كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

وفي يوم الجمعة هذا: وصل الأمير كزل العجمي الحاجب من دمشق إلى القاهرة يبشر بقيام أمير المؤمنين، فشق القاهرة، وخرج من باب زويلة، ونزل عند الأمير يلبغا الناصري، وحضر إليه الأعيان. فقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليه، بأن العساكر المصرية والشامية قد اتفقت على إقامته، وبايعوه، وحلفوا له. وأنه قد خلع الناصر فرج من الملك، لما ظهر منه، وثبت عليه، بمقتضى محضر شهد فيه خمسمائة نفس بقوادح في الدين، توجب إراقة الدم. ويأمر في كتابه أن ينادي في القاهرة ومصر: لا سلطان إلا الخليفة، وأنه قد أبطل المكوس والمظالم، وأخذ البراطيل، ورمى البضائع على التجار، وأن يأمر الخطباء بقطع اسم الناصر من الخطب، وإقامة اسم أمير المؤمنين بمفرده. فلم يتمكن الأمير يلبغا الناصري من ذلك، خوفاً من أسنبغا الزردكاش، فإنه كان قد امتعض الناصر، وعزم على أخذ كزل هذا، فسبقه الأمير يلبغا، وأنزله. هذا، والكتب من الناصر تأتي مع السعاة إلى أسنبغا بأنه محصور بقلعة دمشق، فيهم بأمور من الشر، فيوسوسه الأمير يلبغا الناصري، ويتلطف به، حتى يكف عن ذلك.
وفي هذا اليوم: بلغ الأمير شيخ أن الناصر قد عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى تصير فضاء، ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك. فبادر وركب بعد صلاة الجمعة، بأمير المؤمنين وجميع من معه، وسار من طرف القبيبات، حيث كان منزله. ونزل بأرض الثابتية وقاتل من بالقلعة، فاشتد القتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر الرمي بالنفط وغيره، فاحترق سوق خان السلطان وما حوله. وحمل السلطانية على الشيخية حملة منكرة، هزموهم فتفرقوا شذر مدر. وثبت الأمير شيخ في حماته بعدما وصل إلى قريب الشويكة ثم حمل بنفسه - هو ومن معه - حملة واحدة، ملك فيها القنوات، ففر من كان هناك من التراكمين الرماة.
وكان الأمير دمرداش منزله عند باب الميدان تجاه القلعة، فلما بلغه ذلك أتى إلى السلطان وهو جالس تحت قبة فوق باب النصر، فسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك ليتوجه بهم إلى الأمير شيخ، فإنه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهل أخذه فنادى السلطان من هناك من العساكر وأمرهم بذلك، فلم يجبه منهم أحد، فلما كرر الأمر به. أجابه بعضهم جواباً فيه جفاء.
وبينما هم في ذلك، إذ اختبط العسكر، ووقع الصوت فيهم: قد كبسكم الأمير نوروز. فتسارعوا بأجمعهم، وعبروا من باب النصر إلى المدينة، وتفرقوا في خرائبها، بحيث لم يبق منهم أحد بين يدي السلطان، فولى الأمير دمرداش عائداً إلى موضعه. وقد ملك الأمير شيخ الميدان، والإسطبل، فبعث دمرداش إلى السلطان بأن الأمر قد فات، والرأي أن تلحق بحلب. فقام عند ذلك من مجلسه وترك الشمعة تتقد حتى لا يقع الطمع بأنه قد ولي، ويوهم الناس أنه ثابت. ثم دخل إلى حرمه، وجهز ماله فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل. وتوجه دمرداش نحو حلب، وخامر الأمير سنقر. وجاء إلى الأمير شيخ، فإذا الطبول قد بطل دقها، والرماة قد فروا. وكان قد تقرر من النهار بأن يدس بعض من استماله فتح الله من أصحاب الناصر ناساً، يقومون في الليل، يقولون من فوق الأسوار: نصر الله أمير المؤمنين. فما هو إلا أن قالوا ذلك تفرق الرماة من فوق الأسوار، وعندما خرج الناصر من داره، أمر بخيوله، فحملت المال ليسير إلى حلب، عارضه الأمير أرغون أمير أخور وغيره، ورغبه في الإقامة،: وأن الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءاً، ونحو ذلك، حتى طلع الفجر، فركب فرسه، ودار على السور، فلم يجد أحداً ممن أعده للرمي، فعاد، والتجأ إلى القلعة.
وأقبل الأمير شيخ نحو باب النصر، وركب نوروز إلى جهة باب أتوما، ونصبت السلالم حتى فتح باب النصر، وأحرق باب الجبية، فعبر الأمير شيخ من باب النصر، وأخذ المدينة، ونزل بدار السعادة، وامتدت أيدي النهابة من الغوغاء، فما عفوا ولا كفوا. وأخذوا من المال ما يجل عن الوصف. فلم يكد أحد يسلم من معرة النهب. ونزل أمير المؤمنين بدار في طرف من ظواهر دمشق، وتحول الأمير شيخ إلى الإصطبل. وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة.

وأخذ الناصر يرمي من أعلى القلعة يومه، وبات ليلة الأحد على ذلك، فلما كان يرم الأحد عاشره بعث بالأمير أسندمر أمير أخور ليحلف له الأمراء فكتب نسخة اليمين، فحلفوا له، ووضعوا خطوطهم. وكتب أمير المؤمنين خطه أيضاً. وصعد به إليه ناصر الدين محمد بن مبارك أخو الخليفة، فطال الكلام بينهما، وكثر الترداد بغير طائل. وعاد الناصر إلى الرمي من القلعة بمدافع النفط، والنشاب. فركب القوم وأحاطوا به يريدون قتاله. فأرسل يسأل في الكف عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفر منها، فأضطره الحال إلى أن نزل ليلة الاثنين حادي عشره، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماش من باب القلعة إلى الإصطبل، حيث منزل الأمير شيخ، فقام إلى لقائه وقبل له الأرض، وأجلسه بصدر المجلس، وسكن روعه، وتركه وانصرف عنه، فأقام بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني عشره، فجمع فقهاء مصر والشام بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين، وقد تحول إليها وسكنها، فأفتوا بإراقة دم الناصر شرعاً. فأخذ في ليلة الأربعاء من الإصطبل، وأنزل بموضع من قلعة دمشق وحده، وقد ضيق عليه، وأفرد من خدمه إلى ليلة السبت سادس عشره دخل عليه ثلاثة، أحدهم ابن مبارك أخو الخليفة، وآخر من ثقات الأمير شيخ، وآخر من ثقات الأمير نوروز، ومعهم رجلان من المشاعلية، فعندما رآهم ثار إليهم، ودافع عن نفسه فساوره الرجلان حتى صرعاه، بعدما أثخنا جراحه. وتقدم إليه بعض صبيان الفداوية بخنجر فخنقه، وقد أصابته الجراحة في خمسة مواضع. فلما ظن أنه قد أتى على نفسه وقام عنه، تحرك فعاد وخنقه مرة ثانية، حتى قوى عنده أنه هلك تركه، فإذا به يتحرك، فعاوده مرة ثالثة، وفرى أوداجه بخنجر، وسحب بعدما سلب جميع ما عليه من الثياب. وألقى على مزبلة مرتفعة عن الأرض تحت السماء، وهو عاري البدن، يستر عورته وبعض فخذيه سراويله، وعيناه مفتوحتان، والناس تمر به، ما بين أمير ومملوك، قد صرف الله قلوبهم عنه. وغوغاء العامة وأراذل الغلمان تعبث بلحيته ويديه ورجليه طول نهار السبت، نكالاً من الله له، فإنه كان مستخفاً بعظمة الله سبحانه، فأراه الله قدرته فيه:
لا تيأسن على شيء فكل فتى ... إلى منيته يستن في عنق
بأيما بلدة تقدر منيته ... ألا يسارع إليها طالعاً يسق
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة: حدثنا يزيد بن أبي حبيب أن قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شدد سلطانه بمعصية الله عز وجل، أوهن الله كيده إلى يوم القيامة " .
فلما كانت ليلة الأحد: حمل وكفن بعدما غسل، وصلى عليه، ودفن بمقبرة باب الفراديس، بموضع يعرف بمرج الدحداح، ولم يكن له جنازة مشهودة، ولا عرف من تولى غسله وكفنه، ويقال أنه تصدق عليه بالكفن، فسبحان المعز المذل.
وقد كان الأمير شيخ لا يريد قتله، وعزم على أن يحمله مع الأمير طوغان الدوادار إلى الإسكندرية ويسجنه بها، فقام الأمير نوروز والأمير بكتمر حلق في قتله قياماً بذلاً فيه جهدها، فإن الأمير يشبك بن أزدمر ممن امتنع من الموافقة على قتله، وشنع في ذلك، واحتج بالأيمان التي حلفت له، فتقوى نوروز وبكتمر بالخليفة، فإنه اجتهد هو وكاتب السر فتح الله في ذلك، وحمي الفقهاء والقضاة على الكتابة بإراقة دمه. وتجرد قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي لذلك، وكافح من خالف في قتله، وأشهد على نفسه أنه حكم بقتله شرعاً، فأمضى قتله، وقتل كما تقدم ذكره.
وكان الناصر هذا أشأم ملوك الإسلام، فإنه خرب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، فطرق الطاغية تيمورلنك بلاد الشام في سنة ثلاث وثمانمائة، وخرب حلب وحماة وبعلبك ودمشق، وحرقها، حتى صارت دمشق كوماً ليس بها دار، وقتل من أهل الشام ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى، وقطع أشجارها حتى لم يبق بدمشق حيوان، ونقل إليها من مصر، حتى الكلاب، وخربت أراضي فلسطين بحيث أقامت القدس مدة إذا أقيمت صلاة الظهر بالمسجد الأقصى لا يصلى خلف الإمام سوى رجلين.

وطرق ديار مصر الغلاء من سنة ست وثمانمائة، فبذل أمراء دولته ومدبروها جهدهم في ارتفاع الأسعار، بخزنهم الغلال وبيعها بالسعر الكبير، ثم زيادة أجرة أطيان أراضي مصر، حتى عظمت كلفة ما تخرجه الأراضي، وأفسدوا مع ذلك النقود بإبطال السكة الإسلامية من الذهب، والمعاملة بالدنانير المشخصة، التي هي ضرب النصارى. ورفعوا سعر الذهب حتى بلغ إلى مائتين وأربعين كل مثقال، بعدما كان بعشرين درهماً. وعكسوا الحقائق، فصيروا الفلوس - التي لم تكن قط في قديم الدهر ولا حديثه نقداً رابحاً - هي التي ينسب إليها ممن المبيعات، وقيم الأعمال. وأخذت على نواحي مصر مغارم تجبى من الفلاحين في كل سنة، وأهمل عمل جسور أراضي مصر، وألزم الناس أن يقوموا عنها بأموال تجبى منهم، وتحمل إليه.
وأكثر وزرائه من رمي البضائع على التجار ونحوهم من الباعة بأغلى الأثمان، واضطروهم إلى حمل ثمنها، فعظمت مغارمهم للرسل التي تستحثهم، ولمستخرجي المال منهم مع الخسارة في أثمان ما طرح عليهم من البضائع، لا جرم أن خرب إقليم مصر، وزالت نعم أهله، وقلت أموالهم، وصار الغلاء بينهم كأنه طبيعي، لا يرجى زواله.
هذا مع تواتر الفتن واستمرارها بالشام ومصر، وتكرار سمره إلى البلاد الشامية، مما من سفرة إليها إلا وينفق فيها خارجاً عما عنده من الخيول والسلاح وغير ذلك، زيادة على ألف ألف دينار، يجبيها من دماء أهل مصر، ومهجهم. ثم يقدم إلى الشام، فيخرب الديار ويستأصل الأموال، ويدمر القرى. ثم يعود وقد تأكدت أسباب الفتنة، وعادت أعظم ما كانت.
فخربت الإسكندرية، وبلاد البحيرة، وأكثر الشرقية، ومعظم الغربية، والجيزية، وتدمرت بلاد الفيوم، وعم الخراب بلاد الصعيد، بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطة كانت تقام في يوم الجمعة، ودثر ثغر أسوان، وكان من أعظم ثغور المسلمين، فلم يبق به أمير ولا كبير لا سوق ولا بيت، وتلاشت مدائن الصعيد كلها، وخرب من القاهرة وظواهرها زيادة على نصف أملاكها. ومات من أهل إقليم مصر بالجوع والوباء نحو ثلثي الناس. وقتل في الفتن بمصر مدة أيامه خلائق لا تدخل تحت حصر، مع تجاهره بالفسوق من شرب الخمر، وإتيان الفواحش، والتجرؤ العظيم على الله - جلت قدرته - ، والتلفظ من الاستخفاف بالله تعالى ورسله ما لا تكاد الألسنة تنطق بحكايته لقبيح شناعته.
ومن العجيب أنه لما ولد كان قد أقبل الأمير يلبغا الناصري بعساكر الشام لينزع أباه الملك الظاهر من الملك، وهو في غاية الاضطراب من ذلك، فعندما بشر به، قيل له: ما نسميه فقال: بلغاق يعني فتنة، وهي كلمة تركية، فقبض على أبيه وسجن بالكرك - كما تقدم ذكره - وهو لم يسم. فلما عاد برقوق إلى الملك عرض عليه، فسماه فرج، فما كان في الحقيقة إلا فتنة. أقامه الله سبحانه نقمة على الناس لذيقهم بعض الذي عملوا. ومن عجيب الاتفاق أن حرف اسمه فرج وعددها ثلاثة وثلاثون ومائتان، وهي عدد جركس، فكان فناء طائفة الجركس على يديه، فإن حروفها يعني إذا أسقطت بحروف اسمه. وكانت وفاته عن أربع وعشرين سنة، وثمانية أشهر، وأيام.
وفي يوم الأحد عاشر صفر هذا: قبض على الأخناي قاضي دمشق، وعلى رزق الله ناظر جيشها، وعلى الأمير غرس الدين خليل الأستادار، وعلى فخر الدين بن المزوق كاتب سر الناصر، وعلى يحيى بن لاقي، وسلموا للأمير نوروز. ثم شفع فيهم فأطلقوا بعد أيام، ما عدا غرس الدين، فإنه استمر في قبضة الأمير نوروز، وصادره.
وفي ثامن عشره: خلع على صدر الدين علي بن الآدمي، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن محيي الدين يحيي بن زكريا البهنسي، وخلع على شهاب الدين أحمد ابن محمد بن الأموي، واستقر في قضاء المالكية بدمشق.

وفي خامس عشرينه: استقر الأمير نوروز في نيابة الشام، وخلع عليه بحضرة أمير المؤمنين بدار السعادة، وقد جلس بها. وجلس الأمير شيخ عن يمينه في وقت الخدمة، وكان منذ قتل الناصر قد اتفق الحال على الأميرين شيخ ونوروز يقومان بالأمر مع أمير المؤمنين، ويسيران إلى مصر، فينزل الأمير شيخ بباب السلسلة من قلعة الجبل، وينزل الأمير نوروز في بيت الأمير قوصون بالرميلة تجاه باب السلسلة، وكتب إلى القاهرة بتجديد عمارته، وأن يضرب عليه رنك الأمير نوروز. وصار الأمير نوروز يركب من داره إلى تحت قلعة دمشق، فيخرج الأمير شيخ من الإصطبل - حيث هو نازل - ويسيران تحت القلعة بموكبهما ساعة، ثم يدخلان إلى دار السعادة، فيجلس الأمير طوغان الدوادار على عادته، والأمراء على مراتبهم، ويقرأ كاتب السر فتح الله القصص على أمير المؤمنين، فيمضي ما يختار إمضاءه، ثم يقدم إليه المراسيم والأمثلة، فيعلم عليها. ويمد السماط بين يديه، فيأكل الأمراء كما جرت به عادتهم، فإذا انقضت الخدمة، قاموا وصاروا إلى دورهم. فكان الناس يتوقعون عود الفتنة بين الأميرين شيخ ونوروز، إلى أن اختار نوروز من تلقاء نفسه أن يكون بالشام، وخلع عليه. وعندئذ انفرد الأمير شيخ بتدبير المملكة، وأخذ جانب الخليفة في الأتساع، وفوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام كله - دمشق وحلب وحماة - وجعل له تعيين الإمريات والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي النواب بالقلاع وغيرها، ويولي الكشاف والولاة بالأعمال، ويولي المباشرين أيضاً، ويطالع الخليفة بمن يستقر به في شيء من ذلك، ليجهز إليه التشريف، فكانت مدة نيابة الأمير بكتمر نحو الشهرين.
وفي سادس عشرينه: استدعى أمير المؤمنين شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين أبا الفضل عبد الرحمن بن البلقيني، وخلع عليه وأعاده إلى قضاء القضاة بالديار المصرية، فكانت ولاية الباعوني نحو شهر، ثم خلع على بقية قضاة مصر، وخلع على ناصر الدين محمد بن محمد البصروي موقع الأمير نوروز، واستقر به في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن ابن الآدمي، وأضاف إليه قضاء طرابلس، وأذن له أن يستنيب فيه.
وفي ثامن عشرينه: قدم كتاب الخليفة، وكتابي الأميرين شيخ ونوروز إلى الأمراء بديار مصر، تتضمن أخذ الناصر فرج، فقرئت الكتب عند الأمير يلبغا الناصري، وعند الأمير ألطنبغا العثماني. ثم نودي بالقاهرة: الأمان، فإن فرج بن برقوق قد مسك، ودخل في قبضة الأمير شيخ ونوروز، وأرسلت الكتب إلى الجوامع، فقرئت بالجامع الأزهر، وبجامع الحاكم من القاهرة، وبجامع أحمد بن طولون، وجامع عمرو من مدينة مصر، على المنابر، فكان يوماً مشهوداً. وامتنع الأمير أسنبغا الزردكاش بقلعة الجبل، وكذب ذلك، وأراد أن يركب للحرب. فساس الأمير يلبغا الناصري الحال، حتى كف أسنبغا عن الفتنة.
وفي هذا الشهر: بث أمير المؤمنين كتبه في البلاد الشامية وغيرها إلى التركمان والعربان والعشير، وجعل افتتاحها بعد البسملة: من عبد الله ووليه الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين، وخليفة رب العاملين، وابن عم سيد المرسلين، المفترض طاعته على الخلق أجمعين. أعز الله ببقائه الدين، إلى فلان..،.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في رابعه: ورد كتاب أمير المؤمنين إلى الأمراء بديار مصر، يتضمن قتل فرج بن برقوق، وأن الأمير أسنبغا الزردكاش يسلم قلعة الجبل إلى الأمير يلبغا الناصري. فنزل أسنبغا إلى الأمير يلبغا بمفاتيح القلعة، وتوجه إلى داره، وشيعه الأمير يلبغا، وشكر له فعله.
وقدم أيضاً من الإسكندرية الأمراء المسجونون بها، وهم سودن الأسندمري أمير أخور ثاني، وأينال الصصلاني الحاجب الثاني، والأمير كمشبغا المزوق، والأمير جانباك الصرفي، وتاج الدين بن الهيصم الأستادار. وقد كتب من دمشق بالإفراج عنهم، لتوجهوا إلى منازلهم.
وفي ثامنه: توجه أمير المؤمنين والأمير شيخ وعساكر مصر من دمشق، ونزلوا بقبة يلبغا.
وفي تاسعه: أعيد شمس الدين محمد الأخناي إلى قضاء القضاة بدمشق، فكانت مدة ولاية ابن الحسباني أحد وأربعين يوماً، منها مباشرته أقل من شهر. واستقل الخليفة والأمير شيخ بالمسير إلى ديار مصر.
وفي سادس عشرة: توجه الأمير نوروز نائب الشام من دمشق يريد حلب، فنزل على برزة.

وفيه تقدم الأمير نوروز بأن يضرب دراهم نصفها فضة ونصفها نحاس، فضربت، واستمرت أيضاً الدراهم التي يتعامل بها في دمشق وليس فيها من الفضة إلا العشر، والتسعة أعشار من نحاس، وكانوا في سنه ثلاث عشرة قد جعلوا بدمشق الربع فضة والثلاثة أرباع نحاساً، وضربوا الدراهم على هذا، ثم ما زالوا يقلوا من الفضة حتى لم يبق فيها من الفضة سوى العشر، فغلا عندهم أيضاً سعر الذهب، وارتفع من خمسة وعشرين درهماً الدينار، حتى بلغ إلى خمسة وخمسين درهماً. ثم أمر الأمير نوروز بأن تضرب الدراهم من فضة خالصة، ليس فيها غش، فضربت دراهم، زنة كل درهم منها نصف درهم فضة. وجعل كل دينار من الذهب بثلاثين درهم منها، فاستمر الصرف عندهم على هذا.
وفي سابع عشره: قدم الأمير ألطنبغا القرمشي إلى صفد، على نيابتها.
وفي ثالث عشرينه: خلع الأمير يلبغا الناصري نائب الغيبة بديار مصر، على محب الدين محمد بن شرف الدين عثمان بن سليمان بن رسول بن أمير يوسف بن خليل بن نوح الكرادي، المعروف بابن الأشقر. واستقر به في مشيخة خانقاة سرياقوس، عوضاً عن شيخها شهاب الدين أحمد بن أوحد برغبته عنها.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: في يوم الثلاثاء ثانيه: قدم أمير المؤمنين والأمير شيخ والعسكر إلى القاهرة، فشقوا القصبة من باب النصر إلى باب زويلة، ومضوا إلى القلعة وقد زينت الشوارع، فنزل الخليفة بالقصر من قلعة الجبل، ونزل الأمير شيخ باب السلسلة. وظهر اتضاع جانب الخليفة. وظن الأمير شيخ أنه لما دخل إلى القاهرة، أن الخليفة كان يمضي إلى داره، ولا يصعد إلى القلعة. ولم يخلع على أحد ممن جرت العادة بأنه يخلع عليه عند القدوم من السفر. وأقبل الناس إلى باب الأمير شيخ للسعي في الوظائف، وترك الخليفة وحده، ليس له سوى من يخدمه من حاشيته قبل مصير ما صار إليه.
وفي رابعه: قبض الأمير شيخ على الأمير أسنبغا الزردكاش، واستفتى في قتله، لقتله الأمير قنباي، فأفتوا بقتله، وحكموا به، وقبض فيه أيضاً على الأمير حطط البكلمشي - من أمراء العشرات - وعلى آخر، وكانا من خواص الناصر.
وفي سادسه: قبض الأمير شيخ على الأمير أرغون الرومي، أمير أخور، ورأس نوبة في الأيام الناصرية، وعلى الأمير سودن الأسندمري، والأمير كمشبغا المزوق، الذي قدم من سجن الإسكندرية، وسفروا إلى دمياط.
وفيه خلع على خليل الجشاري - من أصحاب الأمير شيخ - واستقر به في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير قطلوبغا الخليلي، بعد موته.
وفي ثامنه: حضر الأمير شيخ بالقصر بين يدي أمير المؤمنين، ومعه الأمراء وأهل الدولة وخلع على الأمير شيخ تشريف جليل، بطراز لم يعهد مثله في عظم القدر، واستقر به أميراً كبيراً، وفوض إليه الحكم بالديار المصرية في جميع الأمور، وأن يولي ويعزل من غير مراجعة ولا مشورة، وأشهد عليه بذلك، فتلقب بنظام الملك، وكتب بذلك في مكاتباته، وكوتب به. وخلع أيضاً على الأمير طوغان الحسني، واستقر دواداراً على عادته.
وخلع على الأمير شاهين الأفرم، واستقر على عادته أمير سلاح، وخلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير إينال الصصلاني، واستقر حاجباً، عوضاً عن يلبغا الناصر. وخلع على الأمير سودن الأشقر، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير سنقر الرومي. وخلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن سودن من عبد الرحمن. ونزلوا في خدمة الأمير شيخ، ثم حضروا إلى دورهم، فكان يوماً عظيماً.
وفي تاسعه: عرض الأمير شيخ المماليك السلطانية، وفرق عليهم الإقطاعات بحسب ما اقتضاه رأيه. وأنعم على جماعة من مماليكه بعدة إمريات، ما بين طبلخاناة وعشرة.
وفيه خلع الأمير شيخ على دواداره الأمير جقمق، واستقر به دوادار الخليفة، وأسكنه بقلعة الجبل، حتى لا يتمكن الخليفة من العلامة على شيء ما لم يكن على يد جقمق، ولا يقدر أحد على الاجتماع به إلا وهو معه. فاستوحش الخليفة من ذلك لانفراده بعياله في تلك القصور الواسعة، وضاق صدره، وكثر فكره.

