كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب " .
فسبحان الله من إله حكيم قادر، ومليك مقتدر قاهر، يعطي العاجز الحقير، ويمنع البطل الأيد الكبير، ويرفع الخامل الذليل، ويضع ذا العز المنيع والمجد الأثيل، ويعز المحتقر الطريد المجفو الشريد، ويذل أولى الحد الحديد، والعد العديد، وأرباب الألوية والبنود، ومالكي أزمة العساكر والجنود، ويؤتى مله من لم يكن شيئاً مذكورا، ولا عرف له أبا نبيها وجدا مشهوراً، بل نشأ كلاًّ على مولاه وخادما لسواه، تجبهه وتشنؤه الناس، ولا يرعاه سائر الأجناس، لا يقدر على نفع نفسه فضلا عن الغير، ولا يستطيع دفع ما ينزل به من مساءة وضير، عجزا وشقاء وخمولا واختفاء، وينزع نعت الملك ممن تهابه أسد الشرى في غِيلها، وتخضع لجلالته عتاة الأبطال يقظّها وقِظيظها، وتخنع لخنزوانة سلطانه حماة الكماة بجمعها وجميعها، وتذل لسطوته ملوك الجبابرة وأقيالها، ويأتمر بأوامره العساكر الكثيرة العدد، ويقتدي بعوائده الخلائق مدى الأبد.
والحمد لله على حالتي منعه وعطائه، وابتلاءه وبلائه، وسراته وضرائه، ونعمه وبأسائه، أهل الثناء والمجد، ومستحق الشكر والحمد: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ، " بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " ولا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " والله أكبر ، " لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " ولا تدرك من عظمته العقول إلا ما أخبر به عنه الرسل والأنبياء. وصلى الله على نبينا محمد الذي أذهب الشرك من الأكاسرة، ومحا بشريعته عظماء الروم القياصرة، وأزال بملته الأصنام والأوثان، وأحمد بظهوره بيوت النيران، وجمع له أسود العب وقد كانت في جزيرتها متفرقة، ولم ببركته شعثها بعدما غبرت زماناً وهي متمزقة، وألف قلوبها على موالاته وطاعته، وحبب إليها المبادرة إلى مبايعته على الموت ومتابعته، فتواصلوا بعد القطعية والتدابر، وتحابوا في الله كأن لم ينشئوا على البغضاء والتنافر، حتى صاروا باتباع ملته، والإقتداء بشريعته، من رعاية الشاء والبعير، إلى سياسة الجم الغفير، وبعد اقتعاد سنام الناقة والقعود، وملازمة بيت الشعر والعمود، وأكل القصوم والشيح، ونزول القفر الفسيح، إلى ارتقاء المنابر والسرير، وتوسد الأرائك على الحرير، وارتباط المسومة الجياد، واقتناء ما لا يحصى من الخدم والعتاد، بما فتح الله عليهم من غنائم ملوك الأرض، الذين أخذوهم بالقوة والقهر، وحووا ممالكهم بتأييد الله لهم والنصر، وأورثوها أبناء أبنائهم، وأحفادهم وأحفاد أحفادهم. فلما خالفوا ما جاءهم به رسولهم من الهدى، أحلهم الرزايا المجيحة والردى، وسلط عليهم من رعاع الغوغاء وآحاد الدهماء من ألحقهم بعد الملك بالهلك، وحطهم بعد الرفعة، وأذلهم بعد المنعة، وصيرهم من رتب الملوك إلى حالة العبد المملوك، جزاء بما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من الكبائر الموبقات، واستحلوا من الحرمات، واستهواهم به الشيطان من إتباع الشهوات، وليعتبر أولو البصائر والأفهام، ويخشى أهل النهى مواقع نقم الله العزيز ذي الانتقام، لا إله إلا هو سبحانه.

أما بعد، فإنه لما يسر الله وله الحمد، بإكمال كتاب عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط، وكتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، وهما يشتملان على ذكر من مَلَكَ مصر من الأمراء والخلفاء، وما كان في أيامهم من الحوادث والأنباء، منذ فحت إلى أن زالت الدولة الفاطمية وانقرضت، أحببت أن أصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية، والسلاطين المماليك التركية والجركسية، في كتاب يحصر أخبارهم الشائعة، ويستقصي أعلمهم الذائعة، ويحوى أكثر ما في أيامهم من الحوادث والماجريات، غير معتن فيه بالتراجم والوفيات، لأني أفردت لها تأليفاً بديع المثال بعيد المنال، فألفت هذا الديوان، وسلكت فيه التوسط بين الإكثار الممل والاختصار المخل، وسميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك. وبالله أستعين فهو المعين، وبه أعتضد فيما أريد وأعتمد، فإنه حسبي ونعم الوكيل.
سنة ثمان وستين وخمسمائةفيها خرج السلطان صلاح الدين بعساكره يريد بلاد الكرك والشوبك ، فإنه كان كلما بلغه عن قافلة أنها خرجت من الشام تريد مصر خرج إليها ليحميها من الفرنج ، فأراد التوسيع في الطريق وتسهيلها، وسار إليها وحاصرها، فلم ينل منها قصدا وعاد. وفيها جهز صلاح الدين الهدية إلى السلطان نْور الدين ، وفْيها من الأمتعة والآلات الفضْية والذهبية والبلور واليشم أشياء يعز وجود مثلها، ومن الجواهر واللآلىء شيء عظيم القدر، ومن العين ستون ألف دينار، وكثير من الغرائًب المستحسنة، وفيل وحمار عتابي، وثلاث قطع بلخش فيها ما وزنه نيف وثلاثون مثقالا، وكان ذلك في شوال . وفيها خرج العبيد من بلاد النوبة لحصار أسوان ، وبها كنز الدولة، فجهز السلطان الشجاع البعلبكي في عسكر كبير فسار إلى أسوان ، وقد رحل العبيد عنها، فتبعهم ومعه كنز الدولة، وواقعهم وقتل منهم كثيرا، وعاد إلى القاهرة .
وفيها سار الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تورانشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين ، إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة إبريم وسبى وغنم ، وعاد إلى أسوان ، وأقطع إبريم رجلا يعرف بإبراهيم الكردي، فسار إليها في عدة من الأكراد، وانبثوا يشنون الغارات على بلاد النوبة، حتى امتلأت أيديهم بالأموال والمواشي بعد فقر وجهد فوافى كتاب ملك النوبة إلى شمس الدولة وهو بقوص مع هدية، فأكرم رسوله وخلع عليه ، وأعطاه زوجين من نشاب ، وقال له : " قل للملك مالك عندي جواب إلا هذا " وجهز معه رسولا ليكشف له خبر البلاد، فسار إلى دمقلة وعاد إليه ، فقال : " وجدت بلادا ضيقة، ليس بها من الزرع سوى الذرة ونخل صغير منه أدامهم ، ويخرج الملك وهو عريان على فرس عرى، وقد التف في ثوب أطلس ، وليس على رأسه شعر. فلما قدمت عليه وسلمت ضحك وتغاشى، وأمر بي فكويت على يدي هيئة صليب ، وأنعم علي بنحو خمسين رطلا من دقيق وليس في دمقلة عمارة سوى دار الملك ، وباقيها أخصاص " . وفيها عظم هم السلطان نور الدين بأمر مصر، وأخذه من استيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر من مراسلته بحمل الأموال ، ثم بعث بوزيره الصاحب موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني إلى مصر، لعمل حساب البلاد، وكشف أحوالها، وتقرير القطيعة على صلاح الدين في كل سنة، واختيار طاعته ، فقدم إلى القاهرة وكان من أمره ما يأتي ذ كره إن شاء الله .
وفيها مات أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب نجم الدين الملقب بالملك الأفضل أبي سعيد الكردي، والد السلطان صلاح الدين يوسف وذلك أنه خرج من باب النصر بالقاهرة، قألقاه الفرس إلى الأرض يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي الحجة، فحمل إلى داره في تاسع عشره وقيل لثلاث بقين منه، فقبر عند أخيه أسد الدين شيركوه، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين وخمسمائة.
سنة تسع وستين وخمسمائةفيها وصل إلى القاهرة موفق الدين أبو البقاء خالد بن محمد ين نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني من عند السلطان الملك العادل نور الدين ، مطالبا لصلاح الدين بالحساب عن جميع ما أخذ من قصور الخلفاء وحصل من الارتفاع .

فشق ذلك عليه وقال : " إلى هذا الحد وصلنا ؟ " وأوقفه على ما تحصل له ، وعرض عليه الأجناد، وعرفه مبالغ إقطاعاتهم وجامكياتهم ، ورواتب نفقاتهم ثم قال : " وما يضبط هذا الإقليم العظيم إلا بالمال الكبير، وأنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم معتادون بالنعمة والسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم ، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها " ، وأخذ يجمع المال .
وفيها سار الأمير شمس الدولة تورانشاه ، أخو السلطان صلاح الدين ، إلى اليمن وذلك لشدة خوف صلاح الدين وأهله من الملك العادل نور الدين أن يدخل إلى مصر وينتزعهم منها، فأحبوا أن يكون لهم مملكة يصيرون إليها. وكان اختيارهم قد وقع على النوبة، فلما سار إليها لم تعجبه وعاد. وكان الفقيه عمارة اليماني قد انقطع الى الأمير شمس الدولة، ومدحه واختص به ، وحدثه عن بلاد اليمن وكثرة الأموال بها، وهون أمرها عنده، وأغراه بأن يستبد بملك اليمن ، وتعرض لذلك في كلمته التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة للسيف تستغني عن القلم
ومنها :
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان شمس الدولة مع ذلك جوادا كثير الإنفاق ، فلم يقنع بما له من الإقطاع بمصر، وأحب الوسع ، فاستأذن صلاح الدين في المسير، فأذن له واستعد لذلك ، وجمع وحشد، وسار مستهل رجب . فوصل إلى مكة فزار، ثم خرج منها يريد اليمن ، وبها يومئذ أبو الحسن علي بن مهدى ويقال له عبد النبي. فاستولى على زبيد في سابع شوال ، وقبض على عبد النبي، وأخذ ما سواها من مدائن اليمن ، وتلقب بالملك المعظم ، وخطب له بذلك بعد الخليفة المستضيء بأمر الله في جميع ما فتحه ، وبعث إلى القاهرة بذلك . فسير السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل يعلمه بذلك ، فبعث بالخبر إلى الخليفة المستضيء ببغداد.
وفي سادس شعبان : قبض على أولاد العاضد وأقاربه ، وأخرجوا من القصر إلى دار المظفر بحارة برجوان ، في العشر الأخير من رمضان .
وفيها اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد، وأن يفتكوا بصلاح الدين ، وكاتبوا الفرنج ، منهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس ، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان ، وسأله في أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله ، فأجيب إلى ذلك ، فأحيط بهم وشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان بين القصرين ، فشنق عمارة وصلب فيما بين بابي الذهب وباب البحر، وابن كامل ش رأس الخروقيين التي تعرف اليوم بسوق أمير الجيوش ، والعوريس على درب السلسلة، وعبد الصمد وابن سلامة وابن المظبي ومصطنع الدولة والحاج ابن عبد القوي بالقاهرة، وشنق ابن كامل القاضي بالقاهرة يوم الأربعاء تاسع عشر شوال ، وشنق أيضا شبرما وأصحابه وجماعة من الأجناد والعبيد والحاشية وبعض أمراء صلاح الدين ، وقبض صلاح الدين سائر ما وجد عندهم من مال وعقار، ولم يمكن ورثتهم من شيء البتة، وتتبع من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد.وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية، من دعاة الفاطميين ، يوم الأحد خامس عشرى رمضان ، وقبض على كثير من السودان، وكووا بالنار في وجوههم وصدورهم .

وفيها جهز السلطان مع الوزير ابن القيسراني ما تحصل عنده من المال ، وأصحبه هدية لنور الدين ، وهي خمس ختمات إحداها فى ثلاتين جزءا، مغشاة بأطلس أزرق ومضببة بصفائح ذهب ، وعليها أقفال من ذهب مكتوبة بخط ذهب ، وأخرى في عشرة أجزاء مغشاة بديباج فستقي، وأخرى في جلد بخط ابن البواب بقفل ذهب وثلاثة أحجار بلخش ، منها حجر زنته اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وآخر عشرة مثاقيل ونصف وست قصبات زمرد إحداها وزنها ثلاثة مثاقيل ، وحجر ياقوت أحمر، وزنه سبعة مثاقيل ، وحجر ياقوت أزرق وزنه ستة مثاقيل ، ومائة عقد جوهر زنتها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا، وخمسون قارورة دهن بلسان ، وعشرون قطعة بلور، وأربع عشرة قطعة جزع ما بين زبادي وسكارج ، وإبريق يشم وطشت يشم ، وسقرق مينا مذهب ، بعروة فيها حبتا لؤلؤ وفي الوسط فص ياقوت أزرق ، وصحون وزبادي وسكارج من صيني عدتها أربعون قطعة، وعود قطعتين كبارا، وعنبر منه قطعة زنتها ثلاثون رطلا، وأخرى عشرون رطلا، ومائة ثوب أطلس ، وأربعة وعشرون بقيارا مذهبا وأربعة وعشرون ثوبا وشيا حريرية بيضاء، وحلة خلفي مذهب ، وحلة مرايش اصفر مذهب ، وحلة مرايش أزرق مذهب ، وحلة مرايش بقصب أحمر وأبيض ، وحلة فستقي بقصب مذهبة، وقماش كثير، قدر قيمتها بمائتي ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار. وساروا بذلك ، فبلغهم موت نور الدين ، فأعيدت وهلك بعضها.
وفيها مات السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي، في يوم الأربعاء حادي عشر شوال ، بعلة الخوانيق ، وكان قد تجهز لأخذ مصر من صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد خطب له بالشام ومصر والحرمين واليمن . وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، فخطب له السلطان صلاح الدين بمصر، وضرب السكة باسمه وفيها نزل أسطول الفرنج بصقلية على ثغر الإسكندرية، لأربع بقين من ذي الحجة بغتة، وكان الذي جهز هذا الأسطول غليالم بن غليالم بن رجار متملك صقلية، ولي ملك صقلية بعد أبيه في سنة ستين وخمسمائة وهو صغير، فكفلته أمه ، وتولى التدبير خادم اسمه باتر مدة سنة، ثم فر إلى السيد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب البلاد المغربية .
ثم استبد غليا لم بتدبير ملكه ، واحتفل في سنة إحدى وسبعين بعمارة هذا الأسطول ، فاجتمع له ما لم يجتمع لجده رجار، وحمل في الطرائد ألف فارس . وقدم على الأسطول رجلا من دولته يسمى أكيم موذقة، وقصد الإسكندرية، ومات غليالم في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. ولما أرسى هذا الأسطول على البر، أنزلوا من طرائدهم ألفا وخمسمائة فرس ، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل ، ما بين فارس وراجل ، وعدة طرائدهم ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل ، ومائتي شيني في كل شيني مائة وخمسون رجلا، وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار ست سفن ، وللتى تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبا، فكانوا نحو الخمسين ألف راجل . ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السمور، وقتل من المسلمين سبعة. وزحفت مراكب الفرنجة إلى الميناء، وكان بها مراكب المسلمين فغرقوا منها. وغلبوا على البر وخيموا بها فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاثة مجانيق كبارا تضرب بحجارة سود عظيمة .
وكان السلطان علي فاقوس فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنجة، فشرع في تجهيز العساكر، والقتال والرمي بالمجانيق مستمر. فوصلت العساكر، وفتحت الأبواب ، وهاجم المسلمون الفرنجة، وحرقوا الدبابات ، وأيدهم الله بنصره ، واستمر القتال يوم الأربعاء إلى العصر، وهو الرابع من نزول الفرنجة. ثم حملوا حملة ثانية عند اختلاط الظلام على الخيام ، فتسلموها بما فيها، وقتلوا من الرجالة عددا كثيرا ومن الفرسان . فاقتحم المسلمون البحر، وأخذوا عدة مراكب خسفوها فغرقت ، وولت بقية المراكب منهزمة، وقتل كثير من الفرنجة، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يقدر على مثله إلا بعناء وأقلع باقي الفرنجة مستهل سنة سبعين .

وفيها، " أعني سنة تسع وستين وخمسمائة " وقف السلطان صلاح الدين ناحية نقادة من عمل قوص بناحية الصعيد الأعلى، وثلث ناحية سندبيس من القليوبية، على أربعة وعشرين خادما لخدمة الضريح الشريف النبوي، وضمن ذلك كتابا ثابتا تاريخه ثامن عشري شهر ربيع الآخر منها، فاستمر ذلك إلى اليوم .
وكان قاع النيل ستة أذرع وعشرين أصبعا، وبلغ سبعة عشر ذراعا وعشرين أصبعا.
سنة سبعين وخمسمائةوفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان ، وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالا جزيلة ، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم ، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين . وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص ، وانتهب أموالها. فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ، ومعه الخطير مهذب بن مماتي، فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله ، ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره. ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة في ثامن عشريه .
وفيها ورد الخبر على السلطان بسير الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن نور الدين إلى حلب ، ومصالحته للسلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فأهمه وخرج يريد المسير إلى الشام فنزل ببركة الجب أول صفر، وسار منها في ثالث عشر ربيع الأول ، على صدر وأيلة، في سبعمائة فارس ، .واستخلف على ديار مصر أخاه الملك العادل . ونزل بصرى وخرج منها، فنزل الكسوة يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول ، وخرج الناس إلى لقائه ، فدخل إلى دمشق يوم الإثنين أول شهر ربيع الآخر، وملكها من غير مدافع . وأنفق في الناس مالا جزيلا، وأمر فنودي بإطابة النفوس وإزالة المكوس ، وإبطال ما أحدث بعد نور الدين محمود من القبائح والمنكرات والضرائب ، وأظهر أنه إنما جاء لتربية الصالح بن نور الدين ، وأنه ينوب عنه ويدبر دولته ،وكاتب الأطراف بذلك . وتسلم قلعة دمشق بعد امتناع ، فأنزل بها أخاه ظهير الإسلام طغتكين بن أيوب ، وبعث بالبشارة إلى القاهرة، وخرج مستهل جمادى الأولى، فنازل حمص حتى تسلمها في حادي عشرة ، وامتنعت عليه قلعتها، فأقام على حصارها طائفة، وسار إلى حماة فنزل عليها في ثالث عشريه ، وبها عز الدين جرديك ، فسلمها إليه .
وفى جمادى الأولى :ولي ابن عصرون القضاء بديار مصر.
وسار صلاح الدين إلى حلب ، وبعث إلى الصالح إسماعيل في الصلح مع جرديك ، فأبى أصحابه ذلك ، وقبضوا على جرديك وقيدوه ، فبلغ ذلك صلاح الدين ، وقد سار عن حماة يريد حلب ، فعاد إليها . ثم سار منها إلى حلب ، ونزل حبل جوش ثالث جمادى الآخرة، واستعد أهل حلب وخرجوا لقتاله ، وقاتلوه قتالا شديدا إلى أول رجب . فرحل صلاح الدين يريد حمص ، وقد بلغه مسير القومص ملك الفرنج بطرابلس ، بمكاتبة أهل حلب ، وأنه منازل لحمص . فلما ترب من حمص عاد القومص إلى بلاده ، فنازل صلاح الدين قلعتها، ونصب المجانيق عليها إلى أن تسلمها بالأمان ، في حادي عشري شعبان ، وسار إلى بعلبك، حتى تسلم قلعتها في رابع رمضان ، وعاد إلى حمص . وكانت بينه وبن أصحاب الصالح وقعة على قرون حماة، في يوم الأحد تاسع عشرة ، انتصر فيها صلاح الدين ، وهزمهم وغنم كل ما معهم ، ولم يقتل فيها أكتر من سبع أنفس ، وسار حتى نزل على حلب ، وقطع الخطبة للصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده ، فبعث أهل الصالح إليه يلتمسون منه الصلح ، فأجاب إليه على أن يكون له ما بدهر من بلاد الشام ، ولهم ما بأيديهم منها، واستزاد منهم المعرة وكفر طاب ، وكتبت نسخة يمين وعليها خط صلاح الدين ، بعدما حلف وعاد إلى حماة.
وكان صلاح الدين قد كتب إلى بغداد يعدد فتوحاته وجهاده للفرنج ، وإعادته الخطبة العباسية بمصر واستيلاءه على بلاد كثيرة من أطراف المغرب وعلى بلاد اليمن كلها، وأنه قدم إليه في هذه السنة وفد سبعين راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا. وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام ، وكل ما يفتحه بسيفه . فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله ، بالتشريف والأعلام السود، وتوقيع بسلطنة بلاد مصر الشام وغيرها . فسار ونزل على بعرين ويقال بارين ، وحاصر حصنها حتى تسلمه في العشرين منه ، ورجع إلى حماة.

وفيها تقرر العماد الأصفهاني نائبا في الكتابة عن القاضي الفاضل بسعاية نجم الدين محمد بن مصال . وسار صلاح الدين إلى دمشق ثم رحل عنها، فنزل مرج الصفر ووافته به رسل الفرنج في طلب الهدنة، فأجابهم إليها بشروط اشترطها. وأذن للعساكر في المسير إلى مصر لجدب الشام فساروا،ورجع هو إلى دمشق في محرم سنة إحدى وسبعين ، وفوض أمرها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .
سنة إحدى وسبعين وخمسمائةوفيها سار شرف الدين قراقوش " أحد أصحاب تقي الدين عمر " إلى بلاد المغرب س حادي عشر محرم في جيش، فأخذ من صاحب أوجلة عشرين ألف دينار فرقها في أصحابه ، وعشرة آلاف دينار لنفسه ، وسار منها إلى غيرها، ثم بلغه موت صاحب أوجلة، فعاد إليها وحاصر أهلها، وقد امتنعوا عليه حتى أخذها عنوة، وقتل من أهلها سبعمائة رجل ، وغنم منها غنيمة عظيمة، وعاد إلى مصر.
وفيها تجهز الحلبيون لقتال صلاح الدين ، فاستدعى عساكر مصر، فلما وافته بدمشق في شعبان سار في أول رمضان ، فلقيهم في عاشر شوال . وكانت بينهما وقعة تأخر فيها السلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فظن الناس أنها هزيمة، فولت عساكرهم ، وتبعهم صلاح الدين ، مهلك منهم جماعة كثرة، وملك خيمة غازي، وأسر عالما عظيما، واحتوى على أموال وذخائر وفرش وأطعمة وتحف تجل عن الوصف . وقدم عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من اليمن ، فأعطاه سرادق السلطان غازي بما فيه من الفرش والآلات ، وفرق الإسطبلات والخزائن على من معه ، وخلع على الأسرى وأطلقهم . ولحق سيف الدين غازي بمن معه ، فالتجأوا جميعا لحلب ، ثم سار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو، وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل . ورحل صلاح الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال ، فأقام عليها إلى تاسع عشره ، ورحل إلى بزاعة، وقاتل أهل الحصن حتى تسلمه . وسار إلى منبج ، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشريه ، ولم يزل يحاصرها أياما حتى ملكها، واخذ من حصنها ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار. ورحل إلى عزاز، وحاصرها من يوم السبت رابع ذي القعدة إلى حادي عشر ذي الحجة، فتسلمها وأقام فيها من يثق به ، وعاد إلى حلب .
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرة : وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين ، فظفر بهم بعدما جرحوا عدة من الأمراء والخواص . ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشره ، وأقطع عسكره ضياعها، ؤإمر بجباية أموالها، وضيق على أهل حلب من غير قتال ، بل كان يمنع أن يدخلها أحد أو يخرج منها.
سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةفلما كان رابع المحرم سنة اثنتين وسبعين : ركب العسكران وكانت الحرب ، فقتل جماعة من أصحاب صلاح الدين . ثم تقرر الصلح بينه وبن الملك الصالح، على أن يكون للصالح حلب وأعمالها . ورحل صلاح الدين في عاشره ، فنازل مصياب ، وفيها راشد الدين سنان بن سلمان بن محمد، صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الباطنية، وإليه تنسب الطائفة السنانية، ونصب عليها المجانيق والعرادات من ثالث عشريه إلى أيام ، ثم رحل ولم يقدر عليهم ، وقد امتلأت أيدي أصحابه بما أخذوه من القرى. وفوض صلاح الدين قضاء دمشق لشرف الدين أبي سعد عبد الله أبي عصرون ، عوضا عن كمال الدين الشهرزوري بعد وفاته. وفيه أغار الفرنج على البقاع فخرج إليهم الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم من بعلبك ، فأوقع بهم وقتل منهم وأسر. وخرج إليهم المعظم شمس الدولة من دمشق فلقيهم بعين الحر، وأوقع بهم ، ثم سار إلى حماة وبها صلاح الدين ، فوافاه فى الثاني من صفر. ثم سار السلطان منها ودخل دمشق سابع عشره ، فأقام بها إلى رابع شهر ربيع الأول ، وخرج منها إلى القاهرة، واستخلف على دمشق أخاه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب ، فوصل إليها لأربع بقين منه .

وفيها أمر للسلطان ببناء السور على القاهرة والقلعة ومصر ،ودوره تسعة وعشرون ألف فراع وثلاثمائة وذراعان بذراع العمل . فتولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وشرع في بناء القلعة،وحفر حول السور خندقا عميقا،وحفر واديه وضيق طريقه . وكان في مكان القلعة عدة مساجد منها مسجد سعد الدولة، فدخلت في جملة القلعة، وحفر فيها بئرا ينزل لليها بدرج منحوتة في الحجر إلى الماء.
وفيها أمر السلطان ببناء المدرسة بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وأن تعمل خزانة الأشربة التي كانت للقصر مارستانا للمرضى، فعمل ذلك . وسار السلطان إلى الإسكندرية في ثاني عشري شعبان ، ومعه ابناه الأفضل علي والعزيز عثمان ، فصام بها شهر رمضان ، وسمع الحديث علي الحافظ أبي الطاهر أحمد السلفى وأمر بتعمير الأسطول بها، ووقف صادر الفرنج على الفقهاء بالاسكندرية.ثم عاد إلى القاهرة، فصام بها بقية رمضان.
وفيها عاد شرف الدين قراقوش غلام تقي الدين إلى بلاد المغرب ، وعاد فأخذ جماعة من الجند، وخرج إلى المغرب ، فأمر العادل الأمير خطلبا بن موسى وإلى القاهرة بالقبض عليه ، فسار إلى الفيوم وأخذه محمولا إلى القاهرة .
وفيها أبطل السلطان المكس المأخوذ من الحجاج في البحر إلى مكة على طريق عيذاب وهو سبعة دنانير مصرية ونصف على كل إنسان ، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب أو بجدة ، ومن لم يؤد ذلك منع من الحج ، وعذب بتعليقه بأنثييه ، وعوض أمير مكة عن هذا المكس بألفي دينار، وألف أردب قمح ، سوى إقطاعات بصعيد مصر وباليمن ، وقيل إن مبلغ ذلك ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه إلى جدة .
سنة ثلاث وسبعين وخمسمائةوخرج السلطان من القاهر، لثلاث مضين من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين ، لجهاد الفرنج . وسار إلى عسقلان فسبى وغنم وقتل وأسر ومضى إلى الرملة ، فاعترضه نهر تل الصافية في يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة، فازدحم الناس بأثقالهم عليه وأشرف الفرنج عليهم ، ومقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة، فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة، فقاتل قتالا شديدا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين ، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ، ومات منهم ومن دوابهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. ودخل السلطان إلى القاهرة منتصف جمادى الآخرة، لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج ، وقطع أخبار جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب فى هذه الكسرة.
وفيها نزل الفرنج على حماة، فقاتلهم الناس أربعة أيام حتى رحلوا عنها، ونزلوا على حارم فحاصروها أربعة أشهر، ثم رحلوا إلى بلادهم .
وفيها أطلق شرف الدين قراقوش التقوى، وسار إلى أوجلة وغرها من بلاد المغرب . وخرج السلطان في سادس عشري شعبان سنة ثلاث وسبعين من القاهرة يريد الشام ، واستخلف بديار مصر أخاه العادل ، فلم يزل مقيما على بركة الجب إلى أن صلى صلاة عيد الفطر. فبلغه نزول الفرنج على حماة، فأسرع في المسير حتى دخل دمشق في رابع عشري شوال ، فرحل الفرنج عن حماة. ووافته بدمشق رسل الخليفة بالتشريفات .
وفيها سار الفرنج إلى قلعة صدر، وقاتلوا من بها فلم ينالوا قصدا، فساروا يريدون الغارة على ناحية فاقوس ، ثم عادوا بنية الحشد والعود. وفيها عصى شمس الدين بن المقدم بمدينة بعلبك على السلطان .
وفيها ولد الملك الزاهد مجير الدين داود، شقيق الظاهر غياث الدين غازي بن السلطان صلاح الدين ، لسبع بقين من ذي القعدة.
وفيها غلت الأسعار ببلاد الشام لكثرة الجدب ، واشتد الأمر بحلب .
وفيها سار الأمير ناصر الدين إبراهيم ، سلاح دار تقي الدين عمر في عسكر إلى بلاد المغرب ، فوصل إلى قراقوش التقوى، وسارا إلى مدينة الروحان ، فنازلاها أربعين يوما، حتى فتحت وقتل حاكمها، وقررا عليها أربعة عشر ألف دينار، وملكا مدينة غدامس بغير قتال ، وتقرر على أهلها اثنا عشر ألف دينار، وسار إبراهيم إلى جبال نفوسة، فملك عدة قلاع ، وصار إليه مال كثير ورجال ، وسار البعث من عند قراقوش إلى بلاد السودان ، فغنموا غنيمة عظيمة.
وفيها ظهر العمل في سور القاهرة ، وطلع البناء وسلكت به الطرق المودية إلى الساحل بالمقس .

وفيها مات الأمير شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، خال السلطان صلاح الدين ونائب حماة، في سابع عشري جمادى الآخرة بحماة، وحمل إلى حلب فدفن بها، وكان شجاعا عاقلا سيوسا ممدحا.
سنة أربع وسبعين وخمسمائةوفى أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين ، هجم العدو من الفرنج على مدينة حماة، فنهض إليهم المسلمون وأسروا مقدمهم في جماعة، وبعثوا بهم إلى السلطان بدمشق ، فضرب أعناقهم .
وفيها جهز السلطان أخاه شمس الدولة تورانشاه إلى محاربة شمس الدين بن المقدم ببعلبك ، في جيش كثيف ، فحاصرها مدة، ثم سار إليه السلطان ، وأقام على الحصار حتى دخل الشتاء، فوقع الصلح وتسلمها السلطان ، وسلمها لأخيه تورانشاه في شوال ، فبنى الفرنج في مدة اشتغال السلطان ببعلبك حصنا على مخاضة بيت الأحزان ، وهو بيت يعقوب عليه السلام ، وبينه وبين دمشق نحو يوم ، ومنه إلى طبرية وصفد نصف يوم . فعاد السلطان إلى دمشق ، وقدم عليه من الديوان العزيز خادم اسمه فاضل فأصحبه معه للغزو، حي وقف على الحصن ، وتخطف من حوله من الفرنج ، ثم عاد إلى دمشق فتواترت الأخبار باجتماع الفرنج لغزو بلاد المسلمين ، فأخرج السلطان ابن أخيه الأمير عز الدين فرخشاه أمامه ، فواقعه الفرنج وقعة قتل فيها جماعة من مقدمي الفرنج وغيرهم ، منهم الهنفرى وصاحب الناصرة، فانهزموا وأسر منهم جماعة. فبرز السلطان من دمشق إلى الكسوة لنجدة عز الدين ، فوافته الأسرى والرءوس ، فسر بدذك وعاد إلى دمشق .
وفيها أغار أبرنس مالك الفرنج بأنطاكية على شيزر، وغدر القومص ملك طرابلس بالتركمان .
وفيها سار شمس الدولة إلى مصر بعدة من العسكر لجدب الشام فى سادس عشري ذي القعدة ، وأغار السلطان على حصن بيت الأحزان وعاد بالغنائم والأسرى، ووالى الغارة والبعث إلى بلاد الفرنج .
وفيها قوي قراقوش التقوى وإبراهيم السلاح دار ببلاد المغرب ، وأخذا عدة حصون .
ودخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائةوالسلطان مواصل الإغارة على بلاد الفرنج ، وكان نازلا على بانياس ، وسرح العساكر ومقدمها عز الدين فرخشاه بن أيوب ، فأكثر من قتلهم وأسرهم . وفتح بيت الأحزان في رابع عشري ربيع الآخر، بعد قتال وحصار، فغنم منهم مائة ألف قطعة حديد من أنواع الأسلحة، وشيئا كثيرا من الأقوات وغيرها، وأسر عدة نحو السبعمائة، وخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، وسد البئر التي كانت به ، وعاد بعدما أقام عليه أربعة عشر يوما، فأغار على طبرية وصور وبيروت ثم رجع إلى دمشق ، وقد مرض كثير من العسكر ومات عدة من الأمراء.

وفي يوم الأحد ثامن المحرم : ركب السلطان ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في عسكره ، فلقيه الفرنج في ألف رمح وعشرة آلاف مقاتل ما بين فارس وراجل ، فاقتتلوا قتالا كثيرا انهزم فيه الفرنج ، وركب المسلمون أقفيتهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل ، وعاد السلطان إلى مخيمه ، وقد مض أكثر الليل ، وعرض الأسرى، فقدم أولهم بادين بن بارزان ، ثم أود مقدم الداوية، وابن القومصية، وأخو صاحب جبيل في آخرين ، فقيدوا بأجمعهم وهم نحو المائتين وسبعين ، وحملوا إلى دمشق فاعتقلوا بها، وعاد السلطان إلى دمشق ، ففدى ابن بارزان بعد سنة بمائة وخمسين ألف دينار وألف أسير من المسلمين ، وفدى ابن القومصية بخمسة وخمسين ألف دينار صورية، ومات أود فأخذت جيفته بأسير أفرج عنه. وقدم الخبر بان الملك المظفر تقي الدين أوقع بعسكر قلج أرسلان صاحب الروم السلجوقية فهزمهم وأسر منهم جماعة، فكتب السلطان البشائر بظفره بالفرنج على مرج عيون وبظفر أخيه بعسكر الروم وسيرها إلى الأقطار فأتته تهاني الشعراء من الأمصار، ثم اهتم السلطان بأمر بيت الأحزان ، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بهدمه فأبوا، فراجعهم مرة ثانية فطلبوا منه ما غرموا عليه ، فبذل لهم حتى وصلهم إلى مائة ألف دنيار فلم يقبلوا. فكتب حينئذ إلى التركمان وأجناد البلاد يستدعيهم ، وحمل إليهم الأموال والخيول والتشاريف ، فقدم إليه خلق كثر، وسار الملك المظفر من حماة، فقدم دمشق أول شهر ربيع الآخر، وقد تلقاه السلطان ، ثم سار السلطان من دمشق يوم الخميس خامسه ، في عسكر عظيم ، ونزل على حصن بيت الأحزان يوم الثلاثاء حادي عشره ، وكانت قلعة صفد للداوية، فأمر بقطع كروم ضياع صفد، وحاصر الحصن ونقبه من جهات ، وحشاه بالحطب وأحرقه ، حتى سقط في رابع عشريه ، وأخذه فقتل من فيه وأسرهم ، ووجد فيه مائة أسير من المسلمين ، فقتل عدة من أسرى الفرنج ، وبعث باقيهم في الحديد إلى دمشق ، وأخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، فكانت إقامته عليه أربعة عشر يوما وعاد إلى دمشق،فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح .
وفي صفر: ظهر قدام المقياس بمصر وسط النيل الحائط الذي كان في جوفه قبر يوسف الصديق وتابوته ، ولم ينكشف قط منذ نقله موسى عليه السلام إلا حينئذ، عند نقصان الماء في قاع المقياس ، فإن الرمل انكشف عنه وظهر للناس ، وأكثر الناس ما علموا ما هو .
وفيها نافق جلدك الشهابي بالواحات ، فأخذه العادل بالأمان وسيره إلى دمشق .
وفيها أغار عز الدين فرخشاه على صفد فأكثر من القتل والسبي وأحرق الربض في رابع عشر ذي القعدة، وعاد إلى دمشق .
وفيها مات الخليفة المستضيء بأمر الله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة مضت من شوال ، وكانت خلافته عشر سنين غير أربعة أشهر. واستخلف من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد ، فخرج الشيخ صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل من بغداد رسولا إلى الملوك وإلى السلطان صلاح الدين وسار معه إلى مصر شهاب الدين بشير الخاص كما يأتي ذكره .
وفيها ختن السطان ابنه الملك العزيز عثمان ، وسلمه إلى صدر الدين بن المجاور معلما له.
وفيها فشا الموت بمصر والقاهرة وعامة أعمال مصر ،وتغيرت رائحة الهواء ،ومات بالقاهرة ومصر في أيام يسيرة سبعة عشر ألف إنسان .
ودخلت سنة ست وسبعين وخمسمائةوفيها سار السلطان إلى حرب عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وعاد بغير قتال ، فدخل دمشق أول شهر رجب .

