كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

في أول المحرم: قدم الخبر بأن التتر على عزم الحركة إلى الشام، فخرجت العساكر، ثم خرج الأمير أقش الأفرم. وتوجه حمدان بن صلغاي وعلاء الدين أيدغدي شقير على البريد لإخراج الأمير قبجق نائب الشام بالعسكر إلى حلب، فوصلا إلى دمشق في سابعه، فشرع قبجق في الاهتمام للسفر، وخرج بعسكرها وبالبحرية في يوم الأربعاء رابع عشره، وتأخر جاغان بدمشق. وعلم قبجق أن الأمر بخلاف ما أشيع من حركة التتار، وإنما القصد عمل مكيدة به وبغيره من الأمراء، فكان ذلك سببا لفراره إلى بلاد التتر.
وملخص ذلك أن الأمير منكوتمر نائب السلطنة ثقلت عليه وطأة الأمراء بديار مصر والشام، فأراد إزاحتهم عنه وإقامة غيرهم من مماليك السلطان ليتمكن من مراده، فما زال بالسلطان حتى قبض على أمراء مصر، ثم أخذ في التدبير على من ببلاد الشام من الأمراء، فبعث أيدغدي شقير، ثم أردفه بحمدان بن صلغاي وعلى يده ملطفات إلى بلبان الطاخي نائب حلب بالقبض على الأمير بكتمر السلاح دار وهو مجرد على حلب، وعلى الأمير فارس الدين الألبكي الساقي نائب صفد والأمير عز الدين طقطاي والأمير سيف الدين بزلار والأمير سيف الدين عزاز، ومن عجز عن القبض عليه سقاه، وأن يبحث الحسام الأستادار بمفرده على البريد إلى مصر.
وقدم حمدان دمشق وأوقف الأمير جاغان شاد الدواوين على ما جاء فيه، وأمره ألا يمكن قبجق نائب دمشق من الدخول إليها إلا بمرسوم. وخرج حمدان يريد حلب، فصادف الأمير قبجق بالقرب من حمص واجتمع به، فتخيل قبجق من قدومه، وبعث إلى بكتمر السلاح دار وغيره من الأمراء يوصيهم بالاحتراز، وبعث نجابا إلى أصحابه بمصر يستعلم منهم الخبر. فلما قدم حمدان حلب وأوقف الأمير بلبان الطباخي على أمره توقف فيه، فأخذ حمدان وأيدغدي شقير يستحثانه على قبض الأمراء. فاتفق موت الأمير طقطاي، واتهم حمدان بسقيه. فبعث حمدان وأيدغدي إلى منكوتمر بتوقف نائب حلب في مسك الأمراء، فغضب من ذلك وأراد عزل بلبان عن حلب وتولية أيدغدي شقير عوضه، فخوف من ذلك حتى كف منه. وكتب منكوتمر إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب يستحثه في مسك الأمراء، وكتب إلى الأمير بكتمر بنيابة طرابلس، وكان ذلك خديعة من منكوتمر قصد بها أنه إذا حضر بكتمر بلبس الشريف يقبض عليه وعلى الأمراء، وقدم الأمير الحسام الأستاداري إلى مصر، فعزم منكوتمر على مسكه، ثم انتظر ما يرد عن الأمراء بحلب.
وبلغ بلبان الطباخي أن أيدغدي شقير قد عين لنيابه حلب، وبلغ قبجق نائب الشام أن خروجه من دمشق إنما كان حيلة عليه، وأن جاغان يستقر في نيابة دمشق عوضه، فكتما كل منهما ذلك، وأخذ الحسامية في الإلحاح على نائب حلب في قبض الأمراء عند حضورهم السماط يوم الموكب، فبعث سراً إلى الأمراء يعلمهم ذلك فاستعدوا لأنفسهم، وركبوا في يوم الموكب على العادة إلا الأمير بكتمر السلاح دار فإنه تأخر واعتذر بعارض فلم يمكن الحسامية القبض على من حضر خوفا من فوات الأمر فيمن تأخروا، واتفقوا على أن ذلك يكون في موكب الآخر، فبعث الطباخي نائب حلب يعرفهم ذلك، فكتب بكتمر السلاح دار إلى قبجق نائب دمشق وقد بلغه خروجه إلى حمص يعرفه بما هم فيه، فلما كان الموكب الثاني ركب الأمراء ليقرأ عليهم كتاب السلطان باستقرار الأمير بكتمر في نيابة طرابلس، وقد احترزوا على أنفسهم، وتأخر بكتمر أيضاً عن الركوب واعتذر بوجع فؤاده، فعزموا على مسك من حضر، ثم أخذ بكتمر من خيمته.
وكانت العادة أنهم يقفون تحت القلعة على خيولهم، فإذا قرىء الكتاب نزلوا وقبلوا الأرض، فبيت الحسامية أن الأمراء إذا نزلوا لتقبيل الأرض داسوهم وأخذوهم باليد. فعندما قرئ الكتاب ترجل نائب حلب على العادة، وتبعه بقية الأمراء وقد أوقفوا مماليكهم على خيولهم ليحموهم، ونزل كل منهم وعنان فرسه في يده ومماليكه محيطة به، وقبل الأرض ووثب سريعا على فرسه، ومضوا يداً واحدة.

فانخرم الأمر على الحسامية، وأخذوا يلومون نائب حلب في كونه لم يقبض عليهم، وهر يهول الأمر عليهم، إلى أن اتفقوا على الإرسال إلى الأمراء ليجتمعوا بدار النيابة في الليل، وأن يبدءوا بالإرسال إلى بكتمر أمير سلاح. فلما كان بعد عشاء الآخرة توجه الحاجب إلى أمير سلاح يعلمه بأن قصادا قد قدموا من البلاد، فيحضر للمشهورة مع الأمراء، فلم يمكن الحاجب من الاجتماع به، واعتذر بوجع رجله، فمضى الحاجب إلى الأمير كرتاي وابن قرمان، وبلغهما الرسالة، فضحكا وقال كل منهما: ما أبرد ذقن الأبعد، وذقن من أرسله متى سمعت مشورة تكون ثلث الليل؟ إلى غد نحضر مع الأمراء.
ثم إن الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي والأمير سيف الدين عزاز اجتمعوا، وركبوا من ليلتهم يريدون حمص ولقاء الأمير قبجق، فخرج قبجق إلى لقائهم، واتفقوا على العبور إلى بلاد غازان، فأمهلهم قبجق حتى يرد عليه جواب الأمراء من مصر، فنزلوا معه. وقدم جواب قبجق من كرجي وطغجي أنهم عن قريب يقضون الشغل، فليقم بموضعه حتى الخبر، فلم يوافقه الأمراء على الإقامة خوفاً من مجيء العساكر إليهم، وساروا ليلة الثلاثاء من ربيع الآخر وقصدوا سلمية.
وكان الأمير قبجق لما قدم عليه الأمراء من حلب قد بعث على البريد الأمير سيف الدين بلغاق بن كونجك الخوارزمي إلى السلطان يعلمه حضور الأمراء إليه، ويسأل الأمان لهم وتطييب خواطرهم. ثم سار الأمير قبجق من حمص ليلة السبت خامس ربيع الأول، وبعث علاء الدين بن الجاكي إلى دمشق يستدعي من الأمير جاغان مالا وخلعا من الخزانة للنفقة على الأمراء وتطييب خواطرهم، فامتنع جاغان من ذلك، وكتب يلومه على إغفاله القبض عليهم، وكتب إليه أيضاً أيدغدي شقير وسيف الدين كجكن بالإنكار، وأنه إن لم يقبض عليهم ركبوا عليه وقبضوه، فزاده ذلك نفوراً. وتبين لعسكر دمشق مخالفة قبجق، فتسللوا عنه طائفة بعد طائفة، وعادوا من حمص إلى دمشق، فشكرهم جاغان على مفارقتهم إياه، فبقي قبجق في قلة من المال والرجال.
وأما أهل حلب، فإن الأمراء لما شاروا في الليل ركب من بكرة النهار أيدغدي شقير وحمدان بن طغان والأمراء الحسامية إلى نائب حلب، وبطقوا إلى الأعمال بالقبض على الأمراء، وتوجه أيدغدي شقير في عسكر إلى جهة الفرات، وسار عسكر إلى جهة حماة، ونهبت أثقال الأمراء. فورد الخبر بوصولهم إلى قبجق نائب دمشق، وأنهم ساروا على طريق سلمية، فقام العزاء والنواح بحلب. وخرج العسكر في طلبهم نحو الفرات، وأوقع جاغان الحوطة بدمشق على بيت قبجق في خامس عشره، وتكامل مجيء العسكر الذي كان مع قبجق في سابع عشره.
وانتهى سيف الدين كجكن وأيدغدي شقير إلى الفرات، فوجدا الأمراء قد قطعوا الفرات إلى رأس عين فورد الخبر إلى حلب بقتل السلطان ونائبه منكوتمر، فركب سيف الدين بلبان البريدي ولحق الأمير قبجق برأس عين وأعلمه بذلك، فظن أنها حيلة عليه ولم يرجع.
وأما السلطان فإن منكوتمر لم يزل يدبر بشؤم رأيه حتى قتل، وذلك أن الأمير طغجي قدم من الحجاز أول صفر، وقد قرر منكوتمر خروجه إلى نيابة طرابلس، فلما استراح من تعب السفر استدعاه السلطان، وتلطف به في الخروج إلى طرابلس، فاعتذر بأنه لا يصلح للنيابة. وقام الأمير طغجي فأعلم كرجي وبيبرس الجاشنكير بذلك، فاتفقوا على التحدث مع السلطان في صرفه عن تسفيره، ودخلوا عليه وما زالوا به حتى أعفاه. فشق ذلك على منكوتمر، وأنكر على كرجي وتجهم له، وتكلم فيه وفي من تحدث معه في إعفاء طغجي من السفر، وبالغ في إهانتهم، فحرك ذلك من كرجي كوامن كانت في نفسه من منكوتمر. وانقطع منكوتمر من الخدمة حنقاً من إعفاء طغجي، فداراه السلطان وبعث إليه قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الرومي ليحضره، فما زال به حتى حضر بشريطة أن يخرج طغجي من مصر ويمسك كرجي أن يخرج أيضاً.

واتفق مع ذلك وصول قاصد الأمير قبجق نائب دمشق في السر إلى طغجي وكرجي بما تقدم ذكره، فأوقفوا بيبرس وسلار وغيره ممن يثقون به على ذلك، واتفقوا على الفتك بالسلطان. وشرعوا في السعي بين الأمراء المماليك المنصورية والأشرفية يستميلونهم، وأخذ كرجي يستميل المماليك أرباب النوب فإنه كان مقدما عليهم، حتى أحكموا أمرهم. هذا ومنكوتمر مقيم على إخراج طغجي، وبعث يأمره أن يتجهز للسفر، وتمادى الحال إلى يوم الخميس عاشر ربيع الآخر.
ففي ذلك اليوم: أصبح السلطان صائماً، وأفطر ثم جلس يلعب بالشطرنج وعنده إمامه نجم الدين بن العسال وقاضي القضاة حسام الدين، فدخل الأمير كرجي على عادته وأعلمه بأنه قد بيت البرجية وغيرهم من المماليك في أماكنهم وغلق عليهم الأبواب وكان قد رتب قبل دخوله جماعة في أماكن بالدهاليز فشكره السلطان وأثنى عليه، وقال لقاضي القضاة: لولا الأمير سيف الدين كرجي ما وصلت إلى السلطة. فقبل كرجي الأرض وجلس على عادته، ثم قام ليصلح الشمعة فأصلحها، وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاه السلطان ليسترها عنه، وكان سلاح دار النوبة تلك الليلة الأمير سيف الدين نغاي الكرموني السلاح دار قد وافق كرجي على ما هو فيه. ثم قال كرجي للسلطان: ما يصلي مولانا السلطان العشاء؟ فقال: نعم وقام يريد الصلاة، فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة، وعند ذلك جرد كرجي سيفه وضرب السلطان على كتفه فالتفت السلطان يريد بالنمجاه فلم يجدها فقبض على كرجي وألقاه إلى الأرض، فضرب نوغاي رجل السلطان بالمنجاه فقطع رجله. وانقلب السلطان على ظهره، فأخذته السيوف من كل جانب حتى صار كوم لحم، وفر ابن العسال إلى خزانة، وصرخ القاضي حسام الدين: لا يحل هذا لكم فهم به كرجي ثم كفه الله عنه.
وخرج كرجي وأغلق الباب على المقتول والقاضي، فإذا بالأمير طغجي قد استعد وقعد في عدة من البرجية بداركاه القلعة ينتظر ما يكون من كرجي. فعندما رآه طغجي قال: قضيت الشغل؟ قال: نعم وأعلمه الخبر. فوقع الصوت في القلعة بقتل السلطان، وطار من وقته إلى المدينة. فركب الأمير جمال الدين قتال السبع في عدة من الأمراء إلى خارج المدينة، ووقعت الصرخة تحت القلعة فركب أكثر العسكر.
وأما طغجي فإنه استدعى بقية الأمراء المقيمين بالقلعة، وبسط باب القلة. فلم يشعر منكوتمر وهو بدار النيابة إلا بالصرخة قد قامت، وباب القله قد فتح، والأمراء قد اجتمعت، والشموع توقد، والضجيج يزداد. ففطن منكوتمر بقتل السلطان، وأغلق الأبواب، وألبس مماليكه فصار في أربعمائة ضارب سيف وأزيد، ولكن الله خذله فجاءه الحسام أستادار وعرفه من تحت الشباك بقتل السلطان، وتلطف به حتى خرج إليه وسار معه إلى باب القلة، فقبل يد طغجي. فقام إليه طغجي وأجلسه، ثم أمر به أن يمضى إلى الجب فأخذ وأرخي فيه، فقام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام وغيرهما ممن كان بالجب، ولما عاينوه أنكروا ذلك، فقال منكوتمر: قد غضب على السلطان وحلف أن يحبسني، وقصد بذلك دفعهم عنه لئلا يقتلوه.
فلم يكن غير بعض ساعة إلا وقد أرخيت القفة من رأس الجب، وصاحوا على منكوتمر فقام وجلس بها، وفي ظن أهل الجب أن السلطان قد رضي عنه. فعندما صار برأس الجب وجد كرجي واقعاً في طائفة من المماليك، فضربه كرجي بلت من حديد صرعه، وذبحه عند الجب وانصرف، وذلك أنه لما حضر منكوتمر إلى طغجي لم يكن كرجي حاضراً، فلما بلغه مجيئه أقبل يريده فأعلم أنه في الجب، فصاح على الأمراء، فقال: إيش عمل بي السلطان حتى قتلته؟ والله لقد أحسن إلي وكبرني وأنشأني، ولو علمت أني إذا قتلت منكوتمر يبقيني بعده والله ما قتلته. وما أحوجني أقتله إلا ما كان يقع من منكوتمر ومضى مسرعاً إلى الجب حتى قتله، ونهبت داره.
وكان منكوتمر عفيفاً عن الأموال، ضابطا لناموس المملكة متيقظاًً، وهو أول من نزل عن إقطاعات الجند التي كانت في ديوان النيابة، ومتحصلها في السنة مائة ألف أردب غلة، فتركها لله تعالى. وكان بعيداً عن اللهو مهيباً مصمما، لم يسمع منه قط أنه شتم أحدا، ولا جرى على لسانه فحش، مع كثرة التحري ورفع المظالم. إلا إنه كان صبي العقل عظيم الكبر محتقراً للأمراء، فمقتوه وعلموا أنهم لا يصلون إلى ازاحته إلا بقتل السلطان، فاجتمعوا على قتله حتى كان ما كان.

وكان الذين اتفقوا على قتل السلطان من الأمراء سيف الدين كرجي، وسيف الدين نوغاي، وقرا طرنطاي، وحجك، وأرسلان، وأقوش، وبيليك الرسولي.
وكانت مدة سلطة لاجين منذ فارق الملك العادل كتبغا الدهليز بمنزلة العوجاء، وحلف الأمراء في يوم الإثنين ثامن عشري المحرم سنة ست وتسعين، وإلى أن قتل سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ومنذ خلع كتبغا نفسه بدمشق، واجتمعت الكلمة بمصر والشام على لاجين في يوم السبت رابع عشري صفر منها، وإلى أن قتل، سنتين وشهرين غير ثلاثة عشر يوما، وقتل السلطان لاجين وله من العمر نحو الخمسين سنة، وكان أشقر أزرق العين معرق الوجه، طوالا مهيباً شجاعا مقداما، عاقلا متديناً يحب العدل، ويميل إلى الخير ويحب أهله، جميل العشرة مع تقشف وقلة أذى. وأبطل عدة مكوس، وقال: إن عشت لا تركت مشمسا ألبتة. وكان يحب مجالسة الفقهاء والعامة ويأكل طعامهم، وكان أكولا. و لم يعب بشيء سوى انقياده إلى مملوكه ونائبه الأمير منكوتمر، ورجوعه إلى رأيه وموافقته له واتباعه لكل ما يهواه من شدة حبه له، حتى أدى ذلك إلى قتلهما، ثم إلى خراب البلاد بمجيء غازان، فإن قبجق ومن معه من الأمراء حملهم بغضهم في منكوتمر وخوفهم منه على اللحاق بغازان وتحريضه على المسير إلى الشام، حتى كان منه ما يأتي ذكره إن شاء الله.
وكان لاجين منذ قتل الملك الأشرف يستشعر أنه لابد أن يقتل، حتى أنه في يوم الخميس الذي قتل في مسائه أحضر إليه بعد العصر بندب فارس ميداني من السلاح خاناه، فجعل يفتل فردة بعد فردة وهو يقول: من قتل قتل ويكرر هذا مراراً، فكان الفأل موكلا بالمنطق، إذ قتل بعد أربع ساعات من كلامه.
ونظير هذا أن الملك الأشرف وقف في حلقة صيد، والنوبة يومئذ في حمل السلاح خلفه للاجين هذا فجاء لاجين إلى بدر الدين بكتوت العلائي وله أيضاً النوبة في حمل السلاح، وقد تقدم إلى مكانه من الحلقة وأعطاه سلاح السلطان، وأمره بالتوجه إلى السلطان فإنه أمر بذلك. فأخذ بكتوت السلاح وتوجه به إلى الخدمة، ووقف لاجين حيث كان بكتوت واقفا. فلما جاء بكتوت وجد الأشرف على فرسه، وقد جعل طرف عصاة مقرعته تحت جبهته، واتكأ برأسه عليها وهي ثابتة بحذاء سرجه، وكأنه في غيبة من شدة الفكر. ثم التفت الأشرف وقال: يا بكتوت والله لقد التفت فرأيت لاجين خلفي وهو يحمل السلاح والسيف في يده، فتخيلت أنه يضربني به، فنظرت إليه وقلت يا شقير أعط السلاح لبكتوت يحمله، وقف أنت مكانه. فقال بكتوت: أعيذ مولانا السلطان بالله أن يخطر هذا بباله، ولاجين أقل من هذا وأضعف نفساً أن يقع هذا بباله، فضلا عن أن يقدم عليه. وهو مملوك السلطان، ومملوك مولانا السلطان الشهيد وتربية بيته الشريف. فقال الأشرف: والله ما عرفتك إلا ما خطر لي وتصورته. قال بكتوت: فخشيت على لاجين كون السلطان تخيل هذا فيه وأردت نصحه، فقلت له في تلك الليلة: بالله تجنب السلطان ولا تكثر حمل السلاح ولا تنفرد معه وأخبرته الخبر، فضحك ضحكا كثيراً وتعجب. فقلت: والله هذا يبكي منه فقال: ما ضحكي إلا من إحساسه. والله لما نظر إلى وقال يا شقير، كنت على عزم من تجريد سيفه وقتله به. قال بكتوت: فعجب من ذلك غاية العجب ومن العجب أيضاً أن الضرب الذي كان في الملك الأشرف عند قتله وجد مثله سواء في لاجين لما قتل.
وكان لاجين في سلطنته كثيراً ما يقف إذا أراد أن يصلي، ويكشف رأسه ويسأل أن يمد في عمره حتى يلقي غازان، ثم يقول: لكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه فكان كذلك.
وكان في شبابه منهمكا على الخمر، حتى صار وهو بدمشق يعاقر أعيان أهلها وينعم في مجالس اللهو عليهم، بحيث لما أفرط في اللهو قال الشجاعي للملك المنصور قلاوون إنه قد أبخس حرمة السلطان بمعاشرته عامة دمشق وانهماكه في الشرب. فبعث إليه قلاوون على لسان الأمير طرناي نائب السلطنة ينهاه ويهدده، وكتب إليه أيضاً بذلك. وكان ألاجين كثير الحركة، بحيث يغيب في الصيد الشهر والشهرين ومعه أرباب الملاهي، فلما تسلطن أعرض عن اللهو، وسار أحسن سيرة من العدل والإنصاف والعطاء والإنعام، وأحبه الأمراء والأجناد والعامة، فأفسد ذلك مملوكه منكوتمر بسوء تدبيره.

واتفق أن لاجين لما اختفى هو وقرا سنقر بعد قتل الملك الأشرف، رأى قرا سنقر رؤيا فبعث إلى لاجين ليحضر إليه بسببها، وكان كل منهما يعرف موضع الآخر. فجاءه لاجين في صندوق حمل إلى دار قراسنقر بحارة بهاء الدين من القاهرة حيث كان مختفياً، فتحادثا، ثم قال له قرا سنقر: يا شقير رأيت رؤيا أنا خائف أن أقصها فتطمع نفسك وتتغير نيتك وتغدر بي فحلف له أنه لا يخونه. فقال قراسنقر: رأيت كأنك قد ركبت وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف مجللة بالرقاب الذهب على عادة ركوب الملوك، ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس خلعة الخلافة، واستدعتني وأجلستني على ثالث درجة من المنبر وتحدثت معي قليلا. ثم دفعتني برجلك فسقطت من المنبر، وانتبهت عند سقوطي. وهذا يدل على قربي منك ورميك لي وأنا والله يا شقير نحس قد خلفتك، وما أدري هل تصدق أو لا؟ فضحك لاجين. وكان كذلك، فإنه استناب قراسنقر لما تسلطن قليلا، ثم كان من أمره ما تقدم ذكره من سجنه له. فكان قراسنقر كل قليل يبعث إليه برسول وهو سجين، ويقول: يا أخي اجعل في نظير بشارتي بما آتاك الله أن تفرج عني وتنفيني حيث أردت فيبتسم لاجين، ويقول للرسول: سلم عليه وقل له إن شاء الله بقي القليل.
واتفق أن لاجين رأى في المنام كأنه بباب القلة من القلعة وقد جلس في موضع النائب، والنائب قدامه وقف وشد وسطه، فلما قام من مكانه صعد درجا، وإذا برجل وهو كرجي وقد طعنه برمح فصار كوم رماد. فاستدعى لاجين علاء الدين ابن الأنصاري عابر الرؤيا، وقص رؤياه عليه، فقال: تدل هذه الرؤيا على أن السلطان يستشهد على يد كرجي. فقال لاجين: الله المستعان وأوصاه بكتمان ذلك، وأعطاه خمسين دينارا وانصرف ابن الأنصاري فإذا قاصد الأمير منكوتمر ينتظره، فلما دخل عليه سأله عن رويا السلطان فكتمها عنه، وقال: شيء يتعلق بالحريم. فقال منكوتمر: قد رأيت أنا أيضاً كأني خرجت من الخدمة إلى دار النيابة، فإذا بالدهليز عمود رخام فوقه قاعدة، فجذبت سيفي وضربت رأس العمود فألقيته، ففار من العمود دم عظيم ملأ الدهليز. فعمى ابن الأنصاري عليه، وقال: قد انقطع الكلام برؤية الدم خوفاً من شره، وانصرف متعجباً من اتفاق تأويل المنامين فلما كان بعد أحد عشر يوماً من رؤياهما، حضر إليه خادم بورقة فيها أن امرأة السلطان وهي ابنة الملك الظاهر رأت السلطان جالساً، وإذا بطائر كالعقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار إلى أعلى الدار، فإذا غراب قد أشرف على الدار وصاح كرجي ثلاث مرات. فقال ابن النصاري: هذا منام لا يفسر حتى تمضى ثلاث جمع وأراد بذلك الدفع عن نفسه، فقتل لاجين في الجمعة الثانية من هذا المنام على يد كرجي.
وبعث الأمير علم الدين سنجر الدواداري وراء ابن الأنصاري، واستحكاه عن تأويل رؤيا لاجين، فإنه كان حاضراً عندما قصها عليه، ثم قام حتى لا يسمع تأويله. فأخبره ابن الأنصاري بما قاله له، وبمنامي منكوتمر وامرأة لاجين. فقال له الأمير علم الدين: لما قمت من عند السلطان لاجين استدعاني وأخبرني بما قال لك، وقال عرفت من الذي طعنني بالرمح؟ قلت لا، فأشار إلى كرجي. ثم استدعاني بعد أيام وذكر لي أنه أعلم منكوتمر بأن خاطره ينفر من كرجي، فقال له منكوتمر بحنق: والله لا تبرح تتهاون في أمرك حتى يقتلوك ويقتلوني وتموت مماليكك في الحبس، وما لهذا القواد إلا قتله يعني كرجي وحلف أنه كلما رأي كرجي يود لو ضربه بسيفه، ونهض وهو مصمم على قتله فحال الله بينهما وبين كرجي، حتى أمضى فيهما على يده ما قدره من قتلهما.

وذلك أن الاتفاق كان قد وقع بين السلطان وبين منكوتمر على مسك كرجي وطغجي وشاورشي في جماعة من الأمراء وقت الخدمة يوم الإثنين، فعرف منكوتمر ثقاته بذلك. واشتد فكر السلطان واضطراب رأيه فيما قرره مع منكوتمر، فتارة يعزم على إمضائه، وتارة يرجع عنه حتى يرد عليه خبر الأمراء المجردين وهل قبض عليهم أو لا. فلما أصبح استدعى الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس، وبعثه إلى منكوتمر يأمره ألا يفعل شيئاً مما قرره مع السلطان حتى يعرفه، فإنه خطر في نفسه شيء أوجب تأخيره فلما ذكر سلار هذا لمنكوتمر ظن أن السلطان أعلمه بالأمر على وجهه، وأخذ ينكر على السلطان تأخيره ما اتفقا عليه، وشرح له الحال كله ولم يكتمه شيئاً فسكن سلار من حنقه، وأعاد الجواب على السلطان بالسمع والطاعة، وكتم ما أطلعه منكوتمر عليه، ومضى إلى كرجي وطغجي ومن معهما، وأعلمهم بالأمر كله، فشمروا للحرب، وكان ما كان.
واتفق أيضاً أن في الليلة التي قتل فيها لاجين ظهر في السماء نجم له ذنب، يخيل لمن رآه أنه قد وصل إلى الأرض. فلما رآه لاجين تعجب منه، وتمعر وجهه، وقال لقاضي القضاة حسام الدين، وهو معه: ترى ما يدل عليه هذا النجم؟، فقال: ما يكون إلا خير. فسكت لاجين، ثم قال له: يا قاضي حديث كل قاتل مقتول صحيح وتغير تغيراً زائداً. فشرع الحسام يبسطه ويطيب خاطره، وهو يقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون " وجلس وكررها، فقتل في مجلسه ذلك.
واتفق أيضاً أنه أحضر إليه في تلك الليلة بعض السلاح دارية سيفا من الخزانة، فقلبه وأعجب به، فأخذ كرجي يشكر منه، فقال له لاجين: كأنك تريده قال: نعم والله يا خوند فقال لاحين: هذا ما يصلح لك والتفت إلى طغاي وناوله إياه وقال: خذ هذا اقتل به عدوك فكان أول ما ضرب به لاحين بعد ساعة فأطار يده.
واتفق أيضاً أن لاجين دفن في تربة بجانب تربة العادل كتبغا من القرافة، فكان أولاد كتبغا يأتون قبره ويضربونه بالنعال ويسبونه، وأقاموا على هذا مدة يشفون أنفسهم بذلك.
وكان لاجين معظما للشرع وأهله منفذاً لأوامره، ومن ذلك أنه طلب أموال الأيتام من الأمراء وكانت تحت أيديهم، ونقلها إلى مودع حديد لمال الأيتام استجده، وكتب توقيعا بأن من مات وله ورثة صغار ينقل ميراثهم إلى مودع الحكم ويتحدث فيه قاضي القضاة الشافعي، فإن كان للميت وصي فيقيم القاضي الشافعي معه عدولا من جهته ورد لاجين عدة أملاك كانت قد أخذت بغير حق إلى ملاكها، منها قرية ضمير من عمل دمشق، وكانت وقف الملك الزاهر على أولاده. ورد على عز الدين بن القلانسي ما أخذ منه في الأيام المنصورية قلاوون من المال بغير طريق شرعي. ووضع عن أهل بلقس الأشراف ما كان عليهم من المظالم، وهو يبلغ ثلاثين ألف درهم في كل سنة، وعوض مقطعيه بدل ذلك. ورد وقف قراقوش على الفقراء، وكان قد أقطع منذ سنين، فتسلمه القاضي الشافعي وبلغه في السنة عشرة آلاف درهم، وعوض مقطعيه عنه ورد الدار القطبية إلى من وقفت عليه من جهة الملك الكامل، وكانت بيد أحد مقدمي الحلقة وورثته من نحو ستين سنة. وكانت عدة من الإقطاعات بيد الأمراء فردها إلى أربابها، وكانت العساكر من ذلك في مضرة، لأنهم لا يحصل لهم من دواوين الأمراء كبير شيء، ويبقي الإقطاع في حمي الأمير يأوي إليه كل مفسد وقاطع طريق.
وكان لاجين شجاعا مقدما على أقرانه في الفروسية وأعمالها، كثير الوفاء لمعارفه وخدامه، ومنع من لبس الكلفتاه الزركش والطرزكش وملابس الذهب، وشدد في المنع من المحرمات كلها، وحد في الخمر بعض أولاد الأمراء، وكان يصوم رجب وشعبان، ويقوم الليل، ويكثر من الصدقات، مع لين الجانب وخفض الجناح.
تدبير الأمراء بعد قتل الملك المنصور

لاجين الأمر

ولما قتل الملك المنصور لاجين ونائبه الأمير منكوتمر اتفق من كان بالقلعة من الأمراء وهم عز الدين أيبك الخازندار المنصوري، وركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار الأستادار، وحسام الدين لاجين الرومي الأستادار الواصل من حلب، وجمال الدين أقوش الأفرم، وبدر الدين عبد الله السلاح دار، والأمير كرت الحاجب مع الأمير طغجى وكرجي على مكاتبة الملك الناصر محمد بن قلاوون واحضاره من الكرك واقامته في السلطنة، وأن يكون طغجى نائب السلطنة، وألا يقع أمر من الأمور إلا بموافقة الأمراء عليه وتحالفوا على ذلك في ليلة الجمعة. فلما طلع النهار فتح باب القلعة، وركب الأمير جمال الدين أقوشق قتال السبع وبقية الأمراء إلي القلعة، وكتبوا إلى الأمير قبجق نائب الشام والأمير بلبان الطباخي نائب حلب. مما وقع، وطلبوا منهما القبض على أيدغدي شقير و جاغان و حمدان بن صلغاي والأمراء الحسامية. وسار البريد بذلك على يد الأمير بلغاق من أمراء دمشق، وكان قد حضر بكتاب الأمير قبجق في يوم السبت ثاني عشره بعد قتل لاحين، فأخذ طغجى منه الكتاب.
وجلس طغجى مكان النيابة وبقية الأمراء يمنة ويسرة، ومد السماط السلطاني على العادة. ودار الكلام في الإرسال إلي الملك الناصر، فقام كرجي وقال: يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين وأخذت ثأر أستاذي، والملك الناصر صغير ما يصلح، ولا يكون السلطان إلا هذا وأشار لطغجى وأنا أكون نائبه، ومن خالف فدونه فسكت الأمراء كلهم إلا كرت الحاجب فإنه قال: يا خوند الذي فعلته أنت قد علمه الأمراء، ومهما رسمت ما ثم من يخالف وانفضوا، وتأخر الإرسال إلي الملك الناصر.
فبعث طغجي إلي التاج عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وسأله عن إقطاع النيابة فذكره له، فقال طغجي: هذا كثير، أنا لا أعطيه لنائب ورسم أن توفر منه جملة تستقر للخاص. فلما خرج التاج عبد الرحمن الطويل من عنده استدعاه كرجي وسأله عن إقطاع النيابة، فلما ذكره له استقله وقال: هذا ما يكفيني ولا أرضي به وعين بلادا يطلبها زيادة على إقطاع منكوتمر، فأخذ التاج يتعجب منهما في استعجمالهما بذلك قبل انعقاد الأمر لهما.
وفي ليلة الأحد: وقع الطائر بنزول الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح بيلبيس بالعسكر المجرد إلى سيس فسر الأمراء بذلك، وكتبوا إليه وإلى من معه بجميع ما وقع واتفاق طغجي وكرجي مفصلا. وصار أهل الدولة قسمين: الأمراء ورأيهم معدوق. مما يشير به الأمير بكتاش إذا حضر، وأما طغجي وكرجي وشاورشي والمماليك الأشرفية فإنهم يد واحدة على سلطنة طغجى ونيابة كرجي، وإنهم لا ينزلون إلي لقاء الأمير بكتاش، بل يقيمون مع طغجي بالقلعة حتى يحضر بكتاش. ممن معه وكان رأي الأمراء النزول إلى لقائهم.
فلما كان يوم الأحد ثالث عشره: نزل الأمير بكتاش بركة الحاج، وشرع الأمراء بالقلعة في التجهيز إلي لقائه. فامتنع كرجي من أن ينزل إليه أحد، بل أشار أن ينزل كل أحد إلي بيته، ويطلع الجميع من الغد القلعة، فيلبس طغجي خلعة السلطنة، وانفضوا على ذلك. فعلم الأمراء إنهم ما لم ينزلوا إلى لقاء الأمير بكتاش فاتهم ما دبروه، فلما اجتمعوا بعد العصر اخذوا مع طغجى وكرجي في تحسين النزول للقاء، فإن الأميربكتاش قديم هجرة وأتابك العساكر، وقد أثر في سبيل الله أثاراً جميلة وملك إحدى عشرة قلعة، وله غائب بالعسكر نحو سنة ونصف، فإن لم يتلقهم الأمراء صعب عليهم، ولو كان السلطان حياً لخرج إلي لقائهم. هذا وطغجى وكرجي يقولان: لا نزول، وأما أنتم فانزلوا إن اخترتم فلما طال تحاورهم استحيا طغحى من الأمراء وقال لكرجي: الصواب فيما قاله الأمراء، والرأي أن أركب معهم ومعي مماليك السلطان ونلقي الأمير بكتاش، وتقيم أنت بالقلعة في طائفة من المماليك، فاتفقوا على ذلك. وعرض طغحى المماليك ومعه كرجي، وعينا أربعمائة تركيب مع طغجى، وأخرجت لهم الخيول من الإسطبل، وأن يقيم مع كرجي بقيتهم بالقلعة، وباتوا على ذلك.

وأما دمشق فان بلغاق قدم إليها يوم السبت تاسع عشره، وقد بلغه تسحب الأمير قبجق. بمن معه إلي جهة الفرات فاخفي أمره وتوجه إلي حلب وأوقف الأمير بلبان الطاخبي على الخبر، فقبض الأمير بلبان من وقته على حمدان صلغاي وسجنه بالقلعة، وبعث البريد في طلب قبجق ومن معه، وكتب يعرفه بقتل لاجين ومنكوتمر. فصدف البريدي أيدغدي شقير وكجكن وبالوج في الطائفة الحسامية، وقد خرجوا في طلب قبجق ومن معه، فأنكروا أمره وفتشوه، فإذا في الكتب التي معه شرح ما وقع بمصر، فخاف أيدغدي شقير من نائب حلب لسوء ما عامله به، ودفع الكتب إلي البريدي وخلاه لسبيله، فمضى إلي قبجق، وتحير أيدغدي في أمره، ثم قوي عليه كجكن حتى سار به إلي حلب، فلم يتعرض إليه الأمير بلبان النائب بل عزاه وتوجع له.
وقام بدمشق الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري، وقبض على الأمير سيف الدين جاغان الحسامي الشاد، وعلى الأمير حسام الدين لاجين الحسامي وإلي البر، وقدم الأمير كجكن من حلب فقبفر عليه أيضاً، وسلمهم جميعًا لأرجواش نائب القلعة. وتحدث الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري حديث نواب السلطة، وصار يركب بالعصائب والجاويش، ويجلس بدار السعادة وترفع له القصص على هيئة النواب، أوقع الحوطة على أبواب الأمراء المقتولين وحواصلهم، وحلف العسكر للملك الناصر. فلم تطل مدته، ومات في ثاني جمادى الأولى بقولنج وصارت دمشق بغير نائب ولا مشد ولا محتسب.
وكان خبر قيام قرا أرسلان قد ورد إلي الأمراء بمصر، فخرج البريد في سادس عشرى ربيع الآخر باستقرار سيف الدين قطوبك المنصوري في الشد عوضاً عن جاغان، فعاشر ذلك يوم الأحد خامس جمادى الأولى، عند قدوم البريد إلي دمشق.
وأما قبجق نائب دمشق، فإنه توجه ومعه الأمير بكتمر السلاح دار وفارس الدين ألبكي وسيف الدين عزاز وسيف الدين بزلار يريدون غازان، فمات بزلار قريباً من سنجار. وتسامع بهم المغل، فركب جنكلي بن البابا أمير ديار بكر من قبل غازان وبالغ في إكرامهم، وتلقاهم صاحب ماردين وقام بأمرهم. فلحقه بريد نائب حلب بها، وأوقفه على الكتب المتضمنة لقتل لاجين ومنكوتمر، فبكى قبجق والأمراء نادماً على سرعة مفارقتهم بلاد الشام، و لم يعجبهم العود، فكتبوا الجواب بالاعتذار.
وكان غازان فد بلغه مجيئهم إليه، فبعث أميراً يتلقاهم، وسار بهم إلى الأردوا فركب غازان في موكبه وتلقاهم وأكرمهم، وضرب لهم الخركاوات وأمر لهم. مما يصلح لهم. ثم استدعاهم وباسطهم، فلما انصرفوا حمل إلي قبجق عشرة آلاف دينار ولبكتمر مثلها، ولعزاز والألبكي ستة آلاف دينار لكل منهما. وأنعم غازان عليهم وعلى من معهم بالخيول وغيرها، وتقدم إلي أمرائه بأن يعمل كل منهم لهم ضيافة، فأقامت الأفراح في الأردوا بسبب ضيافتهم عدة أيام، وصار قبجق قي غاية المسمرة، فإنه أتاه طائفة من أهله وأقاربه، وأما بكتمر فإنه لم تطب نفسه بالإقامة.
ومن غريب الاتفاق أن السلطان الملك المنصور قلاوون جري مرة عنده أمر تجريد عسكر إلي حلب، فذكر له قبجق هذا أن بجرد، فقال: أعوذ بالله أن أجرد قبجق إلي نحو الشام، فإنني ما أمنه أن يدخل البلاد، ويظهر لي من وجهه الميل إلي المغل . ثم التفت قلاوون إلى سنقر المساح، وقال: إن عشت يا أمير، وخرج قبجق إلي الشام، فستذكر قولي لك فكان كذلك.
ويقال إنه كان مدة نيابته لدمشق يكاتب غازان، وعندما عزم على اللحاق به استدعى منه طمغا البريد التي يركب بها الأمراء عندهم، فبعثها غازان إليه، وصارت عنده حتى ركب من ماردين فحملها إليه، وكان هو أكبر أسباب قدوم غازان إلي دمشق، كما يأتي ذكره إن شاء الله.
سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوونثانيًا

وكان من خبر ذلك أن الأمير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار والأمير علم الدين سنجر الجاولي قدما إلى الكرك، فوجد الملك الناصر يتصيد بالغور، فوجها إليه. ودخل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الكرك إلي أم السلطان ليبشرها، فخافت أن تكون مكيدة من لاجين، وتوقفت في المسير وابنها إلي مصر، فما زال بها حتى أجابت. ووصل الأميران إلي الملك الناصر فقبلا الأرض بين يديه وأعلماه الخبر، فأتي إلي المدينة وأخذ في تجهيز أحواله، والبريد يتواتر من مصر باستحثاثه على القدوم إليها، إلى أن هيا له نائب الكرك ما يليق به، وسار به إلي القاهرة فخرج الأمراء والعساكر إلي لقائه، وكادت القاهرة ومصر ألا يتأخر بها أحد من الناس فرحا بقدومه، وخرجوا إليه عامة مي يوم السبت رابع جمادى الأولى.
وجلس السلطان الملك الناصر على سرير الملك في يوم الإثنين سادسه، وجددت له البيعة، وكتب شرف الدين محمد بن فتح الدين القيسراني عهده عن الخليفة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.
وفيه استقر الأمير سيف الدين سلار في نيابة السلطة بديار مصر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم الداوداري المنصوري نائب دمشق عوضاً عن الأمير قبجق المنصوري، والأمير سيف الدين كرت الحاجب في نيابة طرابلس، واستقر عوضه حاجبًا سيف الدين قطلوبك وأفرج عن الأمير قرا سنقر، والأمير عز الدين أيبك الحموي، والوزير شمس الدين سنقر الأعسر، واستقر قرا سنقر في نيابة قلعة الصبيبة، وخلع على سائر أهل الدولة، وكتب إلي الأعمال بذلك، ودقت البشائر وزينت الممالك على العادة.
وفي ثامنه: ركب السلطان بخلعة الخلافة والتقليد بين يديه، وعمره أربع عشرة سنة، وأقر الوزير فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة. وسار الأمير أقش الأفرم على البريد إلي دمشق، فقدمها في ثاني عشريه، ولبس من الغد التشريف، وقبل عتبة باب القلعة على العادة، ومد السماط بدار السعادة، وأخرج الأمير سيف الدين قطلوبك إلي مصر.
وفي تاسع عشريه: افرج الأمير أقش الفرم عن جاغان الحسامي وبعثه على البريد إلي مصر، فرده السلطان من طريقه، وجعله أحد أمراء دمشق. وقدم البريد من حلببدخول قبجق ومن معه إلي بلاد المغل. ووقع بالقاهرة مطر، وسال المقطم إلي القرافة فافسد عدة ترب، ووصل الماء إلي باب النصر من القاهرة، وأفسد السيل هناك عدة ترب أيضاً.
وصار الأمراء يجتمعون بقلعة الجبل في يوم الموكب عند السلطان، ويقررون الأمور مع بيبرس وسلار فتصدر الأحوال عنهما، وشرعا في تقديم حواشيهما وألزامهما.
واستقر الأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، وأنعم على أمير موسى بن الصالح على ابن قلاوون بإمرة، وعلى كل من عز الدين أيدمر الخطيري وبدر الدين بكتوت الفتاح وعلم الدين سنجر الجاولي وسيف الدين تمر وعز الدين أيدمر النقيب بإمرة. وأنعم على ناصر الدين محمد بن الشيخي وإلى القاهرة بإمرة، واستقر واليًا بالجيزة وأعمالها مع ولاية القاهرة، وأنعم على كل من لاجين أخي سلار وأقطاي الجمدار وبكتوت القرماني بإمرة وقبض على الأمير، العمري والأقوش وقراقوش الظاهري ومحمد شاه الأعرج وعد على قراقوش ومحمد شاه من الذنوب قتلهما طغجى وكرجي.
وإلي يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة: ألبس الأمير أقش الأفرم نائب دمشق الأمراء والأعيان الخلع، وفيه قدم طلبه وأثقاله من مصر، فتلقاها والأمراء في خدمته وعليه التشاريف، ودخل دخولاً حسنًا.
وفيه كتب عن السلطان تقليد الملك المظفر تقي الدين محمود بنيابة حماة.
وفي شهر رجب: توجه الأمير كرت الحاجب إلي نيابة طرابلس.