وفي حادي عشره: خلع على الأمير سودن بن الأشقر، واستقر في نظر خانكاة شيخو، ومدرسة صرغتمش بالصليبة خارج القاهرة، وخلع على الأمير قنباي المحمدي، وعلى الأمير سودن من عبد الرحمن، لإطابة قلبيهما، من غير ولاية وظيفة. وخلع على صدر الدين أحمد بن محب الدين محمود العجمي، واستقر في حسبة القاهرة، وعزل زين الدين محمد بن الدميري. وكان ابن العجمي هذا قد أوصله شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني بالأمير شيخ، وصار من ندمائه، هو وقاسم البشتكي، زوج ابنة الأشرف شعبان بن حسين. وخلع فيه أيضاً على الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري، واستقر في الوزارة على عادته. وكان عندما قتل الناصر بدمشق ترامى على أمير المؤمنين، فأمنه، ونزل عنده. ثم توصل إلى الأمير شيخ بعلم الدين داود، وأخيه صلاح الدين خليل - ابني الكويز - فجمع بينه وبين بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار الأمير شيخ، حتى قام معه، وأصلح أمره عند الأمير شيخ، فأقر على وزارته إلى أن قدموا مصر، فبادر على عادته. وخلع أيضاً على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر على عادته في نظر الجيش وقد تقدم أنه صار مع كاتب السر فتح الله، وتقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر عند وقعة اللجون إلى عند الأمير شيخ ونوروز، فتسلمهم الأمير طوغان. وما زالوا عند الأمير شيخ حتى ظفر بالسلطان الملك الناصر، فأقره الخليفة على نظر الجيش، وتوصل بالتاج الشويكي - أحد أصحاب الأمير شيخ - إلى الأمير شيخ وخدمه، حتى اعتني به، وصار عنده بمكانة.
وخلع فيه أيضاً علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر به في نظر الخاص وكان قد تعرف في دمشق بزين الدين عبد الباسط بن خليل - أحد خواص الأمير شيخ - فأوصله بالأمير شيخ مع ما رباه به عنده كاتب السر فتح الله، فصار من المقربين عنده، المعتمد على قوله، الموثوق به.
وخلع أيضاً في هذا اليوم على فتح الدين فتح الله، واستقر في كتابة السر على عادته. وقد تقدم أنه صار مع الخليفة بعد واقعة يوم اللجون إلى الأميرين شيخ ونوروز، فكانا يجلانه، بحيث إن أصحاب الأمير شيخ أنكروا عليه قيامه له إذا دخل عليه، فقال لهم: أيا ويلكم لما كنت أرى ثياب هذا على مقعد أستاذي الملك الظاهر، وهو يحادثه سراً. أين كنت أنا أقف، إنما كنت أقف في أخريات المماليك. ثم إنه اختص به، وقام في مكايدة الناصر حتى أقام الخليفة وخلع الناصر. ثم مازال به حتى قتله، فتمكنت رياسته عند أهل الدولة، وصار منه منزلة شيخهم ومشيرهم، فصار يجلس فوق الوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيري، أو لم تكن عادة كاتب السر ذلك، بل صار الوزير وناظر الخاص وناظر الجيش مدة إقامته بعد قتل الناصر في دمشق لا يتمشى أحوالهم إلا به، لتقدمه في الدولة، وامتنانه بأنه هو الذي أقام الخليفة، ووطأ للقوم سلطانهم.
وفي ثالث عشره: قبض على الأمير بهاء الدين أرسلان والي القاهرة، وخلع علي تاج الدين تاج بن سيفا القازاني - المعروف بالتاج الشويكي - أحد خواص الأمير شيخ وندمائه، واستقر في ولاية القاهرة.
وفي ثامن عشره: أخرج الأمير شيخ عدة بلاد من أوقاف الناصر، منها ناحية منبابة على الخانكاة الظاهرية برقوق، وناحية دنديل عليها أيضاً. وأخرج أيضاً عدة أراضي من الرزق التي وقفها الناصر على المدارس ونحوها.
وفي تاسع عشره: خلع على قضاة القضاة الأربع خلع الاستمرار. وخلع أيضاً علي بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. أستادار الأمير شيخ، واستقر استادار السلطان، فنزل إلى دار الأمير جمال الدين، وجميع أهل الدولة في خدمته، وأصبح عزيز مصر.
وفي ثاني عشرينه: خلع علي شهاب الدين أحمد الصفدي، موقع الأمير شيخ، واستقر في نظر المارستان المنصوري - برغبة كاتب السر فتح الله له عنه - وفي نظر الأحباس، عوضاً عن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله. وخلع على ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، واستقر في توقيع الأمير شيخ، عوضاً عن الشهاب الصفدي. وكان قد قدم إلى الأمير شيخ كما تقدم ذكره، وهو في محاصرة الناصر، واختص به، فأخذه معه إلى مصر، وجعله من ندمائه الأخصاء.
وفي خامس عشرينه: خلع على الشيخ شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني، واستقر في وكالة بيت المال ونظر الكسوة، وعزل عنها تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله.

وفي هذا الشهر: نزل الأمير نوروز نائب الشام على حمص، وقد امتنع عليه الأمير أينال الرجبي، فلم يزل به حتى نزل إليه بأمان، فعصر كعبيه وأخذ أخته منه، وقتل ممن كان معه خمسة عشر رجلاً، وبعثه مقيداً إلى قلعة دمشق، فسجن بها.
وسار نوروز إلى حماة، وكان الأمير دمرداش قد عاد إلى حلب، فخرج منها إلى جهة قلعة الروم، فدخل نوروز حلب، وعليه تشريفة، وأمر فقرئ تقليده الخليفتي بحضرة أهل الدولة. ثم مضى يريد عينتاب، وجعل نائب الغيبة بحلب الأمير سودن الجلب نائب طرابلس، ففر الأمير دمرداش وقطع الفرات. فعاد نوروز إلى حلب، وقدمها في ثاني عشره، وقد مات سودن الجلب، فعين بنيابة طرابلس الأمير طوخ، ولنيابة حلب الأمير يشبك بن أزدمر.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء، يوافقه سابع عشر مسرى: فيه أوفي ماء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب الأمير يلبغا الناصري أمير مجلس، والأمير شاهين الأفرم أمير سلاح، والأمير طوغان الحسني الدوادار، حتى خلق المقياس بحضرتهم، وفتح الخليج على العادة.
وفي رابعه: قدم الأمير نوروز من حلب إلى دمشق.
وفي يوم الخميس سادس عشره: قرئ تقليد أمير المؤمنين للأمير الكبير نظام الملك شيخ، بأنه فوض إليه ما وراء سرير خلافته.
وفي ثالث عشرينه: جلس الأمير الكبير نظام الملك شيخ بالحراقة من الإصطبل، وبين يديه قضاة القضاة، والأمراء، والوزير، وكاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، وسائر أرباب الدولة، وقرأ كاتب السر عليه القصص كما جرت عادته بالقراءة بين يدي السلطان، فكان موكباً سلطانياً لم يعره إلا أنه عمل في الإصطبل، ولم يعمل في دار العدل، وأن الأمير جالس وليس تحته تخت الملك.
وفي رابع عشرينه: خلع الأمير نظام الملك شيخ على صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي، واستقر به في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، وعزل ناصر الدين محمد بن العديم.
وفيه بعث الأمير نظام الملك بالأمير جقمق الدوادار إلى البلاد الشامية، ومعه تقاليد النواب الخليفتية باستقرارهم على عادتهم، وخلع عليه عندما سار.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في ثامنه: مات الأمير بكتمر جلق من مرض تمادى به نحو شهرين. أصله أن عقربا لسعته وهو عائد مع العسكر من دمشق، فاشتد ألمه منها، وأخذه الحمى. فنزل الأمير الكبير نظام الملك راكباً، وجميع الأمراء وغيرهم مشاة، حتى صلى عليه تحت القلعة، وعاد من غير أن يشهد دفنه. وخلا له الجو بموت بكتمر هذا، وصرح بما كان يكتمه من الاستبداد بالأمر، وعزم على ذلك، ثم أخره.
وفي ثاني عشره: خرج الأمير نوروز من دمشق لملاقاة أهله، خوند سارة ابنة الملك الظاهر، وقد سارت إليه من القاهرة، فلقيها بالرملة، وهي مريضة، فتوجه بها إلى القدس، فماتت هناك، فدفنها. وولي في إقامته بالقدس الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن أحمد الهروي - ثم الرازي - تدريس الصلاحية، وكانت بيد الشيخ زين الدين أبي بكر بن عمر بن عرفات القمني وهو مقيم بالقاهرة، وينوب عنه بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن الهايم، وقد مات.
وفيه استقر ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، موقع الأمير الكبير نظام الملك، يقرأ القصص على الأمير الكبير بالإصطبل السلطاني، وقد انتصب فيه للحكم بين الناس، وجلس في المقعد الذي كان يقعد فيه الملك الظاهر برقوق، وابنه الملك الناصر فرج، وكان كاتب السر فتح الله قد قرأ بين يديه، كما كان يقرأ بين يدي من تقدم ذكره، فاختار أن يقرأ عليه موقعة، فانحط بذلك جانب فتح الله، وقل ترداد الناس إليه، وكثر الناس على باب ابن البارزي لطلبهم الحوائج.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه: دعي لأمير المؤمنين المستعين بالله على منبر المسجد الحرام، بعدما دعي له في ليلة الخميس على ظهر بئر زمزم، واستمر ذلك في كل ليلة على زمزم، وفي كل جمعة على منبري مكة والمدينة، ولم يدع بها لأحد من الخلفاء الذين قاموا بديار مصر من بني العباس، سوى المستعين هذا. وآخر من دعى له على منابر الحجاز من بني العباس الخليفة المستعصم بالله. فلما قتله هولاكو في سنة ست وخمسين وستمائة، انقطع الدعاء من الحرمين لبني العباس، واستقر الحال بمكة على أن يدعى على منبرها وفوق زمزم لصاحب مصر، وصاحب اليمن، ولأمير مكة، من بني حسن خاصة.
شهر رجب، أوله السبت:

في ثالث عشره: قدم الأمير نوروز من سفره إلى دمشق.
وفي تاسع عشرينه: خلع الأمير الكبير نظام الملك على قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم، واستقر به في مشيخة خانكاة شيخو، وعزل عنها قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن الطرابلسي.
وفيه خلع أيضاً على شيخ شمس الدين محمد البيري أخي الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، فاستقر به في مشيخة خانكاة بيبرس، وعزل عنها الشيخ شهاب الدين أحمد ابن حجر، وكان قد استنزل عنها علاء الدين على الحلبي قاضي غزة، وباشرها مدة. فما زال يتوصل بقاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي، والقاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، إلى أن اشترك هو وأخو جمال الدين في المشيخة.
وفي هذا اليوم: عقد مجلس عند الأمير الكبير نظام الملك بسبب أوقاف جمال الدين، وقد تقوي جانب أخيه شمس الدين، وزوج ابنة شرف الدين أبو بكر بن العجمي الحلبي الموقع، ومن بقي من ذرية جمال الدين يوسف الأستادار لانتمائهم إلى حاشية الأمير الكبير نظام الملك شيخ محكيهم بما نزل بهم في أيام الناصر فرج، فقام معهم قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي وناصر الدين بن البارزي، حتى أعادوا إلى أخي جمال الدين مشيخة البيبرسية.
وقررا مع الأمير الكبير أن الناصر غصب هؤلاء حقهم وأخذ أوقافهم، وقتل رجالهم، وغرضهم في الباطن تأخير كاتب السر فتح الله وإضاع قدره. فصادف مع ذلك عناية الأمير الكبير بجمال الدين فإنه كان عندما انتقل إليه - بعد موت الملك الظاهر - إقطاع الأمير بجاس وإمرته استقر عنده جمال الدين أستادار، وخدمه. ولم يترك خدمته في مدة غيبته طرابلس ولا بدمشق، وهو يتولى نيابتها حتى أنه في الحقيقة لم يقبض عليه إلا لممالأته الأمير شيخ كما تقدم ذكره، فأحضر في هذا اليوم قضاة القضاة وأخو جمال الدين وابنته، وطلبوا كاتب السر فتح الله ليوقعوا عليه الدعوى، فإنه كان يتولى نظر المدرسة، فوكل في سماع الدعوى ورد الأجوبة بدر الدين حسن البرديني - أحد خلفاء الحكم الشافعية - فلم يرض الأمير الكبير بذلك وأقام البدر البرديني، وأمر فتح الله بمحاكمتهم، فأدعوا عليه وحكم صدر الآدمي برد أوقاف جمال الدين إلى ورثته حكماً كله تهور ومجازفة فعصوا على ذلك، فانكسر فتح الله، وتبين فيه اتضاع القدر، واستطال عليه حاشية جمال الدين وغيرهم.
شهر شعبان المكرم، فيه تولى:
السلطان أبو النصرالسلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري

سرق من بلاده وهو صغير، فصار إلى تاجر يقال له محمود شاه اليزيدي، اشتراه بثلاثة آلاف درهم فضة، وقدم به إلى القاهرة على ظهر بحر الملح، في سنة اثنتين وثمانين وسبع مائة، وعمره قريباً من اثنتي عشرة سنة، فأخذه السلطان الملك الظاهر بعد موت محمود هذا من تركته، ودفع إلى ورثته ثلاثة آلاف درهم، ورقاه في خدمته، فعرف بشيخ المحمودي، ثم أنعم عليه بإمرة عشرة ثم بإمرة طبلخاناه، وجعله رأس نوبة، ثم سار من جملة أمراء الألوف. وولي نيابة طرابلس، ثم نيابة الشام، وحاربه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق إلى أن انهزم وقتل، كما تقدم ذكره، وقدم بعد قتله إلى الديار المصرية من دمشق بالخليفة المستعين بالله. وفوض الخليفة إليه جميع الأمور، ولقبه نظام الدولة، فتصرف في الولايات والعزل والأخذ والعطاء وغير ذلك، بحيث لم يكن للخليفة معه أمر ولا نهي ولا نفوذ كلمة، وإنما هو مقيم في دار وحشة بقصور قلعة الجبل، وتحضر إليه المراسيم، فيكتب عليها بحسب ما يختاره الأمير شيخ، إلى أن كان يوم الاثنين مستهل شعبان هذا، واجتمع قضاة القضاة الأربع، وجميع الأمراء وكافة أرباب الدولة، بمجلس الخدمة مع الحراقة، وعمل الموكب على العادة، قام فتح الدين فتح الله كاتب السر على قدميه، وقال لمن حضر أن الأحوال ضائعة، ولم يعهد أهل نواحي مصر عندهم اسم الخليفة، ولا تستقيم الأمور إلا بأن يقوم سلطان على العادة. ودعاهم إلى الأمير شيخ، فقال الأمير شيخ: هذا أمر لا يتم إلا برضى أهل الحل والعقد، فقال من حضر من الأمراء بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير. فمد قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني يده، وبايعه، فلم يختلف عليه أحد، وقام من فوره إلى مخدع بجانبه، ولبس الخلع السود الخليفتية، وتقلد بالسيف على العادة، وخرج شيخ مركب فرس النوبة، والأمراء وغيرهم مشاة، إلى أن عبر القصر الكبير من قلعة الجبل، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبل الأمراء الأرض بين يديه، وقبلوا يده.
فلما استقر له الأمر بعث وهو بالقصر القضاة إلى الخليفة ليسلموا عليه، ويشهدوا عليه بأنه فوض إليه السلطنة، كما جرت به عادة ملوك الترك بمصر، فدخلوا إليه وراودوه على ذلك، فتوقف في الإشهاد عليه بتفويض السلطنة توقفاً كبيراً. ثم اشترط أن يؤذن له في النزول من القلعة إلى داره، وأن يخلص له السلطان بأنه يناصحه سراً وجهراً، ويكون سلماً لمن سالمه، حرباً لمن حاربه، فعاد القضاة إلى السلطان، وردوا الخبر عليه، وحسنوا عبارة الرد، فأجاب. ليمهل علينا أياماً، فإن الآن لا يمكن نزوله إلى بيته. فنزلوا إلى دورهم، وكانت مدة إقامة الخليفة حاكماً - منذ جلسته خارج دمشق إلى هذا اليوم - سبعة أشهر وخمسة أيام.
وإلى يوم الثلاثاء ثانيه: قدم الأمير جقمق الدوادار إلى دمشق، فتلقاه الناس، وأنزله الأمير نوروز بدار السعادة، وخلع عليه خلعة سنية، وفي ظنه أن الأمر بيد الخليفة. ثم سار بعد أيام إلى طرابلس.
وفي رابعه: نادي الأمير نوروز بدمشق ألا يتعامل أحد بالدراهم المغشوشة، وأن تكون المعاملة بالدراهم الخالصة التي استجد ضربها، وكانوا بدمشق يتعاملون بها جميعاً إلى أن ضربت فلوس جدد، زنة الفلس منها مثقال، وكانت الدراهم المغشوشة قد فسدت بحيث لم يكد يوجد فيها - إذا سبكت - شيء من الفضة، وتعاملوا بينهم على صرف خمسة منها بدرهم خالص، مما وزنه نصف درهم فضة، ثم نودي بتسعير المأكل، فسعرت.
وفي سادسه: خلع السلطان الملك المؤيد على الأمير درباي أحد الطبلخاناة، وسيره إلى الأمير نوروز بخلعة استقراره في نيابة الشام، ويعلمه بأنه تسلطن.

وفي ثامنه: جلس السلطان بدار العدل من قلعة الجبل، وعملت خدمة الإيوان على عادة من تقدم من السلاطين، وخلع بدار العدل على الأمير يلبغا الناصري، واستقر به أتابك العساكر، وعلى الأمير طوغان، واستقر كعادته دوادار السلطان، وعلى الأمير شاهين الأفرم، واستقر على عادته أمير سلاح، وعلى الأمير قنباي المحمدي، واستقر أمير أخور، وعلى الأمير سودن الأشقر، واستقر على عادته رأس نوبة النوب، وخلع على كاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، وعلى الوزير، والقضاة خلع الاستمرار، وفي هذا اليوم أعاد الأمير نوروز شرف الدين عيسى المغربي إلى قضاء المالكية بدمشق، وعزل شهاب الدين أحمد بن محمد الأموي، فتوجه إلى القاهرة.
وفي حادي عشره: خلع على شمس الدين محمد بن الجلال التباني - أحد خواص السلطان - واستقر في قضاء العسكر.
وفي سابع عشره: ورد الخبر إلى دمشق بسلطنة الملك المؤيد، بقدوم الأمير درباي، فتجهم نوروز لذلك.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير جقمق من طرابلس إلى دمشق فقبض عليه نوروز وسجنه، وأعاد الأمير درباي بجواب خشن، لم يخاطب فيه السلطان إلا كما كان يخاطبه من غير أن يعترف له بالسلطة.
وفي هذا الشهر: نزلت لبيد على تروجة وأفسدت فسار إليهم الأمير طوغان وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعاد. فنزلوا بعد عوده على الإسكندرية وحصروها، فسار إليهم الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: فيه قدم الأمير درباي، وأخبر بامتناع الأمير نوروز من لبس التشريف، وأنه قبض على الأمير جقمق واعتقله. وفيه جمع اليهود والنصارى بزيادة جامع الحاكم من القاهرة. وحضر الشيخ زين الدين أبو هريرة بن النقاش - خطيب الجامع الطولوني - وشمس الدين محمد بن التباني، قاضي العسكر، وصدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة، وكتبت أسماؤهم ليؤخذ منهم الجزية بحسب قدرتهم، وعلى قدر أحوالها، فإنهم لا يزنون الجزية إلا مصالحة عن الجميع، بمبلغ بضعة وثلاثين ألف درهم في السنة، فقام الجماعة المذكورون مع السلطان في أن يؤخذ من كل واحد من أهل الذمة بمفرده، إن كان غنياً أخذ منه أربعة دنانير، وأن كان متوسط الحال فيؤخذ منه ديناران، وإن كان فقيراً أخذ منه ديناراً واحدا.
وفي ليلة السبت ثماني عشره: هرب الأمير أينال الرجبي من قلعة دمشق ومعه جماعة ممن كان مسجوناً بها، وسار إلى صفد يريد القاهرة.
وفي سابع عشره: أرسل السلطان الشيخ شرف الدين يعقوب بن التباني رسولاً إلى الأمير نوروز.
وفي تاسع عشرينه: خرج الأمير نوروز لملاقاة الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش، وقد قدم ومعه علي بن دلغادر، بعث به الأمير دمرداش، وقد كتب إليه الأمير نوروز يستدعيه إليه، فأكرمه الأمير نوروز وخلع عليه، وأنزله، ورتب، ولمن معه ما يليق بهم.
شهر شوال، أوله الأربعاء: في ثالثه: توجه أقبغا الأسندمري إلى الأمير دمرداش المحمدي، بتقليد نيابة حلب.
وفي سابعه: قدم ابن التباني دمشق على الأمير نوروز، فمنعه من الإجماع بالناس وكتب يستدعي نواب البلاد الشامية إليها.
وفي يوم الخميس تاسعه: قبض على الأمير سردن المحمدي، وحمل من وقته إلى الإسكندرية، وقبض أيضاً على فتح الدين فتح الله كاتب السر، وعوق بقلعة الجبل، وأحيط بداره. وقبض على حواشيه وأسبابه، فكانت مدة ولايته أربع عشرة سنة وثمانية وعشرين يوماً، تعطل فيها. وعصر في ليلة الجمعة، وألزم بمائتي ألف دينار، فتقرر معه الوزن على خمسين ألف دينار، بعدما ضرب ضرباً مبرحاً، ثم حمل في ليلة الأحد ثاني عشره إلى بيت الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، وأخرجت حواصله فبيعت.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره: خلع علي ناصر الدين محمد بن عثمان بن محمد البارزي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن فتح الله.
وفي هذا اليوم: قبض الأمير نوروز على نجم الدين عمر بن حجي وسجنه بقلعة دمشق، خشية أن يتوجه إلى القاهرة، فأقام خمسة عشر يوماً، وأفرج عنه. وفيه خرج محمل الحاج بدمشق.
وفي عشرينه: دار المحمل بالقاهرة، ولم يعهد تأخره إلى مثل هذا الوقت فيما مضى من السنين، وخرج أمير الحاج بيبغا المظفري.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير طوخ من طرابلس إلى دمشق، وقدم أيضاً الأمير قمش من حماة، فخرج الأمير نوروز لملاقاتهما، وبالغ في إكرامهما، والإنعام عليهما.