وفيها مات السلطان سيف الدين غازي بن السلطان قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل في ثالث صفر، وجلس أخوه عز الدين مسعود مكانه ، فكتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر يسأل أن يفوض إليه ، فوصل شيخ الشيوخ صدر الدين أبو القاسم عبد الرحمن وشهاب الدين بشير الخاص ، بالتفويض والتقليد والتشريف في رجب ، فتلقاهم السلطان وترجل لهم ، ونزلوا له وبلغوه سلام الخليفة، فقبل الأرض ، ودخل دمشق بالخلع ، وأعاد الجواب مع بشير، وصحبته ضياء الدين الشهرزورى. وسار السلطان إلى بلاد الأرمن لقمع ملكهم،فأوغل فيها وأطاعه ملكهم، ثم عاد بعدما وصل إلى بهسنا وأحرق حصنا وخربه ، وخرج من دمشق يريد مصر في ثامن عشر رجب ، ومعه شيخ الشيوخ صدر الدين ، فوصل إلى القاهرة ثالث عشر شعبان ، وخرج شيخ الشيوخ إلى مكة في البحر، وعاد منها إلى بغداد.
وفيها مات الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي في يوم الجمعة خامس ربيع الآخر بالإسكندرية عن نحو مائة سنة.
ومات الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب بن شادي في خامس صفر بالإسكندرية، وحمل إلى دمشق فدفن بها.
وفيها ولدت امرأة غرابا.
وفيها كان قاع النيل ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا، وبلغت الزيادة ستة عشرة ذراعا وثلثي ذراع .
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائةفي محرم خرج الأمر بالحوطة على مستغلات العربان بالشرقية، وأمروا بالتعدية إلى البحيرة، ووقعت الحوطة على إقطاع جذام وثعلبة، لكثرة حملهم الغلال إلى بلاد الفرنج ، وكثر الفار بالمقاثي والغلال بعد حصادها، فأتلف شيئا كثيرا، واحترق النيل حتى صار يخاض ، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربى جزائر رملة خيف منها على المقياس أن يتقلص الماء عنه ، ويحتاج إلى عمل غيره ، وبعد الماء عن السور بالمقس ،وصارت قوته من بر الغرب ، وخيم السلطان في بركة الجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد بعد ستة أيام وورد الخبر بأن الأبرنس أرناط ملك الفرنج بالكرك جمع وعزم على المسير إلى تيماء ودخول المدينة النبوية، فخرج عز الدين فرخشاه من دمشق بعساكره إلى الكرك ، ونهب وحرق ، وعاد إلى أطراف بلاد الإسلام فأقام به ، وورد الخبر من نائب قلعة أيلة بشدة الخوف من الفرنج .
وفي صفر: قدم رسول ملك القسطنطينية إلى القاهرة، فوقع الصلح مع صاحبها، وأطلق في جمادى الآخرة مائة وثمانين أسيرا من المسلمين ، وسار صارم الدين خطلبا إلى الفيوم ، وقد أضيفت إليه ولايتها، وأفردت برسمه الخاص ، ونقل عنها مقطوعها ، ثم صرف عن ولاية الفيوم بابن شمس الخلافة، وأحضر خطلبا ليسير إلى اليمن ، وكتب إلى دمياط بترتيب المقاتلة على البرجين ، وسد مراكب السلسلة وتسييرها ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين بها.
وفي ربيع الأول : طرق الفرنج ساحل تنيس وأخذوا مركبا للتجار، ووصلت مراكب من دمياط كانت استدعيت من خمسين مركبا لتكون في ساحل مصر وكمل بناء برج بالسويس يسع عشرين فارسا، ورتب فيه الفرسان لحفظ طريق الصعيد، التي يجلب منها الشب إلى بلاد الفرنج ، وأمر بعمارة قلعة تنيس ، وورد تجار الكارم من عدن ، فطلب منهم زكاة أربع سنين . وكثرت بيوت المزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرون بيتا .
ووصل المفرد في حادي عشرين ربيع الأول بالوفاء في سابع عشره ، فأوفى النيل بمصر في سادس عشريه الموافق يوم السادس عشر من مسرى، ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدم ، فركب السلطان لتخليق المقياس في غده ، وخلع على ابن أبى الرداد في سلخه ، وفتح الخليج في رابع ربيع الآخر، والماء على خمسة عشر إصبعا من سبعة عشر ذراعا، بمحضر والي القاهرة .
وفيه أنفق السلطان في الأجناد البطالين وجردهم إلى الثغور، وأنفق في رجال الشواني وجردهم للغزو، وورد الخبر بكثرة ولادة الحيوان الناطق والصامت للتوأم ، وأن ذلك خرج عن الحد في الزيادة على المعهود، وأن الغزال في البرية كله أتأم ، وكذلك النسوان أتأمن أكثر من الإفراد، وكذلك الطير فإنه كثر ظهوره كثرة ظهرت .
وفيه ماتت امرأة الصالح بن رزيك عن سن كبيرة وضعف حال وعمى، بعد الدنيا والملك الذي كانت فيه .

وركب السلطان في أول جمادى الأولى لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى قلعة الجبل ، وركب منها إلى المخيم بالبركة. وسار متسلم الأمير صارم الدين خطلبا إلى اليمن ، وانتصب السلطان ليلا ونهارا في ترتيب أحوال الأجناد، واقتطع من إقطاعات العربان الثلثين ، وعوض به مقطعو الفيوم ، وصارت أعمال الفيوم كلها للسلطان .
وفيه قرر ديوان الأسطول وفيه الفيوم والحبس الجيوشي والخراجي والنطرون، وضمن الخراج بثمانية آلاف دينار.
وفي هذه السنة: رتبت المقاتلة على البرجين بدمياط وجهزت خمسمائة دينار لعمارة سورها والنظر في السلسلة التي بين البرجين ، وعمل تقدير برسم ما يحتاج إليه سور تنيس وإعادته كما كان في القديم ، فجاء ثلاثة آلاف دينار، وكتب إلى قوص بإبطال المكوس التي تستأدي من الحجاج وتجار اليمن .
وورد كتاب إبراهيم السلاح دار من المغرب أنه فتح بلاد هوارة، وزواوة ولواتة، وجبل نفوسة، وغدامس ، وأعمالا طولها وعرضها خمسة وعشرون يوما، وأنه خطب على منابرها للسلطان وضربت السكة باسمه ، وانه إذا أنعم عليه بتقوية بلغ أغراضا بعيدة، وسير أموالا عتيدة. وأنشئت أربع حراريق بصناعة مصر برسم من تجرد إلى بلاد اليمن وجردت أمراء العسكر السائرين إلى اليمن ، وكبر في بحر تنيس تعدي العربان على المراكب ، وعمرت عليهم حراريق فيها، فلم يظفر بهم لإيوائهم إلى الهيش . وفي جمادى الآخرة : قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم ، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن ، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك .
وفي رجب : استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين ، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين . والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين ، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك .
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط ، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، و شرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال :مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك ، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن ، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه . وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل ، ومعهم الأمير باخل ، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن ، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق " وهى خمس " وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره :سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال ، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس " ثاني يوم دخوله " على الفقيه أبي الطاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه ، وشرع في عمارة الخليج ، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط ، وعاد إلى القاهرة في سابعه .
وفي تاسعه : أمر بفتح المارستان الصلاحي ، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم ، واستخدم له أطباء وغيرهم .
وفي جمادى الآخرة : قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم ، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن ، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك .

وفي رجب : استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين ، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين . والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين ، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك .
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط ، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، و شرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال :مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك ، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن ، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه . وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل ، ومعهم الأمير باخل ، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن ، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق " وهى خمس " وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره :سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال ، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس " ثاني يوم دخوله " على الفقيه أبي الطاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه ، وشرع في عمارة الخليج ، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط ، وعاد إلى القاهرة في سابعه .
وفي تاسعه : أمر بفتح المارستان الصلاحي ، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم ، واستخدم له أطباء وغيرهم .
وفي حادي عشره : خرج السلطان إلى بركة الجب ، لتجريد العساكر والمسير إلى الشام ، وخرج الملك العادل في ثالث عشره إلى المخيم ، ونزل ناحية بركة الجب وسومح برسوم للولاة بمصر والقاهرة، ورسوم الفيوم ورسوم الصيد الأعلى، وأخرجت منجنيقات إلى الخيام برسم الغزاة.
وفي حادي عشره: سار سيف الإسلام طغتكين أخو السلطان صلاح الدين إلى أخميم ، لجباية الجوالي والنظر في أمر الشب .
وظفر والي قوص برجلين من أهل إسنا يدعوان الى مذهب الباطنية.
وفي ثالث عشريه : عقد نكاح بنات العادل على أبناء السلطان صلاح الدين ، وهم: غياث الدين غازي، ومظفر الدين خضر، ونجم الدين مسعود، وشرف الدين يعقوب ، والصداق في كل كتاب عشرون ألف دينار.
وعقد السلطان الهدنة مع رسول القومص ملك الفرنج بطرابلس ، ونودي بمنع أهل الذمة من ركوب الخيل والبغال ، من غير استثناء طبيب ولا كاتب .
ومات الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي صاحب حلب في يوم الجمعة خامس عشري رجب ، فقام من بعده ابن عمه السلطان عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي. وكان موت الصالح هو المحرك للسلطان صلاح الدين على السفر، وكتب لابن أخيه المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة وغيره من النواب بالتأهب ، وكاتب الخليفة الناصر يسأل ولاية حلب.
سنة ثمان وسبعين وخمسمائةوأهلت سنة ثمان وسبعين ، والسلطان مبرز بظاهر القاهرة، فلما خرج الناس لوداعه ، وقد اجتمع عنده من العلماء والفضلاء كثير، وهم يتناشدون ما قيل في الوداع ، فأخرج بعض مؤدبي أولاد السلطان رأسه من الخيمة، وقال :
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فتطير الحاضرون من ذلك ، وصحت الطيرة، فإن السلطان رحل من ظاهر القاهرة

في خامس المحرم من هذه السنة، ولم يعد بعد ذلك إلى القاهرة، فسلك في طريقه على أيلة، فأغار على بلاد الفرنج ، وسار على سمت الكرك ، وبعث أخاه تاج الملوك بالعسكر على الدرب ، وخرج عز الدين فرخشاه من دمشق ، فأغار على طبرية وعكا، وأخذ الشقيف أرنون ، وعاد بألف أسير وعشرين ألف رأس غنم ، وأنزل فيه طائفة من المسلمين وألفى الريح بطسة للفرنج إلى بر دمياط ، فأسر منها ألف وستمائة وتسعون نفسا سوى من غرق ، فدخل السلطان إلى دمشق ، يوم الإثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، فأقام بها يسيرا، ثم أغار على طبرية، واشتد القتال مع الفرنج تحت قلعة كوكب ، واستشهد جماعة من المسلمين ، وعاد إلى دمشق في رابع عشر ربيع الأول ، وخيم بالفوار من عمل حوران ، وأقام به حتى رحل إلى حلب .وخرج سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب بن شادي، من القاهرة إلى اليمن ، بعد مسير السلطان ، ووصل إلى زبيد فملكها، وأخذ منها ما قيمته ألف ألف دينار، واحتوى على عدن أيضا .
وخرج السلطان من دمشق يريد حلب ، فنزل عليها يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، ونازلها ثلاثة أيام ، ثم رحل إلى الفرات ، فخيم على غربي البيرة، ومد الجسر، وكاتب ملوك الأطراف ، ورحل إلى الرها فتسلمها، وسار عنها إلى حران فرتبها، وانفصل عنها إلى الرقة فملكها وما حولها، ونازل نصيبين حتى ملكها وقلعتها، فورد الخبر بقصد الفرنج دمشق ونهبهم القرى، فسار ونازل الموصل في يوم الخميس حادي عشر رجب ، وألح في القتال فلم ينل غرضا، ورحل يريد سنجار، فنازلها وضايقها من يوم الأربعاء سادس عشري شعبان .
ودخل رمضان : فكف عن القتال ، ثم تسلمها بالأمان يوم الخميس ثانيه ، وأعطاها ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر، ورحل إلى نصيبين فأقام بها لشدة البرد، وسار عنها إلى حران ، ثم رحل ونزل على آمد، لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة .
وفيها قصد الفرنج بلاد الحجاز، وأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك سفنا، وحملها على البر إلى بحر القلزم ، وأركب فيها الرجال ، وأوقف منها مركبين على حرزة قلعة القلزم ، لمنع أهلها من استقاء الماء.
وسارت البقية نحو عيذاب ، فقتلوا وأسروا، وأحرقوا في بحر القلزم نحو ست عشرة مركبا وأخذوا بعيذاب مركبا ياتي بالحجاج من جدة، وأخذوا في الأسر قافلة كبيرة من الحجاج فيما بين قوص وعيذاب ، وقتلوا الجميع ، وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن ، وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت معدة لميرة الحرمين ، وأحدثوا حوادث لم يسمع في الإسلام بمثلها، ولا وصل قبلهم رومي إلى ذلك الموضع ، فإنه لم يبق بينهم وبين المدينة النبوية سوى مسيرة يوم واحد، ومضوا إلى الحجاز يريدون المدينة النبوية. فجهز الملك العادل ، وهو يخلف السلطان بالقاهرة، الحاجب حسام الدين لؤلؤ إلى القلزم فعمر مراكب بمصر والإسكندرية ،وسار إلى أيلة، وظفر بمراكب للفرنج ، فحرقها وأسر من فيها، وسار إلى عيذاب ، وتبع مراكب الفرنج ، فوقع بها بعد أيام واستولى عليها، وأطلق من فيها من التجار المأسورين ، ورد عليهم ما أخذ لهم ، وصعد البر، موكب خيل العرب حتى أدرك من فر من الفرنج وأخذهم ، فساق منهم اثنين إلى منى ونحرهما بها كما تنحر البدن ، وعاد إلى القاهرة بالأسرى في ذي الحجة ، فضربت أعناقهم كلهم . وعاد الأسطول من بحر الروم بعد نكاية أهل الجزائر، ومعه بطسة للفرنج كانت تريد عكا، بها أخشاب ونيف وسبعون رجلا.
ومات عز الدين فرخشاه الملقب بالملك المنصور في دمشق في أول جمادى الآخرة. ومات الشيخ الزاهد روزبهار بن أبي بكر بن محمد أبي القاسم الفارسي الصوفي، يوم الأربعاء الخامس من ذي القعدة، ودفن بقرافة مصر.
وفيها انقرضت دولة آل سبكتكين ، وكان ابتداؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة. وأولهم محمود بن سبكتكين ، وآخرهم خسروشاه بن بهرام بن شاه بن مسعود بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين . وقام بعدهم الغورية وأولهم عز الدين حسن ، صاحب بلاد الغور.
وفيها ورد الخبر بأن الماء الذي في زقاق سبتة قل ، حتى ظهرت القنطرة التي كان يعبر الناس عليها في قديم الدهر إلى أن غلب عليها البحر وطمها، فلما قل الماء في هذه السنة عنها لم يبق عليها منه سوى قامتين ، ورأى الناس آثار بنيانها، وأن مركبا انكسر عليها.

سنه تسع وسبعين وخمسمائة
وأهلت سنة تسع وسبعين والسلطان على آمد، فتسلمها في أوئل المحرم ، فقدمت عليه رسل ملوك الأطراف يطلبون الأمان . وخرج الفرنج إلى نواحى الداروم ينهبون ، فبرز إليهم عدة من المسلمين على طريق صدر وأيلة، فاظفرهم الله ، وقتلوا وغنموا وعادوا سالمن .
وفيه سار الأسطول من مصر، فظفر ببطسة فيها ثلاثمائة وخمسة وسبعون علجا، قدموا بهم في خامس المحرم إلى القاهرة، وتوجه سعد الدين كمشبه الأسدي وعلم الدين قيصر إلى الداروم ، فأوقعوا بالفرنج على ماء، وقتلوهم جميعا، وقدموا بالرءوس إلى القاهرة في رابع عشريه . ورحل السلطان عن آمد، وعبر الفرات يريد حلب ، فملك عين تاب وغيرها، ونزل على حلب " بكرة يوم السبت سادس عشري المحرم " وقد خرب السلطان عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي قلعته في جمادى من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وتسلمها صلاح الدين بصلح ، يوم السبت ثامن عشر صفر، على أن تكون لعماد الدين منجار.
ومات تاج الملوك بوري بن أيوب بن شادي في يوم الخميس ثالث عشريه بحلب . وسار عماد الدين إلى سنجار، فولى السلطان قضاء حلب محيي الدين محمد بن الزكي علي القرشي قاضي دمشق ، فاستناب بها زين الدين ندا بن الفضل بن سليمان البانياسي، وولي يازكج قلعتها، وجعل ابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي ملكا بها،ورحل عنها لثمان بقين من ربيع الآخر.فدخل دمشق ثالث جمادى الأولى، وأقام بها إلى سابع عشريه ، وبرز وسار إلى بيسان ، فعبر نهر الأردن في تاسع جمادى الآخرة، وأغار على بيسان فأحرقها ونهبها وفعل ذلك بعدة قلاع ، وأوقع بكثير من الفرنج واجتمع بعين جالوت من الفرنج خلق كثير، ثم رحلوا، وأسر السلطان منهم كثيرا، وخرب من الحصون حصن بيسان وحصن عفر بلا وزرعين ، ومن الأبراج والقرى عشرة، وعاد إلى دمشق لست بقين من جمادى الآخرة، ثم خرج في يوم السبت ثالث رجب يريد الكرك ، فنازله مدة ولم ينل منه عرضا، فسار إلى دمشق ، وقد وصل إليه أخوه الملك العادل من مصر في رابع شعبان . فاجتمع السلطان بأخيه الملك العادل على الكرك ، وقد خرج إليه بعسكر مصر.
وفي يوم الخميس خامس عشره : رحل الملك المظفر تقي الدين من الكرك إلى مصر عوضا عن العادل ، وارتجع عن العادل إقطاعه بمصر، وهو سبعمائة ألف دينار في كل سنة، فجهز إليها الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ومعه القاضي الفاضل ، وأنعم على تقي الدين بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش وأبقى عليه مدينة حماة وجميع أعمالها.
ووصل السلطان إلى دمشق لثمان بقين من رمضان ، وبعث بالملك العادل إلى حلب في ثاني رمضان . فقدم الظاهر على أبيه بدمشق ومعه يازكج ، وقدم شيخ الشيوخ صدر الدين وشهاب الدين بشير من عند الخليفة الناصر، ليصلحا بين السلطان وبين عز الدين صاحب الموصل ، ومعهما القاضي محيي الدين أبو حامد بن كمال الدين الشهرزورى، وبهاء الدين بن شداد، فأقاموا مدة ورحلوا بغير طائل ، في سابع ذي الحجة.
وفيها ظهر بقرية بوصير بيت هرمس ، فخرج منه أشياء، منها كباش وقرود وضفادع بازهر ودهنج وأصنام من نحاس .
وفيها قتل شرف الدين برغش على الكرك في ثاني عشري رجب ، فحمل إلى زرع ودفن في تربته .
وفي سنة تسع وسبعين هذه وقعت بالوجه البحري قطع برد كبيض الأوز أخربت ما صادفته من العامر، ودمرت الزروع ، وأهلكت كثيرا من الماشية والناس.
سنة ثمانين وخمسمائةفي خامس المحرم : توجهت قافلة بغلات وسلاح وبدل مجرد إلى قلعتي أيلة وصدر، وخرج من الشرقية جماعة يخفرونها مع قيصر وإلى الشرقية، فأوصلها إلى أيلة وصدر. وعاد في خامس عشريه ، وكان العدو قد نهض إليها وعاد عنها.
وأهلت هذه السنة : والسلطان بدمشق ، فبعث إلى الأطراف يطلب العساكر، فقدم عليه ابن أخيه تقي الدين بعساكر مصر ،ومعه القاضي الفاضل .و خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء النصف من ربيع الأول إلى جسر الخشب ، وقدم الملك العادل من حلب ومعه نور الدين بن قرا أرسلان إلى دمشق يوم الخميس رابع عشريه ، وخرجا إلى الكسوة، فرحل السلطان في ثاني ربيع الآخر من رأس الماء يريد الكرك ، وخرج تقي الدين في عسكر مصر، ومعهم أولاد الملك العادل وأهله ، يوم الأربعاء مستهله ، فساروا إلى أيلة، ووصلوا إلى السلطان في تاسع عشره وهو على الكرك .

وسارت أولاد العادل في حادي عشريه ، فلقوا العادل وهو على الفوار في خامس عشريه ووصل معهم زرافة، فاجتمعوا به وساروا إلى حلب ، ومعهم بكمش بن عين الدولة الياروقي، وعلي بن سليمان بن جندر، ونزل العسكر الحلبي على عمان مدينة البلقاء في ثامن جمادى الأولى، ورحل عنها في ثاني عشره إلى الكرك ، وقدم العادل وابن قرا أرسلان إلى الكرك في سابع عشره ، وعملت المجانيق إلى ليلة الخميس حادي عشريه ثم رميت تلك الليلة، ورحل العسكر كله لخبر ورد عن اجتماع الفرنج ، وساروا إلى اللجون ، ونزل الفرنج بالواله . ثم سار العسكر إلى ناحية البلقاء، فنزلوا حسبان تجاه الفرنج ، إلى نصف نهار الإثنين سادس عشريه . فرحل الفرنج إلى الكرك ، والعسكر وراءهم إلى نابلس ، فهاجمها العسكر يوم الجمعة سلخه ، وحرقوها ونهبوها، وساروا فأخذوا أربعة حصون ، ونزلوا على جينين ونقبوا قلعتها حتى وقعت ، وقتل تحتها من النقابين عدة، وأخذت عنوة وغنم منها شيء كثير. ورحلوا في ليلتهم إلى زرعين وعين جالوت ، وأحرقوهما في الليل ، وعبروا الأردن يوم الأحد ثاني جمادى الآخرة، ونزلوا الفوار رابعه .
ودخل السلطان دمشق يوم السبت سابعه ، ومعه عساكره كلها، وقدم أخوه العادل من حلب ، وأتته العساكر المشرقية وعساكر الحصن وآمد، وسار بهم يريد الكرك لأخذها من الفرنج ، فنازلها في رابع عشر جمادى الأولى ونصب عليها تسعة مجانيق رماها بها .
وقدمت الأمداد من الفرنج ، فرحل السلطان إلى نابلس ، ونهب كل ما مر به من البلاد، وأحرق نابلس وخربها ونهبها، وقتل وسبى وأسر، واستنقذ عدة من المسلمين كانوا أسرى، وسار إلى جينين ، وعاد إلى دمشق ، فقدم عليه رسل الخليفة، وهما الشيخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعد أحمد، وشهاب الدين بشير الخادم ، ومعهما خلع السلطان والملك العادل ، فلبساها. وطلب الرسولان تقرير الصلح بين السلطان وبن عز الدين صاحب الموصل ، فلم يتقرر بينهما صلح ، وخرجا من دمشق ، فماتا قبل وصولهما إلى بغداد.
وخلع السلطان على جميع العساكر، وأذن لهم في المسير إلى بلادهم ، بعدما أعطاهم شيئا كثيرا، فساروا .
وفي نصف شعبان : سار المظفر تقي الدين بعساكر مصر يريد العود إلى القاهرة، وقرأت وصية سلطانية، تضمنت ولاية الملك العزيز عثمان ابن السلطان لمصر بكفالة ابن عمه تقي الدين عمر، وولاية الملك الأفضل أكبر أبناء السلطان على الشام بكفالة عمه العادل صاحب حلب ، وان مدة الكفالة إلى أن يعلم المسلمون باستقلال كل واحد بالأمر، ويستقر الكافلان في خبزيهما وما بأيديهما، ومن عدم من الولدين قام الأمثل من إخوته مقامه ، أو من الكافلين قام الباقي منهما مقام الآخر، واستحلف الحاضرون من الأمراء، وولى قراءة العهد بذلك القاضي المرتضى بن قريش . وسومح بهلإلي البهسنا، وهو ألف ومائتا دينار، وسومح بالأتبان ، وما تقصر عن ألفي دينار، ومنع من ضمان المزر والخمر والملاهي، وترك ما كان يؤخذ من رسم ذلك للسلطان بديار مصر.
وخرج السلطان من دمشق يريد البلاد الشرقية، فأقام بحماة بقية السنة، وكان نزوله عليها في عشري ذي القعدة.
وفي هذه السنة : أقيمت خطبة في سابع المحرم عند قبر سارية بلحف الجبل ، في غير بنيان وبغير سكان ، وتم ذلك بعصبية جماعة، ثم أحدث جامع عند قبة موسك وبقيت سنين.
وبلغ النيل ثلاث عشرة إصبعا من تسع عشرة ذراعا، فأضر ذلك بالقرى، وخرج أهلها منها لسقوط جدرانهم ، وغرقت البساتين والأقصاب ، وفاضت الآبار، وانقطعت الترع ، وكثر الضرر،كما حصل في سنة أربع وأربعين وخمسمائة .
وفي هذه السنة : مات السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب ، لسبع خلون من رجب .
ومات إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق الأرتقي قطب الدين ، صاحب ماردين ، في جمادى الآخرة.
وفيها مات آقسنقر الساقي، صهر قراجا الهمام ، بحلب في يوم الجمعة حادي عشر وفيها رسم السلطان بتقييد أولاد الخليفة العاضد الفاطمي ومن بقي من أقاربه .
تتمة سنة ثمانين وخمسمائةأول المحرم يوم الإثنين : فيه ابتدئ بالتدريس في المدرسة الفاضلية بدرب ملوخيا من القاهرة .
وفي خامسه : توجهت القافلة بالبدل المجرد إلى قلعتي صدر وأيلة مع قيصر والي ا لشرقية .

وفي سابعه : أقيمت الخطبة عند قبر سارية بلحف الجبل في غير بنيان ولا سكان .
وفي ثامنه : وردت كتب السلطان من دمشق ، باستدعاء العساكر، وجمع الأموال والأسلحة والأمتعة .
وفي حادي عشره : كانت فتنة بين العرب الجذاميين ، فخرج عسكر إلى الشرقية، وعدى الملك المظفر إلى الجيزة بأولاده ، لدعوة عملها الطواشي قراقوش عند قناة طرة، وعاد من الغد.
وفي ثامن عشره : وردت كتب السلطان من دمشق ، لاستنهاض العساكر لغزاة الكرك ، وأن يستصحبوا من الراجل ما قدروا عليه ، فبرزت الخيام إلى بركة الجب في عشريه ، وخرج من الغد الملك المظفر تقي الدين النائب بمصر.
وفي ثاني عشريه: ورد الخبر من ناظر قوص بغرق أربع جلاب ، بها ألف وثلاثمائة رجل من الحجاج ، هلكوا كلهم .
وفي خامس عشريه : عاد قيصر وإلى الشرقية من صدر، بعد أن أوصل القافلة إلى أيلة، وعاد بالقافلة العائدة، وكان العدو قد نهض إليها، ثم عاد عنها.
وفي سلخه : ورد الخبر بأن المؤيد سيف الإسلام ملك بلاد اليمن ، واعتقل خطاب ابن منقذ بزبيد .
وأهل صفر: في رابعه : ورد الخبر بوصول تابوتي نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه ، إلى المدينة النبوية، ودفنهما بها، وكان قد حمل بهما إلى قوص ، وعدى بهما من بحر عيذاب إلى المدينة، وكان سيرهما في أول السنة الماضية.
وفي سادسه : سار الأسطول ، وهو أحد وثلاثون شينيا وحراقة .
وقي سابعه : جرت فتنة بين الأشاعرة والحنابلة، سببها إنكار الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلمه في مسألة من مسائل الكلام في مجلس وعظه ، وترافعوا إلى الملك المظفر بمخيمه ، فرسم برفع كراسي وعظ الفريقين ، وقد أطلق كل من الفريقين لسانه في الآخر.
وفي ثامنه : وقع مطر عظيم ، ورعد قاصف وريح عاصف ، وبرق خاطف وبرد كثير كبار، فحل بالعسكر المبرز بلاء شديد، وعطبت الثمار، وتفسخت الأشجار، وانقعر النخل ، وعمت الجائحة الثمار والزروع ، التي لم تحصد وما حصد، وتلفت المقاثي.
وفي عاشره : عقد مجلس لأصحاب الدواوين للمفاضلة ما بين ابن شكر وابن عثمان ، فتسلم ابن عثمان الدواوين ، بعد أن أخذ خطه بزيادة خمسة عشر ألف دينار على الارتفاع ، ثم صرف بابن شكر في ثالث عشره .
وأهل شهر ربيع الأول : في ثاني عشره : سار المظفر تقي الدين من بركة الجب ، يريد السلطان بدمشق ، وعاد ابن السلار إلى القاهرة نائبا عن المظفر.
وعاد ابن شكر ناظر الدواوين إلى القاهرة في خامس عشره ، ومعه ولد المظفر، فخرج الناس لتلقيه .
وأهل شهر ربيع الآخر: في عشريه : قدم المظفر على السلطان صلاح الدين بالقرب من الكرك .
و في عاشر جمادى الآخرة : أخلت أهل بلبيس بلدتهم في ليلة واحدة، وقد سمعوا بمسير الفرنج إلى فاقوس ، واضطرب الناس بالقاهرةومصر والجيزة، فسميت الهجة الكذابة .
وقدم الخبر بأن سيف الإسلام قتل خطاب بن منقذ ومثل به ، واستصفى أمواله باليمن ، وقبض على ألزامه . وكان العسكر عقيب الهجة خرج إلى بلبيس ، فنهبها الغلمان ، وأخذ الفرنج نحو مائتين وعشرين أسيرا، وساقوا أغناما لا تدخل تحت حصر.
وفي رابع عشري شعبان : قدم المظفر تقي الدين إلى القاهرة بالعسكر، بعد شدة لحقتهم في طريقهم .
وفي ذي القعدة : ورد كتاب سيف الإسلام بأنه فتح باليمن مائة وثلثتة وسبعين حصنا، وقدم أهل خطاب بن منقذ وأخوه محمد إلى مصر.وخرج تقي الدين ابن أخي صلاح الدين إلى البحيرة ليكشف أحوالها.
وكان معه كاتبه الرضى بن سلامة، فاستدفع من الدواوين حساباتهم ، وسار بها على بغل صحبة تقي الدين ، فأرسل الله صاعقة من السماء أحرقت البغل وما عليه من الحساب ، وعاد تقي الدين .
سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

وأهلت سنة إحدى وثمانين فسار السلطان وبلغ حران ، في يوم الجمعة ثامن عشري صفر فقبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري، واستولى عليها. ورحل عنها في ثاني ربيع الأول فوافته رسل الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب الروم باتفاق ملوك الشرق بأجمعهم على قصده، إن لم يعد عن الموصل وماردين ، فسار يريد الموصل ، وكاتب الخليفة بما عزم عليه من حصر الموصل ، ونزل عليها وحاصر أهلها وقاتلهم. فورد الخبر بموت شاه أرمن بن سقمان الثاني ناصر الدين محمد بن إبراهيم صاحب خلاط في تاسع ربيع الأول ، فرحل صلاح الدين في آخره يريد خلاط ، ثم عاد و لم يملكها، وسار إلى ميافارقين فتسلمها، ثم عاد إلى الموصل ، ونزل على دجلة في شعبان ، وأقام إلى رمضان ، فمرض مرضا مخوفا، فرحل في آخر رمضان ، وهو لما به وقد أيس منه ، فنزل بحران ، فتقرر فيها الصلح بينه وبين المواصلة في يوم عرفة، وخطب له بجميع بلاد الموصل ، وقطعت خطبة السلجوقية، وخطب له في ديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضربت السكة باسمه ، وأمر بالصدقات في جميع ممالكه .
وفي يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول : حدثت بمصر زلزلة، وفي مثل تلك الساعة كانت زلزلة في بعلبك أيضا.
وفيه كانت بالاسكندرية فتنة بين العوام ، نهبوا فيها المراكب الرومية، فقبض على عدة منهم ومثل بهم .
ومات في هده السنةالملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، ليلة عيد الأضحى . واتهم السلطان بأنه سمه فإنه لما اشتد مرض السلطان تحدث بأنه يملك من بعده.
ومات فخر الدولة إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن نصر الأسواني ابن أخت الرشيد والمهذب ابني الزبير فيها. وهو أول من كتب الإنشاء للسلطان ، ثم كتب لأخيه العاد ل .
ومات سعد الدين بن مسعود بن معين الدين بآمد.
ومات الأمير مالك بن ياروق في منبج ليلة السبت مستهل رجب ، محمل إلى حلب ودفن بها.
وماتت آمنة خاتون بنت معين الدين أنار التي تزوجها السلطان صلاح الدين بعد نور الدين محمود لما ملك دمشق ، وكانت وفاتها يوم الاثنين ثالث ذي القعدة.
وفيها خرج المظفر تقي الدين عمر إلى كشف أحوال الإسكندرية، وشرع في عمل سور على مدينة مصر بالحجر، فلم يبق فقير ولا ضعيف إلا خط فيه ساحة من درب الصفا إلى المشهد النفيسي، واتصلت العمارة في خط الخليج إلى درب ملوخيا بمصر حتى بين الكومين وبجوار جامع ابن طولون والكبش، فعمر أكثر من خمسة آلاف موضع بشقاف القنز والخرشتف وتراب الأرض ، وتحول الناس لجهة جامع ابن طولون والبركة وجانب القلعة .
وفي شعبان ورمضان : وقع وباء بأرض مصر وفشا موت الفجأة، وكثر الوباء في الدجاج أيضا.
سنة اثنتين وثمانين وخمسمائةوأهلت سنة اثنتين وثمانين : وقد أبل السلطان من مرضه ،فرحل من حران ، و نزل حلب في رابع عشر المحرم ،ومر من حلب إلى حمص ، فرتب أمورها واسقط المكوس منها. ودخل إلى دمشق في ثاني ربيع الأول ، واستدعى ابنه الأفضل عليا من مصر، لمنافرة كانت بينه وبن ابن عمه المظفر تقي الدين ، فقدم عليه بأهله وحشمه ، لسبع بقين من جمادى الأولى، وصرف العادل عن حلب ، ولقرر عوضه بها الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن السلطان ، وعوض العادل الشرقية بديار مصر.
وصرف المظفر تقي الدين عمر من ديار مصر ونيابتها، فغضب لذلك ، وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد اللحاق بغلامه شرف الدين قراقوش التقوى، وأخذ بلاد المغرب ، وجعل مملوكه بوري في مقدمته ، فبلغ ذلك السلطان ، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فقبح الأكابرعليه مشاقته السلطان وحذروه ، فأجاب وتوجه إلى دمشق ، فوصلها ثالث عشري شعبان ، واستمر على ما بيده من حماة والمعرة ومنبج وأضيف إليه ميافارقين، وكتب إلى أصحابه فقدموا عليه من مصر، ماخلا زين الدين بوري مملوكه ، فإنه سار إلى المغرب ، وملك هناك مواضع كنيرة. ثم قصده صاحب المغرب وأسره ، ثم أطلقه وقدمه .
ووصل الأفضل على ابن السلطان من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى، وهو أول قدومه إليها، وسار الملك العزيز عثمان إلى ملك مصر، ومعه عمه العادل أتابكا.
وكان خروج العادل من حلب ليلة السبت رابع عشري صفر، فدخلا إلى القاهرة في خامس رمضان .

ووقع الخلف بين الفرنج بطرابلس ، فالتجأ القومص إلى السلطان ، وصار يناصحه ، واستولى الإبرنس ملك الفرنج بالكرك على قافلة عظيمة، فأسر من فيها وامتنع من إجابة السلطان إلى إطلاقهم ، فتجهز السلطان لمحاربته ، وكاتب الأطراف بالمسير لقتاله .
وفيها مات بمصر عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري النحوي، ليلة السبت لثلاث بقين من شوال ،ومولده بدمشق في خامس رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
سنة ثلاث وثمانين وخمسمائةوأهلت سنة ثلاث وثمانين وقد برز السلطان من دمشق لجهاد الفرنج يوم السبت أول المحرم ، واقر ابنه الأفضل على رأس الماء، ونزل بصرى، فأقام لحفظ الحاج حتى قدموا في آخر صفر. فسار إلى الكرك ، في اثني عشر ألف فارس ، ونازلها وقطع أشجارها، ثم قصد الشوبك ، ففعل بها مثل ذلك . وخرج الحاجب لؤلؤ على الأسطول من مصر، وهو خمسة عشر شينيا، ليسير إلى الإسكندرية. وخرج العادل من القاهرة في سابع المحرم إلى بركة الجب ، وسار إلى الكرك ، فمر على أيلة، والتقى مع السلطان على القريتين ، وعادا إلى الكرك ، فنازلاها في ربيع الأول ، وضايق السلطان أهلها، ثم رحل عنها، ونازل طبرية، فاجتمع من الفرنج نحو الخمسين ألفا بأرض عكا، ورفعوا صليب الصلبوت ، فافتتح السلطان طبرية عنوة في ثالث عشري ربيع الآخر، وغاظ ذلك الفرنج وتجمعوا، فسار إليهم السلطان ، وكانت وقعة حطين ، التي نصر الله فيها دينه ، في يوم السبت رابع عشريه . وانهزم الفرنج بعد عدة وقائع ، وأخذ المسلمون صليب الصلبوت ، وأسروا الإبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك ، وعدة ملوك آخرين وقتل وأسر من سائر الفرنج ما لا يعد كثرة.
ثم قدم الإبرنس أرناط ، وضرب السلطان عنقه بيده ، وقتل جميع من عنده من الفرنج الداوية والاسبتارية ورحل السلطان إلى عكا، فنازلها سلخ ربيع الآخر، ومعه عالم عظيم .
قال العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي: كان السوق الذي في عسكر السلطان على عكا عظيما، ذا مساحة فسيحة، فيه مائة وأربعون دكان بيطار، وعددت عند طباخ واحد ثمانيا وعشرين قدرا، كل قدر تسع رأس غنم .
وكنت أحفظ عدد الدكاكين، لأنها كانت محفوظة عند شحنه السوق ، وأظنها سبعة آلاف دكان ، وليست مثل دكاكين المدينة، بل دكان واحد مثل مائة دكان ، لأن الحوائج في الأعدال والجوالقات ، ويقال إن العسكر أنتنت منزلتهم لطول المقام ، فلما ارتحلوا غير بعيد، وزن سمان أجرة نمل متاعه سبعين دينارا، وأما سوق البز العتيق والجديد، فشيء يبهر العقل . وكان في العسكر اكثر من ألف حمام ، وكان أكثر ما يتولاها المغاربة ، يجتمع متهم اثنان أو ثلاثة ويحفرون ذراعين فيطلع الماء، ويأخذون الطين فيعملون منه حوضا وحائطا، ويسترونه بحطب وحصير، ويقطعون حطبا من البساتين التي حولهم ، ويحمون الماء في قدور، وصار حماما يغسل الرجل رأسه بدرهم وأكثر.
فلم يزل صلاح الدين على محاصرة عكا إلى أن تسلمها بالأمان ، في ثاني جمادى الأولى، واستولى على ما فيها من الأموال والبضائع ، وأطلق من كان بها من المسلمين مأسورا، وكانوا أربعة آلاف نفس ، ورتب في كنيستها العظمى منبرا، وأقيم فيها الجمعة.
وأقطع عكا لابنه الأفضل على، وأعطى جميع ما للداوية من إقطاع وضياع للفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. وسار العادل بعساكر مصر إلى مجدليابا فحصره وفتحه وغنم ما فيه . وافتتحت عدة حصون حول عكا: وهي الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والتولع والطور ونهب ما فيها، وسبيت النساء والأطفال ، فقدموا بما سد الفضاء. وأخذت سبسطية ونابلس ، وكتب السلطان للخليفة بخبر فتح هذه البلاد. ونزل العادل على يافا، حتى ملكهاعنوة ونهبها، وسبى الحريم وأسر الرجال ، ونازل المظفر تقي الدين عمر تبنين ، وأدركه السلطان فوصل إليها في حادي عشر جمادى الأولى ومازال محاصرا لها حتى تسلمها في ثامن عشره بأمان ، وجلا أهلها عنها إلى صور، وتسلم السلطان العدد والدواب والخزائن ، وسار فأخذ صرخد بغير قتال ،ثم رحل إلى صيداء،ففر أهلها وتركوها، فتسلمها السلطان في حادي عشريه . ونازل بيروت وضايقها ثمانية أيام ، إلى أن طلب أهلها الأمان ، فأجابهم واستولى عليها في تاسع عشريه ،وأخذ جبيل فكان من استنقذ الله من المسلمين

المأسورين عند الفرنج ، في هذه السنة، ما يزيد على عشرين ألف إنسان ، وأسر المسلمون من الفرنج مائة ألف أسير.
وهلك في هذه السنة القومص صاحب طرابلس ، وقدم المركيس " أكبر طواغيت الفرنج " إلى صور، وقد اجتمع بها أمم من الفرنج ، فتملك عليهم ، وحصن البلد، فسار السلطان بعد فتح بيروت ، وتسلم الرملة والخليل وبيت لحم ، واجتمع بأخيه العادل ،ونازلا عسقلان ،في سادس عشر جمادى الآخرة،ونصبا المجانيق عليها،ووقع الجد في القتال ، إلى أن تسلم السلطان البلد في سلخه ، وخرج منه الفرنج إلى بيت المقدس ، بعد أن ملكوه خمسا وثلاثين سنة. وتسلم السلطان حصون الداوية وهي غزة والنطرون وبيت جبريل وقدم عليه بظاهر عسقلان ابنه العزيز عثمان من مصر، ووافته الأساطيل وعليها الحاجب لؤلؤ. وكانت الشمس قد كسفت ،قبل أخذ عسقلان بيوم ،حتى أظلم الجو وظهرت الكواكب في يوم الجمعة ثامن عشريه .
وسار السلطان " وقد اجتمعت إليه العساكر " يريد فتح بيت المقدس ، فنازله يوم الأحد خامس عشر رجب ، وبه حشود الفرنج وجميعهم ، فنصب المجانيق ، واقتتل الفريقان أشد قتال ، استشهد فيه جماعة من المسلمين، وأيد الله بنصره المسلمين، حتى تمكنوا من السور ونقبوه ، وأشرفوا على أخد البلد فسأل الفرنج حينئذ الأمان ، فأعطوه بعد امتناع كثير من السلطان ، على أن يعطى كل رجل من الفرنج عن نفسه عشرة ، دنانير مصرية،سواء كان غنيا أو فقيرا،وعن المرأة خمسة دنانير،وعن كل طفل من الذكور والإناث دينارين . ئم صولح عن الفقراء بثلاثين ألف دينار وتسلم المسلمون القدس يوم الجمعة سابع عشري رجب ، وأخرج من فيه من الفرنج ، وكانوا نحو الستين ألفا،بعدما أسر منهم نحو ستة عشر ألفا،مابين رجل وامرأة وصبي،وهم من لايقدر على شراء نفسه .
وقبض السلطان من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، سوى ما أخذه الأمراء ، وما حصلت فيه الخيانة.
والتحق من كان بالقدس من الفرنج بصور، وتسامع المسلمون بفتح بيت المقدس ، فأتوه رجالا وركابنا من كل جهة لزيارته ،حتى كان من الجمع مالا ينحصر،فأقيمت فيه الجمعة يوم الرابع من شعبان ، وخطب القاضي محيي الدين بن الزاكي بالسواد خطبة بليغة، دعا فيها للخليفة الناصر والسلطان صلاح الدين ، وانتصب بعد الصلاة زين الدين بن نجا ،فوعظ الناس.
وأمر السلطان بترميم المحراب العمري القديم ، وحمل منبر مليح من حلب ، ونصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار النصرانية، وغسلت الصخرة بعدة أحمال ماء ورد، وبخرت وفرشت ، ورتب في المسجد من يقوم بوظائفه ، وجعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، وغلقت كنيسة قمامة، ثم فتحت ، وقرر على من يرد إليها من الفرنج قطيعة يؤديها. وخرجت البشائر إلى الخليفة بالفتح ، وإلى سائر الأطراف . ورحل السلطان عن القدس لخمس بقين من شعبان يريد عكا، وسار العزيز عثمان إلى مصر فكان آخر العهد به . وسار العادل مع السلطان ، فنزلا على عكا أول شهر رمضان ، ثم رحل السلطان منها، ونزل على صور في تاسعه ، وكانت حصينة، وقد استعد الفرنج فيها، فتلاحقت العساكر بالسلطان ، ونصب على صور عدة من المجانيق وحاصرها، واستدعى السلطان الأسطول من مصر، فقدم عليه عشر شواني، وصار القتال في البر والبحر فأخذ الفرنج خمس شواني ووردت مكاتبة الخليفة على السلطان، وفيها غلظة وإنكار أمور، فأجاب بالإعتذار ، ورحل عن صور في آخر شوال . وعادت العساكر إلى بلادها، وأقام السلطان بعكا ، وسار العادل إلى مصر، فطرق الفرنج قلعة كوكب ، وقتلوا بها جماعة من المسلمين ، ونهبوا ما كان بها، وأتته على عكا رسل الملوك بالتهنئة من الروم والعراق وخراسان بفتح بيت المقدس .