وفي ثاني عشره: قبض بدمشق على الأمير سيف الدين كجكن واعتقل بالقلعة وورد البريد من حلب بمحاربة نغاي وطقطاي، وإنه قتل بينهما من المغل خلق كثير، وأن غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولو بن جنكزخان قتل وزيره نوروز، وأنه تأهب لعبور الشام وبعث في جمع المغل، وإنه بعث سلامش بن أفال بن بيجو التتري إلى بلاد الروم، على عسكر يبلغ نحو الخمسة وعشرين ألف فارس. فاهتم الأمراء بتجريد العسكر، واتفقوا على تجهيز الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي، والأمير جمال الدين عبد الله السلاح دار، والأمير مبارز الدين سوارالرومى أمير شكار، ومقدمهم الأمير جمال الدين أقش قتال السبع، وصحبتهم من أمراء الطبلخاناه عشرون أميراً. وكتب إلى دمشق بتجريد أربعة أمراء مقدمين، فساروا وقدموها في سابع رجب.
وقدم البريد من دمشق بورود نحو ثلاثين بطسة في البحر إلى ساحل بيروت، في كل بطسة منها نحو سبعمائة، وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر، وتحصل إغارتهم على الساحل. فاجتمع الناس لقتالهم، فبعث الله ريحًا كسرت المراكب وألقتها بالشاطئ، فأخذ أهل بيروت منها ما بقى من الغرق، وأسروا ثمانين إفرنجياً، وذلك أخريات شعبان. وقويت شوكة البرجية بديار مصر، وصارت لهم الحمايات الكبيرة، وتردد الناس إليهم في الأشغال. وقام بأمرهم الأمير بيبرس الجاشنكير وأمر منهم عدة، وصار في قبالته الأمير سيف الدين الدين سلار ومعه الصالحية والمنصورية، إلا أن البرجية أكثر وأقوى، وشرهوا جميعاً إلى أخذ الإقطاعات، ووقع الحسد بين الطائفتين، وصار بيبرس إذا أمر أحداً من البرجية وقفت أصحاب سلار وطلبت منه أن يؤمر منهم واحداً. وأخذ الأمير سيف الدين برلغي يشارك بيبرس وسلار في الأمر والنهي، وقويت شوكته والتف عليه المماليك الأشرفية.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: وصل سلامش بن أفال نائب الروم إلى دمشق، مع الأمير عز الدين الزردكاش نائب بهسنا، في عشرين من أصحابه. فتلقاه عسكر دمشق وأهلها مع النائب وقد اهتم للقائه وبالغ في التجمل الزائد، فكان يوما بهجاً. وأنزله على الميدان وقام. مما يليق به، وأحضر في ليلة النصف ليرى الوقيد بجامع بنى أمية.
وفي ليلة الإثنين سادس عشره: أركبه البريد هو وأخوه قطقطوا، فقدما إلى قلعة الجبل ومعهما مخلص الدين الرومي فأكرمهم الأمراء وقاموا بواجبهم.
وكان من خبر سلامش أن غازان لما بعثه لأخذ بلاد الروم خرج عن طاعته، وحسن في رأيه الاستبداد. بملك الروم فاستخدم عشرة آلاف، وكاتب ابن فرمان أصر التركمان، وكتب إلى الملك المنصور لاجين سلطان مصر يطلب نجدة على قتال غازان على يد مخلص الدين الرومي. فأجيب في شهر رحب بالشكر والثناء، وكتب إلى دمشق بخروج العسكر لنصرته.
وكان غازان قد وصل إلى بغداد، فبلغه خروج سلامش عن طاعته، فأعرض عن المسير إلى الشام، وجهز العساكر إلى بلاد الروم، وأخرجهم أول جمادى الآخرة وعدتهم نحو الخمسة وثلاثين ألفاً وعليهم بولاي وعاد غازان إلى تبريز، ومعه الأمير قبجق وبكتمر السلاح دار والألبكي وبزلار، وسار بولاي إلى سنجار ونزل على رأس عين، ثم توجه إلى أمد.
وجمع سلامش نحو الستين ألفًا، وامتنع عليه أهل سيواس وهو يحاصرهم، فلما قرب منه بولاي بعساكر غازان فر عنه من كان معه من التتار إلى بولاي في أول ليلة من رجب، ثم التحق به أيضاً عسكر الروم، وفر التركمان إلى الجبال. و لم يبق مع سلامش إلا نحو الخمسمائة ، فإنهزم عن سيواس إلى جهة سيس، ووصل بهسنا آخر رجب. فورد خبره إلى دمشق في خامس شعبان والأمراء بها على عزم الخروج لنجدته، فتوقفت الحركة عن تسيير العساكر. فما كان بعض أيام إلا وسلامش قد وصل إلى دمشق، فخرج إليه عساكر دمشق والتقوه في موكب عظيم، ووصل صحبته من بهسنا الأمير بدر الدين الزردكاش نائب السلطنة بها.

ثم توجه سلامش وأخوه قطقطوا إلى الأبواب السلطانية، في يوم الأحد خامس عشر شعبان على خيل البريد، فلما قدم إلى قلعة الجبل أنعم على أخيه قطقطوا بإقطاع، ورتب لمخلص الدين الرومي جار، وخير سلامش بين المقام بالديار المصرية أو الشام أو أن يعود إلى بلاده، فسال أن يجرد معه جيش ليعود إلى بلاده ويحضر بعياله، ويرجع إلى خدمه السلطان. فوافقه السلطان على ذلك، فركب البريد إلى حلب، ورسم أن يخرج معه الأمير بكتمر الجلمي. فقدم سلامش دمشق في حادي عشر رمضان، وخرج من الغد ومعه الأمير بدر الدين الزردكاش، ولما وصل إلى حلب جرد معه الأمير بكتمر حسب المرسوم إلى جهة سيس، بعدما مر بحلب وخرج منها بعسكر. ففطن به التتار فقاتلوه، فقتل الأمير بكتمر، وفر سلامش إلى بعض القلاع فقبض عليه وحمل إلى غازان فقتله.
وكان سلامش هذا من أكبر الأسباب في حركة غازان إلى بلاد الشام: وذلك إنه نهب بعسكر حلب ماردين في شهر رمضان حتى أخذ ما كان بجامعها، وفعل أفعالاً قبيحة، فحرك فعله ما عند غازان وجعله حجة لمسيره.
وفي شعبان: انعم على الأمير قرا سنقر بنيابة الصبيبة وبانياس، فسار إليهما وتسلمهما فيه.
وفي رمضان: قدم الأمير علاء الدين كجكن إلى القاهرة مقيداً، هو وحمدان بن صلغاي وقد وكل بهما مائة فارس من عسكر الشام. فأرسل بحمدان إلى صفد، فكان آخر العهد به. وقدمت رسل صاحب سيس و صاحب القسطنطينية بهدايا في سادسه. واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر في الوزارة عوضاً عن الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي، فضرب التاج بن سعيد الدولة بالمقارع فأسلم، وكان مستوفيا. واستقر شمس الدين أحمد السروجي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر، عوضاً عن حسام الدين حسن بن أحمد بن الحسن الرومي، في أول ذي الحجة. ونقل الحسام إلى قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن والده جلال الدين أحمد بن الحسن.
وفي آخر ذي القعدة: نقل الأمير قرا سنقر من نيابة الصبيبة إلى نيابة حماة، بعد وفاة الملك المظفر تقي الدين. واستناب الأمير بيبرس الجاشنكير في الأستادارية الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وحكمه في سائر أمورها، فترك الملك الناصر الاستدعاء لما يريده من مأكل أو مشرب لشدة الحجر عليه، وصار ليس له من المملكة سوى الاسم. وذلك إنهم يجلسونه في يومي الخميس والإثنين، وتحضر الأمراء الأكابر ويقف الأمير سلار النائب والأمير بيبرس الأستادار، ويعرض سلار عليه ما يريده، ثم يشاور فيه الأمراء ويقول: السلطان قد رسم بكذا، فيمضى ذلك. ثم يخرج الجمع، فيجلس سلار وبيبرس ويتصرفان في سائر أمور المملكة، ويتفقان على قلة مصروف السلطان.
وقدم البريد بتحرك غازان وجمعه على السير إلى الشام، فكتب إلى الأمير كزناي والأمير قطلوبك الحاجب بالخروج واللحاق بالأمراء المجردين، فقدموا دمشق في رابع عشرى ذي الحجة. ووقع العزم على سفر السلطان والأمراء، واستدعيت الجند من بلاد مصر، وألزم الوزير سنقر الأعسر بتجهيز الأموال، فتحسن سعر الخيل والجمال والسلاح وآلات السفر. وانتظر العسكر النفقة فيهم، فاجتمع الأمراء لذلك، فلم يوافق بيبرس وسلار على النفقة خوفا من تلاف المال، وقصدا تأخيرها إلى غزة، فلم ترض بقية الأمراء بذلك، وانفضوا على غير رضى. وخرج السلطان في رابع عشرى ذي الحجة بالعساكر ونزل خارج القاهرة، واستناب في غيتبه الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري الدوادار.
ووقع في هذه السنة بأرض مصر آفة عظيمة من الفار.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب طرابلس، في صفر.
ومات نجم الدين أيوب ابن الملك الأفضل نور الدين على ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، في رابع عشر ذي الحجة بدمشق.
ومات الأمير جمال الدين أقش المغيثي نائب البيرة بها. وقد أقام في نيابتها أربعين سنة ومات الأمير سيف الدين بكتمر الجلمي قتل على سيس.

ومات الأمير بدر الدين بدر الصوافي أحد أمراء الدوادار. أصله من الغرب، فولاه المنصور لاجين دوادارا، وأقامه على تجديد عمارة جامع ابن طولون. واتفق أن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر مرض، فبعث إليه السلطان بدر الدين وقال: ما بقى يجيء منه شىء، فبعد أسبوع مات بدر الدين، وطلع كاتب السر إلى الخدمة وقد عوفي، وعزى السلطان في الدوادار، فقال السلطان: لا اله إلا الله كان في ظن الدوادار إنه يعزينا في كاتب السر عزانا كاتب السر فيه.
ومات الأمير سيف الدين تمر بغا، وله مسجد بالقرب من الميدان التحتاني بين القاهرة ومصر، وكان كريما. وكان قد توجه مع الملك الناصر إلى الكرك، ثم نقل إلى طرابلس فمات بها.
ومات بحلب من المجردين الأمير سيف الدين البسطي وأحمد شاه، ومحمد بن سنقر الأقرع، وعين الغزال، وكيكلدى بن السرية ومات بناحية سمنود - وكان قد توجه إليها - الأمير سيف الدين طقطاي.
ومات شهاب الدين يوسف بن الصاحب محي الدين محمد بن يعقوب بن إبراهيم ابن هبة الله سالم بن طارق النحاس بن الأسدي الحلبي، في ثالث عشر ذي الحجة بدمشق، وقد قدم القاهرة مراراً.
ومات أمين الدين سالم بن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي، ناظر الدواوين بدمشق، في ثامن عشرى ذي الحجة، وهو مصروف. ومات الأمير علم الدين سنجر المسروري والي القاهرة، وهو المعروف بالخياط.
سنة تسع وتسعين وستمائةأهلت والسلطان متوجه بعساكر مصر إلى الشام، والإرجاف يقوى بمسير غازان إلى الشام. فرحل السلطان بالعساكر من الريدانية أول يوم من المحرم، والأمراء قد كثر تحاسدهم وتنافسوا بكثرة سعادتهم، فلما وصلوا غزة أقبلوا على الصيد والاجتماع والنزه. فاشتد حنق الطائفة الأويراتية الذين قدموا في أيام العادل كتبغا، من أجل قتلى من قتل من أمرائهم في أيام المنصور لاجين، ومن خلع كتبغا وإخراجه إلى صرخد، ومن استبداد البرجية بالأمور. وعزموا على إثارة الفتنة، وصاروا إلى الأمير علاء الدين قطلو برس العادلي وأقاموه كبيراً لهم، واتفقوا على أن برنطاي أحد المماليك السلطانية وألوص أحد كبراء الأويراتية يهجم كل منهما على الأميرين بيبرس وسلار ويقتله، ويعيدون دولة كتبغا.
فلما رحل السلطان بالعسكر من غزة ونزل تل العجول، ركب الأمراء للخدمة على العادة، وكان بيبرس يتأدب مع سلار ويركب بين يديه، فعندما ترجل الأمراء و لم يبق على فرسه سوى بيبرس وسلار، شهر برنطاى سيفه - وكان ماشيًا في ركاب بيبرس - وضربه، فوقعت الضربة على كفل الفرس فحلت ظهره، وضرب برنطاي ثانيًا، فوقعت الضربة على الكلفة فقطعتها وجرحت الوجه، فتبادرته السيوف حتى قتل.
ووقعت الصرخة في العسكر فركب الجميع، وقصد الأويراتية الدهليز السلطاني يريدون الهجمة على السلطان حتى صاروا في داخله، وقد ركب الأمراء في طلبهم، فركب الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار والمماليك السلطانية وفي ظنهم أن القصد قتل السلطان، ونشروا العصائب ووقفوا. وعاد بيبرس وسلار إلى مخيمهما، وأمرا الحجاب والنقباء بجمع العسكر إلى مخيم الأمير سلار النائب، فكان العسكر إذا أتوا ورأوا سنجق السلطان وعصائبه منشورة مضوا إليه وتركوا سلار، فيردهم الحجاب فلا يلتفت منهم أحد، ولا يعود حتى يقف تحت السنجق السلطاني.
فبعث سلار إلى أمير جاندار يقول: ما هذه الفتنة التي تريدون إثارتها في هذا الوقت ونحن على لقاء العدو وقد بلغنا أن الأويراتية قد وافقت المماليك السلطانية على قتلنا، وكان هذا برأيك ورأى السلطان، وقد دفع الله عنا. فإن كان الأمراء كذلك فنحن مماليك السلطان ومماليك أبيه الشهيد، ونحن نكون فداء المسلمين، وان لم يكن الأمر كذلك فابعثوا الينا غرماءنا.
فلما سمع السلطان هذا بكى، وحلف إنه لم يكن عنده علم. مما ذكر، وحلف أمير جاندار أيضاً وقال: ولكن لما وقع ما وقع ظنوا إنهم يريدون قتل السلطان وإقامة غيره ثم قال أمير جاندار: إنما يريد الأمراء بهذا الفول أن تقبض على مماليك السلطان طائفة بعد أخرى حتى تتمكن من مرادها، وان كان السلطان ومماليكه قد شوشوا على الأمراء فأنا أخذ السلطان ومماليكه وأسير إلى الكرك .

فلما بلغ الأمراء ذلك عزموا أن يركبوا على أمير جاندار، ثم توقفوا حتى بعثوا إلى الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الأتابك. وكان على الجاليش وبينهما مرحلة، فلم يدخل في شيء من ذلك، وأوصى ألا يتعرض للسلطان بسوء. فرجع سلار إلى المداراة، وركب حتى أصلح بين أمير جندار والأمراء البرجية، وقبلوا جميعهم الأرض للسلطان وقبضوا على الأويراتية وعاقبوهم، فاقروا. مما عزموا عليه من قتل بيبرس وسلار وإعادة دولة العادل كتبغا، فزال ما كان في أنفس البرجية من موافقة السلطان وأمير جاندار للأويراتية.
وشنق من الغد نحو الخمسين من الأويراتية بثيابهم وكلفاتهم، ونودي عليهم: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتن بين المسلمين ويتجاسر على الملوك . وطلب الأمير قطلوبرس فلم يوجد، وكان قد فر إلى غزة واختفي بها، فنهبت أثقاله كلها، وأنزل بالمصلوبين في اليوم الرابع فأخذت البرجية تغرى بيبرس، وتوحش بينه وبين سلار بأنه متفق عليه مع مماليك السلطان. فلما بلغ ذلك سلار تلطف مع بيبرس، واتفقا على إرسال طائفة من المماليك السلطانية إلى الكرك فلم يخالفهما السلطان، فأخذا منهم عدة ممن اتهماهم. بموافقة الأويراتية وحبساهم بالكرك.
ثم رحل السلطان بعد عدة أيام إلى قرتية، ورسم بالإقامة عليها حتى يعود الرسل بأخبار العدو، وبعثوا القصاد للكشف عن ذلك، وفي هذه المنزلة سالت الأودية، واتلف السيل كثيراً من أثقال العسكر، وافتقر عدة منهم لذهاب جمالهم وأثقالهم، وتشاءموا به وتطيروا منه، فكان الأمر كذلك. وعقب هذا السيل خرج جراد سد الأفق بحيث حجز الأبصار عن السماء فزاد تطير العسكر، وخشوا أن يكون منذراً بقدوم العدو وكسرة العسكر، وتحدث بذلك كل أحد حتى السوقة. ثم وقع الرحيل في أول ربيع الأول إلى جهة دمشق، فدخلها السلطان يوم الجمعة ثامنه.
ففي يوم السبت تاسعه: قدم الجفل من حلب وغيرها إلى دمشق، وقدم البريد من حلب وغيرها بنزول غازان على الفرات، وإنه في عسكر عظيم إلى الغاية، فأنفق في العساكر لكل ما بين ديناراً وأربعين ديناراً وقد كثر الإرجاف وتتابع وصول الناس في الجفلة، وشحت أنفس الجند بإخراج النفقة في شراء ما يحتاجون إليه لغلاء كل ما يباع من ذلك، ولكثرة ما أحرى الله على الألسنة بكسرة العسكر، ولتمكن بعض الجند في الأمراء البرجية.
وقدم البريد من حلب. بمسير جاليش غازان من الفرات وعبوره، وأن أهل الضياع قد جفلوا عن آخرهم، وقدم الأمير أسندمر كرجي متولي فتوحات سيس بعدما أخذ حاصل تل حمدون، وأحضر معه صاحب سيس. فخرج عسكر دمشق، وخرج السلطان بعده بعساكر مصر وقت الزوال من يوم الأحد سابع عشره، وسار إلى حمص فنزل عليها، وبعث العربان لكشف الأخبار. وقد نزل التتر بالقرب من سلمية ، ولهج كل أحد بأن العسكر مسكور، وأقام العسكر لابس السلاح ثلاثة أيام، وقد غلت الأسعار.
فلما كان سحر يوم الأربعاء ثامن عشريه: ركب السلطان بالعساكر، وجد في السير إلى الرابعة من النهار، فظهرت طوالع التتر، فنودي عند ذلك في العساكر: أن ارموا الرماح واعتمدوا على ضرب السيف والدبوس، فألقوا رماحهم كلهم على الأرض. ومشوا ساعة، ورتبوا العساكر بمجمع المروج - ويعرف اليوم بوادي الخزندار - وعدتهم بضعة وعشرون ألف فارس، والتتار في نحو مائة ألف. فوقف الأمير عيسى بن مهنا وسائر العربان رأس الميمنة، ويليهم الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بعساكر حلب وحماة، ووقف في الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح والأمير أقش قتال السبع وعلم الدين سنجر وطغريل الإيغاني والحاج كرت نائب طرابلس، في عدة من الأمراء، وكان في القلب بيبرس وسلار وبرلغي وقطلوبك الحاجب وأيبك الخازندار، في عدة من الأمراء، وقد جعلوا جناحهم المماليك السلطانية، ووقف حسام الدين لاجين الأستادار مع السلطان على بعد من اللقاء حتى لا يعرف فيقصد، وقدموا خمسمائة مملوك من الزراقين في مقدمة العساكر.
وفي وقت الترتيب عرض للأمير بيبرس الجاشنكير حدة وإسهال مفرط لم يتمكن منه أن يثبت على الفرس، فركب المحفة واعتزل القتال، وأخذ الأمير سلار النائب معه الحجاب والأمراء والفقهاء، ودار على العساكر كلها والفقهاء تعظ الناس وتقوى عزائمهم على الثبات حتى كثر البكاء.

هذا وغازان ثابت لم يتحرك، وقد تقدم إلى أصحابه كلهم ألا يتحرك أحد منهم حتى يحمل هو بنفسه، فيتحركون عند ذلك يداً واحدة، فبادر عساكر المسلمين للحركة، وأشعل الزراقون النفط ، وحملوا على غازان فلم يتحرك، وكان في الظن أن غازان أيضاً يتحرك إلى لقائهم. فمرت خيول العساكر بقوة شوطها في العدو، ثم لما طال المدى قصرت في عدوها، وخمد نار النفط. فحمل عند ذك غازان. بمن معه حملة واحدة حتى اختلط بالعساكر، بعدما قدم عشرة آلاف مشاة يرمون بالنشاب حتى أصابت سهامهم خيولاً كثيرة، وألقى الفرسان عنها. وكثرت نكاية العرب بالسهام، فولى العرب أولاً وتبعهم جيش حلب وحماة، فتمت هزيمة الميمنة من ميسرة غازان. وصدمت الميسرة ميمنة غازان صدمة فرقت جمعها وهزمتها عن آخرها، وقتلت منها نحو الخمسة آلاف، وكتب بذلك للسلطان - وهو معتزل في طائفة مع حسام الأستادار - فسر بذلك.
وكاد غازان أن يولي الإدبار، واستدعى قبجق نائب دمشق فشجعه قبجق وثبته حتى تلاحق به من انهزم وعاد له أمره، فحمل حملة واحدة على القلب فلم يثبت له، وولى سلار وبكتمر الجوكندار وبرلغى وسائر الأمراء البرجية، وركب غازان أقفيتهم حتى كانت سهامه تصيب خوذة الفارس فتقدح ناراً.
هذا والسلطان معتزل ومعه الحسام، وهو يبكى ويبتهل ويقول: يا رب لا تجعلني كعباً نحساً على المسلمين، ويهم أن يفر مع القوم، فيمنعه الحسام ويقول: ما هي كسرة، لكن المسلمين قد تأخروا، ولم يبق معه من المماليك غير اثنى عشر مملوكاً.
وعادت الميسرة الإسلامية بعد كسرة ميمنة غازان إلى حمص بعد العصر ومعهم الغنائم، فإذا الأمراء البرجية أهل القلب قد انكسروا والمغل في أعقابهم فبهتوا. وخشى غازان من الكمناء فكف عن اتباع العساكر، وكان ذلك من لطف الله بهم، فلو قد مر في طلبهم لهلكوا من عند آخرهم.
ووصل المنهزمون إلى حمص وقت الغروب، وقد غنم التتر سائر ما كان معهم مما لا يدخل تحت الحصر، وألقوا عن أنفسهم السلاح طلبا للنجاة، فاشتد صراخ أهل حمص، وصاحوا بالعسكر: الله الله في المسلمين وقد كلت الخيول، فمروا إلى بعلبك ونزلوا عليها بكرة يوم الجمعة وقد غلقت أبوابها، فامتاروا منها ومروا في سيرهم إلى دمشق فدخلوها يوم السبت أول ربيع الآخر، وقد توجه أكثرهم على الساحل إلى مصر. فما هو إلا أن دخلوا دمشق حتى وقع الصارخ بمجيء غازان، فخرجوا بعد نحو ساعة من قدومهم وتركوا سائر ما لهم، وجعل أهل دمشق فتشتتوا في سائر الجهات، ومر بالعسكر من العشير والعربان أهوال، وأخذوا أكثر ما معهم نهباً وسرقة.
وقتل في هذه الواقعة الأمير كرت نائب طرابلس، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير أيدمر الحلبي، وبلبان التقوى من أمراء طرابلس، وبيبرس الغتمي نائب قلعة المرقب، وأزبك نائب بلاطنس، وبيليك الطيار من أمراء دمشق، ونوكاي التتري، وأقش كرجي الحاجب، وأقش الطروحي حاجب دمشق، ونحو الألف من الأجناد والمماليك وعدم قاضي القضاة حسام الدين بن أحمد الرومي الحنفي قاضي الحنفية بدمشق، وعماد الدين إسماعيل بن احمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الموقع. وقتل من التتار نحو أربعة عشر ألفا.
وأما غازان فإنه نزل بعد هزيمة العسكر إلى حمص - وقت عشاء الآخرة - و بها الخزائن السلطانية وأثقال العسكر، فأخذها من الأمير ناصر الدين محمد بن الصارم، وسار إلى دمشق بعدما امتلأت أيدي أصحابه بأموال جليلة القدر.
هذا وأهل دمشق قد وقع بينهم في وقت الظهر من يوم السبت أول ربيع الآخر ضجة عظيمة، فخرجت النساء باديات الوجوه، وترك الناس حوانيتهم وأموالهم، وخرجوا من المدينة. فمات من الزحام في الأبواب خلق كثير، وانتش الناس برءوس الجبال وفي القرى، وتوجه كثير منهم إلى جهة مصر.
وفي ليلة الأحد: خرج أرباب السجون، وامتدت الأيدي لعدم من يحمى البلد.

وأصبح من بقى بالمدينة وقد اجتمعوا بمشهد على من الجامع الأموي وبعثوا إلى غازان يسألون الأمان لأهل البلد، فتوجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب فخر الدين، بن الشيرجي وعز الدين حمزة بن القلانسي في جمع كبير من الأعيان والفقهاء والقراء إلى غازان في يوم الإثنين ثالثه بعد الظهر، فلقوه بالنبك وهو سائر، فنزلوا عن دوابهم ومنهم من قبل له الأرض. فوقف غازان بفرسه لهم، ونزل جماعة من التتار عن خيولهم، ووقف الترجمان وتكلم بينهم وبين غازان، فسألوا الأمان لأهل دمشق، وقدموا له مأكل كانت معهم فلم يلتفت إليها، وقال: قد بعثت إليكم الأمان، وصرفهم، فعادوا إلى المدينة بعد العصر من الجمعة سابع الشهر، ولم يخطب بها في هذه الجمعة لأحد من الملوك.
وكان قد وصل إلى دمشق في يوم الخميس سادس الشهر أربعة من التتار من جهة غازان، ومعهم الشريف القمي، وكان قد توجه قبل توجه الجماعة هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان، فعاد وبيده أمان لأهل دمشق. ثم قدم في يوم الجمعة سابعه بعد صلاة الجمعة الأمير إسماعيل التتري بجماعة من التتر، ودخل المدينة يوم السبت ليقرأ الفرمان بالجامع فاجتمع الناس، وقرأ بعض العجم الواصلين مع الأمير إسماعيل الفرمان بتأمين الكافة، وعاد إسماعيل إلى منزله بعدما صلى العصر.
وفي يوم الأحد: أخذ أهل دمشق في جمع الخيل والبغال والأموال، فنزل غازان على دمشق يوم الإثنين عاشره، وعاثت عساكره في الغوطة وظاهر المدينة تهب وتفسد، ونزل قبجق وبكتمر السلاح دار. بمن معهما في الميدان الأخضر، وامتدت التتر إلى القدس والكرك تنهب وتأسر.
وامتنع الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف باسم أرجواش بقلعة دمشق، وسب قبجق وبكتمر سباً قبيحاً، وكانا قد تقدما إليه وأشارا عليه بالتسليم.
وفي بكرة يوم الثلاثاء حادي عشره: تقدم الأمير إسماعيل التتري إلى القضاة والأعيان بالحديث مع أرجواش في تسليم القلعة، وإنه إن امتنع نهب المدينة ووضع السيف في الكافة. فاجتمع عالم كبير وبعثوا إلى أرجواش في ذلك فلم يجب، وتكررت الرسل بينهم وبينه إلى أن سبهم وجبههم، وقال: قد وقعت إلى بطاقة بأن السلطان قد جمع الجيوش بغزة، وهو واصل عن قريب، فانصرفوا عنه.
وفي ثاني عشره: دخل الأمير قبجق إلى المدينة، وبعث إلى أرجواش في التسليم فلم يجب.
وفيه كتبت عدة فرمانات إلى أرجواش من قبجق، ومن مقدم من مقدمي التتار ذكر إنه رضيع الملك غازان، ومن شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيباني وغيره، فلم يجب، وأخذ الناس في تحصين الدروب وقد اشتد خوفهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: خطب لغازان على منبر دمشق بألقابه، وهي: السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان، وصلى جماعة من المغل الجمعة. فلما انقضت الجمعة صعد الأمير قبجق والأمير إسماعيل سدة المؤذنين وقرئ على الناس تقليد قبجق بلاد الشام كلها وهى مدينة دمشق وحلب وحماة وحمص وسائر الأعمال، وجعل إليه ولاية القضاة والخطباء وغيرهم. فنثرت على الناس الدنانير والدراهم، وفرحوا بذلك فرحا كثيراً وجلس شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادية، وعتب الناس لعدم ترددهم إليه، ووعد بالدخول في صلح أمورهم مع غازان، وطلب الأموال وتعاظم إلى الغاية، واستخف بقبجق وقال: خمسمائة من قبجق ما يكونون في خاتمي. وصار نظام الدين يضع من قلعة دمشق ويستهين بها، ويقول: لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، و لم يكن فيه من أخلاق المشايخ ما يمدح به، بل أخذ نحو الثلاثين ألف دينار برطيلاً، حتى قال فيه علاء الدين بن مظفر بن الكندي الوداعي:
شيخ غازان ما خلا ... أحد من تجرده
وغدا الكل لابسي ... خرقة الفقر من يده
وفي خامس عشره: بدأ التتر في نهب الصالحية، حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل، ونبشوا على الخبايا، فظهر لهم منها شيء كثير حتى كأنهم كانوا يعلمون أماكنها فمضى ابن تيمية في جمع كبير إلى شيخ الشيوخ وشكوا ذلك، فخرج معهم إلى حي الصالحية في ثامن عشره ليتبين حقيقة الأمر ففر التتر لما رأوه، والتجأ أهل الصالحية إلى دمشق في أسوأ حال.

وكان سبب نهب الصالحية أن متملك سيس بذل فيها مالاً عظيماً، وكان قد " قصد خراب دمشق عوضاً عن بلاده، فتعصب الأمير قبجق ولم يمكنه من المدينة ورسم له بالصالحية، فتسلمها متملك سيس وأحرق المساجد والمدارس، وسبى وقتل وأخرب الصالحية، فبلغت عدة من قتل وأسر منها تسعة ألاف وتسعمائة نفس.
ولما فرغوا من الصالحية صار التتر إلى المزة وداريا، ونهبوهما وقتلوا جماعة من أهلهما فخرج ابن تيمية في يوم الخميس عشريه إلى غازان بتل راهط ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكنه الاجتماع به لشغله بالسكر، فاجتمع بالوزيرين سعد الدين ورشيد الدين، فقالا : لابد من المال، فانصرف. واشتد الطلب للمال على أهل دمشق، واستمر الحصار، وتعين نصب المنجنيق على القلعة بالجامع، وهيموا أخشابه ولم يبق إلا نصبه.
فبلغ ذلك أرجواش، فبعث طائفة هجمت على الجامع على حمية وأفسدت ما تهيأ فيه، فأقام التتر منجنيقاً آخر بالجامع واحترزوا عليه. واتخذوا الجامع حانة يزنون ويلوطون ويشربون الخمر فيه، ولم تقم به صلاة العشاء في بعض الليالي، ونهب التتر ما حول الجامع من السوق. فانتدب رجل من أهل القلعة لقتل المنجنيقي، ودخل الجامع والمنجنيقي في ترتيب المنجنيق والمغل حوله، فهجم عليه وضربه بسكين فقتله. وكان معه جماعة تفرقوا في المغل يريدون قتلهم ففروا، وخلص الرجل بمن معه إلى القلعة سالماً. وأخذ أرجواش في هدم ما حول القلعة من العمائر والبيوت، وصيروها دكا لئلا يستتر العدو في المنازلة بجدرانها، فأحرق ذلك كله وهدمه من باب النصر إلى باب الفرج، وشمل الحرق دار الحديث الأشرفية وعدة مدارس إلى العادلية، وأحرق أيضاً بظاهر البلد شيء كثير، وأحرق جامع التوبة بالعقيبة وعدة قصور وجواسق وبساتين.
واشتد الأمر في طلب المال، وغلت الأسعار حتى أبيع القمح بثلاثمائة وستين درهماً الغرارة، والشعير. بمائة وثمانين درهماً، والرطل الخبز بدرهمين، والرطل اللحم باثني عشر درهماً، والرطل الجبن باثني عشر درهماً، والرطل الزيت بستة دراهم، وكل أربع بيضات بدرهم، ووزعت الأموال، فقرر على سوق الخواصين مائة وثلاثون ألف درهم، وعلى سوق الرماحين مائة ألف درهم، وعلى سوق على مائة ألف درهم، وعلى سوق النحاسين ستون ألف درهم، وعلى قيسارية الشرب مائة ألف درهم، وعلى سوف الذهبيين ألف وخمسمائة دينار وقرر على أعيان البلد تكملة ثلاثمائة ألف دينار، جبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسم على كل طائفة جماعة من المغل، فضربوا الناس وعصروهم، وأذاقوهم الخزي والذل. وكثر مع ذلك القتل والنهب في ضواحي دمشق، حتى يقال إنه قتل من الجند والفلاحين والعامة نحو المائة ألف إنسان، فقال في ذلك كمال الدين ابن قاضي شهبة:
رمتنا صروف الدهر منها بسبع ... فما أحد منا من السبع سالم
غلاء، وغازان، وغزو، ى غارة ... وغدر، وإغبان، وغم ملازم
وقال الشيخ كمال الدين محمد بن على الزملكاني أيضاً:
لهفي على جلق يا سوء ما لقيت ... من كل علج له في كفره فن
بالطم والرم جاءوا لا عديد لهم ... فالجن بعضهم والحن والبن
و كان ما حمل لخزانة غازان وحده على يد وجيه الدين بن المنجا مبلغ ثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم، سوى السلاح والثياب والدواب والغلال، وسوى ما نهبته التتار، فإنه كان يخرج إليهم من باب شرقي كل يوم أربعمائة غرارة. ورسم غازان بأخذ الخيول والجمال، فأخرج من المدينة زيادة على عشرين ألف حيوان، وأخذ الأصيل بن النصير الطوسي، منجم غازان وناظر أوقاف التتار، عن أجرة النظر بدمشق مائتي ألف درهم، وأخذ الصفي السنجاري، الذي تولى الاستخراج لنفسه، مائة ألف درهم، وهذا سوى ما استخرج للأمير قبجق والأمراء المغل، وسوى المرتب لغازان في كل يوم.
فلما انتهت الجباية أقر غازان في نيابة دمشق الأمير قبجق، وفي نيابة حلب وحماة وحمص الأمير بكتمر السلاح دار، وفي نيابة صفد وطرابلس والساحل الأمير الألبكي. وجعل مع كل واحد عدة من المغل، وأقام مقدماً عليهم لحماية الشام قطلوشاه، وجرد عشرين ألفاً من عسكره مع أربعة من المغل بالأغوار.

ورحل غازان في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، وترك على دمشق نائبه قطلوشاه نازلاً بالقصر، وأخذ وزيره من أعيان دمشق بدر الدين محمد بن فضل الله، وعلاء الدين على بن شرف الدين محمد بن القلانسي، وشرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد سعيد بن الأثير.
فلما كان يوم السبت ثالث عشره: بعد رحيل غازان، أمر التتر الذين بدمشق أن يخرج من كان في المدرسة العادلية، فكان إذا خرج أحد أخذوا منه ما يقع اختيارهم عليه بعد التفتيش، ثم دخلوا فكسروا أبواب البيوت ونهبوا ما فيها، ووقع النهب في المدينة فأخذوا نحوا مما استخرج من الأموال أولاً، وأحرقوا كثيراً من الدور والمدارس: فاحترقت دار الحديث الأشرفية وما حولها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغرى وما جاورها والقيمرية وما جاورها إلى دار السعادة وإلى المارستان النوري، ومن المدرسة الدماغية إلى باب الفرج. وأخذوا ما حول القلعة، وركبوا الأسطحة ليرموا بالنشاب على القلعة، فأحرق عند ذلك أرجواش ما حول القلعة وخربه كما تقدم، واستمر قطلوشاه مقدم التتار يحاصر القلعة.
وفي تاسع عشره: قرئ بالجامع كتاب تولية قبجق نيابة الشام، وكتاب بتولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة.
وفي حادي عشريه: احترقت المدرسة العادلية.
فلما عدى غازان الفرات أشار قبجق وبكتمر السلاح دار على قطلوشاه أن يتحول عن دمشق إلى حلب بمن معه من التتار، وجمع قبجق له مالاً من الناس، وسار قطلوشاه في يوم الإثنين ثاني عشرى جمادى الأولى، وترك طائفة من التتر بدمشق، وخرج قبجق لوداعه، وعاد في خامس عشريه ونزل بالقصر.
الأبلق ونودي في سادس عشريه ألا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة ولا يغرر بنفسه، ثم نودي بخروج أهل الضياع إلى ضياعهم.
وفي تاسع عشريه: تحول الأمير قبجق إلى المدينة وأقام بها.
وفي يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة: نودي بخروج الناس إلى الصالحية وغيرها، فخرجوا إلى أماكنهم وفتحت الأسواق وأبواب المدينة.
وفي يوم الجمعة رابعه: دقت البشائر بالقلعة.
وفي سابعه: أمر قبجق جماعة من أصحابه، وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جرادة، فظهرت الخمور والفواحش، وضمنت في كل يوم بألف درهم.
هذا وقد نهبت التتار الأغوار حتى بلغوا إلى القدس، وعبروا غزة وقتلوا بجامعها خمسة عشر رجلاً وعادوا إلى دمشق وقد أسروا خلقاً كثيراً، فخرج إليهم ابن تيمية، ومازال يحدثهم حتى أفرجوا عن الأسرى، ورحلوا عن دمشق يريدون بلادهم في ثاني رجب.
وأما السلطان الملك الناصر، فإن العساكر تفرقت عنه وقت الهزيمة، و لم يبق معه إلا بعض خواصه والأميرين زين الدين قراجا وسيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور في نفر يسير. وبالغ بكتمر مدة السفر إلى مصر في خدمة السلطان بنفسه وماله، فكان يركبه وينزله، ويشد خيله ويشتري لها العليق ويسقيها، إلى غير ذلك من أنواع الخدمة، حتى قدم إلى قلعة الجبل يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر.
ثم ترادفت العساكر إلى الديار المصرية شيئاً بعد شيء في أسوأ حال، وكان ممن قدم معهم الملك العادل كتبغا، وصار يمشي في خدمة الأمير سلار نائب السلطة، ويجلس بين يديه ويرمل عليه إذا علم على المناشير وغيرها. واتفق مع ذلك إنه لما كان كتبغا سلطاناً نودي على جوسن للبيع، فبلغ ثمنه على بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، ثم عرض على كتبغا وقيل له إنه على بيبرس بكذا، فقال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي وأخذ الجوسن بثمنه. فلما زالت أيامه صار الجوسن لبيبرس بعد لاجين، فأراد نكاية كتبغا وأحضر الجوسن وكتبغا عنده، ولبسه وقال له: يا أمير إيش تقول؟ يصلح هذ لي؟ فلم يفطن كتبغا لما أراد، وقال له: والله يا أمير هذا كأنه فصل لك فنظر بيبرس إلى الأمراء يشير إليهم، فاشتد عجبهم من تغير الأحوال، فلم يشاهد أعجب من ذلك. وأقيم العزاء في الناس لمن فقد وكانوا خلقاً كثيراً.