وفي ليلة السبت خامس عشرينه: حمل فتح الله إلى قلعة الجبل، وسجن بها.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير يشبك بن أزدمر من حلب، فخرج الأمير نوروز إلى لقائه وأكرمه إكراماً كبيراً.
وفي سلخه: قدم كاشف الرملة إلى دمشق فاراً، وذلك أن الأمير أينال الرجبي لما هرب من قلعة دمشق إلى صفد سار منها إلى القاهرة، فأقبل عليه السلطان، وجهزه إلى غزة، فخرج ومعه الأمير جاني بك الصوفي على عسكر، فنزلوا على غزة، وأخذوها للسلطان، فلما قدم كاشف الرملة إلى دمشق، وأخبر بقدوم عسكر مصر، كان الاتفاق قد وقع على عود النواب من دمشق إلى بلادهم، ليستعدوا ويعودوا، فيتوجهوا إلى غزة، فتغير رأيهم، وعينوا جماعة لتسير إلى غزة. وولي الأمير نوروز الأمير كستا نيابة غزة.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: في رابعه: جمع الأمير نوروز قضاة دمشق وفقهائها بدار السعادة، ليسألهم ما حكم الله في سلطنة الملك المؤيد شيخ، وسجنه للخليفة، وكان السلطان قد نقل الخليفة من القصر، وأنزله في بعض دور القلعة، ومعه أهله وأولاده، ووكل به من يحفظه، ويمنع من يجتمع به، فأقام الفقهاء ساعة، ثم مضوا من غير شيء سئلوا عنه. وفيه سار النواب من دمشق إلى بلادهم، وخرج الأمير نوروز مودعاً الأمير يشبك ابن أزدمر.
وفي سابعه: سار على باك بن دلغادر من دمشق، بعدما خلع عليه الأمير نوروز، وأنعم عليه إنعاماً بالغاً. وكثر إنعام الأمير نوروز في هذه المدة على الأمراء والمماليك، بحيث انه أنعم على يشبك بن أزدمر بخمسة آلاف دينار، وعلى تعري بردى ابن أخي دمرداش مرة بثلاثة آلاف دينار ومرة بخمسة آلاف دينار، وبلغت نفقته في يوم واحد إلى أربعين ألف دينار، وعمر قلعة دمشق أحسن عمارة، وأخذ من الأمير غرس الدين خليل الأستادار في مصادرته ما يزيد على مائتي ألف دينار.
وفي هذا الشهر: سار الأمير أينال الرجبي من غزة إلى جهة القدس، فهجم عليه كاشف الرملة، وقاتله فكسره. ثم قبض عليه وبعثه إلى دمشق، فقدم صحبة أينال الدوادار، وقد توجه إليه ليحضره في سادس عشره وهو مقيد، فلما مثل بين يدي الأمير نوروز بصق في وجهه، وأفرج عنه، وخلع عليه من غير أن يؤاخذه، فإنه زوج أخته، وكان بين فراره من قلعة دمشق وعوده أربعة وستين يوماً. وفيه أخذ عسكر الأمير نورز غزة، ولحق الأمير جانبك الصوفي ومن معه بصفده وفي تاسع عشره: سار الأمير سودن بن كستا من دمشق على عسكر يريد غزة، فنزل على قبة يلبغا، واستقل بالمسير في حادي عشرينه. وفيه مات الأمير طوغان نائب قلعة الروم، فأخذها الأمير دمرداش.
وفيه قطع الدعاء للخليفة بالحرمين، ودعي للسلطان الملك المؤيد، واستمر يدعى له بالصلاح قبل أن يدعى للسلطان نحو سنة، ثم قطع من أجل أن الدعاء للخليفة بمكة لم يكن يعهد من بعد قتل المستعصم، فكان مدة الدعاء للخليفة بتلك الأماكن نحو خمسة أشهر. وفيه قدم ابن التباني من دمشق.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله الجمعة: في ثالثه: خلع على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش بقلعة الجبل، واستقر به السلطان في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير نوروز، وخلع أيضاً على الشيخ شرف الدين يعقوب بن التباني، واستقر به في مشيخة خانكاة شيخو، وعزل ناصر الدين محمد بن العديم، وكان قد توجه للحج.
وفي خامسه: تنكر أهل حلب على الأمير يشبك بن أزدمر، فركب عليهم وقاتلهم فغلبوه وهزموه، ففر منهم، وكان الأمير طوخ قد توجه من طرابلس إلى حماة، وأقام بها، فسار أهل طرابلس على مباشريه، وقتلوا أستاداره وولده، وأخرجوا الحاجب بعدما جرح جراحات بالغة.
وفي سادسه: عوقب كاتب السر فتح الله بالضرب على ظهره عقوبة شديدة بالغة وعصر حتى أشفى على الموت، وأهين مع هذا إهانة من يطلب منه ثأر.
وفي ثامنه: حمل من القلعة إلى بيت تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر الخاص، فسجنه في داره، ووكل به، وأخذ في حمل المال المقرر عليه.

وفي تاسعه: قدم أقبغا الأسندمري إلى حلب من جهة السلطان، وعلى يده تقليد الأمير دمرداش المحمدي نيابة حلب، وتشريفه، وكان دمرداش قد وصل إليها في يوم الجمعة سابعه، فخرج من مدينة حلب، ولبس تشريف السلطان، وسار به في مركب خليل إلى باب القلعة، فنزل، وصلى هناك ركعتين، وقبك الأرض خدمة للسلطان على العادة، ودعي باسم السلطان بحلب ومعاملتها وضربت السكة باسمه، وحلف الأمراء وأرباب الدولة على الطاعة للسلطان.
وفي ثامن عشرينه: عزل صدر الدين أحمد بن العجمي عن الحسبة بابن شعبان وقد وعد ابن شعبان بخمسمائة دينار يقوم بها، والتزم أن يحمل في كل شهر مائة دينار. وعوق ابن العجمي في بيت الأمير جانبك الدوادار، وألزم بمال يحمله.
وفي هذا الشهر: اشتد الغلاء بمكة أيام الموسم، فأبيع الشعير كل ويبة بدينارين، وكل ويبة فصا - وهو نوي التمر - بدينار ونصف، وكل رطل بشماط بعشرة دراهم فضة. ولم يحج أحد من العراق ولا من اليمن. وعز الفلفل بمكة، لطلب التجار له، فإنه قل بديار مصر، حتى بلغ الحمل إلى مائتين وعشرين مثقالاً من الذهب، بعدما كان بستين مثقالاً، فاشتري منه بمكة للسلطان من حساب خمسة وعشرين مثقالاً الحمل، بمبلغ خمسة آلاف دينار. وحملإلى القاهرة فبلغ الحمل بمكة خمسة وثلاثين ديناراً هرجة، بعدما كان بعشرة مثاقيل.
وفي هذه السنة: توغل الأمير موسى بن عثمان في بلاد النصارى، يأسر وينهب ويحرق، ثم عاد فوجد صاحب الطبول قد عدى بأخيه محمد بن عثمان إليه، وقد خامر الأمراء معه، فجرت بينهم حروب عظيمة.
ومات في هذه السنة

ممن له ذكر سوى من تقدم ذكره
جمال الدين عبد الله بن محمد بن طميان، المعروف بالطيماني الشافعي، قتل بدمشق في الفتنة ليلة الجمعة ثاني صفر، وكان من الفضلاء، وانتقل من القاهرة إلى دمشق وسكنها.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن خليفة ابن عبد العال الدمشقي، المعروف بابن الحسباني، في يوم الأربعاء عاشر شهر ربيع الآخر، بدمشق، عن خمس وستين سنة وسبعة أشهر وأيام. أفتى، ودرس، وبرع في العربية والفقه والحديث، وولي قضاء دمشق وخطابتها غير مرة، وقدم إلى القاهرة مراراً.
ومات قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن الشحتة الحلبي الحنفي في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر، بحلب، عن ست وستين سنة. أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة وولي القضاء بحلب ودمشق، وبرع في العربية والأدب وغيره.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد بن علي بن الهايم المصري الشافعي، بالقدس، في جمادى الآخرة، عن سبع وخمسين سنة، درس بالقدس، وكان قد تحول إليه من القاهرة، وبرع في الحساب والفرائض.
سنة ست عشرة وثمانمائةأهلت هذه السنة، وسلطان مصر والحرمين الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي، والخليفة المستعين بالله، ممنوع من التصرف، موكل به، وأتابك العسكر الأمير يلبغا الناصري. والدوادار الكبير الأمير طوغان الحسني. وأمير أخور الأمير قنباي المحمدي. وكاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وقضاة القضاة على ما كانوا عليه في السنة التي قبلها، ما عدا الحنفي، فإنه قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الدمشقي. والمباشرون على ما كانوا عليه، ما عدا الأستادار، فإنه الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسي، وحاجب الحجاب الأمير أينال الصصلاني، ووالي القاهرة الأمير تاج الدين تاج بن سيفا الشويكي، ونائب الإسكندرية الأمير غرس الدين خليل الجشاري، ونائب غزة الأمير ألطنبغا العثماني، والشام كله بيد الأمير نوروز الحافظي، وهو يدعو على المنابر بها لأمير المؤمنين المستعين بالله، ويضرب السكة باسمه، ويفتتح كتبه التي يبعثها إلى البلاد ومراسيمه التي تصدر عنه، بالإمامي المستعيني. ما خلا حلب، فإنها بيد السلطان، ونائبه بها الأمير دمرداش المحمدي.
شهر الله المحرم أوله الأحد:

يوافقه اليوم الثالث من نيسان، واليوم الخامس من برمودة: وسعر الذهب بالقاهرة، ما كان من الهرجة فبمائتين وخمسين درهماً كل مثقال، وما كان من الإفرتني فكل دينار بمائتين وثلاثين درهماً، وما كان من الناصري فبمائتين وعشرة دراهم الدينار، والقمح من مائة وثمانين الأردب إلى ما دونها، وبلغ الكتان كل رطل إلى ثلاثين درهماً. وهذا شيء لم نعهده قط بمصر، فغلا لغلائه جميع أصناف الثياب، حتى أبيع الثوب القطن البعلبكي بعشرين مثقالاً.
وفي رابع عشره: نقل فتح الله محمولاً من بيت ابن أبي شاكر، ولعجزه عن الحركة، وسلم إلى الأمير تاج الدين والي القاهرة، فأنزله بدار أقام بها وحيداً فريداً، يقاسي ألم العقوبة، ويترقب الموت، وخرج من القاهرة جماعة لضبط ما يصل من أصناف المتجر، صحبة الحاج، فساروا إلى عقبة أيلة، ففر كثير من التجار، وتوجهوا نحو الشام، ففات أهل الدولة منهم مال كبير.
وفي عشرينه: سافر الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من القاهرة يريد أخذ دمشق.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير بيبغا المظفري بالمحمل وبقية الحاج.
وقدم الخبر بمفارقة الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش لدمشق، وقدومه إلى صفد منتمياً إلى السلطان، فسر بذلك، ودقت البشائر بقلعة الجبل، واشتد الأمر على صدر الدين أحمد بن العجمي في حمل ما ألزم به، وهو خمسمائة دينار، وقد تأخرت عليه من ألف دينار، فباع موجوده، وأورد نحو ثلاثمائة دينار.
وفي هذا الشهر: تزايد الطاعون في الناس بالقاهرة ومصر، وكان ابتداؤه من أخريات ذي الحجة الحرم، وهب يوم النحر ريح في غاية الشدة من ناحية الجنوب، واستمرت أياماً، ففشا الطاعون والحميات الحادة المحرقة في الناس، لاسيما الأطفال والشباب.
وأهلت السنة، ويموت في كل يوم ممن يرد الديوان ما بين العشرين إلى الثلاثين، والوقت ربيع. وقد صار حاراً يابساً، ورياحه كلها جنوبية، وحره خارج عن المعتاد، فكثر الوباء، وناف عدة من يرد الديوان على المائة.
وفي سلخه: أفرج عن صدر الدين بن العجمي، وخلع عليه، وقرر في نظر المواريث، وأفردت عن الوزير، وألزم أن يحمل ما يتحصل من ذلك إلى خزانة السلطان.
وفي هذا الشهر: ثار بالسلطان وجع المفاصل.
شهر صفر، أوله الاثنين: أهل والوباء يتزايد، ثم تناقص من نصفه. وذلك أن الشمس لما نقلت إلى برج الثور رطب الحر المحرق، واستمر الوقت رطباً مدة عشرين يوماً، ثم انقلب الزمان في آخر برج الثور إلى حر مفرط، وعوم محرقة، فتزايدت الأمراض، حتى تجاوز عدد من يرد الديوان من الأموات مائة وعشرين، فعز وجود البطيخ الصيفي من كثرة ما يطلب للمرضى، حتى بيعت نصف بطيخة بخمسمائة درهم، عنها مثقالان من الذهب، وعز أيضاً وجود الماء وأقبل الناس في أخذ جمال السقائين، فبلغت الراوية خمسة عشر درهماً، وأبيعت خمس بطيخات بألفي درهم، عنها ثمانية مثاقيل ذهباً.
وفي تاسعه: سار الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من غزة، وقد وصل إليها يريد صفد، ومعه أخوه تغري بردى نائب حماة، وقد بعث إليه السلطان بولايتها، وخرج الأمير ألطنبغا العثماني في أثرهما من الغد، لمساعدتهما، فبلغهم عود الأمير نوروز من حلب إلى دمشق، فأقاموا على الرملة.
وفي ثامن عشرينه: قدم أقبغا الأسندمري بجواب الأمير دمرداش ونواب القلاع بطاعتهم، وصحبته قاصد عثمان بن طر علي وغيره من أمراء التركمان، ودمرداش، والفضة المضروبة بالصكة المؤيدية.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء، ثم استقر الأربعاء: وفي ثانيه: منع خدم فتح الله من الدخول إليه، فأقام إلى ليلة الأحد سادسه، فخنق وأخرج به من الغد، فدفن بتربته خارج باب المحروق. ولم يشيع جنازته أحد من الناس. وفيه وقع حريق في الدور بقلعة الجبل عظم أمره، واستمر إلى يوم الأربعاء تاسعه، وهم في إطفائه فاحترق فيه رجل ومات.
وفي سابعه: سمر الأمير فارس المحمودي، ثم وسط تحت القلعة، وهو أحد أمراء الطبلخاناه من الأيام الناصرية، وسبب ذلك أنه وشي للأمير طوغان الدوادار، وللأمير شاهين الأفرم بأن السلطان الملك المؤيد عزم على قبضهما، فاجتمعا بالسلطان وأعلماه بذلك، فقبض عليه وقتله.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في أوله حمل الأمير قصروه إلى ثغر الإسكندرية، فسجن بها.

وفي ثامن عشره: خلع على شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد المغربي المالكي الأموي قاضي دمشق، واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، وعزل شمس الدين محمد ابن المدني.
وأما أخبار الشام، فإن الأمير نوروز كتب في خامس عشرين المحرم كتاباً إلى السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ جرى فيه على عادته من مخاطبته بمولانا، وافتتحه بالإمامي المستعيني. ولم يخاطبه فيه كما يخاطب السلطان، فكان يتضمن العتب على ولايته الأمير دمرداش حلب، وابن أخيه الأمير تغري بردى حماة، وبن أخيه الآخر الأمير قرقماش طرابلسي وتقديمهم عليه، وقد تقدمت بينهما عهود، فإن كان القصد أن يستمر على الأخوة، ويقيم على العهد فلا يتعرض إلى ما هو بيده، وينقل دمرداش من نيابة حلب إلى نيابة طرابلس، ويستقر قرقماش أميراً بمصر. ثم خرج من دمشق يريد محاربة دمرداش، حتى نزل حماة في تاسع صفر.
فلما بلغ ذلك الأمير دمرداش، خرج من حلب في حادي عشره، ومعه الأمير بردبك أتابك حلب، والأمير شاهين الأيدكاري الحاجب، والأمير أردبغا الرشيدي، والأمير جربغا، وبقية العسكر. ونزل العمق، فحضر إليه الأمير كردي بن كندر، وأخوه الأمير عمر، وأولاد أوزر، ودخل الأمير نوروز إلى حلب في ثالث عشره، بعدما تلقاه الأمير أقبغا جركس نائب القلعة بالمفتاح، فولى الأمير طوخ نيابة حلب، والأمير يشبك السامي نيابة قلعتها، وعمر بن الهيذباني حاجب الحجاب، والأمير قمش نيابة طرابلس. ثم خرج منها في تاسع عشره، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر يريد دمشق، فقدمها في سادس عشرينه. وسار الأمير دمرداش بمن معه إلى حلب فنزل على بانقوسا في هذا اليوم، فقاتله النوروزية قتالاً شديداً إلى ليلة ثامن عشرينه، قدم عليه الخبر بأن العجل بن نعير قد أقبل لمحاربته نصرة للأمير نوروز، فلم يثبت لعجزه عنه، ورحل من ليلته إلى العمق، ثم سار إلى أعزاز، فأقام بها.
فلما كان عاشر ربيع الأول: بعث طوخ نائب حلب عسكراً إلى سرمين، وبها آق بلاط - دوادار الأمير دمرداش - فكبسوه، فثار عليهم، هو وشاهين الأيدكاري، ومن معهما من التراكمين، وقاتلوهم، وأسروا منهم كثيراً، بعثوا بهم إلى دمرداش، فسجن أعيانهم في قلعة بغراص، وجدع أنافي أكثرهم، وأطلقهم عراة، وقتل بعضهم. فعندما بلغ طوخ الخبر ركب من حلب، ومعه قمش إلى تل السلطان، وقد نزل عليه العجل بن نعير، وسألاه أن يسير معهما لحرب دمرداش، فأنعم بذلك، وتأخر قليلاً. فبلغهما أنه قد اتفق مع دمرداش على مسكهما فاستعدا له، وترقباه حتى ركب إليهما في نفر قليل، ونزل عندهما ودعاهما إلى ضيافته، وألح عليهما في ذلك. فثار به، ومعهما جماعة من أصحابهما، فقتلوه بسيوفهم، في رابع عشرين ربيع الأول ورحلا من فورهما عائدين إلى حلب، وكتبا بالخبر إلى نوروز، وطلبا منه النجدة، فإن حسين ابن نعير جمع العرب، ونزل على دمرداش، وسار به إلى حلب، وحصرها، فصعد طوخ وقمش إلى القلعة، واشتد القتال بينهم، فانهزم دمرداش.
واتفق في ربيع الأول أيضاً أن شخصاً يسمى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود ابن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، قدم إلى أرض عجلون، وادعى في أوله أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير، من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي البايس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبث قصاده بكتبه، ووقع عليها تحت البسملة السمياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرفها، وأنفذها في الآفاق، وصرفها ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين، لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى.

ثم دخل عجلون في تاسعه، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فاقطع الاقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقبل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقت واحد معاً، وحطب له على منبر عجلون، فقيل السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادي ببلاد عجلون أن مغل هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذ منهم منه، وفيما بعدها يؤخذ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم الترك قد بطل، ولم يبق إلا حكم أولاد الناس.
فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتقل الأربعة بقلعة عجلون. وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.
ثم إن الأمير نوروز سار من دمشق يريد غزة، ففر منها قرقماس ابن أخي دمرداش بمن معه، ونزل على الصالحية بطرف الرمل، وعاد نوروز من غزة إلى دمشق، فقدمها في ثامن عشر شهر ربيع الآخر هذا.
شهر جمادى الأولى، أوله الأحد: في يوم الأربعاء رابعه: أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان، وعدى النيل حتى خلق المقياس بين يديه، وفتح الخليج على عادة من تقدمه من الملوك فكان ذلك تاسع مسرى، فقال الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي - أحد ندماء السلطان - يخاطبه:
أيا ملكاً بالله أضحى مؤيداً ... ومنتصباً في ملكه نصب تمييز
كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نوروز
وفي يوم الخميس خامسه: قبض السلطان على تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر الخاص، واعتقله بقلعة الجبل، وأحاط بعامة أسبابه وحاشيته، وقبض أيضاً على الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة البشيري، وخلع علي تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، واستقر به في الوزارة، فعاد إلى زي الكتاب، كما كان قبل أن يلي الأستادارية. وتسلم ابن البشيري، ونزل به إلى داره.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الجيش، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن ابن أبي شاكر، وخلع على علم الدين داود ابن الكويز، واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن ابن نصر الله.
وفي حادي عشره: ضرب شمس الدين محمد ابن الحاج عمر بن شعبان، محتسب القاهرة بين يدي السلطان بالإسطبل أكثر من ثلاثمائة ضربة بالعصي، وكتب عليه إشهاد، وحلف أنه لا يسعى في وظيفة الحسبة.
وفي يوم الخميس المبارك ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي، وأضيف إليه حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن شعبان، ولم نعهد قبله الحسبة أضيفت إلى قاضي القضاة.
وفيه خلع الأمير جانباك الصوفي، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير سودن الأشقر، وكان جانباك قد قدم من غزة هو وألطنبغا العثماني وتغري بردى، قرقماس ابنا أخي دمرداش، فأقام الخوان على قطيا، ودخل جانباك والعثماني إلى القاهرة قبل يومه. وفيه خلع على الأمير سودن الأشقر، واستقر أمير مجلس.
وفي سادس عشره: أشيع بالقاهرة أن الأمير طوغان الدوادار استعد للركوب على السلطان، وقد اتفق معه جماعة من الأمراء والمماليك، فلما كان الليل انتظر أن يأتيه أحد من أصحابه، فلم يأته، حتى قرب الفجر، فرأى مملوكين، وأصبح الناس يوم الثلاثاء سابع عشره يتوقعون الحرب، والأسواق مغلقة، فنادى السلطان بالأمان، وأن من أحضر طوغان فله ما عليه، مع خبز في الحلقة. ولم يحرك ساكن إلى ليلة الجمعة عشرينه، ووجد طوغان قد اختفي بمدينة مصر، فأخذ وحمل إلى القلعة، وأرسل إلى الإسكندرية مع الأمير طوغان المؤيدي أمير أخور، فسجن بها.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: قبض على الأمير سودن الأشقر أمير مجلس والأمير كمشبغا العيساوي أمير شكار، وتوجه بهما الأمير برسباي، فسجنهما بالإسكندرية.
وفي ثاني عشرينه: وسط أربعة أحدهم مغلباي نائب القدس من جهة نوروز وكان الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش قد قبض عليه، وبعثه إلى السلطان واثنان من مماليك السلطان، وآخر من أصحاب طوغان الدوادار.

وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: أنعم بإقطاع طوغان الدوادار على الأمير أينال الصصلاني، وبإقطاع الأمير سودن الأشقر على الأمير تنباك البجاسي نائب الكرك، وخلع على الصصلاني، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن سودن الأشقر، وخلع على الأمير قجق، واستقر حاجب، عوضاً على الصصلاني، وخلع على الأمير شاهين الأفرم خلعة الرضى، لأنه اتهم بممالأة طوغان.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الأمير جانباك، أحد المماليك المؤيدية، والدوادار الثاني من أمراء الطبلخاناة، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن طوغان. وخلع على الأمير شرباش كباشة، واستقر أمير جاندار.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الشرقية والغربية، واستقر أستاداراً، وعزل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وخلع على الأمير بدر الدين، واستقر مشير الدولة. ولم يكن في جمادى الآخرة كثير شيء تجدد.
شهر رجب، أوله الجمعة: في سادسه: قدم من دمشق الأمير جار قطلو أتابكها، فاراً من نوروز، فخلع عليه.
وفي ثامنه: أعرس الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان بابنة الملك الناصر خوند التي كانت تحت الأمير بكتمر جلق، وعمل مهم حسن.
وفي ثاني عشره: قدم الأمير ألطنبغا القرمشي نائب صفد باستدعاء، وقد استقر عوضه في نيابة صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، وعزل عن نيابة الشام من أجل أنه لم يتمكن منها. وصار يتردد من حين خرج من القاهرة فيما بين غزة والرملة واستقر أخوه تغري بردى في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير ألطنبغا العثماني.
وفي خامس عشره: خرج الأمير نوروز من دمشق يريد صفد، فنزل من الغد على القنيطرة، قريباً من طبرية وكان قرقماس ابن أخي دمرداش قد قدم إلى صفد، فلما بلغه ذلك قصد أن يسكن قلعتها بمماليكه، وينزل فيها معه أخاه تغري بردى، فلم يتمكن من ذلك فجرد، وركب من يوم الجمعة خامس عشره، وعاد إلى الرملة. وبعث الأمير نورز أينال دواداره إلى بيسان لجمع العشير.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير بيسق الشيخي من بلاد الروم، وكان الملك الناصر أخرجه إليها. وفيه أيضاً خلع علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر أستادار الذخيرة والأملاك، كما كان بعد جمال الدين الأستادار قبل أن يلي نظر الخاص. وذلك بعدما عصر وضرب، وأخذ منه نحو خمسين ألف دينار.
وفي عشرينه: خلع على الأمير منكلي بغا العجمي، أحد دوادارية الملك الظاهر برقوق الصغار، واستقر حاجباً ومحتسب القاهرة، عوضاً عن قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي. ولم يعهد قبل ذلك تركياً تولى الحسبة.
وفي هذا الشهر: انتهت زيادة النيل إلى خمسة عشره إصبعا وعشرين ذراعاً.
وفيه فشت الأمراض في الناس من حميات، ونزلات، وسعال. فعز السكر النبات والرمان، حتى بلغا أربعة أمثال سعرهما، وكانت أمراض سليمة، لم يكن معها موتان وقدم الخبر أنه كان ببلاد الروم فناء عظيم، وأنه امتد إلى حلب وحماة، وفشت الأمراض بدمشق، كما فشت بأرض مصر.
شهر شعبان، أوله الأحد: في سابع عشره: عزل صدر الدين أحمد بن العجمي من نظر المواريث، وتحدث فيها الطواشي زين الدين مرجان الهندي خازندار السلطان.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأنزله. وذلك أن الأمير نوروز لما توجه من دمشق يريد صفد، وبعث يجمع الرجال، لم يثبت الأخوان تغري بردى وقرقماس، فسارا إلى مصر، وقدم قرقماس إلى مصر، وأقام أخوه تغري بردى على قطيا، وهذه كانت عادتهما في الأيام الناصرية، أنهما لا يجتمعان عنده قط حذراً من القبض عليهما، وإنما إذا اضطر أحدهما وحصر إليه، كان الآخر نائباً عنه.
شهر رمضان، أوله السبت: فيه قدم الأمير دمرداش المحمدي، فأجل السلطان مقدمه، وخلع عليه خلعة جليلة إلى الغاية، ونزل إلى داره، وكان من خبره أنه لما انهزم على حلب - كما تقدم ذكره - اجتمع إلى أصحابه وقد تحير في أمره، بين أن ينتمي إلى الأمير نوروز ويصير معه على رأيه - وكان نوروز قد بعث إليه بألف دينار، ودعاه إليه - وبين أن يقدم على السلطان، فأشار عليه جل أصحابه بالانتماء إلى نوروز، فلم يوافقهم، وركب البحر حتى نزل دمياط، واستأذن في القدوم، فأذن له السلطان.