وفي هذه السنة : " أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة " : اجتمع الشمس والقمر والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري وزحل وأظفار الذئب ، في برج الميزان ، أربع عشره ساعة، فاجتمع المنجمون كلهم ، وحكموا بكون طوفان الريح ، وأنه كائن وواقع ولابد، فتنقلب الأرض من أولها إلى آخرها، وأنه لا يبقى من الحيوان شيء إلا مات ، ولا شجرة ولا جدار إلا سقط . وكان معظم هذه الحكومة عن بلاد الروم ، وأرجفوا بأنها هي القيامة، فاتخذ قوم الكهوف والمغائر في الجبال ، وبالغوا في الاعتداد لهول ذلك اليوم . وقال القوم : " كتب القدماء كلها أحالت على هذا الاجتماع ، وإن فيه دمار الدنيا " . وكان ذلك في مسرى، وفي جمادى الآخرة للسابع والعشرين منه ، وهو يوم الثلاثاء مع ليلة الأربعاء إلى يوم الأربعاء. فلم تهب ريح ، ولا تحرك نيل مصر، وهو في زيادته في مسرى، ومن العادة أن تهب الريح من العصر إلى العشاء في وجه الماء، ليقف بإذن الله ، فتكون فيه الأمواج ، فلم يحدث تلك الليلة، ولا ثاني يوم ولا قبلها بيوم شيء من ذلك ، وطلع الناس بالسرج الموقدة على السطوحات لاختبار الهواء، فلم تتحرك نار البتة. كان أشد الناس إرجافا بهذه الكواكب الروم ، فأكذبهم الله،و سلط عليهم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ،فأخذ كبارهم،وملأ الأرض من الأسرى شرقا وغربا، وأخذ القدس ، وأصاب جماعة ممن كان يرجف بهذه الريح آفات ، ما بين موت بعضهم واعتلال بعضهم .
وفيها خرج في سادس عشر جمادى الآخرة قفل شامي إلى مصر، وهو أول قفل سلك بلاد الساحل ، بلا حق يسمعه ولا مكس يوديه .
وفيها سار قراقوش التقوى، واستولى على القيروان ، وحاربه ابن عبد المؤمن سلطان المغرب على ظاهر تونس فانكسر منه ، وأقيمت الخطبة في ربيع الأول بتلك البلاد للسلطان صلاح الدين . فجمع ابن عبد المؤمن ، وواقع قراقوش وهزمه ، ففر قراقوش في البرية .
وفيها أمر السلطان بأن تبطل النقود التي وقع الاختلاف فيها وتضرر العامة بها، وأن يكون ما يضرب من الدنانير ذهبا مصريا، ومن الدراهم الفضة الخالصة، وأبطل الدراهم السود لاستثقال الناس الميزان ، فسر الناس ذلك .
سنة أربع وثمانين وخمسمائةفيها نازل السلطان حصن كوكب أياما، و لم ينل منها شيئا، فأقام الأمر صارم الدين قايماز النجمي في خمسمائة فارس عليها، ووكل بصفد الأمير طغرل الخازندار في خمسمائة فارس ، وبعث إلى الكرك والشوبك الأمير سعد الدين كمشبه الأسدي ، واستدعى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي من مصر، فاستخلف على عمارة سور القاهرة، وقدم والسلطان على كوكب ، فندبه لعمارة عكا، فشرع في تجديد سورها وتعلية أبراجها، بمن قدم به معه من مصر من الأسرى والأبقار والآلات والدواب ، وسار السلطان يريد دمشق ، فدخلها سادس ربيع الأول ، وقد غاب عنها سنة وشهرين وخمسة أيام ، كسر فيها الفرنج ، وفتح بيت المقدس ، فلازم الجلوس في دار العدل بحضرة القضاة، وكتب إلى الجهات باستدعاء الأجناد للجهاد، وخرج بعد خمسة أيام على بعلبك ،فوافاه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار على أعمال حمص ، فنزلا على بحيرة قدس. وبعث السلطان ابنه الظاهر وابن أخيه المظفر صاحب حماة لحفظ طريق أنطاكية ، وسار أول ربيع الآخر وشن الغارات على صافيتا وتلك الحصون المجاورة. وسار في رابع جمادى الأولى على تعبية لقاء العدو، فأخذ أنطرسوس ، واستولى على ما بها من المغانم ، وخرب سورها وبيعتها، وكانت من أعظم البيع ، ووضع النار في البلد فأحرق جميعه ، وسار يريد جبلة، فنازلها لاثنتي عشرة بقيت منه ، وتسلمها بغير حرب ، ثم أخذ اللاذقية بعد قتال ، وغنم الناس منها غنيمة عظيمة. وسار إلى صهيون ، فقاتل أهلها إلى أن ملكها في ثاني جمادى الآخرة، واستولى على قلعتي الشغر وبكاس وعدة حصون ، وأسر من فيها، وغنم شيئا كثيرا.
فلما فتح بغراس بعث الإبرنس ملك أنطاكية يسأل الصلح ، فأجيب إلى ذلك ، على

شريطة أن يطلق من عنده من الأسارى المسلمين ، وهم ألف إنسان ، وعاد صاحب سنجار إلى بلده، وسار السلطان إلى حلب ، فأقام بها ثم سار عنها، ودخل إلى دمشق في آخر شعبان وما زال كمشبه محاصرا للكرك حتى تسلم قلعتها، ومعها الشوبك والسلع ، وعدة حصون هناك ، في رمضان . فلما وردت البشرى بذلك على السلطان سار من دمشق ، ونازل صفد حتى ملك قلعتها بالأمان في رابع عشر شوال ولحق من كان فيها من الفرنج بصور ثم سار إلى كوكب وضايقها حتى تسلمها، في نصف ذي القعدة بأمان ، وأرسل أهلها إلى صور. فكثر بها جموع الفرنج ، وكاتبوا إفرنج صقلية والأندلس ، وكتب السلطان إلى الخليفة الناصر بخبر هذه الفتوح ، ورحل فنزل في صحراء بيسان .
وفيها ثار بالقاهرة اثنا عشر رجلا من الشيعة في الليل ، نادوا: " يال علي. . يال علي " . وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ، ظنا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم ، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية، فيخرجون من في الحبوس ، ويملكون البلد. فلما لم يجبهم أحد تفرقوا.
وسار السلطان إلى القدس ، فحل به في ثامن ذي الحجة، وسار بعد النحر إلى عسقلان ، وجهز أخاه العادل إلى مصر لمعاضدة الملك العزيز، وعوضه بالكرك عن عسقلان ، وكان قد وهبها له ، ثم نزل بعكا.
سنة خمس وثمانين وخمسمائةودخلت سنة خمس وثمانين : فسار السلطان عن عكا، ودخل دمشق أول صفر، فورد عليه في ثاني عشره ضياء الدين عبد الوهاب بن سكينة، رسول الخليفة الناصر، بالخطبة لابنه ولي العهد ، عدة الدنيا والدين أبي نصر محمد، فأقيمت له . وجهز الرسول ، ومعه ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري، وبعث معه بهدايا وتحف وأسارى من الفرنج للخليفة، ومعهم تاج ملك الفرنج والصليب الذي كان فوق صخرة بيت المقدس ، وأشياء كثيرة . فدفن الصليب تحت عتبة باب النوبى ببغداد وديس عليه ، وكان من نحاس مطلي بالنهب .
وخرج السلطان من دمشق في ثالث ربيع الأول ونازل شقيف أرنون وهو منزعج ، لانقضاء الهدنة مع صاحب أنطاكية، ولاجتماع الفرنج بصور، واتصال الأمداد بهم ، فكانت للمسلمين مع الفرنج في بلادهم الساحلية عدة وقائع ، قتل فيها من الفريقين عدة، وكثر القتل في المسلمين ، واشتدت نكاية الفرنج فيهم ، فرحل السلطان إلى عكا، وقد سبقه الفرنج ونزلوا عليها. ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصرا للفرنج ، والفرنج محاصرين للبلد. وتلاحقت به العساكر الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنج من البحر. فلم يقدر السلطان على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهل عكا أن يصلوا إلى السلطان . وشرع السلطان في قتال الفرنج من أول شعبان ، إلى أن تمكن من عكا، ودخلها في ثانيه ، فما زالت الحرب قائمة إلى رابع رمضان . فتحول إلى الخروبة، وأغلق من في عكا من المسلمين أبوابها، وحفر الفرنج خندقا على معسكرهم حول عكا من البحر إلى البحر، وأداروا حولهم سورا مستورا بالستائر، ورتبوا عليه الرجال ، فامتنع وصول المسلمين إلى عكا.
وقدم العادل بعسكر مصر في نصف شوال ، وقدم الأسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجب لؤلؤ في منتصف ذي القعدة ، فبدد شمل مراكب الفرنج ، وظفر ببطستين للفرنج . فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقوي جأشهم بالأسطول ، وكانوا نحو العشرة آلاف .
وبعث السلطان إلى الأطراف يحث الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن ، يطلب منه الإعانة بالمال ، وإلى مظفر الدين قر أرسلان صاحب العجم ، وكتب إلى الخليفة. ووصلت الأمداد إلى الفرنج ، وورد الخبر من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينية، في عدة عظيمة تتجاور الألف ألف ، يريدون البلاد الإسلامية، فاشتد الأمر على السلطان ومن معه من المسلمين .
وتوفي في هذه السنة حسام الدين سنقر الخلاطي ليلة الاثنين سابع عشري رجب ، والأمير حسام الدين طمان يوم الأربعاء ثالث عشر شعبان ، والأمير عز الدين موسك بن جكو في شعبان ، وهو ابن خال السلطان صلاح الدين.
ومات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون بدمشق ، يوم الثلاثاء حادي عشر رمضان ، ومولده أول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
ومات ضياء الدين عيسى الهكاري، يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة بمنزلة الخروبة.
سنة ست وثمانين وخمسمائة

ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخروبة على حصار الفرنج ، وقدمت عساكر المسلمين من الشرق ومن بقية البلاد، فرحل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيء العساكر. وكملت أبراج الفرنج الثلاثة، التي بنوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، حتى علت على البلد، وامتلأت بالعدد والعدة، وطموا كثيرا من الخندق ، وضايقوا البلد. واشتد خوف المسلمين ، واشتدت الحرب بين الفريقين ، حتى احترقت الأبراج الثلاثة، وخرج أهل عكا منها، فنظفوا الخندق ، وسدوا الثغر، وغنموا ما كان في الأبراج من الحديد، فتقووا به.
وكان بين أسطول المصريين وبين مراكب الفرنج عدة معارك ، فتل فيها كثير من الفرنج. ودخل ملك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام ، وقد فني منهم كثير، فواقعهم الملك عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم ، فلحق به الفرنج إلى قونية وهاجموها، وأحرقوا أسواقها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس ، واسترجاع ما أخذ منهم السلطان من البلاد والحصون ، فمات بها ملكهم . وقام من بعده ابنه ، فسار إلى أنطاكية . وندب السلطان كثيرا ممن كان معه على حرب عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بقي معه مرض كثير، وأمر بتخريب سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل فخرب ذلك ، ونقل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنج في السلطان لقلة من بقي معه ، فركبوا لحربه ونهبوا وطاق الملك العادل . وكانت للمسلمين معهم حرب ، انكسر فيها الفرنج إلى خيامهم ، وقتل منهم آلاف ، فوهت قواهم . غير أن المدد أتاهم ، ونصبوا المجانيق على عكا، فتحول السلطان إلى الحزوبة، فوافى كتاب ملك الروم بقسطنطينية، يخبر بوصول المنبر من عند السلطان ، وكذلك الخطيب والمؤذنين والقراء، وأن الخطبة أقيمت بالجامع القديم بالقسطنطينية للخليفة الناصر لدين الله .
وسار ابن ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشه ، وركب منها البحر إلى عكا، فوصل إليها سادس رمضان ، فأقام عليها إلى أن هلك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمين فلم ينل منهم كبير عرض . ودخل الشتاء وقد طالت مدة البيكار، وضجرت العساكر من كثرة القتال ، فرحل صاحب سنجار وصاحب الجزيرة وصاحب الموصل .
وفيها تولى سيف الدولة أبو الميمون مبارك بن كامل بن منقذ شد الدواوين بديار مصر، وباشر الأسعد بن مماتي معه الديوان في محرم .
سنة سبع وثمانين وخمسمائةودخلت سنة سبع وثمانين : فسار الظاهر صاحب حلب إليها، وسار المظفر إلى حماة .
وبقي السلطان في جمع قليل ، والحرب بين أهل عكا وأمرهم بهاء الدين قراقوش وبين الفرنج . ودخل فصل الربيع ، فوافت العساكر السلطان ، ووصل إلى الفرنج مددهم ، فضايقوا عكا وجدوا في حصارها، ونصبوا عليها المجانيق . وتوالت الحروب إلى أن ملكها الفرنج ، يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، وأسروا من فيها من المسلمين وكانوا ألوفا . وخرجوا يريدون الحرب ، فواقعهم السلطان وكسرهم ، ووقع كلامه في الصلح وإطلاق الأسرى ولم يتم .
فلما كان في سابع عشري رجب برز الفرنج بخيامهم ، وأحضروا أسارى المسلمين ، وحملوا عليهم حملة واحدة قتلوا فيها بأجمعهم في سبيل الله صبرا، واليزك الإسلامي ينظر إليهم . فحمل المسلمون عليهم ، وجرت بينهما حرب شديدة، قتل فيها عدة من الفريقين .
ولما أهل شعبان : سار الفرنج إلى عسقلان ، ورحل السلطان في أثرهم ، وواقعهم في رابع عشره بأرسوف ، فانهزم المسلمون ، وثبت السلطان إلى أن اجتمع عليه المسلمون، وعاد إلى القتال ، حتى التجأ الفرنج إلى جدران أرسوف .
ورحل السلطان في تاسع عشره ، ونزل على عسقلان يريد تخريبها، لعجزه عن حفظها، ففرق أبراجها على الأمراء ،وو قع الضجيج والبكاء في الناس أسفا وغما لخرابها، وكانت من أحسن البلاد بناء، وأحكمها أسوارا، وأطيبها سكنا، فلم يزل التخريب والحريق فيها إلى سلخ شعبان .
قال الحافظ عبد العظيم المنذري في المعجم المترجم : " سمعت الأمير الأجل أياز بن عبد الله " يعنى أبا المنصور البانياسي الناصري " يقول : لما هدمنا عسقلان أعطيت أنا برج الداوية، وهدم خطلج برجا وجدنا عليه مكتوبا عمر على يدي خطلج ، وهذا من عجيب الإتفاق . وشبيه بذلك ما أخبرني به القاضي الأجل أبو الحسن علي بن يحيى

الكاتب قال : رأيت بعسقلان برج الدم ، وخطلج المعزى يهدمه يعني في شعبان .
ورأيت عليه مكتوبا: مما أمر بعمارته السيد الأجل أمير الجيوش يعنى بدرا الجمالي على يد عبده ووليه خطلج في شعبان فعجبت من هذا الاتفاق ،كيف عمر في شعبان على يد خطلج ، وهدم في شعبان على يد خطلج .
ثم رحل السلطان عن عسقلان وقد خربت في ثاني رمضان ، ونزل على الرملة فخرب حصنها، وسم كنيسة لد، وركب إلى الفدس جريدة، ثم عاد وهدم حصن النطرون .
وكانت بين المسلمين والفرنج عدة وقائع في البر والبحر، فعاد السلطان إلى القدس في آخر ذي القعدة . وقدم أبو الهيجاء السمين بعسكر مصر، ووقع الاهتمام في عمارة سور بيت المقدس وحفر الخندق .
وفيها مات علم الدين سليمان بن جندر في آخر ذي الحجة.
ومات الملك المظفر تقي الدين عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو الذي أوقف منازل المعز بمصر مدرسة، في ليلة الجمعة تاسع رمضان ، ودفن بحماة .
ومات نجم الدين محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن حسن بن عبد ا لله الخبوشاني الفقيه الشافعي الصوفي، يوم الأربعاء ثاني عشري ذي القعدة، ودفن بالقرافة .
وفيها سلم أمر الأسطول بمصر للملك العادل ، فاستخدم فيه من قبله ، وأفرد برسمه الزكاة بمصر والحبس الجيوشي بالبرين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية وإشنين وطنبذة فاستناب العادل في مباشرة ذلك ، واستخدم في ديوان الأسطول صفي الدين عبد ا لله بن علي بن شكر. وأحيل الورثة الجيوشية على غير الحبس الذي لهم .
وعظمت زيادة النيل وغرق النواحي، وكثر رخاء الأسعار بمصر، فأبيع القمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا، والخبز البائت ستة أرطال بربع درهم ، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم ، والموز ستة أرطال بدرهم ، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم ، وحمل الخيار بدرهمين ، والتين ثمانية أرطال بدرهم ، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين ، والياسمين خمسة أرطال بدرهم ، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم ، والبسر الجيد عشرة أرطال بدرهم ، وما دونه خمسة عشر رطلا بدرهم . وكثربمصر والقاهرة التجاهر بمعاصي الله ، وظفر الأسطول بمركب فيه اثنتان وعشرون ألف جبنة، كل جبنة قدر الرحى لا يقلها الراجل . وحصلت بمصر زلزلة، وهبت سموم حارة فيها إعصار ثلاثة أيام ، أتلفت الخضروات التي فضلت من الغرق . وانشقت زريبة جامع المقس لقوة الزيادة، وخيف على الجامع أن يسقط ، فأمر بعمارتها.
سنة ثمان وثمانين وخمسمائةوأهلت سنة ثمان وثمانين : والسلطان بالقدس مجتهد في عمارته .
وفي ثالث المحرم : نزل الفرنج على ظاهر عسقلان ، لقصد عمارتها فما مكنوا، وواقعهم جماعة من الأسدية منهم يازكج وغيره ، وتوالت الوقائع بينهم .
وفي صفر: سار الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان إلى البلاد الشرقية، على ما كان بيد الملك المظفر تقي الدين عمر من البلاد التي هي قاطع الفرات ، وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار سوى الخلع والتشريفات . ثم نزل الملك العادل أبو بكر عن كل ماله في الشام ، ماخلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصة بديارمصر، وعوض البلاد الشرقية.
وسار السلطان من القدس في أوائل جمادى الأولى، وكتب بعود الملك الأفضل ،فعاد منكسر القلب إلى السلطان . ولحق العادل بحران والرها وقرر أمرهما، ثم عاد إلى السلطان في أخر جمادى الآخرة.

وفي جمادى الآخرة : ملك الفرنج قلعة الداروم ، وخرج العسكر المصري يريدون السلطان ، فكبسهم الفرنج وأخذوا جميع ما معهم ، وتبدد الناس في البرية. وأسر الفرنج منهم خمسمائة رجل ، وأخذوا نحو ثلاثة آلاف جمل ، وعادوا إلى خيمهم وقد طمعوا،فقصدوا المسير إلى القدس ، ثم اختلفوا ونزلوا بالرملة، وبعثوا رسلهم في طلب الصلح ،فبرز السلطان من القدس في عاشر رجب ، وسار إلى يافا فحاصرها، و لم يزل يقاتل من فيها من الفرنج إلى أن أخذ البلد عنوة، وغنم الناس منها شيئا عظيما. وتسلم السلطان القلعة، وأخرج من كان فيها من الفرنج ، فقدم من الفرنج نجدة كبيرة في خمسين مركبا، فغدر أهل يافا بجماعة من المسلمين، وعاد القتال والمراكب في البحر لم تصل إلى البر، فسارع أهل المراكب إلى البر، وحملوا على السلطان، فرحل إلى يازور وأمر بتخريبها، وسار إلى الرملة ومنها إلى القدس ، وعزم على لقاء الفرنج ، فاختلف عليه أصحابه ،وأسمعه بعضهم كلاما جافيا، فانثنى عن ذلك . وقدم عسكر مصر فخرج إلى الرملة، ووقع الصلح بين السلطان والفرنج لثمان بقين من شعبان . وعقدت هدنة عامة في البر والبحر مدة ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها حادي عشر شعبان وهو أول شهر أيلول على أن يكون للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية . ونودي في الوطاقات وأسواق العسكر: ألا إن الصلح قد انتظم ، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل ، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل . وكان يوم الصلح يوما مشهودا، عم فيه الطائفتين الفرح والسرور، لما نالهم من طول الحرب . فاختلط عسكر الفرنج بعسكر المسلمين ، ورحل جماعة من المسلمين إلى يافا للتجارة، ودخل خلق عظيم من الفرنج إلى القدس بسبب الزيارة، فأكرمهم السلطان ومد لهم الأطعمة وباسطهم . ورحل ملوك الفرنج إلى ناحية عكا، ورحل السلطان إلى القدس ، وسار منها إلى دمشق ، ملقيه الأمر بهاء الدين قراقوش " وقد تخلص من الأسر " على طبرية.
ودخل السلطان إلى دمشق ، لخمس بقين من شوال ، فكانت غيبته عنها أربع سنين .
وأذن للعساكر في التفرق إلى بلادهم فساروا إليها، وبقي عند السلطان ابنه الأفضل علي والقاضي الفاضل .
وفيها انتقل سعر الفول بديار مصر من خمسة عشر دينارا إلى ثلاثين دينارا المائة أردب ، بحكم ان المشتري لعلوفة الوسية العادلية خمسون ألف أردب .
وفيها عثر على رجل اسمه عبد الأحد، من أولاد حسن ابن الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، وأحضر إلى الملك العزيز بالقاهرة، فقيل له : " أنت تدعي أنك الخليفة ؟ " قال : " نعم " . فقيل له : " أين كنت في هذه المدة ؟ " فذكر أن أمه أخرجته من القصر فتاه ، ووصل إلى طنبذة فاختفى بها، ثم خرج إلى مصر، فأواه رجل وشرع يتحدث له في الخلافة، وأنه وقع بعدة بلاد وأقطع أناسا ممن بايعه ، فسجن . وعثر على بعض أقارب الوزير شاور، وقد ثار بالقاهرة ، فسجن هو وجماعته.
وفيها انعقد ارتفاع الديوان الخاص السلطاني على ثلاثمائة ألف وأربعة وخمسين ألف دينار وأربعمائة وأربعة وأربعين دينارا .
ومات فيها جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي جامع السيرة المأمونية وهوبقية بيته في سادس عشر جمادى الأولى بالقاهرة.
وفيها وقع الشروع في حفر الخندق من باب الفتوح إلى المقس .
وكتب بنقل جماعة من أتباع الدولة الفاطمية المحبوسين في الإيوان ودار المظفر ليلا،بحيث لا يشعر بهم أحد، حتى يوصلهم المكلف بذلك إلى صرخد.
وفيها كتب بإخلاء مدينة تنيس ، ونقل أهلها إلى دمياط ، وقطع أشجار بساتين دمياط وإخراج النساء منها. فخلت تنيس إلا من المقاتلة، وحفر خندق دمياط وعمل جسر عند سلسلة البرج بها.
وفيها كثرت الأراجيف بالقاهرة ومصر، وعظمت الشناعات ، وارتفعت الأسعار.
وفيها ورد الخبر في كتاب من اليمن بأن ثلاثة أنهار بالحبشة تغيرت بعدما كانت عذبة، فصار أحدها أجاجا، والآخر لبنا، والآخر دما .

وفيها مات قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية، وقد تغلب عليه ابنه قطب الدين " صاحب سيواس وأقصرا " وزاد في أن حجر عليه . وكان موته في شعبان، فولى تونية بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان ، وبقيت أخوته على ولاياتهم من عهد أبيهم ، فاختلفوا، وثار عليه أخوه ركن الدين سليمان صاحب ووقاط وملك سيواس وأقصرا وقيسارية وهي أعمال أخيه قطب الدين ثم ملك قونية من غياث الدين ، ففر غياث الدين ونزل حلب .
سنة تسع وثمانين وخمسمائةأهلت : والسلطان بدمشق ، فخرج العادل إلى الكرك ، وقدم من اليمن الملك المعز إسماعيل ابن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين في نصف صفر، فسربه السلطان .
فلما كانت ليلة السبت سادس عشره : نزل بالسلطان مرض ، فأمر يوم السبت ولده الفضل أن يجلس على الطعام ، فجلس في مرضع السلطان. وتزايد به المرض إلى اليوم الحادي عشر من مرضه ، فحلف الأفضل الناس ، واستمر السلطان في تزايد من المرض إلى ليلة الأربعاء سابع عشري صفر " وهى ليلة الثاني عشر من المرض " فاحتضر ومات بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور. فركب الأفضل ، ودار في الأسواق ، وطيب قلوب العامة.
وكان رحمه الله كثير التواضع ، قريبا من الناس ، كثير الاحتمال ، شديد المداراة، محبا للفقهاء وأهل الدين والخير محسنا إليهم ، مائلا إلى الفضائل ،يستحسن الشعر الجيد ويردده في مجلسه . ومدحه كثير من الشعراء، وانتجعوه من البلدان . وكان شديد التمسك بالشريعة، سمع الحديث من أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم بن بنت أبي سعد، وأبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي الطاهر السلفي، وابن عوف ، وجماعة غيرهم . وكان كريما: أطلق من الخيل بمرج عكا لمن معه اثني عشر ألف رأس ، سوى أثمان الخيل التي أصيبت في الجهاد. و لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه ، وتأخر عنه الأمير أيوب بن كنان في بعض سفراته لدين لزمه ، فتقبل لغرمائه باثني عشر ألف دينار مصرية. وكان ورعا، رأى يوما العماد الكاتب يكتب من دواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام ، فلم يعد يكتب منها عنده . وكان لا يصلى إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم ، وكان يصلي قبيل الصبح ركعات إذا استيقظ ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه . وكان شجاعا في الحروب ، يمر في الصفوف وليس معه سوى صبي . وقرىء ، عليه جزء من الحديث بين الصفين ، وهو على ظهر فرسه ، وكان ذاكرا لوقائع العرب وعجائب الدنيا، ومجلسه طاهر من المعايب، رحمه الله وغفر له .
ولما مات جلس الأفضل للعزاء، وكثر بكاء الناس عليه . وغسله الفقيه خطيب دمشق ، أخرج بعد صلاة الظهر، وصلى الناس عليه أرسالا، ودفن بداره التي مرض فيها بالقلعة، ثم نقل في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى تربة بنيت له بجوار جامع بني أمية . وكتب بوفاته إلى العزيز بمصر، وإلى العادل بالكرك . وكان عمره يوم مات نحوا من سبع وخمسين سنة، منها مدة ملكه بعد موت العاضد اثنتان وعشرون سنة وأيام . وترك من الأولاد سبعة عشر ذكرا وبنتا واحدة صغيرة، ولم يخلف في خزائنه سوى سبعة وأربعين درهما، و لم يترك دارا ولا عقارا. وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني صاحب سره ، وبمنزلة الوزير منه .
وفيها قتل طغرل بن أرسلان بن طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق في رابع عشري شهر ربيع الأول ، وهو أخر من ملك بلاد العجم من السلاطين السلجوقية، وابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأولهم طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق ، فتكون مدة دولتهم مائة سنة وثمانيا وخمسين سنة.

السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ولد بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة، ومات أبوه بدمشق وهو على سلطنة ديار مصر مقيم بالقاهرة، وعنده جل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد . فلما بلغه موت أبيه جلس للعزاء وأخذ بالحزم ، وقرر أمور دولته ،وخلع على الأمراء وأرباب الدولة يعد انقضاء العزاء. فقام أخوه الأفضل نور الدين علي بدمشق ، وكتب إلى الخليفة الناصر يطالعه بوفاة أبيه ، من إنشاء العماد الكاتب . وبعث بذلك مع القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد ا لله الشهرزوري، ومعه عدد والده وملابسه وخيله ، وهدية نفيسة. وسار العادل من الكرك إلى بلاد المشرق ، فأقام بقلعة جعبر وبعث نوابه إلى حران والرها، واستوزر الأفضل الوزير ضياء الدين نصر ا لله بن محمد بن الأئير، وفوض إليه أموره كلها، فحسن له إبعاد أمراء أبيه وأكابر أصحابه ، وأن يستجد أمراء غيرهم ، ففارقه جماعة منهم الأمر فخر الدين جهاركس، وفارس الدين ميمون القصري، وشمس الدين سنقر الكبير، وكانوا عظماء الدولة، فصاروا إلى الملك العزيز بالقاهرة فأكرمهم ، وولى فخر الدين أستاداره، وفوض إليه أمره ، وجعل فارس الدين وشمس الدين على صيداء وأعمالها، وكان ذلك لهما، وزادهما نابلس وبلادها، وسار القاضي الفاضل أيضا من دمشق ولحق بالقاهرة، فخرج العزيز إلى لقائه وأجل قدومه وأكرمه ، فشرع القوم في تقرير قواعد ملك العزيز والأفضل في شغل عنهم ، وكانت مدينة القدس مضافة للأفضل ، فكتب إلى أخيه العزيز يرغب عنها له . وكان ذلك من تدبير وزيره ابن الأثير، لأنها كانت تحتاج حينئذ إلى أموال ورجال لمدافعة الفرنج، فسر العزيز بذلك ، وجهز عشرة آلاف دينار إلى عز الدين جرديك النوري متولي القدس ، لينفقها في عسكر القدس ، فخطب له به . وخشي العزيز من نقض الهدنه بينه وبن الفرنج ، فبعث عسكرا إلى القدس احترازا من الفرنج . ثم بدا للأفضل أن يعود فيما رغب عنه لأخيه من القدس ، ورجع عن ذلك ، فتغير العزيز من هذا، وأخذ الأمراء في الإغراء بينهما، وحسنوا للعزيز الاستبداد بالملك والقيام مقام أبيه ، فبلغ ذلك الأفضل .
سنة تسعين و خمسمائة

ودخلت سنة تسعين : وقد تنافرت القلوب ، وقويت الوحشة بين الأخوين ، واجتمعت الأمراء الصلاحية على أن يكون الأمر كله للعزيز، فاضطربت أحوال الأفضل . وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر، من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم ، يريد الشام وانتزاعها من أخيه الأفضل ، من أجل أمور منها أن جبيل " وهو من جملة الفتوح الصلاحية " كان مع رجل كردي فقيه أقامه صلاح الدين مستحفظا بها، فأرغبه الفرنج بمال حتى سلمه لهم . وخرج الأفضل من دمشق ليستنقذه من الفرثج ، فتعذر عليه ، وظهر العجز عن استخلاصه ، فامتعض الأمراء لذلك ، وخوفوا العزيز من عاقبة أمر الفرنج ، فسار في صفر واستخلف أخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، وترك بالقاهرة بهاء الدين قراقوش الأسدي وصيرم وسيف الدين يازكج وخطلج في تسعمائة فارس . واتفق أن الأمير صارم الدين قايماز النجمي " أحد أكابر الأمراء الصلاحية " استوحش من الأفضل لإعراضه عنه ، فخرج من دمشق يريد إقطاعه ، ولحق بالعزيز فأكرمه ورفع محله . وهم الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه ، فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه ، وحسنوا له محاربته ، فمال إليهم . وبعث إلى عمه العادل وهو بالشرق ، وإلى أخيه الظاهر بحلب ، وإلى المنصور بحماة، وإلى الأمجد صاحب بعلبك وإلى المجاهد شيركوه صاحب حمص ، يستنجدهم على أخيه العزيز. فوردت رسلهم في جمادى الآخرة، يعدون بالقدوم عليه . ثم إنه برز من دمشق ، ونزل برأس الماء. فلما وصل العزيز إلى القصير من الغور ضاق الأفضل ، ورجع من الفوار إلى رأس الماء، فأدركت مقدمة العزيز ساقته ، وكادوا يكبسونه فانهزم إلى دمشق ، ودخلها لخمس مضين منه . ونزل العزيز في غده على دمشق في قوة قوية، ونازل البلد. وكان الأفضل قد استعد لقتاله ، فقدم العادل والظاهر والمنصور والمجاهد والأمجد إلى دمشق . وبعث العادل إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع في الأفضل ، ويستأذنه في الاجتماع به ، فأذن له . وخرج العادل فاجتمع بالعزيز " وكل منهما راكب " وتحدث معه في الصلح ، وأن ينفس الخناق عن البلد، وكان قد اشتد الحصار، وقطعت الأنهار، ونهبت الثمار، والوقت زمن المشمش. فوافق العزيز عمه ، وتأخر إلى داريا ونزل على العوج ، وسير الأمير فخر الدين جهاركس الأستادار " وهو يومئذ أجل الصلاحية " إلى العادل ، فقرر الصلح على شروط ، وعاد إلى العزيز. فرحل ونزل مرج الصفر فحدث له مرض شديد، وأرجف بموته ، ثم أبل منه . وأمر بعمل نسخة اليمن ، وهى جامعة لمقترحات جميع الملوك ، وحسم مواد الخلاف ، وأن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه ، والملك المجاهد شيركوه ، يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له ، وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون في حيز الملك الظاهر صاحب حلب ومؤزرا له . وبعث كل من الملوك أميرا من أمرائه ليحضر الحلف ، فاجتمعوا يوم السبت ثاني عشر شهر رجب ، وجرت أمور آلت إلى الحلف على دخن .
وتزوج العزيز بابنة عمه العادل ، وقبل العقد عنه القاضي المرتضى محمد بن القاضي الجليس عبد العزيز السعدي. ووكل العادل القاضي محيي الدين محمد بن شرف الدين بن عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز، وعقد بينهما قاضي القضاة محيي الدين. وكتب العماد الكاتب الكتاب في ثوب أطلس ، وقرئ بين يدي الملك الظاهر، وعقد العقد عنده.
فلما كان يوم الجمعة أول شعبان : خرج الملك الظاهر غازي صاحب حلب لوداع أخيه ، فركب العزيز إلى لقائه وأنزله معه ، وأكلا ثم تفرقا، بعد ما أهدى كل منهما لأخيه هدية سنية. ثم خرج العادل لوداع العزيز في خواصه ، ثم خرج الأفضل فودعه أيضا، وهو آخر من ودعه . ورحل العزيز من مرج الصفر في ثالث شعبان يريد مصر، فلما كان ثالث عشره عمل الأفضل دعوة عظيمة لعمه وبقية الملوك ووادعهم ، ثم رحلوا من الغد إلى بلادهم إلا العادل ، فإنه أقام إلى تاسع شهر رمضان ، ثم رحل إلى بلاده بالشرق .