ثم أخذ السلطان الناصر في التجهيز للمسير إلى الشام ثانياً، وشرع الأمراء في الاهتمام بأمر السفر، وجمعوا صناع السلاح للعمل. وأخذ الوزير في جمع الأموال للنفقة، وكتب إلى أعمال مصر بطلب الخيل والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري، فبلغ القوس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم إلى ألف درهم، وأخذت خيول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية، وطلبت الجمال والهجن والسلاح ونحو ذلك. فأبيع ما كان. بمائة بسبعمائة وبألف، ونودي بحضور الأجناد البطالين، فحضر خلق كثير من الصنائعية، ونزلوا أسماءهم في البطالين. وفرقت أخباز المفقودين، ورسم لكل من أمراء الألوف بعشرة من البطالين يقوم بأمرهم، ولكل من الطبلخاناه بخمسة، ولكل من العشراوات برجلين. واستخدم جماعة من الأمراء الغزاة المطوعة احتساباً.
واستدعى مجدي الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة ليأخذ فتوى الفقهاء بأخذ المال من الرعية للنفقة على العساكر، فأحضر فتوى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام للملك المظفر قطز، بأن يؤخذ من كل إنسان دينار، فرسم له سلار بأخذ خط الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، فأبي أن يكتب بذلك، فشق هذا على سلار واستدعاه وقد حضر عنده الأمراء، وشكا إليه قلة المال وأن الضرورة دعت إلى أخذ مال الرعية لأجل دفع العدو، وأراد منه أن يكتب على الفتوى بجواز ذلك فامتنع، فاحتج عليه ابن الخشاب بفتوى ابن عبد السلام، فقال: لم يكتب ابن عبد السلام للملك المظفر قطز حتى أحضر سائر الأمراء ما في ملكهم من ذهب وفضة وحلي نسائهم وأولادهم هم ورأه، وحلف كلاً منهم إنه لا يملك سوى هذا، كان ذلك غير كاف، فعند ذلك كتب بأخذ الدينار من كل واحد. وأما الآن فيبلغني أن كلاً من الأمراء له مال جزيل، وفيهم من يجهز بناته بالجواهر واللآلئ، ويعمل الإناء الذي يستنجي منه في الخلاء من فضة، ويرصع مداس زوجته بأصناف الجواهر، وقام عنهم فطلب ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي القاهرة، ورسم له بالنظر في أموال التجار ومياسير الناس، وأخذ ما يقدر عليه من كل منهم بحسب حاله.
فما أهل جمادى الأولى حتى استجد عسكر كبير، وغصت القاهرة ومصر وما بينهما بكثرة من ورد من البلاد الشامية حتى ضاقت بهم المساكن، ونزلوا بالقرافة الخمور وشق ظروفها على يد ابن تيمية.
وعندما تكملت النفقة على العساكر نودي بالقاهرة ومصر بالسفر، ومن تأخر شنق، ورسم أن يكون سعر الدينار عشرين درهماً. وخرج السلطان في تاسع رجب فسار إلى الصالحية، وقدمت إليه كتب الأمير قبجق و بكتمر السلاح دار و الألبكي بقدومهم صحبة عز الدين حمزة بن القلانسي والشريف ابن عدنان، فأقام السلطان بالصالحية.
وسار الأميران سلار نائب السلطنة و بيبرس الجاشنكير الأستادار بالعساكر إلى دمشق في ثاني عشرى رجب، فلقوا الأمير قبجق ومن معه بين غزة وعقلان، فترجل كل منهم لصاحبه وتباركوا وأنزلوا، ورتب لهم ما يليق بهم، وأمروا بالتوجه إلى السلطان، وسار الأمراء بالعساكر إلى دمشق. فقدم قبجق بمن معه إلى الصالحية في عاشر شعبان، فركب السلطان إلى لقائهم، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم، وأنزلهم، ثم سار بهم إلى قلعة الجبل فقدمها في رابع عشره.
ودخل الأمير جمال الدين أقش الأفرم إلى دمشق في يوم السبت عاشر شعبان.
وفي حادي عشره: قدم إليها الأمير قرا سنقر المنصوري نائب حلب بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن بلبان الطباخي، واستقر الطباخي من أمراء مصر بالخدمة السلطانية على إقطاع أقسنقر كرتاي بعد موته. ودخل الأمير أسندمر كرجي نائب الفتوحات الطرابلسية بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن الأمير قطلوبك.
وفي ثاني عشره: قدمت ميسرة العساكر المصرية، ومقدمها الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح.
وفي ثالث عشره: قدمت ميمنة العساكر المصرية، مع الأمير حسام الدين لاجين أستادار.
وفي رابع عشره: قدم الأمير سلار النائب والمماليك السلطانية، والملك العاد ل كتبغا - وقد استقر في نيابة حماة عوضاً عن قرا سنقر المنتقل لنيابة حلب - والأمير كراي المنصوري المستقر في نيابة صفد.
ونزل الأمير سلار بالميدان، وجلس في دار العدل بحضور الأمراء والقضاة، وخلع على الصاحب عز الدين حمزة بن القلانسي.

وفي خامس عشره: ولى سلار قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة قضاء دمشق، عوضاً عن إمام الدين عمر بن سعد الدين الكرجي القزويني القونوي بعد وفاته.
وفي حادي عشريه: ولى قاضي القضاة شمس الدين محمد بن صفي الدين الحريري قضاء الحنفية، وولى الأمير سيف الدين أقبجا المنصوري شد الدواوين، وولي عز الدين أيبك النجيبي بر دمشق، وولي أمين الدين يوسف الرومي، إمام المنصور لاجين، حسبة دمشق، وولي تاج الدين، بن الشيرازي نظر الدواوين.
وسير سلار عسكراً إلى حلب، فطرقها على غفلة، وأوقع. بمن فيها من أصحاب غازان وقتلهم، فلم يفلت منهم إلا القليل، ولحقوا بغازان وعرفوه غدر قبجق بهم.
وتوجه الملك العادل كتبغا إلى حماة، بعدما كان يركب في دمشق بخدمة الأمير سلار، ويجلس بين يديه كما كان يفعل بالقاهرة، فشاهد الناس من ذلك ما فيه أعظم عبرة، وقدم كتبغا حماة في رابع عشرى شعبان، واستقر كل نائب في مملكته.
وكان السعر بدمشق غالياً فانحطت الغرارة القمح من ثلاثمائة درهم إلى مائة وخمسين، وأبيع اللحم الضأن بدرهمين الرطل الدمشقي. وتتبع الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام من كان بدمشق من المفسدين، الذين تولوا استخراج المال في أيام غازان من الناس، والذين دلوا على عورات الناس. فسمر بعضهم، وشنق بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم، ومن المفسدين من قطع لسانه وكحل فمات من يومه.
وخلع سلار على الأمير أرجواش نائب القلعة، وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم وطلبت مشايخ قيس ويمن من العشير والعربان، وألزموا بإحضار ما أخذ من العسكر وأهل البلاد في توجههم إلى مصر وقت الجفلة.
وكان غازان لما أخذ البلاد وعاد إلى الشرق طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون، وأخذوا تل حمدون وغيرها.
فلما استقرت الأحوال ببلاد الشام خرج الأميران بيبرس و سلار بعسكر مصر من دمشق يوم السبت ثامن شهر رمضان يريدان مصر، فوصلا قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثالث شوال بعدما ركب السلطان إلى لقائهم، وكان يوما مشهودًا.
وعندما استقر الأمراء، سأل الأمير قبجق أن ينعم عليه بنيابة الشوبك، فأجيب إلى ذلك وخلع عليه. وأنعم على الأمير بكتمر السلاح دار بإمرة مائة بديار مصر، وعلى الأمير فارس الدين ألبكي الساقي بإمرة مائة بدمشق.
وفي عشرى شوال: توجه الأمير أقش الأفرم من دمشق لغزو الدرزية أهل جبال كسروان، فإن ضررهم اشتد، ونال العسكر عند إنهزامها من غازان إلى مصر منهم شدائد ولقيه نائب صفد بعسكره، ونائب حماة ونائب حمص ونائب طرابلس بعساكرهم. فاستعدوا لقتالهم، وامتنعوا بجبلهم وهو صعب المرتقى، وصاروا في نحو اثني عشر آلف رام. فزحفت العساكر السلطانية عليهم، فلم تطقهم وجرح كثير منهم، فافترقت العساكر عليهم من عدة جهات، وقاتلوهم ستة أيام قتالًا شديداً إلى الغاية، فلم يثبت أهل الجبال وانهزموا. وصعد العسكر الجبل بعدما قتل منهم وأسر خلقا كثيراً، ووضع السيف فيهم، فالقوا السلاح ونادوا الأمان، فكفوا عن قتالهم. واستدعوا مشايخهم وألزموهم بإحضار جميع ما أخذ من العسكر وقت الهزيمة، فأحضروا من السلاح والقماش شيئاً كثيراً، وحلفوا إنهم لم يخفوا شيئاً فقرر عليهم الأمير أقش الأفرم مبلغ مائة ألف درهم جبوها، وأخذ عدة من مشايخهم وأكابرهم، وعاد إلى دمشق يوم الأحد ثالث ذي القعدة، وبعث البريد بالخبر إلى السلطان.
وألزم الأمير أقش الأفرم أهل دمشق بتعليق السلاح في الحوانيت وملازمة الرمي بالنشاب، ونودي بذلك. وألزم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فقهاء دمشق بذلك، وجلس لعرض الناس في حادي عشريه، وعرض الكافة طائفة بعد طائفة من الأشراف والفقهاء وأهل الأسواق، وقدم على أهل الأسواق رجالاً يلي كل رجل سوقاً. وتتبع الناس بديار بكر التتر، فقتلوا منهم خلقا كثيراً.
ولم تخرج هذه السنة إلا وأهل دمشق في فقر مدقع، وفي ذلك يقول علاء الدين على ابن مظفر الوداعي:
أما دمشق فأهلها قد أصب ... بكرية جعلوا التسنن مذهبا
سراً وجهراً أنفقوا أموالهم ... حتى تجلل كل شخص بالعبا
ما لبست الصوف من عبث ... لا ولا الخلقان مجانا
إنه زي لمن هو من ... فقراء الشيخ غازنا

وذهب لأهل مصر مال كثير في حركة غازان، إلا إنهم لسعة أحوالهم لم يبالوا بذلك.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرعلاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز الشافعي، درس بالكهارية والقطبية من القاهرة، وولي الحسبة، وكان أديباً فصيحاً جميلا فيه مكارم ومروءة، لطيف المزاج بساما شهمًا جزلا، حج ودخل اليمن مراراً، ومن شعره في مليح سبح في النيل وتلطخ بالتراب:
ومترب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا
فكأنه بدر عليه سحابة ... والتراب ليل من سناه أقمرا
وقال:
في السمر معان لاترى في البيض ... تالله لقد نصحت في تعريض
ما الشهد إذا أطعمته كاللبن ... يكفي فطنا محاسن التعريض
ومات شهاب الدين احمد بن الفرج بن أحمد اللخمي الإشبيلي، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة. وتفقه على ابن عبد السلام بدمشق، وكان شافعياً، وله قصيدة في علم الحديث.
ومات الأمير صارم الدين أزبك نائب قلعة بلاطنس، واستشهد في نوبة غازان على حمص، في ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير أقش كرجي المطروحي الحاجب.
ومات أقسنقر كرتاي أحد أمراء الألوف.
ومات الأمير بلبان التقوى، أحد أمراء طرابلس.
وتوفي كاتب السر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن التاج أحمد بن سعيد بن محمد ابن الأثير الحلبي، بعدما صرف.
ومات الفقير المعتقد بدر الدين أبو على الحسن بن عضد الدولة أبي الحسن على أخي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود في شعبان، ومولده بمرسية سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. كان أبوه نائب السلطنة بها عن المتوكل، فتزهد هو وحج وسكن دمشق، وكانت له أحوال عجيبة.
ومات بيبرس الغتمي، نائب حصن المرقب.
ومات بكتاش المنصوري الطيار، أحد أمراء دمشق.
ومات ناصر الدين محمد بن أيدمر الحلبي، أحد أمراء مصر.
ومات نوكاي بن بيان التتري أبو خوند منكبك امرأة الصالح على بن قلاوون، وأبو خوند أردكين امرأة الأشرف خليل.
ومات علاء الدين على ابن الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبري.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الحلي. وهؤلاء استشهدوا بوقعة حمص، ما بين قتيل في المعركة ومجروح مات من جراحته بعد ذلك.
ومات الطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجلالي، . بمنزلة السوادة في تاسع ربيع الآخر، فدفن بقطيا، ثم نقل إلى تربته بالقرافة، وكان خيراً ديناً.
ومات الأمير سيف الدين جاغان الحسامي، بأرض البلقان.
ومات الأمير علم الدين سنجر الدواداري بحصن الأكراد، في ثالث رجب.
وتوفي قاضي القضاة إمام الدين عمر بن سعد الدين عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي، قاضي قضاة دمشق، بالقاهرة في يوم الثلاثاء خامس عشرى ربيع الآخر.
ومات تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أبي عبد الله محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكري التيمي القرشي النويري، في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، وهو والد الشهاب أحمد النويري المؤرخ الكاتب.
ومات شمس الدين محمد بن صدر الدين سليمان بن أبي العز وهيب الدمشقي الحنفي، بدمشق في.
ومات حسام الدين أبو الفضائل حسن بن تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن حسن بن أبو شر وان الرومي، قاضي القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر ودمشق، فقد من الصف على حمص يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول، فلم يعرف له خبر، وعمره نحو السبعين سنة.
ومات الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي مشنوقاً بدمشق، ظفر به بعد هروبه.
ومات شرف الدين أبو محمد الحسن بن على بن عيسى بن الحسن اللخمي، عرف بابن الصيرفي، في خامس عشرى ذي الحجة، وهو في عشر التسعين.
سنة سبعمائة

أهلت هذه السنة وقد ورد الخبر بحركة غازان إلى بلاد الشام، فوقع الاهتمام بالسفر. واستدعى السلطان الوزير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير ناصر الدين محمد ابن الشيخي والى القاهرة وأمرا باستخراج الأموال من الناس، وكتب إلى الشام بذلك. فشرعا في الاستخراج، وألزم أرباب العقارات، والأغنياء. بمال تقرر على كل منهم، وجلسا بدار العدل تحت القلعة حيث الطبلخاناه الآن، والناس تحمل المال أولاً بأول، حتى أخذا مائة ألف دينار جبيت من القاهرة ومصر والوجهين القبلي والبحري، فنزل بالناس ضرر عظيم. وطلب من شهود القاهرة ومصر الجالسين بالحوانيت مبلغ أربعين دينارًا من كل عائد، وعشرين ديناراً من كل شاهد، فقام في أمرهم قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي حتى أعفوا منه. وانطلقت الألسن بالشام ومصر في حق أهل الدولة، واستخف العامة بالأجناد، وأكثروا من قولهم للجند: بالأمس كنتم هاربين واليوم تريدون أخذ أموالنا، فإن أجابهم الجندي قالوا له: لم لا كانت هذه الحرمة في المغل الذين فعلوا بكم كيت وكيت، وهربتم منهم فلما فحش أمر العامة في تجرئهم على الأجناد، نودي في القاهرة ومصر: أي عامي تكلم مع جندي كانت روحه وماله للسلطان.
واستخرج من دمشق أجرة الأملاك والأوقاف لأربعة أشهر، فأخذ ذلك من سائر ما في المدينة وضواحيها، وأخذ من الضياع عن كل مدى ستة دراهم وثلثا درهم، والمد أربعون ذراعاً في مثلها، وتكسيره ألف وستمائة ذراع بذراع العمل، وطلب من الفلاحين نظير مغل سنة ثمان وتسعين، وأخذ من الأغنياء ثلث أموالهم.
فنزلت بالناس شدائد، وقطعوا الأشجار المثمرة وباعوها حطبًا، حتى أبيع القنطار الحطب الدمشقي بثلاثة دراهم، يخرج منها في أجرة قطعه درهم ونصف. فخربت الغوطة من ذلك، وفر كثير من الناس إلى مصر.
فلما جبيت الأموال بدمشق استخدم السلطان عدة ثمانمائة من التركمان والأكراد، ودفع لكل واحد ستمائة درهم، فهرب أكثرهم لما علموا بوصول التتار الفرات، وذهب المال ولم يجد نفعاً.
واستخدم السلطان بمصر عدة كبيرة من أهل الصنائع ونحوهم. ونزل الأمراء في الخيم. بميدان القبق لعرض العسكر بخيولهم ورماحهم حتى تعتبر أحوالهم، وعرضوا في كل يوم عشرة مقدمين من الحلقة. بمضافيهم فقطعوا يسيرا منهم، ثم أبقوا الجميع لما داجى عليهم المقدمون في أمر الجند حتى اقروا من هو دخيل فيهم. وأنهوا العرض في عشرين يوماً، ورميت الإقامات. وهذا وقد امتلأت أرض مصر بالجفلى من البلاد الشامية، ورخصت الأسعار عند قدومهم حتى أبيع القمح بعد عشرين درهماً الإردب بخمسة عشر.
وخرج السلطان من القلعة يوم السبت ثالث عشر صفر إلى الريدانية خارج القاهرة، وتلاحقت به الأمراء والعساكر، فسار إلى غزة وأقام بها يومين.
فورد الخبر. بمسير غازان بعد عبوره من الفرات إلى نحو أنطاكية، وقد جفل الناس بين يديه. وخلت بلاد حلب وفر قرا سنقر نائبها إلى حماة، وبرز كتبغا نائب حماة ظاهرها في ثاني عشرى ربيع الأول، ووصل إليهم عساكر مصر والشام فأقاموا خارج حماة. وأمر السلطان الجيوش بالمسير من غزة، فوقع الرحيل إلى العوجاء . وأصاب العسكر فيها شدائد من الأمطار التي توالت أحداً وأربعين يوماً حتى عدم فيها الواصل واشتد الغلاء. وأضعف البرد الدواب والغلمان، وبلغ الحمل التبن إلى أربعين درهما والعليقة الشعير ثلاثة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم، واللحم كل رطل بثلاثة دراهم. وعقب المطر سيل عظيم أتلف معظم الأثقال، ومات جماعة من الغلمان وأربعة من الجند لشدة البرد. ثم وقع الرحيل في الأوحال العظيمة.
فقدم البريد من حلب بأن غازان توجه من جبال أنطاكية إلى جبال السماق وأنه عاد على قرون حماة وشيزر، فنهب وسبى عظيماً، وأخذ مالاً كبيراً من المواشي وغيرها، وأنه قصد التوجه إلى دمشق، فأرسل الله عليه ثلوجاً وأمطاراً لم يعهد مثلها، ووقع في خيول عساكره وجمالهم الموتان حتى كانت عدة جشار غازان اثنى عشر ألف فرس فلم يبق منها إلا نحو الألفي فرس، وبقي معظم عساكره بغير خيول، فرجع وأكثرهم مرتدفون بعضهم بعضا، وأن غازان خاض الفرات في حادي عشر جمادى الأولى، فسر الناس سروراً عظيماً.
وسار الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار بمضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوبا

بمضافيه، إلى حلب في ألفي فارس، لتكون السمعة وتطمئن أهل البلاد، وعاد السلطان ببقية العساكر إلى مصر سلخ ربيع الآخر. واستقر الأمير سيف الذين بدخاص في نيابة صفد، عوضاً عن كراي لاستعفائه منها، وأنعم على كراي بإقطاع الأمير بلبان الطباخي بعد موته، واستقر بلبان الجوكندار حاجب دمشق شاد الدواوين بها. فقدم العسكر إلى دمشق في سابع جمادى الأولى، وقدم السلطان قلعة الجبل في يوم الإثنين حادي عشر.
وكان الناس لما بلغهم بدمشق عود السلطان إلى مصر اشتد خوفهم، وخرج معظمهم يريدون القاهرة، ونودي بدمشق في تاسع جمادى الأولى: من أقام بدمشق بعد هدا النداء فدمه في عنقه، ومن عجز عن السفر فليتحصن بقلعه دمشق، فخرج بقية الناس على وجوههم. وغلت الأسعار بدمشق حتى أبيعت الغرارة القمح بثلاثمائة درهم، والرطل اللحم بتسعة دراهم، فلما خرج الجفل نزلت الغرارة إلى مائتي درهم.
وفي جمادى الآخرة: كثر الإرجاف بعود التتر، وقد خلت البلاد الشامية من أهلها ونزحوا إلى مصر.
وفي رجب: كانت وقعة أهل الذمة: وهى أنهم كانوا قد تزايد ترفهم بالقاهرة ومصر، وتفننوا في ركوب الخيل المسومة والبغلات الرائعة بالحلي الفاخرة، ولبسوا الثياب السرية، وولوا الأعمال الجليلة. فاتفق قدوم وزير ملك المغرب يريد الحج، واجتمع بالسلطان والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجل راكب فرساً وحوله عدة من الناس مشاة في ركابه، يتضرعون له ويسألونه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم لا يعبأ بهم بل ينهرهم ويصيح في غلمانه بطردهم. فقيل للمغربي أن هذا الراكب نصراني فشق عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاء كثيراً، وشنع في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النصر والنصارى تركب عندكم الخيول وتلبس العمائم البيض، وتذل المسلمين وتشبههم في خدمتكم وأطال القول في الإنكار وما يلزم ولاة الأمور من إهانة أهل الذمة وتغيير زيهم. فأثر كلامه في نفوس الأمراء، فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، واستدعيت القضاة والفقهاء، وطلب بطرك النصارى، وبرز مرسوم السلطان بحمل أهل الذمة على ما يقتضيه الشرع المحمدي. فاجتمع القضاة بالمدرسة الصالحية بين القصرين، وندب لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطلب بطرك النصارى، وجماعة من أساقفتهم وأكابر قسيسيهم وأعيان ملتهم، وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عقد الذمة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب. وطال الكلام معهم إلى أن استقر الحال على أن النصارى تتميز بلباس العمائم الزرق، واليهود بلبس العمائم الصفر، ومنعوا من ركوب الخيل والبغال، ومن كل ما منعهم منه الشارع صلى اله عليه وسلم، وألزموا بما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه. فالتزموا ذلك وأشهد عليه البطرك أنه حرم على جميع النصرانية مخالفة ذلك والعدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكلمة على سائر اليهود في مخالفة ذلك والخروج عنه وانفض المجلس، وطولع السلطان والأمراء. مما وقع، فكتب إلى أعمال مصر والشام به.
ولما كان يوم خميس العهد وهو العشرون من شهر رجب: جمع النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهرها، ورسم ألا يستخدم أحد منهم بديوان السلطان ولا بدواوين الأمراء، وألا يركبوا خيلاً وبغالاً، وأن يلتزموا سائر ما شرط عليهم. ونودي بذلك في القاهرة ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه. فانحصر النصارى من دلك، وسعوا بالأموال في إبطال ما تقرر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاء ما ذكر قياماً محموداً، وصمم تصميماً زائداً. فاضطر الحال بالنصارى إلى الإذعان، وأسلم أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبة وخلق كثير، حرصاً منهم على بقاء رياستهم، وأنفة من لبس العمائم الزرق وركوب الحمير. وخرج البريد بحمل النصارى اليهود فيما بين دمقلة من النوبة والفرات على ما تقدم ذكره.
وامتدت أيدي العامة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهدموها بفتوى الشيخ الفقيه

نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة. فطلب الأمراء القضاة والفقهاء للنظر في أمر الكنائس، فصرح ابن الرفعة بوجوب هدمها، وامتنع من ذلك قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتج بأنه إذا قامت البينة بأنها أحدثت في الإسلام تهدم، وإلا فلا يتعرض لها، ووافقه البقية على هذا وانفضوا.
وكان أهل الإسكندرية لما ورد عليهم مرسوم السلطان في أمر الذمة ثاروا بالنصارى وهدموا لهم كنيستين، وهدموا دور اليهود والنصارى التي تعلو على دور جيرانهم المسلمين، وحطوا مساطب حوانيتهم حتى صارت أسفل من حوانيت المسلمين. وهدم بالفيوم أيضاً كنيستان.
وقدم البريد في أمر الذمة إلى دمشق يوم الإثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاة والأعيان عند الأمير أقش الأفرم وقرئ عليهم مرسوم السلطان بذلك، فنودي في خامس عشريه أن يلبس النصارى العمائم الزرق واليهود العمائم الصفر والسامرة العمائم الحمر، وهددوا على المخالفة. فالتزم النصارى واليهود بسائر مملكة مصر والشام ما أمروا به، وصبغوا عمائمهم إلا أهل الكرك، فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائب بها رأى إبقاءهم على حالتهم، واعتذر بأن أكثر أهل الكرك نصارى، فلم يغير أهل الكرك والشوبك من النصارى العمائم البيض.
وبقيت الكنائس بأرض مصر مدة سنة مغلقة حتى قدمت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفع في فتحها، ففتحت كنيسة المعلقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكية ثم قدمت رسل ملوك آخر، ففتحت كنيسة حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
وفيها فنيت أبقار أرض مصر: وذلك إنه وقع فيها وباء من أخريات السنة الماضية، وتزايد الأمر حتى تعطلت الدواليب ووقفت أحوال السواقي، وتضرر الناس من ذلك. وكان لرجل من أهل أشمون طناح ألف وأحد وعشرون رأساً من البقر، مات منها ألف وثلاثة أرؤس وبقي له ثمانية عشر رأساً لا غير. واضطر الناس لتعويض البقر بالجمال والحمير، وبلغ الثور ألف درهم.
وفيها استقر الأمير أسندمر كرجي في نيابة طرابلس، لاستعفاء الأميرة قطلوبك المنصوري.
وفيها اختلف عربان البحيرة، واقتتلت طائفتا جابر وبرديس حتى فني بينهما بشر كثير، واستظهرت برديس.
فخرج الأمير بيبرس الدوادار في عشرين أميراً من الطبلخاناه إلى تروجة، فانهزم العرب منهم، فتبعوهم إلى الليونة وأخذوا جمالهم وأغنامهم، واستدعوا أكابرهم ووفقوا بينهم وعادوا.
وفيها خرج الوزير شمس الدين سنقر الأعسر في عدة مائة من المماليك السلطانية إلى الوجه القبلي لحسم العربان، وقد كان كثر عيثهم وفسادهم، ومنع كثير منهم الخراج لما كان من الاشتغال بحركات غازان. فأوقع الوزير شمس الدين بكثير من بلاد الصعيد الكبسات، وقتل جماعات من المفسدين، وأخذ سائر الخيول التي ببلاد الصعيد، فلم يدع بها فرساً لفلاح ولا بدوي ولا قاض ولا فقيه ولا كاتب، وتتبع السلاح الذي مع الفلاحين والعربان فأخذه عن آخره، وأخذ الجمال. وعاد من قوص إلى القاهرة، ومعه ألف وستون فرساً، وثمانمائة وسبعون جملاً ، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتا سيف، وسبعمائة درقة، وستة آلاف رأس من الغنم، فسكن ما كان بالبلاد من الشر، وذلت الفلاحون، وأعطوا الخراج.
واتفق أن بعض النصارى فتح كنيسة، فاجتمع العامة ووقفوا إلى الأمير سلار النائب، وشكوا النصارى أنهم فتحوا كنيسة بغير إذن، وأن فيهم من امتنع من لبس العمامة الزرقاء واحتمى بالأمراء. فنودي بالقاهرة ومصر أن من امتنع من النصارى من لبس العمامة الزرقاء نهب وحل ماله وحريمه، وألا يستخدم نصراني عند أمير ولا في شيء من الأشغال السلطانية ولا فيما فيه نفع. فامتدت أيدي العامة إلى اليهود والنصارى، وكادوا يقتلونهم من كثرة الصفع في رقابهم بالأكف والنعال، فامتنع الكثير منهم من المضي في الأسواق خوفاًُعلى نفسه.
وقدمت رسل غازان إلى الفرات، فورد البريد بذلك، فخرج إليهم الأمير سيف الدين كراي على البريد لإحضارهم، فقدموا دمشق يوم الثلائاء ثالث عشرى ذي القعدة، وهم نحو العشرين رجلاً، فأنزلوا بقلعتها. وحمل ثلاثة منهم إلى مصر في ثامن عشريه، وهم كمال الدين موسى بن يونس قاضي الموصل وناصر الدين على خواجا ورفيقه، فوصلوا إلى القاهرة ليلة الإثنين خامس ذي الحجة، وأكرموا غاية الإكرام.

فلما كان وقت العصر من يوم الثلاثاء سادس عشره: واجتمع الأمراء والعسكر بقلعة الجبل، وألبست المماليك السلطانية الكلفيات الزركش والطرز الزركش على أفخر الملابس، وجلس السلطان بعد العشاء الآخرة وبين يديه ألف شمعة تعد، وقد وقفت المماليك من باب القلعة من باب الإيوان صفين. وأحضرت الرسل فسلموا وقام قاضي الموصل وعلى رأسه طرحة، فخطب خطبة بليغة وجيزة في معنى الصلح، ودعا للسلطان ولغازان وللأمراء وأخرج كتاباً من غازان مختوماً فلم يفتح.
وأخرج بالرسل إلى مكانهم إلى ليلة الخميس، ففتح الكتاب الذي من عند غازا، وهو في قطع نصف البغدادي، فإذا هو بالخط المغلي، فعرب وقرئ من الغد بحضرة أهل الدولة فإذا هو يتضمن أن عساكر مصر دخلت في العام الماضي أطراف بلاده وأفسدت، فأنف من ذلك وقدم إلى الشام وهزم العساكر، ثم عاد فلم يخرج إليه أحد، فرجع إبقاء على البلاد لئلا تخرب، وأنه مستعد للحرب، ودعا إلى الصلح، فكتب جوابه، وجهز الأمير شمس الدين محمد بن التيتي وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن السكري خطب جامع الحاكم والأمير حسام الدين أزدمر المجيري، للسفر بالجواب مع الرسل الواصلين من عند غازان.
وكان هذا عام: سائر أقطار الأرض مشتغلة بالحرب، فكان الملك المسعود علاء الدين سنجر - عتيق شمس الدين أيتمش، عتيق السلطان غياث الدين - وهو ملك دله بالهند، قد حارب قوماً في السنة الماضية، فأتوا في هذه السنة إلى دله ونهبوا وأسروا، وخرج عليه طائفة التتر فحاربهم حروباً عظيمة وهزمهم. وقام بأرض الحبشة في السنة الماضية رجل يقال له أبو عبد الله محمد يدعو إلى الإسلام، فاجتمع عليه نحو المائتي ألف رجل. وحارب الأمحري في هذه السنة حروباً كثيرة. وكان ببلاد اليمن بين ملكها الملك المؤيد هزبر الدين وبين الزيدية عدة حروب.
وفيها ثقلت وطأة الأمير الوزير سنقر الأعسر على الأمراء، لشد تعاظمه وكثر شمعه وتزايد كبره و وفور حرمته وقوة مهابته، ولما كان من ضربه للتاج بن سعيد الدولة مستوفي الدولة بالمقارع حتى أسلم، وتغريمه مالا كبيراً، وكان من ألزام الأمير الجاشنكير وفيه حمق ورقاعة زائدة. فلما فعل به الوزير ما فعل نحلى عن المباشرة وانقطع بزاوية الشيخ نصر المنبجي خارج باب النصر، حتى تحدث الشيخ نصر مع الأمير بيبرس في إعفائه من المباشر فأجابه، وكان له فيه اعتقاد ولكلامه عنده قبول.
فأحب الأمراء إخراج الوزير من الوزارة، وكانت في الناس بقايا من حشمة، فأحبوا مراعاته والتجمل معه، وعينوه لكشف القلاع الشامية وإصلاح أمرها وترتيب سائر أحوالها وتفقد حواصلها، ، كانت حينئذ عامرة بالرجال والأموال والسلاح، فسار ذلك.
وفيها تزوج السلطان بخوند أردكين بنت نوكاي امرأة أخيه الملك الأشرف، وعمل له مهم عظيم أنعم فيه على سائر أهل الدولة بالخلع وغيرها.
وبلغ النيل في هذه السنة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً، وكانت سنة مقبلة رخية الأسعار.
وحج فيها الأمير بكتمر الجوكندار، وأنفق في حجته خمسة وثمانين ألف دينار، وصنع معروفا كثيراً: من جملته أنه جهز سبعة مراكب في بحر القلزم قد شحنها بالغلال والدقيق وأنواع الإدام من العسل والسكر والزيت والحلوى ونحو ذلك، فوجد بالينبع أنه قد وصل منها ثلاثة مراكب، فعمل ما فيها أكواماً ونادى في الحج من كان محتاجاً إلى مئونة أو حلوى فليحضر، فأتاه المحتاجون فلم يرد منهم أحداً، وفرق ما بقي على الناس ممن لم يحضر لغناه، وأعطى أهل الينبع، ووصلت بقية المراكب إلى جدة، ففعل بمكة كذلك، وفرق على سائر أهلها والفقراء بها وعلى حاج الشام.
وفي هده السنة أيضاً كانت ملوك الأقطار كلها شباب لم يبلغوا الثلاثين سنة.
ومات في هده السنة ممن له ذكرالأمير عز الدين أيدمر الظاهري، وهو أحد من ولى نيابة دمشق في الأيام الظاهرية، وقد استقر بها أميراً حتى مات في يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول.
ومات الأمير عز الدين أيبك كرجي الظاهري، أحد أمراء الألوف بدمشق، في عاشر ذي القعدة.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الطباخي، نائب حلب في غرة صفر بغزة، وهر عائد من التجريدة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشريفي نائب قلعة الصلت وبر الكرك والشوبك، وكان مهيباً.

ومات الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء الهمذاني الأربلي، متولي نظر دمشق، بطريق مصر وهو عائد منها، عن ثمانين سنة، وكان عالماً بالأدب والتاريخ مشكور السيرة.
ومات الشيخ شمس الدين محمود بن أبي بكر أبي العلاء الكلاباذي البخاري الفرضي الحنفي، في أول ربيع الأول بدمشق، وقد قدم القاهرة، وكان فاضلا.ً ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن هبة الله بن قلس الأرمنتي، إمام المدرسة الظاهرية بين القصرين، وله شعر منه:
احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ... فنصيحة تخفى على الجلاس
وأعيذ نفسي من هجائك فالذي ... يهجي يكون معظماً في الناس
وقال:
قد قلت إذ لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفني ... وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك مازال شافعي ... أبداً يا مالكي كيف صرت معتزلي
وكان مقربا فاضلاً.
سنة إحدى في سبعمائةفي المحرم: عادت رسل غازان مع الرسل السلطان بجوابه.
وفي عاشره: استقر في الوزارة الأمير عز الدين أيبك البغدادي المنصوري، عوضاً عن سنقر الأعسر وهو غائب بالشام. واستقر الأمير بيبرس التاجي أحد الأمراء البرجية في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الشيخي، ونقل ابن الشيخي إلى ولاية الجيزة في عشريه.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد في هذا اليوم.
وفيه توجه الأمير أسندمر كرجي إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير قطلوبك بحكم استعفائه، فقدم دمشق في حادي عشر المحرم.
وفي شهر المحرم: أيضاً استقر الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار شاد الدواوين بدمشق، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا، ونقل أقجبا إلى نيابة السلطنة بدمشق، عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي. وظهر بالقاهرة رجل ادعى أنه المهدي، فعزر ثم خلى عنه.
وفيها مات الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد في ثامن عشر جمادى الأولى، . بمناظر الكبش، فغسله الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلي شيخ الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وحضر الأمراء والناس جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون، ودفن بجوار المشهد النفيسي. وكانت خلافته. بمصر أربعين سنة. وترك من الأولاد أبا الربيع سليمان ولي عهده، وإبراهيم بن أبي عبد الله محمد المستمسك بن الحاكم أحمد. فأقيم بعده أبو الربيع وعمره عشرون سنة، ولقب المستكفي بالله، وكتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان في يوم الأحد عشرى جمادى الأولى، وكان يوماً مشهوداً. وخطب له على عادة أبيه، واستمر يركب مع السلطان في اللعب بالكرة ويخرج معه للصيد، وصارا كأخوين، وكان الحاكم قد عهد بالخلافة إلى ابنه الأمير أبي عبد الله محمد ولقبه المستمسك بالله، وجعل أبا الربيع من بعده. فمات المستمسك، واشتد حزن أبيه الحاكم عليه، فعهد لابنه إبراهيم بن محمد المستمسك من بعده. فلما مات الحاكم لم يقدم بعده إلا أبا الربيع، وترك إبراهيم.
وفيها كثر فساد العربان بالوجه القبلي، وتعدى شرهم في قطع الطريق إلى أن فرضوا على التجار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائض جبوها شبه الجمالية. واستخفوا بالولاة ومنعوا الخراج، وتسموا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرين أحدهما سموه بيبرس والآخر سلار، ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بأيديهم. فاستدعى ا الأمراء القضاة والفقهاء، واستفتوهم في قتالهم، فأفتوهم بجواز ذلك. فاتفق الأمراء على الخروج لقتالهم وأخذ الطرق عليهم، لئلا يمتنعوا بالجبال والمفاوز فيفوت الغرض فيهم، فاستدعوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية - وغيره من ولاة العمل، وتقدموا إليه بمنع الناس بأسرهم من السفر إلى الصعيد في البر والبحر، ومن ظهر أنه سافر كانت أرواح الولاة قبالة ذلك، فاشتد حرصهم.
وأشاع الأمراء إنهم يريدون السفر إلى الشام، وكتبت أوراق الأمراء المسافرين، وهم

عشرون مقدماً بمضافيهم، وعينوا أربعة أقسام: قسم يتوجه في البر الغربي من النيل، وقسم في البر الشرقي، وقسم يركب النيل، وقسم يمضى في الطريق السالكة. وتوجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر - وقد قدم من الشام بعد عزله من الوزارة، واستقراره في جملة الأمراء المقدمين - إلى جهة ألواح في خمسة أمراء، وقرر أن يتأخر مع السلطان أربعة أمراء من المقدمين، وتقدم إلى كل من تعين لجهة أن يضع السيف في الكبير والصغير والجليل والحقير، ولا يبقوا شيخاً ولا صبياً، ويحتاطوا على سائر الأموال.
وسار الأمير سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء في البر الغربي، وسار الأمير بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأمير بكتاش أمير سلاح بمن معه إلى الفيوم وسار الأمير بكتمر الجوكندار بمن معه في البر الشرقي، وسار قتال السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأمير قبجق ومن معه إلى عقبة السيل، وسار طقصبا وإلى قوص بعرب الطاعة وأخذ عليهم المفازات.
وضرب الأمراء على الوجه القبلي حلقة كحلقة الصيد، وفد عميت أخبارهم على أهل الصعيد، فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها، ووضعوا السيف في الجيزية بالبر الغربي والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحداً حتى قتلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجل، وما منهم إلا من أخذوا ماله وسبوا حريمه، فإذا ادعى أحد إنه حضري قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العرب قتل.
ووقع الرعب في قلوب العربان حتى طبق عليهم الأمراء، وأخذوهم من كل جهة فروا إليها، وأخرجوهم من مخابئهم حتى قتلوا من بجانبي النيل إلى قوص، وجافت الأرض بالقتلى. واختفى كثير منهم بمغائر الجبال، فأوقدت عليهم النيران حتى هلكوا عن آخرهم، وأسر منهم نحو ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحصل من أموالهم ؟؟؟شيء عظيم جداً تفرقته الأيدي. وأحضر منه للديوان ستة عشر ألف رأس من الغنم، من جملة ثمانين ألف رأس ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعة آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غير ما أرصد في المعاصر، ومن السلاح نحو مائتين وستين حملا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموال على بغال محملة مائتين وثمانين بغلاً. وصار لكثرة ما حصل للأجناد والغلمان والفقراء الذين اتبعوا العسكر يباع الكبش السمين من ثلاثة دراهم إلى درهمين، والمعز بدرهم الرأس، والجزة الصوف بنصف درهم، والكساء بخمسة دراهم، والرطل السمن بربع درهم، و لم يوجد من يشتري الغلال من كثرتها، فإن البلاد طرقت وأهلها آمنون، وقد كسروا الخراج.
ثم عاد العسكر في سادس عشر رجب، وقد خلت البلاد بحيث كان الرجل يمشي فلا يجد في طريقه أحداً، وينزل بالقرية فلا يرى ألا النساء والصبيان والصغار، فأفرجوا عن المأسورين وأعادوهم لحفظ البلاد. وكان الزرع في هذه السنة بالوجه القبلي عظيماً إلى الغاية، تحصل منه ما لم يقدر قدره كثرة.
وفيها قدم البريد بحضور علاء الدين بن شرف الدين محمد بن القلانسي إلى دمشق، وصحبته شرف الدين، بن الأثير، في تاسع عشرى جمادى الأولى من بلاد التتر، وكانا قد أخذا لما دخل التتر إلى بلاد الشام، ففرا ولقيا مشقة زائدة في طريقهما.
وفيها ورد البريد من حلب بأن تكفور متملك سيس منع الحمل وخرج عن الطاعة وانتمى لغازان، فرسم بخروج العسكر لمحاربته، وخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراء والمفاردة في رمضان وساروا إلى حماة، فتوجه معهم العادل كتبغا في خامس عشرى شوال، وقدموا حلب في أول ذي القعدة ورحلوا منها في ثالثه، ودخلوا دربند بغراس في سابعه. وانتشروا في بلاد سيس، فحرقوا المزروع انتهبوا ما قدروا عليه، وحاصروا مدينة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيثاً كثيراً من جفال الأرمن، وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية. فقدموا حلب في تاسع عشره، ونزلوا حماة في سابع عشريه، وقد ابتدأ بالعادل كتبغا مرض.