وفي سادسه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في مشيخة التربة التي أنشأها الملك الناصر فرج على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق، خارج باب النصر، وعزل عنها زين الدين حاجي. وفيه كتب بنقل الأميرين سودن الأشقر، وكمشبغا العيساوي من سجن الإسكندرية إلى دمياط.
وفي سابعه: بعث السلطان الأمير سودن القاضي والأمير قجقار القردمي، والأمير أقبردي رأس نوبة، والأمير يشبك شاد الشرابخاناه إلى الشرقية، وأظهر أنهم خرجوا لكبس المفسدين من العربان. وأسر إليهم أن يقبضوا على الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش - المعروف بسيدي صغير - وكان نازلاً على الصالحية، فساروا.
وفي ليلة السبت ثامنه: استدعى السلطان الأمراء للفطر عنده، ومد لهم سماطاً يليق بهم، فأكلوا معه، وتباسطوا فلما رفع السماط، قبض على الأمير دمرداش المحمدي وعلى ابن أخيه الأمير قرقماس، وقيدهما، وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية، فاعتقلا بها.
وفي يوم الاثنين عاشره: قدم الأمراء ومعهم الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش، مقيداً فسجن بقلعة الجبل، ثم قتل في آخر شوال، وأراح الله بالقبض على هؤلاء الثلاثة فتناً كثيرة، وأراح منهم العباد والبلاد، فإنهم كانوا قد أكثروا في الأرض الفساد، من لإقامة الفتن وإثارة الشرور.
وفي هذا اليوم أيضاً: خلع على قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن صدر الدين علي بن الآدمي، بعد موته.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير قنباي المحمدي أمير أخور كبير، واستقر في نيابة الشام، ونزل من باب السلسلة في يومه، فسكن بداره، وخلع أيضاً على الأمير أينال الصصلاني أمير مجلس، واستقر في نيابة حلب، وخلع أيضاً على الأمير سودن قراصقل، واستقر في نيابة غزة. وخلع على الأمير ألطنبغا القرمشي، واستقر أمير أخور كبيراً، عوضاً عن الأمير قنباي.
شهر شوال، أوله الاثنين: في ثامنه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين المشير، واستقر في نيابة الإسكندرية، وعزل خليل الجشاوي.
وفي حادي عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، وأعيد إلى نظر المواريث. وتسلم ذلك من الطواشي مرجان.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: في يوم الخميس ثالثه: عدى السلطان النيل، ونزل على أوسيم، فألزم الأمير التاج والي القاهرة النصارى واليهود بحمل ثلاثمائة مروقة حمر، فوزعت على الأسارى المعروفين ببيع الخمر، وعلى بقية النصارى، وعلى طوائف اليهود الثلاث، وجبيت منهم بعنف وعسف وضرب، وأخذ الخمر من النصارى بالمقارع، واحتاج الجميع إلى كلف كثيرة لأعوان الوالي، ولمن حمل الجرار إلى بر الجيزة، حيث أمروا، وطلب أيضا باعة الفواكه وأصحاب البساتين أن يحملوا النرجس ونحوه من المشموم، فجبي ذلك منهم، حتى عز وجود البنفسج بعد ذلك، وأبيع بخمسة وعشرين درهماً الباقة بعد درهم. وأقام السلطان إلى يوم الاثنين حادي عشرينه، وعدى النيل، وصعد إلى قلعة الجبل، فنصب جاليش السفر من يومه، وأخذ في التأهب هو والأمراء.
وفي خامس عشرينه: جلس السلطان لعرض الأجناد المماليك. وفيه توجه الأمير أينال الصصلاني نائب حلب، والأمير سودن قرا صقل نائب غزة، إلى جهة الشام، ونزلا بالريدانية خارج القاهرة.
شهر ذي الحجة أوله الخميس، ثم استقر الأربعاء:

في سادس عشره: توجه الأمير قنباي المحمدي نائب الشام إليها، ونزل بالريدانية. وفيه استدعى السلطان داود بن المتوكل على الله من داره، فحضر بين يديه بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، فعندما رآه قام له، وقد ألبسه خلعة سوداء، وأجلسه بجانبه، بينه وبين قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين بن البلقيني، فدعا القضاة، وانصرفوا على أن داود بن المتوكل على الله استقر في الخلافة، ولم يقع خلع الخليفة المستعين بالله تعالى، ولا أقيمت بينه بما يوجب شغور الخلافة عنه، ولا بويع داود هذا، بل خلع عليه فقط، ولقب بأبي الفتح المعتضد بالله أمير المؤمنين. وكانت العادة بديار مصر أن يدعى على منابرها أيام الجمع، وفي الأعياد للخليفة، ويذكر كنيته ولقبه، من حين المستعين بالله في أيام المعتضد غير أن من الخطباء من يقول: اللهم أصلح الخليفة من غير أن يعينه، ومنهم من يقول: اللهم أيد الخلافة العباسية ببقاء مولانا السلطان ومنهم من يقتصر على الدعاء للسلطان. وفيه أنفق السلطان على المماليك مائة دينار ناصري لكل واحد، برسم السفر.
وفي عشرينه: خرج الأمير سودن من عبد الرحمن ونزل بالريدانية، وخرج الأمير سودن القاضي أيضاً. وفيه رحل الأمير قنباي نائب الشام من الريدانية. وفيه خلع على شمس الدين محمد بن التباني قاضي العسكر، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بدمشق.
وفي سابع عشرينه: نصب خام السلطان تجاه مسجد تبر، من أجل سفره إلى الشام. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بأن الوقفة كانت يوم الجمعة.
وفي ثامن عشرينه: تنكر السلطان على الوزير تاج الدين بن الهيصم، وضربه وبالغ في إهانته، ثم خلع عليه خلعة الرضا.
ذي الحجة: وفي هذا الشهر قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من بلاد الصعيد، في ثالث عشرينه، بخيل وجمال وأبقار وأغنام كثيرة جداً، وقد جمع المال من الذهب وحلي النساء مع السلاح والغلال وغير ذلك من العبيد والإماء والحرائر اللاتي، استرقهن. ثم وهب منهن وباع باقيهن. وذلك أنه عمل في بلاد الصعيد كما تعمل رءوس المناسر إذا هم هجموا ليلاً على القرية وتمكنوا بها، فإنه كان ينزل على البلد فينهب جميع ما فيها من غلال وحيوان، وسلب النساء حليهن وكسوتهن، بحيث لا يسير عنها إلى غيرها حتى يتركها أوحش من بطن حمار، فخرب بهذا الفعل بلاد الصعيد تخريباً يخشى من سوء عاقبته، فلما قدم إلى القاهرة شرع في رمي الأصناف المذكورة على الناس من أهل المدينة وسكان الريف بأغلى الأثمان، ويحتاج من ابتلي بشيء من ذلك أن يتكلف لأعوانه من الرسل ونحوهم شيئاً كثيراً، سوى ما عليه من ثمن ما رمى عليه. وفيها ملك برصا الأمير محمد بن عثمان بعد قتل أخيه موسى.
وفيها نزل الأمير محمد بن قرمان على مدينة برصا وحرقها وحصر قلعتها، حتى كاد أن يملكها، فلما بلغه قتل الأمير موسى رحل إلى بلاده.
ومات في هذه السنة

ممن له ذكر سوى من تقدم ذكره:
الأمير عمر بن السلطان الملك المؤيد شيخ، في خامس عشرين صفر، وقد تجاوز عشر سنين، فدفن بالقبة التي أنشأها الملك الناصر فرج بن برقوق تجاه قبة أبيه الظاهر برقوق التي على قبره.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن خليل الغراقي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة وكسر القاف - الشافعي، رحمه الله، الأربعاء، خامس شهر شعبان، بعدما تصدى بالجامع الأزهر من القاهرة عدة سنين للتدريس في الفقه والفرائض والحساب طول نهاره، وكان بارعاً في ذلك، وكان على طريقة مشكورة.
ومات فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن أحمد البرماوي الشافعي شيخ الإقراء بالمدرسة الظاهرية برقوق، في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان فجأة وقد خرج من الحمام. وكان إماماً بارعاً في معرفة القراءات وتوجيهها، عارفاً بالفقه والحديث والعربية، جميل الشام.
ومات قاضي القضاة صدر الدين علي بن أمين الدين محمد بن محمد بن الآدمي الدمشقي الحنفي، في يوم السبت ثامن شهر رمضان، وقد تجاوز الأربعين. وكان أديباً بارع النظم، ونظر في الفقه، ذكياً. ولي قضاء القضاة الحنفية بدمشق والقاهرة، وولي كتابة السر، ونظر الجيش بدمشق، ولم يكن مرضي الديانة.

ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن علاء الدين حجي بن موسى السعدي الحسباني الأصل، الدمشقي المولد والوفاة، في ليله الجمعة سادس المحرم، عن خمس وستين سنة، ولي خطابة جامع بني أمية، ودرس وأفتى، وقدم القاهرة في الرسالة عن الأمير شيخ قبل أن يلي السلطنة، وكان عارفاً بالفقه والحديث والعربية.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة الباعوني الشافعي، في رابع المحرم، ومولده بقرية باعونة من قرى عجلون، في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، تخميناً. ولي قضاء القضاة بدمشق، وخطابة بيت المقدس. ودرس وقال الشعر، وقدم القاهرة.
ومات قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن عثمان الدمشقي، الشافعي، المعروف بابن الأخناي، في نصف شهر رحب، عن نحو ستين سنة. ولي قضاء القاهرة بغزة ودمشق وحلب وديار مصر عدة سنين، وكان قليل العلم.
ومات الأمير مبارك شاه الظاهري في شهر رمضان، ولي كشف الوجه القبلي، ووزارة الديار المصرية، والأستادارية، والحجوبية. وكان تبعاً يخدم الملك الظاهر برقوق وهو جندي، فرقاه لما تأمر ثم لما تسلطن.
ومات قاضي المدينة النبوية زين الدين أبو بكر بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن بن أبي الفخر بن نجم العثماني المراغي، المعروف بابن حسن الشافعي، في سادس عشر ذي الحجة، وقد قارب التسعين. كان من الفقهاء الفضلاء، شرح منهاج النووي، وكتب تاريخاً للمدينة النبوية. وولي قضاءها وخطابتها وإمامتها. وهو من مصر، وسكن المدينة حتى مات.
ومات الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن بهادر بن أحمد القرشي النوفلي الغزي الشافعي، المعروف بابن زقاعة - بضم الزاي المعجمة وتشديد القاف وفتح العين المهملة - في ثاني عشرين ذي الحجة، عن اثنتين وسبعين سنة، أخبرني مراراً أن مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة، كان عارفا بعدة فنون من الأعشاب وغيرها، وله نظم كثير وتقدم في الأيام الظاهرية برقوق، واشتمل على عقيدته.
ومات شهاب الدين أحمد المعروف بابن الشنبل - بضم الشين المعجمة، ثم نون ساكنة بعدها باء موحدة مضمومة - الحمصي الشافعي، قدم القاهرة وولي منها قضاء القضاة بدمشق في آخر سنة ست وثمانمائة، ثم عزل بعلاء الدين علي بن أبي البقاء بعد أشهر، وكان عارفاً بالفقه، خفيفاً، طائشاً.
سنة سبع عشرة وثمانمائةأهلت هذه السنة، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، والسلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وأتابك العساكر الأمير الكبير يلبغا الناصري، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني الشافعي، وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد ابن كمال الدين عمر بن العديم الحلبي، وقاضي القضاة المالكية شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي المغربي، وقاضي القضاة الحنابلة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد ابن سالم بن عبد الملك المقدسي، وكاتب السر ناصر الدين محمد بن عثمان بن البارزي الحموي، والوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بن حسون الفوي، وناظر الجيش علم الدين داود بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز الكركي. والأستادار الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ونائب الإسكندرية الأمير المشير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي، ونائب عزة الأمير سودن قرا صقل. والشام كله بيد الأمير نوروز الحافظي ويقيم الخطة ويضرب السكة باسم أمير المؤمنين المستعين بالله، وهو مقيم في داره بقلعة الجبل، وقد منع من التصرف.
شهر الله المحرم، أوله يوم الجمعة: أهل وسعر الدينار الهرجة بمائتي درهم وخمسين درهماً، والدينار الأفرنتي بمائتي درهم وثلاثين درهماً، والدينار الناصري بمائتي درهم وعشرة دراهم، وهو أكثرها وجوداً، والفلوس هي النقد الرائج الذي ينسب إليه قيم المبيعات، وأجر الأعمال، وصرف الذهب، وسعر الأردب من القمح من مائة وأربعين إلى ما دونها، ويباع في الريف كل ثلاثة أرادب مصرية بناصري، وثياب القطن والكتاب في غاية من الغلو.

وفي ثالثه: هبت ريح شديدة تلاها رعد مرعب، ومطر غزير، وسقط مع ذلك بمدينة مصر خاصة برد بقدر البندقة كثير جداً، بحيث ألقى على أسطحة الدور منه قناطير، وأخرب عدة دور، فخزن الناس منه شيئاً كثيراً وبيع في الأسواق بعد ذلك كل رطل بستة دراهم، ولم يسقط منه بالقاهرة شيء البتة.
وفي يوم الاثنين رابعه: ركب السلطان من قلعة الجبل بعد طلوع الفجر، وسار إلى مخيمه بالريدانية تجاه مسجد تبر من غير تطليب في قليل من العسكر، ثم خرجت الأطلاب في أثناء النهار، وعمل نائب الغيبة الأمير ألطنبغا العثماني، وأنزله بباب السلسلة، وعمل بالقلعة الأمير بردى قصقا. وكان قد قدم إلى القاهرة مع الأمير دمرداش المحمدي من حلب في البحر، فأنعم عليه السلطان بإمرة مائة، ووكل بباب الستارة الأمير صماي الحسني، وجعل للحكم بين العامة الأمير قجق حاجب الحجاب.
وفي يوم الجمعة ثامنه: رحل الأمير يلبغا الناصري من الريدانية خارج القاهرة جاليش بمن معه من الأمراء. وفيه خلع علي زين الدين حاجي، وأعيد إلى مشيخة التربة الظاهرية برقوق خارج باب النصر، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي، وخلع علي صدر الدين، واستقر في نظر الجيش بدمشق، وأعيدت المواريث إلى ديوان الوزارة كما كانت.
وفي يوم السبت تاسعه: استقل السلطان بالمسير من طرف الريدانية يريد محاربة الأمير نوروز، ومعه الخليفة المعتضد بالله داود، وقضاة القضاة الأربع، وأرباب الدولة، ما عدا الأمير فخر الدين الأستادار، فإنه تأخر بالقاهرة إلى يوم الجمعة خامس عشره، وخرج يريد المشي في بلاد الوجه البحري ليجبي أموالها، فنزل مدينة قليوب، ثم رحل منها وقد ذعر منه أهل النواحي خوفاً بما نزل منه بأهل الوجه القبلي، فبعث رسله واستدعى أكابر البلاد، وقرر عليهم أموالاً جبيت منهم، ثم عاد بعد أيام بأحمال موفرة ذهباً، وتوجه إلى السلطان.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: نزل السلطان بغزة، ورحل منها في تاسع عشرينه.
شهر صفر أوله الأحد: في ثامنه: نزل السلطان على قبة يلبغا - خارج دمشق - وقد استعاد نوروز وحصن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أياماً، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات. وكان السلطان - من الخربة - قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في سادس عشرينه ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل، والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأجيب، ونزل من القلعة، ومعه الأمراء طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقبض عليهم جميعاً في حادي عشرين شهر ربيع الآخر وقتل من ليلته، وحملت رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة. وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قدم في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى: قدم رأس نوروز، فعلق على باب القلعة، وارتجت البلد، ونودي بتقوية الزينة. وفيه خرج السلطان من دمشق، ونزل برزة، ورحل منها في ثانيه يريد حلب، فلما قدمها أقام بها إلى آخره، ثم سار منها أول جمادى الآخرة، ومضى إلى أبلستين، وأقام بها أياماً، ودخل إلى ملطية، واستناب بها الأمير كزل المذكور، ثم عاد إلى حلب، وأقر بها الأمير أينال الصصلاني. وولى بحماة الأمير تنباك البجاسي، وبطرابلس الأمير سودن من عبد الرحمن، وبقلعة الروم جانباك الحمزاوي، بعد ما قتل نائبها طوغان، ثم قدم دمشق في ثالث شهر رجب، فقرر بنيابتها الأمير قنباي المحمدي، وسار منها.
أول شعبان: قد وصل السلطان إلى القدس، ومضى إلى غزة، فولى نيابتها الأمير طرباي في ثاني عشرينه، وسار فنزل على سرياقوس يوم الخميس رابع عشرين شعبان، فأقام هناك بقية الشهر، وعمل أوقاتاً بالخانكاه، أنعم فيها على أهلها وغيرهم بمال جزيل. وركب يوم الأربعاء سلخه، ونزل تجاه مسجد تبر، وبات هناك.
وفي هذا الشهر: خرج في سادس عشرينه الأمير أينال الصصلاني من حلب ومعه العسكر وجماعة من التركمان والعرب، يريد قتال حسين بن نعير.
شهر رمضان، أوله يوم الخميس:

فيه سار السلطان من الريدانية، وصعد قلعة الجبل، فانتفض عليه ألم رجله من ضربات المفاصل، وانقطع بداخل الدور. وفيه قدم الأمير يشبك نائب الكرك إليها، فوجدها خراباً، وقد تهدم أكثر قلعتها، ونفد ما كان بها حاصلاً من السلاح وغيره.
وفي ثامنه: أخرج الأمير جرباش كباشة منفياً إلى القدس، ورسم بإخراج الأمير أرغون الرومي - أمير أخور في الأيام الناصرية - بطالاً إلى القدس أيضاً، فسأل أن يتأخر إلى بعد العيد، فأجيب، ثم سار بعد عيد الفطر.
وفيه خلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر أتابك العساكر عوضاً عن الأمير يلبغا الناصري بعد موته.
وفي يوم السبت عاشره: ركب السلطان من القلعة إلى خارج باب النصر، وشق القاهرة، وصعد القلعة، فهدمت الزينة.
وفي ثاني عشره: قبض على الأمير قجق حاجب الحجاب، والأمير بيبغا المظفري، والأمير تمان تمر أرق، وحملوا في الحديد إلى الإسكندرية، صحبة الأمير صماي. وفيه خلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر في نظر المارستان المنصوري، وخلع على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي المالكي وأعيد إلى القضاة المالكية بديار مصر، وعزل شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي المغربي.
وفي ثالث عشره: كتب للأمير صوماي الحسني المسفر بالأمراء أن يستقر في نيابة الإسكندرية، وأن يحضر الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين إلى القاهرة.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير سودن القاضي، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير قجق، وعلى الأمير قجقار القردمي، واستقر أمير مجلس، وعلى الأمير جانبك الصوفي رأس نوبة، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير شاهين الأفرم، وقد مات. وخلع على الأمير كزل العجمي الأجرود - حاجب الحجاب في الأيام الناصرية - واستقر أمير جاندار، عوضاً عن الأمير جرباش كباشة. وفيه قبض على ثلاثة من أمراء العشرات، وهم طقز ونفاه إلى الشام، ومنطاش نفاه إلى صفد، وتنبك القاضي نفاه إلى طرابلس، وأخرج خاصكيا يعرف بسودن الأعراج إلى قوص منفياً.
وفي سابع عشره: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين من الإسكندرية.
وفي تاسع عشره: خلع على الأمير تنبك ميق، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير جانباك الصوفي، وخلع على الأمير أقباي الخازندار واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير جانباك بعد موته. وفيه أفرج عن الأمير كمشبغا العيساوي من سجنه بدمياط وقدم القاهرة، ونقل الأمير سودن الأسندمري، والأمير قصروه، وشاهين الزردكاش، وكمشبغا الفيسي أمير أخور إلى دمياط.
وفي خامس عشرينه: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين للسلطان مائة فرس وثياباً وسلاحاً، فكانت قيمة ذلك خمسة عشر ألف ديناراً.
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وأعيد إلى الأستادارية، وكان ابن أبي الفرج - لما سار من القاهرة إلى الشام كما تقدم - داخله خوف من السلطان، ففر في أوائل شهر رجب - وهو بمدينة حماة - إلى جهة بغداد، وسد تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر - وهو يلي نظر الديوان المفرد - أمور الأستادارية في هذه المدة.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، حتى بيع كل ثلاثة أرادب من القمح بدينار، وكل أربعة أرادب شعير بدينار. وفيه كثرت الدراهم الفضة بأيدي الناس، وكان قد بعد عهد أهل مصر بها. وفقدوها، وتركوا المعاملة بها من نحو ثلاثين سنة وأزيد. وكانت هذه الدراهم مما جلبه العسكر وأتباعهم من البلاد الشامية، وهي صنفان: أحدهما يقال له الدراهم النوروزية، وهي التي ضربها الأمير نوروز كما تقدم ذكره، ونقش عليها اسم أمير المؤمنين المستعين بالله العباس بن محمد، وزنة الدرهم منها نصف درهم فضة خالصة من النحاس، والصنف الآخر الدراهم البندقية، وهي التي تضرب ببلاد الفرنج، وعليها سكتهم، وهي فضة خالصة.
شهر شوال: في أوله: حمل إلى الإسكندرية الأمير سودن الأسندمري وقصروه وكمشبغا الفيسي أمير آخور وشاهين الزردكاش، فسجنوا بها، وكتب بإحضار الأمير كمشبغا العيساوي من دمياط. وفيه أمر السلطان بضرب الدراهم المؤيدية فضربت. وفيه ولي السلطان عدة ولاة في نواحي أرض مصر، وضرب جماعة، وقتل عدة من مشايخ النواحي.