وقدم العزيز إلى القاهرة في يوم وأما الأفضل فإنه هم بمكاتبة العزيز بما يؤكد أسباب الصلح ، فأماله عن ذلك خواصه ، وأغروه بأخيه ، ورموا جماعة من أمرائه بأنهم يكاتبون العزيز، فاستوحش منهم ، وفطنوا بذلك فتفرقوا عنه . وسار الأمير عز الدين أسامة صاحب كوكب وعجلون عن الأفضل ، ولحق بالعزيز فأكرمه غاية الإكرام ، وأخذ يحرضه على الفضل ، ويحثه على المسير إلى دمشق وانتزاعها منه ، ويقول له : إن الأفضل قد غلب على اختياره ، وحكم عليه وزيره الضياء ابن الأثير الجزري، وقد افسد أحوال دولته برأيه الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك ، ويحسن له نقض اليمن ، فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النية، ولم يوجد ذلك ، فحنثهم في اليمين قد تحقق، وبرئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك ، قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه " ، وبينا هو في ذلك إذ فارق الأفضل الأمير شمس الدين أيدمر بن السلار، وصل إلى العزيز، فساعد الأمر أسامة على قصده ، ثم وصل أيضا إلى العزيز القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بق أبي عصرون ، فاحترمه وولاه قضاء الديار المصرية، وضم إليه نظر الأوقاف .
وأقبل الأفضل بدمشق على اللعب ليله ونهاره ، وتظاهر بلذاته، وفوض الأمور إلى وزيره ، ثم ترك اللعب من غير سبب ، وتاب وأزال المنكرات وأراق الخمور، وأقبل على العبادة، ولبس الخشن من الثياب ، وشرع في نسخ مصحف بخطه ، واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه بعبادة ربه ، وواظب على الصيام ، وجالس الفقراء، وبالغ في التقشف ، حتى صار يصوم النهار ويقوم الليل .
وأما العزيز فإنه قطع خبز الفقيه الكمال الكردي من مصر، فأفسد جماعة على السلطان ، وخرج إلى العرب فجمع ونهب الإسكندرية ، فسار إليه العسكر فلم يظفروا به . وقطع العزيز أيضا خبز الجناح وعلكان ومجد الدين الفقيه وعز الدين صهر الفقيه ، فساروا من القاهرة إلى دمشق ، فأقطعهم الملك الأفضل الإقطاعات .
وفي شهر رمضان : كسر بحر أبي المنجا بعد عيد الصليب بسبعة أيام ، وتجاهر الناس فيه بالمنكرات من غير نكر عليهم .
وفيه وقعت الآفة في البقر والجمال والحمير، مهلك منها كثير.
وفيه كثر حمل الغلة من البحيرة إلى بلاد المغرب ، لشدة الغلاء بها، وكثرت بين الأمراء إشاعة أن إقطاعاتهم تؤخذ منهم ، فقصروا في عمارة البلاد. وارتفع السعر بالإسكندرية، ونقص ماء النيل بعدما بلغ اثنين وعشرين إصبعا من سبعة عشر ذراعا، فرفعت الأسعار، وشرقت البلاد، وبلغ القمح كل أردب بدينار، وأخذ في الزيادة وتعذر وجود الخبز، وضج الناس ، وكثرت المنكرات ، وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره . وأقيمت طاحون لطحن الحشيش بالمحمودية، وحميت بيوت المزر، وجعل عليها ضرائب ، فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر دينارا، ومنع من عمل المزر البيوتي، وتجاهر الكافة بكل قبيح ، فترقب أهل المعرفة حلول البلاء.
وفيها قدم رسول متملك القسطنطينية يطلب صليب الصلبوت، فأحضر من القدس، وكان مرصعا بالجوهر، وسلم إليه على أن يعاد ثغر جبيل من الفرنج . وتوجه الأمير شمس الدين جعفر بن شمس الخلافة بذلك .
تتمة سنة تسعين وخمسمائةفي يوم الخميس رابع محرم : عقد مجلس بحضرة السلطان ، حضره أصحاب الدواوين.
وفي عاشره : قدم الأمير حسام الدين ببشارة من عند الملك العادل وبقية الأولاد الناصرية، فتلقاه السلطان والأمراء، وحمل إليه سماط السلطنة، فطلب الموافقة بين الأهل .
وفي سادس عشره : ركب السلطان للصيد بالجيزة، ومر بباب زويلة، فأنكر بروز مصاطب الحوانيت في الأسواق ، ورسم بهدمها، فهدمت بمباشرة محتسب القاهرة . ومر بصناعة العمائر، فرسم بسد طلقات الدور المجاورة للنيل فسدت .
وفي صفر: غيرت ولاة الأعمال .
وفي عاشره : حلف العزيز لعمه العادل .
وفي ثالث عشريه :عاد العزيز من الصيد بالجيزة .
وفي هذا الشهر: غلت الأسعار، فبلغ كل مائة أردب ثمانين دينارا.
وفي خامس عشره : قدم فارس الدين ميمون القصري مقطع صيداء، وسيف الدين سنقر المشطوب ، وشمس الدين سنقر الكبير مقطع الشقيف ، مفارقين الملك الأفضل ، فدفع العزيز لميمون خمسمائة دينار، ولسنقر أربعمائة دينار، وللمشطوب ثلاثمائة دينار .

وفي ربيع الأول : اشتد الأمر في للزحام على الخبز لقلته في الأسواق ، ووقع الحريق في عدة مراضع بالقاهرة.
وفي عاشره : أخرجت خيمة السلطان للسفر.
وفي ثالث عشره: انحل السعر قليلا، ووجد الخبز في الأسواق .
وفي نصفه : ورد كتاب علم الدين قيصر بأنه تسلم القدس من جرديك في تاسعه ، وتسلم صليب الصلبوت ، وقرر أيضا إعادة جبيل من الفرنج .
وفي سادس عشره : قدم بدر الدين لؤلؤ بكتاب الأفضل بخبر جبيل ، وسبب قدوم ميمون ورفيقيه .
وفيه نزع السعر، وبلغ كل مائة أردب إلى مائة وخمسة وسبعين دينارا، وعظم ضجيج الناس من الجوع .
وفي سابع عشريه: وصل صليب الصلبوت من القدس ، وهو خشبة مرصعة بجواهر في ذهب.
وفي ثامن عشريه : ولى زين الدين علي بن يوسف الدمشقي قضاء القضاة بديار مصر، عوضا عن صدر الدين بن درباس ، بعناية جماعة من المماليك به ، وخلع عليه .
وفي سلخه : قدم رسول الملك العادل .
وفي تاسع ربيع الآخر: هدم المحتسب حوانيت وإصطبلا كان صدر الدين بن درباس أنشأها في زيادة الجامع الأزهر بجوار داره ، ورفع صدر الدين نقض ذلك إلى داره .
وقوي عزم السلطان على السفر، وبعث بهرام يقترض له مالا من تجار الإسكندرية، وطلب من قاضي القضاة زين الدين أن يقرضه مال الأيتام ، وكان يبلغ أربعة عشر ألف دينار، فحملت إلى الخزانة. وكنب السلطان خطه بذلك وأشهد عليه ، وأحال به على بيت المال ، وقرر استخراجه منه وأمر بحمله إلى القاضي . هذا وقد تأخر القرض الذي كان السلطان صلاح الدين أقرضه في نوبة عكا، وهو ثلاثون ألف دينار، فلم يوف منه إلا يسيرا .
وفي سادس عشره : توجه جعفر بن شمس الخلافة إلى الفرنج لإعادة جبيل .
وفي يوم الخميس تاسع عشره : خرج السلطان إلى مخيمه ببركة الجب ، واستناب في غيبته بهاء الدين قراقوش ، ومعه ثلاثة عشر أميرا، ونحو سبعمائة فارس . وتوجه مع السلطان سبعة وعشرون أميرا، في ألفي فارس وألف من الحلقة.
وفي ثالث جمادى الأولى : استقل السلطان بالمسير، ونزل على دمشق في تاسع جمادى الآخرة، ورحل عنها في ثامن عشريه بشفاعة عمه الملك العادل .
وفي تاسع رجب : دخل الأفضل دمشق ، بعد أن تقرر الصلح بينه وبن أخيه الملك العزيز في سادسه .
وفي رابع شعبان : دقت البشائر بالقاهرة، فرحا بالصلح بين الأولاد الناصرية، وزينت الأسواق.
وفيه انحط السعر.
وقدم السلطان الملك العزيز إلى القاهرة سلخ شعبان .
وفي سابع رمضان: وصل الملك المعظم توران شاه وإخوته وعيالهم من دمشق ، والديوان في ضائقة شديدة، فعجزوا عن إقامة وظائفهم ومطابخهم وجراياتهم ، فنزلوا في الدار العزيزية . ونزعت الأسعار في المأكولات كلها .
وفي تاسع عشره : وصل عز الدين أسامة مفارقا للأفضل .
سنة إحدى وتسعين وخمسمائةودخلت سنة إحدى وتسعين ، والعزيز على عزم المسير إلى الشام ، فاستشار الأفضل أصحابه، فمنهم من أشار عليه بمكاتبة العزيز واسترضائه ، وأشار الوزير ابن الأثير عليه بالاعتصار بعمه العادل ، واستنجاده على العزيز، فأصغى إليه ، وكثرت الإشاعة بقصد العزيز إقامة الخطبة في دمشق باسمه ، وضرب السكة له . فانزعج الأفضل ، وخرج من دمشق في رابع عشر جمادى الأولى، وسار جريدة إلى عمه العادل ، فلقيه بصفين ، فلما نزلا ألحف الأفضل في المسألة له أن ينزل عنده بدمشق ، ليجيره من أخيه العزيز، فأجابه وأنزله بقلعة جعبر، ثم سار معه إلى دمشق أول جمادى الآخرة، فوصل إليها في تاسعه ، ودخل الأفضل إلى حلب على البرية، مستصرخا بأخيه الملك الظاهر، فتلقاه وحلف له على مساعدته ، ثم رحل عنه إلى حماة، فتلقاه ابن عمه الملك المنصور محمد ابن المظفر، وحلف له ، ثم سار عنه إلى دمشق ، فدخلها في ثالث عشره وبها العادل ، فأفضى إليه بأسراره . وعلم العادل اختلال أحوال الأفضل ، وسوء تدبيره وقبيح سيرته ، فانحرف عنه ونهاه فلم ينته إلا أنه مبالغ في كرامة عمه ، حتى أنه ترك له السنجق . وصار العادل يركب بالسنجق السلطاني في كل يوم، ويركب الأفضل في خدمته .

فما هو إلا أن استقر ذلك إذ حدث بين الظاهر صاحب حلب وبين أخيه الأفضل وعمه العادل وحشة، من أجل ميل الملك المنصور صاحب حماة إلى العادل . فسير الظاهر إلى أخيه العزيز يحرضه على قصد الشام ، ووعده بالمساعدة له على الأفضل ، فوافق ذلك غرضه ، وخرج من القاهرة بعساكره .
فلما قارب العزيز دمشق كاتب الملك العادل الأمراء سرا واستمالهم ، وكان الأمراء الصلاحية قد وقع بينهم وبين الأمراء الأسدية تنافس ، لتقديم العزيز الصلاحية على الأسدية. فعملت حيل العادل حتى وقعت الوحشة بين الطائفتين ، ونفرت الأسدية من الملك العزيز. وكاتب العادل العزيز سرا يخوفه من الأسدية، ويحثه على إبعادهم عنه ، وكاتب الأسدية، يخوفهم من العزيز ويستميلهم إليه . فحاق ما مكره وتم له ما دبره ، وعزموا على مفارقة العزيز، وحسنوا للأكراد والمهرانية موافقتهم ، فانقادوا إليهم . وكان مقدم أمراء الأكراد الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين ، فاجتمع بالأكراد مع الأسدية، واتفقوا بأجمعهم على مفارقة العزيز والانضمام إلى العادل والأفضل ، ومضايقة العزيز وعقدوا النية على مكاتبة من بقي منهم بمصر، أن يستقبلوا العزيز ويحولوا بينه وبين القاهرة، فيصير بذلك بين الفريقين، ويؤخذ باليد.
فلما كان في عشية الرابع من شوال : رحل الأمير أبو الهيجاء بالأكراد والمهرانية والأسدية، وهم لابسون لامة الحرب ، ولحقوا بالعادل فسر بهم ، لأنهم معظم الجيش . فلما أصبح نهار الخامس من شوال رحل العزيز يريد مصر، وهو متخوف من الأسدية المقيمين بالقاهرة . وكان نائبه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فلم يتغير على العزيز، ووصل إلى القاهرة فاستقر بها.ثم إن العادل خرج بالأفضل من دمشق ، ومعه العساكر يريد اخذ القاهرة، لما داخله من الطمع في العزيز، واتفق مع الأفضل على أن يكون للعادل ثلث البلاد المصرية، ويكون ثلثاها للأفضل . فأجابه إلى ذلك ورحلا من دمشق ، وخرج معهم أيضا المنصور صاحب حماة، وعز الدين بن المقدم وسابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر واستخلف الأفضل بدمشق أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصرى وانضم إليهم عز الدين جرديك النوري نائب القدس ، فلما وصلوا تل العجول ، أخلع الأفضل على جميع الأسدية، وعلى الأكراد الأفضلية، وأعطاهم الكوسات . وسار الأفضل إلى القدس، وتسلمه من جرديك ، وأعطاه بيسان وكوكب والجولان والمنيحة ثم سار العسكر حتى نزل على بلبيس ، وبها، جموع الصلاحية والعزيزية، ومقدمهم فخر الدين جهاركس على الصلاحية، والأمير هكدري ابن يعلي الحميدي على طائفة الأكراد، فنازلهم العادل والأفضل.

وكانت أيام زيادة ماء النيل ، والأسعار غالية والعلف متعذر، فبلغ العسكر الواصل الجهد، وندم أكابرهم على ما كان منهم ، هذا والعزيز يمد أهل بلبيس بالمراكب المشحونة بالرجال والعدد، فبلغ ذلك الأسدية، فركبوا إلى المراكب ، وأخذوا بعضها وغرقوا بعضها، وأسروا خلقا، وسلم ثمانية مراكب عادت إلى القاهرة، واشتد الحصارعلى بلبيس حتى كادت تؤخذ، وضاق العزيز بالقاهرة، وقلت الأموال عنده ، وكان محببا إلى الرعية، لما فيه من حسن السيرة، وكثرة الكرم والرفق ، فلما نازل العادل والأفضل بلبيس احتاج إلى استخدام الرجال ، فلم يجد عنده مالا، فبذل له الأغنياء جملة أموال ، فلم يقبلها، وكان القاضي قد تنزه عن ملابسة الدولة ومخالطة أهلها، واعتزل لما رأى من اختلال الأحوال ، وكان عبد الكريم بن علي البيساني يتولى الحكم والإشراف في البحيرة مدة طويلة، فحصل من ذلك مالا جما. ثم حدثت بينه وبين أخيه القاضي الفاضل مشاجرة اقتضت اتضاع حاله عند الناس بعد احترامهم إياه ، فصرف عن عمله . وكان متزوجا بامرأة موسرة من بنى ميسر، فسكن بها في ثغر الإسكندرية، وأساء عشرتها، لسوء خلق كان فيه ، فسار أبرها إلى الإسكندرية، وأثبت عند قاضيها ضرر ابنته ، فمضى القاضي بنفسه إلى الدار، فلم يقدر على فتح الباب الذي من داخله المرأة، فأمر بنقب الدار، وأخرج المرأة وسلمها لأبيها وأعاد بناء النقب ، فغضب عبد الكريم وسار إلى القاهرة، وبذل للأمير فخر الدين جهاركس خمسة آلاف دينار مصرية، ووعد خزانة الملك العزيز بأربعين ألف دينار على ولاية قضاء الإسكندرية، وحمل ذلك بأجمعه إلى فخر الدين جهاركس . فأحضره جهاركس إلى العزيز، وهو حينئذ في غاية الضرورة إلى المال ، وقال: " هذه خزانة مال قد أتيتك بها من غير طلب ولا تعب " ، وعرفه الخبر. فأطرق العزيز مليا، ثم رفع رأسه وقال : " أعد المال إلى صاحبه ، وقل له إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلا، وعرفه أني إذا قبلت هذا منه أكون قد بعت به أهل الإسكندرية، وهذا لا افعله أبدا " . فلما سمع هذا جهاركس وجم ، وظهر في وجهه التغير. فقال له العزيز: " أراك واجما، أظنك أخذت على الوساطة شيئا " . قال : " نعم خمسة آلاف دينار " . فأطرق العزيز، ثم قال : " أعطاك مالا تنتفع به ، وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة " ، ثم وقع له بخطه إطلاق جهة طنبدة، ومغلها في السنة سبعة آلاف دينار، فلامه أصحابه وألحوا عليه في الاقتراض من القاضي الفاضل ، فاستدعاه إلى مجلسه ، بمنظرة من دار الوزارة كانت تشرف على الطريق ، فعندما عاين القاضي الفاضل استحيا منه ، ومضى إلى دار الحرم ، احتراما له من مخاطبته في القرض ، فلم يزل الأمراء به حتى أخرجوه من عند الحرم . فلما اجتمع بالفاضل قال له ، بعد أن أطنب في الثناء عليه : " قد علمت أن الأمور قد ضاقت علي، وقلت الأموال عندي، وليس لي إلا حسن نظرك ، وإصلاح الأمر إما بمالك أو برأيك أو بنفسك " . فقال القاضي الفاضل : " جميع ما أنا فيه من نعمتكم ، ونحن نقدم أولا الرأي والحيلة، ومتى احتيج إلى المال فهو في يديك " .
واتفق أن العادل " لما اشتد على أصحابه الغلاء والضيق " استدعى القاضي الفاضل برسول قدم منه على العزيز، فسيره إليه . وقد قيل إن العزيز لما جرى على المراكب التي جهزها إلى بلبيس ما جرى، خاف على الملك أن يخرج من يده ، فسير إلى عمه في السر يعرفه أنه قد أخطأ، وأنه قد عزم على اللحاق ببلاد المغرب ، ويسأله الاحتفاظ بحرمه وأولاده . فرق له العادل ، واستدعى القاضي الفاضل ، فلما قرب منه ركب إلى لقائه وأكرمه ، ومازالا حتى تقرر الأمر على أن الأسدية والأكراد يرجعون إلى خدمة العزيز، من غير أن يؤاخذهم بشيء، ويرد عليهم إقطاعاتهم ، ويحلف العزيز لهم ويحلفون له ، وأن يكون العادل مقيما بمصر عند العزيز، ليقرر قواعد ملكه ، وأن العزيز والأفضل يصطلحان ، ويستقر كل منهما على ما بيده. فعاد القاضي الفاضل ، وقد تقرر الأمر على ما ذكر، وحلف كل منهم لصاحبه على الوفاء.

وخرج العزيز من القاهرة إلى بلبيس ، فالتقاه عمه العادل وأخوه الأفضل ، ووقع الصلح التام في الظاهر. ورحل الأفضل يريد الشام ، ومعه الأمير أبو الهيجاء السمين ، وصار الساحل جميعه مع الأفضل ، وعاد العزيز إلى القاهرة، وصحبته عمه العادل ، فأنزله في القصر من القاهرة . وأخذ العادل في إصلاح أمور مصر، والنظر في ضياعها ورباعها، وأظهر من محبة العزيز شيئا زائدا، وصار إليه الأمر والنهي والحكم والتصرف في سائر أمور الدولة، جليلها وحقيرها، وصرف القاضي محيي الدين محمد بن أبي عصرون عن قضاء مصر، وولى زين الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي .
وفيها جدد العزيز الصلح بينه وبين الفرنج .
وفيها ورد كتاب ملك الروم ، يتضمن أن كلمة الروم اجتمعت عليه ، وأنه أحسن إلى المسلمين وأمرهم بإقامة الجامع ، فأقيمت الصلاة فيه يوم الجمعة الصلاة مع الخطبة، وأنه عمر جانبا منه كان انهدم من ماله ، فتمكن من في القسطنطينية من المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة بها. والتمس ملك الروم الوصية بالبطرك والنصارى، وأن يمكنوا من إخراج موتاهم بالشمع الموقد، وإظهار شعائرهم بكنائسهم ، وأن يفرج عن أسارى الروم بمصر .
وفيها عزل زين الدين علي بن يوسف بن بندار عن القضاء، في حادي عشر جمادى الأولى، بمحيي الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن هبة الله بن عصرون .
سنة اثنتين وتسعين وخمسمائةوأهلت سنة اثنتين وتسعين : ففي أولها : وصل الملك الأفضل إلى دمشق ، وتفرقت العساكر إلى بلادها، ولزم الأفضل الزهد، وأقبل على العبادة، وصارت أمور الدولة بأسرها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثر، فاختلت به الأحوال غاية الاختلال ، وكثر شاكوه . وضبط العادل أمور مملكة مصر، وغير الإقطاعات، ووفر الارتفاعات وعمال الأعمال ، وثمر الأموال ، وقرب إلى العزيز الأمير عز الدين أسامة، فصار صاحب سره وحاجبه ، والواسطة بينه وبين عمه . واختص الأمير صارم الدين قايماز النجمي بالعادل ، وصار صفوته .
وفي يوم السبت ثاني عشر المحرم : رفعت يد ابن أبي عصرون وأيدي نوابه من الحكم ، وأمر أن يعتزل في بيته ، وأن يخرج عن مصر، فأغلق بابه ، وشرع في تجهيز نفسه ، وتوسل في إقامته .
وفي سابع عشريه : خلع علي زين الدين علي بن يوسف بن بندار وأعيد إلى القضاء، عوضا عن ابن أبي عصرون .
وفي أول صفر: حبس الملك العزيز ناحية الخربة من المنوفية على زاوية الإمام الشافعي بالجامع العميق بمصر، وفرض تدريسها إلى البهاء بن الجميزي.
وفي صفر وشهر ربيع الأول : كثرت الطرحى من الأموات على الطرقات ، وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس ، وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه ، وأكثرهم يموت جوعا .
وانتهى القمح إلى مائة وثمانين دينارا المائة أردب ، والخبز إلى ثلاثة أرطال بدرهم ، وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار، وغدوا إلى البحر وترددوا إليه ، ليستقوا منه في الجرار، ويبيعوها بثمن درهم الجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم ، فيصيحون : " من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة، ومن يشتريها منا بكسرة ؟ " . وزاد السعر، وضاق الخناق ، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع . وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات ، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز " ويضرب من ينهب ، ويشج رأسه ، ويسال دمه ، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه ، وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب ، فإن مراكبه تتواصل وتبيع بشونه .
وورد الخبر في تاسع صفر بأن تابوت الملك الناصر صلاح الدين نقل في يوم عاشوراء، من قلعة دمشق إلى تربة عملت له ، فكان يوما مشهودا.

وفي تاسع عشريه : قدم الملك الزاهر داود مجير الدين صاحب البيرة، وسابق الدين عثمان صاحب شيرز، وبهاء الدين بن شداد قاضي حلب ، فخرج العادل لتلقيهم ببركة الجب ، وقدم العماد الكاتب أيضا. وورد الخبر بأن عربان الغرب هبطوا إلى البحيرة، واشتروا القمح كل ويبة بدينار، وأن بلاد الغرب قد عدمت فيها الأقوات في السنة الخالية، وانقطعت عنها الأمطار السنة الحاضرة، وزاد الجراد بالشام ، وعظم خطبه ، وكثرت بمصر والقاهرة الأمراض الحادة والحميات المحرقة ، وزادت وأفرطت . وغلت الأشربة والسكر وعقاقير العطار، وبيعت بطيخة بأربعة وعشرين درهما، وصار لفروج لا يقدر عليه ، وانتهى سعر القمح إلى مائتي دينار كل مائة أردب ، وغلظ الأمر في الغلاء، وعدم القوت ، وكثر السؤال ، وكثرت الموتى بالجوع . وخطف الخبز متى ظهر، وشوهد من يستف التراب ، ومن يأكل الزبل .
وازدحم الناس على الطير الذي يرمى من مطابخ السكر. وكثرت الأموات أيضا بالإسكندرية، وتزايد وجود الطرحى بها على الطرقات ، وعدمت المواساة، وعظم هلاك الأغنياء والفقراء وانكشاف الأحوال وشوهد من يبحث المزابل القديمة على قشور الترمس ، وعلى نقاضات الموائد وكناسات الآدر، ومن يقفل بابه ويموت ، ومن عمي من الجوع ويقف على الحوانيت ويقول : أشموني رائحة الخبز. واستخدم رجل في ديوان الزكاة، وكتب خطه بمبلغ اثنين وخمسين ألف دينار، لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي ببهاء الدين قراقوش الشاد في هذا المال ، وألا يتصرف فيه ، وأن يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها. ووقع لابن ثعلب الشريف الجعفري بخبز مبلغه في السنة ستون ألف دينار، ودفع له كوس وعلم . وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية عليه من لحم وخبز، وإلى أن يتمحل في بعض الأوقات لا كلها، لبعض ما يتبلغ به أهلها من خبز، وكثر ضجيجهم وشكواهم ، فلم يسمع .
وفي شهر ربيع الآخر : صرف صارم الدين خطلج الغزي عن شد الأموال بالدواوين ، وسلم الشد إلى بهاء الدين قراقوش ، مضافا إلى شد الزكوات ، فكمل شد المال له .
وفيه كثر الموت ، بحيث لم تبق دار إلا وفيها جنازة أو مناحة أو مريض ، واشتد الأمر، وغلت العقاقير، وعدم الطبيب ، وصار من يوجد من الأطباء لا يخلص إليه من شدة الزحام ، وصار أمر الموتى أكئر أشغال الأحياء، وما ينقضي يوم إلا عن عدة جنائز من كل حارة. وعدم من يحفر، وإذا وجد لم يعمق الحفر، فلا يلبث الميت أن تظهر له رائحة وصارت الجبانات لا يستطاع مقالتها، ولا زيارة قبورها، وأخذت الأسعار في الانحلال .
وفي جمادى الأولى : تواترت الأخبار باختلال الحال بدمشق ، فوقع العزم على المسير إلى الشام ، ووقع الشروع في الإنفاق في الحاشية، فقبضوا شهرا واحدا، وكان قد استحق لهم أربعة عشر شهرا، فإن المادة قصرت عن نفقة ذلك لهم ، فأحيل بعضهم على جهات . وامتنع الجاندارية من قبض شهر، وأنهى ذلك إلى العزيز، فكتب إلى خطلبا بإخراجهم إلى المخيم ، ومن تقاعد عن الخروج قيده الطواشي قراقوش، واستخدمه في السور، فخرجوا بأنفس غير طيبة، وألسنة بالشكوى معلنة، وكاد المال الذي أنفق في الحاشية قد افترض من الأمراء، وأحيل به على الجوالي لسنة ثلاث وتسعين ، وخرج العزيز إلى المخيم ، وحرك الأمراء تحريكا قويا، وسير الحجات إلى البلاد تحت الأجناد، فتتابع خروج الناس ، ووقع الرحيل من بركة الجب في ثامنه ، فرحل السلطان العادل والعزيز، وجميع الأسدية والمماليك . وفشت الأمراض الحادة، فما ينقضي وقت إلا عن عدد كثير من الجنائز. وغلت الأدوية، وبلغ الفروج إلى ثلاثين درهما، والبطيخة إلى مائة درهم . وورد الخبر بأن قوص وأعمالها فيها أمراض فاشية، وأموات لا تتلاحق . وكثر الوباء والموت بالإسكندرية .
وفي آخره : انحلت الأسعار، ونزلت الغلة إلى ثمانين دينارا كل مائة أردب ، وأبيع الخبز سبعة أرطال بدرهم . وقل السؤال ، وارتفع الموتان ، بعد أن جلب من قو ص فراريج أبيع كل عشرة فراريج بسبعة دنانير، وهذا لم يسمع بمثله في مصر قبل ذلك . وفيه نودي في القاهرة ومصر بأن الشريف ابن ثعلب مقدم على الحاج ، فليتجهز أرباب النيات .

وفي جمادى الآخرة : وقف الحال فيما ينفق في دار السلطان ، وفيما يصرف إلى عياله ، وفيما يقتات به أولاده ، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن ، وما يغصب من أربابه ، وأفض هذا إلى غلاء أسعار المأكولات ، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان ، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة. وضمن باب المزر والخمر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت ، و لم يقدر أحد على إنكار ذلك ، وصار ما يؤخذ من هذا النيحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه ، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال .
وفيه وصل العادل والعزيز إلى الداروم وأمر بإخراب حصنها، فقسم على الأمراء والجاندارية فشق على الناس تجريبه ، لما كان به من الرفق للمسافرين ، وانتهى الملكان إلى دمشق " وقد استعد الأفضل للحرب في أول شهر رجب " فحاصراها إلى أن ملكاها في العشرين منه ، بعد عدة حروب ، خان الأفضل فيها أمراءه، فلما أخذ المدينة نزل الأفضل من القلعة إليهما، فاستحيا العادل منه ، لأنه هو الذي حمل العزيز على ذلك ، ليوطيء لنفسه ، كما يأتي . وأمره العادل أن يعود إلى القلعة، فلم يزل بها أربعة أيام ، حتى بعث إليه العزيز أيبك فطيس أمير جاندار، وصارم الدين خطلج الأستادار، فأخرجاه عياله وعيال أبيه .
وأنزل الأفضل في مكان ، وأوفي ما كان عليه من دين ، وما للحواشي من الجوامك .فبلغ ذلك نيفا وعشرين ألف دينار، بيع فيها بركه وجماله وبغاله وكتبه ومماليكه وسائر ماله ، فلم توف بما عليه ، وقسا عليه أخوه وعمه لسوء حظه ، ثم بعث إليه عمه العادل يأمره أن يسير إلى صرخد، فلم يجد عنده من يسير بأهله ، حتى بعث إليه جمال الدين محاسن عشرة أوصلوه إلى صرخد. وأخذت من الملك الظافر مظفر الدين خضر بصرى وأعطيت للملك العادل ، وأمر الظافر أن يسير إلى حلب ، فلحق بأخيه الظاهر صاحبها. ويقال إن العادل كان قد قرر مع الملك العزيز " وهو بالقاهرة " أن الملك العزيز إذا غلب أخاه الأفضل على دمشق وأخذها منه أن يقيم بها ويعود العادل إلى مصر نائبا عن العزيز فلما ملك العزيز دمشق ، وأخرجه أخاه الأفضل منها، انكشفت له مستورات مكائد عمه ، فندم على ما قرره معه ، وبعث إلى أخيه الأفضل سرا يعتذر إليه ، ويقول له : لا تنزل عن ملك دمشق . فظن الأفضل هنا من أخيه خديعة، وأعلم عمه العادل به ، فقامت قيامته ، وعتب على العزيز وأنبه . فأنكر العزيز أن يكون صدر هذا منه ، وحنق على أخيه الأفضل ، وأخرجه إلى صرخد على قبح صورة. واختفى الوزير ضياء الدين ابن الأثير الجزري خوفا من القتل ، ثم لحق بالموصل . واستقر الأمر بدمشق للعزيز في رابع عشر شعبان ، فأظهر العدل ، وأبطل عدة مكوس ، ومنع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار، ثم رحل عنها ليلة التاسع منه يريد القاهرة، واستخلف عمه العادل على دمشق ، وسار إلى القدس ، فملكها من أبي الهيحاء السمين وسلمها إلى الأمير شمس الدين سنقر الكبير، وسار أبو الهيجاء إلى بغداد. ووصل العزيز إلى القاهرة يوم الخميس رابع شهر رمضان ، فصارت دمشق وأعمالها إقطاعا للملك العادل ، وليس للعزيز بها سوى الخطبة والسكة فقط .
وفي ثامن عشره : ركب العزيز إلى مقياس مصر وخلقه ، ونودي فيه بزيادة ثلاثة أصابع من الذراع السابعة عشرة .
وفي العشرين منه : فتح سد الخليج ، فركب العزيز لذلك ، وكثر المتفرجون وازدحم الغوغاء، وحملوا العصي وتراجموا بالحجارة، وقلعت أعين ، وخطفت مناديل . وكانت العادة جارية بأن يوقر شهر رمضان من اعتصار الخمر، وألا يجهر بشراء العنب والجرار، ولا يحدث نفسه أحد بفسخ الحرمة وهتك الستر.
وفي هذا الشهر: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطاني، واستيفاء رسمه بأيد مستخدميه ، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إلى العزيز فصنع به آلات الشرب .
وفيه كثر اجتماع النساء والرجال على الخليج " لما فتح " وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاصي قبيحة . واستمر جلوس العزيز للمظالم في يومي الاثنين والخميس .

وفي ثاني شوال : كان النوروز، فجرى الأمر فيه على العادة من رش الماء ، واستجد فيه التراجم بالبيض والتصافع بالأنطاع. وتوالت زيادة النيل، فأفحش الناس في إظهار المنكرات ، و لم ينههم أحد .
وفيه و قفت وجوه المال ، وانقطعت جباية الديوان بمصر ، وأحيل على الجهات بأضعاف ما فيها، وبقيت وجوه قصرت الأيدي عن استخراجها، وانتمى العاملون إلى من حماهم ، فلم يجسر صاحب الديوان على ذكر من بحميهم ، فضلا عن أخذ الحق منهم ، ورفع يده عن حماية من حماه . وآل الأمر إلى أن صار ما يقام برسم طوارئ السلطان وراتب داره من ضمان الخمر والمزر.
وكانت هذه سنة ما تقدمها أفحش منها، ولا علم أن همة من الهمم القاصرة انحطت إلى مثلها.
وفي رابع عشره : خرج الشريف ابن ثعلب سائرا بالحاج ، وخيم على سقاية ريدان وكثر القتل بالقاهرة بأيدي السكارى، وأعلن المنكر بها، فلم تنسلخ ليلة إلا عن جراح وقتل بين المعربدين . وكثر ذلك حتى خطفت الأمتعة والمآكل من الأسواق ، نهارا نادرا وليلا راتبا .
واستقرت المظالم للطواشي قراقوش ، يجلس فيها بظاهر الدار السلطانية، وحماية الديوان وشد الأموال لفخرالدين جهاركس ، مع انقباضه عنها، وأستادارية الدار لصارم الدين خطلج .
وفي تاسع عشره : كسر بحر أبي المنجا، وباشر العزيز كسره ، وزاد النيل فيه إصبعا، وهي الإصبع الثامنة عشرة، من ثماني عشرة ذراعا، وهذا الحد يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى.
وفي ثاني عشريه : رحل الحاج ، وتجدد ما كان قد درس ذكره ونسي حكمه في مصر، منذ عهد الخليفة الحافظ لدين الله من سنة أربعين وخمسمائة، من الرفايع التي كان القبط يختلقونها، ويتوصلون بها إلى المصادرات ، وخراب البيوت ، وعمارة الحبوس ، وإساءة السمعة عن سلطان الوقت ، فأجمع ابن وهيب وكاتب نصراني وغيرهما على أوراق عملت ، وانتدب الأسعد بن مماتي والشاد للكشف والرفع إلى فخر الدين جهاركس .
وفي ذي القعدة :كثر وثوب السكارى بمن يلقونه ليلا، وضربهم إياه بالسكاكين،فلا تخلو ليلة من قتيل أو قتيلين ، ولم يؤخذ لأحد بثأر، ولا وقع كشف عن مقتول منهم ، ولا تمكن والي القاهرة من منعهم . ووجد في الخليج ستة نفر قتلى مربطين ، فلم يسأل عنهم ، ولا وقع إنكار لأمرهم .
وفي ذي الحجة : عزم العزيز على نقض الأهرام ، ونقل حجارتها إلى سور دمياط ، فقيل له إن المؤنة تعظم في هدمها، والفائدة تقل من حجرها. فانتقل رأيه من الهرمين إلى الهرم الصغير " وهو مبني بالحجارة الصوان " فشرع في هدمه .
وفيه سار العزيز إلى الإسكندرية، واستخلف بالقاهرة بهاء الدين قراقوش ، وفخر الدين جهاركس .
وتوفي في هذه السنة القاضي الأشرف أبو المكارم الحسن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحباب قاضي الإسكندرية، وولى عوضه الفقيه أبو القاسم شرف الدين عبد الرحمن بن سلامة في سابع عشري شوال . ومولد بن الحباب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وأقام حاكما بالإسكندرية ثمانيا وعشرين سنة . وكان كريم النفس صحيح المودة، وطالت مدته في الحكم بالإسكندرية، من سنة أربع وستين إلى أن مات بها في ثالث جمادى الآخرة .
وفي خامس ذي الحجة : مات القاضي الرشيد ابن سناء الملك . قال القاضي الفاضل فيه : " ونعم الصاحب الذي لا تخلفه الأيام ، ولا يعرف له نظير من الأقوام : أمانة سمينة، وعقيدة ود متينة، ومحاسن ليست بواحدة، ومساع في نفع المعارف جاهدة. وكان حافظا لكتاب الله، مشتغلا بالعلوم الأدبية، كثير الصدقات ، نفعه الله، والأعمال الصالحات ، عرفه الله بركاتها " .
وفيها حج بالناس الشرفي ابن ثعلب ، وخرجت المراكب الحربية من مصر، فظفروا ببطس للفرنج ، وفيها أموال فغنموها.
وفيها بنى الأمير فخر الدين جهاركس قيساريته بالقاهرة.
وفيها زلزلت مصر. ومات العلم عبد الله بن علي بن عثمان بن يوسف المخزومي، يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى، ومولده في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقد قرأ علي بن بري، وله شعر.
سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

ودخلت سنة ثلاث وتسعين ، وفيها أقيمت الخطبة للعزيز بحلب ، وضربت السكة باسمه ، بصلح وقع بين العزيز وبن أخيه الظاهر وقد تولاه القاضي بهاء الدين أبو المحاسن بن شداد، وغرس الدين قلج ، قدما من حلب إلى العزيز بالقاهرة بهدايا، فانعقد الصلح بين الأخوين على ذلك .
وعادا إلى الظاهر، فخطب للعزيز في شهر ربيع الأول وضربت السكة باسمه .
وفيه تحرك الفرنج على بلاد الإسلام ، فخرج العادل من دمشق ، وسير جيشا إلى بيروت لهدم ربضها.
وفيها مات الملك العزيز ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن نجم الدين أيوب ملك اليمن في شوال ، وقام من بعده بمملكة اليمن المعز ابنه الملك فتح الدين أبو الفداء إسماعيل .
وفيها فتح الملك العادل صاحب دمشق يافا عنوة، وغنم وأسر كثيرا، يقال إنهم سبعة آلاف نفس ، ما بين ذكر وأنثى .
وفيها سار العادل من يافا إلى صيداء وبيروت فأخربهما، ونهبت بيروت ، وفر من كان بها. وبعث العادل إلى الملك العزيز يستنجده ، فسير إليه عسكرا خرج من القاهرة أول شوال ، وسار إلى بلبيس . ثم بدا للعزيز أمر ففرق العسكر ولم يسر.
سنة أربع وتسعين وخمسمائةودخلت سنة أربع وتسعين ، فانتشر من وصل في البحر من الفرنج ببلاد الساحل ، وملكوا قلعة بيروت ، وقتلوا عدة من المسلمين في أطراف بلاد القدس ، وأسروا وغنموا شيئا كثيرا، فبعث الملك العادل إلى القاهرة يطلب من العزيز نجدة، فسارت إليه العساكر من مصر، ومن القدس وغيرها. ثم خرج الملك العزيز بنفسه ، ومعه سائر عساكر مصر لقتال الفرنج ، فنزل على الرملة في سادس عشري صفر، وقدم الصلاحية والأسدية، وعليهم الأمير شمس الدين سنقر الدوادار، وسرا سنقر وعلاء الدين شقير، وعدة من الأكراد، فلحقوا العادل وهو على تبنين . وسار العزيز في أثرهم ، فكانت بينهم وبين الفرنج وقائع شهيرة، آلت إلى رحيل الفرنج إلى صور، وركب العادل والعزيز أقفيتهم ، فقتلوا منهم . وترك العزيز العساكر عند العادل ، ورجع إلى القاهرة في ثامن جمادى الآخرة، قبل انفصال الحال مع الفرنج ، من أجل أن ميمون القصري، وأسامة وسرا سنقر، والحجاف ، وابن المشطوب ، كانوا قد عزموا على قتله فلما بلغه ذلك رحل إلى القاهرة فخرج الناس إلى لقائه ، وكان يوما مشهودا.
ووقعت الهدنة بين العادل وبين الفرنج سنة ثلاث سنين ، وعاد العادل إلى دمشق .
وفي رجب : تجدد للعادل والعزيز رأي في تخريب عسقلان ، وتعفية جدرانها وهدم بنيانها. فندب من القدس جماعة لتغليقها وحط أبرجة سورها، فتلفت مدينة لا مثل لها، وثغر لا نظير له في الثغور، وعمارة لا تخلف الأيام ما تلف بها، لعجز الملوك عن ممانعة الفرنج بالسلاح ، واضطرارهم إلى هدم المدن وتعفية رسومها.
وفي شعبان : ركب قاضي القضاة صدر الدين بن درباس لرقبة الهلال وكلف الشهود ما بين شمعتي كل شاهد إلى شمعة. فخرجوا بالشموع ، وقد كثر الجمع والشمع ، واحتفل الموكب ، وثقلت على الشهود الوطأة .
وفيه أمر الملك العزيز بمنع البناء في المواضع التي كان الأمراء قد شرعوا في بنائها على النيل ، واستولوا فيها على الساحل ، فخرج الجاندارية وألزموا كل من حفر أساسا بردمه ، فامتثل الأمر .
وفي شهر رمضان : أمر العزيز بقطع أشجار بستان البغدادية تجاه قصر اللؤلؤة وجعله ميدانا.
وفيه كثر التظاهر بعصير العنب واستباحة الحرمان ، وعدم المنكر لهذا الأمر، فغلا العنب حتى بلغ أربعة أرطال بدرهم.
وفيه قصر مد النيل ، وارتفعت الأسعار، وعدمت الأرزاق من جانب الديوان ، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزقة الحرمات . واستبيح ما كان محظورا من فتح أبواب التأويلات ، وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات : فاخذ خط شخص يعرف بابن خالد بمبلغ ألف دينار، وصودر جماعة آخرون وصار الإنفاق في السماط السلطاني في هذه الوجوه .
وفي يوم عيد الفطر: أقيمت سنة العيد بظاهر البلد، وحضر العزيز الصلاة والخطبة، وعم الأمراء وأرباب العمائم بخلعه ، وقدم سماط توسعت الهمة فيه .
وفي ثالث عشره : وفي النيل ستة عشر ذراعا، فركب العزيز في سادس عشره لتخليق المقياس ، وفتح الخليج في ثامن عشره ، وتظاهر الناس في هذه الأيام بالمنكرات من غير منكر.
وفي ثالث عشريه : كان النوروز، فجرى الرسم في لعبه على العادة .

