الْجَعَائِلَ وَفِيهَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْغَازِي أَجْرُهُ وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي .
[ التّشَارُكُ فِي الْغَنِيمَةِ ]
وَكَانُوا يَتَشَارَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا . أَحَدُهُمَا : شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ وَالثّانِي : أَنْ يَدْفَعَ الرّجُلُ بَعِيرَهُ إلَى الرّجُلِ أَوْ فَرَسَهُ يَغْزُو عَلَيْهِ عَلَى النّصْفِ مِمّا يَغْنَمُ حَتّى رُبّمَا اقْتَسَمَا السّهْمَ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قِدْحَهُ وَالْآخَرُ نَصْلَهُ وَرِيشَهُ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمّارٌ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَبْعَثُ بِالسّرِيّةِ فُرْسَانًا تَارَةً وَرِجَالًا أُخْرَى ، وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ الْمَدَدِ بَعْدَ الْفَتْحِ .
فَصْلٌ [ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى ]
وَكَانَ يُعْطِي سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِب ِ دُونَ إخْوَتِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ ، وَقَالَ إنّمَا بَنُو الْمُطّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَقَالَ إنّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيّةٍ وَلَا إسْلَامٍ

فَصْلٌ [ لَا يُخَمّسُ الطّعَامُ ]
[ ص 95 ] وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُصِيبُونَ مَعَهُ فِي مَغَازِيهِمْ الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ وَالطّعَامَ فَيَأْكُلُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَهُ فِي الْمَغَانِمِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : إنّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا وَعَسَلًا ، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْخُمُس ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَانْفَرَدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّل ِ يَوْمَ خَيْبَرَ بِجِرَابِ شَحْمٍ وَقَالَ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَبَسّمَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا وَقِيلَ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى : كُنْتُمْ تُخَمّسُونَ الطّعَامَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَقَالَ أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَكَانَ الرّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمّ يَنْصَرِف وَقَالَ بَعْضُ الصّحَابَةِ " كُنّا نَأْكُلُ الْجَوْزَ فِي الْغَزْوِ ، وَلَا نَقْسِمُهُ حَتّى إنْ كُنّا لَنَرْجِعُ إلَى رِحَالِنَا وَأَجْرِبَتُنَا مِنْهُ مَمْلُوءَةٌ
فَصْلٌ [ حُكْمُ النّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ ]
وَكَانَ يَنْهَى فِي مَغَازِيهِ عَنْ النّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ وَقَالَ مَنْ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنّا [ ص 96 ] وَأَمَرَ بِالْقُدُورِ الّتِي طُبِخَتْ مِنْ النّهْبَى فَأُكْفِئَتْ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ النّاسَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ وَأَصَابُوا غَنَمًا ، فَانْتَهَبُوهَا وَإِنّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي إذْ جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمْشِي عَلَى قَوْسِهِ فَأَكْفَأَ قُدُورَنَا بِقَوْسِهِ ثُمّ جَعَلَ يُرْمِلُ اللّحْمَ بِالتّرَابِ ثُمّ قَالَ " إنّ النّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلّ مِنْ الْمَيْتَةِ ، أَوْ إنّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلّ مِنْ النّهْبَة
[ النّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْفَيْءِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ ]
وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَرْكَبَ الرّجُلُ دَابّةً مِنْ الْفَيْءِ حَتّى إذَا أَعْجَفَهَا ، رَدّهَا فِيهِ وَأَنْ يَلْبَسَ الرّجُلُ ثَوْبًا مِنْ الْفَيْءِ حَتّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدّهُ فِيهِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الْحَرْبِ .
فَصْلٌ [ الْغُلُولُ ]
وَكَانَ يُشَدّدُ فِي الْغُلُولِ جِدّا ، وَيَقُولُ هُوَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ ص 97 ] أُصِيبَ غُلَامُهُ مِدْعَمٌ قَالُوا : هَنِيئًا لَهُ الْجَنّةُ قَالَ كَلّا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّ الشّمْلَةَ الّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا " فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ لَمّا سَمِعَ ذَلِكَ فَقَالَ " شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظّمَهُ وَعَظّمَ أَمْرَهُ فَقَالَ لَا أُلْفِيَنّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللّهِ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَقَالَ لِمَنْ كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ وَقَدْ مَاتَ هُوَ فِي النّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلّهَا وَقَالُوا فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ فُلَانٌ شَهِيدٌ وَفُلَانٌ شَهِيدٌ حَتّى مَرّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا : وَفُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ كَلّا إنّي رَأَيْتُهُ فِي النّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اذْهَبْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النّاسِ إنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إلّا الْمُؤْمِنُونَ [ ص 98 ] وَتُوُفّيَ رَجُلٌ يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ صَلّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَتَغَيّرَتْ وُجُوهُ النّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ إنّ صَاحِبَكُمْ غَلّ فِي سَبِيلِ اللّهِ شَيْئًا فَفَتّشُوا مَتَاعَهُ فَوَجَدُوا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ وَكَانَ إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا ، فَنَادَى فِي النّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمّسُهُ وَيَقْسِمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " سَمِعْتَ بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا ؟ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ ؟ " فَاعْتَذَرَ فَقَالَ " كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ
فَصْلٌ [ تَحْرِيقُ مَتَاعِ الْغَالّ وَضَرْبُهُ ]
وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الْغَالّ وَضَرْبِهِ ، وَحَرَقَهُ الْخَلِيفَتَانِ الرّاشِدَانِ بَعْدَهُ [ ص 99 ] فَقِيلَ هَذَا مَنْسُوخٌ بِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الّتِي ذَكَرْتُ فَإِنّهُ لَمْ يَجِئْ التّحْرِيقُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، وَقِيلَ - وَهُوَ الصّوَابُ - إنّ هَذَا مِنْ بَابِ التّعْزِيزِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيّةِ الرّاجِعَةِ إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمّةِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِنّهُ حَرَقَ وَتَرَكَ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَنَظِيرُ هَذَا قَتْلُ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الثّالِثَةِ أَوْ الرّابِعَةِ فَلَيْسَ بِحَدّ وَلَا مَنْسُوخٍ وَإِنّمَا هُوَ تَعْزِيزٌ يَتَعَلّقُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ .

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأُسَارَى
كَانَ يَمُنّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ وَيُفَادِي بَعْضَهُمْ بِالْمَالِ وَبَعْضَهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلّهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَفَادَى أُسَارَى بَدْرٍ بِمَالٍ وَقَالَ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيّا ، ثُمّ كَلّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النّتْنَى ، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ [ ص 100 ] وَهَبَطَ عَلَيْهِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ثَمَانُونَ مُتَسَلّحُونَ يُرِيدُونَ غِرّتَهُ فَأَسَرَهُمْ ثُمّ مَنّ عَلَيْهِمْ . وَأَسَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ سَيّدَ بَنِي حَنِيفَةَ ، فَرَبَطَهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمّ أَطْلَقَهُ فَأَسْلَمَ .