وفيه جلس السلطان شيخ بالإصطبل من القلعة للحكم بين الناس، كما جلس الملك الظاهر برقوق، ثم ابنه الملك الناصر فرج، وجعل ذلك في كل يوم ثلاثاء وجمعة وسبت، ورد كثيراً من المحاكمات إلى القضاة. وفيه خسف جميع جرم القمر في ليلة الخميس رابع عشره، ومكث منخسفاً نحو أربع ساعات. وفيه كثرت الدراهم النوروزية والبندقية بأيدي الناس في ديار مصر، وحسن موقعها من كل أحد. وفيه تراخي سعر الغلة، بحيث أبيع في بلاد البحيرة كل خمسة أرادب مصرية بمثقال ذهب، وهذا شيء لم نعهد مثله.
وفيه اشتدت وطأة الأمير بدر الدين حسن الأستادار على الرسل والبرددارية المرصدين بباب الأستادار لقضاء الأشغال، والتصرف في الأمور وكانوا منذ أيام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار قد كثر عددهم، وتزايدت أموالهم، حتى تبلغ نفقة الواحد من آحادهم الألف درهم في اليوم، فمال عليهم، وصادر جماعة منهم.
وفيه اشتد السلطان في أيام جلوسه للحكم بين الناس على المباشرين من الكتاب الأقباط، وضرب جماعة منهم بالمقارع، ووضع منهم، ولهج بذمهم، فذعروا ذعراً زائداً. وفيه ألزم اليهود بمبلغ ألفي مثقال من الذهب، وألزم النصارى بثمانية عشر ألف مثقال، لتتمة عشرين ألف مثقال، وذلك في نظير تفاوت ما كانوا يقومون به فيما مضى من الجزية، وتولى استخراج ذلك منهم زين الدين قاسم البشتكي المعروف بسيدي قاسم.
وفي يوم السبت آخره: خلع على الأمير تاج الدين التاج الشويكي والي القاهرة، واستقر في حسبة القاهرة، مضافاً لما بيده من الحجوبية والولاية، وقبض على الأمير منكلي بغا العجمي، وسلم إليه ليحمل مالاً قرر عليه، فأقام عنده أياماً، ثم أفرج عنه.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في يوم الاثنين ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعدى النيل إلى بر الجيزة، ونزل على ناحية أوسيم، وتبعه الأمراء والمماليك، وخرجت الزردخاناة فأقام أياماً، ثم توجه إلى ناحية البحيرة لقبض مشايخها، فأقام على تروجة، وولي الأمير كمشبغا العيساوي كشف الوجه البحري، واستمر هناك إلى آخر السنة.
وفي هذا الشهر: وقع وباء بكورة البهنسي، واستمر بقية السنة.
وفي هذه المدة: كثر حمل شجر النارنج، حتى أبيع كل مائة وعشر حبات نارنج بدرهم بندقي، زنته نصف درهم فضة، عنه من الفلوس رطلان، فيكون باثني عشر درهماً، ولم نعهد مثل هذا، وقال لي شيخنا - الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون - ما كثر النارنج بمدينة إلا أسرع إليها الخراب.
ووقع في الخامس من ذي الحجة بمكة، أن الأمير جقمق أمير الحاج المصري، ضرب أحد عبيد مكة، وقيده لكونه يحمل السلاح في الحرم، وكان قد منع من ذلك، ثارت فتنة انتهكت فيها حرمة المسجد الحرام، ودخلت الخيل إليه، عليها المقاتلة من قواد مكة العمرة لحرب الأمير جقمق، وأدخل هو أيضاً خيله المسجد، فباتت به تروث، وأوقدت فيه مشاعله، وأمر بتسمير أبواب المسجد، فسمرت كلها إلا ثلاثة أبواب، ليمتنع من يأتيه. ثم أنه أطلق الذي ضربه، فسكنت الفتنة من الغد، بعدما قتل جماعة. ولم يحج أكثر أهل مكة من كثرة الخوف. ونهب بمأزمي عرفة جماعة وجرحوا، وقدم الخبر بأن الأمير يغمور بن بهادر الذكرى - من أمراء التركمان - مات هو وولده في يوم واحد بطاعون في أول ذي القعدة، وأن قرا يوسف انعقد بينه وبين شاه رخ بن تيمورلنك صلح، وتصاهرا.

وفيها نزل ملك البرتقال من الفرنج على مدينة سبتة في ثلاثمائة مركب، وأقام بجزيرة فيما بينها وبين جبل الفتح - يقال لها طرف القنديل - مدة، حتى مل المسلمون الذين حشروا بسبتة من الجبال، ونفدت أزوادهم، وعادوا إلى حبالهم، فطرقها عند ذلك الفرنج، وقاتلوا المسلمين، وهزموهم، وركبوا أقفيتهم، وعبروا باب الميناء فتحمل المسلمون بما قدروا عليه، ومروا على وجوههم، فتملك البرتقال سبتة في سابع شعبان منها. وكان لذلك أسباب، منها أن بني مرين - ملوك فاس - لما ملكوها ساءت سيرتهم في أخذ أموال أهلها، ثم أن موسى بن أبي عنان، لما ملك، أعطى سبتة لأبي عبد الله محمد بن الأحمر، فنقل منها العدد الحربية بأجمعها إلى غرناطة، فلما استرد بنو مرين سبتة ساءت سيرة عمالهم بها، وكثر ظلمهم، فوقع الوباء العظيم بها، حتى باد أعيانها، وكان من فساد ملك بني مرين وخراب فاس وأعمالها ما كان، فاغتنم الرند ذلك، ونزلوا على سبتة، فلم يجدوا فيها من يدفعهم، ولله عاقبة الأمور. وفيها كانت وقعة بين الأمير محمد بن عثمان وبين الأمير محمد بن قرمان، انهزم فيها ابن قرمان، ونجا بنفسه.
وفيها أحرق قبر الشيخ عدي بجبل هطار من بلاد الأكراد، وهذا الشيخ عدي هو عدي بن مسافر الهكاري - بتشديد الكاف - صحب عدة من مشايخ الصوفية، وسكن جبل الطائفة الهكارية من مشايخ الصوفية، وسكن جبل الطائفة الهكارية من الأكراد، وهو من أعمال الموصل، وبني له به زاوية، فمال إليه بتلك النواحي من بها، واعتقدوا صلاحه، وخرجوا في اعتقاده عن الحد في المبالغة، حتى مات عن تسعين سنة، في سنة سبع - وقيل خمس - وخمسين وخمسمائة، فدفن بزاويته، وعكفت طائفته المعروفة بالعدوية على قبره، وهم عدد كثير، وجعلوه قبلتهم التي يصلون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها، وصار قبره أحد المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، لكثرة أتباعه، وشهرته هو في الأقطار، وصار أتباعه يقيمون بزاويته عند قبره شعاره، ويقتفون آثاره، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحرمة، فلما تطاولت المدة، تزايد غلو أتباعه فيه حتى زعموا أن الشيخ عدي بن مسافر هذا هو الذي يرزقهم، وصرحوا بأن كل رزق لا يأتي من الشيخ عدي لا نرضاه، وأن الشيخ عدي جلس مع الله تعالى - عن قولهم - وأكل معه خبزاً وبصلاً، وتركوا الصلوات المفروضة في اليوم والليلة، وقالوا الشيخ عدي صلى عنا، واستباحوا الفروج المحرمة، وكان للشيخ عدي خادم، يقال له حسن البواب، فزعموا أن الشيخ لما حضرته الوفاة، أمر حسن هذا أن يلصق ظهره، فلما فعل ذلك قال له الشيخ: انتقل نسلي إلى صلبك، فلما مات الشيخ عدي ولم يعقب ولداً، صارت ذرية الشيخ حسن البواب تعتقد العدوية فيها أنها ذرية الشيخ عدي، وتبالغ في إكرامهم، حتى أنهم ليقدمون بناتهم إلى من قدم عليهم من ذرية الشيخ حسن، فيخلو بهن، ويقضي منهن الوطر، ويري أبوها وأمها أن ذلك قربة من القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فلما شنع ذلك من فعلهم انتدب لهم رجل من فقهاء العجم يتمذهب بمذهب الشافعي - رحمه الله - ويعرف بجلال الدين محمد بن عز الدين يوسف الحلواني، ودعا لحربهم، فاستجاب له الأمير عز الدين البختي صاحب جزيرة ابن عمر والأمير توكل الكردي - صاحب شرانس - وجمعوا عليهم كثيراً من الأكراد السندية - وأمدهم صاحب حصن كيفا بعسكر، وأتاهم الأمير شمس الدين محمد الجردقيلي، وساروا في جمع كبير جداً إلى جبل هكار، فقتلوا جماعات كثيرة من أتباع الشيخ عدي - وصاروا في هذا الوقت يعرفون بين الأكراد بالصحبتية، وأسروا منهم خلائق حتى أتوا الشرالق - وهي القرية التي فيها ضريح الشيخ عدي - فهدموا القبة المبنية عليه، ونبشوا ضريحه وأخرجوا عظامه، فأحرقوها بحضرة من أسروه من الصحبتية، وقالوا لهم: انظروا كيف أحرقنا عظام من ادعيتم فيه ما ادعيتم، ولم يقدر أن يدفعنا عنه. ثم عادوا بنهب كثير، فاجتمعت الصحبتية بعد ذلك وأعادوا بناء القبة، وأقاموا بها على عادتهم، وصاروا عدواً لكل من قيل له فقيه، يقتلونه حيث قد قدروا عليه، ولو شاء ربك ما فعلوه.
ممن مات في هذه السنةممن له ذكر الأمير نوروز الحافظي.
ومات الأمير طوخ نائب حلب.
ومات الأمير يشبك بن أزدمر.
ومات الأمير قمش.

ومات الأمير برصبغا. قتلوا جميعاً بدمشق، في شهر ربيع الآخر.
ومات الأمير شاهين الأفرم برملة لد، وهو عائد من دمشق، وكان ظالماً فاسقاً، من شرار خلق الله.
ومات الأمير يلبغا الناصري، في ليلة الجمعة ثاني عشر رمضان بمنزله، بعد عوده من الشام، وكان خير أمراء الوقت بعفته عن الأموال التي أحدثوا أخذها من الحمايات والمستأجرات ونحوها، وصيانته عن القاذورات المحرمة من شرب الخمر وشبهه. ومع ذلك فاستجد مباشروه شونة خارج القاهرة، لبيع الملح، وألزموا الباعة ألا يشتروا الملح إلا منها، وباعوه بأغلى الأثمان. وتتبعوا بائعيه، ممن ظفروا به، وقد اشتري الملح من غيرهم ضربوه وغرموه مالاً، فلهذا بلغ الملح أضعاف ثمنه.
ومات الأمير جانباك الدوادار، أحد المماليك المؤيدية بمدينة حمص، وهو متوجه مع العسكر إلى حلب من جرح أصابه في محاربة نوروز على دمشق، لزم منه الفراش إلى أن مات.
ومات بمكة قاضيها ومفتيها، جمال الدين أبو حامد محمد بن القدوة، عفيف الدين عدل الله بن ظهيرة بن أحمد القرشي الشافعي، في ليلة سابع عشر شهر رمضان، عن نحو سبع وستين سنة، ولي قضاء مكة وخطابتها وحسبتها مرات، وتصدى بها للتدريس والإفتاء نحو أربعين سنة، وصنف، فبرع في الفقه والحديث، واشتغل بالقاهرة معنا قديماً. ولم يخلف بالحجاز بعده مثله.
ومات بالمدينة النبوية قاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن بن نور الدين علي ابن يوسف بن الحسن بن محمود الزرندي الحنفي، في ربيع الأول، ومولده سنة ست وأربعين وسبعمائة، وقد أناف على السبعين. وولي قضاء الحنفية بالمدينة نحو ثلاث وثلاثين سنة، مع حسبتها، وكان غزير المروءة.
وتوفي بزبيد من بلاد اليمن قاضي القضاة بها، شيخنا مجد الدين محمد أبو الطاهر بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروزابادي الشيرازي الشافعي اللغوي، في ليلة العشرين من شوال، عن ثماني وثمانين سنة وأشهر. وهو ممتع بحواسه. وله مصنفات كثيرة، منها كتاب القاموس في اللغة، لا نظير له. وقد اشتهر في أقطار الأرض كتابه الذي صنفه للناصر وسماه تسهيل الأصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، وله نظم حسن. ولي قضاء الأقضية ببلاد اليمن نحو عشرين سنة حتى مات بعدما طاف البلاد مشارقاً ومغارباً، وأقام بالقاهرة زماناً.
ومات بالقاهرة الشريف سليمان بن هبة بن جاز بن منصور الحسيني أمير المدينة النبوية، مسجوناً، وهو في عشر الأربعين. ولي إمرة المدينة النبوية في أخريات ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ثم قبض عليه في أخريات ذي الحجة سنة خمس عشرة، وعلى أخيه محمد، وحملا إلى القاهرة، فاعتقل بها حتى مات، وولي بعده المدينة عزيز بن هيازع بن هبة.
ومات بالنحريرية الأديب الشاعر أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي البديوي، في رابع عشر ربيع الآخر. وأكثر شعره في المدائح النبوية.
سنة ثمان عشرة وثمانمائة

أهلت، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود، والسلطان بديار مصر والشام والحرمين الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وأتابك العساكر الأمير ألطنبغا العثماني، وأمير أخور الأمير ألطنبغا القرمشي والدوادار الأمير أقباي المؤيدي، ورأس نوبة النوب تنباك ميق، وأمير مجلس جانباك الصوفي، وأستادار الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي، وقاضي القضاة الشافعية شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد بن عمر ابن العديم، وقاضي القضاة المالكية جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي. وقاضي القضاة الحنابلة مجد الدين سالم بن سالم بن عبد الملك المقدسي، وكاتب السر قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن البارزي الحموي الشافعي، والوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الجيش علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، ونائب الإسكندرية الأمير صوماي الحسني، ونائب غزة الأمير طرباي، ونائب الشام الأمير قنباي المحمدي، ونائب طرابلس الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب حماة تنباك البجاسي، ونائبحلب الأمير أينال الصصلاني، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان الحسني، وأمير المدينة النبوية الشريف عزيز بن هيازع بن هبة الحسيني، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الشرف إسماعيل بن رسول، ومتملك الروم محمد كرشجي بن خوندكار أبي يزيد بن مراد خان بن أورخان بن عثمان جق، وكان قد عدى من بر قسطنطينية يريد الأمير محمد باك بن قرمان، ففر إليه أعيان دولة بن قرمان، فملك أكثر بلاده وفر منه إلى بلاد الورسق، وامتنع بها، وأهلت هذه السنة وهم على هذا.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأربعاء: إلى يوم الخميس ثانيه: قدم السلطان من البحيرة، بعدما قرر على من قابله من أهلها أربعين ألف دينار، فكانت مدة عيبته ستين يوماً.
وفي عاشره: أفرج عن الأمير بيبغا المظفري، والأمير تمان تمر اليوسفي من سجن الإسكندرية. وقدم الخبر بأن شاه رخ بن تيمورلنك عمل عيد النحر بمدينة قزوين وتسلم مدينة السلطانية، وأرسل إلى قرا يوسف يطلب منه فرسين عينهما، ويطلب منه امرأة أخيه وابنة أخيه، وكانتا عنده في الأسر، ويلزمه بدماء اخوتهم، والقيام بأموالهم التي وصلت إليه، وأن يضرب السكة ويقيم الخطبة باسمه، فاستعد قرا يوسف لمحاربته، وبعث يستدعي ابنه شاه محمد من بغداد، وبقية عسكره، خوفاً على تبريز أن يملكها منه شاه رخ.
وقدم كتاب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج من بغداد، يتضمن أنه مقيم بها في المدرسة المستنصرية، وسأل العفو عنه، فأجيب بما طيب خاطره.
وقدم كتاب أقبغا النظامي - أحد خواص الناصر فرج - من جزيرة قبرص، وقد توجه إليها لفك الأسرى، بأنه وجد بالجزيرة من أسارى المسلمين خمسمائة وخمسة وثلاثين أسيراً، فكاكهم بثلاثة عشر ألف دينار وثلاثمائة دينار، وأنه قد أوصل إلى متملك قبرص العشرة آلاف دينار المجهزة معه، فانفك بها أربعمائة أسير، كل أسير بخمسمائة درهم، عنها خمسة وعشرون ديناراً، وقد افتك متملك قبرص من مائه مائة وخمسة وثلاثين أسيراً، بثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسة وسبعين ديناراً، وقد حمل منهم إلى جهة مصر في البحر مائتي أسير، وفرق في جهات السواحل الشامية باقيهم.
وقدم الخبر بأن الأمير أينال الصصلاني نائب حلب سار منها في نصف ذي القعدة من السنة الخالية، ومعه العساكر إلى العمق لمحاربة كردي بن كندر، ففر منه، وأنه أخذ له عدة كثيرة من الأغنام، فصار كردي إلى علي بن دلغادر وسأله في الصلح، فدخل بينهما ابن دلغادر، حتى اصطلحا، وعاد إلى حلب.
وفي هذا الشهر: قتل بسجن الإسكندرية الأمير طوغان الحسني الدوادار، والأمير دمرداش المحمدي، والأمير سودن تلي المحمدي، والأمير أسنبغا الزردكاش، في يوم السبت ثامن عشره، وأقيم عزاؤهم بالقاهرة في خامس عشرينه.
وفي هذا الشهر: ابتدأ الطاعون في الناس بالقاهرة، فمات منه جماعة.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه أمر قاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد بن عبد الملك المقدسي العسقلاني الحنبلي أن يلزم داره، ومنع من الحكم بين الناس.

وفي ثامنه: ركب السلطان من القلعة، وسار إلى نحو منية مطر، التي تعرف اليوم بالمطرية وعاد فدخل القاهرة من باب النصر، ونزل بمدرسة جمال الدين الأستادار من رحبة باب العيد، ثم عبر إلى بيت الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، فأكل عنده ومضى إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر، ابن مغلي الحنبلي الحموي واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بديار مصر، عوضاً عن مجد الدين سالم، وكان قد قدم من حماة إلى القاهرة من نحو شهرين، وخلع أيضاً علي تقي الدين أبي بكر بن عثمان بن محمد الحسيني الحموي الحنفي، واستقر في قضاء العسكر.
وفي هذا الشهر: وقع الشروع في حفر الرمال التي حدثت ما بين الجامع الجديد الناصري خارج مدينة مصر وبين جامع الخطيري في بولاق، وسبب ذلك أن النيل - في وقتنا هذا - سار مجراه فيما يلي بر مصر والقاهرة على غير ما كان عليه في الدهر الأول، وهيئته الآن أنه إذا صار في الجهة القبلية من مصر - قريباً من طرا - فإنه يمر من الجهة الغربية من أجل أنه حدث فيما بين طرا وطرف الروضة تجاه المقياس جزيرة رمل في غاية الكبر، ينحسر عنها الماء في أيام نقصه، فيصير ما تجاه بركة الحبش إلى رباط الآثار النبوية وحسر الأفرم إلى المدرسة المعزية التي تجاه المقياس رملاً لا يعلوه الماء، إلا في أيام الزيادة، وصار عظم النيل من وراء جزيرة الصابوني فيمر بينها وبين الجيزة إلى أن يصل قريباً من المقياس، فيصير فرقتين: واحدة تمر فيها بين الروضة والجيزة وهي معظم النيل، وأخرى تمر فيها بين الروضة ومصر إلى أن تصل قريباً من موردة الحلفاء، تقف في أيام نقص الماء هناك.
ويصير ما بين موردة الحلفاء وجامع الخطيري ببولاق رمالاً لا يعلوها الماء إلا في أيام زيادته فقط، ولذلك خربت منشاة المهراني ومنشأة الكتبة وخط موردة البلاط، وخط زريبة قوصون، وخط فم الخور، وحكر ابن الأثير لانقطاع ماء النيل عن هذه المواضع، وجميعها في البر الشرقي، وتجاهها من غربيها حسر الخليلي والجزيرة الوسطى، ومجرى النيل من غربي الجزيرة الوسطى إلى أن يصل قريباً من جامع الخطيري، فيصير بين الماء وبين الجامع جزيرة ظهرت من حدود سنة ثمانين وسبعمائة من بحري الجزيرة، واتسعت شيئاً فشيئاً في الطول والعرض حتى لم يبق بناحية بولاق إلى أوائل جزيرة الفيل شيء من ماء النيل البتة، وإنما هي أرض، فإذا كان أوان الزيادة علاها الماء، ثم ينحسر عنها إذا هبط فخرب - كما ذكرنا - بسبب انطراد الماء عن البر الشرقي مما بين منشأة المهراني وجزيرة الفيل، أكثر ما كان هناك من المباني، فقصد السلطان حفر ما بين موردة الحلفاء وبولاق، ليعود الماء هناك صيفاً وشتاء على الأبد، وأمر في يوم السبت عاشر صفر هذا أن يشرع في حفره، وندب له الأمير كزل العجمي الأجرود - أمير جاندار - فنزل وعلق مائة وخمسين رأساً من البقر لتجرف الرمال،. وعملت أياماً، ثم ندب الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب لهذا العمل، فاستمر العمل بقية.
صفر وشهر ربيع الأول: وفي هذا الشهر: أيضاً تعامل الناس في القاهرة بالدراهم المؤيدية، وسبب ذلك أن نقود مصر الآن - كما تقدم - هي الذهب والفلوس، والذهب صار ثلاثة أصناف، وهي: الذهب الهرجة: وقد قل في أيدي الناس، وبلغ كل مثقال منه إلى مائتي درهم وخمسين درهماً من الفلوس. وهذا الصنف هو الذهب الإسلامي الخالص من الغش، وهو مستدير الشكل على أحد وجهيه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعلى الوجه الآخر اسم السلطان وتاريخ ضربه، واسم المدينة التي ضرب بها، وهي إما القاهرة أو دمشق أو الإسكندرية، وكل سبعة مثاقيل زنتها عشرة دراهم.

والصنف الثاني: ذهب يقال له الأفرنتي والأفلوري والبندقي، والدوكات وهو يجلب من بلاد الإفرنج، وعلى أحد وجهيه صورة إنسان في دائرة مكتوبة بقلمهم وفي الوجه الآخر صورتان في دائرة مكتوبة ولم يكن يعرف هذا الصنف قديماً مما يتعامل به الناس، وإنما حدث في القاهرة من حدود سنة تسعين وسبعمائة، وكثر حتى صار نقداً رائجاً، وبلغ إلى مائتي درهم وثلاثين درهماً من الفلوس، كل دينار منه. ووزن كل مائة دينار من هذا الذهب أحد وثمانون مثقالاً وربع مثقال. غير أن الناس قصوه حتى خف وزنه، واستقر ثمانية وسبعين وثلثا، وضرب كثير من الناس على شكله، وتسامح الناس في أخذه، فراج بينهم كرواج الإفرنجي، ويقع فيه اختلاف كبير، فيقال هذا تركي وهذا خارج الدار، وهذا ناقص الوزن، وهذا ليس بجيد العيار، ويجعل بازاء كل عيب حصة من المال تنقص من صرفه.
والنوع الثالث: الذهب الناصري، وهو الذي ضربه الملك الناصر فرج، كما تقدم ذكره، وزنة كل دينار منه تسعة عشر قيراطاً من أربعة وعشرين قيراطاً، وذهبه دون الحايف، وبلغ كل دينار منه إلى مائتي درهم وعشرة دراهم. وفيه الخارج الدار أيضاً. وأما الفلوس فإنها كانت معدودة غير موزونة. ويعد في الدرهم الكاملي منها أربعة وعشرون فلساً زنة كل فلس مثقال، ثم تناقص وزنها وكثر ضربها، حتى صارت في آخر الأيام الظاهرية برقوق هي النقد الرائج، كما تقدم ذكره.
ثم نقص أهل الدولة وزنها، وكثر تعنيت الناس فيها، فرسم الأمير يلبغا السالمي الأستادار في سنة سبع وثمانمائة أن يتعامل الناس بها وزناً، وجعل كل رطل منها بستة دراهم، كما تقدم ذكره فاستمر الحال على ذلك، وتزايد سعر الذهب لكثرة الفلوس، وشناعة حملها في الأسفار، وقلة الدراهم الكاملية، حتى بلغ ما بلغ، وصارت الفلوس هي التي ينسب إليها ثمن جميع المبيعات، جليلها وحقيرها، وقيم الأعمال بأسرها، ويعطي الذهب والفضة عوضاً عنها.
فلما قدم السلطان من دمشق، وكثرت الدراهم النوروزية والبندقية بأيدي الناس في القاهرة - كما تقدم ذكره - تقدم السلطان بضرب دراهم مؤيدية.
فأهل صفر هذا: والإشاعة قوية بأن السلطان سبك دنانير كثيرة من الناصرية، وعمل دنانير مؤيدية، فتوقف الناس في أخذ الدينار الناصري، إلى يوم الجمعة ثالث عشرينه، استدعى السلطان قضاة القضاة، وكبار الصيارفة، إلى بين يديه بالإسطبل من القلعة، وتحدث في إبطال الدنانير الناصرية، فذكر له قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني أن في هذا إتلاف كثير من الأموال، فلم يعجب السلطان ذلك، ورد النظر في النقود إليه.
فلما كان الغد يوم السبت رابع عشرينه: حضر الصيارفة، وكثير من التجار إلى مجلس قاضي القضاة من المدرسة الصالحية بين القصرين، فآل الأمر إلى أن تقرر سعر المثقال الذهب المختوم الهرجة المؤيدي ونحوه من الذهب المصري الهرجة بمائتين وخمسين درهماً فلوساً، وسعر الدينار الأفرنتي الجيد بمائتين وثلاثين درهماً فلوساً، وسعر الدينار الناصري الجيد من نسبة المثقال، وأن يتعامل بالناصرية وزناً، وما كان منها ناقص الوزن أو رديء الذهب يقطع، ويؤخذ فيه بحسب قيمته، وأن يكون الدرهم المؤيدي - وزنته نصف وربع وثمن درهم فضة خالصة - بثمانية عشر درهماً من الفلوس، وعملت أنصاف وأرباع، واستكثروا من ضرب الأنصاف، فتكون بتسعة دراهم النصف، وتقرر أن يكون الفضة - المصوغة والحجر - لا تباع كلها إلا للسلطان، ليضربها دراهم مؤيدية، وسعر كل درهم منها بخمسة عشر درهماً فلوساً، وتقررت الدراهم البندقية والنوروزية بالوزن لا بالعدد، فما كان منها جيداً حسب فيه خمسة عشر درهماً كل درهم وما كان منها رديا قطع وبيع بسعره.