وفي يوم السبت سابع عشر ذي القعدة : قتل ابن مرزوق بالقاهرة ، قتله ابن المنوفي قاضي بلبيس غيلة، بدار سكنها بالفهادين ، وحفر له فيها ودفنه ، ومملوكا صغيرا معه ، وبلط فوقه ، وجعل عليه شعيرا، فشنق ابن المنوفي، بعدما طيف به على جمل مصر والقاهرة .
وفي هده السنة : توجه العادل من دمشق إلى مدينة ماردين ، ونازلها واخذ ربضها. وفيها خرج الملك الكامل محمد بن العادل من حران، وقاتل عسكر المواصلة.
وفيها أغار الفرنج ، ونهبوا وأسروا خلقا، وانتهوا إلى عكا. فعاد العادل إلى دمشق في رمضان ، ثم خرج بعد شهر إلى الشرق يريد ماردين .
وفيها ادعى معز الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن الإلهية نصف نهار، وكتب كتابا وأرخه من مقر الإلهية . ثم رجع عن ذلك ، وادعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية، ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس ، ولبس ثيابا خضرا وعمائم خضرا مذهبة، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام ، وخطب بنفسه ، وعزم على قصد مكة، وجهز من بنى له بها دارا، فأسرهم الشريف أبو عزيز قتادة.
سنة خمس وتسعين وخمسمائةودخلت سنة خمس وتسعن وخمسمائة والعادل مضايق مدينة ماردين، والمعز صاحب اليمن قد تجهز يريد مكة، والعزيز صاحب مصر قد سار إلى الإسكندرية ، من آخر ذي الحجة. فتصيد العزيز إلى سابع المحرم، وركض خلف ذئب فسقط عن فرسه ثم ركب وقد حم، فدخل القاهرة يوم عاشوراء فلم يزل لما به حتى مات، منتصف ليلة السابع والعشرين منه، ودفن بجوار قبر الشافعي، رحمة الله عليه. وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، ومدة ملكه ست سنين تنقص شهراً وستة أيام.
وكان ملكاً كريماً، عادلاً رحيماً، حسن الأخلاق شجاعاً، سريع الانقياد مفرط السخاء. سمع الحديث من السلفي، وابن عوف، وابن برى، وحدث. وكانت الرعية تحبه محبة كثيرة، وكان يعطى العشرة آلاف دينار، ويعمل سماطاً عظيماً يجمع الناس لأكله، فإذا جلسوا للأكل كره منهم أكله، ولا يطيب له ذلك، وهذا من غرائب الأخلاق.
وفيها عظمت الفتنة في عسكر غياث الدين محمد بن بهاء الدين سام ملك الغورية، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي الفقيه الشافعي المشهور، كان قد بالغ غياث الدين في إكرامه، وبنى له مدرسة بقرب جامع هراة، ومعظم أهلها كرامية. فاجمعوا على مناظرته، وتجمعوا عند غياث الدين معه، وكبيرهم القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة. فتكلم الإمام فخر الدين مع ابن القدوة، واستطال عليه وبالغ في شتمه، وهو لا يزجو على أن يقول : لا يفعل مولانا لا أخذك الله استغفر الله. فغضب الملك ضياء الدين له، ونسب الإمام الرازي إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة. وقام من الغد ابن عمر بن القدوة بالجامع، وقال في خطبته. " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين " . أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، وأما علم أرسطو، وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلمها.
فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام، يذب عن دين الله وسنة نبيه؟. وبكى وأبكى، فثار الناس من كل جانب، وامتلأت البلد فتنة، فسكتهم السلطان غياث الدين، وتقدم إلى الإمام فخر الدين بالعود إلى هراة، فخرج إليها، ثم فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية، وتقلد الشافعي رحمه الله.
السلطان الملك المنصور ناصر الدينمحمد ابن الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولد بالقاهرة ........ جمادى الأولى، سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ومات أبوه وعمره تسع سنين وأشهر. وقد أوصى له أبوه بالملك من بعده، وأن يكون مدبر أمره الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي. فأجلس على سرير الملك في غد وفاة أبيه، يوم الاثين حادي عشر المحرم، وجعل قراقوش أتابكاً. وحلف له الأمراء كلهم، ماخلا عماه الملك المؤيد نجم الدين مسعود والملك المعز، فانهما أرادا أن تكون الأتابكية لهما، وجرت منهما منازعة، ثم حلفا. ووقع الخلف بي أمراء الدولة، فطعن عدة منهم في قراقوش، بأنه مضطرب الرأي ضيق العطن، ولا يصلح لهذا الأمر، وتعصب جماعة معه، ورأوا أنه أطوع من غيره. وكثر النزاع في ذلك، وصاروا إلى القاضي الفاضل، ليأخذوا رأيه، فامتنع من المشورة عليهم، فزكوه.

وأقاموا ثلاثة أيام يمحصون الرأي، حتى استقر على مكاتبة الملك الأفضل، ليحضر أتابكاً عوض قراقوش، بشرط ألا يرفع فوق رأسه السنجق، ولا يذكر له اسم في خطبة ولا سكة، وأن يدبر أمر الملك المنصور مدة سبع سنين، فإذا تم هذا الأجل سلم إليه الأمر والتدبير، وسيروا إليه القصاد بذلك، وأقيم الملك الظافر مظفر الدين خضر ابن السلطان صلاح الدين مباشر نيابة السلطنة، حتى يقدم الأفضل. فخرج الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشرة نفساً، متنكراً، خوفاً من العادل.
وكان الأمير فخر الدين جهاركس - لما قرر أمراء مصر أمر الأفضل، وكتبوا إليه بالحضور - كره ذلك، وكتب إلى الأمير فارس الدين ميمون القصرى صاحب نابلس، ينهاه عن الموافقة على إقامة الأفضل. فوقع الأفضل على القاصد، وأخذ منه الكتاب، وعلم ما فيه، وقال له: ارجع فقد قضيت الحاجة، وسار الأفضل، ومعه ذلك القاصد، حتى وصل بلبيس، وقد خرج الأمراء إلى لقائه، في خامس شهر ربيع الآخر. فنزل في خيمة أخيه الملك المؤيد مسعود. وكان فخر الدين جهاركس يؤمل أنه ينزل في خيمته، فشق ذلك عليه من فعل الأفضل، ولم يجد بداً من المجىء إلى عنده، فأكرمه الأفضل. ثم لما فرغ الأفضل من طعام أخيه، صار إلى خيمة فخر الدين وأكل طعامه، فحانت من فخر الدين التفاتة، فرأى القاصد الذي بعثه إلى نابلس، فدهش وخاف من الأفضل، وأخذ يستأذنه في التوجه إلى العرب المخالفين ليصلح أمرهم، فأذن له. وللحال قام فخر الدين واجتمع بزين الدين قراجا وأسد الدين سراسنقر، وسار بهما مجداً إلى القدس، فإذا بشجاع الدين طغرل السلاح دار سائر إلى مصر، فألفتوه عن الأفضل، وساروا به إلى القدس، فاتفق معهم الأمر صارم الدين صالح نائب القدس، ووافقهم أيضاً الأمير عز الدين أسامة وميمون القصرى، وقدما إلى القدس، ومع ميمون سبعمائة فارس منتخبة، وكاتبوا الملك العادل، يستدعونه لأتابكية الملك المنصور.
وأما الأفضل فإنه سار من بلبيس إلى القاهرة، فخرج المنصور وتلقاه، في سابع ربيع الآخر وكانت مدته شهرين و.......وتحكم الأفضل. ولما استقرا بالقاهرة كتب الأفضل إلى عمه الملك العادل، يخبره بوصوله إلى مصر، حفظاً لدولة ابن أخيه، وأنه لا يخرج عما يأمره به، فورد جوابه بان العزيز إن كان مات عن وصية فلا يعدل عنها، وإن كان مات عن غير وصية، فيكتب الأعيان خطوطهم لك بذلك، حتى نرى الرأي. فاستولى الأفضل على أمر مصر كله و لم يبق للمنصور غير مجرد الاسم فقط. وعزم الأفضل على قبض من بقى من الأمراء الصلاحية. بمصر ففر منهم جماعة، ولحقوا بفخر الدين جهاركس بالقدس. وقبض الأفضل على جماعة : منهم الأمير علاء الدين شقير، والأمير عز الدين البكى الفارس، والأمير عز الدين أيبك فطيس، وخطلبا، ونهب أموالهم، ثم برز إلى بركة الجب، فأقام أربعة أشهر، وحلف بها الأمراء والأجناد، مبلغه عن أخيه الملك المؤيد مسعود أنه يريد الوثوب عليه، فقبضه وسجنه.

وبعث الملك الظاهر غازي صاحب حلب إلى أخيه الأفضل يحثه على سرعة القدوم من مصر إلى دمشق، واغتنام الفرصة في أمرها والملك العادل غائب عنها في حصار ماردين. فقبض الصلاحية بالشام على القاصد، وأهانوه ثم أطلقوه، فسار إلى الأفضل، وبلغه رسالة أخيه الظاهر. فرحل الأفضل من بركة الجب ثالث شهر رجب، ومعه الملك المنصور، فأقام بالعباسة خمسة أيام. واستخلف على القاهرة سيف الدين يازكج الأسدي ثم سار إلى دمشق، فنزل عليها في ثالث عشر شعبان، وقد بلغ العادل خروجه من مصر، وهو على حصار ماردين، فرتب ابنه الكامل محمداً على حصارها، وسار في مائتي فارس إلى دمشق فقدمها في ثمانية أنفس، لكثرة ما أسرع في السير، قبل منازلة الأفضل لها بيومين وتلاحق به أصحابه وقدم الأفضل منزل الشرفين والميدان الأخضر، وهجم بعض أصحابه على البلد وأحرقوا، وصاحوا : يا أفضل يا منصور. فصاحت العامة معهم بذلك، لميلهم إلى الأفضل، فبرز إليهم العادل، وأخرجهم من البلد، وامتنع بها، ففر من أمراء الأفضل عدة، فتأخر حينئذ عن دمشق إلى نحو الكسوة. فدس العادل إلى جماعة ممن في صحبة الأفضل بكلام منه. إني أريد الرجوع إلى الشرق، وأترك الشام ومصر لأولاد أخي، ففندوا الأفضل عن الحرب. وبذل العادل لهم مالاً، فمشى ذلك من مكره عليهم، وخذلوا الأفضل، بأن أشاروا عليه بترك القتال حتى يقدم أخوه الظاهر من حلب. فأمسك الأفضل عن الحرب مدة، والعادل يكاتب الأمراء ويستميلهم شيئاً بعد شيء، وهم يأتونه فيبذل لهم المال، ويوسع عليهم، إلى أن قدم الظاهر من حلب في آخر شعبان، فقوى به الأفضل، ورحلا إلى مسجد القدم، وحاربا العادل وحاصراه، حتى غلت الأقوات بدمشق لشدة الحصار. فقدمت الصلاحية من القدس نصرة للعادل، فاشتد عضد العادل بقدومهم، وجهز إلى القدس من يمنع الميرة الواصلة من مصر إلى الأفضل، فوجدوا يازكج قد أخرج سبعمائة من عسكر مصر نجدة للأفضل، فقاتلوهم وكسروهم وغنموا ما معهم. وصارت أهل دمشق في جهد من الغلاء، واحتاج العادل إلى القرض، فأخذ مالاً من التجار. وقوي الزحف على البلد حتى أشرف على الأخذ، وهم العادل بالتسليم، فاتفق وقوع الخلف بين الظاهر وبن أخيه الأفضل.
سنة ست وتسعين وخمسمائةوأهلت سنة ست وتسعين والأخوان على حصار عمهما العادل بدمشق، وقد خربت البساتين والدور، وقطعت الأنهار، وأحرقت الغلال، وقلت الأقوات. وعزم العادل على تسليم دمشق، لكثرة من فارقه وخرج عنه إلى الأفضل، فكتب إلى ابنه الكامل يستدعيه، وكتب إلى نائب قلعة جعبر أن يسلمه ما يستدعيه من المال، وكانت أموال العادل بها، فسار إليه الكامل في العسكر الذي معه، وأخذ من قلعة جعبر أربعمائة ألف دينار، وقدم على أبيه فقوي بقدومه قوة عظيمة، ووقع الوهن في عسكر الأفضل والظاهرة لكثرة من خامر منهم، ودس العادل مكيدة بين الأخوين، وهي أن الظاهر كان له مملوك يقال له أيبك وقد شغفه حباً، ففقده وظن أنه دخل دمشق فعلق، وبلغ ذلك العادل، فبعث إليه بكلام فيه : أن محمود بن الشكري أفسد مملوكك، وحمله إلى الفضل، فقبض الظاهر حينئذ على ابن الشكري، وظهر المملوك عنده، فما شك في صدق ما قاله عمه، ونفر من أخيه وأمتنع من لقائه، وكان البرد قد اشتد، فرحلا إلى الكسوة، وسار إلى مرج الصفر، ثم سارا إلى رأس الماء، فغلت الأسعار، وقوي البرد، فرحل الظاهر على القريتن، ورحل الأفضل بعساكره يريد مصر، وتركوا من أثقالهم ما عجزوا عن حمله فأحرقوه، وهلك لهم عدة مماليك ودواب، ودخل الأفضل إلى بلبيس في خامس عشرى شهر ربيع الأول، فأشير عليه بالإقامة بها.
وورد الخبر بأن العادل خرج من دمشق، ونزل تل العجول، وأنه كتب الإقامات للعربان، واستدعى الكنانية، فجمع الأفضل الأمراء، وركب ودار على سور بلبيس، وأمر قراقوش بحفظ قلعة الجبل، وأن يهتم بحفر ما بقي من سور مصر والقاهرة، وأنه يعمق الحفر حتى يصل إلى الصخر، ويجعل التراب داخل المدينة على حافة الحفر، ليكون مثل الباشورة، ويستعمل الأبقار فيه، ويعمل ذلك فيما بين البحر وقلعة المقس، حتى لا يبقى إلى البلد طريق إلا من أبوابها.

وفي ثاني ربيع الآخر: نزل العادل قطية فهم الفضل بتحريق بلبيس، فنفرت القلوب منه، وقطع أرزاق المرتزقة من جانب السلطان، ومن الأحباس على مكة والمدينة والفقهاء وأرباب العمائم، ليغلق الذي للجند، فما سد المأخوذ، ولا انقطع الطلب من الأجناد، وثار الضجيج من المساكن. ووصل العادل فواقعه الأفضل، فانكسر منه وانهزم، فتبعهم العادل إلى بركة الجب، فخيم بها وأقام ثمانية أيام، ولحق الأفضل بالقاهرة، فدخلها يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر، وخامر جماعة عليه، وصاروا إلى العادل، وألجأت الضرورة الأفضل إلى مراسلة العادل، فطلب منه أن يعوضه عن ديار مصر بدمشق، فامتنع العادل، وقال : لا تحوجني أن أخرق ناموس القاهرة، وآخذها بالسيف، اذهب إلى صرخد، وأنت أمن على نفسك فلم يجد الأفضل بداً من التسليم، لتخاذل أصحابه عنه. فتسلم العادل القاهرة، ودخلها يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، وخرج منها الفضل منهزماً في ذلك اليوم، وكان الوزير ضياء الدين ابن الأثير قد قدم إلى مصر، وتمكن من الأفضل فلما تسلم العادل القاهرة فر، ولحق بصرخد، وكانت مدة استيلاء الفضل على ديار مصر سنة واحدة وثمانية وثلاثين يوماً، وخرج إلى بلاد الشرق فأقام بدمياط، وكان مدة إقامته بالقاهرة لا يقدر أن يخلو بنفسه في ليل ولا نهار، وكان الأمراء قد حجروا عليه أن يخلو بأحد، وكانت الضرورة ملجئة إلى موافقتهم. وأقام العادل بالقاهرة على أتابكية الملك المنصور، وحلف له الأمراء على مساعدته، ليقوم بأتابكية المنصور إلى أن يتأهل للاستقلال بالقيام بأمور المملكة، فلم يستمر ذلك ......، فانتقض الأمر في الحادي والعشرين من شوال، وذلك أن الملك العادل احضر جماعة من الأمراء وقال لهم : إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي، مع الشيخوخة والتقدم، والملك ليس هو بالارث، وإنما هو لمن غلب، وأنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح الدين، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي، ورعاية لحقه، فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم خفت أن يخرج الملك عن يدي ويد أولاد أخي، فسست الأمر إلى آخره، فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه، ونهوضي بأعبائه، فلما ملكت هذه البلاد، وطنت نفسي على أتابكية هذا الصبي، حتى يبلغ أشده، فرأيت العصبيات باقية، والفتن غير زائلة، فلم آمن أن يطرأ على ما طرأ على الملك الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة إنسان آخر، وما يعلم ما يكون عاقبة ذلك، والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكتاب، وأقيم له من يؤدبه ويعلمه، فإذا تأهل وبلغ أشده نظرت في أمره، وقمت بمصالحه. هذا والأسدية كلهم مع العادل على هذا الرأي، فلم يجد من عداهم بداً من موافقته، فحلفوا له، وخلعوا المنصور في يوم الخميس، وخطب للعادل من الغد يوم الجمعة حادي عشرى شوال، فكانت سلطنة المنصور سنة واحدة وثمانية أشهر وعشرين يوماً.
السلطان سيف الدين أبو بكر بن أيوبالسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب ولما حلف له الأمراء استولى على سلطنة مصر في حادي عشرى شوال، وخطب له بديار مصر وأرض الشام وحران والرها وميافارقن، واستحلف النلس بهذه البلاد، وضربت السكة باسمه واستدعى العادل ابنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً، فحضر إلى القاهرة في يوم الخميس لثمان بقين من رمضان، ونصبه نائباً عنه بديار مصر، وجعل الأعمال الشرقية إقطاعه كما كانت إقطاعاً للعادل في أيام السلطان صلاح الدين، وجعله ولي عهده، وحلف له الأمراء.
وفيها أقيمت الخطبة للعادل بحماة وحلب، وضربت السكة باسمه.
وفيها توقفت زيادة النيل، فلم يجر إلا ثلاثة عشر ذراعاً تنقص ثلاثة أصابع، وشرق معظم أرض مصر فارتفعت الأسعار.
وفيها استناب العادل بدمشق ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى واستناب ببلاد الشرق ابنه الملك الفائز، وأقر بحلب ابن أخيه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وبحماة الملك المنصور بن تقي الدين عمر.
وفيها أخرج الملك العادل ابن ابن أخيه الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر، ومعه إخوته وأخواته ووالدته فساروا إلى الشام، ثم سيرهم إلى الرها، فهربوا منها إلى حلب وبقي الملك المنصور. بمدينة الرها، حتى مات سنة عشرين وستمائة، وكان قد أصبح أميراً عند الظاهر صاحب حلب.
ومات في هذه السنة

إبراهيم بن منصور بن المسلم أبو إسحاق المعروف بالعراقي، خطيب الجامع العتيق بمصر، في حادي عشرى جمادى الأولى، عن ست وثمانين سنة.
ومات القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج ابن أحمد اللخمي، العسقلاني مولداً، البيساني، أبو علي محيى الدين، فى سابع ربيع الآخر.
ومات الأثير ذو الرياستين أبو الطاهر محمد بن ذي الرياستين أبي الفضل محمد بن محمد بن بنان الأنباري في ليلة الثالث من ربيع الآخر، ومولده بالقاهرة سنة سبع وخمسمائة.
وفي هذه السنة: ولد بالقاهرة مولود له جسد واحد، ورأس فيه وجهان، فى كل وجه عينان وأذنان وأنف وحاجب.
وولد أيضاً بها مولود له غرة كغرة الفرس، ويداه ورجلاه محجلتان، وأليته ملمعة.
وولد بها أيضاً مولود أشيب الرأس ونعجة لها أربع أيادي، وأربع أرجل. ووجد في بطن نعجة ذبحت خروف صدره ووجهه صورة إنسان، وله أظافير الآدمي.
سنة سبع وتسعين وخمسمائهفيها قبض الملك العادل على أولاد أخيه صلاح الدين وهما الملك المؤيد مسعود والملك المعز إسحاق، وسجنهما فى دار بهاء الدين قراقوش بالقاهرة، وتسلم الأمير فخر الدين جهاركس بانياس من الأمير حسام الدين بشارة بعد حصار وقتال.
وفيها حدثت الوحشة بين الملك العادل وبن الصلاحية من أجل أنه خلع المنصور ابن العزيز، وكتب الأمر فارس الدين ميمون القصرى من نابلس إلى العادل بإنكار خلع المنصور، فأجابه العادل جواباً خشناً، وتكررت المكاتبة بينهما غير مرة، فكتب ميمون إلى الصلاحية يغريهم بالعادل، فلم يجد فيهم نهضة للقيام، وفي أثناء ذلك حدثت وحشة بين الظاهر صاحب حلب وبين عمه العادل، وسير إليه وزيره علم الدين قيصر ونظام الدين، فمنعهما العادل أن يعبرا إلى القاهر، وأمرهما أن يقيما ببلبيس، ويحملا قاضي بلبيس ما معهما من الرسالة، فعادا مغضبين، واجتمعا. بميمون القصرى فى نابلس، ومازالا به حتى مال إلى الفضل وإلى أخيه الظاهر، فلما وصلا إلى حلب شق على الظاهر ما كان من عمه، وكاتب الصلاحية ورغبهم، وكاتب ميمون القصرى، وشرع الأفضل أيضاً فى مكاتبتهم وهو بصرخد، وانضوى إلى الأفضل الأمير عز الدين أسامة صاحب عجلون وكوكب، وصلت له، فبلغ ذلك العادل فتيقظ لنفسه، وكتب إلى ابنه المعظم صاحب دمشق. بمحاصرة الأفضل فى صرخد، فجمع وخرج من دمشق، فاستخلف الأفضل على صرخد أخاه الملك الظافر خضر، وسار إلى أخيه الظاهر بحلب فى عاشر جمادى الأولى، فنزل المعظم على بصرى، وكاتب فخر الدين جهاركس وميمون القصرى، يأمرهما بالمسير إليه لحصار صرخد، فلم يجيبا، وجمعا من يوافقهما، وصارا إلى الظافر بصرخد. وكتبوا إلى الظاهر بحلب يحثونه على الحركة وأخذ دمشق، فوافته الكتب وعنده الأفضل، فجمع الناس وعزم على المسير، ثم سار الظاهر، فلم يوافقه المنصور صاحب حماة، فحاصره مدة، ثم رحل عنه بغير طائل، فنازل دمشق ومعه الأفضل، وأتته الصلاحية هناك، فخرج العادل من القاهرة بعساكره، واستخلف على القاهرة ابنه الملك الكامل محمداً، وسار حتى نازل نابلس.

وقدم العادل طائفة من العسكر، فساروا إلى دمشق، واستولوا عليها قبل نزول الأفضل والظاهر عليها، فقدما بعد ذلك، وضايقا دمشق فى رابع عشر ذي القعدة، واشتد القتال حتى كادا يأخذان البلد، فوقع بينهما الاختلاف. بمكيدة دبرها العادل، ففترت الهمة عن القتال، وذلك أن العادل كتب إلى كل من الأفضل وإلى الظاهر سراً، بأن : أخاك لا يريد دمشق إلا لنفسه، وقد اتفق معه العسكر فى الباطن على ذلك فانفعلا لهذا الخبر، وطلب كل منها من الآخر أن تكون دمشق له فامتنع، فبعث العادل فى السر إلى الأفضل يعده بالبلاد التي عينت له بالشرق، وهى رأس عين والخابور وميافارقن، وغير ذلك، وبذل له مع ذلك مالاً من مصر فى كل سنة.بمبلغ خمسين ألف دينار، فانخدع الأفضل وقال للأمراء الصلاحية ومن قدم إليه من الأجناد: لا إن كنتم جئتم إذ فقد أذنت لكم فى العود إلى الملك العادل، وإن كنتم جئتم إلى أخي فأنتم به أخبر. وكانوا يحبون الفضل من أجل أنه لين العريكة، فقالوا كلهم : لا نريد سواك، والعادل أحب إلينا من أخيك. فأذن لهم في العود إلى العادل، فسار إليه الأمير فخر الدين جهاركس، والأمير زين الدين قراجا، وعلاء الدين شقير، والحجاف، وسعد الدين بن علم الدين قيصر، فوقع الوهن والتقصير فى القتال بعدما كانوا قد أشفوا على أخذ دمشق وانقضت هذه السنة والأفضل والظاهر على منازلة دمشق.
وفيها تعذرت الأقوات بديار مصر، وتزايدت الأسعار، وعظم الغلاء حتى أكل الناس الميتات، وأكل بعضهم بعضاً، وتبع ذلك فناء عظيم، وابتدأ الغلاء من أول العام، فبلغ كل أردب قمح خمسة دنانير، وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية، لا يمد النيل فيها إلا مداً يسيراً، حتى عدمت الأقوات، وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولادهم إلى الشام، فماتوا في الطرقات جوعاً. وشنع الموت في الأغنياء والفقراء، فبلغ من كفنه العادل من الأموات - في مدة يسيرة - نحواً من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأكل من الأطفال خلق كثير، فكان الصغير يشويه أبواه ويأكلانه بعد موته، وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا ينكر، ثم صار الناس يحتال بعضهم على بعض، ويؤخذ من قدر عليه فيؤكل، وإذا غلب القوي ضعيفاً ذبحه وأكله، وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى، فإذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله، واتفق أن شخصاً استدعى طبيباً، فخافه الطبيب وسار معه على تخوف، فصار ذلك الشخص يكثر فى طريقه من ذكر الله تعالى، ولا يكاد يمر بفقير إلا ويتصدق عليه، حتى وصلا إلى الدار، فإذا هي خربة. فارتاب الطبيب مما رأى، وبينا هو يريد الدخول اليها إذ خرج رجل من الخربة، وقال للشخص الذي قد أحضر الطيب: مع هذا البطء جئت لنا بصيد واحدة " . فارتاع الطبيب، وفر على وجهه هارباً. فلولا عناية الله به، وسرعة عدوه، لقبض عليه، وخلت مدينة القاهرة ومصر أكثر أهلها، وصار من يموت لا يجد من يواريه، فيصير عدة أشهر حتى يؤكل أو يبلى، واتفق أن النيل توقف عن الزيادة في سنة ست وتسعين، فخاف الناس، وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى خلق كثير، فلما حلت الشمس برج الحمل تحرك هواء أعقبه وباء، وكثر الجوع، وعدم القوت حتى أكلت صغار بنى آدم، فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً، وكذلك الأم، وظفر الحاكم منهم بجماعة، فعاقبوهم حتى أعياهم ذلك، وفشا الأمر: فكانت المرأة توجد وقد خبأت في عبها كتف الصغير أو فخذه، وكذلك الرجل، وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القدر على النار، فينتظرها حتى تنزل ليأكل منها، فإذا فيها لحم الأطفال، وأكثر ما كان يوجد ذلك فى أكابر البيوت، ويوجد النساء والرجال في الأسواق والطرقات، ومعهم لحوم الأطفال، واحرق في أقل من شهرين ثلاثون امرأة وجد معهن لحوم الأطفال، لم فشا ذلك حتى اتخذه الناس غذاء وعشاء وألفوه، وقل منعهم منه، فإنهم لم يجدوا شيئاً من القوت، لا الحبوب ولا الخضروات.

فلما كان قبل أيام زيادة النيل - فى سنة ست وتسعين هذه - احترق الماء في برمودة، حتى صار فيما بين المقياس والجيزة بغير ماء، وتغير طعم الماء وريحه، وكان القاع ذراعين، وأخذ يزيد زيادة ضعيفة إلى سادس عشر مسرى، فزاد، إصبعاً، ثم وقف، ثم زاد زيادة قوية أكثرها ذراع حتى بلغ خمسة عشر ذراعاً وستة عشرة إصبعاً، ثم انحط من يومه فلم ينتفع به، وكان الناس قد فنوا بحيث بقي من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر إما نفران أو ثلاثة، فلم تجد الجسور من يقوم بها، ولا القرى من يعمل مصالحها، وعدمت الأبقار بحيث بيع الرأس بسبعين ديناراً، والهزيل بستين ديناراً. وجافت الطرقات بمصر والقاهرة وقراهما، ثم أكلت الدودة ما زرع، فلم يوجد من التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رده.
ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة: والناس تأكل الأطفال، وقد صار أكلهم طبعاً وعادة، وضجر الحكام من تأديبهم، وأبيع القمح - إن وجد - بثمانية دنانير الأردب، والشعير والفول بستة دنانير، وعدم الدجاج من أرض مصر، فجلبه رجل من الشام، وباع كل فروج بمائة درهم، وكل بيضتين بدرهم. هذا وجميع الأفران إنما تقد بأخشاب المساكن، حتى دخلت سنة ثمان وتسعين، وكان كثير من المساتير يخرجون ليلاً، ويأخذون أخشاب الدور الخالية، ويبيعونها نهاراً، وكانت أزقة القاهرة ومصر لا يوجد بها إلا مساكن قليلة، ولم يبق بمصر عامر إلا شط النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحرث فيموت الرجل وهو ماسك المحراث.
وفى هذه السنة: قدم غلام سنه نحو عشر سنين - من عرب الحوف بالشرقية - إلى القاهرة، أسمر حلو السمرة، على بطنه خطوط بيض ناصعة البياض، متساوية القسمة من أعلاه إلى أسفله، كأحسن ما يكون من الخطوط.
وفيها مات الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فى غرة شهر رجب بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم.
سنة ثمان وتسعين وخمسمائةفي أول المحرم: رحل الأفضل والظاهر عن دمشق، فصار الظاهر إلى حلب ومعه جماعة من الأمراء الصلاحية، منهم فارس الدين ميمون القصرى، وسرا سنقر، والفارس البكى، فاقطعهم الاقطاعات وأكرمهم، وتوجه الأفضل إلى حمص، وبها أمه وأهله عند الملك المجاهد، وقدم العادل إلى دمشق، ونزل بالقلعة ثم سار منها إلى حماة، ونزل عليها بعساكره، فقام له الملك المنصور بجميع كلفه ونفقاته، وأظهر أنه يريد حلب، فخافه الظاهر واستعد للقائه، وراسل العادل وبعث إليه بهدايا جليلة ولاطفه، فانتظم الصلح بينهما على أن يكون للعادل مصر ودمشق والسواحل وبيت المقدس وجميع ما هو فى يده ويد أولاده من بلاد الشرق، وأن يكون للظاهر حلب وما معها، وللمنصور حماة وأعمالها، وللمجاهد حمص والرحبة وتسمر، وللأمجد بعلبك وأعمالها، وللأفضل سميساط وبلادها لا غير، وأن يكون الملك العادل سلطان البلاد جميعها، وحلفوا على ذلك. فخطب للعادل بحلب فى يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة، وأقطع الأفضل قلعة النجم مع سروج وسميساط، وجهز العادل ابنه الأشرف مظفر الدين موسى إلى الجزيرة، ليتسلم حران والرها وما معهما، ويستقر بالجزيرة ويستقر الأوحد أيوب أخوه فى ميفارقين وترتب بقلعة جعبر ابنه الحافظ نور الدين أرسلان. وأقر العادل ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى بدمشق، وعاد العادل من حماة إلى دمشق، وقد اتفقت كلمة بنى أيوب.

وفيها قتل المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن نجم الدين أيوب، وذلك لما ملك اليمن - بعد أبيه - خرج عليه الشريف عبد الله الحسنى، ثم خرج عليه نحو ثمانمائة من ممالكيه، وحاربوه وامتنعوا منه بصنعاء، فكسرهم وجلاهم عنها، فادعى الربوبية، وأمر أن يكتب عنه ويكاتب بذلك، وكتب صدرت هذه المكاتبة من مقر الالهية. ثم خاف المعز إسماعيل من الناس، فادعى الخلافة وانتسب إلى بنى أمية، وجعل شعاره الخضرة، ولبس ثياب الخلافة، وعمل طول كل كم خمسة وعشرين شبراً في سعة ستة أشبار، وقطع من الخطبة الدعاء لبنى العباس، وخطب لنفسه على منابر اليمن، وخطب هو بنفسه يوم الجمعة، فلما بلغ ذلك عمه العادل سير بالإنكار عليه، فلم يلتفت إلى قوله، وأضاف إلى ذلك سوء السيرة وقبح العقيدة، فثار عليه مماليك أبيه لهوجه وسفكه الدماء وحاربوه وقتلوه، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به بلاد اليمن، ونهبوا زبيد تسعة أيام، وكان قتله في رابع عشر رجب، من سنة ثمان وتسعن، وقام من بعده أخوه الناصر أيوب - وقيل : محمد - ، وترتب سيف الدين سنقر أتابك العساكر، ثم استقل سنقر بالسلطة.
وفيها كان الغلاء بمصر، فلما طلع النيل رويت البلاد، وانحل السعر.
سنة تسع وتسعين وخمسمائةفيها وصل الفرنج إلى عكا، وتحرك أهل صقلية لقصد ديار مصر، فقدم من حلب خمسمائة فارس ومائة راجل نجدة إلى العادل وهو بدمشق، فورد كتاب ناصر الدين منكورس بن خمارتكن، صاحب صهيون، يخبر بنزول صاحب الأرمن على جسر الحديد لحرب أنطاكية، وأن أكثر الفرنج عادوا من عكا إلى البحر، و لم يبق بها إلا من عجزعن السفر، وأن بها غلاءً عظيماً.
وفيها نازل الأشرف موسى بن العادل ماردين مدة، ومعه الأفضل، ثم تقرر الصلح على أن يحمل ناصر الدين أرسلان الأرتقي صاحب ماردين للعادل مائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، ويخطب له بها، ويضرب السكة باسمه، فعاد الأشرف إلى حران.
وفيها جهز العادل الملك المنصور بن العزيز عثمان من صمر إلى الرها بأمه وإخوته، خوفاً من شيعته.
وفيها شرع العادل فى بناء فصيل دائر على سور دمشق بالحجر والجير، وفى تعميق، الخندق وإجراء الماء إليه، وقدم من عند العادل إلى القاهرة خلق لحفظ دمياط من الفرنج. وفيها قصد الفرنج من طرابلس، ومن حصن الأكراد وغيرها، مدينة حماة، فركب إليهم المنصور في ثالث رمضان، وقاتلهم فهزمهم، وأسر منهم وغنم، وعاد مظفراً، فورد الخبر بوصول الفرنج إلى عكا من البحر فى نحو سبعين ألفاً، وأنهم يريدون الصلح مع الأرمن على حرب المسلمين، وخرج جمع من الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب، في شهر رمضان أيضاً، وخرج إليهم المنصور، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جماعة، وانهزم من بقي.
وفيها بلغ العادل أن الملك الأفضل على ابن أخيه كاتب الأمراء، فأمر ابنه الأشرف موسى أن ينتزع منه رأس عين وسروج، وكتب إلى الظاهر أن يأخذ منه قلعة نجم، ففعلا ذلك، ولم يبق معه سوى سميساط لا غير، فسير الأفضل أمه إلى العادل لتشفع فيه، فقدمت عليه إلى دمشق، فلم يقبل شفاعتها وأعادها خائبة، وكان هذا عبرة، فإن صلاح الدين لما نازل الموصل خرجت إليه الأتابكيات، ومنهن ابنة نور الدين محمود بن زنكى، يستغثن إليه فى أن يبقى الموصل على عز الدين مسعود، فلم يجبهن وردهن خائبات، فعوقب صلاح الدين فى ولده الأفضل على بمثل ذلك، وعادت أمه خائبة من عند العادل، ولما بلغ الأفضل امتناع عمه عن إجابة سؤال أمه تطع خطبته، ودعا للسلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان السلجوقي، صاحب الروم.
وفيها زاد ماء النيل زيادة كثيرة، ورخصت الأسعار.
وفيها انقضت دولة الهواشم بمكة، وقدم إليها حنظلة بن قتادة بن إدريس بن مطاعن من ينبع، فخرج منها مكثر بن عيسى بن فليتة إلى نخلة، فأقام بها ومات سنة ستمائة، ثم وصل محمد بن مكثر إلى مكة، فحاربوه وهزموه، ثم قدم قتادة أبو عزيز بن إدريس، فاستمر بمكة هو وولده من بعده أمراء إلى أعوام كثيرة.
سنة ستمائةفيها تقرر الصلح بين العادل وبين الفرنج، وانعقدت الهدنة بينهما، وتفرقت العساكر.
وفيها نازل ابن لاون أنطاكية حتى هجم عليها، وحصر الإبرنس بقلعتها، فخرج الظاهر من حلب نجدة له، ففر ابن لاون.