وفيها قدم البريد من طرابلس بأن الفرنج أنشئوا جزيرة تجاه طرابلس تعرف بجريرة أرواد، وعمروها بالعدد والآلات وكثر فيها جمعهم، وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب، فرسم للوزير بعمارة أربعة شواني حربية، فشرع في ذلك.
وفيها ضرب عنق فتح الدين أحمد البققي الحمري على الزندقة، في يوم الإثنين رابع عشر ربيع الأول، وكانت البينة قد قامت عليه قبل ذلك. مما يوجب قتله، من النقض بالقرآن وبالرسول، وتحليل المحرمات والاستهانة بالعلماء والقدح فيهم، وغير ذلك.
وفيها أخرج الأمير بكتمر الحسامي من الأمير أخورية من حنق الأمراء عليه، فإنه أكثر الكلام مع السلطان، وكان غرضهم أن السلطان لا يتعرف به أحد. فأقام الأمير بكتمر معطلاً مدة حمى وفاة مغلطاى التقوي، أحد أمراء دمشق بها، فأخرج على إقطاعه واستقر عوضه أمير أخور علم الدين سنجر الصالحي.
وفيها قدم البريد من حماة بوقوع مطر فيما بينها وبين حصن الأكراد، عقبه قطع برد كبار في صورة الآدميين من ذكر وأنثى، وفيه شبه صورة القرود، وعمل بذلك مشروح. وكثر بدمشق الجراد، وأكل أوراق الأشجار وفواكهها.
وفيها أضيف إلى بدر الدين محمد بن جماعة قاضي القضاة بدمشق مشيخة الشيوخ بها، بعد موت الفخر يرسف بن حمويه.
وفيها حج الأمير بيبرس الجاشنكير ومعه ثلاثون أميراً ساروا ركباً بمفردهم، ومن ورائهم بقية الحاج في ركبين، وأمير الحاج الأمير بيبرس المنصوري الدوادار. وخرج بيبرس الجاشنكير من القاهرة أول ذي القعدة، فحضر إليه بمكة الشريفان عطفة وأبو الغيث من أولاد أبي نمى، وشكيا من أخيهما أسد الدين رميثة وأخيه عز الدين حميضة إنهما وثبا بعد وفاة أبيهم عليهما، واعتقلاهما ففرا من الاعتقال. فقبض على رميثة وخميضة، وحملا إلى القاهرة، واستقر عوضهما في إمارة مكة عطفة وأبو الغيث.
ومات في هذه السنة من الأعيانمسند العصر شهاب الدين أحمد بن رفيع الدين إسحاق بن محمد المؤيد الأبرقوهي، بمكة في العشرين من ذي الحجة، عن سبع وثمانين سنة، ومولده سنة خمس عشرة وستمائة بأبرقوه من شيراز.
ومات الحافظ شرف الدين أبو الحسين على ابن الإمام عبد ا لله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن اليونيني، في يوم الخميس حادي عشرى رمضان ببعلبك، ومولده في حادي عشر رجب سنة إحدى وعشرىن وستمائة ببعلبك.
ومات الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق، في ثاني عشرى ذي الحجة.
ومات ضياء الدين أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية بدمشق، في يوم الثلاثاء عشرى ذي القعدة، وهو أبو قطب الدين موسى وفخر الدين.
ومات فتح الدين أحمد بن محمد، البققي الحموي مقتولاً بسيف الشرع، في رابع عشرى ربيع الأول، ورفع رأسه على رمح، وسحب بدنه إلى باب زويلة فصلب هناك، وسبب ذلك إنه كان ذكياً حاد الخاطر له معرفة بالأدب والعلوم القديمة، فحفظت عنه سقطات: منها أنه قال: لو كان لصاحب مقامات الحريري حظ لتليت مقاماته في المحاريب، وأنه كان ينكر على من يصوم شهر رمضان ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناول حاجة من الرف صعد بقدميه على الربعة، وكان مع ذلك جريئاً بلسانه، مستخفاً بالقضاة يطنز بهم ويستجهلهم، حتى أنه بحث مع قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد مرة وكأنه لم يجبه، فقام وهو يقول: وقف الهوى يريد قول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... في متأخز عنه ولا متقدم

يعنى أن القاضي انقطع. فقال ابن دقيق العيد للفتح بن سيد الناس: يا فتح الدين عقبي هذا الرجل إلى التلف ، فلم يتأخر ذلك سوى عشرين يوماً، وقتل في الحادي والعشرين منه. ذلك أنه أكثر من الوقيعة في حق زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكية وتنقصه وسبه، فلما بلغه ذلك عنه اشتد حنقه وقام في أمره، فتقرب الناس إليه بالشهادة على ابن البققي، فاستدعاه وأحضر الشهود فشهدوا وحكم بقتله، وأراد من ابن دقيق العيد تنفيذ ما حكم به فتوقف. وقام في مساعدة ابن البققي ناصر الدين محمد بن الشيخي وجماعة من الكتاب، وأرادوا إثبات جنه ليعفى من القتل، فصمم ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطان ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، ومازالا به حتى أذن في قتله. فنزلا إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجن في الحديد ليقتل، فصار يصيح ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ويتشهد؟، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وضرب عنقه وطيف برأسه على رمح، وعلق جسده على باب زويلة. وفيه يقول شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحرض على قتله، وكتب بها إلى ابن دقيق العيد:
قل للإمام العادل المرتضى ... وكاشف المشكل والمبهم
لاتمهل الكافرواعمل بما ... قد جاء في الكافر عن مسلم
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملة حماقاته:
يا لابساً لي حلةً من مكره ... بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زرداً تضايق نسجه ... وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك.
ومن شعره أيضاً:
جبلت على حبي لها وألفته ... ولابدأن ألقى به الله معلنا
ولم يخل قلبي من هواها بقدرما ... أقول وقلبي خاليا فتمكنا
ومات جمال الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن هبة الله بن أبي الحوافز رئيس الأطباء في مستهل صفر، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة.
ومات الأمير علاء الدين على التقوي، أحد أمراء دمشق بها.
ومات الشريف أبو نمى محمد بن أبي سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب، أمير مكة، في يوم الأحد رابع صفر، وقد أقام في الإمارة أربعين سنة، وقدم القاهرة مراراً، وكان يقال لولا إنه زيدي لصلح للخلافة لحسن صفاته.
ومات مجد الدين يوسف بن محمد بن على بن القباقيبي الأنصاري، موقع طرابلس، وله شعر وترسل.
ومات الأمير عز الدين النجيبي والي البر بدمشق، في سادس عشر ربيع الأول بدمشق.
ومات شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير، في سابع عشر ذي القعدة بدمشق، وكان يكتب الإنشاء بها.
ومات بدمشق شيخ الخانكاة السميساطية، وهو شيخ الشيوخ شرف الدين أبي بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد ابن حمويه، في يوم الإثنين سابع عشر ربيع الأول، واستقر عوضه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة باتفاق الصوفية.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاى التقوي المنصوري أحد أمراء دمشق بها، في رابع عشرى رجب، فانعم بخبزه على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور.
سنة اثنتين وسبعمائةفي أول المحرم: قدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز، ومعه الشريفان حميضة ورميثة في الحديد، فسجنا.
وفي ثامنه: قدمت رسل غازان بكتابه، فأعيدوا بالجواب. وجهز الأمير حسام الدين ازدمر المجيري، شمس الدين محمد التيتي، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن السكري، إلى غازان في عاشر ربيع الأول. فمضوا واجتمعوا به، فمنعهم من العود بسبب الوقعة الآتى ذكرها، ولازالوا مقيمين حتى هلك غازان، فعادوا في أيام خدا بندا.
وفي محرم: تنجزت عمارة الشواني، وجهزت بالمقاتلة والآلات مع الأمير جمال الدين أقوش القاري العلائي والي البهنسا. واجتمع الناس لمشاهدة لعبهم في البحر، فركب أقوش في الشينى الكبير وانحدر تجاه المقياس، فانقلب، ممن فيه يوم السبت ثاني عشره.
وكان قد نزل السلطان والأمراء لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لا يحصيهم إلا

الله تعالى، وبلغ كراء المركب الذي يحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم، امتلأ البران من بولاق إلى الصناعة بالناس، حتى لم يوجد موضع قدم خال.
ووقف العسكر على بر بستان الخشاب، وركب الأمراء الحراريق إلى الروضة. وبرزت الشواني للعب كأنها في الحرب، فلعب الأول والثاني والثالث، واعجب الناس بذلك إعجاباً زائداً، لكثرة ما كان فيها من المقاتلة والنفوط و آلالات الحرب. ثم تقدم الرابع وفيه أقوش، فما هو إلا أن خرج من منية الصناعة. بمصر وتوسط النيل، إذا بالريح حركه، فمال به ميلة واحدة انقلب وصار أعلاه أسفله، فصرخ الناس صرخة واحدة كادت تسقط منها ذات الأحمال، وتكدر ما كانوا فيه من الصفو، وتلاحق الناس بالشيني وأخرجوا ما سقط منه في الماء، فلم يعدم منه سوى أقوش، وسلم الجميع، وعاد السلطان والأمراء إلى القلعة، وانفض الجمع.
وبعد ثلاثة أيام أخرج الشيني، فإذا امرأة الرئيس وابنها وهي ترضعه في قيد الحياة، فاشتد العجب من سلامتها طول هذه الأيام، ووقع العمل في إعادته حتى تنجز، وندب الأمير سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري للسفر عوضاً عن أقوش القاري فسار إلى طرابلس بالشواني، واستجد منها ستين مقاتلا من المماليك سوى البحرية والمطوعة.
وتوجه كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقرب أنطرسوس، وصبحهم في غفلة وأحاط بهم وقاتلهم ساعة، فنصره الله عليهم وقتل منهم كثيراً، وسألوا الأمان فأخذوا أسرى في يوم الجمعة ثامن عشرى صفر. واستولى كهرداش على سائر ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرج الخمس من الغنائم لتحمل إلى السلطان، وقسم ما بقي فكانت عدة الأسرى مائتين وثمانين. فلما قدم البريد من طرابلس بذلك دقت البشائر بالقلعة، وفي يوم دق البشائر قدم الأمير بدر الدين بكتاش من غزاة سيس.
وفي هده السنة: توفي قاضي القضاة تقي الدين أبو محمد بن على بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي المصري بن دقيق العيد، وكان مولده في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.
ولما مات تقي الدين محمد بن دقيق العيد، خرج البريد إلى في دمشق بطلب قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فقدمها في سابع عشر صفر، وخرج به منها في تاسع عشره. فوصل ابن جماعة إلى القاهرة وخلع عليه يوم السبت رابع ربيع الأول، واستقر في قضاء القضاة، وولي قضاء دمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن ابن صصري، واستقر بلبان الجوكندار نائب قلعة دمشق، عوضاً عن أرجواش، واستقر عوضه في شد الدواوين بدمشق الأمير بيبرس التلاوي.
وفي رابع جمادى الآخرة: ظهر في النيل دابة لونها كلون الجاموس بغير شعر، وأذناها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، ويغطى فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل ثخن التليس المحشو تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان فوق اثنين، في طول نحو شبر وعرض أصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها شبران ونصف، ومن ركبتيها إلى حافرها مثل أظافر الجمل، وعرض ظهرها قدر ذراعين ونصف، ومن فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر له زفرة السمك، وطعمه مثل لحم الجمل، وثخانة جلدها أربعة أصابع لا تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله، فكان ينقل من الجمل إلى جمل وقد حشي تبناً حتى وصل إلى قلعة الجبل.
ومدم البريد من حلب بأن غازان على عزم الحركة إلى الشام، فوقع الاتفاق على خروج العسكر، وعين من الأمراء بيبرس الجاشنكير وطغريل الإيغاني وكراي المنصوري وبيبرس الدوادار وسنقر شاه المنصوري وحسام الدين لاجين الرومي أستادار، بمضافيهم وثلاثة آلاف من الأجناد، فساروا في ثامن عشر رجب.
وتواترت الأخبار بنزول غازان على الفرات، ووصل عسكره الرحبة وأراد منازلتها بنفسه. وكان النائب بها الأمير علم الدين سنجر الغتمي، فلاطفه وخرج إليه بالإقامات، وقال له: هذا المكان قريب المأخذ، والملك يقصد المدن الكبائر، فإذا

ملكت البلاد التي هي أمامك فنحن لا نمتنع عليك، حتى كف عنه ورجع عابراً الفرات، بعد أن أخذ ولده ومملوكه رهناً على الوفاء. وبعث غازان قطلوشاه من أصحابه على عساكر عظيمة إلى الشام تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب دمشق يرغبه في طاعته.
وأما العسكر السلطاني ففد دخل الأمير بيبرس الجاشنكير إلى دمشق بمن معه في نصف شعبان، وكتب يستحث السلطان على الخروج. وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق خائفين من التتر، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بها من خرج حل ماله ودمه. وخرج الأمير بهادرآص والأمير قطوبك المنصوري وأنص الجمدار على عسكر إلى حماة، ولحق بهم عسكر طرابلس وحمص، فاجتمعوا على حماة عند العادل كتبغا.
وبلغ التتر ذلك، فبعثوا طائفة كبيرة إلى القريتين فأوقعوا بالتركمان، فتوجه إليهم أسندمر كرجي نائب طرابلس بهادر آص وكجكن وغرلوا العادلي وتمر الساقي وأنص الجمدار ومحمد بن قرا سنقر، في ألف وخمسائة فارس. فطرقوهم بمنزلة عرض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالًا شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى أفنوهم، وكانوا فيما يقال نحو أربعة آلاف. وأنقذوا التراكمين بحريمهم وأولادهم، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يفقد من العسكر إلا الأمير أنص الجمدار المنصوري، ومحمد بن باشقرد الناصري، وستة وخمسين من الأجناد. وعاد من إنهزم إلى قطلوشاه، وقد أسر العسكر مائة وثمانين من التتر. وكتب إلى السلطان بذلك، ودقت البشائر بدمشق، وكان قد خرج السلطان من قلعة الجبل ثالث شعبان، ومعه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في عسكر كثير، واستناب بديار مصر عز الدين أيبك البغدادي.
وكان التتر الذين عادوا منهزمين إلى قطلوشاه قد أخبروا أن السلطان لم يخرج من الديار المصرية، وأن ليس بالشام غير العسكر الشامي، فجد قطلوشاه في السير بجموع التتر حتى نزل على قرون حماة في ثالث عشريه، فاندفعت العساكر بين يديه إلى دمشق، وركب العادل كتبغا في محفة لضعفه، فاجتمع الكل بدمشق. واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان، ثم خشوا من مفاجأة العدو، فنادوا بالرحيل وركبوا أول رمضان. فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حرمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة فلم يأت الليل إلا والنوادب في سائر نواحي المدينة. وسار العسكر مخفاً إلى لقاء العدو، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله، فلما أصبحوا رحل التتر عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط، فلقوه على عقبة شجورا في يوم السبت ثاني رمضان، وقبلوا له الأرض. فورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتر في خمسين الفاً مع قطلوشاه نائب غازان. فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على المحاربة بشقحب تحت جبل غباغب، وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر. فوقف في القلب السلطان وبجانبه الخليفة والأمير سلار النائب والأمير بيبرس الجاشنكير، وعز الدين أيبك الخازندار وسيف الدين بكتمر أمير جاندار وجمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام وبرلغي وايبك الحموي، وبكتمر البوبكري وقطلوبك ونوغاي السلاح دار وأغرلوا الزيني، وفي الميمنة الحسام لاجين أستادار ومبارز الدين سوار أمير شكار، ويعقوبا الشهرزوري ومبارز الدين أوليا بن قرمان، وفي الجناح الأيمن الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان، وفي الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير السلاح والامير قرا سنفر بعساكر حلب والأمير بدخاص نائب صفد، وطغريل الإيغاني وبكتمر السلاح دار وبيبرس الدوادار، بمضافيهم.

ومشى السلطان والخليفة بجانبه، ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار السلطان يقف، ويقول الخليفة: يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن حريمكم وعلى دين نبيكم صلى اله عليه وسلم، والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد. وعاد السلطان إلى موقفه، ووقف الغلمان والجمال وراء العسكر صفاً واحداً، وقيل لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه، ولكم سلاحه وفرسه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، بعد الظهر من يوم السبت المذكور، وأقبل قطلوشاه بمن معه من التوامين وحملوا على الميمنة وقاتلوها، فثبتت لهم وقاتلتهم قتالاً شديداً، وقتل الحسام لاجين أستادار وأوليا بن قرمان وسنقر الكافري، وأيدمر الشمسي القشاش وأقوش الشمسي الحاجب والحسام على بن باخل، نحو الألف فارس. فأدركهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام، وصرخ في بيبرس والبرجية فأتوه وصدم بهم قطلوشاه، وأبلى ذلك اليوم هو وبيبرس بلاء عظيماً، إلى أن كشفا التتار عن المسلمين.
وكان جوبان بن تداون وقرمجي بن الناق، وهما من توامين التتار، قد ساقا تقوية لبولاي وهو خلف المسلمين، فلما عاينا الكسرة على قطلوشاه أتياه ووقفا في وجه سلار وبيبرس. فخرج من أمراء السلطان أسندمر وقطلوبك وقبجق والمماليك السلطانية إعانة لبيبرس وسلار، فتمكنوا من العدو وهزموه، فمال التتر على برلغي حتى مزقوه واستمرت الحرب بين سلار ومن معه وبين قطلوشاه، وكل منهما ثابت لقرنه.
وكانت الأمراء لما قتلت بالميمنة إنهزم من كان معهم، ومرت التتر خلفهم، فجفل الناس وظنوا إنها كسرة. وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها، ونهبوا ما بها من الأموال، وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذاك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، فلم ير شيء أعظم منظراً من ذلك الوقت إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه إنه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمين يطلبهم. فلما صعد الجبل نظر السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة واعلامها تخفق، فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية، ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية. فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟، فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان، و لم يعلم قطلوشاه بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا منه. فجمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات السلطان والأمراء والبوقات قد رجفت بحسها الأرض وأزعجت القلوب، فلم يثبت بولاي أحد مقدمي التتر، وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً، ونزل من الجبل بعد المغرب وفر هارباً.
وبات السلطان وسائر العساكر على ظهور خيولها والطبول تضرب، وتلاحق به من إنهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات الحربية. وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء الأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يرصونهم ويرتبونهم، ويكثرون من التأكيد عليهم في التيقظ وأخذ الأهبة. فما طلع الفجر يوم الأحد إلا وقد اجتمع كل عساكر السلطان، ووقف كل أحد في مصافه مع أصحابه، والجفل والأثقال قد وقفوا على بعد، وكانت رؤيتهم تذهل، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.

وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرسان وقاتلوا العساكر. فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا فيهم عملاً عظيماً: تارة يرمونهم بالسهام، وتارة يهاجمونهم، واشتغل الأمراء بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناولون القتال أميراً بعد أمير. وألحت المماليك السلطانية في القتال واستقتلوا، حتى أن فيهم من قتل تحته الثلاثة أرؤس من الخيل. ومازال الأمراء على ذلك حتى انتصف نهار يوم الأحد، وصعد قطلوشاه الجبل، وقد قتل منه نحو ثمانين رجلاً، وجرح الكثير واشتد عطشهم.
واتفق أن بعض من أسروه نزل إلى السلطان وعرفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السحر ومصادمة الجيش، وأنهم في شدة من العطش. فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم، ثم يركب الجيش أقفيتهم.
فلما باتوا على ذلك وأصبح نهار يوم الإثنين، ركب التتار في الرابعة ونزلوا من الجبل، فلم يتعرض لهم أحد. وساروا إلى النهر فاقتحموه، وعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين، وأيدهم بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم، ومروا في أثرهم إلى وقت العصر وعادوا إلى السلطان. فسرحت الطيور بالنصر إلى غزة ومنع المنهزمون من التوجه إلى مصر، وتتبع من نهب الخزائن السلطانية والاحتفاظ به. وعين الأمير بدر الدين بكتوت الفتاح للمسير بالبشارة إلى مصر، وسار من وقته، وكتب إلى دمشق وسائر القلاع بالبشارة.
ثم ركب السلطان في يوم الإثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة، وأصبح يوم الثلائاء خامس الشهر وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها - ومعه الخليفة - في عالم من الفرسان والعامة والأعيان والنساء والصبيان، لا يحصيهم إلا من خلقهم سبحانه، وهم يضجون بالدعاء والهناء. وتساقطت عبرات الناس، ودقت البشائر، وكان يوما لم يشاهد مثله، إلى أن نزل السلطان بالقصر الأبلق، ونزل الخليفة بالتربة الناصرية، وقد زينت المدينة.
واستمر الأمراء في أثر التتار إلى القريتين، وقد كلت خيول التتر وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل والعساكر تقتلهم بغير مدافعة، حتى أن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتر فما فوقها. وأدركت عربان البلاد التتار وأخذوا في كيدهم: فيجىء منهم الاثنان والثلاثة إلى العدة الكثيرة من التتار كأنهم يسيرون بهم في البر من طريق قريبة إلى الليل، ثم يدعونهم وينصرفون، فتتحير التتر في البرية وتصبح فتموت عطشاً. وفيهم من فر إلى غوطة دمشق، فتتبعتهم الناس وقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
وخرج وإلى البر حتى جمع من استشهد من المسلمين، ودفنهم في موضع واحد بغير غسل ولا كفن، وبنى عليهم قبة. وتتبع نائب غزة من إنهزم من العسكر وأخذهم وفتشهم، فظفر منهم بجماعة معهم الأكياس المال بختمها. ووقف الأمير علم الدين سنجر الجاولي بطريق دمشق ومعه الخزان وشهود الخزانة، وأخذ الغلمان فظفر منهم بشيء كثير مما نهبوه، وعوقب جماعة بسبب ذلك. ومازال الأمر يشتد في الطلب، حتى تحصل أكثر ما نهب من الخزائن، ولم يفقد منه إلا القليل.
وشمل السلطان الأمراء بالخلع والأنعام، وحضر الأمير سيف الدين برلغي - وقد إنهزم فيمن إنهزم - فلم يأذن له السلطان في الدخول عليه، وقال: بأي وجه يدخل على أو ينظر في وجهي؟ ، فمازال به الأمراء حتى رضي عنه وأذن في دخوله، فقبل الأرض. وقبض على رجل من أمراء حلب كان قد انتمى إلى التتار وصار يد لهم على الطرقات، فسمر على جمل وشهر بدمشق وضواحيها. واستمر الناس طول شهر رمضان في مسرات تتجدد، وصلى السلطان صلاة عيد الفطر، وخرج من دمشق في ثالث شوال يريد مصر.
وأما التتار فإنه قتل أكثرهم، حتى لم يعبر قطلوشاه الفرات إلا في قليل من أصحابه.

ووصل خبر كسرته إلى همذان فوقعت الصرخات في بلادهم، وخرج أهل توريز وغيرها إلى القدس، واستعلام خبر من فقد منهم، فأقامت النياحة في توريز شهرين على القتلى. وبلغ الخبر غازان فاغتم غماً عظيماً - وخرج من منخريه دم كثير حتى أشفى على الموت، واحتجب حتى عن الخواتين - فإنه لم يصل إليه من كل عشرة واحد، فارتج الأردوا بمن فيه. ثم جلس غازان وأوقف قطلوشاه وجوبان وسوتاي ومن كان معهم من الأمراء، وأنكر على قطلوشاه وأمر بقتله، فمازالوا به حتى عفي عنه من القتل، وأبعده من قدامه حتى صار على مسافة كبيرة بحيث يراه، وقام إليه - وقد مسكه الحجاب - سائر من حضر وهم خلق كثير جداً، وصار كل منهم في وجهه حتى بصق الجميع، ثم أبعده عنه إلى كيلان. وضرب غازان بولاي عدة عصي، وأهانه. وقد ذكر الشعراء وقعة التتر هده فأكثروا.
وسار السلطان من دمشق في يوم الثلاثاء من شوال، ووصل إلى القاهرة ودخلها في ثالث والعشرين منه. وكان قدم بكتوت الفتاح إلى القاهرة يوم الإثنين ثامن شهر رمضان، فرسم بزينة القاهرة من باب النصر إلى باب السلسة من القلعة، وكتب بإحصار سائر مغاني العرب من أعمال مصر كلها.
واستمرت الزينة من بعد وصول الأمير بكتوت الفتاح بكتاب البشارة إلى أن قدم السلطان، وبعد ذلك بأيام، وكان قبل قدوم بكتوت الفتاح قد وقعت بطاقة من قطيا بخبر البشارة، وتأخر الفتاح لوجع يده، فقلق الناس وغلقت الأسواق، وأبيع الخبز أربعة أرطال بدرهم، والراوية الماء بأربعة دراهم. فلما قدم خرج الناس إلى لقائه، وكان يوماً عظيماً وتفاخر الناس في الزينة ونصبوا القلاع، واقتسمت أستادارية الأمراء شارع القاهرة إلى القلعة، ورتبوا ما يخص كل واحد منهم وعملوا به قلعة، بحيث نودي من استعمل صانعاً في غير عمل القلاع كانت عليه جناية للسلطان، وتحسن سعر الخثسب والقصب وآلات النجارة.
وتفاخروا في تزيين القلاع، وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرحة على قدوم السلطان وعلى الزينة، فإن الناس أخرجوا الحلي والجواهر واللآلى وأنواع الحرير فزينوا بذلك. ولم ينسلخ شهر رمضان حتى تهيأ أمر القلاع، وعمل ناصر الدين محمد بن الشيخي الوالي قلعة بباب النصر فيها سائر أنواع الجد والهزل، ونصب عدة أحواض ملأها بالسكر والليمون، وأوقف مماليكه بشربات حتى يسقوا العسكر.
فقدم السلطان في يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، وقد خرج الناس إلى لقائه، وبلع كراء البيت الذي يمر عليه من خمسين درهماً إلى مائة درهم. فلما وصل السلطان باب النصر ترجل سائر الأمراء، وأول من ترجل منهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأخذ سلاح السلطان. فأمره السلطان أن يركب لكبر سنه ويحمل السلاح خلفه، فامتنع ومشى، وحمل الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار القبة والطير، وحمل الأمير بكتمر أمير جاندار العصي، والأمير سنجر الجمقدار الدبوس. ومشى كل أمير في منزلته، وفرش كل منهم الشقق من قلعته إلى قلعة غيره، فكان السلطان إذا تجاوز قلعة فرشت القلعة المجاورة لها الشقق حتى يمشي عليها بفرسه مشياً هيناً، لأجل مشى الأمراء بين يديه، وكلما رأى قلعة أمير أمسك عن المشي حتى يعاينها ويعرف ما اشتملت عليه هو والأمراء. هذا والأسرى من التتار بين يديه مقيدون، ورؤوس من قتل منهم معلقة في رقابهم، وألف رأس على ألف رمح، وعدة الأسرى ألف وستمائة في أعناقها ألف وستمائة رأس، وطبولهم قدامهم مخرقة.
وكانت القلاع التي نصبت قلعة الأمير ناصر الدين محمد بن الشيخي بجوار باب النصر، وتليها قلعة الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وبعده ابن أيتمش السعدي، ثم الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وبعده الأمير طغريل الإيغاني، ثم بهادر اليوسفي، ثم سودى، ثم بيليك الخطيري، ثم برلغي، ثم مبارز الدين أمير شكار، ثم أيبك الخازندار، ثم سنقر الأعسر، ثم بيبرس الدوادار، ثم سنقر الكمالي، ثم موسى بن الملك الصالح، ثم سيف الدين آل ملك، ثم علم الدين الصوابي، ثم جمال الدين الطشلاقي، ثم سيف الدين أدم، ثم الأمير سلار النائب، ثم بيبرس الجاشنكير، ثم بكتاش أمير سلاح، ثم الطواشي مرشد الخازندار - وقلعته على باب المدرسة المنصورية - وبعده بكتمر أمير جندار، ثم أيبك البغدادي

نائب الغيبة، ثم ابن أمير سلاح، ثم بكتوت الفتاحي، ثم تباكر التغريلي، ثم قلى السلحدار، ثم بكتمر السلاح دار، ثم لاجين زيرباج الجاشنكير، ثم طيبرس الخازنداري نقيب الجيش، ثم بلبان طرنا، وبعده سنقر العلائي، ثم بهاء الدين يعقوبا، ثم الأبو بكري، ثم بهادر العزي، وكوكاي بعده، ثم قرا لاجين، ثم كراي المنصوري، ثم جمال الدين أقوش قتال السبع - وقلعته على باب زويلة. واتصلت القلاع من باب زويلة إلى باب السلسلة، وإلى باب القلعة وباب القلة، فكانت عدتها سبعين قلعة.
وعندما وصل السلطان إلى باب المارستان نزل وصعد إلى قبر أبيه، وقرأ القراء قدامه. ثم ركب إلى باب زويلة، ووقف حتى أركب الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح خلفه وبيده السلاح. وسار على الشقق الحرير إلى داخل القلعة، والتهاني في دور السلطان والأمراء وغيرهم، وكان يوماً عظيماً إلى الغاية.
فلما استقر السلطان بالقلعة أنعم على الأمير برلغي بثلاثين ألف درهم واستقر أمير الركب، وقدم له الأمراء شيثاً كثيراً وكتب على يده: إلى أبي الغيث وأخيه أميري مكة ألا يمكنوا من الأذان بحي على خير العمل، ولا يتقدم في الحرم إمام زيدي، وألا يربط الحاج حتى يقبضوا على ما كان في الكعبة مما سموه العروة الوثقي، ولا يمكن أحد من مس المسمار الذي كان في الكعبة. وكان يحصل من التعلق بالعروة الوثقي ومن التسلق إلى المسمار عدة مفاسد قبيحة، فترك ذلك كله بسفارة الأمير بيبرس، وترك الأذان بحي على خير العمل من مكة، ولم يتقدم من حينئذ إمام زيدي للصلاة بالحرم.
وفي هده السنة: بنابلس صام الحنابلة شهر رمضان على عادتهم بالاحتياط، واستكمل الشافعية وغيرهم شعبان وصاموا. فلما أتم الحنابلة ثلاثين يوماً أفطروا، وعيدوا وصلوا صلاة العيد و لم ير الهلال. فصام الشافعية والجمهور ذلك النهار، وأصبحوا فافطروا وعيدوا وصلوا صلاة العيد. فأنكر نائب الشام على متولي نابلس كيف لم يجتمع الناس على يوم واحد، ولم يسمع. بمثل هذه الواقعة.
واتفق أيضاً أن أهل مدينة غرناطة بالأندلس صاموا شهر رمضان ستة وعشرين يوماً، وذلك أن الغيوم تراكمت عندهم عدة أشهر قبل رمضان، فلما كانت ليلة السابع والعشرين طلعوا المأذنة ليقدوها على العادة، فإذا الغيوم قد أقلعت وظهر الهلال، فافطروا.
وفيها سخط الأمير بيبرس الجاشنكير على كاتبه المعلم المناوي من أجل فراره إلى غزة في وقت الواقعة، وطلب أبا الفضائل أكرم النصراني كاتب الحوائج خاناه وألزمه حتى أسلم، وخلع عليه وأقره في ديوانه، فزادت رتبته حتى صار إلى ما يأتي ذكره أن شاء الله، وعرف بكريم الدين الكبير.
وفيها قام الأمير بيبرس الجاشنكير في إبطال عيد الشهيد بمصر: وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع يزعمون إنه أصبع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه التابوت، فتجتمع نصارى أرض مصر من سائر الجهات إلى ناحية شبرا، ويخرج أهل القاهرة ومصر، وتركب النصارى الخيول للعب، ويمتلي البر بالخيم، والبحر بالمراكب المشحونة بالناس، ولا يبقى صاحب غناء ولا لهو حتى يحضر، وتتبرج زواني سائر البلاد. ويباع في ذلك اليوم من الخمر بنحو مائة ألف درهم، حتى إنه في سنة باع رجل نصراني بمائتين وعشرين ألف درهم خمراً، فكان أهل شبرا يوفون الخراج من ممن الخمر، وتثور في هذا اليوم الفتن ويقتل عدة قتلى، فأمر الأمير بيبرس بإبطال ذلك، وألا يرمى التابوت في النيل، وأخرج الحجاب والولي حتى منعوا الناس من الاجتماع، بعد أن كتب إلى جميع الولاة بالنداء إلا يحرج أحد إلى عمل عيد الشهيد. فشق ذلك على النصارى، واجتمعوا مع الأقباط الذين أظهروا الإسلام، وصاروا إلى التاج بن سعيد الدولة لتمكنه من الأمير بيبرس، فصار إليه وخيله من انكسار الخراج بإبطال العيد ومن عدم طلوع النيل، فلم يلتفت إليه وصمم على إبطاله، فبطل.
وفيها جهز صاحب سيس مراكب إلى نحو قبرص فيها بضائع قيمتها قريب من مائة ألف دينار، فألقاها الريح على مينة دمياط، فأخذت برمتها.
وفيها قدم الخبر بقحط بلاد تقطاي مدة ثلاث سنين، ثم أعقبه موتان في الخيل والغنم حتى فنيت و لم يبق عندهم ما يؤكل، فباعوا أولادهم وأقاربهم للتجار، فقدموا بهم إلى مصر وغيرها.

وفيها كانت الزلزلة العظيمة: وذلك إنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لا يمكن وصفه، من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت في أواخر شوال.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشرى ذي الحجة: عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها، وسمع للحيطان قعقة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء أطبقت على الأرض، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساء، قد أعجلهم الخوف والفزع عن ستر النساء وجوههن واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل، وتساقطت الدور وتشققت الجدران، وتهدمت مأذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من النساء الحوامل ما في بطونهن، وخرحت رياح عاصفة، ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ قدر رمية سهم، وعاد الماء عنها فصارت على اليبس وتقطعت مراسيها، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء، وحذفها إلى الشاطئ.
وفقد للناس من الأموال شيىء كثير: فإنهم لما خرجوا من دورهم فزعين تركوها من غير أن يعوا على شيىء مما فيها، فدخلها أهل الدعارة وأخذوا ما أحبوا. وصار الناس إلى خارج القاهرة، وبات أكثرهم خارج باب البحر، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة.
و لم تكد دار بالقاهرة ومصر تسلم من الهدم، أو تشعث بعضها، وسقطت الزروب التي بأعلى الدور، و لم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب ونحوه.
وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد، يدعون الله إلى وقت صلاة الجمعة.
وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا، حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً.
وقدم الخبر من الإسكندرية بأن المنار انشق وسقط من أعلاه نحو الأربعين شرفة، وأن البحر هاج وألقى الريح العاصف موجه حتى وصل باب البحر وصعد بالمراكب الإفرنجية على البر، وسقط جانب كبير من السور، وهلك خلق كثير.
وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحد أحدا قدر ساعة، ثم ماجت الأرض وتشققت وظهر من تحتها رمل أبيض، وفي بعض المواضع رمل أحمر، وكشطت الريح مواضع من الأرض فظهرت عمائر قد ركبها السافي، وخربت مدينة قوص، وأن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع في وقت الزلزلة وبيده المحلب، وارتفعت البقرة حتى سكنت الزلزلة، ثم انحط إلى مكنه من غير أن يتبدد شيىء من اللبن الذي في المحلب.
وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لوحش لم يبق بها بيت عامر.
وخرب من المواضع المشهورة جامع عمرو بن العاص بمصر، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته. وخربت أكثر سواري الجامع الحاكمي بالقاهرة وسقطت مأذنتاه، فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته وخرب الجامع الأزهر، فالتزم الأمير سلار بعمارته أيضاً، وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر. وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمر من الخاص السلطاني، وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر. وخربت مأذنة المنصورية، فعمرت من الوقف على يد الأمير سيف الدين كهرداش الزراق. وسقطت مأذنة جامع الفكاهين. وكتب بعمارة ما تهدم بالإسكندرية، فوجد قد إنهدم من السور ست وأربعون بدنة، وسبعة عشر برجاً فعمرت.
وقدم البريد من صفد أنه في يوم الزلزلة سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر، فظهر في موضع الماء اشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة، وتشققت جدر جامع بنى أمية بدمشق.
واستمرت الزلزلة خمس درج، إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى. وكان الزمان صيفاً، فتولى بعد ذلك سموم شديدة الحر عدة أيام. واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة في رم ما تشعث وبني ما هدم، وغلت أصناف العمارة لكثرة طلبها، فإن القاهرة ومصر صارت بحيث إذا رآها الإنسان يتخيل أن العدو أغار عليها وخربها، فكان في ذلك لطف من الله بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة توارد الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار. مما كان من هذه الزلزلة.

واتفق فيها من الأمر العجيب أن الأمير بيبرس الجاشنكير لما رم ما تشعت من الزلزلة بالجامع الحاكمي، وجد في ركن من المأذنة كف إنسان بزنده قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرى. ونبشت دكان لبان مما سقط في الزلزلة، فإذا أخشابها قد تصلبت على اللبان وهو حي، وعنده جرة لبن يتقوت منها مدة أيام، فأخرج حيا لم يمسه سوء.
وفي هده السنة: استقر في نيابة صفد الأمير سنقر شاه المنصوري، عوضاً عن بدخاص، وأنعم على بدخاص بإمرة بديار مصر. ونقل قبجق من نيابة الشوبك إلى نيابة حماة، عوضاً عن العادل كتبغا بعد موته. واستقر بلبان الجوكندار في نيابة حمص، بعد موت سيف الدين البكي. ثم استعفي بلبان، فولى عز الدين أيبك الحموي نائب قلعة دمشق عوضه، واستقر عوضه في نيابة قلعة دمشق بيبرس التلاوي.
وبلغ النيل ثمانية عشر ذراعاً.
ومات في هذه السنة ممن له ذكربرهان الدين إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم السكندري الشافعي، في رابع عشرى شوال بدمشق، ومولده بالإسكندرية سنة ست وثلاثين وستمائة، وكان مشهوراً بالعلم والديانة، ناب في خطابة جامع بنى أمية، وباشر الحكم مدة بدمشق ودرس بها، وأفاد زماناً.
ومات كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة ببن سلمان بن فتيان المعروف بابن العطار، أحد كتاب الدرج بدمشق، في رابع عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ست و عشرين وستمائة، وكان كثير التلاوة للقرآن محباً لسماع الحديث وحدث، وكان صدراً كبيراً فاضلا له نظم ونثر، وأقام يكتب الدرج أربعين.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري، بالقاهرة في .
ومات الأمير فارس الدين البكي الساقي، أحد ممالك الظاهر بيبرس، تنقل في الخدم حتى صار من أمراء مصر، ثم اعتقل إلى أن أفرج عنه المنصور قلاوون وأنعم عليه بإمرة، ثم ولاه نيابة صفد فأقام بها عشر سنين، وفر مع قبجق إلى غازان وتزوج أخته، ثم قدم مع غازان ولحق بالسلطان، فولاه نيابة حمص حتى مات بها يوم الثلاثاء ثامن ذي القعدة. وكان مليح الشكل، ما جلس قط بغير خف، وإذا ركب ونزل حل جمداره شاشه، فإذا أراد الركوب لفه مرة واحدة كيف جاءت ويركب ولا يعيد لفة الشاش مرتين أبداً.
واستشهد بوقعة شقحب عز الدين أيدمر العزي نقيب المماليك السلطانية، وهو من مماليك عز الدين أيدمر نائب دمشق، وكان كثير الهزل، وإليه تنسب سويقة العزي خارج القاهرة.
ومات الأمير أيدمر الشمسي القشاش، وكان قد ولى الغربية والشرقية جميعاً، واشتدت مهابته، وكان يعذب أهل الفساد بأنواع قبيحة من العذاب منها أنه كان يغرس خازوقاً ويجعل محدده قائماً، وبجانبه صار كبير يعلق فيه الرحل، ثم يرسله فيسقط على الخازوق فيدخل فيه ويخرج من بدنه، و لم يجرؤ أحد من الفلاحين بالغربية والشرقية في أيامه أن بلبس مئزراً أسود، ولا يركب فرساً ولا يتقلد سيفاً، ولا يحمل عصا محلية بحديد، وعمل بها الجسور والترع وأتقنها، وأنشأ جسراً بين ملقة صندفا وأرض سمنود عرف بالشقفي، فرآه بعد أن استشهد بمدة قاضي المحلة في النوم، فقال له: سامحني الله وغفر لي بعمارة حسر الشقفي، وكان قد فلج واستعفي من الولاية ولزم بيته، وخرج لغزوة شقحب في محفة إلى وقت القتال، فلبس سلاحه وركب وهو في غابة الألم، فقيل له: إنك لا تقدر، فقال: والله لمثل هذا اليوم أنتظر، وإلا إيش بتخلص القشاش من ربه بغير هذا وحمل على العدو وقاتل فقتل، ورأى فيه ست جراحات.
ومات الأمير حسام الدين أوليا بن قرمان، أحد الأمراء الظاهرية، وهر ابن أخت قرمان - وعروف بابن قرمان - وكان شجاعاً.
ومات الأمير عز الدين أيبك أستادار.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الرفا المنصوري.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي، أحد الأمراء بحماة.
ومات صلاح الدين بن الكامل.
ومات علاء الدين بن الجاكي.
ومات الشيخ نجم الدين أيوب الكردي، وكان قد قدم إلى دمشق سنة سبع وثمانين وستمائة في طائفة من الأكراد، واعتقده الأمراء وحملوا إليه المال فكان يتصدق به، ثم قدم إلى القاهرة، وخرج مع السلطان وقاتل بشقحب حتى قتل.
ومات الأميرشمس الدين سنقر الشمسي الحاجب.