فم لما كان يوم الاثنين سادس عشرينه: حملت الدراهم المؤيدية والذهب المؤيدي، من دار الضرب بالقاهرة إلى القلعة، وزفت بالمغاني، ثم نودي أن تكون المعاملة على ما تقرر، كما تقدم ذكره، فشملت الخسارة خلقاً كثيراً، واعتبر الباعة الدنانير الناصرية، وقصوا منها كثيراً من الجيد فيها، وحملوه إلى دار الضرب فسبك، ودفع لصاحبه فيه، مائة وثمانين درهماً، وقصوا أيضاً كثيراً من الناصرية الناقصة والردية، وحملوها إلى دار الضرب، وحسبوا فيها من نسبة مائة وثمانين في الجيد، وأخذت الدراهم النوروزية والبندقية أيضاً وحملت إلى دار الضرب، وأعطى في وزن كل درهم منها خمسة عشر درهماً، وحجر على صنف الفضة، وابتيع كله للسلطان.
فلما كان بعدد ثلاثة أيام - في سلخ الشهر - : نودي ألا يقص من الناصرية ما كان جيداً وازناً، وأن يستمر بمائة وثمانين كل دينار منه، فكف الناس عن قصه، وتعاملوا به ما رسم لهم.
وفي هذا الشهر: قبض بحلب على الأمير شاهين الأيدكاري، وسجن بالقلعة.
وفيه مات الأمير سنقر الرومي بسجن الإسكندرية، في سابع عشره.
فيه استقر الأمير طوغان أمير أخور في نيابة صفد، واستقر حسن بن بشارة في تقدمة العشير على ثلاثين ألف دينار، يقوم بها للسلطان وجهز إلى كل منهما تشريفة من قلعة الجبل، على يد يشبك الخاصكي، فلبسه وقبل الأرض على العادة، ووكل يشبك بابن بشارة حتى حمل ثلاثة عشر ألف دينار، وأحيل عليه الأمير أرغون شاه الأستادار بالشام، بعشرة آلاف دينار، فغضب محمد بن بشارة، وجمع على حسن واقتتلا، فانكسر محمد وفر إلى البقاع، ونزل بالزبداني، خارج دمشق، ومر على وجهه يريد العراق.
وفيه قدم كتاب نائب حلب بأن الشهابي أحمد بن رمضان أخذ مدينة طرسوس عنوة في ثالث عشر المحرم، بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وأنه سلمها إلى ابنه إبراهيم، بعدما نهبها وسبى أهلها، وقد كانت طرسوس من نحو اثنتي عشرة سنة يخطب بها تارة لتمرلنك وتارة لمحمد باك بن قرمان، فيقال السلطان الأعظم سلطان السلاطين، فأعاد ابن رمضان الخطبة فيها باسم السلطان الملك المؤيد. وقدم الخبر بأن حسين بن نعير نزل على الرقة بعدما رعى زروع بلاد الرحبة. وأنه قد تحالف مع فسليس مقدم الكلبيين، وتزوج ابنته.
وفيه بعث حسين بن نعير إلى الأمير عثمان بن طر على قرا يلك يسأله أن يشفع إلى السلطان فيه، فكتب قرا يلوك يسأل تأمينه، وبعث حسين مع ذلك قوده وكتابه يسأل العفو عنه، فأجيب بما يطيب خاطره.
وقدم الخبر بأن محمد باك كرشجي بن عثمان حارب الأمير محمد بن قرمان صاحب قونية وكسره، وأخذ له بلاداً كثيرة، بحيث لم يبق بيده سوى قونية.
وفيه كثر الموتان في الناس بالقاهرة ومصر، وزادت عدة من يرد اسمه الديوان على ثمانين في كل يوم. وفيه حدث رعد وبرق، قل ما عهد مثله بمصر، وعقبه مطر كثير جداً سالت منه الأودية، وتغير ماء النيل لكثرة ما انحدر إليه من السيل، وكان ذلك في تاسع بشنس.
وفي سابع عشرينه: أنكر السلطان على القضاة الأربع كثرة نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر، وكانوا قد تجاوزوا مائتي قاض، فعزلوا نوابهم، ثم أذن قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن العديم في الحكم لستة من نوابه.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة.
فيه أذن قاضي القضاة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني لأربعة عشر من نوابه في الحكم، وشرط عليهم شروطاً منها أن من أخذ مالاً رشوة فهو معزول.
وفي ثالثه: نودي بأن الدراهم البندقية يصرف ما كان وزنه نصف وثمن، باثني عشر درهماً، وما كان أقل من ذلك فإنه من حساب خمسة عشر كل وزن درهم.
وفي رابعه: رسم بنقلة السكان من قيسارية سنقر الأشقر المقابلة لقيسارية فاضل فإن السلطان عزم على هدمها لتبنى جامعاً.
وفي خامسه: نزل الأمير التاج والي القاهرة، وجماعة من أرباب الدولة، وابتدأ بالهدم في القيسارية المذكورة وما بجوارها، فكثر بكاء النساء والأطفال من السكان، ونقلوا أمتعتهم.
وفي ثاني عشره: عمل مهم عرس الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير ألطنبغا القرمشي، على ابنة الملك الناصر فرج بن برقوق، واعتنى به عناية كبيرة، إلى أن بني عليها ليلة الجمعة رابع عشره، فتظاهر فيه المماليك والعامة بما كان يجب فيه الاحتشام، وكان شيئاً نكرا.

وفي سادس عشره: نودي في القاهرة بمنع المعاملة بالدنانير الناصرية، وأن تقص كلها، ويدفع فيها من حساب مائة وثمانين، فقصها الصيارفة.
وفي حادي عشرينه: قدم إلى القاهرة الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود الرازي الهروي، مدرس الصلاحية بالقدس، بعدما خرج الأمير ألطنبغا العثماني، فتلقاه وصعد إلى السلطان بقلعة الجبل، فأقبل عليه السلطان وأكرمه، وأجلسه عن يمينه، وحضر مجتمعا كان عند السلطان، هو وقاضي القضاة جلال الدين البلقيني. ثم انصرف إلى دار قد أعدت له، ورتب له في كل يوم مبلغ مائتي درهم فلوساً، ومن اللحم قدر ثلاثين رطلاً، وأنعم عليه بفرس قد أسرج برج ذهب، وبكثير من الثياب الفاخرة، وأهدى إليه كثير من أهل الدولة الهدايا الجليلة.
وفي هذا الشهر: ارتفع الوباء من القاهرة. وفيه قبض بحلب على الأمير آق بلاط نائب عينتاب، وسجن، وقبض على الأمير شاهين الزردكاش، وسجن بقلعة حلب في ثامنه. وفيه استقر محيي الدين أحمد بن حسين بن إبراهيم المدني الدمشق في كتابة السر بدمشق.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في يوم الاثنين ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه ومماليكه ووجوه دولته، وسار إلى حيث العمل في حفر البحر تجاه منشأة المهراني، ونزل في خيم قد نصبت له هناك، ونودي بخروج الناس للعمل في الحفير، وكتبت حوانيت الأسواق كلها، فخرج الناس طوائف، ومع كل طائفة الطبول والزمور، وهم في لهو ولعب، وغلقت الأسواق. وأقبلوا إلى العمل ونقلوا التراب والرمل من غير أن يكلف أحد منهم فوقي طاقته. وعمل جميع العسكر أيضاً من الأمراء والمماليك، وجميع أرباب الدولة وأتباعهم، ثم ركب السلطان بعد العصر وقد مدت أسمطة جليلة، فكان يوماً بالهزل واللهو أشبه منه بالجد ووقف السلطان حتى فرض على كل من الأمراء حفر قطعة عينها له، وعاد إلى القلعة، واستمر العمل والنداء في كل يوم بالقاهرة، أن يخرج أهل الأسواق وغيرهم للعمل في الحفر.
وفي تاسعه: ركب الأمير ألطنبغا القرمشي أمير أخور ومعه جميع مماليكه وأتباعه وعامة غلمان الإصطبل السلطاني، والركابة من عرب آل يسار، والأوحاقية، والبياطرة، وصوفية المدرسة الظاهرية برقوق بخط بين القصرين وأرباب وظائفها، من أجل أنهم تحت نظره، فمضوا بأجمعهم إلى باب السلسلة، وتوجهوا معه للعمل، وخرج معهم الفيل والزرافة، بعدة طبول وزمور، فحفروا فيه ونقلوا، وقد اجتمع هناك معظم الناس من الرجال والنساء للفرحة، فكثرت سخريتهم، وتضاحك بعضهم على بعض، فأعفى القرمشي فقهاء الظاهرية من العمل، وردهم، وتولى القيام بحفر ما وظف عليه، ومعه عالم كبير، طول نهاره.
وفي عاشره: جمع الأمير الكبير ألطنبغا العثماني أتابك العساكر جميع من يلوذ به، وألزم كل من هو ساكن في شيء من البيوت والحوانيت الجارية في وقف المارستان المنصوري أن يخرج معه من أجل أنه يلي نظر المارستان، وأخرج أيضاً جميع أرباب وظائفه من الأطباء والجرائحية، والكحالين والفراشين والقراء والمباشرين والمؤذنين، وأخرج سكان جزيرة الفيل لأنها من وقف المارستان. وتتابع الأمراء في العمل، وخرج علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، والأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، في حادي عشره، ومع كل منهم طائفة من أهل القاهرة، وجمع غلمانه وأتباعه ومن يلوذ به وينسب إليه، وأخرج والي القاهرة جميع اليهود والنصارى، وكثر النداء في كل يوم بالقاهرة على أصناف الناس بخروجهم للعمل، وخرج كل أمير، وأخذ معه جيرانه ومن يقرب سكنه من داره، فلم يبق عنبري ولا فراء ولا تاجر ولا بزاز ولا قزاز ولا طباخ ولا جبان ولا سقاء ولا مناد، إلا وخرج للعمل، وأخرج كاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن البازري معه جميع البريدية والموقعين، بأتباعهم، فعملوا.
وفي رابع عشره: خلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة، وغلقت القياسر، وخرج الناس للعمل وجدوا في الحفر نهارهم مع ليلهم، بحيث لم يعف أحد من العمل، وكثرت حركات الناس وخروجهم إلى العمل طوائف طوائف، وتكرر النداء في الناس بالخروج للحفير، وتهديد من تأخر عنه.

وفي خامس عشره: نودي أن لا يفتح في غد حانوت، ومن فتح دكاناً شنق، وأن يخرجوا كلهم بالسلاح، فأصبحت الأسواق كلها مغلقة، واستمر العمل طول هذا الشهر في الحفير، فتوقفت أحوال الناس بغلق الأسواق.
وفي هذا الشهر: اشتد الطلب على اليهود والنصارى، وأهينوا في استخراج العشرين ألف دينار إهانة بالغة، ونالهم للأعوان كلف كبيرة.
وفيه ألزم السلطان الأمير بدر الدين حسن الأستادار بحمل عشرين ألف دينار من مباشري الديوان المفرد، وألزم الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرازق بن الهيصم بحمل عشرين ألف دينار من مباشري الدولة، وألزم الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص بحمل عشرة آلاف دينار من مباشري الخاص، فوقع الشروع في توزيع ذلك وجبايته من يوم الخميس سابع عشره. وفيه كثر عبث العربان بالوجه القبلي والوجه البحري، واشتد بأسهم، وعجز أرباب الدولة عنهم.وفيه ثارت الأحامدة من عرب الصعيد بوالي قوص وقتلوا كثيراً ممن معه. وفيه قتل الأمير يشبك من عبد العزيز بدمشق، وصلب على باب القلعة في تاسعه.
وفيه أفرج عن أقبردي الحاجب بدمشق، وقدم منها إلى القاهرة. وفيه سار الأمير بيبغا المظفري من القاهرة إلى دمشق، فقدمها في ثامن عشره، واستقر بها أميراً كبيراً.
وفيه سار الأمير أينال الصصلاني نائب حلب في خامسه، ومعه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، ومضى على جرائد الخليل في طلب كردي بن كندر، فأخذ أعقابه، وقد فر من العمق وتعلق بالجبال، فاستولى على كثير من أغنامه وأبقاره، ثم نزل على قلعة دربساك وحاصرها ثلاثة أيام حتى أخذها في سادس عشره بأمان، ففر عن كردي أكثر جمائعه، وعزموا على قبضه، فتسحب إلى مرعش، وانضم أصحابه على فارس بن دمرخان بن كندر.
وفيه استقر الأمير جرباش حاجباً بحلب، عوضاً عن شاهين الأيدكاري. وفيه خرج شاه محمد بن قرا يوسف من بغداد لمحاصرة ششتر.
وفيه ركب الأمير كزل - نائب ملطية - في رابع عشرينه، وقاتل سولو بن كبك وأخاه حسيناً على كركر، وقد أحرقا بلد جوباص من أعمال ملطية فقتل من جماعتها كثيراً، وهزم بقيتهم، وعاد إلى ملطية، فجمعا عليه الأكراد والتركمان ونائب كركر، وزحفوا عليه، فاقتتلوا قتالاً كثيراً. وفيه نقل الأمير طوغان أمير أخور نائب صفد منها إلى دمشق، واستقر بها حاجب الحجاب عوضاً عن خليل الجشاري، واستقر خليل في نيابة صفد، وكان المتوجه لنقلهما الأمير أينال الأزعري الأعور، أحد رءوس النوب.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: أهل والناس يعملون في الحفير، والأخبار متواترة بكثرة فساد أهل الوجه القبلي والوجه البحري.
وفي خامسه: سار الأمير بدر الدين حسن الأستادار في عدة من الأمراء معه إلى الوجه البحري.
وفي سابعه: ركب الأمير صارم الدين إبراهيم ولد السلطان، وجمع له من الناس خلائق ما بين مسلمين وأهل الذمة، ومضى بهم إلى العمل في الحفير، يعملوا يومين، وتمادى العمل عدة أيام من هذا الشهر، حتى أدركته زيادة ماء النيل، فلم يظهر لما كان من العمل أثر.
وفي سابعه: خلع على الأمير ألطنبغا العثماني أتابك العساكر، واستقر في نيابة الشام. وعزل الأمير قنباي المحمدي وخلع على الأمير أقبردي المنقار، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن صوماي الحسني. وفيه نودي بالمنع من المعاملة بالدنانير الناصرية، وهدد من تعامل بها أو وجدت عنده وكان الناس قد تظاهروا بها، وصرفوها بمائة وثمانين درهماً الدينار، فلم ينتهوا عن ذلك، فنودي في خامس عشرينه بتهديد من اشترى بها شيئاً بأن تسبك في يده.
وفي هذا الشهر: تحسن سعر الغلة، وسببه أن في يوم الأربعاء عاشره وثالث عشرين أبيب، بلغ ماء النيل إلى أربعة عشر إصبعاً من أحد عشر ذراعاً، ونقص أربعة أصابع، ثم لم يناد عليه في يومي الخميس والجمعة، فاشتد قلق الناس، وأمسك خزان القمح أيديهم عن بيعه، ليبلغوا فيه أملهم من الغلو، فلطف الله بعباده، ونودي عليه في يوم السبت، واستمر النداء.
وفي يوم الأربعاء: المذكور انتقض على السلطان الألم الذي يعتاده برجله، ولزم الفراش إلى يوم الخميس خامس عشرينه.
وفي يوم الأحد سابع عشرينه: - وهو حادي عشر مسرى - أوفي ماء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان حتى خلق المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:

أهل والناس من كثرة فساد العربان بنواحي أرض مصر، في جهد.
وفي رابعه: حفر أساس الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة.
وفي سادسه: برز الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، ونزل بالريدانية خارج القاهرة.
وفي ليلة الحادي عشر منه: طرق الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب الجامع الأزهر بعد الفراغ من صلاة عشاء الآخرة، ومعه كثير من مماليكه وأعوانه، فنهبوا شيئاً كثيراً من ثياب وفرشهم، ومنع الناس من المبيت به، وكان قد وشي إليه بأن كثيراً ممن ينام به تصدر منه منكرات قبيحة، فكان في إزالته ما ظنه منكراً أضعاف ما ظنه من المنكر.
وفي هذا الشهر المبارك: ارتفع سعر الغلال، فبلغ الأردب القمح إلى مائة وستين درهماً، والأردب الشعير إلى مائة وثلاثين درهماً، مع توالي زيادة ماء النيل وكثرة الغلال.
وفيه قدم الخبر بخروج الأمير قنباي المحمدي عن الطاعة، وأنه ثارت الفتنة بدمشق، ثم قدم الخبر بخروج الأمير طرباي نائب غزة أيضاً عن الطاعة، وأنه سار إلى الأمير قنباي فاستعد السلطان، وناب الأمير يشبك شاد الشرابخاناه، ومعه مائة مملوك، وبعثه نجدة إلى الأمير ألطنبغا العثماني، وذلك أنه لما حضر الأمير جلبان أمير أخور إلى دمشق بطلب الأمير قانباي المحمدي إلى القاهرة أظهر امتثال ذلك، وأخذ ينقل حريمه إلى بيت غرس الدين، وطلع بنفسه في ثاني جمادى الآخرة إلى البيت المذكور بطرف القبيبات على أنه متوجه إلى مصر. فلما كان في سادسه، وبيبغا المظفري، وابن منجك، وجلبان، وأرغون شاه، ويشبك الأيتمشي، في جماعة يسيرون بسوق الخيل، بلغهم أن يلبغا كماج كاشف القبلية، حضر في عسكر إلى قريب داريا، وأن خلفه من جماعته طائفة، وأن قنباي طلع إليه، وتحالفا، ثم عاد إلى بيت غرس الدين، وقد تأهب للحركة، فاستعد المذكورون، ولبسوا آلة الحرب، وزحفوا إليه، وقاتلوه من بكرة النهار إلى العصر، فهزمهم ومروا على وجوههم إلى صفد، ودخل قانباي إلى دمشق، ونزل دار العدل من باب الجابية، ورمى على أهل القلعة بالمدفع، وأحرق جملون دار السعادة، فرماه من بالقلعة بالمجانيق. فانتقل إلى خان السلطان، وبات في خيمة وهو يحاصر القلعة. ونزل على باب الفرنج تنبك البجاسي نائب حماة، وعلى الباب الذي من جهة باب البريد الأمير طرباي نائب غزة، وعلى باب الحديد الأمير تنبك دوادار قانباي، إلى أن بلغهم وصول العساكر، ساروا من دمشق. وكان الأمير ألطنبغا العثماني قد توجه على بلاد المرج إلى جرود، فجد العسكر السير وراء قانباي، إلى أن نزلوا برزة، وتقدم منهم طائفة، فأخذوا من ساقته أغناماً وغيرها، وجرح أحمد بن تنم في يده بنشاب، وجرح معه جماعة فلما بلغ الخبر الأمير أينال الصصلاني نائب حلب رحل في ثالث عشره من حلب، فنزل قانباي سلمية في سلخه، ثم رحل من حماة ليلة ثاني عشر شهر شعبان يريد حلب، فاجتمع بأينال نائب حلب في نهار الأربعاء حادي عشره، واتفقوا جميعاً على التوجه إلى جهة العمق، وسيروا أثقالهم في ليلة الخميس وأصبحوا وقد أجهر نائب قلعة حلب النداء بالنفير العام، فأتاه جل أهل حلب، ونزل بمن عنده من العسكر، فلم يثبتوا، وفر قانباي وأينال الصصلاني على خان طومان، وتخطف العامة بعض أثقالهم. وكان السلطان قد بلغه - وهو برأس وادي عارا يريد دمشق - فرار قانباي، فعدى السير حتى دخل دمشق.