وفيها أوقع الأشرف موسى بن العادل بعسكر الموصل، وهزمهم ونازلها وبها السلطان نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أتابك بن آقسنقر، ونهب الأشرف البلاد نهباً قبيحاً، وبعث إلى أبيه العادل بالبشارة، فاستعظم ذلك وما صدقه، وسر به سروراً كثيراً.
وفيها ملك الإفرنج مدينة القسطنينية من الروم.
وفيها تجمع الإفرنج بعكا من كل جهة يريدون أخذ بيت المقدس، فخرج العادل من دمشق، وكتب إلى سائر الممالك يطلب النجدات، فنزل قريباً من جبل الطور على مسافة يسيرة من عكا، وعسكر الفرنج بمرج عكا، وأغاروا على كفر كنا وأسروا من كان هناك، وسبوا ونهبوا، وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك.
وفيها مات ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلوش بن بيغو أرسلان بن سلجوق صاحب الروم، فى سادس ذي القعدة، وقام من بعده ابنه عز الدين قلج أرسلان، وكان صغيراً، فلم يستتب أمره.
وفيها عاد الأشرف موسى بن العادل إلى حران بأمر أبيه، وهم العادل برحيله إلى مصر، فقدم عليه ابنه الأشرف، ثم عاد إلى حران.
وفيها خرج أسطول الفرنج إلى مصر، وعبر النيل من جهة رشيد، فوصل إلى فوة، وأقام خمسة أيام ينهب، والعسكر تجاهه ليس له إليه وصول لعدم وجود الأسطول العادلي.
وفيها أوقع الأمير شرف الدين قراقوس التقوى المظفري ببلاد المغرب، فقبض عليه وحمل إلى ابن عبد المؤمن.
وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر أرض مصر والشام، والجزيرة وبلاد الروم، وصقلية وقبرص، والموصل والعراق وبلغت إلى سبتة ببلاد المغرب، وفيها ملك الفرنج قسطنطينية من أيدي الروم، فلم يزالوا بها حتى استعادها الروم منهم، فى سنة ستين وستمائة.
سنة إحدى وستمائةفيها تم الصلح بين الملك العادل وبن الفرنج، وتقررت الهدنة مدة، وشرطوا أن تكون يافا لهم، مع مناصفات لد والرملة، فأجابهم العادل إلى ذلك، وتفرقت العساكر، وسار العادل إلى القاهرة، فنزل بدار الوزارة، واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل، وشرع فى ترتيب أمور مصر.
وفيها مات الأمير عز الدين إبراهيم بن الجويني والي القاهرة، في سلخ جمادى الأولى.
وفيها ورد الخبر بأن الفرنج أخذوا القسطنطينية من الروم.
وفيها غارت الفرنج الإسبتارية على حماة فى جمع كبير، لأن هدنتهم انقضت، فقتلوا ونهبوا، ثم عادوا.
وفيها قدم الملك المنصور صاحب حماة على عمه الملك العادل بالقاهرة، فسر به وأكرمه، ثم رجع بعد أيام.
وفيها أغار الفرنج على حمص، وقتلوا وأسروا، فخرج العادل من القاهرة إلى بركة الجب، ثم عاد.
وفيها أغار فرنج طرابلس على جبلة واللاذقية، وقتلوا عدة من المسلمين، وغنموا وسبوا شيئاً كثيراً.
وفيها أخذ الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر يغرى الملك العادل بأبي محمد مختار بن أبي محمد بن مختار، المعروف بابن قاضى دارا، وزير الملك الكامل، حتى نقم عليه وطلبه، فخاف عليه الكامل، وأخرجه من مصر - ومعه ابناه فخر الدين وشهاب الدين - إلى حلب، فأكرمهم الملك الظاهر، ثم ورد عليه من الكامل كتاب يستدعيه إلى مصر، فخرج ونزل بعين المباركة ظاهر حلب.
فلما كان فى ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة: أحاط به - نحو الخمسين فارساً في أثناء الليل، وأيقظهوه وقتلوه، ثم قالوا لغلمانه: احفظوا أموالكم، فما كان لنا غرض سواه. فبلغ ذلك الظاهر فارتاع له، وركب بنفسه حتى شاهده، وبعث الرجال فى سائر الطرقات، فلم يقف لقتله على خبر، فكانت هذه القضية من أعجب ما سمع.
سنة اثنتين وستمائةفيها قبض على السعد أبي المكارم بن مهدي بن مماتى صاحب الديوان في جمادى الآخرة، وعلق برجليه.
وفيها قبض على الأمير عبد الكريم أخي القاضي الفاضل، وأخذ خطه بعشرين ألف دينار وأداها، وأخذ من شرف الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن قريش خمسة آلاف دينار.
وفيها باشر التاج.......بن الكعكي ديوان الجيش.
وفيها ضرب الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر الفقيه نصراً في وجهه بالدواة، فأدماه.
سنة ثلاث وستمائة

فيها كثرت الغارات من الفرنج على البلاد، فخرج الملك العادل إلى العباسة، ثم أغذ السير إلى دمشق، ثم برز منها إلى حمص، فأتته العساكر من كل ناحية، فاجتمع عنده عشرات آلاف، وأشاع أنه يريد طرابلس، فلما انقض شهر رمضان توجه الى ناحية حصن الأكراد فنازله، وأسر خمسمائة رجل وغنم، وافتتح قلعة أخرى. ثم نازل طرابلس، وعاثت العساكر فى قراها، ولم يزل على ذلك إلى أيام من ذي الحجة، ثم عاد إلى حمص - وقد ضجرت العساكر - فبعث صاحب طرابلس يلتمس الصلح، وسير مالاً وثلاثمائة أسير وعدة هدايا، فانعقد الصلح فى آخر ذي الحجة.
وفيها حدثت وحشة بين العادل وبن ابن أخيه الملك الظاهر، صاحب حلب، فازدادت بينهما الرسل حتى زالت، وحلف كل منهما لصاحبه.
وكثر فى هذه السنة تخريب العادل لقلاع الفرنج وحصونهم.
وفيها عزل الصاحب ابن شكر البدر بن الأبيض قاضي العسكر، وقرر مكانه نجم الدين خليل بن المصمودي الحموي.
وفيها قدم مانع بن سلمان شيخ أل دعيج من غزية التي فيما بين بغداد ومكة.
ومات في هذه السنةعبد الرحمن بن سلامة قاض الإسكندرية بها، يوم الأربعاء ثامن صفر.
وفيها نفى الأشرف .... بن عثمان الأعور، واعتقل أخوه علم الملك.
وفيها ماتت أم الملك المعظم بن العادل بدمشق، في يوم الجمعة عشرى ربيع الأول، ودفنت بسفح قاسيون.
سنة أربع وستمائةفيها عاد الملك العادل إلى دمشق، بعد انعقاد الصلح بينه وبن ملك الفرنج بطرابلس. وفيها بعث العادل أستاداره الأمر ألذكر العادلي، وقاضي العسكر نجم الدين خليل المصمودي إلى الخليفة في طلب التشريف والتقليد بولاية مصر والشام والشرق وخلاط، فلما وصلا إلى بغداد أكرمهما الخليفة الناصر لدين الله، وأحسن إليهما وأجابهما، وسير الشيخ شهاب الدين أبا عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه السهروردي ومعه التشريف الخليفتي والتقليد، وخلعة للصاحب صفي الدين بن شكر، وخلع لأولاد العادل وهم الملك المعظم والملك الأشرف، والملك الكامل، فعندما قارب بالشيخ أبو حفص حلب خرج الملك الظاهر بعساكره إلى لقائه، وأكرم نزله.
وفى ثالث يوم من قدومه أمر بكرسي فنصب له، وجلس عليه للوعظ، وجلس الظاهر ومعه الأعيان، فصدع بالوعظ حتى وجلت القلوب ودمعت العيون، وأخبر الشيخ في وعظه بأن الخليفة أطلق - في بغداد وغيرها - من المؤن والضرائب، ما مبلغه ثلاثة آلاف ألف دينار، ثم سار من حلب، ومعه القاضي بهاء الدين بن شداد، وقد دفع إليه الظاهر ثلاثة آلاف دينار، برسم النثار إذا لبس عمه العادل خلعة الخليفة، وبعث الملك المنصور من حماة أيضاً مبلغاً للنثار، وخرج العسكر من دمشق إلى لقائه، ثم خرج العادل بابنيه الأشرف موسى والمعظم عيسى، وبرز سائر الناس لمشهادة ذلك، فكان يوماً مشهوداً، ولما دخل الشيخ أبو حفص دمشق جلس العادل فى دار رضوان، وأفيضت عليه الخلع، وهى جبة أطلس أسود واسعة الكم بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب بجوهر ثقيل، وقلد العادل أيضاً بسيف محلى، جميع قرابه من ذهب، وركب حصاناً أشهب بركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض ألقاب الخليفة، مركب في قصبة ذهب، وتقدم القاضي ابن شداد فنثر الذهب، وقدم له خمسين خلعة ونثرت رسل الملوك بعده، ثم لبس الأشرف والمعظم خلعتيهما، وهما عمامة سوداء، وثوب أسود واسع الكم، ثم خلع على الصاحب صفي الدين بن شكر الوزير كذلك، وركب العادل - ومعه ابناه ووزيره - بالخلع الخليفتية، وقد زينت البلد، ثم عادوا إلى القلعة، واستمرت زينة البلد ثمانية أيام، وقرأ التقليد الصاحب صفي الدين على كرسي، وخوطب العادل فيه بشاهنشاه، ملك الملوك، خليل أمير المؤمنين، وكان الوزير في حال تركض قائماً على الكرسي، والعادل وسائر الناس أيضاً قياماً، إجلالاً للخليفة، ثم سار الشهاب السهروردي إلى مصر، فأفاض على الملك الكامل الخلعة الخليفتية، وجرى من الرسم كما وقع بدمشق، ثم عاد إلى بغداد.

وفيها أمر العادل بعمارة قلعة دمشق، وفرق أبراجها على الملوك، فعمروها من أموالهم وفيها اتسعت مملكه العادل، فلما تمهدت له الأمور قسم مملكته بين أولاده، فاعطى ابنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً مملكة مصر، ورتب عنده القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، وأعطى ابنه المعظم شرف الدين عيسى من العريش إلى حمص، وأدخل فى ولايته بلاد الساحل الإسلامية، وبلاد الغور وأرض فلسطين، والقدس والكرك، والشوفي وصرخد، وأعطى ابنه الملك الأشرف مظفر الدين موسى البلاد الشرقية، وهى الرها وما معها من حران وغيرها، وأعطى ابنه الملك الأوحد نجم الدين أيوب خلاط وميافارقن وتلك النواحي، وكان الأوحد قد بعث إليه أهل خلاط ليملكها، فسار من ميافارقن وملكها.
وفيها كمل الملك الكامل محمد بناء قلعة الجبل، وتحول إليها من دار الوزارة بالقاهرة، فكان أول من سكنها من ملوك مصر، ونقل إليها أولاد الخليفة العاضد الفاطمي وأقاربه فى بيت على صورة حبس، فأقاموا به إلى أن حولوا منه فى سنة إحدى وسبعن وستمائة.
وفيها توفى الأمير داود بن العاضد فى محبسه. وكانت الإسماعيلية تزعم أن العاضد عهد إليه، وأنه الإمام من بعده، فاستأذن أصحابه من الكامل أن ينوحوا عليه ويندبوه، فأذن لهم، فبرزت النساء حاسرات، والرجال فى ثياب الصوف والشعر، وأخذوا فى ندبه والنياحة عليه، واجتمع معهم من كان فى الاستتار من دعاتهم، فلما تكامل جمعهم أرسل الكامل إليهم طائفة من الأجناد نهبوا ما عليهم، وقبضوا على المعروفين منهم، فملأ بهم السجون، واستصفى أموال ذوى اليسار منهم، ففر من بقي، وزال من حينئذ أمر الإسماعيلية من ديار مصر، ولم يجسر أحد بعدها أن يتظاهر بمذهبهم.
سنة خمس وستمائةفيها سار الكرج ونهبوا أعمال خلاط، وأسروا وغنموا فلم يجسر الأوحد أن يخرج إليهم من مدينة خلاط، فلما بلغ ذلك الملك العادل أخذ في التجهيز لحرب الكرج، وسار الأشرف من دمشق يريد بلاده بالشرق.
وفيها قتل الملك معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، صاحب الجزيزة، قتله ابنه محمود، وقام فى الملك من بعده.
وفيها بعث الأمير سيف الدين سنقر، أتابك اليمن عشرة آلاف دينار مصرية إلى الملك العادل، عليها اسمه.
وفيها مات القاضي مكين الدين مطهر بن حمدان، بقلعة بصرى في شهر رجب، ومات هلال الدولة وشاب بن رزين، والي القاهرة، وعزل الأمر سيف الدين على بن كهدان عن ولاية مصر، وعزل الأسعد بن حمدان عن الشرقية، وباشرها خشخاش الوراق.
وفيها توفى قاضي القضاة صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني، يوم الأربعاء خامس رجب، وكان قد قدم مصر في رابع رجب سنة خمس وستين خمسمائة، فتكون مدة مقامه بديار مصر أربعين سنة.
سنة ست وستمائةفيها خرج العادل من دمشق يريد محاربة الكرج ، ومعه الملوك من بني أيوب . وهم الملك المنصور صاحب حماة، والملك المجاهد صاحب حمص ، والملك الأمجد صاحب بعلبك ، وأرسل إليه الملك الظاهر غازي صاحب حلب جيشا، فنزل العادل حران ، وأتته النجدات مع ولديه الملك الأوحد صاحب خلاط وميافارقين ، والملك الأشرف موسى، وغيرهما ، فاستولى على نصيبين ، ونازل سنجار، وبها الملك قطب الدين محمد بن زنكي، فكانت بينهما عدة وقائع ، بعث في أثنائها صاحب سنجار إلى الخليفة الناصر لدين الله، وإلى الملك الظاهر غازي صاحب حلب ، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب الروم ، وغيرهم يستنجد بهم على العادل ، فمال إليه عدة من الملوك عونا على العادل ، ففارقه عدة ممن كان معه على حصار سنجار، ودسوا إلى جماعة من أصحابه الدسائس ، ففسدت أحواله ، وقدم عليه رسول الخليفة، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك يأمره بالرحيل ، فقال له عم الإمام الخليفة الناصر: " قال لك بحياتي ياخليلي ارحل " . فعاد العادل إلى حران ، وتفرقت العساكر عنه .
وفيها حصلت بين العادل وبن وزيره الصاحب ابن شكر منافرة أوجبت غضبه وسفره في البرية فركب المنصور صاحب حماة، وفخر الدين جهاركس صاحب بانياس حتى لحقاه في رأس عين ، وقدما به على العادل فرضي عنه ، ومن حينئذ انحطت منزلته . وفيها مات الملك المؤيد نجم الدين مسعود بن صلاح الدين يوسف بن أيوب برأس عين ، وقيل إنه سم ، فحمل إلى حلب ليدفن بها.

وفيها عاد الملك العادل إلى دمشق .
وفيها ولي الأمير المكرم بن اللمطي قوص ، في ذي القعدة.
سنة سبع وستمائةفيها ظفر الملك الأوحد بن العادل بملك الكرج ، ففدى نفسه منه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير من المسلمين ، وأن يلتزم الصلح ثلاثين سنة، وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها، فأطلقه الأوحد، وردت على المسلمين عدة قلاع. .
وفيها مات الأوحد، وملك خلاط بعده أخوه الأشرف .
وفيها تحرك الفرنج إلى الساحل ، واجتمعوا في عكا، فخرج الملك العادل من دمشق ، فوقع بينه وبينهم صلح ، وأخذ العادل في عمارة قلعة الطور بالقرب من عكا، وسار إلى الكرك ، فأقام بها أياما، ثم رحل إلى مصر، فدخل القاهرة، ونزل بدار الوزارة.
وفيها مات الأمير فخر الدين جهاركس .
وفيها تحرك الفرنج ثانيا، فتجهز العادل للسفر إلى الشام .
وفيها كفت يد الصاحب صفي الدين بن شكر عن العمل .
وفيها مات السلطان نور الدين أرسلان شاه بن السلطان مسعود الأتابكي صاحب الموصل ، في شهر رجب ، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا، وقام من بعده ابنه الملك القاهر عز الدين مسعود، وقام بتدبيره الأمير بدر الدين لؤلؤ الأتابك ، مملوك ابيه .
وفيها شرب ملوك الأطراف كأس الفتوة للخليفة الناصر، ولبسوا سراويل الفتوة أيضا،فوردت عليهم الرسل بذلك ، ليكون انتماؤهم له ، وأمر كل ملك أن يسقي رعيته ويلبسهم ، لتنتمي كل رعية إلى ملكها، ففعلوا ذلك ، وأحضر كل ملك قضاة مملكته وفقهاءها وأمراءها وأكابرها، وألبس كلا منهم له ، وسقاه كأس الفتوة، وكان الخليفة الناصر مغرما بهذا الأمر، وأمر الملوك أيضا ان تنتسب إليه في رمي البندق ، وتجعله قدوتها فيه .
وفيها قدم إلى القاهرة كليام الفرنجى الجنوي تاجرا، فاتصل بالملك العادل ، وأهدى إليه نفائس ، فاعجب العادل به ، وأمره بملازمته ، وكان كليام في باطن الأمر عينا للفرنج ، يطالعهم بالأحوال ، فقيل هذا للعادل ، فلم يلتفت إلى ما قيل عنه .
ومات فيها يوسف بن الأسعد بن مماتي، في الرابع من جمادى الأولى بالقاهرة .
ومات الأمر سياروخ في خامس عشر رجب .
وفيها قتل غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية، وقد حدث ذلك في أوائل السنة، وهو يواقع الأرمن حلفاء الروم ، عند بلده خونا من أعمال أذربيجان ، وكان قد غلبه أخوه ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان على قونية، وألجأه إلى الفرار منها سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ثم مات ركن الدين سليمان سنه ستمائة، وقام بعده في قونية ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين ، وعند ذلك عاد كيخسرو إلى بلاده بعد فراره إلى حلب وغيرها، وملك كيخسرو قونية ثانيا، بعد خطوب جرت له ، وقد قبض أهلها على قلج أرسلان بن ركن الدين ، ثم قتل كيخسرو بعدما استفحل أمره ، وولى ابنه عز الدين كيكاوس بن غياث الدين .
وفيها كانت وقعة بين حاج العراق وبين أهل مكة بمنى، قتل فيها عبد للشريف قتادة اسمه بلال ، فقيل لها سنة بلال .
سنة ثمان وستمائةفيها قبض الملك العادل على الأمير عز الدين أسامة الصلاحي، نائب كوكب وعجلون واعتقله وأخذ ماله ، وسيره إلى الكرك فاعتقل فيها هو وولده ، وتسلم المعظم قلعة كوكب وعجلون ، وهدم قلعة كوكب ، وعفى أثرها.
وفيها توجه الملك العادل إلى الإسكندرية ، لكشف أحوالها.
وفيها قدم بهاء الدين بن شداد من حلب إلى القاهرة يخطب صفية خاتون ابنة العادل شقيقة الكامل ، لابن عمها الظاهر، فأجيب إلى ذلك ، وعاد مكرما .
وفيها ماتت أم الملك الكامل ، يوم الأحد خامس عشري صفر، فدفنت عند قبر الإمام الشافعي، ورتب ابنها عند قبرها القراء والصدقات ، وأجرى الماء من بركة الحبش إلى قبة الشافعي، ولم يكن قبل ذلك ، فنقل الناس أبنية القرافة الكبرى إلى هذه القرافة من حينئذ، وعمروها.
وفيها خرج العادل من القاهرة، فسار إلى دمشق وبرز منها يريد الجزيرة، فوصل إليها ورتب أحوالها، وعاد إلى دمشق ، ومعه كليام الفرنجي.
وفيها انقضى أمر الطائفة الصلاحية بانقضاء الأمير قراجا والأمير عز الدين أسامة، والأمير فخر الدين جهاركس ،وصفت حصونهم للعادل وابنه المعظم .

وفيها نقل أولاد العاضد الفاطمي وأقاربه إلى قلعة الجبل في يوم الخميس ثاني عشري رمضان ، وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين ألطونبا أبو شعرة بن الدويك ، وإلى القاهرة، وكانت عدتهم ثلاثة وستون نفسا .
وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة هدمت عدة دور بالقاهرة ومصر، وزلزت الكرك والشوبك ، فمات تحت الهدم خلق كثير، وسقط عدة من أبراج قلعتها، ورؤي بدمشق دخان نازل من السماء إلى الأرض ، فيما بي المغرب والعشاء عند أرض قصر عاتكة .
وفيها مات الموفق بن أبى الكرم التنيسي في يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول .
ومات ظافر بن الأرسوفي بمصر في سلخ رجب .
وفيها اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف تاجر وملكان من الفرنج ، فسار العادل وقبض على التجار، وأخذ أموالهم ، وسجن الملكين .
وفيها " أعني سنة ثمان وستمائة " كانت فتنة بين حاج العراق وبين أهل مكة، سببها ان حشيشيا جاء لقتل الشريف قتادة، فقتل شريفا اسمه أبو هارون عزيز، ظنا منه أنه قتادة، فثارت الفتنة، وانهزم أمير الحاج ، ونهب الحاج عن أخره ، وفر من مكة من بمكة من نواب الخليفة، ومن المجاورين ، فبعث الشريف قتادة ولده راجح بن قتادة إلى الخليفة يعتذر له عما جرى، فقبل عذره وعفي عنه .
سنة تسع وستمائةفيها نزل العادل بعساكره حول قلعة الطور، وأحضر الصناع من كل بلد، استعمل جميع أمراء العسكر في البناء ونقل الحجارة، فكان في البناء خمسمائة بناء، سوى الفعلة والنحاتين ، ومازال مقيما حتى كملت .
وفيها قدم ابن شداد من حلب إلى دمشق بمال كثير وخلع ، برسم عقد نكاح صفية خاتون ابنة العادل على ابن عمها الظاهر صاحب حلب ، فخرج إلى لقائه عامة الأمراء والأعيان ، وعقد النكاح في المحرم على مبلغ خمسين ألف دينار، ونثر النثار على من حضر بقلعة دمشق ، وذلك في المحرم ، ثم جهزت إليه بحلب في تجمل عظيم ، من جملة قماش وآلات ومصاغ يحمله خمسون بغلا، ومائة بختي، وثلاثمائة جمل ، وجواري في المحامل على مائة جمل ، منهن مائة مغنية يلعبن بأنواع الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة، فكان دخولها إلى حلب يوما عظيما، وقدم لها الظاهر تقادم : منها خمسة عقود جوهر بمائة وخمسين ألف درهم ، وعصابة جوهر لا نظير لها، وعشر قلأئد عنبر مذهب ، وخمس قلائد بغير ذهب ، ومائة وسبعون قطعة من ذهب وفضة،وعشرون تختا من ثياب ، وعشرون جارية، وعشرة خدام .
وفيها عزل الهمام بن هلال الدولة من ولاية القاهرة، وولى فخر الدين ألطونبا أبوشعرة مملوك المهراني في .
فيها تغير الملك العادل على الوزير صفي الدين بن شكر، ورفع يده من الوزارة،وأبقى عليه ماله وأخرجه إلى آمد، فلم يزل بها حتى مات العادل .
وفيها فوض العادل تدبير مصر، والنظر في أموالها ومصالحها إلى ولده الملك الكامل ، فرتب الكامل القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر ناظر الدولتين.
وفيها خرج العادل من الشام يريد خلاط ، فسار إليها ودخلها، وفيها ابنه الأشرف ، وقد استولى على ما بها من الأموال .
سنة عشر وستمائةفيها تخوف الظاهر صاحب حلب من عمه العادل ، وأخذ في الاستعداد، ثم تراسلا حتى سكن الحال .
وفيها ولدت صفية ابنة العادل لابن عمها الظاهر مولودا سماه محمدا ولقبه بالملك العزيز غياث الدين ، وذلك في خامس ذي الحجة، فزينت حلب ، واحتفل الظاهر احتفالا زائدا، وأمر فصيغ له من الذهب والفضة جميع الصور والأشكال ما وزن بالقناطير، وصاغ له عشرة مهود من ذهب وفضة ، سوى ما عمل من الأبنوس والصندل والعود وغيره ، ونسج للصبي ثلاث فرجيات من لؤلؤ، في كل فرجية أربعون حبة ياقوت ولعل وزمرد، ودرعان وخوذتان وبركستوان ، كل ذلك من لؤلؤ، وثلاثة سروج مجوهرة، في كل سرج عدة قطع من جوهر رائع وياقوت وزمرد، وثلاثة سيوف علائقها وقبضاتها من ذهب مرصع بأنواع الجواهر، وعدة رماح من ذهب أسنتها جوهر .
وفيها حج الظاهر خضر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب ، فلما قارب مكة صده قصاد الملك الكامل محمد بن العادل عن الحج ، وقالوا: " إنما جئت لأخذ بلاد اليمن " ، فقال الظاهر خضر: " ياقوم ! قيدوني، ودعوني أقضي مناسك الحج " . فقالوا : " ليس معنا مرسوم إلا بردك " . فرد إلى الشام ، من غير أن يحج ، فتألم الناس لذلك .

وفيها مات الأمير فخر الدين إسماعيل والى مصر بها.
وفيها دخل بنو مرين إحدى قبائل زناتة من القفر، ونهبوا أعمال المغرب ، وحاربوا الموحدين وهزموهم ، وكان أمير بني مرين إذ ذاك عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن محمد بن ورصيص بن فكوس بن كوماط بن مرين .
تتمة سنة عشر وستمائةفيها حفر خندق مدينة حلب ، فوجد فيه بلاطة صوان عليها أحرف مكتوبة بالقلم السرياني، فترجموه بالعربية، فإذا هو: " لما كان العالم محدثا دل أن له محدثا، لا كهو " ، وكتب تحت هذه الأحرف : " لخمسة آلاف من السنين خلون من الأسطوان الصغير " . فقلعت البلاطة، فوجد تحتها تسع عشرة قطعة من ذهب وفضة وصورى على هيئة اللبن ، فاعتبرت فكان الحاصل منها ذهبا ثلاثة وستين رطلا بالحلبي، وكان منها فضة أربعة وعشرين رطلا، وحلقة ذهب وزنها رطلان ونصف رطل ، وصورى عشرة أرطال ونصف ، فكان الجمع زنته قنطار واحد بالحلبي .
سنة إحدى عشر وستمائةفيها فر الملك المنصور بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف من اعتقال عم أبيه الملك العادل ، ولحق بالظاهر صاحب حلب ، ولاذ به هو و إخوته ، فأكرمهم الظاهر.
وفيها تجمع فرنج قبرس وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكر ابن ملك الأرمن ، لقصد بلاد المسلمين ، فخافهم المسلمون ، وكان أول ما بدأوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعة الخوابي ، ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
وفيها ظفر السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم بالأشكري ملك الروم .
وفيها خرج الملك العادل من الشام يريد مصر، فنزل في القاهرة بدار الوزارة، واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل ، وأمر العادل أن يقيم معه كليام الفرنجي الجنوي بدار الوزارة .
وفيها ورد الخبر بموت سنقر أتابك اليمن ، واستقر بعده الملك الناصر أيوب صاحب اليمن في ملكه ، وقام بأتابكيته غازي.
وفيها شرع الملك العادل في تبليط جامع بني أمية بدمشق ، وكانت أرضه حفرا وجورا، وتولى العمل الوزير صفي الدين بن شكر.
وفيها تعامل أهل دمشق وغيرها بالقراطيس السود العادلية، ثم بطلت بعد ذلك وفنيت .
وفيها تولى سهم الدين عيسى القاهرة في شوال ، وتولى جمال الدين بن أبي المنصور وكالة بيت المال بها.
ومات سعد بن سعد الدين بن كوجيا في عشر ربيع الآخر.
وفيها حج الملك المعظم عيسى بن العادل من دمشق ، وحج معه الشريف سالم بن قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة النبوية، فعزم الشريف قتادة أمير مكة على مسكه فلم يتمكن منه ، فعاد الشريف سالم صحبة الملك المعظم إلى دمشق ، فبعثه المعظم على عسكر إلى مكة ،فمات في الطريق قبل وصوله مكة فقام جماز بن قاسم " وهو ابن أخيه " بتدبير الجيش،فجمع قتادة ، وسار إلى ينبع ولقيه، فهزم قتادة .
سنة اثنتي عشرة وستمائةفيها نازل الفرنج قلعة الخوابي ، وحاربوا الباطنية، ثم صالحوهم .
وفيها سير الخليفة الناصر لدين الله كتابه الذي ألفه وسماه " روح العارفين " إلى الشام ومصر وغيرها ليسمع .
وفيها ملك الفرنج أنطالية، وقتلوا من بها من المسلمين ، وكانت بيد الملك غياث الدين كيخسرو منذ فتحها سنة اثنتين وستمائة إلى أن أجلاه الفرنج عنها سنة سبع وستمائة، ثم استردها منهم الملك الغالب عز الدين كيكاوس سنة ثلاث عشرة وستمائة، بعد أن بقيت بأيدي الفرنج تلك المدة .
وفي هذه السنة أيضا : سار عز الدين إلى بلاد الأرمن ، وحاصر قلعة جابان ، وهزم عندها جيوش الأرمن ، ورجع إلى قيصرية قبل أن يستولي على قلعة جابان ، ثم طلب الأرمن الصلح ، وأجابهم إليه عز الدين ، فأخذ في مقابل الصلح من بلاد الأرمن قلعة لؤلؤة ولوزاد .
وفيها مات الملك المعظم أبو الحسن علي ابن الخليفة الناصر لدين الله ، وهو أصغر أولاده ، فلما قدم نعيه على ملوك الأطراف جلسوا في العزاء، لابسين شعار الحزن خدمة للخليفة.

وفيها سير الملك الكامل ابنه الملك المسعود صلاح الدين يوسف إلى اليمن ، فخرج في جيش كثيف من مصر، وسار إلى بلاد اليمن ، فاستولى على معاقلها، وظفر بصاحبها الملك سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب فسيره تحت الحوطة إلى مصر، فأقام بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازيا، فقتل شهيدا، ودانت بلاد اليمن للملك المسعود .
وفيها عاد الملك العادل من الشام إلى القاهرة، فلما قرىء عليه ما أنفق على الملك المسعود في خروجه إلى اليمن استكثره وأنكر العادل خروجه ، فإنه كان بغير أمره ، وأمر العادل بالقاضي الأعز فضرب وقيد، واعتقل بقلعة الجزيزة، ثم حمله إلى قلعة بصرى، فسجنه بها.
وفيها نقل العادل أمواله وذخائره وأولاده إلى الكرك .
وفيها أبطل الملك العادل ضمان الخمر والقيان .
وفيها مات تقي الدين اللر، شيخ الخانقاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، في المحرم . وفيها مات ابن سوروس بن أبي غالب بطريق اليعاقبة في يوم الخميس عيد الغطاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة للشهداء " وهو الرابع عشر من رمضان " وله في البطركية مدة ست وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، وكان أولا يتجر إلى بلاد اليمن ، فغرق مرة، وجاء الخبر بأن لم يسلم سوى بحشاشته ، وكان لأولاد الجباب معه مال ، فأيسوا منه فلما اجتمع بهم أعلمهم أن مالهم سلم ، فإنه كان قد عمله في مقابر من خشب ، وسمرها في المراكب ، وأحضره إليهم ، فتميز عندهم بذلك ، حتى مات البترك مرقص بن زرعة، فتحدث ابن سوروس في البتركية للقس أبي ياسر، وكان مقيما بالعدوية فحسن له بنو الجباب أن يقوم هو بأمر البتركية، فتحدث في ذلك ، وزكوه فتولى، وكان معه يومئذ سبعة عشر ألف دينار مصرية، فرقها في مدة بطركيته على الفقراء، وأبطل الديارية، ومنع الشرطونية، ولم يأكل في ولايته كلها لأحد من النصارى خبزا، ولا قبل لصغير ولا لكبير منهم هدية، وكان القس داود بن يوحنا " المعروف بابن لقلق ، من أهل الفيوم " ملازما للشيخ نشىء الخلافة أبي الفتوح بن الميقاط ، كاتب الجيوش العادلية، وكان يسافر معه ويصلى به ، فلما مات ابن سوروس سأل أبو الفتوح الملك العادل أن يولي القس داود البتركية، فأجابه وكتب له توقيعا بذلك ، من غير أن يعلم الملك الكامل ، فلم يعجب بعض النصارى ولاية داود، وقام منهم رجل يعرف بالأسعد بن صدقة، كاتب دار التفاح بمصر، وجمع كثيرا من النصارى العصارين بمصر، وطلع في الليلة التي وقع الاتفاق على تقدمة القس داود في صبيحتها، ومعه الجمع إلى تحت قلعة الجبل ، واستغاثوا بالملك الكامل ، وقالوا : " إن هذا الذي يريد أبو الفتوح يعمله بطركا بغير أمرك ما يصلح ، ونحن في شريعتنا لا يقدم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه " . فخرج إليهم الأمر من عند الكامل بتطييب قلوبهم ،وفي سحر النهار ركب القس داود، ومعه الأساقفة " وعالم كبير من النصارى " ليقدموه بكنيسة المعلقة بمصر، وكان ذلك يوم الأحد عيد الزيتونة. فركب الملك الكامل إلى أبيه ، وعرفه أن النصارى لم يتفقوا على بطركية داود، ولا يجوز عندهم تقدمته إلا باتفاق جمهورهم . فسير الملك العادل إلى الأساقفة ليحضرهم حتى يتحقق الأمر، فوافاهم الرسل مع القس داود، عند زقاق كنيسة الحمراء، فأحضرت الأساقفة إلى الملك العادل ، ودخل داود إلى كنيسة الحمراء، وانحل أمره ، وخلا الكرسي من بطريق تسع عشرة سنة ومائة وستين يوما.
وفي جمادى الأولى : صرف الملك العادل زكي الدين الطاهر بن محيي الدين محمد بن علي القرشي عن قضاء دمشق ، وألزم جال الدين عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني بولاية القضاء بها وله من العمر اثنتان وتسعون سنة .
وفيها قدم إلى القاهرة من الشرق رجل معه حمار له سنام كسنام الجمل ، يرقص ويدور، ويستجيب له إذا دعاه..
سنة ثلاث عشرة وستمائةفيها ولي بهاء الدين بن الجميزي خطابة القاهرة في ثالث عشر المحرم .
وولي أبو الطاهر المحلي خطابة مصر في ثاني صفر.
وفيها سار الملك العادل من القاهرة إلى الإسكندرية، فرتب أمورها وعاد .

وفيها قدم البهاء بن شداد برسالة الظاهر من حلب إلى العادل ، وهو بالقاهرة، فمرض الظاهر في خامس عشري جمادى الأول ، ومات في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة عن أربع وأربعين سنة وأشهر، ومدة تملكه بحلب إحدى وثلاثون سنة، وكان قد سمع الحديث وأسمعه بحلب ، وكان سفاكا للدماء، شهما يقظا صاحب سياسة، وله شعر حسن ، وقام من بعده ابنه الملك العزيز غياث الدين محمد، وعمره يومئذ سنتان وأشهر، بعهد من أبيه ، وكان الملك العادل " عندما مرض الظاهر " رتب بريدا من مصر إلى حلب يطالعه بخبره ، فأتاه نعيه قبل كل أحد، فأحضر الملك العادل ابن شداد، وقال له : " ياقاضي! صاحبك قد مات في ساعة كذا من يوم كذا " . فعاد ابن شداد إلى حلب .
وفيها كان ابتداء خروج التتر من بلادهم الجوانية إلى بلاد العجم .
وفيها قدم الشريف قاسم من المدينة النبوية، فأغار على جدة، فخرج إليه الشريف قتادة أمير مكة، وكسره يوم عيد النحر.
سنة أربع عشرة وستمائةفيها وصل الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، بجواب رسالة الملك العادل إلى ، الخليفة الناصر لدين الله.
وفيها تتابعت أمداد الفرنج في البحر من روما وغيرها إلى عكا، وفيهم عدة من ملوكهم " وقد نقضوا الصلح ، وعزموا على أخذ القدس وسائر بلاد الساحل وغيرها " فعظم جمعهم ، فخرج العادل من مصر بعساكره ، وسار إلى لد، فبرز الفرنج من عكا في خلق عظيم ، فرحل العادل على نابلس ، ونزل في بيسان ، فقال له ابنه المعظم لما رحل : " إلى أين يابه ؟ " . فسبه العادل بالعجمية، وقال: " بمن أقاتل ؟ أقطعت الشام مماليك ، وتركت من ينفعني من أبناء الناس الذين يرجعون إلى الأصول " وذكر كلاما في هذا المعنى .
فقصده الفرنج ، فلم يطق لقاءهم ، لقلة من معه ، فاندفع من بين أيديهم على عقبة فيق ، وكتب بتحصين دمشق ، ونقل الغلات من داريا إلى القلعة، وإرسال الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور ففزع الناس وابتهلوا إلى الله، وكثر ضجيجهم بالجامع ، فزحف الفرنج على بيسان " وقد اطمأن أهلها بنزول العادل عليهم " فانتهبوها وسائر أعمالها، وبذلوا في أهلها السيف ، وأسروا وغنموا ما يجل وصفه ، وانبثت سراياهم فيما هنالك حتى وصلت إلى نوى ونازلوا بانياس ثلاثة أيام ، ثم عادوا إلى مرج عكا، وقد أنكوا في المسلمين أعظم نكاية، وامتلأت أيديهم بالأسر، والسبي والغنائم ، وأتلفوا بالقتل والتحريق ما يتجاوز الوصف . فلم يمكثوا بالمرج سوى قليل ، ثم أغاروا ثانيا، ونهبوا صيداء والشقيف ورجعوا، وذلك كله من نصف شهر رمضان إلى يوم عيد الفطر، ونزل العادل بمرج الصفر، ورأى في طريقه رجلا يحمل شيئا، وهو يمشي تارة ويقعد أخرى، فقال له : " ياشيخ ! لا تعجل ، ارفق بنفسك " . ففال له : " ياسلطان المسلمين ! أنت لا تعجل ، أو أنا؟ إذا رأيناك قد سرت من بلادك ، وتركتنا مع الأعداء، كيف لا نعجل ؟ " . وعندما استقر بمرج الصفر، كتب إلى ملوك الشرق ليقدموا عليه : فأول من قدم عليه أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، وهو ابن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، عم السلطان صلاح الدين يوسف ، ثم إن العادل جهز ابنه المعظم عيسى صاحب دمشق ، بطائفة من العسكر إلى نابلس ، كي يمنع الفرنج من بيت المقدس ، فنازل الفرنج قلعة الطور التي أنشأها العادل ، وجدوا في قتال أهلها، حتى تمكنوا من سورها، وأشرفوا على أخذها. فقدر الله أن بعض ملوكهم قتل ، فانصرفوا عنها إلى عكا بعدما أقاموا عليها سبعة عشر يوما، وانقضت السنة والحال على ذلك ، من إقامة الفرنج بمرج عكا، والعادل بمرج الصفر.
وفيها مات القاضي الأجل قاضي قضاة الشام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد الأنصاري الخزرجي العبادي السعدي الدمشقي الشافعي جمال الدين الحرستاني، في رابع ذي الحجة، ومولده بدمشق في أحد الربيعين، سنة عشرين وخمسمائة.
ومات الأمير الكبير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد الهكاري قتله الفرنج على حصن الطور، فنقل إلى القدس ، ودفن بتربته .
ومات الشجاع محمود بن الدباغ ، مضحك الملك العادل ، وترك مالا جزيلا.
سنة خمس عشرة وستمائة

فيها اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملكها، فأقلعوا في البحر، وأرسوا على دمياط ، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول " الموافق لثامن حزيران " على بر جيزة دمياط ، فصار النيل بينهم وبين البلد، وكان إذ ذاك على النيل برج منيع ، في غاية القوة والامتناع ، فيه سلاسل من حديد، عظام القدر والغلظ ، تمتد في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله ، وكانا مشحونين بالمقاتلة، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط ببين البرجين . وصار الفرنج في غربي النيل ، فأحاطوا على معسكرهم خندقا، وبنوا بدائره سورا . وأخذوا في محاربة أهل دمياط ، وعملوا آلات ومرمات ، وأبراجا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسة ليملكوه ، حتى يتمكنوا من البلد، فخرج الكامل بمن بقي عنده من العسكر، في ثالث يوم من سقوط الطائر، لخمس خلون من ربيع الأول ، وتقدم إلى والي الغربية بجمع سائر العربان ، وسار في جمع كثير، وخرج الأسطول ، فأقام تحت دمياط ، ونزل السلطان الكامل بناحية العادلية، قريبا من دمياط ، وسير البعوث ليمنع الفرنج من العبور، وصار يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط ، بتدبير الأمور وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج .
وألح الفرنج في مقاتلة أهل البرج ، فلم يظفروا بشيء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم ، وتمادى الأمر على ذلك أربعة اشهر، هذا والملك العادل يجهز عساكر الشام شيئا بعد شيء إلى دمياط ، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عدده .
وفي أثناء ذلك ورد الخبر بحركة الملك الغالب عز الدين كيكاوس السلجوقي، سلطان الروم ، إلى البلاد الشامية، بموافقة الملك الصالح صاحب آمد وغيره من ملوك الشام ، وأنه وصل إلى منبج ، وأخذ تل باشر واتفق كيكاوس مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين صاحب سميساط أنه يسلمه ما يفتحه من البلاد، فلم يف كيكاوس بما وعد، وسلم ما فتحه لنوابه ، فتقاعد عنه كثير من الناس ، وأوقع العرب بطائفة من عسكره ، فقتلوا وأسروا منهم كثيرا، ونهبوا لهم شيئا له قدر ، فرجع إلى بلاده بغير طائل . هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج ، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط ، فتأوه تأوها شديدا، ودق بيده على صدره أسفا وحزنا ،ومرض من ساعته ، فرحل من المرج إلى عالقين ، وقد اشتد مرضه ، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس ، فكتم أصحابه موته ، وقالوا: " قد أشار الطبيب بعبور دمشق ليتداوى، محمل في محفة، وعنده خادم ، والطبيب راكب بجانب المحفة ، والشربدار يصلح الأشربة، ويحملها إلى الخادم ليشربها السلطان ، يوهم الناس بذلك أنه حي، إلى أن دخل قلعة دمشق ، وصارت بها الخزائن والحرم وجميع البيوتات ، فأعلم بموته ، بعدما استولى ابنه الملك المعظم على جميع أمواله ، التي كانت معه ، وسائر رخته وثقله ، ودفنه بالقلعة، فاختبط الناس حتى ركب المعظم ، وسكن أمر الناس ، ونادى في البلد: " ترحموا على السلطان الملك العادل ، وادعوا لسلطانكم الملك المعظم " أبقاه الله فبكى الناس بكاء كثيرا، واشتد حزنهم لفقده .