ومات سنقرالكافري، أحد الأمراء.
ومات سنقرشاه أستادارالجانق.
ومات حسام الدين على بن باخل، أحد أمراء العشراوات.
ومات لاجين الرومي المنصوري أستادار المنصور قلاوون، ويعرف بالحسام أستادار، وكان دينا خيراً حشماً، سمع الحديث.
ومات الأمير شمس الدين سنقر العنتابي بدمشق، ليلة الجمعة ثاني عشر ذي القعدة.
ومات العادل كتبغا بحماة ليلة الجمعة يوم عيد الأضحى وهو في سن الكهولة، وكان دينا خيراً، أسمر اللون قصيراً دقيق الصوت قصير العنق، شجاعاً سليم الباطن متواضعاً، وهو من جنس المغل، وكان قد طال مرضه واسترخى حتى لم يقدر على حركة يديه ورجليه، وترك اولاداً. فولى نيابة حماة بعده الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، وقد نقل إليه من نيابة الشوبك.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن مجد الدين على بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المعروف بابن دقيق العيد في يوم الجمعة حادي عشر صفر، عن سبع وسبعين سنة، وهو على قضاء القضاة، ومولده في خامس عشرى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.
سنة ثلاث وسبعمائةفيها انتدب الأمراء لعمارة ما خرب من الجوامع بالزلزلة، وأنفقوا فيها مالا جزيلاً.
وقدم الأمير برلغي الأشرفي من الحجاز، وشكى من قلة مهابة الشريفين أبي الغيث وعطيفة وكثرة طمع العبيد في المجاورين بمكة. فأفرج عن الشريفين حميضة ورميثة من السجن، وأحضرا إلى المجلس السلطاني وخلع عليهما بكلفتانزركش، فلم يلبسها حميضة إلا بعد التمنع والتهديد بالعود إلى الحبس. وأجلسا فوق جميع الأمراء، ونزلا إلى منازلهما وحمل إليهما سائر ما يحتاجان إليه، وهاداهما الأمراء، وأجريت لهما الرواتب والجرايات والكسوات، وركبا مع السلطان في الميدان، ولعب حميضة مع السلطان بالكرة.
وفيها سارت العساكر من القاهرة للغارة على بلاد سيس، وعليهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، ومعه الأمير علم الدين سنجر الصوابي والأمير شمس الدين سنقر شاه المنصوري ومضافيهم، وكتب إلى طرابلس وحماة وصفد وحلب بخروج العساكر إليها. فوصل الأمير بدر الدين بكتاش إلى دمشق في ثاني عشر رمضان، وخرج منها بعسكر دمشق، فسار إلى حلب وأتته عساكر البلاد، فمرض وأقام بحلب، وسار ابنه بالعساكر، وحرقوا مزارع سيس وخربوا الضياع وأسروا أهلها، ونازلوا تل حمدون وقد امتنع بقلعتها جماعة كثيرة من الأرمن، فقاتلوهم حتى فتحت بالأمان، وأخذوا منها ستة ملوك من ملوك الأرمن. فشق ذلك على تكفور ملك سيس، وقصد نكاية الملوك على تسليمهم قلعة تل حمدون بالأمان، وكتب إلى نائب حلب بأن ملوك القلاع هم الذين كانوا يمنعون من حمل الخراج، فلا تفرجوا عن أحد منهم، فليس عندي من يزن المال سواهم. فأمر النائب بقتلهم، فضربت رقاب الملوك الخمسة، وأسلم منهم صاحب قلعة نجيمة والتزم بأخذ سيس، فحمل إلى مصر وكتب صحبته بعود العساكر بالغنائم، فسر الأمراء والسلطان بذلك، وأكرم صاحب قلعة نجيمة، وكتب بعود العساكر.
وقدم البريد بموت الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب حمص، فكتب بلبان الجوكندار نائب قلعة دمشق باستقراره في نيابة حمص، وتوجه إليها في ثامن عشرى جمادى الأولى، وولى عوضه نيابة قلعة دمشق بهادر السنجري.
وفيها وقع موتان في الخيول ببلاد الشام، فمات من حلب ودمشق نحو الثمانين ألف فرس، وفشا الموتان في خيول مصر أيضاً، فهلك كثير منها. ووقع ببلاد الساحل جراد كثير، وفيها ارتفعت أسعار الغلال بمصر، وبلغ الأردب القمح أربعين درهماً لتقاصر زيادة النيل، ثم انحط السعر عن قليل وأبيع بخمسة وعشرين درهماً.
وفيها سار الأمير بدر الدين جنغلي بن شمس الدين البابا أحد مقدمي التتار وافداً إلى الأبواب السلطانية بأهله وأتباعه، فلما قدم البريد بمسيره كتب إلى نائب حلب، فتلقاه وبالغ في إكرامه، وتلقاه نائب دمشق ودخل به في حادي عشر ذي القعدة. ومازالت الإقامات تتلقاه حتى قدم إلى القاهرة، فخرج الأمير بيبرس الجاشنكير إلى لقائه ومعه الأمراء إلى قبة النصر، وصعد به إلى أن قبل الأرض بين يدي السلطان في ثالث ذي الحجة، وأنزل في دار بقلعة الجبل.

وفيها أخرج الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري على إمرة بصفد، وأنعم على جنغلي بإمرته - وهى طبلخاناه، وكتب له بزيادة مائة ألف درهم. ثم نقل إلى إمرة مائة، وأنعم على أمير على من ألزامه بإمرة عشرة، وعلى نيروز من ألزامه بتقدمة ألف، وبعث الأمراء إليه بالهدايا.
وفيها قدم رسول ملك الفرنج الريدراكون البرشلوني بهدية جليلة القدر للسلطان وللأمراء، وسأل فتح كنائس النصارى فأجيب إلى ذلك، وفتحت كنيسة اليعاقبة بحارة زويلة وكنيسة الملكيين بالبندقانيين. وجهز جوابه مع فخر الدين عثمان أستادار الأمير عز الدين الأفرم، فاقترض نحو الستين ألف درهم، وبالغ في التجمل. فلما كان وقت السفر دفع الرسل ملطفاً من ملكهم إلى السلطان يسأل في فك رجل ممن أسر بجزيرة أرواد، فأفرج عنه وسار معهم إلى الإسكندرية، فبعث بعض الأسرى يعرف السلطان بأن: هذا الذي أفرج عنه ابن ملك كبير، ولو أردتم فيه مركباً ملآن بالذهب لحمله إليكم في فكه، فكتب برده فعاد من الإسكندرية وقيد على ما كان. وركب الرسل البحر، حتى إذا أبعدوا عن الإسكندرية أنزلوا الأمير فخر الدين عثمان في قارب وأمروه بالعود، وأخذوا كل ما معه. فألقاه الريح على ساحل الإسكندرية، وحمل إلى مصر، فشكا إلى الأمراء أن الذي أخذ له دين عليه، فلم يلتفت أحد إليه، وكتب إلى الإسكندرية بإيقاع الحوطة على من يرد من فرنج برشلونة.
وفيها كملت عمارة المدرسة الناصرية بين القصرين.
وفيها نقل السلطان أمه من التربة المجاورة للمشهد النفيسي إلى التربة الناصرية بين القصرين، وموضع هذه المدرسة الناصرية كان داراً عرفت أخيراً بالأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، فاشتراها الملك العادل كتبغا وشرع في بنائها مدرسة، وعمل بوابتها من أنقاض مدينة عكا، وهى بوابة كنيسة بها. فلما حضرت هذه البوابة إلى القاهرة - مع الأمير علم الدين الدواداري، متولي تخريب عكا وصور وعثليث وغيرها من القلاع التي فتحها الملك الأشرف خليل بن قلاوون - أخذها الأمير بيدرا، وقتل وهي على حالها، فعملها كتبغا على هذه المدرسة. وخلع كتبغا قبل أن تكمل، فاشتراها السلطان على يد قاضي القضاة رين الدين محلى بن مخلوف وأتمها، وعمل لها الأوقاف الجليلة ومن جملتها قيسارية أمير على بخط الشرابشيين ، والربع المعروف بالدهشة قريباً من باب زويلة، وحوانيت بباب الزهومة، والحمام المعروفة بالفخرية بجوار المدرسة السيفية، ودار أم السلطان، وحمامي الشيخ خضر بظاهر القاهرة، بخط بستان ابن صيرم والجامع الظافري، ودار الطعم خارج مدينة دمشق. ورتب بها قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف مدرس المالكية، وقاضي القضاة شمس الدين احمد السروجي مدرس الحنفية، وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغني الحراني مدرس الحنابلة، وصدر الدين محمد بن المرحل مدرس الشافعية.
وفيها ولد للسلطان من زوجته أردكين الأشرفية ابن على، ولقبه بالملك المنصور، وعمل له مهما أراد أن يستمر سبعة أيام، فلم يوافقه الأمراء على ذلك وعمل يوماً واحداً وفيها شرع الأمير سلار النائب في التجهيز إلى الحجاز.

وفيها تشاجر الوزير عز الدين أيبك البغدادي وناصر الدين محمد بن الشيخي متولي الجيزة، وسببها تعاظم ابن الشيخي على الوزير، وانحصار الأقباط منه لوفور حرمته وشدة ضبطه، فاتفقوا مع الوزير على أن يحققوا في جهته وجهات مماليكه من الأموال الديوانية مبلغاً كثيراً، فتحدث الوزير في ذلك مع الأمير سلار النائب، لعلمه بكراهته في ابن الشيخي. فطلب ابن الشيخي والدواوين وحضر الأمراء، وانتدب لمحاققته التاج الطويل مستوفي الدولة. وأفحش التاج الطويل في مخاطبته، وهو يخرج مما يلزم به بحجج يظهرها، ثم اشتد حنقه وقام على قدميه وقال: وحق نعمة مولانا السلطان هؤلاء! الأقباط أكلوا الأموال، وإن تسلمتهم لآخذن منهم للسلطان ثلاثمائة ألف دينار أكتب بها خطي. فقال له التاج: صرت أنت تأمر وتنهي يا ناصر الدين، ولو طلعت رأسك في السماء كنت عندي ضامناً بتقارير مكتتبة عليك كسائر الضمان. فغضب الأمير بيبرس الجاشنكير، وقال للتاج: والك ما كفي كذبكم حتى تجعل أميراً مثل ضامن والله ما يأكل مال السلطان غيركم، وأمر بإقامته من المجلس. وقال الأمير بيبرس لابن الشيخي: إيش قلت؟ تحمل من جهة هؤلاء ماقلت؟، قال: نعم! ، فرسم للوزير والحجاب بجمع الدواوين وتسليمهم له وانفضوا، فلم يبت أحد من الكتاب عنده، فا خلا ناظري الدولة وهما تاج الدين عبد الرحيم بن السنهوري، وشهاب الدين غازي بن الواسطي، وألزمهم بعمل حساب الدولة لثلاث سنين وضيق عليهم، وأهان التاج الطويل ونكل به. وأخذ التاج بن سعيد الدولة في مساعدة ابن الشيخي، وصار يأتيه في الليل ويرتبه، طهر في جهة الكتاب شىء كثير، فشكره بيبرس وعرف الأمراء بذلك، فرعوا له بعقوبة الكتاب واستخراج المال منهم، فقام الشهاب بن الواسطي في الحط على ابن الشيخي قياماً زائداً، وقال: يا أمراء! هذا ما يحل، وما بلغ قدر هذا الرجل بالأمس وهو في دكان يخيط الأقباع ، ثم فقير دائر يستعطي، ثم ضامن في ساحل الغلة، قد صار في حفدة ومماليك، وعمل ولاية القاهرة بأقبح سيرة. فبلغ ذلك ابن الشيخي فأوقع الحوطة عليه، وسأل الأمير بيبرس فيه فسلمها له، فلما دخل عليه مع الرسل أخرق به وأمر أن يعرى من ثيابه، فمازال به الحاضرون حتى عفا عنه من خلع ثيابه، وضربه تحت رجليه ثلاث ضربات. ثم خاف العاقبة فأكرم ابن الوسطي وتلطف به وبالكتاب، وحمل منهم ثلاثمائة ألف درهم، وأفرج عنهم بعد مشاورة الأمير بيبرس. فشق ذلك على الوزير، وسعى في السفر إلى الحجاز مع الأمير سلار، فأجيب إلى ذلك.
وسعى ابن الشيخي بالأمير بكتمر أمير جندار والأمير برلغي وينجار، ووعدهم أنه يؤجرهم البلاد والدواليب ويقوم عنهم بكلفها، وأهدى إليهم حتى ملأ أعين أعدائه وأصدقائه، وعمل للأمير سلار من ألات السفر شيئاً كثيراً، ومازال يسعى بحاشية سلار، وهو يمتنع من إجابتهم، ويردهم أقبح رد لبغضه فيه حتى خدعوه وأجاب. فاستقر ابن الشيخي في الوزارة يوم الإثنين تاسع عشر شوال، بغير رضا سلار، إلا أنه لم يجد بداً من ولايته. ونزل في موكب عظيم إلى داره بجوار المشهد الحسيني من القاهرة، وتعاظم على الناس تعاظماً زائداً.
وفيها سار الأمير سلار النائب إلى الحجاز، ومعه نحو الثلاثين أميراً: منهم سنقر الكمالي الحاجب، وعلم الدين سنجر الجاولي، وسنقر الأعسر، وكوري، وسودي، وبكتوت القرماني، وبكتوت الشجاعي، والطواشي شهاب الدين مرشد. وتأخر الأمير سلار، بعد خروج الركب مع الأمير سيف الدين أناق الحسامي أمير الركب، وبعث إلى الحجاز في البحر عشرة آلاف أردب غلة وبعث سنقر الأعسر ألف أردب، وبعث سائر الأمراء القمح للتفرقة في أهل الحرمين، فعم النفع بهم.

وفيها ورد الخبر بموت غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك المغل، في ثالث عشر شوال بنواحي الري، من مرض حاد، وكانت مدته ثمان ستين وعشرة أشهر. وقام بعده أخوه خدا بندا بن أرغون، وجلس على تخت الملك في ثالث عشرى ذي الحجة، وتلقب بغياث الدين محمد، وكتب إلى السلطان بجلوسه، وطلبه للصلح وإخماد الفتنة، وسير إليه رسله. وفيها توجه الوزير ناصر الدين محمد بن الشيخي إلى الإسكندرية، وألزم المباشرين بعمل الحساب. وكان متحصل الإسكندرية لا ينال ديوان السلطان منه إلا القليل، فإن الأمراء بيبرس وسلار وبرلغي والجوكندار ما منهم إلا من له بها نائب يتحدث في المتجر. فقام نائب الإسكندرية، ومنع الوزير من التحدث حتى يحضر الأمير سلار من الحجاز، فاتفق وصول مركب بمتجر للفرنج بلغ موجبه أربعين ألف د ينار.
وفيها خرج السلطان إلى البحيرة للصيد، وقد عبأ له الوزير الإقامات. ونزل السلطان بتروجة، واستدعى شهاب الدين أحمد بن عبادة، الذي أقامه قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف وصى السلطان وكيلا على جباية أموال أملاك السلطان ونائباً عنه لاشتغاله بوظيفة القضاء. وطلب السلطان منه دراهم يشتري بها هدية من الإسكندرية، فلم يجد عنده من مال السلطان ما يكفيه، فبعثه ليقترض من تجار الإسكندرية مبلغاً. فاجتمع ابن عبادة بالوزير، وشكا له ما فيه السلطان من الضيق والحاجة، وأنه حضر ليقترض له من التجار ما يشتري به هدية لجواريه ونسائه. فقال له ابن الشيخي: ارجع، وأنا غداً عند السلطان بألفي دينار. فعاد ابن عبادة، وأعلم السلطان بذلك، فسر سروراً كبيراً. وقدم الوزير بالمبلغ وقدمه للسلطان. فاستروح السلطان معه بالكلام، وشكا إليه ما هو فيه من ضيق مع الأمراء، فوعده بأن مصير الأمر إليه، وقوى قلبه وشجعه على الفتك بالأمراء، وهون عليه أمرهم، وقام وقد حفظ عليه الجمدارية ما قاله في حق الأمراء. وعاد السلطان إلى القلعة، وقدم الوزير من الإسكندرية بمال كثير وكساو جليلة، وشكا إلى الأمير بيبرس نائب الإسكندرية.
وقدم الخبر من الأردو بأنه قد جرد مقدم اسمه قبرتو ليقيم بديار بكر، عوض جنكلي ابن البابا المهاجر إلى الإسلام. فكتب نائب الشام مطالعة بذلك، وفيها:
أتى من بلاد المشركين مقدم ... تعالن لما أن دعوه قبرتوا
وإني لأرجو أن يجىء عقيبها ... بشير لنا أن اللعين قبرتوا
وبلغ النيل ستة عشر ذراعاً وستة عشر أصبعاً، بعدما توقف، وتحسنت الغلال.
ومات في هذه السنةعز الدين أيبك الحموي، وكان من مماليك المنصور نائب حماة، فطلبه منه الملك الظاهر بيبرس هو وأبو خرص فيسرهما إليه فأمرهما، ثم ولي الأشرف خليل أيبك هذا نيابة دمشق بعد سنجر الشجاعي، وعزله العادل كتبغا بغرلوا. ولي صرخد ثم حمص، وبها مات في تاسع عشر شهر ربيع الآخر.
ومات الأمير بيبرس التلاوي في تاسع شهر رجب، وكان يلي شد دمشق - وفيه ظلم وعسف - مدة سنة وسبعة وأربعين يوماً، منها أيام مرضه حتى هلك سبعة أشهر، واستقر عوضه في وظيفة الشد قيران الدواداري.
ومات القان إبل خان معز الدين غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولوي ابن جنكزخان، ببلاد قزوين في ثاني عشر شوال، وحمل إلى تربته خارج توريز. وكان جلوسه على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأسلم في سنة أربع وتسعين وستمائة، ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس، ففشا الإسلام بذلك في التتار، وأظهر غازان العدل، وتسمى بمحمود، وملك العراقين وخراسان وفارس والجزيرة والروم، وتسمى بالقان، وأفرد نفسه بالذكر في الخطبة، وضرب السكة باعه دون القان الأكبر، وطرد نائبه من بلاده، و لم يسبقه أحد من آبائه إلى هذا، فاقتدى به من جاء بعده، وكان أجل ملوك بيت هولاكو، إلا أنه كان ييخل بالنسبة إليهم.
ومات شمس الدين سلمان إبراهيم بن إسماعيل الملطي الدمشقي الحنفي أحد نواب الحكم بدمشق والقاهرة، وكان ديناً مباركاً.
ومات علاء الدين على بن عبد الرحيم بن مراجل الدمشقي، والد الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل، في سادس عشر ذي القعدة بدمشق، وقدم إلى القاهرة سنة إحدى وسبعمائة، وكان ماهراً في الحساب، أديباً فاضلاً.

ومات زين الدين عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيع بن الحسن الفارقي الشافعي، في حادي عشرى صفر بدمشق، ومولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وقد درس الفقه، وخطب بجامع بنى أمية قبل موته بتسعة أشهر، فولى الخطابة بعده صدر الدين محمد بن الوكيل المعروف بابن المرحل، فلم ترض الناس به، فولى شرف الدين القزاري ومات فتح الدين أبو محمد عبد الله بن الصاحب عز الدين محمد بن أحمد بن خالد ابن محمد القيسراني بالقاهرة يوم الجمعة خامس عشرى شهر ربيع الآخر، ومولده في سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وقد وزر جده الموفق خالد للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وولى الفتح هذا وزارة دمشق، ثم صرف عنها، وقدم إلى القاهرة، وباشر توقيع الدست بقلعة الجبل، وعني بالعلم، وله تصانيف ونظم حسن.
ومات نصير بن أحمد بن على المناوي المعروف بالنصير الحمامي، الأديب البارع، في.
ومات الشريف أبو فارس عبد العزيز بن عبد الغني بن سرور بن سلامة المنوفي، أحد أصحاب الشيخ أبي الحجاج الأقصري - ويقال إنه شريف حسني - في ليلة الإثنين خامس عشر ذي الحجة بمصر، عن مائة وعشرين سنة، وهو صحيح الأعضاء سليم الحواس رصين العقل، وله ديوان شعر.
ومات الأمير بكتمر السلاح دار الظاهري في .
الجزء الثاني

سنة أربع وسبعمائة
في مستهل المحرم: قدم البريد بوصول الأمير سيف الدين قطايا بن سيغرا أمير بني كلاب في عدة من مشايخ العرب، ثم قدم فأكرمه السلطان والأمراء، وأعيدوا إلى حلب. وكان من خبر قطايا أنه لما خرج عن طاعة السلطان، وعاث في أعمال حلب وأفسد، طلبه عساكر حلب، ففر إلى بلاد الشرق، وأقام مع المغل، فأكرموه مدة حياة الملك محمود غازان حتى مات، فلم يجد بعدئذ ما كان بعهده، فترامى على نائب حلب، ومازال يستعطفه في أن يأذن له في العود بعد الشفاعة له إلى السلطان، فأجاب سؤاله وكاتب فيه، فعفي عن ذنبه، أعيدت له إقطاعاته بحلب.
وقدم البريد بوقوع الفتنة بين الأمراء أسندمر كرجي نائب طرابلس، والأمير بالوج الحسامي من أمرائها، من أجل أن أسندمر استخدم في ديوانه سامرياً كاتباً يقال له أبو السرور، فزاد تحكمه، وأخذ يتجر لمخدومه في عدة بضائع، وركب الخيول المسومة بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، وتصرف في عامة الأمور بطرابلس حتى كثرت أمواله وسعاداته، وتزايد شره وضرره، وكثرت شكاية الناس منه. فقام الأمير بالوج في ذلك وتحدث مع أمراء طرابلس في إزالته عن المسلمين، وواعدهم على نصرته ومعاونته إياهم. ثم قام في يوم الموكب للنائب أسندمر، وذكر له ما أصاب الناس من كاتبه السامري، وما هم فيه من الضرر، فرد عليه رد اً غير جيد، وجبهه بالتكذيب فيما نقله، وأغلظ عليه حتى اشتد غضب الأمير بالوج منه - وكان قوي النفس شرس الأخلاق - وحلف بالأيمان المغلظة ليضربن رقبة السامري، وقام من مجلس النائب. فكتب فيه النائب أسندمر يشكو منه شكوى طويلة عريضة، فأعيد جوابه بالقبض على الأمير بالوج وحبسه، فأخذ سيفه وسجنه، فاشتدت عند ذلك وطأة السامري على الناس، فتجردوا له وكتبوا فيه محاضر بقوادح حفظت عنه، وأثبتوها بدمشق. فكتب الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام فيه، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في ذلك. وكتب بحمل السامره إلى دمشق وتسليمه للقاضي المالكي. والإفراج عن بالوج، فأفرج عنه وأنعم عليه، وقيد السامري وسلمه للبريد، فسار به إلى حمص، فاتفق قتله بها، واتهم أسندمر أنه دس عليه من ضرب عنقه حتى لا يتمكن منه، فحملت رأسه إلى دمشق.

وفيهما حكم قاضي المالكية بإراقة دم شمس الدين محمد بن الباجريقي ففر من دمشق وقدم الأمير سلار من الحب في نصف صفر، وقد فعل في الحجاز أفعالاً جميلة منها: أنه كتب أسماء المجاورين بمكة وأوفى عنهم جميع ما كان عليهم من الديون لأربابها، وأعطى لكل منهم بعد وفاء دينه مئونة سنة، ووصلت مراكبه إلى جدة سالمة، ففرق ما فيها على سائر أهل مكة جليلهم وحقيرهم، وكتب سائر الفقراء وجميع الأشراف، وحمل إليهم الدنانير والدراهم والغلة بقدر كفاية كل منهم سنة، فلم تبق بمكة امرأة ولا رجل ولا صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير عبد أو حر شريف أو غير شريف إلا وعمه ذلك، ثم استدعى الزيلع وفرق فيهم الذهب والفضة والغلال والسكر والحلوى حتى عم سائرهم، وبعث مباشريه إلى جدة، ففعلوا فيها كما فعل هو بمكة. وحمل ما بقي إلى المدينة النبوية، فما بلغ وادي بني سالم وجد العرب قد أخذوا عدة جمال من الحجاج، فتبعهم واخذ منهم خمسين رجلاً، فأفتاه الفقهاء بأنهم محاربون، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وعم أهل المدينة بالعطايا كما عم أهل مكة، فكان الناس بالحرمين يقولون: يا سلار! كفاك الله هم النار، و لم يسمع عن أحد فعل من الخير كما فعل.
وقدم البريد من حلب بحضور جماعة من المغل وافدين إلى بلاد الإسلام، نحو مائتي فارس بنسائهم وأولادهم، وفيهم عدة من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، فكتب بإكرامهم، فقدموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقدم معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقدمت أيضاً أم سلار. فرتبت لهم الرواتب، وأعطوا الإقطاعات، وفرق جماعة منهم على الأمراء. وأنشأ سلار لأمه داراً بإسطبل الجوق الذي عمله العادل كتبغا ميداناً، ثم عرف بحكر الخازن، ورقى أخويه وأعطاهم الإمريات وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشق في رابع عشرى شعبان، ودخلا القاهرة أول رمضان، ومعهما كتاب خر بندا وهديته، فتضمن كتابه جلوسه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطان بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه. فأجيب وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله، وسفر معه علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين بلبان القلنجقي أحد مقدمي الحلقة، والصدر سليمان المالكي المرتقى أحد العدول، فتوجهوا في أول ذي القعدة، وعاد علاء الدين وسليمان المالكي في رمضان من سنة خمس وسبعمائة. وقدم بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي من بلاد غازان إلى دمشق في ثالث عشرى جمادى الآخرة.
وقدم رسل الملك طقطاي صاحب سراي وبر القبجاق في أول ربيع الأول، وأنزلوا بمناظر الكبش، وأجريت لهم الرواتب. ثم حضروا بهديتهم وكتاب ملكهم، وهو يتضمن الركوب لحرب غازان ليكون في المساعدة عليه، فأجيب بأن الله قد كفاهم أمر غازان، وأن أخاه خربندا قد أذعن للصلح، وجهزت له هدية خرج بها مع الرسل الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي إلى الإسكندرية، وساروا في البحر.
وقدم عدة من التجار وشكوا من المؤيد هزبر الدين داود بن يوسف بن عمر بن على ابن رسول ملك اليمن، وكان مع ذلك قد قطع الهدية التي كانت تحمل من اليمن ومبلغها ستة آلاف دينار، يشتري بها أصناف وتسير إلى قلعة الإسماعيلية مع هدية تختص بالسلطان. وكان المظفر يوسف بن المنصور عمر بن على بن رسول حملها مدة أربعين سنة، ثم حملها ابنه الأشرف، فلما خرج عليه هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن المنصور بن على رسول قطع الجهتين واستخف بسلطان مصر، فكتب إليه بالإنكار والتهديد، وسير إليه مع ناصر الدين الطوري وشمس الدين ومحمد بن عدلان، ومعهما كتاب الخليفة أيضاً يالإنكار عليه والتهديد، وأمره أن يحمل المقرر على العادة.
وقدم أياي ملك دمقلة من بلاد النوبة بهدية ما بين جمال وأبقار ورقيق وشب وسنبادج ، وطلب عسكراً، فأنزل بدار الضيافة وعن معه الأمير سيف الدين طقصبا والي قوص وجماعة الوافدية ، وعدة من أجناده الحلقة نحو ثلاثمائة فارس، ومن أجناد الولاة بالوجه القبلي ومن العربان جماعة كبيرة. فاجتمعوا من البر والبحر بقوص، وسار بهم طقصبا مع أياي ملك النوبة.

وفيها بعث الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار إلى القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر أن يكتب نائب الشام كتاباً، فقال: لابد من مشاورة السلطان أو النائب فغضب بيبرس واستدعاه، فلما جاءه لم يكترث به، وقال له: كيف أقول لك - والك - اكتب ما تكتب ؟فقال: تأدب يا أمير ولا تقول والك فقام بيبرس وضربه على رأسه ثلاث ضربات، فخرج من عنده إلى الأمير سلار النائب، وعرفه ما جرى عليه، فأقره عنده. واجتمع بالأمراء وقت الخدمة، وعرف الأمير بيبرس الجاشنكير الخبر فشق عليه وعلى بقية الأمراء ذلك، واتفقوا على بيبرس الدوادار فأخذ سيفه وعوق من بكرة النهار إلى الظهر، وعنف تعنيفاً زائداً، وعزل من الدوادارية، واستقر عوضه الأمير أيد مر.
وقدم البريد من دمشق بأن تقي الدين أحمد بن تيمية تنازع مع أهل دمشق في الصخرة التي بمسجد النارنج بجوار مصلى دمشق، وأن الأثر الذي بها هو قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ما يفعله الناس من التبرك به وتقبيله لا يجوز، وإنه مضى بالحجارين وقطع الصخرة في سادس عشر رجب، وقد أنكر عليه الناس ما فعله فأجيب إن كان الأمر على ما زعم فقد فعل الخير وأزال بدعة، وان كان الأمر بخلاف ما قال فإذا تبين صحته يقابل على ما فعله. وقدم أيدغدي الشمهرزوري رسولاً من جهة أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن جماعة المريني ملك المغرب، بهدية جليلة، وقدم معه ركب المغاربة يريدون الحج، وكان قد انقطع من بلاد المغرب منذ سنين.
فجهزهم أبو يعقوب، وبعث معهم مصحفاً غشاه بالذهب المرصع بالجوهر الرائع، ووقفه في الحرم. فأكرم أيدغدي وأنزل بالميدان، وأجريت عليه الرواتب، وكان أيدغدي هذا لما قبض على يعقوب في الأيام الظاهرية فر في جماعة من الأكراد إلى برقة، وقدم على أبي يعقوب بهدية. ففر به وقدمه حتى صار في منزلة وزير، وحسنت سيرته عندهم إلى أن بعثه أبو يعقوب بالهدية ليحج.
وفيها بنى الأمير موسى بن الصالح على بن قلاوون على ابنة الأمير سلار النائب مملوك أبيه الصالح. وعمل مهم عظيم جداً، وجهزت ابنة سلار بمائة وستين ألف دينار، ومشى في زفته الأمير بيبرس الجاشنكير وسائر الأمراء، وحمل كل منهم التقادم من الشمع وغيره. فحمل الأمراء إليه ثلاثمائة وثلاثين قنطاراً من الشمع.

وفيها أوقع بالوزير ناصر الدين محمد بن الشيخي: وسببه أن الأمير سلار النائب لما قدم من الحجاز عرفه الجمدارية اجتماعه بالسلطان على تروجة ومسارته له وحمله مبلغ ألفي دينار، وأنه فاوضه في أمر الأمراء، وشجعه عليهم، وأن السلطان كلما احتاج إلى شيء استدعى به منه، فيحمله إليه. فشق ذلك على سلار، وحرك منه ما في نفس من كراهته له. وكان الأمير بيبرس الجاشنكير قد عزم على الحج فأراد مبادرة ابن الشيخي قبل سفر بيبرس لئلا يوقع به في غيبته، فشق ذلك عليه، فاستشار الأمير علم الدين سنجر الجاولي في أمره، فاتفقا على إقامة شخص من الأقباط يرافعه ويحقق في جهته مال السلطان. وندب لذلك من وقع الاختيار عليه. فكتب أوراقاً، وجلس الأمراء في الخدمة، فعرفهم سلار ما بلغه عن الوزير ومماليكه وحط عليه. فقال الأمراء بأجمعهم: متى ظهر في قبله شىء قطع جلده بالمقارع ، واستدعى. فلما حضر قال لي سلار: اسمع ما يقول هذا الرجل من أنك أخذت مال السلطان وخنته، وقد عرفت الشرط ، وأشار للرجل بمحاققته. فقال ابن الشيخي لشؤم بخته: ومن هذا القطعة النحس حتى أتكلم معه، أو يسمع منه في حق مثلى ما يقوله. فاشتد عند ذلك غضب سلار، وقال له: يا قواد يا قطعة نحس إيش أنت حتى تكبر نفسك واذا حضر واحد يعرفنا خيانتك تخرق به قدامنا، أما لنا حرمة عندك؟ وأمر الحاجب فضربه على رأسه إلى أن خرب شاشه. وسلمه إلى شاد الدواوين وأمره بمعاقبته ومعاقبة مماليكه كبك وبكتوت وغيره، فأخذ سيفه في آخر يوم من شعبان ومضى به هو ومماليكه وشاور عليه من الغد، فأمر بمطالبته بالحمل، فأخذ في تحصيل المال ولا يمر به يوم إلا ويخرق به عز الدين ايبك الشجاعي شاد الدواوين وينكل به، لما كان نفسه من تكبره عليه ومشيه في ركابه هو ووالى القاهرة عند قربه من داره. ثم إنه جلس بالصناعة في مصر، واستدعاه من القلعة، فنزل راكباً حماراً وشق به أسواق مصر إلى الصناعة، فثار به أهل مصر يريدون رجمه، وسبوه. ثم أعاده، و لم يزل على ذلك إلى يوم الأربعاء ثاني عشر رمضان فاستدعى سعد الدين محمد بن عطايا ناظر البيوت واستقر في الوزارة.
وجلس والأمير علم الدين سنجر الجاولي قائم بين يديه يؤخر ما يوقع عليه من الأوراق، وكان ابن عطايا قبل هذا بثلاثة أيام قد رؤى قائماً بين يدي الجاولي يقرأ عليه ورقة حساب. واستمر ابن الشيخي إلى ليلة عيد الفطر، وبيبرس الجاشنكير لا يتحدث في أمره بشىء، وإذا عرض عليه شاد الدواوين شيئاً من أموره قال له: مهما رسم نائب السلطان افعله. هذا وقد ثقل عليه في أمر ابن الشيخي زوجته بنت بهادر رأس نوبة وولداها جركتمر وأميرعلى وأخوهما خليل، وكانوا من خواص الأمير بيبرس، وهو يعدهم بخلاصه إلى أن اجتمع والأمراء عند النائب، فتحدث معه في خلاصه، فعرفه ما كان منه مع السلطان على تروجة، فأمسك عنه وقام.
وفيها توجه الأمير بيبرس الجاشنكير إلى الحجاز مرة ثانية في أول ذي القعدة، ومعه علاء الدين ايدغدي الشمهرزوري رسول ملك المغرب، والأمير بيبرس المنصوري الدوادار، والأمير بهاء الدين يعقوب في جماعة كثيرة من الأمراء. وكان فد خرج الركب في عالم كثير من الناس مع الأمير عز الدين أيبك الخازندار زوج ابنة الملك الظاهر بيبرس إلى البركة، فكثر الحجاج ، وقسموا ثلاث ركوب: ركب مع الأمير بيبرس المنصوري، وركب مع الأمير يعقوبا، وركب مع أيبك، وعندما سار الأمير بيبرس الجاشنكير رسم النائب سلار لشاد الدواوين فضرب ابن الشيخي في يومه بالمقارع، واستمر يعاقبه حتى مات من العقوبة في سابعه.
وفيها سار الشريفان حميضة ورميثة من القاهرة مع الأمير عز الدين أيدمر الكوكندي إلى مكة، فقبض الأمير بيبرس الجاشنكير على الشريفين أبي الغيث وعطفة، وولى مكانهما حميضة ورميثة.
وفيها: وجد الحاج عدة مشاق: منها قلة الماء وغلاء السعر وهبوب سمائهم محرقة هلك منها خلق كثير من جفاف قرب الماء. وأخذ الحاج من وادي النار على طريق أخرى، فتاهوا وهلك منهم عالم كبير. وبلغ الشعير كل ويبة بأربعين درهماً، والدقيق كل وبية بستين.

وفيها: قدم الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح بمن معه من غزاة سيس وفيها أجدب الشام من الغور إلى العريش، وجفت المياه، ونزح الناس عن أوطانهم من العطش وخلا من الصفقة القبلية ألفان وثمانمائة قرية.
وفيها ظهر في معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون مثقالًا، فأخفاها الضامن وحملها إلى بعض الملوك، فدفع له فيها مائة وعشرين ألف درهم فأبى بيعها، فأخذها منه وبعث بها إلى السلطان، فمات الضامن غماً.
وفيها: توجه شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في ذي الحجة من دمشق ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري، إلى أهل جبل كسروان يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا. فجمعت العساكر لقتالهم.
وفيها: قام بأمر المدينة النبوية الشريف ناصر الدين أبو عامر منصور، بعد موت أبيه الأمير عز الدين أبي سفر جماز بن شيحة في ربيع الآخر. وبلغ النيل سبعة عشر ذراعاً. وثمانية عشر إصبعاً.
ومات في هذه السنةزين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم بن حنا، في ليلة الخميس ثامن صفر، وكان فقيها شافعياً فاضلاً متديناً، رئيساً وافر الحرمة محباً لأهل الخير ومات فتح الدين أحمد بن محمد بن سلطان القوصي الشافعي، وكيل بيت المال بقوص وأحد أعيانها، في حادي عشر المحرم.
ومات شمس الدين أحمد بن على بن هبة الله بن السديد الإسنائي، خطيب إسنا ونائب الحكم بها وبأدفو وبقوص، في رجب؛ وكان قد انتهت إليه رياسة الصعيد، وبنى بقوص مدرسة، وكان قوى النفس كثير العطاء مهيبا ممدوحاً، يبذل في بقاء رياسته الآلاف، فيقال إنه بذل في نيابة الحكم بقوص ثمانين ألف درهم، فسار إلى مصر ومات بها.
ومات الأمير بيبرس الموفقي المنصوري أحد أمراء دمشق بها، في يوم الأربعاء ثالث عشرى جمادى الآخرة، مخنوقاً وهو سكران.
ومات الأمير الشريف عز الدين جماز بن شيحة أمير المدينة النبوية وقد أضر، وقام بالإمرة الأمير ناصر الدين منصور بن جماز.
ومات بهاء الدين عبد الحسن بن الصاحب محي الدين محمد بن أحمد بن هبة الله، ويعرف بأبي جرادة، مات بالقاهرة وكان سخياً مباركاً فاضلاً، حدث عن يوسف بن خليل وغيره.
ومات علم الدين عبد الكريم بن على بن عمر الأنصاري المعروف بالعلم العراقي، الفقيه الشافعي، مدرس التفسير بالقبة المنصورية، يوم الثلاثاء سادس صفر عن بضع وثمانين سنة، وكان عالم مصر.
ومات تاج الدين على بن أحمد بن عبد المحسن الحسينى العراقي الإسكندراني شيخ الإسكندرية، الإمام المحدث، في ذي الحجة، تفرد بالرواية عن جماعة، ورحل الناس إليه، وكان فقيهاً عالماً.
ومات نجم الدين عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن الكاتب بن أبي الطيب الدمشقي، ناظر المارستان النوري بدمشق وناظر الخزانة ووكيل بيت المال بها، ليلة الثلاثاء نصف جمادى الآخرة، وكان فقيهاً مدرساً مشكوراً في ولاياته.
ومات أمين الدين محمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن أحمد بمكة في المحرم، وسمع الحديث بمكة، وانتهت إليه مشيخة الحديث بها.
ومات شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبي سعيد بن التيتي الآمدي، أحد الأمراء ونائب دار العدل بقلعة الجبل.
ومات الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار، أحد الوافدية من الروم في الأيام الظاهرية، وكان كريماً شجاعاً متديناً.
ومات الأمير سيف الدين بهادر سمر مقتولًا بأيدي عرب الشام.