وفيه صار الجامع الأزهر تحت نظر الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب فاستناب عنه في النظر رجلاً ممن قدم إلى القاهرة مع الملك المؤيد شيخ من دمشق، واشتهر بمجالسته وعرف بكثرة الترداد إليه، يقال له شمس الدين طغد الخواجا الشمس الماجوزي - يعاني المتجر - فجرت في مباشرة هذا المذكور حوادث بالجامع الأزهر لم يعهد لها نظير في شناعتها، منها أنه لم يزل هذا الجامع منذ بني يجاور به طوائف من الناس، ما بين عجم ومغاربة وزيالع، ومن يرد من أرض الريف إلى القاهرة من طلبة العلم، ولكل طائفة رواق يختص بهم، فلا يبرح عامراً بتلاوة القرآن ودراسته وتعليمه والاشتغال بأنواع العلوم من الفقه والنحو وسماع الحديث، وعقد مجالس الوعظ، فيجد الإنسان إذا دخل إليه من الأنس بالله، والارتياح، وترويح النفس، ما لا يجده قبل أن يصير فيه، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر، من الذهب والفضة والفلوس، مساعدة للمقيمين به على التفرغ للعبادة، وفي كل قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لاسيما في المواسم، وبلغ عدد مجاوريه إلى سبعمائة وخمسين رجلاً فأمر الماجوزي - في جمادى الأولى من هذه السنة - بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة به، وأخرج ما كان لهم فيه من صناديق ونحوها، ظناً منه أن هذا الفعل مما يثاب عليه من الله، وما كان إلا من أعظم الذنوب وأشدها نكراً، وأكثرها ضرراً، لما نزل بأهل الجامع من البلاد الكبير، وتشتت كل الفقراء، وعز عليهم وجود ما كان يأويهم، فساروا في القرى، وتبدلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع ما كان يوجد فيه من كثرة تلاوة القرآن، ودراسة العلم، وذكر الله تعالى، ثم لم يقنع بما صنع، حتى زاد في التعدي، وأغرى الأمير سودن القاضي بأن أناساً يبيتون بالجامع ويفعلون ما لا ينبغي ذكره، وكانت العادة أيضاً قد جرت بمبيت كثير من الناس في هذا الجامع، ما بين تاجر وفقيه وجندي وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومن الناس من لا يجد مكاناً يأويه، وفيه من يستروح بالمبيت فيه، خصوصاً في زمن الصيف، وأيام المواسم، فإنه يمتلئ صحنه، وأكثر رواقاته.
فلما كان في ليلة الأحد حادي عشر جمادى الآخرة: طرق الأمير سودن الجامع بعد عشاء الآخرة، والوقت صيف، وقبض جماعة وضربهم، وكان قد حضر معه من الأعوان والغلمان، ومن يقصد النهب أمة كبيرة، فحل بمن كان بالجامع أنواع من البلاء، ووقع النهب فيهم، فأخذت عمائمهم وفرشهم، وفتشوا فأخذ من عدة من الناس مال كان على أوساطهم ما بين ذهب وفضة، وفيهم من سلب ثيابه، فكان أمراً من الشناعة لم يسمع بأقبح منه، سيما والناس يومئذ يتظاهرون بأنواع المحرمات القبيحة، تظاهر من يتبجح بما يعمل، ويفتخر بما يبدي، ورأى الماحوزي أنه قد أزال المنكر من الجامع، ولم يبق من المعروف إلا عمل ثوب أسود غشي به المنبر، وجدد له علمين، بلغت النفقة على ذلك نحو خمسة عشر ألف درهم، فسبحان من يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا إله إلا هو.
وفي هذا الشهر: قدم الأمراء من سفرهم بالبحيرة، وذلك أن أهل البحيرة فروا منهم إلى جهة الفيوم، فسار الأمير تنبك ميق، وسودن القاضي حاجب الحجاب، إلى حربهم بالفيوم، فلم يظفرا بهم.
وفي ثاني عشرينه: استقر الأمير مشترك في نيابة غزة، عوضاً عن طرباي.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير ألطنبغا القرمشي أمير أخور، واستقر أميراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألطنبغا العثماني. وفيه قدم رسول دوج البنادقة من الفرنج بكتابه وهدية فيها هناب بلور محلى بفضة مجراة بالمينا، وأربعة طشوت بأربعة أباريق، وخمسة أطباق وهناب، وشربتان، كل ذلك فضة مجراة بالمينا وملعقة فضة بساعد مرجان، وجوخ، وحرير مخمل، وحلوى سكرية، وزجاج، فعرب كتابه، وقبلت هديته.
وفي سلخه: خلع على الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي واستقر في نظر المارستان المنصوري على العادة، وخلع على الأمير تنبك ميق رأس نوبة، واستمر أمير أخور، عوضاً عن القرمشي.
شهر رجب أوله الجمعة:

في ثالثه: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار من البحيرة بغير طائل، وقد بلغ إلى قبيصة قريباً من العقبة الصغرى وقد التقى أهل البحيرة مع عرب لبيد أهل برقة، واقتتلوا، فانكسر أهل البحيرة، وأخذ منهم لبيد نحو ثلاثة آلاف بعير، وعشرات آلاف من الأغنام ومضى أهل البحيرة نحو الفيوم، فاستولى العسكر على أغنام كثيرة جداً، وهلك لهم أكثر مما أخذ منهم، فكان عدة ما ذهب لأهل البحرة في هذه الحركة من الأغنام زيادة على مائة ألف رأس، يخاف بسببها أن تعز الأغنام بأرض مصر.
وفي رابعه: خلع على الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب، واستقر رأس نوبة عوضاً عن تنبك ميق، وخلع الأمير سودن القاضي قرا صقل، واستقر حاجب الحجاب.
وفي حادي عشره: سار الأمير أقباي الدوادار على مائتي مملوك، نجدة لنائب الشام. وفيه دار محمل الحاج على العادة.
وفي ثالث عشره: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منحك من دمشق، فاراً من الأمير قنباي، فارتجت القاهرة لسفر السلطان، وكثر الاهتمام بذلك.
وفي رابع عشره: قبض على الأمير جانبك الصوفي أمير سلاح وسجن في برج بقلعة الجبل.
وفيه رسم للأمراء بالتأهب للسفر إلى الشام، وأخذ السلطان في عرض المماليك، وتعيين من يختاره للسفر.
وفي ثامن عشره: أنفق السلطان نفقات السفر، فأعطى كل مملوك ثلاثين ديناراً أفرنتية، وتسعين نصفاً مؤيدية، وفرق الجمال.
وفي تاسع عشره: قبض على الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وضرب بالمقارع، وأحيط بحاشيته وأتباعه، وألزم بمال كبير.
وفي حادي عشرينه: خلع علي علم الدين - المعروف بأبو كم - واستقر في نظر الدولة، ليسد مهمات الدولة مدة غيبة السلطان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: ركب السلطان بعد صلاة الجمعة من قلعة الجبل، ونزل بمخيمه خارج القاهرة. وخلع على الأمير ططر وعمله نائب الغيبة بديار مصر، وأنزله بباب السلسلة. وخلع على الأمير سودن قراصقل حاجب الحجاب، وجعله مقيماً للحكم بين الناس، وخلع على الأمير قطلوبغا التنمي، وأنزله بقلعة الجبل.
وبات السلطان تلك الليلة، واستقل من الغد بالمسير إلى الشام، ومعه الخليفة، وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي - وحده من دون القضاة حسب سؤاله لما له من التعلقات ببلاد الشام - فدخل السلطان إلى غزة في تاسع عشرينه، وسار منها في نهاره، وكان قد خرج الأمير قنباي من دمشق في سابع عشرينه، ومعه طرباي نائب غزة، وسودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، يريد حلب.
وفي تاسع عشرينه: نزل حسين بن نعير على سلمية، لأخذ الأمير حديثة بن سيف، فركب إليه وقاتله، فظفر به حديثة وقطع رأسه، وحملها إلى السلطان.
شهر شعبان، أوله الأحد: في ثانيه: دخل الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام إلى دمشق، وقرئ تقليده فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الجمعة سادسه: قدم السلطان دمشق، وسار منها بعد يومين في أثر قنباي ورفيقه.
وقدم الأمير أقباي الدوادار على عسكر، فانتهى إلى قريب من تل السلطان، ونزل السلطان على سرمين، فخرج أينال الصصلاني نائب حلب، وقنباي، بمن معهما، ولقوا أقباي وقاتلوه، فكسوره، وقبضوا عليه، وعلى جماعة كبيرة، فأتى الصارخ بذلك للسلطان، فركب من سرمين وأدركهم، فلم يثبتوا، وفروا فقبض على أينال نائب حلب، وشرباش كباشة حاجب حلب، وتمان أرق، وجماعة، في يوم الخميس رابع عشره، ومضى إلى حلب فأخذ قنباي أسيراً، وأحضر إليه في ثالث يوم الوقعة، فقتل معه جماعة وسيرت أربعة رءوس من رءوسهم إلى القاهرة، فقدم بها الأمير شاد الشربخاناه في يوم الأحد خامس عشر رمضان، وهي رأس الأمير قنباي المحمدي نائب الشام، ورأس الأمير أينال الصصلاني نائب حلب، ورأس شرباش كباشة - وكان قد نقل من القدس واستقر في حجوبية الحجاب بحلب - ورأس الأمير تمان تمر أرق، الأمير الكبير بحلب، فرفعت على رماح، ونودي عليها بالقاهرة هذا جزاء من خامر على السلطان، وأطاع الشيطان، وعصى الرحمن، ثم علقت على باب زويلة أياماً وحملت إلى الإسكندرية، فطيف بها هناك، ثم أعيدت إلى القاهرة وسلمت إلى أهاليها.

وخلع السلطان بحلب على الأمير أقباي الدوادار، واستقر به. في نيابة حلب، وعلى الأمير جرقطلو، واستقر به في نيابة حماة، عوضاً عن الأمير تنبك البجاسي، وخلع على الأمير يشبك شاد الشربخاناه، واستقر به في نيابة طرابلس، فقدم أبو يزيد بن قرا يلوك على السلطان بحلب، يهنئه بالنصر، ومعه هدية سنية، فخلع عليه وأكرمه، ثم بعثه إلى أبيه في رابع عشرين رمضان، ومعه هدية جليلة.
وفيه توجه الأمير يشبك نائب طرابلس من حلب إلى محل كفالته، ثم قدمت رسل قرا يوسف وغيره. وورد الخبر بخروج كزل نائب ملطية عن الطاعة، ومسيره منها إلى جهة التركمان.
وتوجه السلطان من حلب عائداً إلى دمشق، فنزل حماة، وعزم على الإقامة بها مدة الشتاء، ليحسم مواد الفتن، ويأخذ من فر في وقعة قنباي، وهم تنباك البجاسي نائب حماة، وسودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، وطرباي نائب غزة، وكزل نائب ملطية وغيرهم، فأقام أياماً، وبلغه عن القاهرة ما اقتضى حركته إليها، وقدم الأمير طوغان أمير أخور نائب صفد، وقد أنعم عليه بإمرة مائة بديار مصر، في آخر شهر رمضان، وتوجه إلى الشرقية لأخذ تقادم الولاة والعربان، عوناً له على تجديد ما نهب له في الوقعة.
وفي هذه السنة: حدث غلاء عظيم بديار مصر، وذلك أن هذه السنة لما أهلت كانت الأسعار رخيصة، فلا يتجاوز الأردب القمح نصف دينار، إلا أن الغيث كان في أوانه قليلاً بأرض مصر، فلم ينجب الزرع بنواحي الوجه البحري كله من الشرقية والغربية والبحيرة، ولا حصل منها وقت الحصاد طائل.
وحدث مع هذا في كثير من نواحي أرض مصر فأر أتلف كثيراً من الغلال، واتفق مع ذلك وقوع الفتنة بأراضي البحيرة وخروج العسكر إليها، فتلف من غلالها شيء كثير، فإنها تمزقت تمزيقاً فاحشاً، ثم أن العسكر توجه إلى بلاد الصعيد في وقت قبض المغل، فعاثوا وأفسدوا ولم ينالوا من المفسدين الغرض، وعادوا عوداً ردياً، فعظم النهب وشن الغارات ببلاد الصعيد، وشملت مضرة العربان عامة الناس.
ووقع الغلاء بأرض الحجاز وبوادي العرب، وبلاد الشام، فدف إلى أرض مصر من هذه البلاد خلائق كثيرة لشراء القمح، فحملوا منه ما لا يقدر قدره، وكان مع ذلك كله توجه السلطان من القاهرة إلى الشام، بسبب الفتنة التي أثارها قنباي المحمدي، فخلا الجو لمن يحكم بالقاهرة، وتصرف أقبح تصرف وذلك أنه أخذ عند ابتداء زيادة النيل يستكثر من شراء القمح، فأشيع عنه أنه يخزنه لينال فيه ربحاً كثيراً، فإن النيل يكون في هذه السنة قليلاً، وكثرت الإشاعة بهذا، فتنبه خزان القمح وأمسكوا أيديهم عن بيعه، فحدث مع هذا توقف النيل عن الزيادة في جمادى الآخرة، كما تقدم ذكره، فجزع الناس، وأخذ الأغنياء في شراء القمح وخزنه، فارتفع سعره، وعز وجوده بعد كساده. فلما من الله بزيادة ماء النيل، حتى بلغ القدر المحتاج إليه بزيادة، اطمأنت قلوب العامة، فأرجف خزان القمح بأن الفتن ببلاد الصعيد عظيمة، وأن الغلاء واقع من عدم الواصل، فلطف الله عز وجل، وثبت ماء النيل حتى قرب برد الخريف، ثم نزل نزولاً حسناً، وزرع الناس الأراضي، وقد أمنوا حدوث الدودة، حتى كمل الزرع، ودخل شهر رمضان، ومع ذلك القمح أخذ في الزيادة في الثمن إلى أن بلغ الأردب إلى مائة وستين درهماً، وعز وجوده، وتعذر وجود التبن أيضاً، بحيث علفت الدواب بالنخال، ومن الناس من علفها عوضاً عن التبن قشور القصب، وبلغ كل حمل من التبن إلى ثلاثمائة درهم، بعد ما كان بدون الأربعين درهماً، فلم يهل شوال حتى زاد الأردب القمح على مائتي درهم، وقل الواصل منه من أجل أن المتولي حجر على من يجلب القمح، وجدد على كل أردب مبلغاً يؤخذ من بائعه، فعز وجود الخبز بالأسواق، وتزاحم الناس في الأفران على شرائه منها، وشنعت القالة في متولي القاهرة. وفحش الإرجاف به، فخاف على نفسه، واستعفى نائب الغيبة، فأعفاه من التحدث في الحسبة، واستدعى رجلاً من الشاميين يعرف بشمس الدين محمد الحلاوي، وولاه الحسبة في العشرين منه بسفارة الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، فباشر بعفة عن تناول ما لا يستحقه، إلا أنه منع من الزيادة في السعر، وتشدد فيه، فقل الواصل حتى فقد القمح وبلغ الناس الجهد.

وكان خبر القاهرة المحروسة قد انتشر في عامة أرض مصر، قبليها وبحريها، فارتفعت عندهم الأسعار أيضاً، وأقبل أهل الوجه البحري إلى ساحله بالقاهرة في شراء القمح لقلته عندهم، وأمسك أهل الصعيد أيديهم عن بيع القمح، لما بلغهم من منع الحلاوي الزيادة في سعره، فاشتد الأمر، وكثر صراخ الناس من الرجال والنساء، وشنع ضجيجهم لفقدهم الخبز بالقاهرة ومصر وجميع أرض مصر، من دمياط والإسكندرية إلى قوص، وضجت عامة المدن والقرى والأرياف.
فلما أهل ذو القعدة: تزايدت الأسعار بالقاهرة ومصر لقلة الواصل، واشتد الزحام بالأفران في أخذ الخبز، فخشي الحلاوي على نفسه، واعتزل.
وأعيد التاج في يوم الاثنين ثاني عشره، وقد امتدت الأيدي لخطف الخبز، واجتمع عشرات آلاف من الناس بساحل بولاق لطلب القمح، فاستشعر الناس بنهب البلد كله، وخشوا من تعطل الأسواق وترك البيع والشراء، لكثرة الاشتغال بطلب الخبز والقمح، فإن العامة صارت تخرج لطلبه من نصف الليل، وتزدحم بالأفران، وتمضي طوائف من الرجال والنساء في طلب القمح إلى الساحل، ويبيتون هناك، فغلت أصناف المأكل كلها وشرهت النفس، وطلب كل أحد شراء أكثر ما يحتاج إليه بحسب قدرته، وبمقتضى حاله من السعة والضيق، فتفاقمت الشناعة، وعظم الخطب، بحيث عجز كل أحد عن شراء القمح ما لم يعط أحداً من أعوان الوالي مالاً، ويبيت معه بالساحل، وكان الوقت شتاء، فإذا اشترى أردباً فما دونه يحتاج إلى عون آخر يحرسه، ويحميه من النهابة.
واستقر على كل أردب مبلغ خمسين درهماً لمن يحميه، ولا يأخذ السمسار إلا عشرة دراهم، بعدما كانت عسرته خمسة دراهم، ويأخذ التراس أجرة حمل الأردب خمسة عشر درهماً، بعدما كانت أجرته خمسة دراهم، وإذا وردت مركب تحمل القمح إلى قريب الساحل لا يجسر أربابها على عبور الساحل خوفاً من النهب، وإنما يوقف بها في وسط النيل، فيحتاج المشتري أن يركب إليها في مركب يسير به، ثم يعود به وبما اشتراه بأجرة يتكلف لها، وغرقت مركب فيها جماعة كثيرة ممن عدى من الساحل ليشتري من قمح وصل في مركب قد وقفت في وسط النيل، فغرق منهم نحو العشرين ما بين رجل وامرأة، فلم يقدر عليهم. ومات عدة من النسوان في الزحمة بالأفران، وتجاوز القمح الثلاثمائة درهم كل أردب، سوى كلفه، وتقرب من مائة درهم، ويحتاج في غربلته وطحنه إلى مائة أخرى، فيقوم بنحو خمسمائة درهم.
فلما اشتد الأمر، خرج قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني ليس تسقى بالناس، في يوم الاثنين ثامن عشره ومعه عالم لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه وتعالى فسار من منزله ماشياً، ومعه الأمير التاج، حتى خرج من باب النصر إلى الترب، فانطلقت الألسنة بكل سوء في حق التاج، ولم يبق إلا أن يرجم، فاختفى ومضى شيخ الإسلام بالناس إلى سفح الجبل، قريباً من قبة النصر، فضجوا ودعوا الله سبحانه وتعالى وهم قيام نحو ساعة، ثم انصرفوا، فكان من المشاهد العظيمة، وتيسر وجود الخبز إلى يوم السبت رابع عشرينه، ثم فقد. وسبب فقده أن التاج منع كل من قدم بقمح أن يبيعه إلا للطحانين، وسعر الأردب بثلاثمائة وخمسين درهماً، فكان إذا طحن وبيع دقيقاً وقف من حساب ستمائة درهم وأزيد، فإذا عجن خبزاً كان من حساب ثمانمائة درهم وأزيد، فامتنع من سوى الطاحنين من سائر الناس من شراء القمح، وكثر طلبهم للدقيق والخبز، وازدحموا على الأفران من عدم الخبز بالأسواق.
وانقطع الواصل من القمح، فركب التاج إلى البلاد القريبة، وتتبع مخازن القمح بها، وباعها على الطحانين فشنع الأمر في الأفران، واقتتل الناس على أخذ الخبز منها، وانتهبوا عدة أفران وأخذوا ما بها من العجين، فعطلها أربابها، وتغيبوا، وأبيعت البطة من الدقيق بمائة درهم، والقدح من الأرز بثلاثة عشر درهماً، والأردب القمح في البحر للطحان بثلاثمائة وخمسين، سوى كلفه، ولمن عدا الطحان من الناس بحسب تشدد بائعه، فاشتري بثمانمائة وألف درهم الأردب، وشح كل أحد به، وامتنع من عنده منه شيء أن يبيعه، وإن باع فلا يسمح منه إلا بقليل، وبلع الأردب الشعير - إن وجد - إلى مائتين وخمسين، والأردب الفول إلى ثلاثمائة درهم، وبلغ الحمل من التبن إلى مائتين، وبيعت أربعة أحمال بألف درهم، حسبها أن تكون قدر حملين فيما كنا نعهده.

وتزايد سعر الذهب، فبلغ المثقال إلى مائتين وسبعين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وخمسين درهماً، والدينار الناصري إلى مائتين، ثم اشتد الأمر، فندب نائب الغيبة إلى كل فرن جماعة من الأجناد يقفون به لمنع العامة من الخطف والنهب، وقعد حاجب الحجاب بنفسه على فرن بخط التبانة، ومعه عدة من مماليكه، حتى وجد الخبز على الحوانيت بالأسواق، بعدما عجز الكثير من الناس عن الخبز، واعتاضوا عن أكله بالفول الأخضر والقلقاس، ولولا لطف الله تعالى بعباده وكون البهائم مرتبطة على البرسيم الأخضر، لهلكوا من عند آخرهم جوعاً، فإن القدح الفول بلغ أربعة دراهم، وتعذر وجود الشعير، وخرج الناس أفواجاً إلى الأرياف فاشتروا القمح بخمسمائة درهم الأردب غير كلفه، وأنا استقام على أردب قمح في آخر ذي القعدة، اشترى لي من الريف مع - العناية - بستمائة درهم.
وأهل ذو الحجة: والناس في جهد جهيد، من تعذر وجود الخبز والدقيق والقمح، إلا بعناء ومشقات كثيرة، مع تواصل مجيء مراكب الغلال، ونزول الغيث المحتاج إليه في وقت الحاجة، وخصب الزروع وكثرتها، وقرب أوان مجيء الغلة الجديدة، ولكن الله يفعل ما يريد.
وفي يوم الخميس رابع عشرين شوال: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج إلى القاهرة، وقد عاد من بغداد إلى السلطان وهو بحلب، فولاه كشف الشرقية والغربية والبحيرة، ورد إليه أمر قطيا.
وفي يوم السبت رابع عشرين ذي القعدة: قدم كتاب السلطان بأنه قدم دمشق، وعزم على عوده إلى القاهرة، وأنه قبض على الأمير سودن القاضي، وخلع علي بردى باك قصقا، واستقر به عوضه رأس نوبة كبيراً، وسجن سودن القاضي.
ورسم السلطان بتجهيز ولده الأمير صارم الدين إبراهيم لملاقاته، فسار إليه في يوم الثلاثاء سابع عشرينه وفي خدمته الأمير سودن حاجب الحجاب، والأمير كزل العجمي في عدة من المماليك، فلقي السلطان، وعاد معه، فنزل السلطان على السماسم شمالي خانكاه سرياقوس في يوم الخميس نصف ذي الحجة.
وركب السلطان في ليلة الجمعة إلى الخانكاه، وعمل مجتمعاً حضره عشر جوق من قراء القرآن، وعدة من المنشدين، ومدت لهم أسمطة جليلة، ثم أقيم السماع بعد فراغ القراء والمنشدين طول الليل، فكانت ليلة غراء، مدت فيها أنواع الأطعمة وأنواع الحلاوات، وطيف على الحاضرين بالمشروب من السكر المذاب، وأنعم السلطان على القراء والمنشدين، وصوفية الخانكاه بمائة ألف درهم.
وركب السلطان بكرة يوم السبت سادس عشره من الخانكاه، ونزل بطرف الريدانية، فتغدى هناك، وعبر من يومه إلى القاهرة، وصعد قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.
ونودي من الغد بالأمان، وأن الأسعار بيد الله سبحانه تعالى، فلا يتزاحم أحد على الأفران، وتصدى السلطان للنظر في الأسعار بنفسه، وعمل معدل القمح، وقد تزايدت الأسعار، وبلغ الأردب القمح - إن وجد - إلى ما يزيد على ستمائة درهم، والأردب الشعير إلى أربعمائة درهم.
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه: خلع على الأمير جقمق الدوادار الثاني، واستقر دوادار كبيراً، عوضاً عن الأمير أقباي المتولي نيابة حلب، وخلع على الأمير يشبك واستقر دواداراً ثانياً، عوضاً عن الأمير جقمق.
وفيه نودي بمنع الناس من المعاملة بالدنانير الناصرية، وتهدد من تعامل بها أن تسبك في يده هذا وقد بلغ سعر المثقال الذهب إلى مائتين وثمانين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وستين درهماً، والدينار الناصري إلى مائتين وعشرة دراهم، فرسم أن يكون سعر المثقال بمائتين وخمسين، والأفرنتي بمائتين وثلاثين، وأن يقص الناصري، ويدفع فيه من حساب مائة وثمانين، ولا يتعامل به.
وفي يوم السبت سلخه: خلع على الأمير سيف الدين إبراهيم، المعروف بأبخروص - ويقال خرز - نقيب الجيش، واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن تاج الدين تاج بن سيفا القازاني، المعروف بالتاج الشويكي الدمشقي، وخلع على الأمير التاج، واستقر أستادار الصحبة.
وفيه انتصب السلطان في مجلسه بالإصطبل للحكم بين الناس على عادته، وضرب جماعة من الكتاب والفلاحين وغيرهم. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحاج، وأن القمح أبيع بمكة كل ويبة ونصف بدينار.
وفيه قل وجود الخبز في الأفران، لعدم القمح بالساحل، وبشون الأمراء، ومخازن التجار.
وحج بالناس من مصر الأمير يشبك الدوادار الصغير.