وكان مولده في المحرم سنة أربعين " وقيل سنة ثمان وثلاثين " وخمسمائة بدمشق ، وسمع من السلفي وابن عوف ، وعرفت مواقفه في جهاد العدو بثغر دمياط في سنة خمس وستين وخمسمائة، في أيام الخليفة العاضد، وفي مدينة عكا، وملك دمشق في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكانت مدة ملكه لها ثلاثا وعشرين سنة، وملك مصر، في سنة ست وتسعين ، فكانت مدة ملكه لها تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما، ورزق في أولاده سعادة قلما يتفق مثلها لملك ، فبلعوا تسعة عشر ولدا ذكرا، سوى البنات ، وهم : الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط ، وكان قصيرا في الغاية، شهما مقداما سفاكا للدماء، مات في حياة أبيه ، والملك الفائز إبراهيم ، والملك المغيث عمر " وقد توفيا أيضا في حياته " وترك عمر ابنا سمي بالملك المغيث وشهاب الدين محمود، رباه عمه الملك المعظم عيسى، والملك الجواد شمس الدين مودود، ومات في حياته أيضا " وترك الملك الجواد ولدا اسمه مظفر الدين يونس بن مودود بقي عند عمه الملك الكامل بمصر، ثم ملك دمشق وغيرها، وكان جوادا شجاعا، والملك الكامل ناصر الدين محمد، صاحب مصر، والملك المعظم شرف الدين أبو العزائم عيسى صاحب دمشق ، وشقيق الملك العزيز عماد الدين عثمان صاحب بانياس " وكان جوادا شهما " والملك الأمجد مجد الدين حسن ، ومات في حياة أبيه بالقدس ، ودفن في مدرسة بنيت له ، ثم نقل إلى الكرك والملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب الشرق وخلاط ، بعد أخيه الملك الأوحد، والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارتن ، وشقيقاه الملك المعز مجير الدين يعقوب ، والملك القاهر بهاء الدين تاج الملوك إسحاق ، والملك الصا لح عماد الدين إسماعيل ، صاحب بصرى، ثم دمشق ، والملك المفضل قطب الدين أحمد، ومات بمصر في أيام أخيه الكامل بالفيوم ، ووصل في تابوت إلى القاهرة، في نصف رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، والملك الأمجد تقي الدين عباس ، وهو أصغرهم ، ولد في سنة ثلاث وستمائة، ومات آخرهم بدمشق ، في سنة تسع وستين وستمائة، في أيام الملك الظاهر بيبرس ، والملك الحافظ نور الدين أرسلان صاحب قلعة جعبر، والملك القاهر بهاء الدين خضر، والملك المغيث شهاب الدين محمود، والملك الناصر صلاح الدين خليل .
ووزر للملك العادل صنيعة الملك أبو سعيد بن أبي اليمن بن النحال مدة يسيرة، وكان نصرانيا فأسلم على يده بعد عوده مع الأفضل علي بن صلاح الدين إلى مصر في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فلما مات ابن النحال استوزر العادل الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر الدميري،فتجبر وسطا، وتمكن من السلطان ، واستولى عليه ، وعظم قدره . وأوقع ابن شكر بعدة من الأكابر، وصادر أكابر كتاب الدولة، واستصفى أموالهم . ففر منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر لدين ا لله ، وأحضر كتاب شفاعته إلى العادل ، وفر منه علم الدين بن أبي الحجاج ، صاحب ديوان الجيش ، والأسعد بن مماتي صاحب ديوان المال ، إلى حلب ، فأكرمهما الملك الظاهر، حتى ماتا عنده ، وصادر بني حمدان وبني الجباب وبني الجليس ، وأعيان الكتاب المستوفين ، والعادل لا يعارضه في شيء، هذا وهو يتغضب على السلطان ، واستمر على هذا الحال إلى أن غضب على السلطان مرة في سنة تسع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدمه ، فأخرجه السلطان العادل من مصر، بجميع أمواله وحرمه ، فكان ثقله على ثلاثين جملا، وحسن أعداؤه للسلطان أن يأخذ ماله ، فامتنع واكتفى بإخراجه إلى آمد. وسار صفي الدين إلى آمد، فأقام عند الصالح بن أرتق ، فأقام العادل من بعده القاضي فخر الدين مقدام بن شكر، ثم نقم عليه في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وضربه وقيده ، وأخرجه من مصر، ولم يستوزر بعده أحدا .
من أعجب الاتفاقات أن الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف لم يملك مملكة إلا وأخذها عمه العادل منه : فأول ذلك أن أباه أقطعه حران والرها وميافارقن في سنة ست وثمانين وخمسمائة، فسار إليها، حتى إذا بلغ حلب رده أبوه ، وبعث الملك العادل بدله ، ثم ملك الأفضل بعد أبيه دمشق ، فأخذها العادل منه ، ثم ملك مصر بعد ذلك ، فأخذها منه العادل ، ثم ملك صرخد، فأخذها منه العادل ، وعوضه قلعة نجم وسروج ، ثم استرجعهما منه بعد ذلك .

فلما تمهدت للملك العادل الممالك قسمها بين أولاده ، فملك هو وأولاده من خلاط إلى اليمن ، ورأى العادل في أولاده ما يحب ، من اتساع الممالك وكثرة الظفر بالأعداء، بحيث لم يسمع عن ملك أنه رأى في أولاده ما رآه العادل ، فإنه اجتمع في كل منهم من النجابة والنبل ، والكفاية والمعرفة، والفضيلة وعلو الهمة، ما لا مزيد عليه ، ودانت لهم العباد، وملكوا خيار البلاد، وكان كثيرا ما يتردد العادل في ممالك أولاده ، وأكثر أوقاته يصيف بدمشق ، ويشتي بمصر، وكان أكولا نهما، يأكل خروفا مشويا بمفرده ، وله اقتدار زائد على النكاح ، ومتع في دنياه بأرغد عيش ، وتمكن من السعادة في سائر أحواله ، وكان حميد السيرة، حسن العقيدة، كثير السياسة، صاحب معرفة بدقائق الأمور، قد حنكته التجارب ، فسعدت آراؤه ، ونجحت تدبيراته ، وكان لا يرى محاربة أعدائه ، ويستعمل في مقاصده المكائد والخدع ، فهادنته الفرنج لقوة حزمه وشدة تيقظه ، وغزارة عقله وقوة كيده ، ومكره ومداومته على المخادعة والمخاتلة، وكثرة صبره وحلمه وأناته ، بحيث إنه كان إذا سمع مايكره يغضي عنه تجاوزا وصفحا، كأنه لم يبلغه ، وكان لا يخرج المال إلا عند الاحتياج إلى إخراجه ، فيسمح حينئذ ببدل الكثير منه ، ولا يتوقف فيما ينفق ، فإذا لم يحتج إلى أخرج المال ضن به وأمسكه ، فثابت له بذلك أغراضه كما يجب ، وانقادت له الأمور مثل ما يختار، وكان يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها، ويحب السنة، ويكرم العلماء، مع العظمة وقوة المهابة المتمكنة في القلوب ، وله صنف الإمام فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس ، وبعث به إليه من بلاد خراسان .
ومات الملك العادل عن خمس وسبعين " وقيل ثلاث وسبعين " سنة، وترك مالا كثيرا، منه في خزائنه " التي استولى عليها ابنه المعظم " سبعمائة ألف دينار مصرية، سوى ما كان له في الكرك ، فاحتوى عليه أيضا الملك المعظم ، وكتب المعظم إلى أخوته بموت أبيه ، فجلس الملك الكامل للعزاء في معسكره بظاهر دمياط ، وارتاع لموت أبيه خوفا من الفرنج .
السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، سادس ملوك مصر من الأيوبيين ، استقل بمملكة مصر بعد موت أبيه ، بعهده إليه في حياته ، وكانت سلطنته بعد السابع من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة عندما وصل إليه نعي أبيه ، وهو بالمنزلة العادلية على محاربة الفرنج ، وقد ملكوا البر الغربي، واستولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به ، لتعبر مراكبهم في بحر النيل ، ويتمكنوا من أرض مصر، فنصب الملك الكامل عوضا من السلاسل جسرا عظيما، يمنع الفرنج من عبور النيل ، فقاتل الفرنج عليه قتالا كثيرا حتى قطعوه ، وكان قد أنفق على هذا البرج والجسر ما ينيف على سبعين ألف دينار، فأمر الكامل بتغريق عدة من المراكب في النيل ، منعت الفرنج من سلوكه ، فعدل الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق ، كان النيل يجرى فيه قديما، فحفروه حفرا عميقا، وأجروا فيه الماء إلى البحر الملح ، فجرت سفنهم فيه إلى ناحية بورة على أرض جيزة دمياط ، تجاه المنزلة التي فيها الكامل ، ليقاتلوه من هناك ، فلما استقروا في بورة حاذوه ، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه غير مرة، فلم ينالوا منه غرضا طائلا، و لم يضر أهل دمياط ذلك ، لتواصل الأمداد والميرة إليهم ، وكون النيل يحجز بينهم وبين الفرنج ، بحيث كانت أبواب المدينة مفتحة، وليس عليها حصر ولا ضيق ألبتة.

هذا والعربان تخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث منعهم ذلك من الرقاد، خوفا من غاراتهم، فتكالب العرب عليهم حتى صاروا يختطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، فأكمن لهم الفرنج عدة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، فهاج البحر على معسكر المسلمين ، وغرق الخيم ، فعظم البلاء، واشتد الكرب ، وألح الفرنج في القتال ، و لم يبق إلا أن يملكوا البلاد، فأرسل الله سبحانه ريحا قطعت مراسي مرمة كانت للفرنج من عجائب الدنيا، فمرت تلك المرمة إلى البر الذي فيه المسلمون فملكوها، فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع ، وفيها من المسامير ما زنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث السلطان إلى الآفاق سبعين رسولا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج ، ويستحثهم على إنقاذ المسلمين منهم واغاثتهم ، ويخوفهم من تغلب الفرنج على مصر، فإنه متى ملكوها لا يمتنع عليهم شيء من الممالك بعدها، فسارت الرسل في شوال ، فقدمت النجدات من حماة وحلب ، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمع في الملك الكامل ، وثار العرب بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضررهم ، واتفق مع ذلك قيام الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، والمعروف بابن المشطوب ، وكان أجل الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية ، ينقادون إليه ويطيعونه ، مع أنه كان وافر الحرمة عند الملوك ، معدودا بينهم كواحد منهم ، معروفا بعلو الهمة وكثرة الجود، وسعة الكرم والشجاعة، تهابه الملوك ، وله وقائع مشهورة في القيام عليهم ، ولما مات أبوه ، وكانت نابلس إقطاعا له ، أرصد ثلثها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لمصالح القدس ، وأقطع ابنه عماد الدين هذا بقيتها، فلم يزل قائم الجاه من الأيام الصلاحية، فاتفق عماد الدين مع جماعة من الأكراد والجند على خلع الملك الكامل ، وتمليك أخيه الفائز إبراهيم ، ليصير لهم التحكم في المملكة، ووافقه على ذلك الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاري، والأمير مجاهد الدين ، وعدة من الأمراء، فلما بلغ الكامل ذلك دخل عليهم ، فإذا هم مجتمعون وبين أيديهم المصحف ، وهم يحلفون لأخيه الفائز، فعندما رأوه تفرقوا، فخشي على نفسه منهم ، وخرج ، فاتفق قدوم الصاحب صفي الدين بن شكر من آمد، فإنه كان قد استدعاه الكامل بعد موت أبيه ، فتلقاه الكامل وأكرمه ، وأوقفه على ما فيه جماعة الأمراء، فشجعه وضمن له تحصيل المال وتدبير الأمور، فلما كان في الليل ركب الكامل من المنزلة العادلية، في الليل جريدة، وسار إلى أشموم طناح فنزل بها، وأصبح العسكر وقد فقدوا السلطان ، فركب كل أحد هواه ، ولم يعرج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ، و لم يأخذ كل أحد إلا ما خف حمله ، فبادر الفرنج عند ذلك ، وعبروا بر دمياط وهم آمنون ، من غير منازع ولا مدافع ، وأخذوا كل ما كان في معسكر المسلمين ، وكان شيئا لا يقدر قدره ، وذلك لبضع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، فكان نزول الفرنج قبالة دمياط في يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة، ونزولهم في البر الشرقي " حيث مدينة دمياط " يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة سنة ست عشرة، فتزلزل الملك الكامل، وهم بمفارقة أرض مصر، ثم تثبت ، فتلاحق به العسكر، وبعد يومين وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق " وهو بأشموم " في ثامن عشر ذي القعدة ، فقويت به شوكته ، وأعلمه بما كان من أمر ابن المشطو ب ، فوعده بإزالته عنه . ثم ركب المعظم إلى خيمة ابن المشطوب ، واستدعاه للركوب معه للمسايرة، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثيابه ، فلم يمهله وأعجله ، فركب معه وهو آمن ، وسايره حتى خرج به من المعسكر وبعد عنه ، فالتفت إليه المعظم ، وقال . " يا عماد الدين ! هذه البلاد لك ، أشتهي أن تهبها لنا " . وأعطاه نفقة، وأسلمه إلى جماعة من أصحابه يثق بهم ، كان قد أعدهم لهذا الأمر، وأمرهم أن يلازموه إلى أن يخرج من الرمل ، ويحتفظوا به إلى أن يدخل إلى الشام ، فما وجد ابن المشطوب سبيلا إلى الامتناع ، ولا قدر على المدافعة، لأنه بمفرده بينهم ، فساروا به على تلك الحالة إلى الشام ، فنزل بحماة عند الملك المنصور، وسه أربعة من خدمه ، ولما سار ابن المشطوب رجع

المعظم إلى أخيه الكامل ، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل ، بسبب إرسال عساكر الإسلام ، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج ، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن ، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات :لمعظم إلى أخيه الكامل ، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل ، بسبب إرسال عساكر الإسلام ، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج ، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن ، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات :
يامسعدي إن كنت حقا مسعفي ... فانهض بغير تلبث وتوقف
واحثث قلوصك مرقلا أو موجفا ... بتجشم في سيرها وتعسف
واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ... إلا على باب المليك الأشرف
واقر السلام عليه من عبد له ... متوقع لقدومه متشوف
وإذا وصلت إلى حماة فقل له ... عني بحسن توصل وتلطف
إن تأت عبدك عن قليل تلقه ... ما بين كل مهند ومثقف
أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ... بل في القيامة في عراص الموقف
فسار الفائز " وكان الغرض إخراجه من أرض مصر " فمضى إلى دمشق، ورحل إلى حماة، ثم سار إلى الشرق ، فانتظم أمر الكامل ، وقوى ساعده ، وترتبت قواعد ملكه ، وسار عنه المعظم ، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط من البحر والبر، وأحدقوا بها وحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوا الأقوات أن تصل إليهم ، وحفروا على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد قتال ، وأنزل الله عليهم الصبر، فثبتوا مع قلة الأقوات عندهم وشدة غلاء الأسعار، وأخذ الكامل في محاربة الفرنج ، وهم قد حالوا بينه وبينها، ولم يصل إليها أحد من عنده سوى رجل من الجاندارية، وكان هذا الرجل قد قدم إلى القاهرة من بعض قرى حماة، و يسمى شمايل ، فتوصل حتى صار يخدم في الركاب السلطاني جاندار، وكان يخاطر بنفسه ، ويسبح في النيل " ومراكب الفرنج به محيطة، والنيل قد امتلأت به شواني الفرنج " فيدخل إلى مدينة دمياط ، ويأتي السلطان بأخبار أهلها، فإذا دخل إليها قوى قلوب أهلها، ووعدهم بقرب وصول النجدات ، فحظي بذلك عند الكامل ، وتقدم تقدما كثيرا، وجعله أمير جانداره وسيف نقمته ، وولاه القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمايل ، وكان في دمياط من أهلها الأمير جمال الدين الكناني، فكتب هذه الأبيات ، وألقاها إلى الملك الكامل في سهم نشاب ، وهى :
يا مالكي دمياط ثغر هدمت ... الله ضامن أجره وكفيلهشرفاته
يقريك من أزكى السلام تحية ... كادت تجث أصوله
ويقول عن بعد وإنك سامع ... كالمسك طاب دقيقه وجليله
يأيها الملك الذي ما إن يرى ... حتى كأنك جاره ونزيله
هذا كتاب موضح من حالتي ... بي الملوك شبيهه وعديله
أشكو إليك عدو سوء أحدقت ... ما ليس يمكنني لديك أقوله
فالبر قد منعت إليه طريقه ... بجميعه فرسانه وخيوله
فخضوعه باد على أبراجه ... والبحر عز لنصره أسطوله
ولو استطاع لأم بابك لائذا ... وحنينه وبكاؤه وعويله
ورسوله في أن تجيب دعاءه ... لكنه سدت عليه سبيله
فقد انتهت أدواؤه وتحكمت ... دين الإله وخلقه ورسوله
وبقي له رمق يسيريرتجى ... علاته ونحا عليه نحوله
فاحرس حماك بعزمة تشفى بها ... أن يشتفي لما دعاك عليله
فالله أعطاك الكثير بفضله ... داء لمثلك يرتجى تعليله
فالعذر في نصر الإله ودينه ... ورضاه من هذا الكثير قليله
والثغر ناظره إليك محدق ... ما ساغ عند المسلمين قبوله
ولئن قعدت عن القيام بنصره ... ما إن يمل من الدموع هموله

ووهت قوى القرآن فيه ورفعت ... جفت نضارته وبان ذبوله
وعلا صدى الناقوس في أرجائه ... صلبانه وتلى به إنجيله
هذا وحقك وصف صورة حاله ... وخفي على سمع الورى تهليله
وكفاك يابن الأكرمين بأنه ... حقا وجملته وذا تفصيله
حقق رجاء فيك يا من لم يخع ... أضحى عليك من الورى تعويله
واذخر ليوم البعث فعلا صالحا ... أبدا لراجي جوده تأميله
فلما وقف السلطان على هذه الأبيات أمر أهل القاهرة ومصر بالنفير للجهاد،وخرجت السنة والحال على ذلك .
وفيها استدعى الملك الغالب كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان ، ملك الروم ، بالملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف " وكان بسميساط " ، ويخطب للملك الغالب ، فلما قدم عليه أكرمه ، وحمل إليه شيئا كثيرا من المال والخيل والسلاح وغيره ، وتحالفا على المسير إلى المملكة الحلبية وأخذها، بشرط أن يدفعها الملك الغالب ، هي وسائر ما يفتحه إلى الملك الأفضل ، ليقيم له فيها الخطبة والسكة، ويصير في طاعته ، فإذا تم ذلك سارا إلى الشرق ، وأخذا حران والرها وغيرها، فسارا يالعساكر وأخذا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل ، ومال إليه الناس ، واجتمعوا على الملك الغالب ، لمحبتهم في الأفضل ، ثم سار إلى قلعة تل باشر، فحصراها حتى ملكاها، فلم يسلمها الملك الغالب للأفضل ، وأقام نائبا من قبله ، فنفر منه الأفضل وفترت همته ، وعلم أن هذأ أول الغدر، وأعرض أهل البلاد أيضا عن الملك الغالب ، واستعد أهل حلب ، واستدعوا الملك الأشرف من بحيرة قدس ، وكان نازلا عليها تجاه الفرنج ، فقدم إليهم بعساكره ، وحضرت عرب طيء وغيرها، إلى ظاهر حلب ، فحسن الأفضل للملك الغالب التوجه إلى منبج ، فسارا إليها، فواقع العرب مقدمة الملك الغالب ، فانهزمت ، وأسر العرب وأصحاب الأشرف كثيرا منهم ، فرجع عند ذلك الملك الغالب إلى بلاده ، وسار الأشرف ، فاستولى على رعبان وتل باشر.
وفيها مات الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي آقسنقر، صاحب الموصل ، لثلاث بقين من ربيع الأول ، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وقام من بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه ، وعمره عشر سنين ، فدبر أمره الأمير بدر الدين لؤلؤ الأتابك ، فأقرهما الخليفة الناصر.
سنة ست عشرة وستمائةفيها قدم الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب - صاحب حماة - إلى الملك الكامل، نجدة في عسكر كثيف، ومعه الطواشي مرشد المنصوري، فتلقاه السلطان وأعظم قدره، وأنزله على مينته، وهي المنزلة التي كانت لأبيه وجده عند السلطان صلاح الدين يوسف، ووصل الفائز إبراهيم بن العادل إلى أخيه الأشرف موسى برسالة أخيهما الكامل للاستنجاد على الفرنج، فأكرمه وأمسكه عنده، فإن الغرض إنما كان إخراجه من أرض مصر.

وفيها اشتد قتال الفرنج، وعظمت نكايتهم لأهل دمياط، وكان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض، وغلت عندهم الأسعار، حتى أبيعت البيضة الواحدة من بيض الدجاج بعدة دنانير، وامتلأت الطرقات من الأموات، وعدمت الأقوات، وصار السكر في عزة الياقوت، وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه، وآلت بالناس الحال إلى أن لم يبق عندهم غير شيء يسير من القمح والشجر فقط، فتسور الفرنج السور، وملكوا منه البلد يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، فكانت مدة الحصار ستة عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً، وعندما أخذوا دمياط وضعوا السيف في الناس، فلم يعرف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطان بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحصن الفرنج أسوار في مياط، وجعلوا جامعها كنيسة، وبثوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظم الخطب واشتد البلاء، وندب السلطان الناس وفرقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون الناس لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع السلطان في بناء الحور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحر إلى عكا وبرزوا من مدينة دمياط يريدون أخذ مصر والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين العسكر بحر أشموم وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف رجل وعشرة آلاف فارس، فقدم السلطان الشواني تجاه المنصورة، وهي مائة قطعة، واجتمع الناس من أهل ومصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقي الدين طاهر المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام، وألا يبقى أحد وذكروا أن ملك الفرنج قد أقطع ديار مصر لأصحابه.
فقال:
يهددونا بأهل عكا ... أن يملكونا وأهل يافا
ومن لنا أن يلوا علينا ... فالروم خير من الريافا
يعني أهل الريف، فإنه كان قد كثر تسلطهم، وطمعوا في أمر السلطان، واستخفوا به، لشغله بالفرنج عنهم، وخرج الأمير علاء الدين جلدك، والأمير جمال الدين بن صيرم، لجمع الناس مما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي فأجمع من المسلمين عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين دمياط، وسارت الشواني - ومعها حراقة كبيرة - إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر، وقدمت النجمات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدد الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائف لا يحصي لهم عدد فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها، في حدهم وحديدهم، وقد زين لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليك البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات كان أولها قدوماً الملك الأشرف موسى بن العادل، وآخرها على السكة الملك المعظم عيسى، وفيما بينهما بقية الملوك: وهم المنصور صاحب حماة، والناصر صلاح الدين قلج أرسلان، والمجاهد صاحب حمص، والأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك وغيرهم، فهال الفرنج ما رأوا، وكان قدوم هذه النجدات في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفاً، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخفوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة، وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضاً بثلاث قطائع فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصلح، كما سيأتي إن شاء الله.
وفيها مات قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، وقام من بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، ثم قتله أخوه الأمجد عمر.
ومات نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، فقام من بعده الأمير بحر الدين لؤلؤ بأمر أخيه ناصر الدين محمود بن القاهر عز الدين، وعمره ثلاث سنين.

وفيها أمر الملك المعظم عيسى بتخريب القدس، خوفاً من استيلاء الفرنج عليها، فخربت أسوار المدينة وأبراجها كلها، إلا برج داود - وكان من غربي البلد - فإنه أبقاه، وخرج معظم من كان في القدس من الناس، ولم يبق فيه إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال، فشق على المسلمين تخريب القدس وأخذ دمياط.
وفيها هدم المعظم أيضاً قلعة الطور التي بناها أبوه العادل، وعفى أثارها.
وفيها خرجت كتب الخليفة الناصر لدين الله إلى سائر الممالك، بإنجاد الملك الكامل بدمياط.
وفيها مات عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، ملك قونية، بعدما ملك أرزن الروم من عمه طغرل شاه ابن قلج شاه بن قلج أرسلان، وملك أنكورية من أخيه كيقباد، فصار سلطان الروم، وقام من بعده أخوه علاء الدين كيقباد.
وفيها ابتدأ ظهور التتار - ومساكنهم جبال طمغاج من أرض الصين، بينها وبين بلاد التركستان ما يزيد على ستة أشهر - واستولوا على كثير من بلاد الإسلام، وكانوا لا يدينون بدين، إلا أنهم يعرفون بالله تعالى، من غير اعتقاد شريعة، فملكوا الصين - وكان ملكهم يقال له جنكزخان - ثم ساروا إلى تركستان وكاشغر فملكوا تلك البلاد، وأغاروا على أطراف بلاد السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان محمد بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، ثم استولوا على بخاري وغيرها من بلاد العجم.
سنة سبع عشرة وستمائةأهلت وانقضت، والحرب قائمة بين المسلمين وبين الفرنج على دمياط، في منزلة المنصورة.
وفيها استولى التتر على سمرقند وهزموا السلطان علاء الدين، وملكوا الري وهمذان وقزوين، وحاربوا الكرج، وملكوا فرغانة والترمذ وخوارزم، وخراسان ومرو ونيسابور، وطوس وهراة وغزنة.
وفيها ملك الأشرف موسى بن العادل ماردين وسنجار.
وفيها مات الملك المنصور ناصر الدين محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة - وكان إماماً مفتياً في عدة علوم، وله شعر جيد - في ذي القعدة، عن خمسين سنة، منها مدة ملكه ثلاثون سنة، وكان ابنه الأكبر الملك المظفر تقي الدين محمود في معسكر خاله الملك الكامل، بالمنصورة على مقاتلة الفرنج، فقام بمملكة حماة الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وكان عمره سبع عشرة سنة، فشق بذلك على أخيه المظفر، واستأذن الملك الكامل في العود إلى حماة، ظناً منه أنه يملكها، فإنه كان ولي عهد أبيه، فأذن له الملك الكامل، وسار فلقى الملك المعظم في الغور، فخوفه من التعرض إلى أخيه، فأقام بدمشق، ثم رجع المظفر إلى الملك الكامل، فأقطعه إقطاعاً، وأقام في خدمته.
وفيها كثرت مصادرة الصاحب صفي الدين بن شكر أرباب الأموال بمصر والقاهرة، من التجار والكتاب: وقرر التبرع على الأملاك، وهو مال جبي من الناس، وأحدث ابن شكر حوادث كثيرة، وحصل مالاً جماً.
وفيها قوي طمع الفرنج في ملك ديار مصر، وعزموا على التقدم إلى المسلمين، ليدفعوهم عن منزلتهم، ويستولوا على البلاد، فانقضت السنة وهم تجاه المسلمين على رأس بحر أشموم ودمياط.
وفيها غلت الأسعار بأرض مصر، فبلغ القمح ثلاثة دنانير كل أردب، فكانت من أشق السنين وأشدها على أهل مصر.
وفيها مات الشريف أبو عزيز قتادة بن أبي مالك إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله ابن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنه، سلطان مكة، في أخر جمادى الآخرة بمكة، عن تسعين سنة، وله شعر جيد، وقدم مصر غير مرة، ومعه أخوه أبو موسى عيسى، وكانت ولادته ومرباه بالينبع. وملك مكة بعده ابنه حسن بن قتادة فسار راجح بن قتادة مغاضباً له، وقطع الطريق في الموسم بين مكة وعرفة، فقبض عليه أقباش أمير الحاج العراقي، فبعث الشريف حسن لأقباش يعده بمال ليسلمه راجحاً، فوعده راجح بأكثر من ذلك، فعزم أقباش على أن يسلمه مكة، وتقدم لمقاتلة أميرها، فقتل أقباش، وفر راجح إلى الملك المسعود باليمن.
سنة ثمان عشرة وستمائة

فيها اشتدت قوة الفرنج، بكثرة من قدم إليهم في البحر، فتابع الملك الكامل الرسل في طلب النجدات، فقدمت عليه الملوك كما تقدم، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، وكانت العامة تكر على الفرنج أكثر ما يكر عليهم العسكر، وتقدم جماعة من العسكر إلى خليج من النيل في البر الغربي، يعرف ببحر المحلة، وقاتلوا الفرنج منه، وتقدمت الشواني الإسلامية في بحر النيل، لتقاتل شواني الفرنج، فأخفوا منها ثلاث قطع برحالها وأسلحتها.

هذا والرسل تزدد من عند الفرنج في طلب الصلح بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ماخلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنج، وقالوا: لا نسلم دمياط حتى تسلموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخذ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضاً، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتهم، وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكاناً عظيماً في النيل، وكان الوقت في قوة الزيادة، فإنه كان أول ليلة من توت، والفرنج لا معرفة لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلاً بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوي جهة واحدة ضيقة، فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند بحر أشموم طناح، فتهيأ الفراغ منها، وعبرت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنج إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقدر الله سبحانه بوصول فرقة عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدة حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حرب، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظفروا بها وبما معها من الحراقات، ففت ذلك في أعضاد الفرنج، وألقي في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، وعظمت نكاية المسلمين بهم، برميهم إياهم بالسهام، وحملهم على أطرافهم، فاجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين، ظناً منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخربوا خيامهم ومجانيقهم، وعزموا على أن يحطموا حطمة واحدة. فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لكثرة الوحل والمياه التي قد ركبت الأرض من حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلة الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلب الصلح، وبعثوا يسألون الملك الكامل - وإخوته الأشرف والمعظم - الأمان لأنفسهم، وأنهم يسلمون دمياط بغير عوض، فاقتضى رأي الملك الكامل إجابتهم، واقتضى رأي غيره من إخوته مناهضتهم، واجتثاث أصلهم البتة، فخاف الملك الكامل إن فعل ذلك أن يمتنع من بقي منهم بدمياط أن يسلمها، ويحتاج الحال إلى منازلتها مدة، فإنها كانت ذات أسوار منيعة، وزاد الفرنج عندما استولوا عليها في تحصينها، ولا يؤمن في طول محاصرتها أن يفد ملوك الفرنج نجدة لمن فيها، وطلباً لثأر من قتل من أكابرهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهراً، وما زال الكامل قائماً في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقية الملوك على أن يبعث الفرنج برهائن من ملوكهم - لا من أمرائهم - إلى أن يسلموا دمياط فطلب الفرنج أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينة، إلى أن تعود إليهم رهائنهم، فتقرر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكاً من ملوكهم رهناً، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلساً عظيماً، ووقف الملوك من اخوته وأهل بيته بين يديه بظاهر البرمون، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسلموها إلى المسلمين، فتسلمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعد تأخرهم إلى ما بعد تسليمها من الفرنج صنعاً جميلاً من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكن أخذها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقدم الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلاً من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلف ملوك الفرنج، على ذلك، وتفرق من كان قد حضر للقتال

فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:ت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا ببغيه ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ... فأغرقهم في اليم بعضاً على بعض
فطرب الأشرف، وقال لها: كرري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأمرها فسكتت، وقال لجاريته: غن أنت فغنت على العود:
أيا أهل دين الكفر قوموا لتنظروا ... لما قد جرى في وقتنا وتجددا
أعباد عيسى إن عيسى وقومه ... وموسى جميعاً ينصرون محمدا
فأعجب الكامل بها، وأمر لها بخمسمائة دينار، ولجارية أخيه الأشرف بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الأجل هبة الله بن محاسن، قاضي غزة وكان في جملتهم، وانشد:
حبانا إله الخلق فتحنا لنا بدا ... مبيناً وإنعاماً وعزاً مجددا
تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخصم بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلاً كما سل الحسام المجردا
فلم تر إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً ينصران محمدا
ويقال إن هذا المجلس كان بالمنصورة، ولما استقر الملك الكامل على تخت ملكه سارت الملوك إلى ممالكها، وعمت بشارة أخذ المسلمين دمياط أفاق الأرض، فإن التتار كانوا قد دمروا ممالك الشرق، وكادت مصر مع الشام يستأصل شأفة أهلها الفرنج، حتى من الله بجميل صنعه وخفي لطفه، ونصر عباده المؤمنين، وأيدهم بجنده، بعدما ابتلى المؤمنون، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وقدمت على الملك الكامل تهاني الشعراء بها الفتح، فكان أولهم إرسالاً شرف الدين بن عنين، بكلمته التي أولها:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنا ... إذا جهلت آياتنا والقنا اللدنا
غداة التقينا دون دمياط جحفلاً ... من الروم لا يحصى يقينا ولا ظنا
قد اجتمعوا رأياً وديناً وهمة ... وعزماً وإن كانوا قد اختلفوا سنا
؟تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت جموع كأن الموج كان لهم سفنا
وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ... إلينا سراعا بالجهاد وأرقلنا
فما برحت سمر الرماح تنوشهم ... بأطرافها حتى استجاروا بنا منا
سقيناهم كأساً نفت عنهم الكرى ... وكيف ينام الليل من عدم الأمنا
لقد صبروا صبراً جميلاً ودافعوا ... طويلاً فما أجدى دفاع ولا أغنى
بما الموت من زرق الأسنة أحمرا ... فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا

وما برح الإحسان منا سجية ... نورثها من صيد آبائنا الإبنا
وقد جربونا قبلها في وقائع ... تعلم غمر القوم منا بها الطعنا
أسود وغى لولا وقائع سمرنا ... لما لبسوا فيما ولا سكنوا سجنا
وكم يوم حر ما وقينا هجيره ... وكم يوم قر ما طلبنا له كنا
فإن نعيم الملك في وسطه الشقا ... ينال وحلو العيش من مره يجنى
يسير بنا من آل أيوب ماجد ... أبي عزمه أن يستقر بنا مغنى
كريم الثنا عار عن العار باسل ... جميل المحيا كامل الحسن والحسنى
سرى نحو دمياط بكل سميدع ... إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى
مآثر مجد خمرتها سيوفه ... طوال المدى يفني الزمان ولا تفنى
وقد عرفت أسيافنا ورقابهم ... مواقعها منا فإن عاودوا عدنا
منحناهم منا حياة جديدة ... فعاشوا بأعناق مقلدة منا
ولو ملكونا لاستباحوا دمائنا ... ولوغا ولكنا ملكنا فأسجحنا
وقال:
قسماً بما ضمت أباطح مكة ... وبمن حواه من الحجيج الموقف
لو لم يقم موسى بنصر محمد ... لرقى على درج الخطب الأسقف
لولاه ما ذل الصليب وأهله ... في ثغر دمياط وعز المصحف
ووردت أيضاً قصيدة القاضي الأجل بهاء الدين زهير بن محمد بن علي القاضي، وغيره من الشعراء. وفيها ملك التتر مراغة وهمذان وأفربيجان وتبريز.
وفيها مات الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق الأرتقي، صاحب حصن كيفا، وقام من بعده ابنه الملك المسعود داود.
وفيها ركب الملك الكامل من قلعة الجبل إلى منظرة الصاحب صفي الدين بن شكر - التي على الخليج بمصر - في ذي القعدة، وتحدث معه في نفي الأمراء الذين وافقوا الفائز وكانوا في جيزة دمياط لعمارتها، فكتب لهم بالتوجه من أرض مصر إلى حيث شاءوا، فمضوا بأجمعهم من الجيزة إلى الشام، ولم يتعرض الملك الكامل لشيء من موجودهم، وفرق أخبازهم على مماليكه.
وفيها مات أمين الدين مرتفع بن الشعار والي مصر، في يوم الجمعة ثالث محرم. ومات متولي تونس وبلاد إفريقية الأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى بن أبي حفص عمر بن ونودين الهنتاتي في يوم الخميس أول المحرم، وكان قد ولي تونس من قبل الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف العسري بن عبد المؤمن ملك الموحدين، في سنة اثنتين وستمائة، وكان أبو محمد قد قدم أكبر بنيه، الشيخ أبا زيد عبد الرحمن بن عبد الواحد فقام بأمر تونس، حتى قدم أخوه، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد، متولياً إفريقية من قبل العادل عبد الله بن المنصور يعقوب ملك الموحدين، في خامس رمضان منها، فاستمر أبو محمد عبد الله حتى قام أخوه أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد.
هذا والأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص هو أول من قام من الحفصيين بإمرة تونس، وهو جد ملوك تونس الحفصيين.
سنة تسع عشرة وستمائةفيها قدم الأشرف موسى إلى مصر، فأقام بها عند أخيه السلطان الملك الكامل مدة، ثم عاد في رمضان. وفيها أوقع التتر بالكرج.
وفيها قدم المظفر موسى على أخيه الكامل بمصر.
وفيها قدم الملك المسعود يوسف بن الكامل من اليمن إلى مكة في ربيع الأول، وقد وحل عنها الشريف حسن بن قتادة، وقدم معه راجح بن قتادة إلى مكة، فرد الملك المسعود على أهل الحجاز أموالهم ونخلهم، وما أخذ لهم من الحور بمكة والوادي، ثم عاد إلى اليمن بعدما حج، ومنع أعلام الخليفة من التقدم، وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة، وبدا منه بمكة ما لا يحمد من رمي حمام الحرم بالبندق من فوق زمزم، ونحو ذلك، فهم أهل العراق بقتاله، فلم يقدروا على ذلك عجزاً عنه، واستناب الملك المسعود بمكة الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول، ورتب معه ثلاثمائة فارس وكان الشريف حسن بن قتادة قد نزل ينبع، وولي الملك المسعود أيضاً راحج بن قتادة السرين وحلى ونصف المخلاف، فجمع الشريف حسن وسار إلى مكة، وكسر ابن رسول، وملك منه مكة.