ومات الأمير الوزير ناصر الدين محمد - ويقال ديباى - الشيخي تحت العقوبة في سابع ذي القعدة، وأخرج على جنوية إلى القرافة، فدفن بها، وكان فيه مكارم وعصبة ومروءة ويكتب الخط المليح، ويعرف صناعة الحساب، مع الظلم والعسف والتكبر، وأحدث مظالم عديدة، وأصله من بلاد ماردين، وقدم مع شمس الدين محمد بن التيتي إلى دمشق، وسار منهما إلى القاهرة مجرداً فقيراً يمشي على قدميه، وتعيش في خياطة الأقباع ببعض أسواق القاهرة مدة، ثم تزيا بزي الأجناد وخدم مع الشادين، ولازم الوقوف في خدمة الحسام برناق شاد الكيالة زماناً حتى عرف دخل المباشرة وخرجها، فتلطف مع بعض مقطعي الكيالة وأوعدهم حتى ضمن ساحل الغلة ببولاق، فشدد فيه حتى فاض معه جملة، وخدم الصاحب فخر الدين بن الخليلي، وهادى الأمراء إلى أن ولى شد الدواوين بإمرة عشرة، وانتقل منها إلى شد الجيزية وولاية القاهرة وجمع بينهما، فصار من أمراء الطبلخاناه، وولى الوزارة، فكان فيها حتفه.
ومات الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشهاب أبي على الحسين بن شمس الدين أبي عبد الله محمد الأرموي نقيب الأشراف في تاسع عشر شوال، وولى نقابة الأشراف بعده الشريف بدر الدين بن عز الدين، وقتله بدمشق أبو السرور السامري كاتب الأمير سيف الدين أسندمر كرجي نائب طرابلس.
سنة خمس وسبعمائةفي أول المحرم: باشر جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني نيابة الحكم بدمشق، عن نجم الدين أحمد بن صصري.
وفي ثانيه: سار الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل حبال كسروان، ونادى بالمدينة من تأخر من الأجناد والرجالة شنق. فاجتمع له نحو الخمسين ألف راجل، وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال، ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم، ومزقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يوماً، قتل فيها الملك الأوحد شادي بن الملك الزاهر داود وأربعة من الجند، وملك الجبل عنوة، ووضع فيهم السيف وأسر ستمائة رجل، وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً، وعاد إلى دمشق في رابع عشر صفر.
وقدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز ومعه الشريفان أبو الغيث وعطيفة، فرتب لهما ما يكفيهما وصارا يركبان مع الأمراء وقدم الحاج، ورسم بتجهيز الهدية إلى ملك الغرب، وصحبتها عشرون إكديشاً من أكاديش التتر، وعشرون أسيراً منهم وشيء من طبولهم وقسيهم، وخرج بها - مع أيدغدي الشهرزوري - علاء الدين أيدغدي التسليلي الشمسي مملوك سنقر الأشقر، والأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي. واستقر أمين الدين أبو بكر بن وجيه الدين عبد العظيم بن يوسف بن الرقاقي في نظر الشام، عوضاً عن شهاب الدين بن ميسر. وعزل شمس الدين محمد بن عثمان بن الحريري عن قضاء الحنفية بدمشق، وكتب باستقرار شمس الدين الأذرعي عوضاً عنه وسبب عزل أنه وجد بخطة ان الشيخ تقي الدين أحمد بن تميمة لم يرى الناس بعد سلف الصالح مثله فاتفق أن البريدي لما توجه بتقليد الأذرعي ظن أنه للحريري وقدم دمشق والنائب قد خرج إلى الصيد، فأعطى التقليد للحريري، فقام إلى المدرسة الظاهرية وحكم، وكان ابن الأذرعي يظنها له، فيئس واغتم لذلك. ثم قرئ الثقليد بحضره الناس، فإذا هر باسم الأذرعي، فقام الحريري خجلاً، واستدعى الأذرعي فجلس وحكم.
وفيها: أظهر ابن تيمية الإنكار على الفقراء الأحمدية فيما يفعلونه: من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم، وتقلدهم بالسلاس على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم، ولفهم شعورهم وتلبيدها. وقام في ذلك قياماً عظيماً بدمشق، وحضر في جماعة إلى النائب، وعرفه أن هذه الطائفة مبتدعة، فجمع له ولهم الناس من أهل العلم، فكان يوماً مشهوداً كادت أن تقوم فيه فتنة، واستقر الأمر على العمل بحكم الشرع ونزعهم هذه الهيئات.
وفيها اقطع السلطان في جمادى الآخرة جبال كسروان بعد فتحها للأمير علاء الدين بن معبد البعلبكي، وسيف الدين بكتمر عتيق بكتاش الفخري. وحسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، فركبوا بالشربوش وخرجوا إليها، فزرعها لهم الجبلية، ورفعت أيدي الرفضة عنها.

وفيها أخر متملك سيس الحمل الجاري به العادة، فبعث إليه نائب حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحد مقدمي حلب على عسكر نحو الألفين، وفيهم الأمير شمس الدين أقسنقر الفارسي والأمير فتح الدين صبرة المهمندار، والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في ذي الحجة من السنة الماضية. فشنوا الغارات على بلاد سيس، ونهبوا وحرقوا كثيراً من الضياع، وسبوا النساء والأطفال في المحرم. وكان قد وصل إلى سيس طائفة من التتار في طلب المال، فركب التتار مع صاحب سيس، وملكوا رأس الدربند، فركب العسكر لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتار عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقتل جماعة وأسر من الأمراء ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرين من أهل حلب، وخلص قشتمر مقدم العسكر، وآقسنقر الفارسي. وتوجه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم: وبلغ نائب حلب خبر الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فرسم بخروج الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس. فبعث متملك سيس الحمل، واعتذر بأن القتال لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحيل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأمير بكتاش بمن معه من غزة.
وفيها أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر الجكمي الظاهري، وأخرج إلى دمشق على إقطاع قيران مشد الدواوين، واستقر حاجباً بدمشق عوضاً عن الأمير بكتمر الحسامي، ونقل بكتمر من الحجوبية إلى شد الدواوين، وقبض على قيران وصودر.
وفيها قدم رسول ملك قسطنطينية ، ومعه رسول الكرج، بهدايا وكتاب يتضمن الشفاعة في فتح الكنيسة المصلبة بالقدس لزيارة الكرج لها، وأن الكرج تكون في طاعة السلطان وعوناً له متى احتاج إليهم. فكتب بفتح الكنيسة ففتحت، وأعيد الرسول بالجواب.
وفيها توقفت الأحوال بالقاهرة، لكثرة الفلوس وما دخل فيها من الخفاف الوزن، وارتفع سعر القمح من عشرين درهماً الأردب إلى أربعين. فرسم بضرب فلوس جدد، وعملت الفلوس الخفاف بدرهمين ونصف الرطل، فمشت الأحوال.
وفيها قام شمس الدين محمد بن عدلان بالقاهرة، وأنكر على تقي الدين أحمد بن تيمية فتوى رآها قي مسالة الاستواء ومسألة خلق القرآن، واجتمع بالقضاة في لنائب آل الأمر فيه إلى أن كتب ابن تيمية خطه وأشهد عليه إنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، وانه أشعري الاعتقاد. فنودي بدمشق من ذكر عقيدة ابن تيمية شنق، فاشتد حينئذ ابن عدلان، وقام معه قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي. وحرض الأمراء عليه. ومازال بهم حتى خرج الأمير ركن الدين العمري الحاجب على البريد بحمله وحمل أخيه شرف الدين عبد الرحمن إلى القاهرة. وطلب الأمير ركن الدين نجم الدين أحمد بن صصري، ووجيه الدين بن المنجا، وتقي الدين شقير، وأولاد ابن الصائغ، فأحضروهم يوم الخميس ثاني عشر رمضان، فاجتمع القضاة والفقهاء بقلعة الجبل، وحضر الأمراء، فادعى ابن عدلان على ابن تيميه، فلم يجبه وقام يخطب، فصاح عليه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي: نحن أحضرناك للدعوى عليك، ما أحضرناك خطيباً وألزمه بالجواب. فقال له: أنت عدوي لا يجوز حكمك على فأمر باعتقاله، فأخذ وسجن بحارة الديلم من القاهرة هو وأخوه.
وخلع على ابن صصري، وأعيد إلى دمشق، ومعه كتاب ليقرأ على الجامع بالمنع من الكلام في العقائد والنهي عن اعتقاد شيء من فتاوى ابن تيمية، وأن يكتب على الحنابلة محاضر بالرجوع عن ذلك، وتثبت على قضاة الممالك، وتقرا على المنابر، ففعل ذلك بدمشق.

وفيها قطع خبر الأمير الكبير بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي النجمي: وسبب ذلك أنه مرض وقد أناف على الثمانين فخاف أستاداره بكتمر الفارسي من موته، وأن يطالب من ديوان السلطان بتفاوت الإقطاع في مدة إمرته وهي ستون سنة، وأن يلزم بالتقاوى السلطانية، وحسن لولده ناصر الدين محمد أن يمضي إلى الأمير بيبرس وسلار على لسان أبيه، بان يتحدثا مع السلطان بأنه قديم هجرة وله خدمة في البيت المنصوري، وقد أسن وعجز عن الركوب، ولا يحل له أكل هذا الإقطاع بغير استحقاق، ويسألاه في إخراجه عنه وكتابة مسموح لأولاده ومباشريه بما يخص السلطان من تفاوت الإقطاعات والانتقالات من تاريخ إمرته إلى خروج الإقطاع عنه، وخيله إنه متى لم يفعل ذلك حتى يموت والده لم يبق لهم من بعده وجود، ويحتاج إلى الاستدانة ليوفي الديوان السلطاني مستحقه. فانفعل لذلك، وبلغ ما رتبه الأستادار عن أبيه إلى بيبرس وسلار، فتألما وبكيا، ودخلا به إلى السلطان، فأعاد ناصر الدين محمد له الرسالة بحضور الأمراء، فأجيب، وكتب المسموح، ونصه: رسم بالأمر الشريف شرفه الله وعظمه أن يسامح المقر العالي المولوي الأميري البدري بكتاش الفخري الصالحي أمير سلاح بجميع ما عليه من تفاوت الإقطاعات المنتقل إليها والمنتقل عنها، من غير طلب تفاوت ولا تقاو، ولا ما يخص الديوان الشريف من هلالي وخراجى وغيره، مسامحة وانعاماً عليه، لما سلف له من الخدمة وتقادم الهجرة، مسامحة لا رد فيها ولا رجوع عنها بحيث لا يطالب بشئ قل ولا جل، لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه، لنزوله عن إقطاعه حسب سؤاله وتوجه إليه الأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب، والأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى بذلك. وسبق ولده ودخل عليه ومعه بكتمر أستاداره، وحدثاه في أنه قد ضعف عن الحركة، وأن الإقطاع يستكثر عليه، فقال: أرجو أن يمن الله بالعافية، وأن أموت على ظهر فرسي في الجهاد فذكرا له ما يتخوفانه بعد موته من المغرم، فلم يلتفت لكلامهما. وقدم الحاجب وابن الوزيري بالمسموح ، فقاله لهما: لا تطيلا في الكلام، فإنه اختلط وفسد عقله فدخلا وعرفاه ما قاله عنه ولده من طلب الإعفاء من الخدمة، فإنه نزل عن الإقطاع، وقدما له المسموح، وبلغاه سلام السلطان والأمراء، وأنه لم يفعل هذا إلا حسب سؤاله، وقد رتب له خمسة آلاف درهم في الشهر. فغضب عند ذلك وقال: قطع السلطان خبزي؟ قالا: نعم! وعرفاه ما كان من ولده، فالتفت إليه وقال: أنت سألت في ذلك؟ قال: نعم! فسبه، وقال للأميرين: قولاً للسلطان والأمراء ما كنت أستحق أن يقطع خبزي قبل الموت، وهم يعلمون ما فعلته معهم، وكنت أؤمل أن أموت في الغزاة، وما برحت أخرج كل سنة لعل أن يدركني أجلي، فما قدر الله. ثم أعرض عنهم، وقاموا عنه، فمات من مرضه هذا. واستقر إقطاعه في الخاص السلطاني، وأضيفت أجناده إلى الحلقة، وذلك في ذي الحجة.
وفيها قدمت هدية الملك المؤيد هزبر الدين دواد صاحب اليمن، فوجدت قيمتها أقل من العادة، فكتب بالإنكار عليه والتهديد، وسير مع بدر الدين محمد الطوري أحد مقدمي الحلقة، فلم يعبأ به الملك المؤيد، ولا أجاب عن الكتاب بشيء.
وفيها استسقى أهل دمشق لقلة الغيث، فسقوا بعد ذلك.
ومات في هذه السنةخطيب دمشق شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزارى الفقيه الشافعي المقرئ النحوي المحدث، في شوال عن خمس وسبعين سنة.
ومات مجد الدين سالم بن أبي الهيجاء بن جميل الأذرعي قاضي نابلس، بالقاهرة في ثاني عشر صفر، بعدما باشر قضاء نابلس أربعين سنة، وصرف عنها وقدم بأهله إلى القاهرة فمات بها.
ومات الحافظ شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف ابن الخضر بن موسى الدمياطي الفقيه الشافعي المحدث آخر الحفاظ، في خامس عشر ذي القعدة، من غير مرض، عن اثنتين وتسعين سنة.
ومات قاضي القضاة بحلب شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي بها، في أوائل جمادى الأولى، وكان فاضلاً مشكور السيرة.
ومات محمد بن عبد المنعم بن شهاب الدين بن المؤدب بمصر، حدث عن ابن باقا.

ومات الفقيه العابد المسند أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد الحبراني الحنبلي، ومولده بحران سنة ثماني عشرة وستمائة، سمع من ابن روزبة والمؤتمن ابن قميرة، وسمع بمصر من ابن الجميزي وغيره، وتفرد بأشياء، وكان فيه دعابة، وتلا بمكة ألف ختمة.
ومات شرف الدين يحيى بن احمد بن عبد العزيز الجذامى الإسكندراني.
ومات الأوحد تقي الدين بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان، أحد أمراء دمشق، في ثاني صفر على قتال الكسرويين، وكان فاضلاً خبيراً بالأمور.
وماتت المعمرة أم الفضل زينب بنت سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الإسعردية بمصر في ذي القعدة، حدثت عن ابن الزبيدي وأحمد بن عبد الواحد البخاري وغيره، وتفردت بأشياء.
سنة ست وسبعمائةفيها توحش ما بين الأميرين علم الدين سنجر البرواني وسيف الدين الطشلاقي على باب القلة من القلعة بحضرة الأمراء، من أجل استحقاقهما في الإقطاعات، فإنهما تباعلا، ونزل الطشلاقي على إقطاع البرواني.
وكان كل منهما فيه كبر وظلم وعسف، والبرواني من خواص الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والطشلاقي من ألزام الأمير سلار النائب لإنه خشداشه، وكلاهما مملوك الصالح على بن قلاوون. فاشتد الطشلاقي على البرواني وسفه عليه، فقام البرواني إلى الأمير بيبرس فشكا منه، فاستدعى به وعنفه، فاساء في الرد وأفحش في حق البرواني، وقال: أنت واحد منفي وافدي تجعل نفسك مثل مماليك السلطان؟. فاستشاط بيبرس غضباً، وقام ليضربه، فجرد سيفه يريد ضرب بيبرس، فقامت قيامة بيبرس، وأخذ سيفه وأومأ ليضربه، فترامى عليه من حضره وأمسكه عنه، وأخرجوا الطشلاقي بعدما كادت مماليك بيبرس أن تقتله. وللوقت طلب بيبرس الأمير سنقر الكمالي الحاجب، وأمره بإخراج الطشلاقي إلى دمشق، فخشي من النائب سلار ودخل عليه وأخبره الخبر فوجد العلم عنده، وأمره بالعود إلى بيبرس وملاطفته في العفو عن الطشلاقي، وأنه يلزم داره حتى يرضى عنه. فعاد إلى بيبرس، وعندما أخذ يبلغه رسالة سلار صرخ فيه، وحلف إن بات الطشلاقي الليلة في القاهرة عملت فتنة كبيرة. فعاد الحاجب وبلغ سلار ذلك، فلم يسعه إلا السكوت، وأخرج الطشلاقي من وقته، وأمر الحاجب بتأخيره في بلبيس ليراجع بيبرس فيه. وعندما اجتمعا من الغد في الخدمة بدأه بيبرس بما كان من الطشلاقي في حقه من الإساءة، وسلار يسكن غضبه فلا يسكن بل يشتد، فأمسك على حقد وتوجه الطشلاقي إلى الشام.
وفيها قدم البريد من حماة بمصر ثابت على القاضي أن ضيعة تعرف ببارين بين جبلين، فسمع للجبلين في الليل قعقعة عظيمة، فتسارع الناس في الصباح إليها، فإذا أحد الجبلين قد قطع الوادي وانتقل منه قدر نصفه إلى الجبل الآخر، والمياه فيما بين الجبلين تجري في الوادي، فلم يسقط من الجبل المنتقل شيء من الحجارة، ومقدار النصف الذي انتقل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع، ومسافة الوادي الذي قطعه هذا الجبل مائة ذراع وأن قاضي حماة خرج بالشهود حتى عاين ذلك، وكتب به محضراً فكان هذا من غرائب الاتفاق.
وفيها قدم الخبر من بلاد المغرب بقتل السلطان أبي يعقوب بوسف بن يعقوب المريني صاحب تلمسان في ذي القعدة من السنة الحالية على يد خدمه، وأن ابنه أبا سالم قام من بعده، فثاروا به بعد أسبوع، وأقاموا عوضه حفيده أبا عامر ثابت.

وفيها ابتدأت الوحشة بين الأميرين بيبرس وسلار: وسببها أن التاج بن سعيد الدولة الكاتب كان متمكناً من بيبرس مستولياً على سائر أموره، فمكنه من الدولة حتى صارت أمور الأموال الديوانية المتعلقة بالوزارة والأستادارية لا يلتفت فيها إلى كلام غيره، واستعان معه أكرم بن بشير أحد أقاربه، فتقربا إلى بيبرس بتحصيل الأموال من المشتروات، وأضافا له جهة النطرون وكان التاج صديقاً لابن الشيخي، وهو الذي قدمه إلى الوزارة، فلما قتل شق عليه، واتهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي بأنه السبب في ذلك، وأنه الذي أغرى به الأمير سلار، لما كان يعلم من عداوة الجاولي لابن الشيخي ومصادقته للصاحب سعد الدين محمد بن سعد بن عطايا، وهو الذي عينه للوزارة بقصد إنكاء التاج بن سعيد الدولة. فأخذ التاج في العمل على الجاولي، وهو يومئذ ينوب عن بيبرس الجاشنكير في الأستادرية، وندب لمرافقته رجل من الأقباط، وصار كل قليل يقول عنه لبيبرس إنه نهب الأموال، وأخذ رواتب كثيرة لنفسه وحواشيه، ومد وقفت أحوال الدولة من ذلك، والوزير ابن عطايا لا يدري صناعة الكتابة، وإنما أشار الجاولي على سلار بوزارته ليتمكن من أغراضه، وان بعض كتاب الحوائج خاناه كتب أوراقاً بمال كبير في جهة الجاولي، وأكثر من هذا القول وما أشبهه، إلى أن تقرر ذلك في نفس بيبرس وتغير على الجاولي، وحدث سلار في أمره، وأنه أخذ جملة مال مستكترة. وكان سلار صديقاً للجاولي شديد المحبة له من قديم حتى أن كلاً منهما عمر مدرسة على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش مجاورة لمدرسة الآخر، وعمل لنفسه مدفناً بحذاء مدفن الآخر. فدافع سلار عن الجاولي، وقال لبيبرس: بالله لا تسمع للديوان؟ فإنهم مناحيس يريدون الفتن. فتمادى بيبرس في الحط على الجاولي وسبه، وقال: لابد أن أخلص منه المال . فلما افترقا أعلم سلار الجاولي بتغير بيبرس عليه، فقال له: هذا من التاج بن سعيد الدولة، فأشار عليه بالدخول إلى بيبرس ومخادعته بلين القول له، عساه ينخدع ويمسك عما يريده. فامتثل ذلك وصار إليه وخضع له وتذلل، فاشتد في الحرج وبالغ في السب والتهديد، و لم يلتفت إلى قوله، فقام يتعثر في أذياله إلى سلار وأخبره، فغضب من ذلك. وعند خروج الجاولي من عند بيبرس دخل عليه ابن سعيد الدولة بأوراق قد رتبها. مما في جهة الجاولي، وقرأها عليه، وأحضر معه أكرم بن بشير ليحاقق الجاولي على ما في الأوراق، فقوى بيبرس قلب بن بشير على المحافظة. ولما كان الغد، وخرج الأمراء من الخدمة السلطانية، وجلسوا عند النائب سلار، وفيهم الجاولي والوزير، أمر بيبرس بإحضار ابن بشير الكاتب، فلما جاء قال له: أنت قلت إن مال السلطان ضائع، وإن هذا - يعني الجاولي - أخذ منه أشياء، وإن الوزير وافقه على ذلك، وإن أحوال الدولة قد وقفت، وإنك ترافعهما وتحقق مال السلطان في جهتهما فتكلم الآن معهما، ولا تقل إلا الصحيح . فنهض عند ذلك قائماً، وأخرج الأوراق، وحاقق الوزير على فصول تلزم الجاولي، فأجاب الجاولي. عنها فصلاً فصلاً، وابن بشير يرد عليه وقال في كلامه: أنت أمير، ما تدري فصول الكتابة وطال الكلام، وانفض المجلس على أقبح صورة، وقد وقع التنافر بين بيبرس وسلار بسبب قيام كل منهما في نصرة صاحبه.
وكان من عادة بيبرس أن يركب لسلار عند ركوبه وينزل عند نزوله، فمن يومئذ لم يركب معه، وبقي كل منهما يركب في حاشيته وحده، وتوقع الناس الفتنة. فبعث الأمير سلار بسنقر الكمالي الحاجب إلى بيبرس ليتلطف به ويعرفه إن الجاولي قد علمت ما بيني وبينه من الأخوة بحيث أن كلا منا عمل الآخر وصيه على أولاده بعد موته، ويتضرع له حتى يعفو عنه. فمضى إليه وبالغ معه في الكلام، وهو يشتد إلى أن قال: لا أرجع عنه حتى أخذ منه مال السلطان وأضربه بالمقارع. وبعث إليه: إن لم تحمل المال ضربتك بالمقارع حتى تموت مثل الغير يعني ابن الشيخي، وبعث إلى الوزير بذلك أيضاً، ورسم عليهما حتى يحملا المال. فلما بلغ الكمالي ذلك لسلار قامت قيامته، إلا أنه كان كثير المداراة عاقلاً. وأخذ الجاولي في بيع خيله وقماشه وأمتعته بباب القلة على الأمراء، فشق عليهم ما نزل به وشروا مبيعه بأضعاف ثمنه، ليردوه إليه إذا صلح حاله مع الأمير بيبرس، تقرباً لخاطر الأمير سلار.

وتمادى الحال عدة أيام وبيبرس وسلار لا يجتمعان، واستعد الأمراء البرجية ألزام بيبرس، وصاروا يركبون بالسلاح من تحت ثيابهم خوفاً من وقوع الفتنة، وترقب الناس الشر في كل يوم، وتحدثوا به. فركب الأمراء الأكابر: أقوش قتال السبع، وبيبرس الدودار، وبرلغي، وأيبك الخازندار، وسنقر الكمالي، وبكتوت الفتاح، في آخرين إلي الأمير بيبرس الجاشنكير، وتحدثوا معه في تسكين الشر وإخماد الفتنة. ومازالوا به حتى رفع الترسيم عن الجاولي بشرط أن يخرج إلى الشام بطالا، وقاموا من عنده إلى الأمير سلار، ومازالوا به حتى وافق على سفر الجاولي، فسافر من يومه بعد ما قطع خبزه، ثم أنعم عليه بعد وصوله إلى دمشق بإمرة طبلخاناه.
وفيها أفرج عن الصاحب سعد الدين محمد بن عطايا بعدما حمل نحو الثمانين ألف درهم، واصطلح بيبرس وسلار، ثم تحدثا في أمر الوزارة ومن يصلح لها، فعين سلار التاج بن سعيد الدولة، فقال بيبرس: إنه لا يوافق، فقد عرضتها عليه وامتنع منها، فقال سلار: دعني وإياه، فقال: دونك، وتفرقا. فبعث سلار إلى التاج أحضره، فلما دخل عليه عبس في وجهه وصاح بانزعاج: هاتوا خلعة الوزارة، فأحضروها، وأشار إلي التاج بلبسها فتمنع، وصرخ فيه وحلف لئن لم يلبسها ضرب عنقه. فخاف الإخراق به لما يعلمه من بغض سلار له، ولبس التشريف في يوم الخميس خامس عشر المحرم، وقبل يد الأمير سلار فبش له ووصاه، وخرج من دار النيابة بالقلعة إلى قاعة الصاحب بها، وبين يديه النقباء والحجاب، وأخرجت له دواة الوزارة والبغلة، فعلم على الأوراق وصرف الأمور إلى بعد العصر، ونزل إلى داره. وبلغ ذلك الأمير بيبرس فسر به، لأنه كان من غرضه.
وأصبح الناس يوم الجمعة إلى دار الوزير تاج الدين أبي الفتوح بن سعيد الدولة ينتظرون ركوبه، فلم يخرج إلى أن علا النهار، وخرج غلامه و قال: يا جماعة! القاضي عزل نفسه وتوجه إلى زاوية الشيخ نصر المنبجي، فتفرقوا، وكان لما نزل إلى داره توجه ليلاً إلى الشيخ نصر، وكان خصيصاً به، وله مكانة عند الأمير بيبرس، وبعث بتشريف الوزارة إلى الخزانة السلطانية بالقلعة، وأقام عند الشيخ نصر مستجيراً به، فكتب الشيخ نصر إلى بيبرس يشفع فيه، ويقول له إنه قد استعفى من الوزارة وقال إنه لا يباشرها أبداً، ويقصد أن يقيم في الزاوية مع الفقراء يعبد الله فأخذ بيبرس الورقة ودخل على سلار، فلما وقف عليها قال: قد أعفيناه، فأحضره حتى نستشيره فيمن يلي الوزارة، فأحضره بيبرس إليه فاعتذر، وأشار بوزارة ضياء الدين أبي بكر بن عبد الله بن احمد النسائي ناظر الدواوين، فاستدعى وخلع عليه في يوم الاثنين تاسع عشره. فباشر ضياء الدين الوزارة، وليس له منها سوى الاسم، وصار التاج يدبر الأمور، ولا يصرف شيء إلا بخطه، ولا يفعل أمر إلا بحكمه.
وفي سادس صفر: خلع على التاج بن سعيد الدولة، واستقر مشيراً وناظراً على الوزارة وسائر النظار مصراً وشاماً، ومنفرداً بنظر البيوتات والأشغال المتعلقة بالأستادارية ونظر الصحبة ونظر الجيوش، وكتب له توقيع لم يكتب لمتعمم مثله. وصار يجلس بجانب الأمير سلار نائب السلطنة، فوق كل متعمم من الكتاب، ونفذ حكمه ومضى قلمه في سائر أمور الدولة، فألان الوزير جانبه له وخفض جناحه بكل ممكن. واستقر عز الدين أيدمر الخطيري أستادارا عوضاً عن سنجر الجاولي.
وفيها قدم الرسل الذين توجهوا إلى الملك طقطاي صاحب بلاد الشمال: وهم الأمير بلبان الصرخدي ورفقته، ومعهم نامون رسول طقطاي بهدية سنية، وكتاب يتضمن أن عسكر مصر تسر إلى بر الفرات ليسير معهم ويأخذ بلاد غازان، ويكون لكل منهما ما يصل إليه من البلاد. فأكرم الرسول وجهزت له الهدايا، وأجيب بأن الصلح قد وقع مع خربندا ولا يليق نقضه، فإن حدث غير ذلك عمل بمقتضاه وسير إليه الأمير بدر الدين بكمش الظاهري، وفخر الدين أياز الشمسي أمير أخور، وسنقر الأشقر، وأحد مقدمي الحلقة.

وفيها نقل شهاب الدين غازي بن أحمد بن الواسطي من نظر الدولة، ومعه تاج الدين عبد الرحيم بن السنهوري، إلى نظر حلب. وسبب ذلك إنه كان يعادي التاج بن سعيد الدولة، بحيث إنه كان سبباً في ضرب سنقر الأعسر له بالمقارع أيام وزارته حتى أسلم. وكان طويل اللسان، بعرف بالتركي، ويداخل الأمراء، فإذا دخل ابن سعيد الدولة إلى بيت أمير وهو هناك لا يقوم له ولا يلتفت إليه. فلما تحدث ابن سعيد الدولة في أمور المملكة ثقل عليه ابن الواسطي، وما زال بالأمير بيبرس إلى أن كتب توقيعه بنظر حلب، وبعث إليه. فقام لما جاءه التوقيع. وقال: والله لقد كنت قانعاً بجهنم عوضاً عن موافقة ابن تعيس الدولة، وسار إليها.
وفيها نقل الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي من شد الدواوين بدمشق إلى الحجوبية، على عادته في ثامن ذي الحجة، واستقر عوضه في الشد الأمير جمال الدين أقوش الرستمي والي القاهرة بالصفة القبلية، بعدما التزم بثماني مائة ألف درهم في أربع سنين.
وفيها قدم البريد من دمشق بقدوم رجل من بلاد التتر يقال له الشيخ براق، في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعة من الفقراء نحو المائة: لهم هيئة عجيبة، وعلى رؤوسهم كلاوت لباد مقصصة بعمائم فوقها، وفيها قرون من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراس، ولحاهم محلقة دون شواربهم، ولبسهم لبابيد بيضاء، وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكل منهم مكسور الثنية العليا، وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس و له صولة، ومعه طبلخاناه تدق له نوبة، وله يحتسب على جماعته يؤدب كل من ترك شيئاً من سنته بضرب عشرين عصا تحت رجليه، وهو ومن معه ملازمون التعبد والصلاة وأنه قيل له عن زيه، فقال: أردت أن أكون مسخرة الفقراء وذكر أن غازان لما بلغه خبره استدعاه وألقى عليه سبعاً ضارياً، فركب على ظهر السبع ومشى به، فجل في عين غازان ونثر عليه عشرة آ لاف دينار، وأنه عندما قدم دمشق كان النائب بالميدان الأخضر فدخل عليه، وكان هناك نعامة قد تفاقم شرها و لم يقدر أحد على الدنو منها، فأصر النائب بإرسالها عليه، فتوجهت نحوه فوثب عليها وركبها، فطارت به في الميدان قدر خمسين ذرعاً في الهواء حتى دنا من النائب فقال له: أطير بها إلى فوف شيئاً آخر، قال: لا وإنه أنعم عليه وهاداه الناس. فكتب بمنعه من القدوم إلى مصر، فسار إلى القدس ورجع إلى بلاده، وفيهم يقول السراج: من موشحة طويلة أولها:
جتنا عجم من جوا الروم ... صور تحير فيها الأفكار
لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح منهم زنهار
وفيها عاد الأمير طقصبا ومعه العسكر من بلاد النوبة إلى قوص، بعد غيبتهم تسعة اشهر، ومقاساة أهوال في محاربة السودان وقلة الزاد.
وفيها منع الأميران بيبرس وسلار المراكب من عبور الخليج المعروف بالحاكي خارج القاهرة، لكثره ما كان يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات، وتبرج النسا، في المراكب وجلوسهن مع الرجال مكشوفات الوجوه بكوافي الذهب على رؤوسهن، وتعاطيهن الخمر، وكانت تئور الفتن بسبب ذلك، وتقتل القتلى العديدة. فلم يدخل الخليج إلا مركب فيها متجر، وأما مراكب النزهة فامتنعت، وعد ذلك من أحسن أفعال.
وفيها كملت عمارة الجامع الذي أنشأه الأمير جمال الدين أقوش الأفرم بسفح جبل قاسيون ، وخطب به القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، يوم الجمعة رابع عشرى شوال.
وفيها ولى قضاء الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الحسن على بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم محمد البصروي، في تاسع عشرى ذي القعدة، عوضاً عن شهاب الدين أحمد الأذرعي.
وفيها قدمت رسل صاحب سيس بالحمل، بعدما أطلق مائتين وسبعين أسيراً من المسلمين، قدموا حلب.
وفيها ولى جلال الدين محمد القزويني خطابة دمشق، بعد وفاة شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي في شوال.

وفيها أفرج الأمير سلار عن شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في آخر يوم من رمضان، بعدما جمع القضاة والفقهاء، وبعثوا إليه ليحضر من الاعتقال فامتنع، وترددت إليه الرسل مراراً فلم يحضر، وانفضوا من عند سلار. فاستدعى بأخويه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن، وجرى بينهما وبين القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي كلام كثير. ثم اجتمع شرف الدين والمالكي ثانياً عند الأمير سلار، وحضر ابن عدلان، وتفرقوا عن غير شيء.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرشهاب الدين أحمد بن عبد الكافي بن عبد الوهاب البليني الشافعي، أحد نواب القضاة الشافعية خارج القاهرة، وكان صالحاً ديناً فاضلا.
ومات الصاحب شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا الأذرعي الحنفي الدمشقي، محتسب دمشق ووزيرها.
ومات الأمير عز الدين أيبك الطويل الخازندار المنصوري، في حادي عشر ربيع الأول بدمشق، وكان كثير البر ديناً.
ومات الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي النجمي، اصله من مماليك الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وصار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فترقى في الخدم حتى صار من أكبر الأمراء، وخرج إلى الغزاة غير مرة، وعرف بالخير وعلو الهمة وسداد الرأي وكثرة المعروف، ولما قتل المنصور لاجين أجمعوا على سلطنته فأبى، وأشار بعود الناصر محمد بن قلاوون فأعيد، ومات بعدما استرجع إقطاعه بالقاهرة في ربيع الأول، عن ثمانين سنة، وهو آخر الصالحية، وإليه ينسب قصر أمير سلاح بالقاهرة.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري، ولي نيابة قلعة صفد وشد الدواوين بدمشق ثم نيابة قلعتها، ومات وهو نائب حمص بها وكان خيراً.
ومات الشيخ سيف الدين الرجيحي بن سابق بن هلال ابن الشيخ يونس اليونسي شيخ الفقراء اليونسية قدم من العراق، فصارت له حرمة وافرة في الأيام المنصورية قلاوون حتى مات، وله أتباع كثيرة، فخلفه ابنه حسام الدين فضل.
ومات الطواشي شمس الدين صواب السهيلي بالكرك عن مائة سنة، وكان له بر ومعروف.
ومات ضياء الدين عبد العزيز محمد بن على الطوسي الشافعي، بدمشق في تاسع عشرى جمادى الأولى، وله شرح الحاوي في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، ودرس مدة بدمشق.
ومات بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي العمري، أخو كاتبي السر شرف الدين عبد الوهاب ومحي الدين يحيى، وقد جاوز سبعين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي خطيب دمشق، فجأة في ثامن شوال وكان صالحاً معتقداَ.
ومات محمد بن عبد العظيم بن على بن سالم القاضي جمال الدين أبو بكر بن السفطي الشافعي، ولد سنة ثمان عشرة وستمائة، وناب في الحكم بالقاهرة أربعين سنة، ثم تعفف عن الحكم، ومات بالقاهرة ليلة الإثنين جمادى عشر شعبان.
ومات الأمير فارس الدين أصلم الردادي في رابع ذي القعدة بدمشق. وفي نصف ذي القعدة مات الأمير سيف الدين كاوركا المنصوري.
ومات الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري بالقاهرة، في سابع عشر ذي الحجه. ومات الطواشي عز الدين دينار العزيزي الخازندار الظاهري، يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول، وكان خيراً دينار محبا لأهل الخير، وكان دوادار الملك الناصر وناظر أوقاف الملك الظاهر.
ومات ملك المغرب أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، وثب عليه سعادة الخصي أحد مواليه في بعض حجره، وقد خضب رجليه بالحناء وهو مستلق على قفاه، فطعنه طعنات قطع بها أمعاءه، وخرج فأدرك وقتل، فمات السلطان آخر يوم الأربعاء سابع ذي القعدة، وأقيم بعده أبو ثابت عامر ابن الأمير أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، فكانت مدته إحدى وعشرين سنة.
سنة سبع وسبعمائة

فيها ورد الخبر بأن الملك المؤيد هزبر الدين داود ملك اليمن كثر ظلمه للتجار، وأخذ أموالهم، وترك إرسال الهدية إلى مصر على العادة بعد أن عزم على تجهيزها، وقصد أن يبعث الأموال إلى مكة ليقدم اسمه على اسم سلطان مصر في الدعاء. فكتب إليه من قبل السلطان ومن قبل الخليفة أبي الربيع سليمان بالإنذار والإرهاب، وجهزا على يد نجاب ورسم لكل من الأمراء المقدمين بعمارة مركب يقال لها حلبة، وعمارة قياسة لطيفة يقال لها فلوة برسم حمل الأزواد وغيرها، وتفسر ذلك إلى الطور على الظهر ليرمي على بحر القلزم، لغزو بلاد اليمن. فاشترك كل أمير مقدم ألف ومضافيه في عمل حلبة وفلوة، وندب لعملها الأمير عز الدين أيبك الشجاعي الأشقر شاد الدواوين، وسافر إلى قوص.
وفيها ضجر السلطان من تحكم الأميرين بيبرس وسلار عليه، ومنعه من التصرف، وضيق يده.، وشكا ذلك لخاصيته. واستدعى الأمير بكتمر الجوكندار أمير جاندار في خفية، وأعلمه. مما عزم عليه من القيام على الأميرين، فقرر الأمير أن القلعة إذا أغلقت في الليل، وحملت مفاتيحها إلى السلطان على العادة، و لبست مماليك السلطان السلاح، وركبت الخيول من الإسطبل، وسارت إلى إسطبلات الأمراء، ودقت كوسات السلطان بالقلعة دقاً حربياً ليجتمع تحت القلعة من هو في طاعة السلطان، ويحبهم بكتمر الجوكندار في عدة على بيتي بيبرس وسلار بالقلعة، ويأخذونهما. وكان لكل من بيرس وسلار أعين عند السلطان، فبلغهما ذلك فاحترسا، وأمرا الأمير سيف الدين بلبان الدمشقي والي القلعة - وكان حصيصاً بهما - أن يوهم أنه أغلق باب القلعة، ويطرف أقفالها، ويعبر بالمفاتيح على العادة، ففعل ذلك. وظن السلطان ومماليكه أنهم قد حصلوا على غرضهم، وانتظروا بكتمر الجوكندار أن يحضر إليهم فلم يحضر، وبعثوا إليه فإذا هو مع بيبرس وسلار، قد حلف لها على الفيام معهما. فلما طلع النهار ظن السلطان أن بكتمر قد غدر به، وترقب المكروه من الأمراء.
وأما بكتمر فإن بيبرس وسلار لما بلغهما الخبر خرجا إلى دار النيابة بالقلعة، وعزم بيبرس أن يهجم على بكتمر ويقتله، فمنعه سلار لما كان عنده من السبت والتؤدة، وأشار بالإرسال إليه ليحضر حتى تبطل حركة السلطان. فلما أتاه الرسول تحير وقصد الامتناع، ولبس مماليكه السلاح، ثم منعهم وخرج، فعنفه سلار ولامه على ما قصد. فأنكر وحلف لهم على أنه معهم، وأقام إلى الصباح، ودخل مع الأمراء إلى الخدمة عند الأمير سلار. ووقف ألزام بيبرس وسلار على خيولهم بباب الإسطبل مترقبين خروج المماليك السلطانية، و لم يدخل أحد من الأمراء إلى خدمة السلطان، وتشاوروا. وقد أشيع في القاهرة أن الأمراء يريدون قتل السلطان، أو إخراجه إلى الكرك، فلم تفتح الأسواق، وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة، وبقي الأمراء نهارهم مجتمعين، وبعثوا بالاحتراس على السلطان خوفاً من نزوله من باب السر. وألبسوا عدة مماليك، وأوقفوهم مع الأمير سيف الدين سمك أخي سلار على باب الإسطبل.
فلما كان نصف الليل وقع بداخل الإسطبل حس وحركة من قيام المماليك السلطانية ولبسهم السلاح، لينزلوا بالسلطان على حمية من الإسطبل، وتوقعوا الحرب، فمنعهم السلطان من ذلك، وأراد سمك إقامة الحرمة، فرمى بالنشاب وضرب الطبل، فوقع سهم بالرفرف السلطاني. واستمر الحال على ذلك إلى أذان العصر من الغد، فبعث السلطان إلى الأمراء يقول: ما سبب الركوب على باب إسطبلي؟ إن كان غرضكم في الملك فهل أنا متطلع إليه؟ فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم. فردوا الجواب مع الأمير بيبرس الدوادار والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير برلغي الأشرفي، بأن السبب هو من عند السلطان من المماليك الذين يحرضونه على الأمراء، فعتبهم على ما هو فيه، وأنكر أن يكون أحد من مماليكه ذكر له شيثاً عن الأمراء.