[ أُسَارَى بَدْرٍ ]
وَاسْتَشَارَ الصّحَابَةَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الصّدّيقُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَهُمْ قُوّةً عَلَى عَدُوّهِمْ وَيُطْلِقَهُمْ لَعَلّ اللّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ عُمَرُ : لَا وَاَللّهِ مَا أَرَى الّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنّ هَؤُلَاءِ أَئِمّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا ، فَهَوِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَقْبَلَ عُمَرُ فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَبْكِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ أَيّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْكِي لِلّذِي عَرَضَ عَلَيّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ ، وَأَنْزَلَ اللّهُ { مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } [ الْأَنْفَالُ 67 ] . [ ص 101 ] تَكَلّمَ النّاسُ فِي أَيّ الرّأْيَيْنِ كَانَ أَصْوَبَ فَرَجّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ عُمَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَرَجّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ لِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ الّذِي سَبَقَ مِنْ اللّهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمُوَافَقَتِهِ الرّحْمَةَ الّتِي غَلَبَتْ الْغَضَبَ وَلِتَشْبِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى ، وَتَشْبِيهِهِ لِعُمَرَ بِنُوحٍ وَمُوسَى وَلِحُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ الّذِي حَصَلَ بِإِسْلَامِ أَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى ، وَلِخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِحُصُولِ الْقُوّةِ الّتِي حَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِدَاءِ وَلِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بَكْرٍ أَوّلًا ، وَلِمُوَافَقَةِ اللّهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرّ الْأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ وَلِكَمَالِ نَظَرِ الصّدّيقِ فَإِنّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللّهِ آخِرًا ، وَغَلّبَ جَانِبَ الرّحْمَةِ عَلَى جَانِبِ الْعُقُوبَةِ . قَالُوا : وَأَمّا بُكَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّمَا كَانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدّنْيَا ، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الصّحَابَةِ فَالْفِتْنَةُ كَانَتْ تَعُمّ وَلَا تُصِيبُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ خَاصّةً كَمَا هُزِمَ الْعَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ ( لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ ) وَبِإِعْجَابِ كَثْرَتِهِمْ لِمَنْ أَعْجَبَتْهُ مِنْهُمْ فَهُزِمَ الْجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً ثُمّ اسْتَقَرّ الْأَمْرُ عَلَى النّصْرِ وَالظّفْرِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَاسْتَأْذَنَهُ الْأَنْصَارُ أَنْ يَتْرُكُوا لِلْعَبّاسِ عَمّهِ فِدَاءَهُ فَقَالَ " لَا تَدَعُوا مِنْهُ دِرْهَمًا وَاسْتَوْهَبَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً نَفَلَهُ إيّاهَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ [ ص 102 ] فَوَهَبَهَا لَهُ فَبَعَثَ بِهَا إلَى مَكّةَ ، فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ عُقَيْلٍ وَرَدّ سَبْيَ هَوَازِنَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَاسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فَطَيّبُوا لَهُ وَعَوّضَ مَنْ لَمْ يُطَيّبْ مِنْ ذَلِكَ بِكُلّ إنْسَانٍ سِتّ فَرَائِضَ وَقَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ الْأَسْرَى ، وَقَتَلَ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ لِشِدّةِ عَدَاوَتِهِمَا لِلّهِ وَرَسُولِهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَسْرَى لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ بِالْعَمَلِكَمَا يَجُوزُ بِالْمَالِ .
[ الِاسْتِرْقَاقُ ]
وَكَانَ هَدْيُهُ أَنّ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ لَمْ يُسْتَرَقّ وَكَانَ يَسْتَرِقّ سَبْيَ الْعَرَبِ ، كَمَا يَسْتَرِقّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ سَبِيّةٌ مِنْهُمْ فَقَالَ أَعْتِقِيهَا فَإِنّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ [ ص 103 ] الطّبَرَانِيّ مَرْفُوعًا : مَنْ كَانَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ ، فَلْيَعْتِقْ مِنْ بَلْعَنْبَرَ وَلَمّا قَسَمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَقَعَتْ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السّبْيِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ ، فَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَتَهَا وَتَزَوّجَهَا ، فَأُعْتِقَ بِتَزَوّجِهِ إيّاهَا مِئَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ إكْرَامًا لِصِهْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهِيَ مِنْ صَرِيحِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَتَوَقّفُونَ فِي وَطْءِ سَبَايَا الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ كَانُوا يَطَئُونَهُنّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَبَاحَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْإِسْلَامَ بَلْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النّسَاءُ 24 ] فَأَبَاحَ وَطْءَ مِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ وَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، لَمّا اسْتَوْهَبَهُ الْجَارِيَةَ الْفَزَارِيّةَ مِنْ السّبْيِ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي ، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا وَلَوْ كَانَ وَطْؤُهَا حَرَامًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ مَعْنًى ، وَلَمْ تَكُنْ قَدْ أَسْلَمَتْ لِأَنّهُ قَدْ فَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَكّةَ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُفَادَى بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَعْرِفُ فِي أَثَرٍ وَاحِدٍ قَطّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فِي وَطْءِ الْمَسْبِيّةِ فَالصّوَابُ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ هَدْيُهُ وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ ، وَوَطْءُ إمَائِهِنّ الْمَسْبِيّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ .
فَصْلٌ [ لَا يُفَرّقُ فِي السّبْيِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمْنَعُ التّفْرِيقَ فِي السّبْيِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا ، وَيَقُولُ مَنْ فَرّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا ، فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَانَ يُؤْتَى بِالسّبْيِ فَيُعْطِي أَهْلَ الْبَيْتِ جَمِيعًا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمْ . [ ص 104 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِيمَنْ جَسّ عَلَيْه
ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَتَلَ جَاسُوسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ لَمْ يَقْتُلْ حَاطِبًا ، وَقَدْ جَسّ عَلَيْهِ وَاسْتَأْذَنَهُ عُمَرُ فِي قَتْلِهِ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ اللّهَ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَاسْتَدَلّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْجَاسُوسِ كَالشّافِعِيّ ، وَأَحْمَدَ ، وَأَبِي حَنِيفَة َ رَحِمَهُمْ اللّهُ وَاسْتَدَلّ بِهِ مَنْ يَرَى قَتْلَهُ كَمَالِكٍ ، وَابْنِ عُقَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : لِأَنّهُ عُلّلَ بِعِلّةٍ مَانِعَةٍ مِنْ الْقَتْلِ مُنْتَفِيَةٍ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِ لَمْ يُعَلّلْ بِأَخَصّ مِنْهُ لِأَنّ الْحُكْمَ إذَا عُلّلَ بِالْأَعَمّ كَانَ الْأَخَصّ عَدِيمَ التّأْثِيرِ وَهَذَا أَقْوَى . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
[ ص 105 ] وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِتْقَ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا ، وَيَقُولُ هُمْ عُتَقَاءُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ
[ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ فَهُوَ لَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى سَبَبِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ]
وَكَانَ هَدْيُهُ أَنّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ فَهُوَ لَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى سَبَبِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بَلْ يُقِرّهُ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ يُضَمّنُ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَسْلَمُوا مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ حَالَ الْحَرْبِ وَلَا قَبْلَهُ وَعَزَمَ الصّدّيقُ عَلَى تَضْمِينِ الْمُحَارَبِينَ مِنْ أَهْلِ الرّدّةِ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَقَالَ عُمَرُ تِلْكَ دِمَاءٌ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللّهِ وَلَا دِيَةَ لِشَهِيدٍ فَاتّفَقَ الصّحَابَةُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا يَرُدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْيَانَ أَمْوَالِهِمْ الّتِي أَخَذَهَا مِنْهُمْ الْكُفّارُ قَهْرًا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يَتَعَرّضُونَ لَهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ هَذَا هَدْيُهُ الّذِي لَا شَكّ فِيهِ . وَلَمّا فَتَحَ مَكّةَ ، قَامَ إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ دُورَهُمْ الّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَارَهُ وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ تَرَكُوهَا لِلّهِ وَخَرَجُوا عَنْهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ فَأَعَاضَهُمْ عَنْهَا دُورًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيمَا تَرَكُوهُ لِلّهِ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يُرَخّصْ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكّةَ بَعْدَ نُسُكِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِأَنّهُ قَدْ تَرَكَ بَلَدَهُ لِلّهِ وَهَاجَرَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ يَسْتَوْطِنُهُ وَلِهَذَا رَثَى لِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ ، وَسَمّاهُ بَائِسًا أَنْ مَاتَ بِمَكّةَ وَدُفِنَ بِهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا . [ ص 106 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ
ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَسَمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَة وَبَنِي النّضِير وَخَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَمّا الْمَدِينَةُ ، فَفُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ وَأَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا ، فَأُقِرّتْ بِحَالِهَا . وَأَمّا مَكّةُ ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا ، فَأَشْكَلَ عَلَى كُلّ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ فَتْحِهَا عَنْوَةً وَتَرْكِ قِسْمَتِهَا ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِأَنّهَا دَارُ الْمَنَاسِكِ وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلّهِمْ وَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا ، ثُمّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهَا وَإِجَارَتَهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوّزَ بَيْعَ رِبَاعِهَا ، وَمَنَعَ إجَارَتَهَا ، وَالشّافِعِيّ لَمّا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعَنْوَةِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْقِسْمَةِ قَالَ إنّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْسَمْ . قَالَ وَلَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَكَانَتْ غَنِيمَةً فَيَجِبُ قِسْمَتُهَا كَمَا تَجِبُ قِسْمَةُ الْحَيَوَانِ وَالْمَنْقُولِ وَلَمْ يَرَ بَأْسًا مِنْ بَيْعِ رُبَاعِ مَكّةَ ، وَإِجَارَتِهَا ، وَاحْتَجّ بِأَنّهَا مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا تُورَثُ عَنْهُمْ وَتُوهَبُ وَقَدْ أَضَافَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ إلَيْهِمْ إضَافَةَ الْمِلْكِ إلَى مَالِكِهِ وَاشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ دَارًا مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِك بِمَكّةَ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ ، فَلَمّا كَانَ أَصْلُ الشّافِعِيّ أَنّ الْأَرْضَ مِنْ الْغَنَائِمِ وَأَنّ الْغَنَائِمَ تَجِبُ [ ص 107 ] مَكّةَ تُمْلَكُ وَتُبَاعُ وَرِبَاعُهَا وَدُورُهَا لَمْ تُقْسَمْ لَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ الْقَوْلِ بِأَنّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا .
[ هَلْ الْأَرْضُ تَدْخُلُ فِي الْغَنَائِمِ ]
لَكِنْ مَنْ تَأَمّلَ الْأَحَادِيثَ الصّحِيحَةَ وَجَدَهَا كُلّهَا دَالّةً عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . ثُمّ اخْتَلَفُوا لِأَيّ شَيْءٍ لَمْ يَقْسِمْهَا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِأَنّهَا دَارُ النّسُكِ وَمَحَلّ الْعِبَادَةِ فَهِيَ وَقْفٌ مِنْ اللّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْإِمَامُ مُخَيّرٌ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَبَيْنَ وَقْفِهَا ، وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ ، وَلَمْ يَقْسِمْ مَكّةَ ، فَدَلّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ . قَالُوا : وَالْأَرْضُ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَنَائِمِ الْمَأْمُورِ بِقِسْمَتِهَا ، بَلْ الْغَنَائِمُ هِيَ الْحَيَوَانُ وَالْمَنْقُولُ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى لَمْ يُحِلّ الْغَنَائِمَ لِأُمّةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمّةِ وَأَحَلّ لَهُمْ دِيَارَ الْكُفْرِ وَأَرْضَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } [ الْمَائِدَةُ 20 21 ، ] وَقَالَ فِي دِيَارِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَرْضِهِمْ { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشّعَرَاءُ 59 ] فَعُلِمَ أَنّ الْأَرْضَ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْإِمَامُ مُخَيّرٌ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَقَدْ قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَرَكَ وَعُمَرُ لَمْ يَقْسِمْ بَلْ أَقَرّهَا عَلَى حَالِهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرّا فِي رَقَبَتِهَا يَكُونُ لِلْمُقَاتِلَةِ فَهَذَا مَعْنَى وَقْفِهَا ، لَيْسَ مَعْنَاهُ الْوَقْفَ الّذِي يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الرّقَبَةِ بَلْ يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ كَمَا هُوَ عَمَلُ الْأُمّةِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنّهَا تُورَثُ وَالْوَقْفُ لَا يُورَثُ وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنّهَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ صَدَاقًا ، وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فِي النّكَاحِ وَلِأَنّ الْوَقْفَ إنّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهُ وَنَقْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ حَقّ الْبُطُونِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنْفَعَتِهِ وَالْمُقَاتِلَةِ حَقّهُمْ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ فَمَنْ اشْتَرَاهَا صَارَتْ عِنْدَهُ خَرَاجِيّةً كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ سَوَاءً فَلَا يَبْطُلُ حَقّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْبَيْعِ كَمَا لَمْ يَبْطُلْ بِالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ وَالصّدَاقِ وَنَظِيرُ هَذَا بَيْعُ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ الْحُرّيّةِ بِالْكِتَابَةِ فَإِنّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي مُكَاتَبًا كَمَا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَا يَبْطُلُ مَا انْعَقَدَ فِي حَقّهِ مِنْ سَبَبِ الْعِتْقِ بِبَيْعِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 108 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ نِصْفَ أَرْضِ خَيْبَرَ خَاصّةً وَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْغَنِيمَةِ لَقَسَمَهَا كُلّهَا بَعْدَ الْخُمُسِ فَفِي " السّنَنِ " و " الْمُسْتَدْرَكِ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، جَمَعَ كُلّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ النّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ النّاسِ هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَفِي لَفْظٍ عَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَهُوَ الشّطْرُ لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ الْوَطِيحَ وَالْكُتَيْبَةَ ، وَالسّلَالِمَ وَتَوَابِعَهَا . وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا : عَزَلَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَمَا نَزَلَ بِهِ : الْوَطْحِيّةَ وَالْكُتَيْبَةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَعَزَلَ النّصْفَ الْآخَرَ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الشّقّ وَالنّطَاةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَكَانَ سَهْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُحِيزَ مَعَهُمَا

فَصْلٌ [ الْأَدِلّةُ عَلَى أَنّ مَكّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ]
وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى أَنّ مَكّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وُجُوهٌ أَحَدُهَا : أَنّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ صَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ وَإِنّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ . وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ يَقُلْ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَإِنّ الصّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامّ . [ ص 109 ] الثّانِي : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ اللّهَ حَبَسَ عَنْ مَكّةَ الْفِيلَ ، وَسَلّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنّهُ أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَفِي لَفْظٍ إنّهَا لَا تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَنْ تَحِلّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنّمَا أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَفِي لَفْظٍ فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا : إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَأَيْضًا ، فَإِنّهُ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ أَنّهُ جَعَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَى ، وَجَعَلَ الزّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسّرِ وَبَطْنِ الْوَادِي ، فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اُدْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ اُنْظُرُوا إذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصُدُوهُمْ حَصْدًا ، وَأَخْفَى بِيَدِهِ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَقَالَ مَوْعِدُكُمْ الصّفَا ، قَالَ فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إلّا أَنَامُوهُ وَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفَا ، وَجَاءَتْ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصّفَا ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ . [ ص 110 ] وَأَيْضًا ، فَإِنّ أُمّ هَانِئٍ أَجَارَتْ رَجُلًا ، فَأَرَادَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَتْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا : لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّةَ ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي ، فَأَدْخَلْتهمَا بَيْتًا ، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابًا ، فَجَاءَ ابْنُ أُمّي عَلِيّ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا بِالسّيْفِ فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ وَذَلِكَ ضُحًى بِجَوْفِ مَكّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ . فَإِجَارَتُهَا لَهُ وَإِرَادَةُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ وَإِمْضَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إجَارَتَهَا صَرِيحٌ فِي أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَقِيسِ بْنِ صُبَابَةَ ، وَابْنِ خَطَلٍ ، وَجَارِيَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ عَقْدِ الصّلْحِ وَأَيْضًا فَفِي " السّنَنِ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّةَ ، قَالَ أَمّنُوا النّاسَ إلّا امْرَأَتَيْنِ ، وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ . اُقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ [ الْإِقَامَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ ]
وَمَنَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إقَامَةِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ إذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَلِمَ ؟ قَالَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا . [ ص 111 ] وَقَالَ مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ . وَقَالَ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتّى تَنْقَطِعَ التّوْبَةُ ، وَلَا تَنْقَطِعُ التّوْبَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقَالَ سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا ، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللّهِ وَتَحْشُرُهُمْ النّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ . [ ص 112 ]

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الْأَمَانِ وَالصّلْحِ وَمُعَامَلَةِ رُسُلِ الْكُفّارِ
وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَمُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَإِجَارَةِ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْكُفّارِ حَتّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ وَرَدّهِ إلَى مَأْمَنِهِ وَوَفَائِهِ بِالْعَهْدِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْغَدْرِ ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ ذِمّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ [ ص 113 ] وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلّنّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدّهَا حَتّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَقَالَ مَنْ أَمّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْقَاتِلِ وَفِي لَفْظٍ أُعْطِي لِوَاءَ غَدْرَةُ وَقَالَ لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَهُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ [ ص 114 ] وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلّا أُدِيلَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ

فَصْلٌ [ تَقْرِيرُ مَصِيرِ الْكُفّارِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، صَارَ الْكُفّارُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ صَالَحَهُمْ وَوَادَعَهُمْ عَلَى أَلّا يُحَارِبُوهُ وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوّهُ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ آمِنُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . وَقِسْمٌ حَارَبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ . وَقِسْمٌ تَارَكُوهُ فَلَمْ يُصَالِحُوهُ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ بَلْ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَعْدَائِهِ ثُمّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبّ ظُهُورَهُ وَانْتِصَارَهُ فِي الْبَاطِنِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحِبّ ظُهُورَ عَدُوّهِ عَلَيْهِ وَانْتِصَارَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظّاهِرِ وَهُوَ مَعَ عَدُوّهِ فِي الْبَاطِنِ لِيَأْمَنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُنَافِقُونَ فَعَامَلَ كُلّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطّوَائِفِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
[ مُحَارَبَةُ بَنُو قَيْنُقَاعَ لِلْمُسْلِمِينَ ]
فَصَالَحَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابَ أَمْنٍ وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ : بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَبَنِي النّضِيرِ ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، فَحَارَبَتْهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْر ٍ ، وَشَرَقُوا بِوَقْعَةِ بَدْر ٍ ، [ ص 115 ] فَسَارَتْ إلَيْهِمْ جُنُودُ اللّهِ يَقْدُمُهُمْ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ يَوْمَ السّبْتِ لِلنّصْفِ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ وَكَانَ حُلَفَاءُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولَ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا أَشْجَعَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِر ِ ، وَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً إلَى هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ وَهُمْ أَوّلُ مَنْ حَارَبَ مِنْ الْيَهُودِ ، وَتَحَصّنُوا فِي حُصُونِهِمْ فَحَاصَرَهُمْ أَشَدّ الْحِصَارِ وَقَذَفَ اللّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ الّذِي إذَا أَرَادَ خِذْلَانَ قَوْمٍ وَهَزِيمَتَهُمْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ وَقَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذُرّيّتِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَكُتّفُوا ، وَكَلّمَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ فِيهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَلَحّ عَلَيْهِ فَوَهَبَهُمْ لَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَلَا يُجَاوِرُوهُ بِهَا ، فَخَرَجُوا إلَى أَذْرُعَاتٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَقَلّ أَنْ لَبِثُوا فِيهَا حَتّى هَلَكَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانُوا صَاغَةً وَتُجّارًا ، وَكَانُوا نَحْوَ السّتّمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَكَانَتْ دَارُهُمْ فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ ، وَقَبَضَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ قِسِيّ وَدِرْعَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ وَثَلَاثَةَ رِمَاحٍ وَخَمّسَ غَنَائِمَهُمْ وَكَانَ الّذِي تَوَلّى جَمْعَ الْغَنَائِمِ مُحَمّدُ بْن مَسْلَمَةَ .

فَصْلٌ [ نَقْضُ بَنِي النّضِيرِ الْعَهْدَ ]
ثُمّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو النّضِيرِ ، قَالَ الْبُخَارِيّ : وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ قَالَهُ عُرْوَةُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ إلَيْهِمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَكَلّمَهُمْ أَنْ يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، فَقَالُوا : نَفْعَلُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ اجْلِسْ هَا هُنَا [ ص 116 ] نَقْضِيَ حَاجَتَك ، وَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَسَوّلَ لَهُمْ الشّيْطَانُ الشّقَاء الّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ فَتَآمَرُوا بِقَتْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالُوا : أَيّكُمْ يَأْخُذُ هَذِهِ الرّحَا وَيَصْعَدُ فَيُلْقِيهَا عَلَى رَأْسِهِ يَشْدَخُهُ بِهَا ؟ فَقَالَ أَشْقَاهُمْ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ : أَنَا ، فَقَالَ لَهُمْ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ : لَا تَفْعَلُوا فَوَاَللّهِ لَيُخَبّرَنّ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ وَإِنّهُ لَنَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَجَاءَ الْوَحْيُ عَلَى الْفَوْرِ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا هَمّوا بِهِ فَنَهَضَ مُسْرِعًا ، وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَحِقَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا : نَهَضْتَ وَلَمْ نَشْعُرْ بِكَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا هَمّتْ يَهُودُ بِهِ وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا ، وَقَدْ أَجّلْتُكُمْ عَشْرًا ، فَمَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِهَا ، ضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَأَقَامُوا أَيّامًا يَتَجَهّزُونَ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللّه بْنُ أُبَيّ : أَنْ لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ ، وَطَمَعَ رَئِيسُهُمْ حَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِيمَا قَالَ لَهُ وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك ، فَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ وَنَهَضُوا إلَيْهِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَحْمِلُ اللّوَاءَ فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِمْ قَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ يَرْمُونَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ وَخَانَهُمْ ابْنُ أُبَيّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ ، وَلِهَذَا شَبّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قِصّتَهُمْ وَجَعَلَ مَثَلَهُمْ { كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنْكَ } [ الْحَشْرُ 16 ] ، فَإِنّ سُورَةَ الْحَشْرِ هِيَ سُورَةُ بَنِي النّضِيرِ ، وَفِيهَا مَبْدَأُ قِصّتِهِمْ وَنِهَايَتُهَا ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَطَعَ نَخْلَهُمْ وَحَرّقَ ، فَأَرْسَلُوا إلَيْهَا : نَحْنُ نَخْرُجُ عَنْ الْمَدِينَةِ ، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهَا بِنُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَأَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا السّلَاحَ وَقَبَضَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَمْوَالَ وَالْحَلْقَةَ وَهِيَ السّلَاحُ وَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِنَوَائِبِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَمّسْهَا لِأَنّ اللّهَ أَفَاءَهَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ . [ ص 117 ] وَخَمّسَ قُرَيْظَةَ . قَالَ مَالِكٌ : خَمّسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُرَيْظَةَ ، وَلَمْ يُخَمّسْ بَنِي النّضِيرِ . لِأَنّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِفُوا بِخَيْلِهِمْ وَلَا رِكَابِهِمْ عَلَى بَنِي النّضِير ِ كَمَا أَوْجَفُوا عَلَى قُرَيْظَةَ وَأَجْلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ ، وَفِيهِمْ حَيّ بْنُ أَخْطَبَ كَبِيرُهُمْ وَقَبَضَ السّلَاحَ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَوَجَدَ مِنْ السّلَاحِ خَمْسِينَ دِرْعًا ، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ وَكَانَتْ قِصّتُهُمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ .

فَصْلٌ [ نَقْضُ قُرَيْظَةَ الْعَهْد ]َ
وَأَمّا قُرَيْظَةُ فَكَانَتْ أَشَدّ الْيَهُودِ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَغْلَظَهُمْ كُفْرًا ، وَلِذَلِك جَرَى عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى إخْوَانِهِمْ . وَكَانَ سَبَبُ غَزْوِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا خَرَجَ إلَى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ صُلْحٌ جَاءَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ إلَى بَنِي قُرَيْظَة َ فِي دِيَارِهِمْ فَقَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِعِزّ الدّهْرِ جِئْتُكُمْ بِقُرَيْشٍ عَلَى سَادَتِهَا ، وَغَطَفَان ُ عَلَى قَادَتِهَا ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الشّوْكَةِ وَالسّلَاحِ فَهَلُمّ حَتّى نُنَاجِزَ مُحَمّدًا وَنَفْرُغَ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ رَئِيسُهُمْ بَلْ جِئْتنِي وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ جِئْتنِي بِسَحَابٍ قَدْ أَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوَ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ فَلَمْ يَزَلْ حُيَيّ يُخَادِعُهُ وَيَعِدُهُ وَيُمَنّيهِ حَتّى أَجَابَهُ [ ص 118 ] أَصَابَهُمْ فَفَعَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَظْهَرُوا سَبّهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ فَأَرْسَلَ يَسْتَعْلِمُ الْأَمْرَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَكَبّرَ وَقَالَ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
[ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُصَلّيَن أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ]
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لَمْ يَكُنْ إلّا أَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ أَوَضَعْتَ السّلَاحَ وَاَللّهِ إنّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا ؟ فَانْهَضْ بِمَنْ مَعَكَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَإِنّي سَائِرٌ أَمَامَك أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ فَسَارَ جِبْرِيلُ فِي مَوْكِبِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَثَرِهِ فِي مَوْكِبِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَلّيَن أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَبَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهَضُوا مِنْ فَوْرِهِمْ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْعَصْرُ فِي الطّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلّيهَا إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا أُمِرْنَا ، فَصَلّوْهَا بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُرِدْ مِنّا ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ الْخُرُوجِ فَصَلّوْهَا فِي الطّرِيقِ فَلَمْ يُعَنّفْ وَاحِدَةً مِنْ الطّائِفَتَيْنِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيّهُمَا كَانَ أَصْوَبَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الّذِينَ أَخّرُوهَا هُمْ الْمُصِيبُونَ وَلَوْ كُنّا مَعَهُمْ لَأَخّرْنَاهَا كَمَا أَخّرُوهَا ، وَلَمَا صَلّيْنَاهَا إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَتَرْكًا لِلتّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لِلظّاهِرِ . [ ص 119 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ الّذِينَ صَلّوْهَا فِي الطّرِيقِ فِي وَقْتِهَا حَازُوا قَصَبَ السّبْقِ وَكَانُوا أَسْعَدَ بِالْفَضِيلَتَيْنِ فَإِنّهُمْ بَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي الْخُرُوجِ وَبَادَرُوا إلَى مَرْضَاتِهِ فِي الصّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، ثُمّ بَادَرُوا إلَى اللّحَاقِ بِالْقَوْمِ فَحَازُوا فَضِيلَةَ الْجِهَادِ وَفَضِيلَةَ الصّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، وَفَهِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ وَكَانُوا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِينَ وَلَا سِيّمَا تِلْكَ الصّلَاةَ فَإِنّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَهِيَ الصّلَاةُ الْوُسْطَى بِنَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّحِيحِ الصّرِيحِ الّذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ وَلَا مَطْعَنَ فِيهِ وَمَجِيءِ السّنّةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا ، وَالتّبْكِيرِ بِهَا ، وَأَنّ مَنْ فَاتَتْهُ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ أَوْ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَاَلّذِي جَاءَ فِيهَا أَمْرٌ لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا ، وَأَمّا الْمُؤَخّرُونَ لَهَا ، فَغَايَتُهُمْ أَنّهُمْ مَعْذُورُونَ بَلْ مَأْجُورُونَ أَجْرًا وَاحِدًا لِتَمَسّكِهِمْ بِظَاهِرِ النّصّ وَقَصْدِهِمْ امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَأَمّا أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُصِيبِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَنْ بَادَرَ إلَى الصّلَاةِ وَإِلَى الْجِهَادِ مُخْطِئًا ، فَحَاشَا وَكَلّا ، وَاَلّذِينَ صَلّوْا فِي الطّرِيقِ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَدِلّةِ وَحَصّلُوا الْفَضِيلَتَيْنِ فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَالْآخَرُونَ مَأْجُورُونَ أَيْضًا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . فَإِنْ قِيلَ كَانَ تَأْخِيرُ الصّلَاةِ لِلْجِهَادِ حِينَئِذٍ جَائِزًا مَشْرُوعًا ، وَلِهَذَا كَانَ عَقِبَ تَأْخِيرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى اللّيْلِ فَتَأْخِيرُهُمْ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَى اللّيْلِ كَتَأْخِيرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى اللّيْلِ سَوَاءٌ وَلَا سِيّمَا أَنّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ شُرُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ . قِيلَ هَذَا سُؤَالٌ قَوِيّ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ لَمْ يَثْبُتْ أَنّ تَأْخِيرَ الصّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ جَائِزًا بَعْدَ بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إلّا قِصّةُ الْخَنْدَق ِ ، فَإِنّهَا هِيَ الّتِي اسْتَدَلّ بِهَا مَنْ قَالَ [ ص 120 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ عَنْ عَمْدٍ بَلْ لَعَلّهُ كَانَ نِسْيَانًا ، وَفِي الْقِصّةِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَإِنّ عُمَرَ لَمّا قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كِدْت أُصَلّي الْعَصْرَ حَتّى كَادَتْ الشّمْسُ تَغْرُبُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَاَللّهِ مَا صَلّيْتُهَا ثُمّ قَامَ فَصَلّاهَا . وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ نَاسِيًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشّغُلِ وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْعَدُوّ الْمُحِيطِ بِهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ أَخّرَهَا بِعُذْرِ النّسْيَانِ كَمَا أَخّرَهَا بِعُذْرِ النّوْمِ فِي سَفَرِهِ وَصَلّاهَا بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ وَبَعْدَ ذِكْرِهِ لِتَتَأَسّى أُمّتُهُ بِهِ . وَالْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنّمَا هُوَ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْمُسَايَفَةِ عِنْدَ الدّهْشِ عَنْ تَعَقّلِ أَفْعَالِ الصّلَاةِ وَالْإِتْيَانِ بِهَا ، وَالصّحَابَةُ فِي مَسِيرِهِمْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بَلْ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَسْفَارِهِمْ إلَى الْعَدُوّ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ وَمَعْلُومٌ أَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخّرُونَ الصّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ، وَلَمْ تَكُنْ قُرَيْظَةُ مِمّنْ يُخَافُ فَوْتُهُمْ فَإِنّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِدَارِهِمْ فَهَذَا مُنْتَهَى أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ
وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّايَةَ عَلَيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَنَازَلَ حُصُونَ بَنِي قُرَيْظَة َ وَحَصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَئِيسُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ثَلَاثَ خِصَالٍ إمّا أَنْ يُسْلِمُوا وَيَدْخُلُوا مَعَ مُحَمّدٍ فِي دِينِهِ وَإِمّا أَنْ يَقْتُلُوا ذَرَارِيّهُمْ وَيَخْرُجُوا إلَيْهِ بِالسّيُوفِ مُصْلَتَةً يُنَاجِزُونَهُ حَتّى يَظْفَرُوا بِهِ أَوْ يُقَتّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَإِمّا أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ [ ص 121 ] فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبُوهُ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ فَبَعَثُوا إلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِر ِ نَسْتَشِيرُهُ فَلَمّا رَأَوْهُ قَامُوا فِي وَجْهِهِ يَبْكُونَ وَقَالُوا : يَا أَبَا لُبَابَة َ كَيْفَ تَرَى لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمّدٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ يَقُولُ إنّهُ الذّبْحُ ثُمّ عَلِمَ مِنْ فَوْرِهِ أَنّهُ قَدْ خَانَ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَتَى الْمَسْجِدَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ وَحَلَفَ أَلّا يَحِلّهُ إلّا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ وَأَنّهُ لَا يَدْخُلُ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا ، فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ قَالَ دَعُوهُ حَتّى يَتُوبَ اللّهُ عَلَيْه ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ وَحَلّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ ثُمّ إنّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَتْ إلَيْهِ الْأَوْسُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ فَعَلْتَ فِي بَنِي قَيْنُقَاع َ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَهُمْ حُلَفَاءُ إخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ ، وَهَؤُلَاءِ مَوَالِينَا ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ فَقَالَ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُم قَالُوا : بَلَى . قَال : فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ . قَا لُوا : قَدْ رَضِينَا ، فَأَرْسَلَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ لِجُرْحٍ كَانَ بِهِ فَأُرْكِبَ حِمَارًا وَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ وَهُمْ كَنَفَتَاهُ يَا سَعْدُ أَجْمِلْ إلَى مَوَالِيك ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَكّمَك فِيهِمْ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ شَيْئًا ، فَلَمّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَال : لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلّا تَأْخُذَهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَلَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَنَعَى إلَيْهِمْ الْقَوْمَ فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلصّحَابَةِ قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ فَلَمّا أَنْزَلُوهُ قَالُوا : يَا سَعْدُ إنّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِك ، قَالَ وَحُكْمِي نَافِذٌ عَلَيْهِمْ ؟ . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ عَلَى مَنْ هَا هُنَا وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ وَأَشَارَ إلَى نَاحِيَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إجْلَالًا لَهُ وَتَعْظِيمًا ؟ قَالَ نَعَمْ وَعَلَيّ . قَالَ فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُسْبَى الذّرّيّةُ وَتُقْسَمَ الْأَمْوَالُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ [ ص 122 ] وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ نَفَرٌ قَبْلَ النّزُولِ وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ ، فَانْطَلَقَ فَلَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ ذَهَبَ وَكَانَ قَدْ أَبَى الدّخُولَ مَعَهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ فَلَمّا حُكِمَ فِيهِمْ بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِ كُلّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ أُلْحِقَ بِالذّرّيّةِ فَحُفِرَ لَهُمْ خَنَادِقُ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ ، وَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَكَانُوا مَا بَيْنَ السّتّمِائَةِ إلَى السّبْعِمِائَةِ وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ النّسَاءِ أَحَدٌ سِوَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ طَرَحَتْ عَلَى رَأْسِ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ رَحَى ، فَقَتَلَتْهُ وَجُعِلَ يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى الْخَنَادِقِ أَرْسَالًا أَرْسَالًا ، فَقَالُوا لِرَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ : يَا كَعْبُ مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَا ؟ فَقَالَ أَفِي كُلّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ ؟ أَمَا تَرَوْنَ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ وَالذّاهِبُ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ هُوَ وَاَللّهِ الْقَتْلُ . قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ل ِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي أَمْرِهِمْ إنّهُمْ أَحَدُ جَنَاحَيّ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ دَارِعٍ وَسِتّمِائَةِ حَاسِرٍ فَقَالَ قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلّا تَأْخُذَهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَلَمّا جِيءَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَب َ إلَى بَيْنِ يَدَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِي فِي مُعَادَاتِك ، وَلَكِنْ مَنْ يُغَالِبْ اللّهَ يُغْلَبْ ثُمّ قَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا بَأْسَ قَدَرُ اللّهِ وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيل َ ثُمّ حُبِسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ . وَاسْتَوْهَبَ ثَابِتُ بْنُ قَيْس ٍ الزّبَيْرَ بْنَ بَاطَا وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ فَوَهَبَهُمْ لَهُ فَقَالَ لَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ : قَدْ وَهَبَك لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَهَبَ لِي مَالَك وَأَهْلَك ، فَهُمْ لَك . فَقَالَ سَأَلْتُكَ بِيَدَيّ عِنْدَك يَا ثَابِتُ إلّا أَلْحَقْتنِي بِالْأَحِبّةِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَحِبّةِ مِنْ الْيَهُودِ ، فَهَذَا كُلّهُ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ كُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَقِبَ كُلّ غَزْوَةٍ مِنْ الْغَزَوَاتِ الْكِبَارِ . [ ص 123 ] فَغَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاع َ عَقِبَ بَدْرٍ ، وَغَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ ، وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ . وَأَمّا يَهُودُ خَيْبَرَ ، فَسَيَأْتِي ذِكْرُ قِصّتِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ [ حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَأَقَرّ بِهِ الْبَاقُونَ ]
وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إذَا صَالَحَ قَوْمًا فَنَقَضَ بَعْضُهُمْ عَهْدَهُ وَصُلْحَهُ وَأَقَرّهُمْ الْبَاقُونَ وَرَضُوا بِهِ غَزَا الْجَمِيعَ وَجَعَلَهُمْ كُلّهُمْ نَاقِضِينَ كَمَا فَعَلَ بِقُرَيْظَةَ ، وَالنّضِيرِ ، وَبَنِي قَيْنُقَاع َ وَكَمَا فَعَلَ فِي أَهْلِ مَكّةَ ، فَهَذِهِ سُنّتُهُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الذّمّةِ كَمَا صَرّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفَهُمْ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ ، فَخَصّوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِمَنْ نَقَضَهُ خَاصّةً دُونَ مَنْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرّ عَلَيْهِ وَفَرّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنّ عَقْدَ الذّمّةِ أَقْوَى وَآكَدُ وَلِهَذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى التّأْبِيدِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَالصّلْحِ . وَالْأَوّلُونَ يَقُولُونَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَعَقْدُ الذّمّةِ لَمْ يُوضَعْ لِلتّأْبِيدِ بَلْ بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِهِمْ وَدَوَامِهِمْ عَلَى الْتِزَامِ مَا فِيهِ فَهُوَ كَعَقْدِ الصّلْحِ الّذِي وُضِعَ لِلْهُدْنَةِ بِشَرْطِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ قَالُوا : وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُوَقّتْ عَقْدَ الصّلْحِ وَالْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، بَلْ أَطْلَقَهُ مَا دَامُوا كَافّينَ عَنْهُ غَيْرَ مُحَارِبِينَ لَهُ فَكَانَتْ تِلْكَ ذِمّتَهُمْ غَيْرَ أَنّ الْجِزْيَةَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهَا بَعْدُ فَلَمّا نَزَلَ فَرْضُهَا ، ازْدَادَ ذَلِكَ إلَى الشّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُغَيّرْ حُكْمَهُ وَصَارَ [ ص 124 ] نَقَضَ بَعْضُهُمْ الْعَهْدَ وَأَقَرّهُمْ الْبَاقُونَ وَرَضُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا فِي ذَلِكَ كَنَقْضِ أَهْلِ الصّلْحِ وَأَهْلُ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يُوَضّحُ هَذَا أَنّ الْمُقِرّ الرّاضِيَ السّاكِتَ إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى عَهْدِهِ وَصُلْحِهِ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ وَلَا قَتْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنْ عَهْدِهِ وَصُلْحِهِ رَاجِعًا إلَى حَالِهِ الْأُولَى قَبْلَ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَعَقْدِ الذّمّةِ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ عَائِدًا إلَى حَالِهِ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ . تَوْضِيحُهُ أَنّ تَجَدّدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُوفِيًا بِعَهْدِهِ مَعَ رِضَاهُ وَمُمَالَأَتِهِ وَمُوَاطَأَتِهِ لِمَنْ نَقَضَ وَعَدَمُ الْجِزْيَةِ يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا غَادِرًا غَيْرَ مُوفٍ بِعَهْدِهِ هَذَا بَيّنُ الِامْتِنَاعِ . فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ النّقْضُ فِي الصّورَتَيْنِ وَهُوَ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ سُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْكُفّارِ وَعَدَمِ النّقْضِ فِي الصّورَتَيْنِ وَهُوَ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ عَنْ السّنّةِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَ الصّورَتَيْنِ وَالْأُولَى أَصْوَبُهَا ، وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَبِهَذَا الْقَوْلِ أَفْتَيْنَا وَلِيّ الْأَمْرِ لَمّا أَحْرَقَتْ النّصَارَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالشّامِ وَدُورَهُمْ وَرَامُوا إحْرَاقَ جَامِعِهِمْ الْأَعْظَمِ حَتّى أَحْرَقُوا مَنَارَتَهُ وَكَادَ - لَوْلَا دَفْعُ اللّهِ - أَنْ يَحْتَرِقَ كُلّهُ وَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ عَلِمَ مِنْ النّصَارَى ، وَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَأَقَرّوهُ وَرَضُوا بِهِ وَلَمْ يُعْلِمُوا وَلِيّ الْأَمْرِ فَاسْتَفْتَى فِيهِمْ وَلِيّ الْأَمْرِ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَيْنَاهُ بِانْتِقَاضِ عَهْدِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَوْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرّ عَلَيْهِ وَأَنّ حَدّهُ الْقَتْلُ حَتْمًا ، لَا تَخْيِيرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ كَالْأَسِيرِ بَلْ صَارَ الْقَتْلُ لَهُ حَدّا ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُسْقِطُ الْقَتْلَ إذَا كَانَ حَدّا مِمّنْ هُوَ تَحْتَ الذّمّةِ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِ اللّهِ بِخِلَافِ الْحَرْبِيّ إذَا أَسْلَمَ ، فَإِنّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَلَا يُقْتَلُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَهُ حُكْمٌ وَالذّمّيّ النّاقِضُ لِلْعَهْدِ إذَا أَسْلَمَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ وَنَصّ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ وَأَفْتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .

فَصْلٌ [ مَنْ دَخَلَ فِي عَقْد الْمُصَالَحِينَ ثُمّ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ ]
[ ص 125 ] وَكَانَ هَدْيُهُ وَسُنّتُهُ إذَا صَالَحَ قَوْمًا وَعَاهَدَهُمْ فَانْضَافَ إلَيْهِمْ عَدُوّ لَهُ سِوَاهُمْ فَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي عَقْدِهِمْ وَانْضَافَ إلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي عَقْدِهِ صَارَ حُكْمُ مَنْ حَارَبَ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي عَقْدِهِ مِنْ الْكُفّارِ حُكْمَ مَنْ حَارَبَهُ وَبِهَذَا السّبَبِ غَزَا أَهْلَ مَكّةَ ، فَإِنّهُ لَمّا صَالَحَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ تَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، فَدَخَلَتْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ، وَعَقْدِهَا ، وَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ ، فَدَخَلَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَقْدِهِ ثُمّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَبَيّتَتْهُمْ وَقَتَلَتْ مِنْهُمْ وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْبَاطِنِ بِالسّلَاحِ فَعَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُرَيْشًا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ بِذَلِكَ وَاسْتَجَازَ غَزْوَ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ لِتَعَدّيهِمْ عَلَى حُلَفَائِهِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْقِصّةِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَبِهَذَا أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ بِغَزْوِ نَصَارَى الْمَشْرِقِ لَمّا أَعَانُوا عَدُوّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ فَأَمَدّوهُمْ بِالْمَالِ وَالسّلَاحِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَغْزُونَا وَلَمْ يُحَارِبُونَا ، وَرَآهُمْ بِذَلِكَ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ كَمَا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِعَانَتِهِمْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى حَرْبِ حُلَفَائِهِ فَكَيْفَ إذَا أَعَانَ أَهْلُ الذّمّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ رُسُلُ الْأَعْدَاءِ لَا يُتَعَرّضْ لَهَا ]
وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ رُسُلُ أَعْدَائِهِ وَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ فَلَا يُهِيجُهُمْ وَلَا يَقْتُلُهُمْ وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ : وَهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ النّوّاحَةِ وَابْنُ أَثَالٍ ، قَالَ لَهُمَا : فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا ؟ " قَالَا : نَقُولُ كَمَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا فَجَرَتْ سُنّتُهُ أَلّا يُقْتَلَ رَسُولٌ . [ ص 126 ] وَكَانَ هَدْيُهُ أَيْضًا أَلّا يَحْبِسَ الرّسُولَ عِنْدَهُ إذَا اخْتَارَ دِينَهُ فَلَا يَمْنَعْهُ مِنْ اللّحَاقِ بِقَوْمِهِ بَلْ يَرُدّهُ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ أَبُو رَافِعٍ بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَتَيْتُهُ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ . فَقَالَ إنّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَكَانَ هَذَا فِي الْمُدّةِ الّتِي شَرَطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَأَمّا الْيَوْمَ فَلَا يَصْلُحُ هَذَا انْتَهَى . وَفِي قَوْلِهِ لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ إشْعَارٌ بِأَنّ هَذَا حُكْمٌ يَخْتَصّ بِالرّسُلِ مُطْلَقًا ، وَأَمّا رَدّهُ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، فَهَذَا إنّمَا يَكُونُ مَعَ الشّرْطِ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ ، وَأَمّا الرّسُلُ فَلَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَتَعَرّضْ لِرَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ قَالَا لَهُ فِي وَجْهِهِ نَشْهَدُ أَنّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللّهِ . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنّ أَعْدَاءَهُ إذَا عَاهَدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدٍ لَا يَضُرّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ أَمْضَاهُ لَهُمْ كَمَا عَاهَدُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاهُ الْحُسَيْلَ أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمَا : انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَنَسْتَعِينُ اللّهَ عَلَيْهِمْ
فَصْلٌ [ صُلْحُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ قُرَيْشٍ ]
وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنّ مَنْ جَاءَهُ [ ص 127 ] رَدّهُ إلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَرُدّونَهُ إلَيْهِ وَكَانَ اللّفْظُ عَامّا فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ فَنَسَخَ اللّهُ ذَلِكَ فِي حَقّ النّسَاءِ وَأَبْقَاهُ فِي حَقّ الرّجَالِ وَأَمَرَ اللّهُ نَبِيّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَحِنُوا مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ النّسَاءِ فَإِنْ عَلِمُوهَا مُؤْمِنَةً لَمْ يَرُدّوهَا إلَى الْكُفّارِ وَأَمَرَهُمْ بِرَدّ مَهْرِهَا إلَيْهِمْ لِمَا فَاتَ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ مَنْفَعَةِ بُضْعِهَا ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّوا عَلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ مَهْرَهَا إذَا عَاقَبُوا ، بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ رَدّ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ فَيَرُدّونَهُ إلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ وَلَا يَرُدّونَهَا إلَى زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ فَهَذَا هُوَ الْعِقَابُ وَلَيْسَ مِنْ الْعَذَابِ فِي شَيْءٍ وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ ، وَأَنّهُ مُتَقَوّمٌ بِالْمُسَمّى الّذِي هُوَ مَا أَنْفَقَ الزّوْجُ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأَنّ أَنْكِحَةَ الْكُفّارِ لَهَا حُكْمُ الصّحّةِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ رَدّ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ إلَى الْكُفّارِ وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ وَأَنّ الْمُسْلِمَةَ لَا يَحِلّ لَهَا نِكَاحُ الْكَافِرِ وَأَنّ الْمُسْلِمَ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهَا ، وَآتَاهَا مَهْرَهَا ، وَفِي هَذَا أَبْيَنُ دَلَالَةٍ عَلَى خُرُوجِ بُضْعِهَا مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ وَانْفِسَاخِ نِكَاحِهَا مِنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِسْلَامِ .
[ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ]
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا حُرّمَ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ . وَهَذِهِ أَحْكَامٌ اُسْتُفِيدَتْ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ ادّعَى نَسْخَهَا حُجّةٌ أَلْبَتّةَ فَإِنّ الشّرْطَ الّذِي وَقَعَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْكُفّارِ فِي رَدّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ إنْ كَانَ مُخْتَصّا بِالرّجَالِ لَمْ تَدْخُلْ النّسَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَامّا لِلرّجَالِ وَالنّسَاءِ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصّصَ مِنْهُ رَدّ النّسَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ رَدّهِنّ وَأَمَرَهُمْ بِرَدّ مُهُورِهِنّ وَأَنْ يَرُدّوا مِنْهَا عَلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمَهْرَ الّذِي أَعْطَاهَا ، ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الّذِي يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَنّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ مَا يُنَافِي هَذَا الْحُكْمَ وَيَكُونُ بَعْدَهُ حَتّى يَكُونَ نَاسِخًا . [ ص 128 ] وَلَمّا صَالَحَهُمْ عَلَى رَدّ الرّجَالِ كَانَ يُمَكّنُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ أَتَى إلَيْهِ مِنْهُمْ وَلَا يُكْرِهُهُ عَلَى الْعَوْدِ وَلَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَكَانَ إذَا قَتَلَ مِنْهُمْ أَوْ أَخَذَ مَالًا ، وَقَدْ فَصَلَ عَنْ يَدِهِ وَلَمّا يَلْحَقْ بِهِمْ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لَهُمْ لِأَنّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَلَا فِي قَبْضَتِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتَضِ عَقْدُ الصّلْحِ الْأَمَانَ عَلَى النّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إلّا عَمّنْ هُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ كَمَا ضَمِنَ لِبَنِي جُذَيْمَةَ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْكَرَهُ وَتَبَرّأَ مِنْهُ . وَلَمّا كَانَ إصَابَتُهُ لَهُمْ عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ إذْ لَمْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَإِنّمَا قَالُوا : صَبَأْنَا ، فَلَمْ يَكُنْ إسْلَامًا صَرِيحًا ، ضَمِنَهُمْ بِنِصْفِ دِيَاتِهِمْ لِأَجْلِ التّأْوِيلِ وَالشّبْهَةِ وَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ قَدْ عَصَمُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِعَقْدِ الذّمّةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْتَضِ عَهْدُ الصّلْحِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى مَنْ حَارَبَهُمْ مِمّنْ لَيْسَ فِي قَبْضَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَحْتَ قَهْرِهِ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا غَزَاهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا تَحْتَ قَهْرِ الْإِمَامِ وَفِي يَدِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ رَدّهُمْ عَنْهُمْ وَلَا مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَيْهِمْ . [ ص 129 ] وَأَخْذُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلّقَةِ بِالْحَرْبِ وَمَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَأَمْرِهِ وَأُمُورِ السّيَاسَاتِ الشّرْعِيّةِ مِنْ سِيَرِهِ وَمَغَازِيهِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا مِنْ آرَاءِ الرّجَالِ فَهَذَا لَوْنٌ وَتِلْكَ لَوْنٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ الصّلْحُ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ ]
[ قِصّةُ حُيَيّ فِي تَغْيِيبِهِ الْمَسْكَ وَالْحُلِيّ ]
وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا ، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السّلَاحُ . وَاشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الصّلْحِ أَلّا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيّبُوا شَيْئًا ، فَإِنْ فَعَلُوا ، فَلَا ذِمّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَغَيّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيّ لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَب َ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتْ النّضِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَمّ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، وَاسْمُهُ سَعْيَةُ مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيّ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النّضِيرِ ؟ فَقَالَ أَذْهَبَتْهُ النّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ " الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ حُيَيّ قُتِلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمّا دَخَلَ مَعَهُمْ فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ إلَى الزّبَيْرِ لِيَسْتَقِرّهُ فَمَسّهُ بِعَذَابٍ فَقَالَ " قَدْ رَأَيْتُ حُيَيّا يَطُوفُ فِي [ ص 130 ] خَرِبَةٍ هَا هُنَا ، فَذَهَبُوا فَطَافُوا ، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ فَقَتَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَيْ أَبِي الْحَقِيق ِ وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنّكْثِ الّذِي نَكَثُوا ، وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ ، فَقَالُوا : دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَكْفُونَهُمْ مُؤْنَتَهَا ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ عَلَى أَنّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الشّطْرَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ وَلَهُمْ الشّطْرُ وَعَلَى أَنْ يُقِرّهُمْ فِيهَا مَا شَاءَ . وَلَمْ يَعُمّهُمْ بِالْقَتْلِ كَمَا عَمّ قُرَيْظَةَ لِاشْتِرَاكِ أُولَئِكَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَأَمّا هَؤُلَاءِ فَاَلّذِينَ عَلِمُوا بِالْمَسْكِ وَغَيّبُوهُ وَشَرَطُوا لَهُ إنْ ظَهَرَ فَلَا ذِمّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَإِنّهُ قَتَلَهُمْ بِشَرْطِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَعَدّ ذَلِكَ إلَى سَائِرِ أَهْلِ خَيْبَرَ ، فَإِنّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ جَمِيعَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسْكِ حُيَيّ وَأَنّهُ مَدْفُونٌ فِي خَرِبَةٍ فَهَذَا نَظِيرُ الذّمّيّ وَالْمُعَاهَدِ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَمْ يُمَالِئْهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِنّ حُكْمَ النّقْضِ مُخْتَصّ بِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21