وفيها مات الأمير عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، المعروف بابن المشطوب، أحد الأمراء الصلاحية، في الاعتقال بحران، في ربيع الآخر.
سنة عشرين وستمائةفيها أخذ المعظم عيسى المعرة وسليمة ونازل حماة، فشق ذلك على أخيه الأشرف - وكان بمصر - وتحدث مع الكامل في إنكار ذلك، فبعث السلطان الكامل إلى المعظم يسأله في الرحيل عن حماة، فتركها وهو حنق.
وفيها حج الملك الجواد والملك الفائز من القاهرة، وقدما علم الخليفة على علم السلطان الملك الكامل في طلوع عرفة.
وفيها خرج الأشرف من مصر إلى بلاده، ومعه خلع الملك الكامل والتقليد بسلطة حلب للعزيز ناصر الدين محمد بن الظاهر غازي، فوصل إلى حلب في شوال، وتلقاه العزيز - وعمره عشر سنين - فأفاض عليه الخلع الكاملية، وحمل الغاشية بين يديه، وأقام عنده أياماً، ثم سار إلى حران.
وفيها عم الجراد بلاد العراق والجزيرة، وديار بكر والشام. وفيها أوقع التتر بالروس.
وفيها شنق سهم الدين عيسى والي القاهرة نفسه - وهو معتقل بدار الوزارة - ليلة الخميس سادس شوال.
سنة إحدى وعشرين وستمائةفيها ملك التتر قم وقاشان وهمذان.
وفيها اختلف الحال بين المظفر غازي، صاحب إربل وبين أخيه الأشرف، فخرج المعظم من دمشق يريد محاربة الأشرف، فبعث إليه الكامل يقول له: إن تحركت من بلدك سرت وأخذته منك. فخاف وعاد إلى دمشق.
وفيها مات الوزير الأعز أبو العباس أحمد، المعروف بفخر الدين مقدام بن شكر، في آخر شعبان بالقاهرة.
وفيها أخذ عسكر مصر ينبع من بني حسن، وكانوا قد اشتروها بأربعة آلاف مثقال، فلم تزل بيد المصريين إلى سنة ثلاثين.
سنة اثنتين وعشرين وستمائةفيها فر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود من مصر في البحر، خوفاً من عمه الملك الكامل، ولحق بعده المعظم.
وفيها تخوف الكامل من أمرائه، لميلهم إلى أخيه الملك المعظم، فقبض على جماعة، وبعث إلى الطرقات من يحفظها، وبعث عدة رسل إلى الملوك الذين في خدمة أخيه الأشرف يأمرهم بالاتفاق وألا يخالفوه.
وفيها عاد السلطان جلال الدين بن خورازم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاده، وقوي أمره على التتر، واستولى على عراق العجم، وسار إلى ماردين وأخذها، وسار إلى خوزستان، وشاقق جلال الدين الخليفة الناصر لدين الله، وسار حتى وصل بعقوبا، وبينها وبين بغداد سبعة فراسخ، فاستعد الخليفة للحصار، ونهب جلال الدين البلاد، وأخذ منها ما لا يقع عليه حصر، وفعل أشنع ما يفعله التتر، فكاتبه الملك المعظم، وأتفق معه معاندة لأخيه الكامل، ولأخيه الملك الأشرف، صاحب البلاد الشرقية، فسير السلطان جلال الدين بن القاضي مجد الدين - قاضي الممالك - في الرسالة إلى الملك الأشرف، ثم إلى الملك المعظم، ثم إلى الملك الكامل، فظاهر بأنواع الفسوق، وسار جلال الدين إلى عراق العجم، فملك همذان وتيريز، وأوقع بالكرج.
وفيها مات الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف، صاحب سميساط فجأة بسميساط في صفر، ومولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس - وقيل ست - وستين وخمسمائة، وهو أكبر أولاد أبيه، وإليه كانت ولاية عهده، وسمع الأفضل من ابن عوف وابن بري، واستقل بمملكة دمشق بعد موت أبيه، فلم ينتظم له أمر لقلة حظه، وأخذها منه أخوه العزيز عثمان، صاحب مصر، ثم صار الأفضل أتابكاً للمنصور بن العزيز بمصر، وحصر دمشق، وبها عمه العادل، وأشرف على أخذها منه، فقطع عليه سوء الحظ، وعاد إلى مصر، وفي أثره عمه العادل، فانتزع منه مصر، ولم يبق معه سوى صرخد ثم قصد الأفضل دمشق ثانياً، مع أخيه الظاهر غازي صاحب حلب، فلم يتم أمرهما لاختلافهما، وصار بيده سميساط لا غير. فلما مات أخوه الظاهر طمع في حلب، وخرج إليها مع السلطان عز الدين كيكاوس السلجوقي ملك الروم، فلم يتم لهما أمر، وعاد الأفضل إلى سميساط، فلم يزل بها يتجرع الغصص حتى مات كمداً، وكان فاضلاً أديباً حليماً، حسن السيرة متجاوزاً، يكتب الخط المليح، جامعاً لعدة مناقب، إلا أنه كان قليل الحظ، وشعره جيلط كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله - لما انتزع منه دمشق أخوه عثمان وعمه العادل أبو بكر - في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة كتاباً يشكو إليه اغتصابهما ميراثه من أبيه، وأوله.

مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد أخذ بالسيف إرث علي
فانظر إلى حظ ههذا اقسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقي من الأول
وله أيضاً في معناه:
أما آن للسعد الذي أنا طالب ... لإدراكه يوماً يرى وهو طالبي
ترى هل يريني الدهر أيدي شيعتي ... تمكن يوماً من نواصي النواصب
فأجابه الخليفة بقوله.
وافي كتابك يا بن يوسف معلناً ... بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فابشر فإن غداً يكون حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر
ومن شعره:
أيا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك اللمان بأنه لا ينصل
وقام من بعده بسميساط أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى شقيقه، فاختلف عليه أولاد الأفضل.
وفيها مات الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله يوسف، في ثاني شوال، ومولده في العاشر من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسائة، وله في الحلافة سبع وأربعون سنة، غير ستة وثلاثين يوماً، وكانت أمه أم ولد يقال لها زمرد، وقيل نرجس، وكان شهماً أبي النفس، حازماً متيقظاً، صاحب فكر صائب، ودهاء ومكر، وكان مهيباً، وله أصحاب أخبار - بالعراق وفي الأطراف - يطالعونه بجزئيات الأمور وكلياتها، فكان لا يخفى عليه أكثر أحوال رعيته، حتى أن أهل العراق يخاف الرجل منهم أن يتحدث مع امرأته، لما يظن أن ذلك يطلع عليه الخليقة فيعاقب عليه، وعمل شخص دعوة ببغداد، وغسل يده قبل أضيافه، فعلم الخليفة بذلك من أصحاب أخباره، فكتب في الجواب: سوء أدب من صاحب البلد، وفضول من كاتب المطالعة. وكان رديء السيرة في رعيته، ظالماً عسوفاً، خرب العراق في أيامه، وتفرق أهله في البلاد، فأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يحب جمع المال، ويباشر الأمور بنفسه، ويركب بين الناس ويجتمع بهم، مع سفكه للدماء، وفعله للأشياء المتضادة: فيغتصب الأموال ويتصدق، وشغف برمي الطير بالبندق، ولبس سراويلات الفتوة، وحمل أهل الأمصار على ذلك، وعمل سالم بن نصر الله بن واصل الحموي في ذلك رسالة بديعة، وصنف الناصر لدين الله كتاباً في مروياته، سماه روح العارفين، وأعده للفقهاء بمصر والشام، وله شعر، وفي خلافته خرب التتر بلاد المشرق حتى وصلوا إلى همذان، وكان هو السبب في ذلك، فإنه كتب إليهم بالعبور إلى البلاد، خوفاً من السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه لما هم بالاستيلاء على بغداد، وأن يجعلها دار ملكه، كما كانت السلجوقية، ولم يمت الخليفة الناصر لدين الله حتى عمي، وقيل كان يبصر بإحدى عينيه، وقام من بعده في الخلافة ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد - بعهد من أبيه - يوم مات أبوه، وعمره ما ينيف على خمسين سنة، وكان يقول من يفتح دكانه العصر متى يستفتح. ولما ولي أظهر العدل، وأزال عدة مظالم، وأطلق أهل السجون، وظهر للناس، وكان من قبله من الخلفاء لا يظهرون إلا نادراً.
وفيها وصل الملك المسعود من اليمن إلى مكة، ومضى إلى القاهرة من طريق عيذاب، فقدم على أبيه الكامل بقلعة الجبل، ومعه هدايا جليلة.
وفيها مات الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن علي الشيبي، أبو محمد المعروف بابن شكر، الفقيه الدميري المالكي، في يوم الجمعة ثامن شعبان - وقيل شوال - بالقاهرة، ودفن برباطه منها، وكان مولده بدميرة إحدى قرى مصر البحرية، في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وجمع من ابن عوف وغيره، وحدث، وكان جباراً جباها عاتياً، عانيا بتقدمة الأراذل وتأخر الأماثل، أفقر علقاً كثيراً.
وفيها قدم الشريف قاسم الحسيني أمير المدينة، بعسكر إلى مكة، وحصرها نحو شهر، وبها نواب الملك الكامل، فلم يتمكن منها، بل قتل.
سنة ثلاث وعشرين وستمائةفيها تأكدت الوحشة بين المعظم وبين أخويه الكامل والأشرف.

وفيها بعث الخليفة الظاهر بأمر الله التشاريف لملوك بني أيوب، على يد محيي الدين أبي المظفر بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي: فبما بالأشرف موسى صاحب البلاد الشرقية، وأفاض عليه الخلع الخليفتية، ثم بالعزيز غياث الدين محمد بن الظاهر صاحب حلب، فأفاض عليه فرجية واسعة الكم سوداء، وعمامة سوداء مذهبة، وثوباً مطرزاً بالذهب أيضاً، ثم ألبس المعظم عيسى، صاحب دمشق، بدمشق. وسار إلى القاهرة بالتقليد والخلع للملك الكامل، ولأولاده الصالح نجم الدين أيوب والملك المسعود، وللصاحب صفي الدين بن شكر، فبرز الملك الكامل إلى ظاهر القاهرة، ولبس الخلع الخليفتية هو وولداه. وكان الصاحب صفي الدين قد مات، فألبس الكامل الخلعة التي باسمه للقاضي فخر الدين سليمان بن محمود بن أبي غالب أبي الربيع الدمشقي، كاتب الإنشاء، وعبر الكامل من باب النصر، وشق القاهرة إلى أن صعد قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.
وفيها قبض الملك الكامل على أولاد الصاحب صفي الدين بن شكر، وأحاط بجميع موجوده، واعتقل ابنيه تاج الدين يوسف وعز الدين محمد في قاعة سهم الدين، بدرب الأسواني من القاهرة، ولم يستوزر الكامل بعد ابن شكر أحداً.
وفيها سافر الملك المسعود من القاهرة إلى اليمن.
وفيها كثر وهم الملك الكامل من عسكره، فإن المعظم أرسل إليه في جملة كلام: وإن قصدتني لا آخذك إلا بعسكرك،. فوقع في نفسه الخوف ممن معه، وهم آن يخرج من مصر، فلم يجسر، وخرج المعظم فنازل حمص، وخرب قراها ومزارعها، ولم ينل من قلعتها شيئاً، لامتناعها هي والمدينة عليه، فلما طال مقامه على حمص رحل عنها، لما أصاب عسكره ودوابه من الموت، وقدم عليه أخوه الأشرف جريدة، فسر به سرور عظيماً وأكرمه زائداً.
وفيها مات الخليفة الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر، في رابع عشر شهر رجب، فكانت خلافته تسعة أشهر وتسعة أيام، وكان حسن السيرة كثير المعروف، واستقر في الخلافة من بعده ابنه المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وعمره عشرون سنة، فوردت عليه رسل ملوك الأطراف، وبعث الملك الكامل في الرسالة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه فلما قدم بغداد قال نيابة عن الملك الكامل، وهو بين يدي الوزير مؤيد الدين أبي الحسن محمد بن محمد القمي: عبد الدولة المقدسة المستنصرية يقبل العتبات التي يستشفي بتقبيل ثراها، ويستكفي بتمسكه من عبوديتها بأوثق عراها، ويوالي شكر الله تعالى على إماطة ليل العزاء الذي عم مصابه، بصبح الهناء الذي تم نصابه، حتى تزحزح عن شمس الهدى شفق الإشفاق، فجعل كلمتها العليا، وكلمة معاديها السفلي، وزادها شرفاً في الآخرة والأولى.
وفيها قدم رسول علاء الدين كيقباد، ملك الروم، بتقدمة جليلة إلى الملك الكامل.
سنة أربع وعشرين وستمائةفيها سافر الأشرف إلى بلاده من دمشق، بعدما حلف للمعظم أنه يعاضده على أخيه الملك الكامل، وعلى الملك المجاهد صاحب حمص، والناصر صاحب حماة.
وفيها سافر رسول علاء الدين كيقباد ملك الروم، من مصر إلى مخدومه.

وفيها تأكدت الوحشة بين الكامل وبين أخويه المعظم والأشرف، وخاف الكامل من انتماء أخيه المعظم إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، فبعث الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه إلى ملك الفرنج، يريد منه أن يقدم إلى عكا، ووعده أن يعطه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الساحل، ليشغل سر أخيه المعظم، فتجهز الإمبراطور ملك الفرنج لقصد الساحل، وبلغ ذلك المعظم، فكتب إلى السلطان جلال الدين يسأله النجدة على أخيه الكامل، ووعده أن يخطب له، ويضرب السكة بأسمه، فسير إليه جلال الدين خلعة لبسها، وشق بها دمشق، وقطع الخطبة للملك الكامل، فبلغ ذلك الكامل، فخرج من القاهرة بعساكره، ونزل بلبيس في شهر رمضان فبعث إليه المعظم: إني نذرت لله تعالى أن كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي، وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك، وكتب المعظم مكاتبة بهذا في السر، ومعها مكاتبة في الظاهر فيها: بأني مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وحاشاك أن تخرج وتقابلني، وأنا أول من أنجدك وحضر إلى خدمتك من جميع ملوك الشام والشرق، فأظهر الكامل هذا بين الأمراء، ورجع من العباسة إلى قلعة الجبل، وقبض على عدة من الأمراء ومماليك أبيه، لمكاتبتهم المعظم: منهم فخر ألطبنا الحبيشي، وفخر الدين ألطن الفيومي - وكان أمير جانداره، وقبض أيضاً على عشرة أمراء من البحرية العادلية، واعتقلهم وأخذ سائر موجودهم، وأنفق في العسكر ليسير إلى دمشق.
وفيها وصل رسول ملك الفرنج بهدية سنية وتحف غريبة إلى الملك الكامل، وكان فيها عدة خيول، منها فرس الملك بمركب ذهب مرصع بجوهر فاخر، فتلقاه الكامل بالإقامات، من الإسكندرية إلى القاهرة، وتلقاه بالقرب من القاهرة بنفسه، وأكرمه إكراماً زائداً، وأنزله في دار الوزير صفي الدين بن شكر، واهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج فيها من تحف الهند واليمن، والعراق والشام، ومصر والعجم ما قيمته أضعاف ما سيره، وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلف دينار مصرية، وعين الكامل للسير بهذه الهدية جمال الدين بن منقذ الشيزري.
وفيها وصل رسول الأشكري في البحر إلى الملك الكامل، فسار المعظم من دمشق لتخريب القدس، فخرب قلاعا وعدة صهاريج بالقدس، لما بلغه من حركة ملك الفرنج. وفيها جهز الملك الكامل كمال الدين ومعين الدين، ولدى شيخ الشيوخ ابن حمويه - ومعهما الشريف شمس الدين الأرموي، قاضي العسكر - إلى المعظم، وأمر السلطان الكامل أن يسير الكمال بجواب المعظم إلى الملك المجاهد أسد الدين شركوه بحمص، ويعرفه الحال، وأن يتوجه المعين إلى بغداد، برسالة إلى الخليفة، فتوجها في شعبان. وفيها اتفق عيد الفطر يوم عيد اليهود وعيد النصارى.
وفيها ختن الملك العادل أبو بكر بن الملك الكامل في تاسع شوال.
وفيها مات الملك المعظم أبو الفتح عيسى بن الملك العادل، صاحب دمشق، يوم الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى الصالحية، ومولده بدمشق، في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكان قد خافه الملك الكامل، فسر بموته، وكان كريماً شجاعاً، أديباً ليناً، فقيها متغالياً في التعصب لمنصب أبي حنيفة - رحمه الله - وشارك في النحو وغيره، وقال له أبوه مرة: كيف اخترت مذهب أبي حنيفة، وأهلك كلهم شافعية؟ فقال: ياخوند أما ترغبون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم؟. وصنف كتاباً سماه السهم المصيب في الرد على الخطيب البغدادي أبي بكر أحمد بن ثابت، فيما تكلم به في حق أبي حنيفة، وفي تاريخ بغداد. وكان مقداماً، لا يفكر في عاقبة، جباراً مطرحاً للملابس، وهو الذي أطمع الخوارزمي في البلاد، وكانت مدة ملكه - بعد أبيه - ثماني سنين وسبعة أشهر غير ثمانية أيام، فقام من بعده ابنه الملك الناصر داود وعمره إحدى وعشرون سنة، وسير الناصر كتبه إلى عمه الملك الكامل، فجلس الكامل للعزاء، وشر إليه الأمير علاء الدين بن شجاع الدين جلدك المظفري التقوى بالخلعة وسنجق السلطة، وكتب معه بما طيب قلبه، فلبس الناصر خلعة الكامل، وركب بالسنجق، ثم أرسل إليه الكامل يريد منه أن يترك له قلعة الشوبك، ليجعلها خزانة له، فامتنع من ذلك، وبهذا وقعت الوحشة بينه وبين عمه الكامل.

وفيها أمر الملك الكامل بتخريب مدينة تنيس، فخربت أركانها الحصينة وعمائرها المكينة، ولم يكن بديار مصر أحسن منها، واستمرت من حينئذ خرابا.
وفي شهر رجب من هذه السنة: دعا لنفسه بتونس الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وتلقب بالسلطان السعيد فلم ينازعه أحد في مملكة إفريقية، وكان قد ضعف أمر بني عبد المؤمن.
سنة خمس وعشرين وستمائةفيها سير الملك الكامل شيخ الشيوخ ابن حمويه بالخلع إلى ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم، بدمشق، فحمل الرسول الغاشية بين يديه، ثم حلها عماه: الملك العزيز عثمان صاحب بانياس والملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى.
وفيها جهز الملك الكامل أيضاً الخلع للمجاهد صاحب حمص.
وفيها استوحش الملك الكامل من أخيه الناصر داود، وعزم على قصده، وأخذ دمشق منه، وعهد الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب بالسلطنة من بعده بديار مصر، وأركبه بشعار السلطنة - وشق الصالح القاهرة، وحملت الغاشية بين يديه، تداول حملها الأمراء بالنوبة - وأنزله بدار الوزارة، وعمره يومئذ نحو اثنتين وعشرين سنة.
وفيها ظلم الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه - صاحب بعلبك - وتعدى، وأخذ أموال أهل بعلبك وأولادهم، فقام عدة من جنده مع العزيز فخر الدين عثمان بن العادل في تسليمه بعلبك، فسار العزيز إليها ونازلها، فقبض الأمجد على أولئك الذين قاموا معه، وقتل بعضهم، واعتقل باقيهم، ثم إن الناصر داود صاحب دمشق، بعث إليه من رحله عن بعلبك قهراً، فغضب وسار إلى الملك الكامل ملتجئاً إليه، فسر به الكامل، ووعده بانتزاع بعلبك من الأمجد وتسليمها إليه.

وفيها ظلم الناصر داود أهل دمشق، وأخذ أموالهم، واشتغل باللهو، وأعرض عن مصالح الدولة، فشق ذلك على الكامل، وجعله سبباً يؤاخذه به، وتجهز في شهر رجب للسير لمحاربته، واستناب على مصر ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأقام معه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ليحصل الأموال ويدبر أمور المملكة، وخرج الكامل من القاهرة يوم الأحد تاسع عشر شعبان - في عساكره المتوافرة - ومعه المظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وقد وعده أن يسلمه حماة، وكانت بيد أخيه قلج أرسلان، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل، وكان قد رباه عمه الملك الكامل بعد موت أبيه، وأقطعه البحيرة من ديار مصر، فلما بلغ الناصر خروج عمه لم يمل إلى استعطافه، والتجأ إلى عمه الأشرف، فسار الكامل بالعسكر والعربان إلى تل العجول، وبعث منها إلى نابلس والقدس وأعمالها، وشر الكامل الأمير حسام الدين أبا علي بن محمد بن أبي علي الهذباني - أحد أصحاب المظفر تقي الدين محمود - إلى القاهرة، فاستخدمه الملك الصالح، وجعله أستاداره، فاستولت أصحاب الملك الكامل على نابلس والقدس، وبلغ ذلك الناصر، فحلف عسكره، واستعد للحرب، وقدم إليه عمه الصالح صاحب بصرى، والأمير عز الدين أيبك من صرخد، وأصله مملوك أبيه المعظم، فقويت بهما نفسه، وسير بالناصر يستدعي عمه الأشرف من لبلاد الشرقية، مع الأمير عماد الدين بن موسك، وفخر القضاة نصر الله بن بصاقة، وأردفهما بالأشرف بن القاضي الفاضل، فأجاب الأشرف إلى معاونته، واستناب في بلاده الملك الحافظ بن العادل، وسار إلى دمشق، فتلقاه قلج أرسلان صاحب حماة من سليمة بأموال وخيول، وتلقاه أسد الدين شركوه، صاحب حمص، وأولاده، وقدم لأشرف إلى دمشق، فتلقاه الناصر في أخريات شهر رمضان، وزين دمشق لقدومه، فدخل القلعة وعليه شاش علم كبير، وهو مشدود الوسط بمنديل، وقد سر الناصر به سروراً كبيراً، وحكمه في بلاده وأمواله، فأعجب الأشرف بدمشق، وعمل في الباطن على انتزاعها لنفسه من الناصر، ثم قدم إلى خدمة الأشرف بدمشق المجاهد أسد الدين شركوه بن محمد صاحب حمص، وسار العزيز بن العادل إلى خدمة الملك الكامل، وهو في الطريق، فسر بقدومه، وأعطاه شيئاً كثيراً، وسير الأشرف إلى الكامل الأمير سيف الدين علي بن قلج، يشفع في الناصر، ويطلب منه إبقاء دمشق عليه، ويقول: إنا كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن موافقتك، فأكرم الملك الكامل الرسول، ثم سار الأشرف - ومعه الناصر - من دمشق، يريدان ملاقاة الملك الكامل والترامي عليه، ليصلح الأشرف الأمر بينهما، فلما بلغ الكامل مسيرهما شق عليه، ورحل من نابلس يريد العود إلى القاهرة فنزل الأشرف والناصر بنابلس، فأقام بها الناصر، ومضى الأشرف والمجاهد إلى الكامل، فبلغه قدوم الأشرف وهو بتل العجول، فقام إلى لقائه، وقدم به إلى معسكره، ونزلا، فكان الاتفاق بينهما على انتزاع دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وأن تكون للملك الأشرف وما معها إلى عقبة فيق، ويكون للكامل ما بين عقبة فيق وغزة من البلاد والحصون، وهو الفتح الصلاحي بأسره، ويكون للناصر عوضاً من دمشق - حران والرقة وسروج، رأس عين، وهي ما كان مع الأشرف، وأن تنزع بعلبك من الأمجد بهرام، وتعطى لأخيهما العزيز عثمان، وأن تنزع حماة من الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وتعطى للمظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وأن تؤخذ من المظفر سليمة، وتضاف إلى المجاهد صاحب حمص.
وفيها مات طاغية المغل والتتر جنكزخان، بالقرب من صارو بالق، وحمل ميتاً إلى كرسي ملك الخطا. ورتب بعده ابنه الأصغر عوضه خاناً كبيراً، على كرسي مملكة الخطا، وأخذ إخوته الثلاثة بقية الأقاليم.
وفيها خرج التتار إلى بلاد الإسلام، فكانت لهم عدة حروب مع السلطان جلال الدين خوارزم شاه، كسر فيها غير مرة، ثم ظفر أخيراً بهم، وهزمهم، فلما خلا سره منهم سار إلى خلاط - من بلاد الأشرف - فنهب وسبي الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وفعل ما لا يفعله أهل الكفر، ثم عاد إلى بلاده، وقد زلزل بلاد حران والرها وما هنالك، ورحل أهل سروج إلى منبج، وكان قد عزم على قصد بلاد الشام، لكن صرفه الله عنها.

وفيها قم الإمبراطور ملك الفرنج إلى عكا، باستدعاء الملك الكامل له - كما تقدم - ليشغل سر أخيه المعظم، فاتفق موت المعظم، ولما وصل ملك الفرنج إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: الملك يقول لك كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبلوا كل شيء، ولا أجيء إليهم، والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي - في زمن حصار دمياط - الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية، وما فعلنا، وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم. ومن نائبي إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له. فتحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق، فراسله ولاطفه، وسفر بينهما الأمير فخر الدين بن الشيخ، وشرع الفرنج في عمارة صيداء - وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب - فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين، وخرجت السنة والكامل على تل العجول، وملك الفرنج بعكا، والرسل تتردد بينهما.
سنة ست وعشرين وستمائةفيها غلت الأسعار بالساحل ودمشق، ووصلت نجدة من حلب إلى الغور.

وفيها قفز الأمير عز الدين أيدمر المعظمي إلى الملك الكامل، فأحسن إليه. ففارق الناصر داود من نابلس لما بلغه اتفاق الأشرف مع الكامل عليه، وعاد إلى دمشق، فبلغ الأشرف وهو بتل العجول ذلك، فسار ليدركه، فوافاه بقصير ابن معين الدين من الغور، تحت عقبة فيق، وأعلمه الأشرف - بحضور الملك الصالح إسماعيل، والملك المغيث، والأمير عز الدين أيبك المعظمي - أنه اجتمع بالملك الكامل للإصلاح بينهما. وأنه اجتهد وحرص على أن يرجع عنك، فامتنع وأبي إلا أن يأخذ دمشق، وأنت تعلم أنه سلطان البيت وكبيرهم، وصاحب الديار المصرية، ولا يمكن الخروج عما يأمر به وقد وقع الاتفاق على أن تسلم إليه دمشق، وتعوض عنها من الشرق كذا، وذكر ما وقع الاتفاق عليه، فلما فرغ الأشرف من كلامه قام الأمير عز الدين أيبك وهو أكبر أمير مع الناصر داود وقال: لا كيد ولا كرامة، ولا نسلم من البلاد حجراً واحداً، ونحن قادرون على دفع الجميع ومقاومتهم، ومعنا العساكر المتوافرة، وأمر الملك الناصر بالركوب فركبا، وقوضت الخيام، وسارا إلى دمشق، وتحالف على الناصر عمه الصالح، وابن عمه المغيث، ولما وصل الناصر إلى دمشق استعد للحصار، وقام معه أهل البلد، لمحبتهم في أبيه، وسار الأشرف بمن معه، وحاصر دمشق، وقطع عنها أنهارها - باناس، والقنوات، ويزيد وثورا - فخرج إليه العسكر وأهل البلد وحاربوه، وفي أثناء ذلك كثر تردد الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والشريف شمس الدين الأرموي قاضي العسكر، بين الإمبراطور فردريك ملك الفرنج، إلى أن وقع الاتفاق أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها، وأن يكون سائر قوى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج، وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى - يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوام من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة، وأن تكون القرى التي فيما بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس، وذلك أن الكامل تورط مع ملك الفرنج، وخاف من غائلته، عجزا عن مقاومته، فأرضاه بذلك، وصار يقول: إنا لم بسمح للفرنج إلا بكنائس وأدر خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأعمال والضياع. فلما اتفقا على ذلك عقدت الهدنة بينهما مدة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوماً، أولها ثامن عشري شهر ربيع الأول من هذه السنة، واعتذر ملك الفرنج للأمير فخر الدين بأنه لولا يخاف انكسار جاهه، ما كلف السلطان شيئاً من ذلك، وأنه ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج، وحلف الملك الكامل وملك الفرنج على ما تقرر، وبعث السلطان فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فعز عليه ذلك، وأمر بأخذ ما كان معهم من الستور والقناديل الفضة والآلات، وزجرهم. وقيل لهم: امضوا إلى حيث شئتم، فعظم على أهل الإسلام هذا البلاء، واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار، وبعث الإمبراطور بعد ذلك يطلب تبنين وأعمالها، فسلمها الكامل له، فبعث يستأذن في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلبه، وسير القاضي شمس الدين قاضي نابلس في خدمته، فسار معه إلى المسجد بالقدس، وطاف معه ما فيه من المزارات، واعجب الأمبراطوار بالمسجد الأقصى وبقبة الصخرة، وصعد درج المنبر، فرأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن عاد أحد من الفرنج يدخل هنا بغير إذن ليأخذن ما فيه عيناه، فإنما نحن مماليك هنا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد نصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس، على سبيل الأنعام منه، فلا يتعدى أحد منكم طوره، فانصرف القس وهو يرعد خوفاً منه. ثم نزل الملك في دار، وأمر شمس الدين قاضي نابلس المؤذنين إلا يؤذنوا تلك الليلة، فلم يؤذنوا البتة، لما اصبح قال الملك للقاضي: لم لم يؤذن المؤذنون على المنابر؟ فقال له القاضي: منعهم المملوك إعظاماً لمملك واحتراماً له. فقال له الإمبراطور: أخطأت فيما فعلت، والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان

المسلمين وتسبيحهم في الليل.ن وتسبيحهم في الليل.
ثم رحل الإمبراطور إلى عكا، وكان هذا الملك عالماً متبحراً في علم الهندسة الحساب والرياضيات، وبعث إلى الملك الكامل بعدة مسائل مشكلة في الهندسة الحكمة والرياضة، فعرضها على الشيخ علم الدين قيصر الحنفي - المعروف بتعاسيف - غيره، فكتب جوابها، وعاد الإمبراطور من عكا إلى بلاده في البحر، آخر جمادى الآخرة، وسير الكامل جمال الدين الكاتب الأشرف إلى البلاد الشرقية وإلى الخليفة، في تسكين قلوب الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس.
وفي خامس جمادى الأولى - وهو يوم الأحد - : وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب، جميعها إلى قلعة الجبل، في سادس عشريه، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره - في ثالث جمادى الآخرة - خشب خزائن الكتب مفصلة، وحملها تسعة وأربعون جملاً، وكانت الجمال التي حملت الكتب تسعة وخمسون جملاً، ثلاث دفعات.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب منها: حملت الكتب والخزائن من القلعة إلى دار الفاضل، وقيل إن عدتها أحد عشر ألف كتاب وثمانمائة وثمانية كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك والغصون لأبي العلاء المعري، في ستين مجلداً.
وفيها وصل ملك ملطية فكثرت غاراته وقتله وسبيه.
وفيها اشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل تسليمه القدس للفرنج، فنفرت قلوب الرعية، وجلس الحافظ شمس الدين سبط ابن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس على استيلاء الفرنج عليه، وبشع القول في هذا الفعل، فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصى عدده من الناس، وعلت أصواتهم بالصراخ، واشتد بكاؤهم، وانشد الحافظ شمس الدين قصيدة، أبياتها ثلاثمائة بيت، منها:
على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخر ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فلم ير بدمشق أكثر بكاء من ذلك اليوم، وكان الأشرف على منازلة دمشق، فبعث إلى الكامل يستحثه، فرحل الكامل من تل العجول بعد طول مقامه بها، فتلقاه في قرية يبنا أخوه العزيز عثمان، صاحب بانياس، بابنه الظاهر غازي، فوصل الكامل العزيز بخمسين ألف في ينار، وابنه غازي بعشرة آلاف دينار، وقماش وخلع سنية، وأمر الكامل فضربت له خيمة عظيمة، وحولها بيوتات، وسائر ما يحتاج إليه من الآلات والخيام، برسم أصحابه ومماليكه، ثم وصل إليه أيضاً الأمير عز الدين أيدمر المعظمي، فدفع إليه الكامل عشرة آلاف دينار - وقيل عشرين ألف دينار - وكتب له على الأعمال القوصية بعشرين ألف أردب غلة، وأعطاه أملاك الصاحب صفي الدين بن شكر، ورباعه وحمامه، وسار الكامل إلى دمشق، فنزل على ظاهرها في جمادى الأولى، وجد هو والأشرف في حصارها، حتى اشتد عطش الناس في دمشق، لانقطاع الأنهار عنهم، ومع ذلك فالحرب بينهم قائمة في كل يوم إلى آخر رجب، فغلت الأسعار ونفدت أموال الناصر، وفارقه جماعة من أصحابه، وصاروا إلى الكامل والأشرف، وأخذ الناصر في ضرب أوانيه من النصب والفضة دنانير ودراهم، وفرقها حتى نفد أكثر ما كان عنده من الذخائر، وناصحته العامة مناصحة كبيرة، وابلوا في عسكر الكامل والأشرف بلاء عظيماً.

وفي أثناء ذلك قدم القاضي بهاء الدين بن شداد ومعه أكابر حلب وعدولها، من عند الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي صلاح الدين، صاحب حلب، لتزويج ابنة الملك الكامل بالملك العزيز، خرج الملك الكامل من مخيمه بمسجد القدم إلى لقائه، وأنزله قريباً منه، ثم أحضره فقدم لقدمة كانت معه من الملك العزيز، وعقد العقد للملك العزيز على الخاتون فاطمة ابنة الملك الكامل الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، على صداق مبلغه خمسون ألف دينار، فقبل العقد ابن شداد في سادس عشر شهر رجب، فضعف قلب الملك الناصر داود، وقلت أمواله، فخرج ليلاً من قلعة دمشق في آخر شهر رجب، ومعه نفر يسير، وألقى نفسه على مخيم الكامل، فخرج إليه الكامل، وأكرمه إكراماً زائداً، وباسطه وطيب قلبه، بعد عتب كثير، وأمره أن يعود إلى القلعة، فعاد إليها، ثم بعد يومين بعث الكامل بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى القلعة - وكان يوم جمعة - فصلى بها الجمعة، وخرج ومعه الناصر داود إلى الملك الكامل فتحالفاً، وعوضه الكامل عن دمشق بالكرك والشوبك وأعمالهما، مع الصلت والبلقاء والأغوار جميعها، ونابلس وأعمال القدس وبيت جبريل، ثم نزل الناصر عن الشوبك للكامل فقبلها، وصار للكامل مع الشوبك بلد الخليل عليه السلام، وطبرية وغزة، وعسقلان والرملة ولد وما بأيدي المسلمين من الساحل.
وفتحت أبواب دمشق في أول يوم من شعبان، فشق ذلك على أهل دمشق، وتأسفوا على مفارقة الناصر، وكثر بكاؤهم، ثم تسلمها الملك الأشرف، وبعث الكامل قصاده لتسلم بلاد الأشرف، وهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والخادم شمس الدين صواب، وجماعة، فتسلما حران والرها وسروج، ورأس عين والرمة، وغير ذلك، وسافر الناصر داود بأهله إلى الكرك، وسار الكامل إلى حماة، وبها الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
وقدم مع الكامل المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب في جماعة، فنازل حماة حتى سلم صاحبها الناصر قلج أرسلان، وسبق إلى الملك الكامل وهو بسليمة، فأهانه واعتقله، وتسلم المظفر حماة، فكانت مدة الناصر بحماة تسع سنين تنقص شهرين، وبعث الكامل بالناصر صاحب حماة إلى مصر، فاعتقل بها، ثم سار الكامل يريد البلاد الشرقية، فقطع الفرات، ودخل قلعة جعبر، ثم توجه إلى الرقة، وخافه ملوك الشرق، فعيد بالرقة عيد الفطر، وسار إلى حران والرها، واستخدم بها عسكراً عدته نحو ألفي فارس، فقدمت عليه رسل ماردين وآمد، والموصل وإربل وحضر إليه أيضاً عدة ملوك، وبعث الكامل فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى الخليفة، وأطلق ابن أخيه الملك الناصر قلج ارسلان من اعتقاله، وخلع عليع، وأعطاه بارين، وكتب له بها توقيعاً، وأمر أن يحمل إليه ما كان في قلعة حماة - وهو أربعمائة ألف درهم - وكتب إلى المظفر تقي الدين بتسليم ذلك إليه.
فوصل الناصر إلى بارين وتسلمها، ثم ورد الخبر على الكامل بأن جلال الدين خورازم شاه نازل خلاط، ونصب عليها عشرين منجنيقاً، وكان وصوله إليها في نصف شوال، وكانت خلاط للملك الأشرف، وبها عسكره، فأرسلوا إلى الملك الكامل يسألون في نجدة، فلم يرسل الكامل إليهم أحداً، وورد الخبر بإقامة الخطبة في ماردين للملك الكامل، وضربت السكة بأحده هناك. ثم توالت الرسل من خلاط، وكلها تطلب إلى الكامل أن يبعث الأشرف لنجدة البلد فبعث الكامل يطلب عساكر حلب وحماة وحمص، فخرجت عساكر حلب إلى خلاط، ومعها الأشرف، ثم ورد الخبر بأن الفرنج قد أغارت على بارين، وأنهم نهبوا ما بها، وأسروا وسبوا.
وفيها مات الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل بمكة، عن ست وعشرين سنة، منها مدة ملكه باليمن أربع عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني أيوب ببلاد اليمن، وترك المسعود ابنا يقال له صلاح الدين يوسف، ولقب بالملك المسعود، ولقب أبيه، وبقي يوسف هذا حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاحب مصر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21