وفي عودهم من عند السلطان وقعت ضجة بالقلعة سببها أن العامة كان جمعهم قد كثر، فلما رأوا السلطان قد وقف بالرفرف، وحواشي بيبرس وسلار قد وقفوا على باب الإسطبل محاصرين، حنقوا من هذا وصرخوا، ثم حملوا يداً واحدة على الأمراء بباب الإسطبل، وهم يقولون: " يا ناصر يا منصور. فأراد سمك قتالهم، فمنعه من معه من الأمراء. وبلغ ذلك بيبرس وسلار، فأرسل الأمير سيف الدين تخاص المنصوري في عدة مماليك إلى العامة فضربوهم بالدبابيس ليتفرقوا فاشتد صياحهم يا ناصر يا منصور، وتكاثر جمعهم ودعاؤهم للسلطان، وصاروا يقولون: الله يخون من يخون ابن قلاوون، وحملت طائفة منهم على بتخاص ورجمته طائفة أخرى، فجرد السيف ليضعه فيهم، ثم خشي العاقبة وأخذ يلاطفهم، وقال: طيبوا خواطركم، فإن السلطان قد طاب خاطره على الأمراء، ومازال بهم حتى تفرقوا وعاد.
فبعث الأمراء ثانياً إلى السلطان بأنهم مماليكه وفي طاعته، ولابد من إخراج الشباب الذين يرمون الفتن، فامتنع من ذلك واشتد، فمازال به بيبرس الدوادار وبرلغي حتى أخرج بهم إلى الأمراء، وهم يبلغا الترجماني وأيدمر المرتد وخاص ترك. فهددهم بيبرس وسلار ووبخاهم وقصدا تقييدهم، فلم توافق الأمراء على ذلك رعاية لخاطر السلطان، وأخرجوا إلى القدس من وقتهم على البريد. ودخل جميع الأمراء على السلطان وقبلوا الأرض، ثم قبلوا يده، فأفيضت عليهم الخلع، وعلى الأمير بيبرس وسلار في ثالثه.
ثم سأل الأمراء السلطان أن يركب في أمرائه إلى الجبل الأحمر: حتى تطمئن قلوب العامة ويعلموا أن الفتنة خمدت، فأجاب وخرجوا. وبات السلطان في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه، وركب من الغد بالأمراء إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر، وعاد بعدما قال بيبرس وسلار: إن سبب الفتنة إنما كان من بكتمر الجوكندار وذلك إنه رآه قد ركب يجانب الأمير بيبرس وحادثه، فتذكر غدره به، وشق عليه ذلك. فتلطفوا به في أمره فقال: والله ما بقيت لي عين تنظر إليه، ومتى أقام في مصر لا جلست على كرسي الملك أبداً فأخرج من وقته إلى قلعة الصبيبة في خامس عشره، واستقر عوضه أمير جاندار بدر الدين بكتوت الفتاح، فلما مات سنقر شاه نائب صفد استقر عوضه بكتمر الجوكندار. وتوجه الأمير كراي المنصوري إلى بلدة أدفو بالصعيد، وهو حنق على الأمير بيبرس الجاشنكير.
وفيها عمر الأمير بيبرس الجاشنكير الخانكاه الركنية موضع دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة، ووقف عليها أوقافاً جليلة، فمات قبل فتحها، وأغلقها الملك الناصر مدة، ثم أمر بفتحها ففتحت، ورتب فيها عدة من الصوفية. وبنى بيبرس أيضاً تربة بها، فاستمرت مغلقة إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وأنشأ الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب دمشق جامعاً بصالحية دمشق، وبعث يسأل في أرض يوقفها عليه، فأجيب بأنه يعين ما يختار.
وقدم البريد من حلب بوصول الأمير فتح الدين بن صبرة، وقد خلص من بلاد التتار، ومعه جماعة ممن أسر من الأجناد في نوبة سيس، فأعيد له إقطاعه على عادته.
وورد كتاب الأمير كراي المنصوري بالشكوى من والي قوص، ومن غده قدم كتاب متولي قوص بأن كراي ظلم فلاحيه بأدفو، وأخذ دوابهم، وعمل زاداً كبير ليتوجه إلى بلاد السودان، فكتب لكراي بالحضور سريعاً، وكتب لوالي قوص بالاحتراس على كراي وأخذ الطرقات من كل جانب.
وفيها أحضرت خاصية السلطان من القدس، وذلك أن الأمير أقوش الأفرم نائب الشام بعث إلى الأميرين بيبرس وسلار يلومهما على ما وقع من نفي خاصكية السلطان ويشير بردهم، وأنه متى لم يرسم بردهم حضر بنفسه وأعادهم. فلم يسعهما إلاٍ إحضارهم، وأنعم على كل من يلبغا التركماني وألطنبغا الصالحي وبلبان الزراق بإمرة عشرة. واستقر شهاب الدين أحمد بن على بن عبادة في نظر المارستان المنصوري. وقدم الأمير كراي من الصعيد فتمارض في بيته، و لم يطلع إلى القلعة، ثم سأل الإعفاء من الإمرة، وأن يقيم بالقدس بطالا، واعتذر بكثرة أمراضه، فأجيب إلى ذلك، وولى نظر القدس والخيل بحار يقوم بكفايته، وتوجه من القاهرة ة فأنعم بإقطاعه على الأمير سيفْ الدين بتخاص المنصوري.

وفيها وقع الاهتمام بالسفر إلى اليمن، وعول الأمير سلار على أن يتوجه إليها بنفسه: وذلك أنه خشي من أن السلطان يدبر عليه حيلة أخرى، وقد لا يتهيأ له إفسادها فيؤخذ، ومع ذلك فإنه شق عليه ما صار فيه الأمير بيبرس الجاشنكير من القوة والاستظهار عليه بكثرة خواشداشيته البرجية، وأنهم قد صاروا معظم الأمراء، واشتدت شوكة بيبرس بهم، وعظمت مهابته وانبسطت يده في التحكم، بحيث أنه أخرج الجاولي بغير اختيار سلار، وانفرد بالركوب في جمع عظيم. وقد قصد البرجية في نوبة بكتمر الجوكندار أن يخرج السلطان إلى الكرك، ويسلطن بيبرس لولا ما كان من صنع سلار بسياسة وتدبير حتى وقع الصلح مع السلطان. فخاف سلار عواقب الأمور مع السلطان ومع بيبرس، وتحيل في الخلاص من ذلك بأًنه يحج في جماعة من ألزامه وأتباعه، ثم يسير إلى اليمن ويتملكها ويتمنع بها. ففطن بيبرس بهذا، ودس إليه من الأمراء من ثنى عزمه عن ذلك. وشرع في الاهتمام بعمل المراكب حتى تنجزت، وجهزت الأسلحة والأمتعة ثم اقتضى الرأي تأخير السفر حتى يعود جواب صاحب اليمن، فكتب بحضور شاد الدواوين فقدم وهو مريض، ومازال منقطعاً بداره حتى مات، وعين الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي أمير الركب، وخرج بالحاج على العادة.
وقدم البريد من حلب بقتل هيتوم متملك سيس على يد بعض أمراء المغل: وذلك أن هيتوم كان يحمل القطعية إلى المغل كما يحملها إلى مصر، ويحضر إلى كل سنة أمير من أمرائهم حتى يتسلم الحمل ؛ فحضر إليه من أمراء المغل برلغوا، وقد أسلم وحسن إسلامه، فعزم على بناء جامع بسيس يعلن فيه بالآذان، كما تجهر هناك النصارى بضرب النواقيس. فشق ذلك على هيتوم، وكتب إلى خربندا باًن برلغوا يريد اللحاق بأهل مصر، وبناء جامع بسيس. فبعث خربندا بالإنكار على برلغوا، وتهدده وألزمه بالحضور، فغضب برلغوا من هيتوم، وصنع طعاماً ودعاه، ولم يكن عنده علم بأن برلغوا اطلع على شكواه منه لخربندا، فحضر وهو آمن في جماعة من أكابر الأرمن وإخوان له. فعندما مدوا أيديهم إلى الطعام أخذ تهم السيوف من كل جانب، فقتلوا عن آخرهم، و لم ينج سوى أخوه ليفون في نفر قليل، فلحق بخربندا وأعلمه بقتل برلغوا لأخيه هيتوم وأمرائه، وقدم عليه أيضاً برلغوا، فقتله بقتله هيتوم، وولى ليفون مملكة سيس وسيرة إليها.
وفيها بعث الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب الشام عدة عسكر إلى الرحبة، مع الأمير علاء الدين أيدغدي شقير مملوك منكوتمر، وردفه بالأمير قطلوبك الكبير، ثم بالأمير بهادر آص.
وفيها انتهت زيادة النيل إلى ثمانية عشر ذراعاً وإحدى وعشرين إصبعاُ: وهب في برمهات الموافق لشوال. من جهة الغرب ريح عند الحراك الغلال، فهافت وجف أكثرها، فلم يحصل منها عند الحصاد إلا اليسير، ومنها ما كان أقل من بذاره. فتميز سعر الغلة، وأبيع الأردب القمح بخمسين درهماً، ثم انحط.
وفيها استقر الأمير بيبرس العلائي الحاجب في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير أقجبار.
وفيها سار من دمشق إلى الرحبة عسكر عليه الأمير علاء الدين أيدغدي الشقيري، والأمير سيف قطلوبك والأمير بهادر أص.
وفي العشرين من رجب: توجه الأمير جمال الدين أقوش نائب الشام لزيارة القدس، ومعه جماعة من أعيان دمشق، وعاد في تاسع شعبان.
وفي سابع عشرين رجب: توجه ركب العمار إلى مكة، صحبة الأمير عز الدين الكوكندي، وكان معهم الشيخ نجم الدين بن عبود، والشيخ نجم الدين بن الرفعة.
وفيها خرج الأمير شرف الدين أحمد بن قيصر التركماني والأمير بدر الدين بيليك المحسني برقا في شوال.
وفيها قدم الأمير مهنا بن عيسى، فأكرمه السلطان وأخلع عليه، فتحدث في خلاص شيخ الإسلام تقي الدين احمد بن تيمية فأجيب، وخرج بنفسه إلى الجب بالقلعة وأخرجه منه. ونزل ابن تيمية بدار الأمير سلار النائب، وعقد له مجلس حضره ابن الرفعة والتاجي وابن عدلان والنمراوي وجماعة الفقهاء، و لم تحضره القضاة، وناظروا

ابن تيمية ثم انفضوا، ثم عقد له بعد سفر مهنا بن عيسي مجلس آخر بالصالحية. ثم قام تاج الدين أَحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء، وشيخ سعيد السعداء، وجمعوا فوق الخمسمائة رجل، وساروا إلى القلعة وتبعهم العامة، وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في مشايخ الطريقة ؛ فرد أمرهم إلى القاضي الشافعي، فدفعه إلى تقي الدين علي ابن الزواوي المالكي، فحكم بسفر ابن تيمية إلى الشام، فسار على البريد وحبس بها.
وفيها بنى الأمير أسندمر نائب طرابلس قلعة مكان حصن صنجيل، وبني الأمير قرا سنقر نائب حلب قلعة حارم التي خربها هولاكو.
ومات في هذه السنةالأمير عز الدين أيدمر السناني بدمشق، وله شعر جيد ومعرفة بتعبير المنامات، ومن شعر:
تخذ النسيم الحبيب رسول ... دنف حكاه رقةً ونحولا
تجزى العيون من العيون صبابة ... فيسيل في أثر الغريق سيولا
ويقول من حسد له ياليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
ومات الأمير سيف الدين بيبغا الناصري في شعبان، وترك مالاً كبيرًا.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس الجالق العجمي أحد البرجية الصالحية، و كبير الأمراء بدمشق، عن نحو الثمانين سنة، في نصف جمادى الأولى بمدينة الرملة ، وكان دينا ًله ثروة وفيه خير: كان يقرض الأجناد عند تجردهم، ويمهلهم حتى يتيسر لهم، فعدم له في ذلك مال كبير.
ومات شمس الدين خضر بن الحلبي المعروف بشلحونة والي القاهرة، وكان أبوه خازندار السلطان صلاح الدين يوسف صاحب حلب ودمشق، وقدم الخْضر إلى القاهرة، واستقر في ولايتها في الأيام الظاهرية بيبرس والأيام المنصورية قلاوون، ثم نقله الأشرف خليل بن قلاوون إلى شد الدواوين، وكان ناهضاً أميناً في جميع ما يليه، مع المعرفة والديانة والمروءة، وكان إذا أراد أن يضرب أحداً قال شلحونه، فعرف بذلك. ومات خطلو شاه نائب التتر وكان مقدمهم يوم شقحب؛ وكان كافراً فاجرًا.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي البيسري، أحد أمراء دمشق، ليلة الاثنين ثاني جمادى الأولى، وكانت له مروءة وشجاعة.
ومات الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوري مقدم المماليك، وكانت له سطوة ومهابة.
ومات الشيخ عمر بن يعقوب بن أحمد السعودي، في يوم الأربعاء ثاني رجب، وكان رجلاً صالحاً معتقدًا.
ومات الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا - ومولده في تاسع شعبان سنة أربعين وستمائة، وجده لأمه الوزير شرف الدين صاعد الفائزي - في يوم السبت خامس جمادى الآخرة.
ومات شرف الدين محمد بن فتح عبد الله بن فتح الدين عبد الله بن محمد بن محمد ابن أحمد بن خالد القيسراني، أحد موقعي الإنتماء بالقاهرة، في أول شعبان.
ومات أبو عبد الله بن مطرف الأندلسي، بمكة في رمضان عن نيف وتسعين سنة، وقد جاور بها ستين سنة، وصار شيخ الحرم، فحمل الشريف حميضة نعشه.
ومات الشيخ عثمان بن جوشن السعودي.
ومات الشيخ عز الدن أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ظافر الشيرازي المصري، في خامس ربيع الأول، ومولده في ذي الحج سنة ثمان عشرة وستمائة.
ومات قاضي القضاة جمل الدين أبو بكر محمد بن العظيم بن علي بن سالم بن السقطي الشافعي، في ليلة الاثنين حادي عشر شعبان، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأخرج له التقي الأسعردي مشيخة.
سنة ثمان وسبعمائةفي أولها قدم مبشرو الحاج بأن الأمير نوغاي حارب العبيد بمكة: وذلك أنهم كثر تخطفهم أموال التجار، وأخذهم من الناس بالغصب ما أرادوا، فلما وقف بعضهم على تاجر ليأخذ قماشه منعه، فضربه ضربا مبرحاً، فثار الناس وتصايحوا. فبعث نوغاي مماليكه إلى العبيد فأمسكوا بعضهم وفر باقيهم بعدما جرحوا، فركب الشريف حميضة بالأشراف والعبيد للحرب، وركب نوغاي بمن معه، ونادى ألا يخرج أحد من الحاج وليحفظ متاعه، وساق فإذا طائفة من السرويين قد فروا من الخوف إلى الجبل. فقتل منهم جماعة ظناً أنهم من العبيد، فكف حميضة عن القتال، وما زال الناس بنوغاي حتى أمسك عن الشر.

وقمم البريد من حلب بأن طائفة من المغل قدموا إلى الفرات، فخرج العسكر إليهم، فلما ساروا سقط الطائر من قلعة كركر بنزول المغل عليها ونهب التركمان وأخذهم، فكتب إلى العسكر المجرد بنجدتهم، فكسبوا المغل في الليل وقتلوهم، واستردوا ما أخذوه من كركر، وأسروا منهم ستين رجلاً، وغنموا عدة خيول.
وفيها أفرج عن الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس من البرج بالقلعة، وأسكن بدار الأمير عز الدين الأفرم بمصر، في ربيع الأول.
وفي ثالث ربيع الآخر: فوضيت الخطابة بجامع قلعة الجبل لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، عوضاً عن الشيخ شمس الدين محمد الجزري.
وفيها وصلت رسل سيس بالحمل على العادة، ومن جملته طشت ذهب مرصع بالجوهر.
وفيها عدى السلطان إلى نهر الجيزة، وأقام يتصدى نحو عشرين يوماً، وعاد وقد ضاق صدره واشتد حنقه، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه ومنعه من كل ما يريد حتى إنه ما يصل إلى ما يشتهي أكله لقلة المرتب، فلولا ما كان يتحصل له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلاً إلى بلوغ بعض أغراضه. فأخذ في العمل لنفسه. وأظهر أنه يريد الحج بعياله، وحدث بيبرس وسلار في ذلك يوم النصف من رمضان، فوافقاه عليه. وأعجب البرجية سفره لينالوا أغراضهم، وشرعوا في تجهيزه، وكتبوا إلى دمشق والكرك وغيره برمي الإقامات، وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير، فتهيأ ذلك. وأحضر الأمراء تقادمهم وتأنقوا فيها، فقلبها السلطان وشكرهم على ذلك؛ وركب في خامس عشرى رمضان يريد السفر، ونزل من القلعة ومعه الأمراء؛ وخرج العامة وتباكوا حوله، وتأسفوا على فراقه، ودعوا له إلى أن نزل بركة الحاج. وتعين للسفر معه من الأمراء عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار عوضاً عن الجاولي، وسيف الدين آل ملك الجوكندار. وحسام الدين قرا لاجين أمير مجلس، وسيف الدين بلبان أمير جاندار، وعز الدين أيبك الرومي السلاح دار، وركن الدين بيبرس الأحمدي، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وسيف الدين يقطاي الساقي، وشمس الدين سنقر السعدي النقيب، ومن المماليك خمسة وسبعون نفراً. وودعه بيبرس وسلار فيمن معهم من الأمراء وهم على خيولهم من غير أن يترحلوا له، وعاد الأمراء. ورحل السلطان من ليلته، وعرج إلى جهة الصالحية وعيد بها، وسار إلى الكرك ومعه رحل الخاص مائة وخمسون فرساً، فقدمها يوم الأحد عاشر شوال. فاحتفل الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بقدومه، وقام بما يليق به، وزين القلعة والمدينة، وفتح باب السر ومد الجسر، وكان له مدة لم يمد، وقد سار خشبه، فلما عبرت الدواب عليه، وأتى السلطان في أخرهم انكسر الجسر تحت رجلي فرسه بعد ما تعدى يديه الجسر، فكاد يسقط إلى الخندق لولا أنهم جبدوا العنان حتى خرج من الجسر وهو سالم وسقط الأمير بلبان طرنا أمير جاندار، وجماعة لم يمت منهم سوى رجل واحد.
وعندما استقر السلطان بقلعة الكرك عرف الأمراء أنه قد انثنى عزمه عن الحج، واختار الإقامة بالكرك، وترك السلطنة ليستريح خاطره؛ فشق عليهم ذلك، وبكوا وقبلوا له الأرض يتضرعون إليه في ترك هذا الخاطر، وكشفوا رؤوسهم فلم يرجع إليهم، وقال السلطان للخطيري: قد أخذ بيبرس الجاشنكير السلطنة ولابد، ثم استدعى علاء الدين على بن أحمد بن سعيد بن الأثير، وكان قد توجه معه، وكتب إلى الأمراء بالسلام عليهم، وأنه رجع عن الحج وأقام بالكرك وترك السلطة، ويساًل الإنعام عليه بالكرك والشوبك، وأعطاه للأمراء وأمرهم بالعود، وأعطاهم الهجن - وعدتها خمسمائة هجين - والجمال والمال الذي قدمه له الأمراء، فساروا إلى القاهرة.

واستولي السلطان على ما كان في الكرك من المال، وهو ستمائة ألف درهم فضة وعشرون ألف دينار، وقيل بل وجد سبعة وعشرين ألف دينار وسبعمائة ألف درهم. واستدعى أهل الكرك، فحلفهم له الأمير جمال الدين نائب الكرك، وأمرهم فحملوا له أحجاراً كثيرة إلى القلعة، فلم يبق أحد حتى حمل إليه الحجارة من الوادي. فلما حصل نائب الكرك والناس في الوادي لنقل الحجارة، بعث السلطان إلى النائب أن يتوجه إلى مصر وينقل ماله بالكرك وبين له أن أهل القلعة لا سبيل إلى مجاورتهم له بها ولا بإقامتهم بالمدينة، فإني أعلم كيف باعوا الملك السعيد بن الظاهر بالمال لطرنطاي، وقد مكنت حريمهم وأولادهم من النزول إليهم. فامتثل النائب الأمر وأخذ حريمه، وقدم للسلطان ما كان له من الغلال وهي شيء كثير فقبلها، وأخذ أهل القلعة حريمهم وتفرقوا في البلاد.
وأقام السلطان الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي في نيابة قلعة الكرك، فصار هو وأخوه الحاج أرقطاي وأرغون الدوادار مقيمين على علو القلعة، وبعث إلى العرب الشوبك بأن يكونوا في الخدمة برسم الصيد. وكان حريم السلطان قد توجه إلى الحجاز من القاهرة في سابع عشر شوال، فلما دخل السلطان إلى الكرك بعث في طلبهم، فأدركهم وهم على عقبة أيلة مع الأمير جمال الدين خضر بن نوكيه، فقد بهم إلى الكرك.
ووصل الأمراء إلى قلعة الجبل في، يوم الجمعة ثاني عشرى شوال، واجتمعوا عند الأمير سلار النائب بدار النيابة من القلعة، وقرئ كتاب السلطان عليهم فبهتوا، ثم اشتوروا فيمن يقوم بالملك، فاختار أكابر الأمراء سلار لقلعة وتودده، واختار البرجية بيبرس؛ فلم يجب سلار إلى ذلك، وخاف البرجية لئلا يجيب، فقاموا وانفض المجلس. وخلا كل من أصحاب بيبرس وسلار بصاحبه، وحسن له القيام بالسلطنة، وخوفه عاقية تركها، وأنه متى ولى غيره لا يوافقوه بل يقاتلوه. وبات البرجية تغلي مراجلهم خوفاً من ولاية سلار، وسعي بعضهم إلى بعض، وكانوا أكثر جمعاً من أصحاب سلار، وأعدوا السلاح وتأهبوا للحرب، فبلغ ذلك سلار فخشي سوء العاقبة، واستدعى الأمراء إخوته وحفدته ومن ينتمي إليه، وقرر مع عقلائهم سراً موافقته على ما يشير به - وكان مطاعاً فيهم - فأجابوه، ثم خرج إلى شباك النيابة.
؟؟؟؟

السلطان الملك المظفر
ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري جلس على تخت الملك في يوم السبت ثالث عشرى شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك أنه لما أصبح يوم السبت جلس الأمير سلار النائب بشباك دار النيابة، وحضر بيبرس الجاشنكير وسائر الأمراء واشتوروا فيمن يلي السلطنة. فقال الأمير أقوش قتال السبع والأمير بيبرس الدواداري والأمير أيبك الخازندار، وهم أكابر المنصورية: ينبغي استدعاء الخليفة والقضاة وإعلامهم. كلا وقع فخرج الطلب لهم وحضروا، فقرئ عليهم كتاب السلطان، وشهد عند قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي الأميران عز الدين الخطيري والحاج آل ملك، ومن كان معهم من الأمراء، بنزول الملك الناصر عن المملكة وترك سلطنة مصر والشام، فأثبت ذلك. وأعيد الكلام فيمن يصلح، فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلار، فقال: نعم! على شرط أن كل ما أشير به لا تخالفوه وأحضر المصحف وحلفهم على موافقته، وألا يخالفوه في شيء. فقلق البرجية و لم تبق إلا إقامتهم الفتنة، فكفهم الله عن ذلك وانقضى الحلف. فقال سلار: والله يا أمراء أنا ما أصلح للملك، ولا يصلح له إلا أخي هذا وأشار إلى بيبرس الجاشنكير، ونهض قائماً إليه؛ فتسارع البرجية وقالوا بأجمعهم: صدق الأمير، وأخذوا بيد بيبرس وأقاموه كرهاً، وصاحوا بالجاوشية فصرخوا باسمه. وكان فرس النوبة عند الشباك. فألبسوه تشريف الخلافة: وهي فرجية أطلس أسود وطرحة، وتقلد بسيفين على العادة. ومشى سلار والناس بين يديه من دار النيابة بعد العصر حتى ركب، وعبر باب القلعة إلى الإيوان، وجلس على التخت، ولقب بالملك المظفر، وصار يبكي بحيث يراه الناس. ثم قام إلى القصر، وتفرق الناس بعدما ظنوا كل ظن من وقوع الحرب بين السلارية والبيبرسية. فكانت مدة سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.

ولما استقر الملك المظفر في مملكة مصر اجتمع الأمراء بالخدمة على العادة في يوم الإثنين خامس عشريه ؛ فأظهر التغمم بما صار إليه، وخلع على الأمير سلار خلعة النيابة على عادته، بعدما استعفى وطلب أن يكون من جملة الأمراء، حتى قال له: إن لم تكن أنت نائباً فلا أعمل أنا السلطنة ، وقامت عليه الأمراء. ثم كتب إلى الأعمال باستقرار الملك المظفر في السلطنة، وتوجه الأمير بيبرس الأحمدي إلى حلب، والأمير بلاط إلى حماة، والأمير عز الدين أيبك البغدادي وزير بغداد وسيف الدين ساطي إلى دمشق على البريد.
وطلب التاج بن سعيد الدولة، وعرضت عليه الوزارة، فامتنع منها وصمم، وأشار باستمرار الصاحب ضياء الدين النشائي، فخلع عليه وعلى التاج. واستمر ابن سعيد الدولة في نظر الجيش، والإشارة في أمر الوزارة والتوقيع، ونزلا. وقد عظم أمر التاج حتى كانت تعرض عليه أجوبة النواب، ولا يكتب السلطان على شيء ما لم ير خطه، فشق ذلك على شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر، وخيل السلطان من حدوث الفساد بسبب ذلك، فمنعه من الوقوف على الأجوبة والكتابة عليهما، وأمضى له ماعدا ذلك.
وكتب للملك الناصر تقليد بنيابة الكرك ومنشور بإقطاع مائة فارس، وجهز إليه وقرن بهما كتاب الملك المظفر: بأني أجبت سؤالك فيما اخترته، وقد حكم الأمراء على فلم تمكن مخالفتهم، وأنا نائبك وخرج بها الأمير الحاج آل ملك فلما وصل إليه أظهر البشر، وأمر الحراس أن يصيحوا باسم الملك المظفر، وخطب له يوم الجمعة أيضاً على منبر الكرك، وأنعم على البريدي وأعاده؛ فسر المظفر بنلك.
وقدم البريد من ممالك الشام بالطاعة وحلفهم، ماعدا الأفرم نائب دمشق. فإنه لما قد عليه وزير بغداد بالخبر قال: بئس واللّه ما فعله الملك الناصر بنفسه!، وبئس ما فعله بيبرس! وأنا لا أحلف لبيبرس - وقد حلفت الملك الناصر - حتى أبعث إلى الناصر، ثم سير جماعة إلى الكرك على البريد بكتابه، فأعاد الناصر الجواب بالشكر والثناء، وأنه قد ترك الملك، فليحلف لمن يولونه، وقدم البريدي بذلك إلى دمشق في يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة، فاجتمع الناس من الغد بالجامع وقرئ تقليد الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام على عادته، وخلع على محي الدين يحمي بن فضل اللّه كاتب السر، وأنعم على الأمير برلغي بإقطاع السلطان قبل سلطنته، وأنعم بإقطاع برلغي على بتخاص، وبإقطاع بتخاص على الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك. وخطب للملك المظفر، ونودي بدمشق فزينت، وعاد وزير بغداد وساطي إلى القاهرة. فركب الملك المظفر بشعار السلطنة بعدما جددت له الولاية بالسلطة من الخليفة، وخلع على أرباب الدولة ما بين صاحب سيف ورب قلم، فبلغت عدة الخلع إلى ألف ومائتي خلعة. وكتب له تقليد السلطنة من إنشاء علاء الدين على بن عبد الظاهر، ونزل من قلعة الجبل بكرة يوم السبت سابع عشره، وسير بالميدان الأسود ومعه الأمراء وعليه التشريف: وهو فرجية سوداء بطرز ذهب وشاش أسود ملمع بقطع ذهب ولفته مدمورة، والسيفان على عاتقيه، والوزير ضياء الدين قدامه على فرس، والتقليد على رأسه في كيس حرير اًسود، بعدما قري بالقلعة على الأمراء.

وورد الخبر باًن متملك قبرس اتفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارة ستين قطعة لغزو دمياط، فجمع السلطان الأمراء وشاورهم، فاتفقوا على عمل جسر ماد من القاهرة إلى دمياط خوفاً من نزول الفرنج أيام النيل، وندب لفلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحداً من الأمراء في تأخير رجال بلاده، ورسم للأمراء أن يخرج كل منهم الرجال والأبقار، وكتب إلى الولاة بالمساعدة والعمل، وأن يخرج كل وال برجاله. وكان أقوش مهاباً عبوساً قليل الكلام، له حرمة في قلوب الناس؛ فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاة العمل قد نصبوا الخيم وأحضروا الرجال، فاستدعى المهندسين ورتب العمل. فاستقر الحال على ثلاثمائة جرافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نواب جميع الأمراء. فكان يركب دائماً لتفقد العمل واستحثاث الرجال، بحيث إنه فقد بعض الأيام شاد الأمير بدر الدين الفتاح ورجاله، فلما أتاه بعد طلبه ضربه نحو الخمسمائة عصاة. فلم يغب عنه بعد ذلك أحد، ونكل بكثير من مشايخ العربان. وضربهم بالمقارع وخزم آنافهم وقطع آذانهم، و لم يكد يسلم منه أحد من أجناد الأمراء ومشدى البلاد، وما زال يجتهد في العمل حتى نجز في اًقل من شهر، وكان ابتداؤه من قلوب وأخره بدمياط، يسير عليه الراكب يومين، وعرضه من أعلاه أربع قصبات، ومن أسفله ست قصبات، يمشي ستة فرساي صفار واحداً. وعم النفع به، فإن النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقطع الطرقات ويمتنع الوصول إلى دمياط. وحضر بعد فراغه الأمير أقوش إلى القاهرة، وخلع عليه وشكرت همته.
ووقع الاتفاق على عمل جسر أخر بطريق الإسكندرية، وندب لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي فعمر قناطر الجيزة إلى أخر الرمل تحت الهرمين، وكانت تهدمت، فعم النفع بعمارتها.
وورد الخبر باًن الخوارزمي والتليلي عادا من بلاد المغرب بهدية حليلة، وركب معهم الحاج، فخرج عليهم العربان وأخذوا سائر ما معهم حتى صاروا عراة. فخرج جماعة من الأجناد والمماليك إلى الإسكندرية ليتلقوا الرسل والحجاج، وساروا ومعهم نائب الإسكندرية إلى سوسة فلقوهم بها وأحسنوا إليهم وإلى الحاج. وساروا بهم إلى القاهرة.
وفيها كثرت مرافعة أهل الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء في شيخهم كريم الدين عبد الكريم الآملي، فقام عليه الشيخ نصر المنجني قياماً عظيماً حتى صرف بقاضي القضاة بحر الدين محمد بن جماعة.
وفيها أطلقت حماة لنائبها الأمير سيف الدين قبجق، فعزل وولى.
وفيها صرف أمين الدين أبو بكر بن الرقاقي من نظر دمشق، وعاد إلى القاهرة.
ومات في هذه السنةعلم الدين إبراهيم بن الرشيد بن أبي الوحش بن أبي حليقة، رئيس الأطباء بمصر والشام، وترك مائتي ألف دينار، وقيل ثلاثمائة ألف.
ومات برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن ظافر البرلسي ناظر بيت المال، في خامس صفر بالقاهرة، وولي نظر بيت المال عوضه نور الدين الزواوي النائب المالكي.
ومات محي الدين أحمد بن أبي الفتح بن باتكين، وكان يعاني الخدم الديوانية، وله شعر حسن وفضيلة، وعنده مفاكهة ومحاضرة جميلة، ومولده سنة أربع عشرة وستمائة، وعمي قبل موته، ومات بالقاهرة .
ومات الشهاب اًحمد بن صادق القوصي، في حادي عشر صفر بقوص، وكان فقيهاً شافعياً يوقع عن قاضي، وفيه تحرز وعنده يقظة.
ومات الشيخ عبد الغفار بن نوح القوصي، في ليلة الجمعة سابع ذي القعدة، وقد حمل من قوص إلى القاهرة، بسبب قيامه في هدم الكنائس حتى هدم العامة من قوص ثلاثة عشرة كنيسة، فعوق بالمسجد أياماً ثم خلى عنه، فاًقام بجامع عمرو بن العاص حتى مات، وبيعت ثيابه التي مات فيها بخمسين ديناراً، تفرقها أهل الزوايا.
ومات عثمان الحلبوني الصعيدي ببرزة خارج دمشق، وكانت له أحوال ومكاشفات.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن شامة الطائي السوادي، في يوم الثلاثاء رابع عشرى ذي القعدة عن سبع وأربعين سنة، ودفن بالقرافة.

ومات ظهير الدين أبو نصر بن الرشيد أبي السرور بن أبي النصر السامري الدمشقي، أسلم في الأيام المنصورية قلاوون، وتنقل في الخدم الديوانية ولي نظر الجيش بدمشق، ثم انقطع في داره حتى مات في حادي عشرى رمضان، ومولده اثنتين وعشرين وستمائة، وكان جميلاً ليناً متواضعاً محباً لأهل الخير، مواظباً على الصلوات بجامع بني أمية، فيه بر وصدقات مع العفة.
ومات شهاب الدين بن على الحسبني، حدث بمصر عن ابن المقير وابن رواج والشاوي، ومات بها.
ومات الأمير عز الدين أيبك الشجاعي الأشقر شاد الدواوين، في محرم بمصر ومات الأمير علاء الدين الطبرس المنصوري والي باب القلعة الملقب بالمجنون، والمنسوب إليه العمارة فوق قنطرة المجنونة على الخليج الكبير خارج القاهرة، وكان عفيفاً ديناً، له أحكام قراقوشية مع تسلط على النساء، وكان يخرج أيام المواسم إلى القرافة وينكل بهن، فامتنعن من الخروج في زمانه إلا لأمر مهم، مثل الحمام وغيره.
ومات الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس، في خامس رجب بمصر، ومات ولده قبله بيوم.
ومات الشيخ المعتقد أحمد بن أبى القاسم المراغي، في ليلة السبت ثاني المحرم بمصر. ومات الأمير عز الدين أيدمر الرشيدي أستادار النائب سلار، في تاسع عشر شوال، وكان عاقلاً له ثراء واسع وجاه عريض.
ومات ملك المغرب أبو ثابت عامر بن الأمير أبي عامر بن السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني، في ثامن صفر، فبويع أخوه الربيع بن أبي عامر.
سنة تسع وسبعمائةفيها قدم علاء الدين التليلي وأيدغدي من بلاد المغرب، ومعهما الشيخ أبو زكريا الليحاني متولي طرابلس الغرب وأبو إدريس عبد الحق المريني يريدان الحج، فكانت غيبة النليلي ورفيقه ثلاث سنين وثلاثة اًشهر فنزل اللحياني بمناظر الكبش ورتب له ما يليق به.
وفيها بني الأمير برغلي على ابنة السلطان، وعمل مهم عظيم خلع فيه على سائر الأمراء. وعزل الأمير بيبرس العلائي من نيابة عزة، واستقر عوضه بلبان البدري. وكتب إلى دمشق بإبطال المقرر على الخمور بساحل الشام، وإراقتها وتعويض الجند بدلها. وقدم شمس الدين محمد بن عدلان من اليمن، وقد مات رفيقه سنقر السعدي.
وقدم الخبر باًن الملك الناصر كثير الركوب للصيد ببلاد الكرك في مماليكه، فتخيل الملك المظفر من ذلك وخشي عاقبته. واتفق أنه قدم الخبر أيضاً بحركة خربندا للسير إلى بلاد الشام، فكتب إلى الملك الناصر بحركة خربندا، وقد دعت الحاجة إلى المال فيرسل ما أخذه معه من مال مصر، وما استولى عليه من حاصل الكرك، ومن عنده من المماليك ولا يدع عنده منهم سوى عشرة برسم الخدمة، ويرسل الخيول التي قادها من مصر، ومتى لم يفعل خرجت إليه العساكر حتى تخرب الكرك عليه. ورأي الناصر أن المغالطة أولى، وكتب الجواب: المملوك محمد بن قلاوون يقبل الأرض، وينهي أنه ما قصد الإقامة إلا طلباً للسلامة، وإن مولانا السلطان هو الذي رباني، وما أعرف لي والداً غيره، وكل ما أنا فيه فمنه وعلى يديه، والقدر الذي أخذته من الكرك لأجل ما لا بد لي فيه من الكلف والنفقة. وقد امتثلت المرسوم الشريف وأرسلت نصف المبلغ الذي تأخر عندي امتثالا لأمر مولانا السلطان، وأما الخيل فقد مات بعضها، و لم يبق إلا ما أكبه؛ والمماليك فلم أترك عندي إلا من اختار أن يقيم معي، ممن هو مقطوع العلائق من الأهل والولد، فكيف يحل لي أن أخرجهم. وما بقي إلا إحسان مولانا السلطان. وكتب الناصر بأعلى الكتاب: الملكي المظفري، وخلع على مغلطاي ودفع إليه الكتاب، وحمله معه مائتي ألف درهم، وأعاده وقد حمله مشافهة بمعني جوابه، فقنع السلطان المظفر بيبرس بذلك.
وفيها قدم السلطان البرجية أمر منهم جماعة كبيرة، وأراد أن يؤمر جماعة الأمير سلار فلم يوافق على ذلك، وحلف بأيمان مغلظة أنه لا يمكن أحداً منهم أن يتآمر.

وفيها تفاوض كاتب السر شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه والتاج بن سعيد الدولة: وسبب ذلك أن التاج تزايد تحكمه في الدولة، بحيث اٍنه لم يكتب لأحد توقيع برزقه أو براتب أو استخدم في وظيفة حتى يكتب عليه، ثم شارك كاتب السر في معرفة أجوبة النواب وغيرهم، فامتنع ابن فضل الله من ذلك، ورد عليه الجواب، وفيه ولا كرامة أن يكون مطلعاً على أسرار المملكة. ثم حدث ابن فضل اللّه الأمير سلار النائب في ذلك، وقبح عنده أن يطلع رجل قبطي على أسرار المملكة وأخبار العدو وأنه لا يوافق على ذلك بوجه. فشق على سلار ما قصد التاج، وقام في مساعدة ابن فضل اللّه، وما زال بالسلطان إلى أن منع التاج من الإطلاع على شيء من أمر ديوان الإنشاء، فاشتد غضبه وباين ابن فضل اللّه.
وقد قام البريد بإبطال سائر الخمارات، فسر السلطان بهذا، وعزم على أن يفعل مثل ذلك بديار مصر. وندب لذلك الأمير سيف الدين الشيخي أحد البرجية، وتقدم إليه ألا يراعي أحداً من خشداشيته، ولا يدع بيتا بمصر والقاهرة من بيوت أعلى الناس وأدناهم يبلغه أن فيه خمراً إلا ويكبسه ويكسر ما فيه. وكان الشيخي فيه شدة وقوة نفس، فطلب والي القاهرة ومقدميها وأصحاب الأرباع، وسألهم عن مواضع الخمر فلم يجيبوه، أخفوا سائر المواضع، وضرب جماعة منهم بالمقارع حتى دلوه على عصر العنب أو من عنده خمر، وكتب أسمائهم، فكان فيهم عدة من الأمراء والكتاب والأجناد والتجار، وأخذ في كبس البيوت: فكان الرجل لا يشعر إلا به في مماليكه، وقد هجم عليه ومعه النجارون والبناءون لتفقد مطامير الخمر وإخراجها، فإذا ظفر بها كسر سائر ما فيها. فنزل بالناس من ذلك بلاء شديد، وافتضح كثير من المستورِين، ونهب من بيوتهم أشياء، لكثرة ما كان يجتمع من العامة، ولفرار صاحب البيت خوفاً على نفسه، وأخذ الأجناد وغيرهم من ذلك ما أغناهم. وأخذ الناس يدل بعضهم على بعض، وتشفي جماعة من أعاديهم بنلك. وكبست أيضاً دور اليهود والنصارى، وأريق ما فيها من الخمور وتعدي الأمر دون الأمراء، فكبست دور من عرف بشرب الخمر منهم، ومنها دار الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي أحد أمراء الألوف من البرجية. فأزال اللّه بذلك فساداً كبيراً، ووقع أيضاً بسببه من نهب الأموال فساد كبيرة فلما اشتد الأمر تجمع الأمراء وحدثوا السلطان فيه فكف عنه.
وفي ربيع الأول: خسف جميع جرم القمر. وفيه كثر الإرجاف بحركة التتر، فبرز الدهليز السلطاني إلى الريدانية.
وفيها استقر سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي في قضاء الحنابلة بالقاهرة، بعد موت القاضي شرف الدين عبد الغني بن عبد الله الحراني، في ثالث ربيع الآخر.
وفيها فشا بالناس أمراض حادة، وعم الوباء، وطلبت الأدوية والأطباء، وعز سائر ما يحتاج إليه المرضى، حتى أبيع السكر وأبيع الفروج بخمسة دراهم، والرطل البطيخ بدرهم، وكان الرجل الواحد من العطارين يبيع في كل يوم بثلاثمائة درهم إلى مائتي درهم.
وفيها توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسرى، وارتفع سعر القمح حتى أبيع الأردب بخمسين درهماً، والأردب الشعير والفول بعشرين درهما. ومنع الأمراء البيع من شونهم إلا الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، فإنه تقدم إلى مباشريه ألا يتركوا عنده مباشرة سنة، وباع ما عداه قليلاً قليلاً. وخاف الناس من وقوع نظير غلاء كتبغا، وخرج بهم الخطيب نور الدين علي بن محمد بن الحسن بن على القسطلاني فاستسقى، وكان يوماً مشهوداً، فنودي من الغد بثلاثة أصابع، ثم توقف. وانتهت زيادة النيل في سابع عشرى توت إلى خمسة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً. واتفق أنه نقص في أيام النسئ، وجاء النوروز و لم يوف النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج يوم الجمعة ثامن توت، وهو ثامن عشرى ربيع الأول. وذكر بعضهم أنه لم يوف إلى تاسع عشر بابه، وهو يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى، وذلك بعد اليأس منه. وانحط مع ذلك السعر بعد الوفاء، وغنت عامة مصر: سلطاننا ركين، ونائبنا دقين ، يجينا الماء منين. جيبوا لنا الأعرج، يجي الما ويدحرج " .

وفيها قدم البريد من حلب بأن الأمير سرتاي استنابه الملك خربندا بديار بكر، وأنه حارب طقطاي، فقتل طقطاي، وعزم على المسير إلى حلب. فخرج الأمير جمال الدين أقوش قتال السبع والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير وعدة الطبلخاناه والعشراوات في ألفي فارس، وساروا في جماد الأولى إلى حلب. وكتب الأمير سلار للأمير جمال الدين أقوش بأربعة آلاف غرارة من القمح وثمانين ألف درهم من ماله بدمشق، معونة له ولمن معه.
وفيها ابتدأ اضطراب دولة السلطان الملك المظفر: وذلك أنه كثر توهمه من الملك الناصر، وخيله الأمراء وحذروا السلطان منه. وحسنوا له القبض عليه، فجبن بيبرس عن ذلك، ثم مازالوا به حتى بعث الأمير مغلطاي إلى الملك الناصر، ليأخذ منه الخيل والمماليك التي عنده. وتغلظ مغلطاي في القول، فغضب الملك الناصر من ذلك غضباً شديدًا، وقال له: أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي، ويكرر الطلب؟ ارجع إليه، وقل له واللّه لئن لم يتركني وإلا دخلت بلاد التتر، وأعلمتهم أني قد تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتبعني ويطلب مني ما أخفته. فجافاه مغلطاي وخشن في القول، بحيث اشتد غضب الملك الناصر وصاح به: ويلك! وصلنا إلى هنا؟ وأمر أن يجر ويرمى من سور القلعة. فثار به المماليك يسبونه ويلعنونه، وأخرجوه إلى السور، فلم يزل الأمير أرغون الدوادار والأمير طغاي إلى أن عفا عنه الناصر وحبسه، ثم أخرجه ماشياً إلى الغور، وامتعض مغلطاي عند ذلك مما حل به.
وكتب الناصر ملطفات إلى نواب الشام بحلب وحماة وطرابلس وصفد، وإلى أمراء مصر ممن يثق به، . مما كان فيه من ضيق اليد وقلة الحرمة، وأنه لأجل هذا ترك ملك مصر، وقنع بالإقامة في الكرك، وأن السلطان الملك المظفر في كل قليل يرسل يطالبه بالمال ثم بالخيل ثم بالمماليك، وقال لهم: أنتم مماليك أبي وربيِتموني. فإما أن تردوه عني وإلا أسير إلى بلاد التتار وتلطف في مخاطبتهم غاية التلطف، وسير إليهم العربان، بها فأوصلوها إلى أربابها. وكتب الأمير قبجق المنصوري نائب حماة الجواب: باًني مع الأمير قرا سنفر نائب حلب وكتب الأمير قرا سنقر الجواب: باًني مملوك السلطان في كل ما يرسم به وساْل أن يتوجه إليه أحد المماليك السلطانية، فبعث الناصر مملوكه أيتمش المحمدي، وكتب معه ملطفًا إلى الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير بكتمر الحسامي الحاجب، بدمشق. وأما بكتمر الجوكندار نائب صفد فإنه طرد القاصد ولم يجتمع له.

وقدم أيتمش دمشق في خفية، ونزل عند بعض مماليك الأمير قطلوبك، ودفع إليه الملطف. فلما أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه، وأمره بالاحتفاظ على أيتمش ليوصله إلى الأفرم نائب الشام، ويتقرب إليه بذلك. فترك أيتمش راحلته التي قدم عليها عندما بلغه ذلك، ومضى إلى دار الأمير سيف الدين بهادر آص في الليل واستأذن عليه فأذن له، فعرفه ما كان من الأمير قطلوبك، فطمن خاطره وأنزله عنده وقام بحقه، وأركبه من الغد معه إلى الموكب. وقد سبق قطلوبك وعرف النائب قدوم مملوك الملك الناصر إليه وهربه ليلاً، فقلق الأفرم من ذلك، وألزم والي المدينة بتحصيل المملوك، فقال بهادر آص: هذا المملوك عندي، وأشار إليه، فنزل عن الفرس وسلم على الأفرم وسار معه في الموكب إلى دار السعادة، وقال بحضرة الأمراء: السلطان الملك الناصر يسلم عليكم، ويقول ما منكم أحد إلا وأكل خبز الشهيد والده وخبزه، وما منكم إلا من إنعامه عليه. وأنتم تربية الشهيد والده، وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة فيها. فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفعوه. فلم يتم هذا القول حتى صاح عز الدين أيدمر الكوكندي الزراق أحد أمراء دمشق وابن أستاذاه!، وبكى. فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه، ثم قال لأيتمش: قل له - يعني الملك الناصر - كيف تجيء إلى الشام، أو إلى غير الشام، كأن الشام ومصر الآن تحت حكمك؟ أنا لما أرسل إلينا السلطان الملك أن أحلف له ما حلفت حتى سيرت أقول له: كيف يكون ذلك وابن أستاذنا باق؟ فأرسل يقول: أنا ما تقدمت عليه حتى خلع ابن أستاذنا نفسه، وكتب خطه وأشهد عليه بنزول عن الملك، فعند ذلك حلفت له. ثم في هذا الوقت تقول من يردني عن الشام؟ وأمر به فسلم إلى أستاداره الطنقش. فلما كان الليل استدعاه، ودفع إليه خمسين ديناراً وقال له: قل له لا يذكر الخروج من الكرك، وأنا أكتب إلى الملك المظفر وأرجعه عن طلب الخيل والمماليك، وخلى عنه ليعود إلى الكرك. فقدم أيتمش على الملك الناصر وحدثه بما جرى له فأعاده على البرية ومعه أر كتمر وعثمان الهجان، ليجتمع بقرا سنقر نائب حلب، ويواعده على المسير إلى دمشق. وسار الملك الناصر من الكرك إلى بركة زيزاء.
وأما الملك المظفر فإنه لما بلغه أن الملك الناصر حبس الأمير علاء الدين مغلطاي أيتعلى المقدم ذكره قلق، واستدعى الأمير سلار النائب، وعرفه ذلك. وكانت البرجية قد أغروا المظفر بسلار، واتهموه بأنه قد باطن الملك الناصر، وأشاروا عليه بقبضه وخوفوه منه. فبلغ ذلك سلار، فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم، وأخذ في مداراتهم. وكان أشدهم عليه الأمير سيف الدين بيكور، فبعث إليه - وكان قد شكا له من انكسار خراجه - ستة ألاف أردب غلة وألف دينار مصرية، فكف عنه، وهادى خواص السلطان، وأنعم عليهم اٍنعامات كثيرة طلباً للسلامة منهم. ثم حضر سلار عند المظفر وتكلما فيما هم فيه، فاقتضي الرأي تجهيز قاصد للملك الناصر بتهديده ليفرج عن أيتغلي. وبينما هم في ذلك قدم البريد من عند نائب دمشق باًن الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج الأبيض، ولم يعرف مقصده، فكتب إليه بالكشف عن مقصده، وحفظ الطرقات عليه.
هذا وقد اشتهر بالقاهرة حركة الملك الناصر وخروجه من الكرك، فتحرك الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي - وكان شجاعاً مقداماً حاد المزاج قوي النفس، ومن ألزام الأمير سلار النائب - وواعده جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفر بيبرس إذا ركب ويقتله. فلما نزل إلى بركة الجب استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفتك بالسلطان في عوده من البركة، وتقرب نوغاي من السلطان قليلاً قليلاً، وفد تغير وجهه وظهر فيه أمارات الشر، ففطن به خواص السلطان وتحلقوا حوله، فلم يجد نوغاي سبيلاً إلى ما عزم عليه.

وعاد السلطان إلى القلعة، فعرفه ألزامه ما فهموه عن نوغاي، وحسنوا له القبض عليه وتقريره على من معه. فاستدعى السلطان الأمير سلار وأعلمه الخبر - وكان قد باطن نوغاي أيضاً - فحذره من ذلك، وخوفه عاقبة الأخذ بالظن، وأن فيه فساد قلوب الجميع، وليس إلا الإغضاء فقط، وقام عنه، فأخذه البرجية في الإغراء بسلار، وأنه ولابد قد باطن نوغاي، ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. فبلغ نوغاي ما هم فيه من الحديث في القبض عليه، فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر، وخرج هو والأمير علاء الدين مغلطاي القازاني، والأمير سيف الدين طقطاي الساقي، ونحو ستين مملوكاً، وقت المغرب عند باب القلعة من ليلة الخميس خامس عشرى جمادى الآخرة.
وعرف السلطان بذلك من الإسطبل، ففتح باب القلعة، وطلب الأمير سلار وشاوره، فأشار بتجهيز الأمراء في طلبهم، وعين أخاه علاء الدين سمك وقطز بن الفارقاني في عدة من حاشيته وخمسمائة مملوك، وساروا من وقتهم غير مجدين في طلبهم، وصار بين الفريقين مرحلة واحدة، إذا رحل هؤلاء نزل هؤلاء. فلما وصل نوغاي إلى قطيا وجد الحمل قد تجهز إلى القاهرة، وهو مبلغ عشرين ألف درهم، فأخذه وأخذ خيل الوالي وخيول العرب، وسار إلى غزة ومضى إلى الكرك، فنزل الأمراء بعده غزة، وعادوا إلى القاهرة. وقد اشتد خوف الملك المظفر وكثر خياله، فقبض على جماعة تزيد عدتهم على ثلاثمائة مملوك، وأخرج أخبارهم وأخباز المتوجهين إلى الكرك لمماليكه.
وبلغ الملك الناصر قدوم نوغاي ومن معه وهو في الصيد، فأمر بإحضارهم فأتوه، وقبلوا له الأرض وهنأوه بالعافية، فسر بهم. وساروا معه إلى زيزاء، ومضى إلى زرع يريد دمشق، ثم رجع إلى الكرك. فشق على الملك المظفر ذلك، ودار به البرجية وشوشوا فكره بكثرة إيهامهم وتخيلهم له بمخاطرة العسكر عليه، وما زالوا به حتى أخرج الأمير بينجار، والأمير صارم الدين الجرمكي، في عدة من الأمراء مجردين، وأخرج الأمير أقوش الرومي بجماعته إلى طريق السويس، ليمنع من عساه يتوجه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر، وقبض على أحد عشر مملوكاً، وقصد أن يقبض على آخرين فاستوحش الأمير سيف الدين أيطرا وفر، فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر راًس نوبة، وأحضره فحبس، وعند إحضاره طلع الأمير سيف الدين الدكز السلاح دار بملطف من الملك الناصر استجلا به إليه، فكثر قلق الملك المظفر، وزاد توهمه ونفرت مع ذلك قلوب جماعة من الأمراء والمماليك، وخشوا على أنفسهم، واجتمع كثير من المنصورية والأشرفية والأويرانية، وتواعدوا على الحرب، وخرج منهم مائة وعشرون فارساً بالسلاح، وساروا إلى الملك الناصر. فخرج إليهم الأمير بينجار والصارم الجرمكي، فقاتلهم المماليك، وجرح الجرمكي بسيف في فخذه سقط إلى الأرض، ومضى المماليك على حمية إلى الكرك. فعظم الخطب على السلطان، واجتمع إليه البرجية، وقالوا له: هذا الفساد كله من الأمير سلار، ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك، فلم يوافق على ذلك، واتفق الرأي على تجريد العساكر.
وفي يوم السبت ثاني رجب: مات التاج بن سعيد الدولة، واستقر ابن أخته كريم الدين أكرم الكبير في وظائفه، وتكبر على الأمراء واستقرت فيه الأحوال، حتى كتب على ما يعرف وما لا يعرف.
وأما أيتمش المحمدي فإنه سار إلىحماة، واجتمع بالأمير قبجق نائبها، فأحال قبجق الأمر على الأمير قرا سنقر نائب حلب، وأنه معه حيث كان. فسار أيتمش إلى حلب، واجتمع بقرا سنقر، فأكرمه ووافق على قيام الملك الناصر، ودخل في طاعته، ووعده على السير إلى دمشق أول شعبان. وكتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب يحثه دمشق على طاعة الملك الناصر ويرغبه، وأشار بمكاتبة الملك الناصر للأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، والأمير كراي المنصوري بالقدس، ونائب طرابلس، وأعاد أيتمش ومن معه إلى الملك الناصر، فسر بذلك. وكان نوغاي منذ قدم لا يبرح يحرضه على المسير إلى دمشق، فلما قدم عليه خبر قرا سنقر اشتد باًسه وقوي عزمه على الحركة، إلا أنه ثقل عليه أمر

نوغاي من مخاشنته له في المخاطبة، وجفاه القول بحيث إنه قال له: ليس لي بك حاجة ارجع إلى حيث شئت فترك نوغاي الخدمة وانقطع إلى أن قدم أيتمش من حلب، فدخل بينه وبين السلطان حتى أزال ما بينهما، وأسر له السلطان ذلك حتى قتله بعد عوده إلى الملك كما سيأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن الملك الناصر بعث أيتمش أيضاً إلى صفد، فتلطف حتى اجتمع بناصر الدين محمد بن بكتمر الجوكندار نائب صفد، وجمع بينه وبين أبيه ليلاً في مقابر صفد فعتبه أيتمش على ما كان من رده قاصد الملك الناصر، فاعتذر بالخوف من بيبرس وسلار، وأنه لولا ثقته به لما اجتمع به قط. فلما عرفه أيتمش طاعة الأمير قرا سنقر والأمير قبجق أجاب بالسمع والطاعة، وأنه على ميعاد النواب إلى المضي إلى الشام، فأعاد أيتمش جوابه على الملك الناصر فسر به.
وسار من القاهرة عشرة من الأمراء المقدمين في يوم السبت تاسع رجب منهم: الأمير سيف الدين برلغي الأشرفي. والأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك، والأمير عز الدين أيبك البغدادي، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير سيف الدين تناكر، ومعهم نحو ثلاثين أميراً من الطبلخاناه، بعدما أنفق فيهم السلطان الملك المظفر، فأخذ برلغي عشرة آلاف دينار، وكل من المقدمين ألفي دينار، وكل من الطبلخاناه ألف دينار، وكل من مقدمي الحلقة ألف درهم، وكل من أجناد الكرك خمسمائة درهم، ونزلوا تجاه مسجد تبر خارج القاهرة، ثم عادوا بعد أربعة أيام إلى القاهرة، لورود الخبر بعود الملك الناصر إلى الكرك. ثم ورد الخبر ثانياً بمسيره، فتجهز العسكر في أربعة آلاف فارس، وخرج برلغي ونائب الكرك ومن تقدم ذكره، وساروا في العشرين من شعبان إلى العباسة. فورد البريد من عند الأفرم نائب دمشق بقدوم أيتمش المحمدي عليه من قبل الملك الناصر، وبما شافهه به من الجواب، وأنه بعث الأمير علاء الدين أيدغدي الحسامي والأمير سيف الدين جوبان لكشف الأخبار، وأشار بتأخير العسكر، فكتب بإقامتهم على العباسة. فقدم أيدغدي شقير وجوبان على الملك الناصر، وعرفاه أنهما قدما لكشف حاله، وحلفا له على القيام بنصرته، ورجعا إلى دمشق، فعرفا الأفرم أن الناصر مقيم ليتصيد، فخاف أن يطرق دمشق بغته، فجرد إليه ثمانية أمراء بمضافيهم: منهم الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، والأمير سيف الدين جوبان، والأمير كجكن، والأمير علم الدين الجاولي، ليقيموا على الطرقات لحفظها على من يخرج إلى الملك الناصر. وكتب الأفرم إلى الملك المظفر يحثه على إخراج العسكر المصري، ليجتمع مع عسكر دمشق على قتال الملك الناصر، وأنه قد جدد اليمين له، وحلف أمراء دمشق أنهم يخونون الملك المظفر ولا ينصرون الملك الناصر، وأن نائب حلب وغيره من النواب قد دخلوا في طاعة الملك الناصر. فلما قرأ الملك المظفر كتاب نائب الشام اضطرب وزاد قلقه.

فورد كتاب الأمير برلغي من العباسة بأن مماليك الأمير جمال الدين أقوش الرومي تجمعوا عليه وقتلوه، وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر، وأنهم لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه في جماعة من مماليك الأمراء، وقد فسد الحال، والرأي أن يخرج السلطان بنفسه. فأخرج المظفر تجريدة أخرى فيها عدة من الأمراء، وهم بشاش وبكتوت الفتاح وكثير من البرجية، وبعث إلى برلغي ألفي دينار، ووعده بأنه عازم على التوجه إليه بنفسه. فلما ورد كتاب الملك المظفر بذلك، وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل من الغد إلى جهة الكرك. فلما كان الليل رحل كثير ممن معه يريدون الملك الناصر، فكتب إلى السلطان بأن نصف العسكر قد صار عليه، وحرضه على الخروج بنفسه. فلم يطلع الفجر إلا والأمير سيف الدين بهادر جكي قد وصل بكتاب الأمير برلغي على البريد إلى السلطان، فلما قضي صلاة الصبح تقدم إليه وأعلمه برحيل أكثر العسكر إلى الملك الناصر، وناوله الكتاب، فلما قرأه تبسم وقال: سلم على برلغي، وقل له لا تخش من شيء، فإن الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية، وجدد لنا عهداً، وقد قرئ على المنابر، وجددنا اليمين على الأمراء، وما بقي أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين، فإنه قد أكد في كتابة العقد. ثم دفع المظفر إليه العهد الخليفتي، وقال: امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند، ثم يرسله لي، فإذا فرغ من قرائته يرحل بالعساكر إلى الشام ، وجهز له أيضاً ألفي دينار أخرى، وكتب جوابه بنظير المشافهة. فعاد بهادر إلى برلغي، فلما قرئ عليه الكتاب وانتهي إلى قوله: وإن أمير المؤمنين ولاني تولية جديدة، وكتب لي عهدًا، وجدد لي بيعة ثانية، فتح برلغي العهد فإذا أوله: إنه من سليمان، فقال: ولسليمان الريح، ثم التفت إلى بهادر وقال له: قل له يا بادر الذقن! واللّه ما معي أحد يلتفت إلى الخليفة، ثم قام وهو مغضب.
وكان سبب تجديد العهد أن نائب دمشق لما ورد كتابه بأنه حلف أمراء الشام ثانياً، وبعث صدر الدين محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل برسالة إلى السلطان، صار صدر الدين يجتمع عنده هو وابن عدلان، ويشغل السلطان وقته بهما. فاًشارا عليه بتجديد البيعة، وكتابة عهد يقرأ على المنابر، وتحليف الأمراء، فإن ذلك يثبت قواعد الملك، ففعل ذلك وحلف الأمراء بحضرة الخليفة، وكتب له عهد جديد عن الخليفة أبي الربيع، ونسخته: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد اللّه وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي لأمراء المسلمين وجيوشها. " يأيها الذين آمنوا أَطيعوا الله وأَطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " وإني رضيت لكم بعبد ا لله تعالى الملك المظفر ركن الدين نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقمته مقام نفسي لحينه وكفايته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحمت بذلك الحاكم الأربعة. واعلموا رحمكم اللّه أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابر. وقد استخرتُ اللّه تعالى؛ووليت عليكم الملك المظفر، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصي أبا القاسم ابن عمي صلى اله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر بن الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية إلى سبي الحريم والأولاد وسفك الدماء، وتلك دماء قد صانها اللّه من ذلك. وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك، وأدفع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم هذا الأمر العظيم، وأقاتله حتى يفيء إلى أمر اللّه تعالى. وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي - اللواء الشريف فقد اجتمعت الحكام على وجوب دفعة وقتاله إن استمر على ذلك، وأنا مستصحب معي لذلك السلطان الملك المظفر، فجهزوا أرواحكم والسلام. وقد قرئ على منابر الجوامع بالقاهرة في الجامع الأزهر وبجامع الحاكم، وقت الخطبة في يوم الجمعة، فلما بلغ القارئ إلى ذكر الملك الناصر صاحوا: لا! ما نريده!، ووقع في القاهرة ضجة وحركة بسبب ذلك.

وفيه قدم الأمير بهادر آص من دمشق على البريد يحث السلطان على الخروج بنفسه، فإن النواب قد مالوا كلهم مع الملك الناصر، فأجاب بأنه لا يخرج، واحتج بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، وأن الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر، فإن قبلوا وإلا ترك الملك. ثم قدم الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغي أن جميع من خرج من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر، وتبعهم خلق كثر، و لم يتأخر غير برلغي وجمال الدين أقوش نائب الكرك وأيبك البغدادي وتناكر والفتاح لا غير، وذلك لأنهم خواص السلطان.
وأما الملك الناصر فإنه سار في أول شعبان بمن معه يريد دمشق، فدخل في طاعته الأمير قطلوبك الحاج بهادر الحلبي وبكتمر الحاجب والجاولي، وكتبوا إليه بذلك، وأنه يتاًنى في المسير إلى دمشق من غير سرعة حتى يتبين ما عند بقية أمراء دمشق. ثم كتبوا إلى الأفرم نائب دمشق بأنه لا سبيل إلى محاربة الملك الناصر، وأرادوا بذلك إما أن يخرج الأفرم إليهم فيقبضوه، أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فتأتيهم بقية الجيش. وكان كذلك: فإنه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شاع بين الناس سير الملك الناصر من الكرك، فثارت العوام وصاحوا: نصره الله. وركب الأجناد إلى النائب، فاستدعى من بقي من الأمراء والقضاة، ونادى: معاشر أهل الشام! ما لكم سلطان إلا الملك المظفر فصرخ الناس بأسرهم: لا! لا! ما لنا سلطان إلا الملك الناصر.
وتسلل العسكر من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر، وانفرط الأمر من الأفرم. فاجتمع الأمير بيبرس العلائي والأمير بيبرس المجنون بمن معهما على الوثوب بالأفرم وقبضه، فلم يثبت عندما بلغه ذلك، واستدعى علاء الدين بن صبح وكان من خواصه، وتوجه ليلاً إلى جهة الشقيف. فركب الأمير قطلوبك والأمير الحاج بهادر عندما سمعا الخبر، وتوجها إلى الملك الناصر فسر بهما، وأنعم على كل منهما بعشرة آلاف درهم. ثم قدم إليه أيضاً الجاولي وجوبان، وسار بمن معه حتى نزل الكسوة، فخرج إليه بقية الأمراء والأبضاد، وقد عمل له سائر شعائر السلطنة من الصناجق الخليفتية والسلطانية والعصائب والجتر والغاشية. فحلف العساكر، وسار في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان من الكسوة يريد المدينة، فدخلها بعدما زينت زينة عظيمة. وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار المكاتب، فبلغ كراء البيت من البيوت التي من ميدان الحصا إلى القلعة للتفرج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم. وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملونة، وحمل الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري الغاشية، وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر. وترجل الأمراء والعساكر بأجمعهم، حتى إذا وصل باب القلعة خرج متولي القلعة وقبل الأرض، فتوجه السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق من الميدان. وكان عليه عند دخوله عباءة بيضاء فيها خطوط سود، تحتها فرو سنجاب.
وفي وقت نزوله قدم مملوك قرا سنفر من حلب لكشف الخبر، وذكر أن قرا سنقر خرج من حلب، وقبجق خرج من حماة؛ فخلع عليه، وكتب إليهما بسرعة القدوم. وكتب إلى الأفرام أمان، وتوجه به علم الدين الجاولي. فلم يثق بذلك، وطلب يمين السلطان له، فحلف السلطان وبعث إليه بنسخة الحلف صحبة الأمير الحاج أرقطاي الجمدار، فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبح، فركب السلطان إلى لقائه، حتى إذا قرب منه نزل كل منهما عن فرسه. فاًعظم الأفرم نزول السلطان له، وقبل الأرض، وكان قد لبس كاملية وشد وسطه وتوشح بنصفية، يعني أنه حضر بهيئة البطال من الإمرة، وكفنه تحت إبطه وعندما شاهده الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد: يا مولانا السلطان بتربة والدك الشهيد لا تؤذيه، ولا تغير عليه، فبكي سائر من حضر. وبالغ السلطان في إكرامه، وخلع عليه وأركبه، وأقره على نيابة دمشق، فكثر الدعاء له وسار الناصر إلى القصر. فلما كان الغد أحضر الأفرم خيلاً وجمالاً وثياباً بمائتي ألف درهم، تقدمة للسلطان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرى: خطب بدمشق للملك الناصر، وصليت الجمعة بالميدان، فكان يوماً مشهوداً.

وفيه قدم الأمير قرا سنقر نائب حلب، والأمير قبجق نائب حماة والأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس، وتمر الساقي نائب حمص. فركب السلطان إلى لقائهم في ثامن عشرى، وترحل لقرا سنقر وعانقه، وشكر الأمراء وأثنى عليهم. ثم قدم الأمير كراي المنصوري من القدس، وبكتمر الجوكندار نائب صفد. وقدم كل من النواب والأمراء تقدمه على قدر حاله، ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاه زركش، وخيول مسرجة، وأصناف الجواهر والخلع والأقبية والتشاريف. وكان أجلهم تقدمة الأمير قطلوبك المنصوري، فإنه قدم عشرة أرؤس خيل مسرجة ملجمة، عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك، وأربع قطر بغال، وعدة بخاتي، وغير ذلك.
وشرع الملك الناصر في النفقة على الأمراء والعساكر الواردة مع النواب، فلما انتهى أمر النفقة قدم السلطان بين يدية الأمير كراي المنصوري على عسكر ليسير إلى غزة، فسار إليها، وصار كراي يمد في كل يوم سماطاً عظيماً للمقيمين والواردين، وأنفق في ذلك أموالاً جزيلة من حصاله. واجتمع عليه بغزة عالم كبير، وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم.
وقم الخير إلى القاهرة في خامس عشرى شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال، فقلق الملك المظفر، واضطربت الدولة، وخرجت عساكر مصر شيئاً بعد شيء تريد اللحاق بالملك الناصر، حتى لم يتأخر عند الملك المظفر بديار مصر إلا خواصه وألزامه. و لم يتأخر عند الأمير برلغي من الأمراء والأجناد سوي خواص الملك المظفر، فتشاور مع جماعته، فاقتضى رأيه ورأى الأمير أقوش نائب الكرك اللحاق بالملك الناصر أيضاً، فلم يوافق على ذلك البرجية، وعاد الأمير أيبك البغدادي وبكتوت الفتاح وقجمار وبقية البرجية إلى القاهرة، وصاروا مع الملك المظفر. وسار برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر فيمن بقي من الأمراء والعساكر، فاضطربت القاهرة.
وكان الملك المظفر قد أمر في مستهل رمضان سبعة وعشرين أميراً، ما بين طبلخاناه وعشراوات: منهم من مماليكه صنقبحي وصديق وطومان، وقرمان، وغرلوا وبهادر وطرنطاي المحمدي، وبكتمر الساقي وقراجا الحسامي وبهادر قبجق، ولاجين أيتغلي وانكبار وطاشتمر أخو بتخاص، ومن ألزامه جركتمر بن بهادر رأس نوبة وحسن بن الردادي، وشقوا القاهرة على العادة، فصاحت بهم العامة: يا فرحة لا تمت.
أخرج المظفر أيضاً عدة من المماليك إلى بلاد الصعيد، وظن أن ينشئ له دولة. فلما بلغه مسير برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر سقط في يده، وعلم زوال أمره، فإن برلغي كان زوج ابنته ومن خواصه، بحيث أنعم عليه في هذه الحركة بنيف وأربعين ألف دينار. وقيل سبعين ألف دينار. وظهر عليه اختلال الحال، وأخذ خواصه في تعنيفه على إبقاء سلار النائب، وأن جميع هذا الفساد منه. وكان كذلك: فإنه لما فاتته السلطنة، وقام فيها بيبرس، حسده ودبر عليه، وبيبرس في غفلة عنه، وكان سليم الباطن لا يظن أنه يخونه.
وقبض في ليلة الجمعة ثاني عشره على جماعة من العوام، وضربوا وشهروا لإعلانهم بسب الملك المظفر، فما زادهم ذلك إلا طغيانًا، وفي كل ذلك تنسب البرجية فساد الأمور إلى الأمير سلار. فلما أكثر البرجية من الإغراء بسلار قال لهم المظفر: إن كان في خاطركم شيء فدونكم وإياه إذا جاء إلى الخدمة، وأما أنا فلا أتعرض له بسوء قط فأجمعوا على قبض سلار إذا عبر يوم الإثنين خامس عشره إلى الخدمة. فبلغه ذلك فتأخر عن حضور الخدمة، واحترس على نفسه وأظهر أنه قد وعك، فبعث الملك المظفر يسلم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه، فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها.
فلما كان من الغد يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، استدعى الملك المظفر الأمراء كلهم، واستشارهم فيما يفعل. فأشار الأمير بيبرس الدودار والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك، والإشهاد بنلك كما فعل الملك الناصر، وتسير إليه تستعطفه، وتخرج إلى الإطفيحية ممن تثق به، وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر، . فأعجبه ذلك، وقام ليجهز أمره وبعث ركن الدين بيبرس الدوادري إلى الملك الناصر يسأله إحدى ثلاث: إما الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها، أو صهيون ومضافاتها.

ثم اضطرب المظفر آخر النهار، ودخل الخزائن، فأخذ من المال والخيل والهجن ما أحب، وخرج في يومه من باب الإسطبل في مماليكه وعدتهم سبعمائة فارس، ومعه الأمير عز الدين أيدمر الخطير الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح. والأمير سيف الدين قجماس، والأمير سيف الدين تناكر، في بقية ألزامه من البرجية. وكأنما نودي في الناس بأنه قد خرج هارباً، فاجتمع الناس وقد برز من باب الإسطبل، وصاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه، وزادوا في الصياح حتى خرجوا عن الحد ورماه بعضهم بالحجارة. فشق ذلك على مماليكه، وهموا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم، فمنعهم من ذلك، وأمرهم بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنهم، فأخرج كل من المماليك حفنة مال ونثرها. فلم تلتفت العامة لذلك وتركوه، وأخذوا في العدو خلف العسكر، وهم يسبون ويصيحون، فشهر المماليك حينئذ سيوفهم، ورجعوا إلى العوام فانهزموا عنهم. وأصبح الحراس بقلعة الجبل يوم الأربعاء سابع عشره يصيحون باسم الملك الناصر. بإشارة الأمير سلار، فإنه أقام بالقلعة.
وفي يوم الجمعة تاسع عشره: خطب على منابر القاهرة ومصر باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفر، فكانت أيامه في السلطنة عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، فكان كما قيل:
أعجلتها النوى فما نلت منها ... طائلاً غير نظرة من بعيد
عود السلطان ناصر الدين إلى الملكعود السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبي المعالي محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك مرة ثالثة وذلك أنه لما عزم على المسير إلى ديار مصر، خرج من دمشق في الثانية من نهار يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان - وهي الساعة التي خلع فيها الملك المظفر بيبرس نفسه من الملك - وسار يريد مصر.
وعندما فر المظفر بيبرس جلس الأمير سلار في شباك النيابة، وجع من بقي من الأمراء، واهتم بحفظ القلعة، وأفرج عن المحابيس بها. وركب سلار ونادى في الناس: ادعوا لسلطانكم لملك الناصر، وكتب إلى الملك الناصر بنزول بيبرس عن السلطنة وفراره، وسير بنلك أصلم الدوادار وبهادر آص إلى الملك الناصر برسالة المظفر أنه قد نزل عن السلطنة، ويسأل إما الكرك أو حماة أو صهيون. فاتفق يوم وصولهما إلى غزة قدوم الملك الناصر أيضاً، وقدوم الأمير سيف الدين ساطي السلاح دار في طائفة من الأمراء، وقدوم العربان والتركمان. وقدم الأمير مهنا بجماعة من عرب آل فضل، فركب السلطان إلى لقائه، وقدم برلغي ونائب الكرك، فسر السلطان بذلك سروراً كبيراً. وكتب الناصر إلى المظفر أمانا مع بيبرس الدودار وبهادر آص، وقدما في حادي عشرى رمضان إلى الأمير سلار، فجهز الأمان إلى المظفر.
ولما تكاملت العساكر بغزة سار الناصر يريد مصر، فقدم أصلم مملوك سلار بالنمجاة، ووصل أرسلان الدوادار، فسر بذلك. و لم يزل الناصر سائراً إلى أن نزل بركة الحاج، وقد جهز إليه الأمير سلار الطلب السلطاني والأمراء والعساكر سلخ رمضان، وخرج الأمير سلار إلى لقائه. وصلى السلطان صلاة العيد بالدهليز في يوم الأربعاء مستهل شوال، وأنشد الشعرا مدائحهم، فمن ذلك ما أنشده شمس الدين محمد بن علي بن موسى الراعي أبياتاً منها:
الملك عاد إلى حماه كما بدا ... ومحمد بالنصر سر محمدا
وإيابه كالسيف عاد لغمده ... ومعاده كالورد عاوده الندى
الحق مرتجع إلى أربابه ... من كف غاصبه وإن طال المدا

وعمل الأمير سلار سماطاً عظيماً بلغت النفقة عليه اثني عشر ألف درهم، جلس عليه السلطان: فلما انقضى السماط عزم السلطان على المبيت والركوب بكرة يوم الخميس. فبلغه أن الأمير برلغي والأمير أقوش نائب الكرك قد اتفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله، فبعث إلى الأمراء يعلمهم. مما بلغه، ويأمرهم بالركوب فركبوا، وركب في ممالكيه ودقت الكوسات. وسار الناصر وقت الظهر من يوم الأربعاء، وقد احتفت به مماليه كي لا يصل إليه أحد من الأمراء، وسار إلى القلعة، وخرج الناس بأجمعهم لمشاهدته. فلما بلغ بين العروستين ترجل سلار وسائر الأمراء، ومشوا إلى باب السر من القلعة، وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السلاح حتى عبر السلطان من الباب إلى القلعة، وأمر الأمراء بالانصراف إلى منازلهم، وعين جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمروا على ظهور خيولهم حول القلعة طول الليل، فباتوا على ذلك.
وأصبح الناصر من الغد يوم الخميس ثانيه جالساً على تخت الملك وسرير السلطنة، وحضر الخليفة أبو الربيع والأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة للهناء، فقرأ محمد بن علي ابن موسى الراعي: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير " ، ثم دعا. ولما تقدم الخليفة وسلم، نظر إليه السلطان وقال له: كيف تحضر تسلم على خارجي، هل كنت أنا خارجياً وبيبرس كان من سلالة بني العباس؟، فتغير وجه الخليفة ولم ينطق. ثم التفت السلطان إلى القاضي علاء الدين علي بن عبد الظاهر الموقع، وكان هو الذي كتب عهد المظفر عن الخليفة، وقال له: يا أسود الوجه، فقال ابن عبد الظاهر من غير توقف: يا خوند! أبلق خير من أسود؟، فقال السلطان: ويلك! حتى ألا تترك رنكه أيضاً، يعني أن ابن عبد الظاهر ممن ينتمي إلى الأمير سلار، وكان رنك سلار أبيض وأسود، ثم التفت السلطان إلى قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة، وقال: يا قاضي! كنت تفتي المسلمين بقتالي؟ فقال: معاذ الله! إنما تكون الفتوى على مقتضى كلام المستفتي . ثم حضر صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل، وقبل يد السلطان فقال له كنت تقول ما للصبي وما للملك يكلفه؟. فحلف بالله ما قال هذا، وإنما الأعداء أرادوا إ تلافه فزادوا في قصيدته هذا البيت. والعفو من شيم الملوك، فعفا عنه؛ وكان ابن المرحل قد مدح المظفر بيبرس بقصيدة عرض فيها بالناصر، من جملتها:
ماللصبي وما للملك يكفله ... شأن الصبي لغير الملك مألوف
ثم استأذن شمس الدين محمد بن عدلان، ففال السلطان للدوادار: قل له أنت أفتيت أنه خارجي وقتاله جائز، مالك عنده دخول؛ ولكن عرفه هو وابن المرحل أنه يكفيهما ما قال الشارمساحي فيهما. وكان من خير ذلك أن الأديب شهاب الدين أحمد ابن عبد الدائم الشارمساحي مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة عرض فيها بهحو الملك المظفر بيبرس وصحته لابن عدلان وابن المرحل، منها:
ولي المظفر لما فاته الظفر ... وناصر الحق وافي وهو منتصر
وقد طوى اللّه من بين الورى فتنا ... كادت على عصبة الإسلام تنتثر
فقل لبيبرس إن الدهرألبسه ... أثواب عارية في طولها قصر
لما تولى الخير عن أمم ... لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا
وكيف تمشي به الأحوال في زمن ... لا النيل وفي ولا وافاهم مطر
ومن يقوم ابن عدلان بنصرته ... وابن المرحل قل لي كيف ينتصر
وكان المطر لم يقع في هذه السنة، وقصر النيل، وارتفع السعر.
واتفق في يوم جلوس السلطان، أن الأمراء لما اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق، فقام وأنشد أبياتاً لبعض عوام القاهرة، قالها عند توجه الملك الناصر من مصر إلى الكرك، منها:
أحبة قبلي إنني لوحيد ... وأريد لقاكم والمزار بعيد
كفى حزناً أني مقيم ببلدة ... ومن شف قلبي بالفراق فريد
أجول بطرفي في الديار فلا أرى ... وجوه أحبائي الذين أريد

نق فتواجد الأفرم وبكى، وحسر عن رأسه، ووضع الكلفتاه على الأرض، فأنكر الأمراء ذلك، وتناول الأمير فرا سنقر الكلفتاه بيده ووضعها على رأسه. وخرج السلطان فقام الجميع، وصرخت الجاويشية، فقبل الحاضرون الأرض.
وفيه قدم الأمير سلار من المماليك والخيول وتعابى القماش ما قيمته مائتا ألف درهم، فقبل السلطان شيئاً ورد الباقي. وسأل سلار الإعفاء من نيابة السلطنة، وأن ينعم عليه بالشوبك؛ فأجيب إلى ذلك. وحلف سلار أنه متى طلب حضر، وخلع عليه، وخرج عصر يوم الجمعة ثالثه مسافراً، فكانت ثيابته إحدى عشرة سنة، وتوجه معه الأمير نظام الدين آدم، واستقر ابنه علي بالقاهرة، وأنعم عليه بإمرة عشرة.
وفي خامسه: قدم رسول المظفر بيبرس بكتابه يسأل الأمان. وفيه استقر قرا سنقر في نيابة دمشق عوضاً عن الأفرم، وقبجق في نيابة حلب. والحاج بهادر الحلبي في نيابة طرابلس عوضاً عن أسندمر كرجي، وقطلوبك المنصوري في نيابة صفد عوضاً عن بكتمر الجوكندار، وأسندمر كرجي في نيابة حلب حماة عوضاً عن قبجق، وسنقر الكمالي حاجب الحجاب بديار مصر على عادته، وقرا لاجين أمير مجلس على عادته، وبيبرس الدوادار على عادته - وأضيف إليه نيابة دار العدل ونظر الأحباس - في خامس ذي القعدة، واستقر الأفرم في نيابة صرخد بمائة فارس. وطلب شهاب الدين بن عبادة، ورسم له بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهزت، وخلع عليهم كلهم في يوم الإثنين سادسه، وركبوا فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: استقر فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة، وصرف ضياء الدين أبر بكر النشائي، وعوق بالقلعة أياماً، ثم أفرج عنه ولم يحمل مالاً.
وفي يوم الخميس سادس عشره: حضر الأمراء الخدمة على العادة، وقد قرر السلطان مع مماليكه القبض على الأمراء، وأن كل عشرة يقبضون أميراً ممن عينه لهم، بحيث تكون العشرة عند دخول الأمير محتفة به، فماذا رفع السماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كل جماعة على من عين لهم. فلما حصل الأمراء في الخدمة أحاط بهم المماليك، ففهموا القصد، وجلسوا على السماط، فلم يتناول أحد منهم لقمة. وعندما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار، فتقدم إليه وقبض المماليك على الأمراء المعينين، وعدتهم اثنان وعشرون أميراً، فلم يتحرك أحد لقبضهم من خشداشيتهم، وبهت الجميع. و لم يفلت ممن عير سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة، فإنه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنه رعف، وخرج من غير أن يشعر به أحد، واختفى عند الأمير قرا سنقر وكان زوج ابنته، فشفع فيه حتى عفى السلطان عنه. وكان الأمراء المقبوض عليهم: تناكر، وأيبك البغدادي، والعتابي؛ وبلبان التقوي، وقجماس، وصاروجا، وبيبرس عبد الله، وبيدمر، ومنكوبرس وأشقتمر، والسيواسي، والكمالي الصغير، وحسن الردادي، وبلاط، وتمربغا، وقيران، ونوغاي الحموي، والحاج بيليك المظفري، وفطقطوا، والغتمي، وأكبار، وتتمة الاثنين وعشرين.
وجرد عدد من الأمراء إلى دمشق، فأول من سافر علاء الدين مغلطاي المسعودي، وجبا أخو سلار، وطرنطاي البغدادي، وأيدغدي التليلي، وبهادر الحموي، وبلبان الدمشقي، وأيدغدي الزراق، وكهرداش الزراق، وبكتمر الأستادار، وأيدمر الإسماعيلي، وأقطاي الجمدار، وبوزبا الساقي وبيبرس الشجاعي، وكوري السلاح دار، وأقطوان الأشرافي، وبهادر الجوكندار، وبلبان الشمسي، وعدة من أمراء الشعراوات، فلما وصلوا إلى حلب رسم بإقامة ستة من أمراء الطبلخاناه وعود البقية.
وفي ثالث عشرى: استقر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن سلار.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21