وفيها عدى مصطفى بن عثمان من اسطنبول إلى أفلاق، فاضطرب الأمير محمد كرشجي.
وفيها اشتد الوباء بمدينة فاس من بلاد المغرب وأعمالها، حتى فني أكثر الناس سوى من مات من الجوع في سني الغلاء.
ومات في هذه السنة

ممن له ذكر سوى من تقدم
الوزير سعد الدين إبراهيم بن بركة البشيري، يوم الأربعاء رابع عشر صفر. ومولده ليلة السبت سادس ذي القعدة، سنة ست وستين وسبعمائة، وبالقاهرة.
ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شمس الدين محمد بن الشيخ جلال الدين رسولاً بن أحمد بن يوسف التركماني، المعروف لابن التباني، يوم الأحد ثامن عشرين رمضان.
ومات سعد الدين بن بنت الملكي، في ثالث رمضان. ولي نظر الجيش.
ومات زين الدين حاجي الرومي، شيخ التربة التي أنشأها الملك الناصر فرج، على قبر أبيه الملك الظاهر برقوف، خارج باب النصر من القاهرة، ليلة الخميس رابع عشرين شوال، واستقر عوضه في مشيختها الشيخ شمس الدين محمد البساطي المالكي، بعناية الأمير ططر نائب الغيبة.
ومات الملك سكندر بن ميرز شيخ عمر بن تيمورلنك، وكان قد ملك بلاد فارس بعد قتل أخيه يبر محمد عدة سنين، ثم خالف على عمه شاه رخ، فسار إليه وقاتله، وأسره، وسمل عينيه، وأقام عوضه أخاه رستم، وخلاه لسبيله، وعاد فجمع سكندر جمعاً قليلاً، وقدم عليهم ابنه، فقاتلهم رستم وهزمهم، وأخذ سكندر، وقتله بأمر عمه شاه رخ.
ومات الفقير المعتقد الشيخ محمد الديلمي، في رابع ذي القعدة، ودفن بالقرافة.
سنة تسع عشرة وثمانمائةأهلت، وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحجاز، الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود، وأتابك العساكر الأمير ألطنبغا القرمشي، وأمير أخور كبير تنبك ميق ورأس نوبة النوب الأمير بردباك. والدوادار الكبير الأمير جقمق، وحاجب الحجاب الأمير سودن قرا صقل، وقضاة القضاة على ما تقدم في السنة الماضية، ما عدا الحنبلي، فإنه قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي الحمري، ومباشري الدولة على ما مر في السنة الماضية، ما خلا الوزارة، فإنها شاغرة، ونائب الإسكندرية الأمير أقبردي المنقار، ونائب غزة الأمير مشترك، ونائب صفد الأمير خليل الجشاري، ونائب الشام الأمير ألطنبغا العثماني، ونائب طرابلس الأمير ونائب حماة الأمير جرقطلو، ونائب حلب الأمير أقباي.
وأما مكة فإن الشريف حسن بن عجلان عزل عن نيابة السلطنة ببلاد الحجاز، وعزل ابناه الشريف بركات والشريف أحمد عن إمرة مكة، في صفر من السنة الماضية، واستقر الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في إمرة مكة. ودخل إليها بعد ما فارقها المذكورون في مستهل ذي الحجة منها، وأقام بها، فأهلت هذه السنة والأمر على هذا.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأحد: في ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعبر النيل في الحراقة إلى البر الغربي للصيد، وأقام هناك، فتلاحقت به أهل الدولة. وقدم كتاب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج من الوجه البحري أن القمح بلغ عنده إلى تسعمائة درهم الأردب.
وفيه نزل الطواشي زين الدين فارس بمبلغ كبير من الفضة المؤيدية، وطاف في الجوامع والمدارس، والخانكاهات، وفرق في أرباب وظائفها، الفقهاء والقراء والأئمة والمؤذنين والخطباء والقومة والمترددين، مبلغاً كبيراً فحصل في الأكثر لكل واحد أربعة عشر مؤيدياً، وفيهم من تكرر اسمه في خمسة مواضع وأكثر، فأخذ في كل مكان نصيباً، فتوسع الناس بذلك، وحسن موقعه، وفرق أيضاً مبلغاً في السؤال، فأقل ما كان نصيب الواحد من المساكين خمسة مؤيدية، عنها مبلغ خمسة وأربعين فلوس، فعم النفع، وكل البر عدة طوائف، وكان جملة ما فرق أربعة آلاف دينار.
وفيه بيعت ويبة قمح بمائة وثلاثين درهماً من الفلوس، من حساب كل أردب بثلاثة مثاقيل ذهباً، وبيعت ويبة شعير بثمانين درهماً فلوساً، من حساب الأردب بدينارين.

وفي خامسه: خلع السلطان - وهو بناحية أوسيم من الجيزية - على بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الحنفي، واستقر به في حسبة القاهرة، وكانت شاغرة منذ قدم السلطان، وإنما كان قد تقدم للطواشي مرجان الهندي الخازندار أن يتحدث فيها من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له توقيع، متحدث أياماً، ثم بعثه السلطان إلى الوجه القبلي بمال ليشتري القمح، ويسيره إلى القاهرة توسعة على الناس، وتقدم بعد سفر مرجان إلى الأمير أينال الأزعري أن يتحدث فيها، فنظم العينتابي في الحسبة، والخبز لا يكاد يوجد.
وفي يوم الجمعة سادسه: وردت عدة مراكب من الوجه القبلي تحمل نحو الألفي أردب قمحاً، فتباشر الناس بها.
وفي يوم السبت سابعه: ركب المحتسب، والأمير أينال الأزعري إلى ساحل بولاق، لتفرقة القمح وتوزيعه على الطحانين، فاجتمع عالم لا يحصيهم إلا الله لشراء القمح، فركب الأمير أينال الأزعري في أجناده، طرد الناس عن القمح، خوفاً من النهب، فلم ينتهبوا وتكاثروا عليه، فغضب منهم، وحمل عليهم بمن معه يضربهم، فشنع الحال، وغرقت امرأة، فلم يوقف لها على خبر، وصلب الأمير أينال الأزعري أربعة رجال طول نهارهم وضرب رجلين على ظهورهما عرياً ضرباً وجال في القوم جولة هو ومماليكه، ذهب فيها من العمائم ونحوها ما شاء الله، وعطب عدة أناس، وضرب بدبوسه رجلاً كسر لوح كتفه، وسالت دماء جماعة متعددة، فكان من الأيام الشنيعة، بات الناس بالقاهرة ومصر ليلة الأحد والخبز عندهم أعز ما يذكر، وأشهى شيء به ينظر، وأفخر ما يتحف به من الطرف، وأجل ما يتهادى به من التحف، فلا قوة إلا بالله.
وفي ليلة الخميس: نقلت الشمس إلى برج الحمل، ودخل فصل الربيع، وقد فشا في الناس الموت بالطاعون.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: عبر السلطان النيل بمن معه، وصعد قلعة الجبل، بخير.
وفي ثامن عشره: وردت عدة مراكب فيها غلال، بعث بها الأمير فخر الدين بن أبي الفرج مما اشتراه، الأردب بمبلغ ثمانمائة درهم بكيل الريف، وهو أردب ونصف بكيل القاهرة، فرسم السلطان أن يباع كل أردب منه على الطحانين بستمائة درهم، فاشتروه منه على هذا السعر، وقبض منهم في ثمنه الذهب خاصة، دون غيره من النقود، ولم يعد لهم في الدينار الأفرنتي إلا بمائتين وثلاثين درهماً، ولا في الناصري إلا بمائة وستين، فتضرروا بذلك من أجل أن الذهب يخرج بالأكثر، فالأفرنتي بمائتين وخمسين، والناصري بمائتين وقد كانوا في سادسه اشتروا القمح الذي ورد بأربعمائة وعشرين الأردب فشملتهم الخسارة من الوجهين، واقتضى هذا أن عز وجود الخبز، وأبيع الرغيف الذي زنته نصف رطل بدرهمين بعد ما كان بدرهم.
وفي تاسع عشره: جلس السلطان بدار العدل من القلعة، وأحضر زين الدين مفلح رسول الملك الناصر أحمد بن الشرف إسماعيل متملك اليمن، ومعه هدية جليلة من شاشات وأزر، وتفاصيل من حرير، وصيني، وعود، ولبان، وصندل، وغير ذلك على مائتي جمال، وفيها عدة سروج من عقيق بأطراف ذهب، وقطاط يخرج منها الزباد فقبلت هديته، وقرئ كتابه، وأنزل رسوله، وأجرى عليه ما يليق به.
وفيه رسم أن يزاد في قطيعة الفدان بأراضي مصر مبلغ مائتي درهم، فيصير بستمائة درهم الفدان، بعدما كان بأربعمائة درهم، وهذا يقتضي استمرار غلاء الأسعار، لأن الغلال لا تتحصل إلا وقد استقامت على أربابها بسعر عال والخسارة لا يأتيها أحد طوعاً، خصوصاً ومعظم غلال أرض مصر للسلطان والأمراء.
وفيه استدعي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، وخلع عليه خلع الوزارة كرهاً، وكانت شاغرة منذ عزل بن الهيصم.
وفي هذا الشهر: خصب البرسيم الأخضر، وكثر، وانحط سعره، بحيث أنه كان يباع الفدان منه بألف ومائتي درهم، فنزل إلى مائتي درهم، ولهذا عنت البهائم في هذا الغلاء لكثرة اعتلافها من البرسيم الأخضر. وفيه تزايدت أسعار الغلال، فبلغت البطة الدقيق إلى مائتين وخمسين درهماً، ولم يعهد فيما تقدم من الغلوات مثل ذلك.
وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج.
وفي ثالث عشرينه: قدم المحمل ببقية الحاج.

وفي سادس عشرينه: ركب السلطان ونزل إلى دار الضيافة بجوار القلعة، وقد جمع بها الصناع من الحجارين والبنائين والفعلة، وأقام بها صدراً من النهار، وقد شرعوا في مرمتها، وكانت تشعثت لخلولها في الأيام الظاهرية والناصرية، فذبح فيه للصناع بقرة طبخت واستمر العمل في دار الضيافة مدة أيام.
وفي ثامن عشرينه: نودي بتأهب أجناد الحلقة للعرض على السلطان في أول ربيع الأول، وندب جماعة من البريدية، توجهوا إلى جميع أعمال مصر، لإحضار من في النواحي من الأجناد.
وفي هذا الشهر: قدم الأمير كزل نائب ملطية في جماعة، وهجموا على حلب، فكانت بينهم وقعة انهزموا فيها، بعدما قتل منهم وأسر طائفة. وفيه استقر الأمير ركن الدين عمر بن الطحان نائب قلعة صفد.
وفيه ارتفع السعر بالرملة حتى بلغت العليقة الشعير إلى اثني عشر درهماً فضة، ثم انحط.
وفيه كثرت الفتن بين عرب جرم وعرب العايد، بأرض القدس وغزة والرملة.
وفيه رغب الأمير أحمد بن أبي بكر بن نعير في الطاعة، ثم نفر لما قبض على أخيه.
وفيه قبض على أينال الجركسي - أحد أمراء دمشق - وسجن بقلعتها.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: فيه عزل السلطان جميع نواب القضاة الأربع، وكانت عدتهم مائة وستة وثمانين قاضي بالقاهرة ومصر، سوى من بالوجه القبلي والوجه البحري، وشنعت القالة عنهم. وفيه تيسر وجود الخبز بحوانيت الباعة من أسواق القاهرة، فتباشر الناس بذلك، وابتهجوا برؤيته لبعد عهدهم برويته في الحوانيت، وأخذه من غير ازدحام مدة ثلاثة أشهر، أولها مستهل ذي القعدة من السنة الماضية. واستقرت زنة الأخباز التي يفرقها السلطان في كل يوم على الفقراء ستة آلاف رطل، عنها نحو اثني عشر ألف رغيف. وفيه خرج عسكر نجدة للأمير فخر الدين بن أبي الفرج بالبحيرة، وتزايد موت الناس بالطاعون.
وفي خامسه: وقع الاهتمام في عمارة الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، وأقيم بها مائة فاعل، وبضع وثلاثون بناء، ووفيت لهم أجرهم من غير أن يكلفوا فيه أكثر من طائفتهم، ولا سخر أحد من الناس بالقهر.
وفي عاشره: أحصي من ورد اسمه الديوان ممن مات بالقاهرة في مدة شهر أوله عاشر المحرم، فكان ثلاثة آلاف إنسان.
وفي ثاني عشره: استدعى السلطان قضاة القضاة الثلاث، سوى الحنبلي، فإنه سافر إلى بلدة حماة، فحضر الثلاثة بنوابهم، واستقر الحال بين يديه على أن يكون نواب القاضي الشافعي عشرة، ونواب الحنفي خمسة، ونواب المالكي أربعة، وانفضوا على هذا، فتصدى النواب المذكورون للحكم بين يدي، بعدما امتنع نواب الحكم من أول الشهر.
وفي رابع عشره: زيد في عدة نواب القضاة، ثم رد من منع شيئاً بعد شيء، حتى زادت عدتهم عما كانت عليه قبل المنع.
وفي خامس عشره: نودي أن لا يزوج أحد من الشهود مملوكاً من مماليك السلطان، وهدد من عقد نكاح أحد منهم. وفيه بطلت تفرقة الأخباز السلطانية على الفقراء، لسعة الوقت، وذهاب الغلاء.
وفي سادس عشره: تجاوز عدد من يرد اسمه الديوان من الأموات مائة نفس في اليوم. وهذا سوى من يموت بالمارستان، وفي عدة مواضع خارج المدينة، ويكون ذلك نحو الخمسين نفساً.
وفي ثاني عشرينه: كانت عدة من صلي عليه من الأموات - بمصلى باب النصر خاصة - من أول النهار إلى آذان الظهر اثنين وتسعين ميتاً، وشنع ما يحكى من تواتر نزول الموت في الأماكن، بحيث مات في أسبوع واحد من درب واحد ثلاثون إنساناً، وكثير من الدور يموت منها العشرة فصاعداً، وقدم الخبر بكثرة الوباء أيضاً ببلاد الصعيد، وفي طرابلس الشام، وأحصي من مات بها في مدة أيام، فكانت عدتهم عشرة آلاف إنسان، وكثر الوباء أيضاً بالوجه البحري من أراضي مصر.
وفي سادس عشرينه: تجاوزت عدة أموات القاهرة المائتين. وفيه قدم الطواشي مرجان الهندي الخازندار من الصعيد بغلال كثيرة وقد انحل السعر، فبيع الأردب القمح بمائتين وسبعين درهماً، وعنها يومئذ مثقال ذهب، فإن الناس لم يمتثلوا ما رسم به في سعر الذهب، وبلغ المثقال إلى مائتين وسبعين، والأفرنتي إلى مائتين فقط. وقدم الخبر بأن معظم أهل مدينة هو - من صعيد مصر - قد ماتوا بالطاعون.

وفي ثامن عشرينه: أنفق من الديوان المفرد على أرباب الجوامك من الأمراء، والمماليك وغيرهم، ذهب وفضة مؤيدية، فحسب عليهم المثقال الذهب بمائتين وسبعين، والأفرنتي بمائتين وخمسين. ولم يصرف لأحد منهم فلوس، ورسم بأنها تخزن، وأن لا يقبض من أحد أبيع عليه شيء من الغلال المحضرة من الصعيد إلا الفلوس لا غير، وذلك ليغير ضربها وتعمل فلوس مؤيدية.
وفيه خلع على الأمير قطلوبغا، واستقر في نيابة الإسكندرية، وعزل أقبردي المنقار، وكان قطلوبغا هذا ممن أنعم عليه الأمير منطاش بإمرة مائة، فطال حموله في الأيام الظاهرية والناصرية، حتى تنبه في هذا الوقت، وولي بغير سؤال ولا قدرة على ما يتجهز به. وفيه قتل بدمشق يعقوب شاه، وشاهين الأجرود، وطوغان المجنون.
وفيه خرجت عدة من الأمراء لقتال أهل البحيرة، فتبعوهم واحتووا لهم على كثير من الجمال والغنم والبقر والخيل، حملت إلى السلطان، وقتلوا عدة من الناس. وفيه اشتد الغلاء بنابلس، وكثر فساد محمد بن بشارة بأرض صفد.
وفيه قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج كاشف الكشاف، بطائفة من أهل البحيرة، واستاق لهم من الأغنام الشعاري أربعة آلاف وستمائة رأس، وأغنام ضأن ثلاثمائة رأس، وأبقار مائتي رأس، وحمير مائتي رأس، بعثها إلى السلطان، سوى ما حصل بيده ويد أعوانه، ثم جهز أيضاً غنماً شعاري ثلاثة آلاف رأس، وغنم ضأن ألف رأس، وخيلاً عشرين فرساً، ومائتي رأس من البقر، ومائة حمار. وفيه كتب إلى عرب لبيد - أهل برقة - بنزولهم على البحيرة، واستيطانها وقتال أهلها، وأخذهم.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الأربعاء: فيه كثر الموتان بالقاهرة ومصر، وتجاوزت عدة من ورد اسمه الديوان من المولي الثلاثمائة، وتوهم كل أحد أن الموت أتيه عن قريب، لسرعة موت من يطعن، وكثرة من يموت في الدار الواحد، وتواتر انتشار الوباء في جميع أراضي مصر، وبلاد الشام، والمشرق، بحيث ذكر أنه بأصبهان غالب أهلها، حتى صار من يمشي بشوارعها لا يرى أحداً يمر إلا في النادر، وأن مدينة فاس بالمغرب أحصى من مات بها في مدة ثلاثين يوماً ممن ورد الديوان - سوى الغرباء من المساكين - فكانوا ستة وثلاثين ألف، وأن المساكن عندهم صارت خالية، ينزل بها من قدم إليها من الغرباء، وأن هذا عندهم في سنتي سبع عشرة، وثمان عشرة وثمانمائة.
وفي هذا الشهر: تصدى الأمير بدر الدين الأستادار لمواراة من يموت من المساكين، بعد تغسيلهم وتكفينهم، فحسن الثناء عليه. وفيه وعك السلطان من عاشره، وشنع حال البلد من كثرة ما بها من الأحزان، فلا تجد إلا باكياً على ميت، أو مشغولاً بمريض، وبلغت عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات في ثالث عشرينه ما ينيف على خمسمائة، بما فيهم من موتى المارستان والطرحاء، ومع ذلك والأخبار متواترة بأنه صلى في هذا اليوم بمصليات الجنائز على ما ينيف على ألف ميت، وأن الكتاب يخفون كثيراً ممن يرد اسمه إليهم.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع على شمس الدين محمد بن الحاج عمر بن شعبان الجابي، واستقر في وظيفة الحسبة، وعزل بدر الدين محمود العينتابي.
وفي سابع عشره: أشهد عليه السلطان بوقف الجامع الذي أنشأه بجوار باب زويلة، ووقف عليه عدة أماكن بالشام ومصر. وفيه تزايد بالسلطان ألم رجله، وتمادى به أياماً.
وفي عشرينه: خرج عدة من الأمراء إلى الصعيد، لقتال المفسدين، والوقت حينئذ أيام قبض الغلال، فيخشى منه تمزقها. وفيه نقص عدد الموتى من خامس عشره.
وفي سابع عشرينه: خلع علي بدر الدين محمود العينتابي، واستقر ناظر الأحباس بعد موت شهاب الدين أحمد الصفدي. وفيه قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرنج من الوجه البحري إلى القاهرة وأقام بها.
وفي تاسع عشرينه: قدم الخبر بنزول الفرنج على ثغر نستراوه، ونهبهم وتحريقهم الثغر. فيه استقر الشيخ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في مشيخة المدرسة الجمالية برحبة باب العيد، بعد موت الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزمي. وانقضي هذا الشهر، وقل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما لم يكن بها حزن على ميت وأقل ما قيل أنه مات من عاشر المحرم إلى آخر هذا الشهر عشرون ألفاً والمكثر يبالغ في العدد.

وفيه كانت وقعة في عاشره، بين نائب حلب وبين كزل، قريباً من دربساك، انهزم فيها كزل، وقتل وجرح منه جماعة، وأخذ كردي باك وقتل، وحمل رأسه إلى مصر. وفيه أخذ حسين بن كبك ملطية، وأساء السيرة في أهلها. وفيه حارب نائب حلب حميد بن نعير وهزمه، وغنم له كثيراً من الجمال.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: بلغت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات - سوى المارستان والطرحاء - إلى مائة وعشرين.
وفي خامسه: سفر الأمير جانبك الصوفي من سجنه بقلعة الجبل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه كانت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات نيفا وستين، وفي تاسعه كانت عدتهم ثلاثة وعشرين.
وفي ثاني عشره: قبض على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، بعد ما أوسعه السلطان سباً، وهم بقتله، ثم عوق نهاره بالقلعة، فشفع فيه الأمير جقمق الدوادار، فأسلم له على أن يحمل ثلاثمائة ألف دينار، ونزل معه آخر النهار، وسبب قبضه تأخر جوامك المماليك وعليق خيولهم من عجزه، مع كثرة دالته على السلطان، وبسط لسانه المانه عليه.
هذا والأمير فخر الدين بن أبي الفرج يواصل حمل المال من الوجه البحري، حتى أناف ما حمله على مائة ألف دينار، سوى الخيول وغيرها.
وفيه قبض على كثير من التجار والصيارفة، وجمعوا في بيت الأمير جقمق الدوادار، واشتد الإنكار عليهم، بسبب غلاء سعر الذهب، ومخالفتهم ما رسم لهم به فيه غير مرة، حتى بلغ المثقال إلى مائتين وثمانين، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وستين، والناصري إلى مائتين وعشرة دراهم، وباتوا في داره، محتفظاً بهم، وموكلاً عليهم، حتى تراجع السلطان في أمرهم.
فكثر خوض الناس في حديث الذهب، وتوقفوا في أخذه، ثم أفرج عنهم من الغد، ولم يتقرر شيء يعتمد عليه في أمر الذهب.
وفيه كانت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات تسعة وعشرين، وقدم الخبر من دمشق بتزايد الموتان عندهم، وأنه يموت في اليوم ستون إنساناً وأنه ابتدأ الوباء عندهم من أثناء ربيع الأول، عندما تناقص من ديار مصر.
وفي ثامن عشره: كتب السلطان بطلب الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الله بن أسعد العبسي القدسي الديري الحنفي من القدس، ليستقر به في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن ابن العديم بعد موته.
وفي عشرينه: بعث السلطان تشريفاً إلى الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الوجه البحري، ليستقر أستاداراً، عوضاً عن الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وكتب إليه بحضوره. وفيه تقرر على الأمير بدر الدين بحمل مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، بعد ما عصر في بيت الأمير جقمق عصراً شديداً وضربت الحوطة على موجوده، وتتبعت حواشيه وأسبابه وألزامه، فقبض عليهم. وفيه قدم الخبر بأن عدد الموتى بدمشق بلغ إلى مائة إنسان في اليوم، ممن يرد اسمه للديوان.
وفي حادي عشرينه: قبض على كثير من الصيارفة والتجار، ورسم عليهم وأخذوا من الغد، وأحضروا بالقلعة، فلم يتهيأ لهم حضور بين يدي السلطان، وتقرر معهم ألا يخالفوا ما يرسم به في الذهب، وأفرج عنهم بعدما أرجف بأنهم يشنقوا، ونودي أن يكون المثقال الذهب بمائتين وخمسين، والدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وأن لا يتعامل بالناصري، بل يقص ويصرف بحساب الذهب الهرجة المصري، فشق ذلك على الناس وتلف لهم مال كثير.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج إلى القاهرة.
وفي رابع عشرينه: نودي على النيل أنه زاد ثلاثة أصابع، وأن القاع بلغ سبعة أذرع ونصف ذراع.
وفي خامس عشرينه: خلع على الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر أستاداراً، مع ما بيده من كشف الوجه البحري.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه: نقل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين من بيت الأمير جقمق الدوادار إلى بيت الأمير فخر الدين الأستادار، وقد أهينت حاشيته وأتباعه، وعوقبوا عقوبات كثيرة متعددة، وقبض على امرأته وعوقبت حتى أظهرت مالاً كثيراً، فاصبحوا مرحومين بعدما كانوا محسودين، نكالاً من الله بما قدمت أيديهم، فإنهم كانوا قوم سوء فاسقين، لم يعفوا عن قبيح، ولا كفوا يداً عن ظلم.

وفي هذا الشهر: قدم الفرنج في أربعة أغربة إلى مدنية يافا، وأسروا نحو الخمسين امرأة وطفلاً، وحاربهم المسلمون، وقتلوا منهم واحداً، ثم افتكوا الأسرى بخمسة عشر ديناراً كل أسير. ونزل في ثاني عشرينه على الإسكندرية فرنج في مركب بضاعة، فثار بينهم وبين بعض العتالين شر، إلى أن آل القتال، وأخذ الفرنج مركباً فيها عدة من المسلمين، ولم يكفوا عن الحرب حتى بعث إليهم النائب غرماءهم من العتالين، وهم ثلاثة، فردوا ما أخذوه عند ذلك، ثم قدمت مركب للمغاربة، فأخذها الفرنج بما فيها، ولم ينج منهم سوى خمسة عشر نفراً، سبحوا في الماء إلى البر، وأسر بقيتهم.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه سار الأمير جقمق الدوادار في عدة من الأمراء إلى الوجه القبلي، وكتب بإحضار من هناك من الأمراء.
وفي سادسه: ندب السلطان طائفة من القراء إلى الاجتماع على تلاوة كتاب الله العزيز بالمقياس وأجرى عليهم من الأطعمة ما يليق بهم، وفرق فيهم مالاً، فأقاموا على ذلك بالمقياس وسببه توقف النيل عن الزيادة مدة أيام، ونقصه أربعة عشر إصبعاً.
وفي يوم الجمعة سابعه: ركب الأمير سودن قرا صقل حاجب الحجاب إلى شاطئ النيل، وأحرق ما كان هناك من الأخصاص، وطرد الناس، ومنعهم من الاجتماع، فإنهم كانوا قد أظهروا المنكرات من الخمور ونحوها من المسكرات، واختلاط النساء بالرجال، من غير استتار، فعندما طرقهم الحاجب اضطربوا، ونهب بعضهم بعضاً، فذهبت أموال عديدة.
وفي ثالث عشره: قدم الشيخ شمس الدين محمد الديري من القدس، ونزل بقاعة الحنفية من المدرسة الصالحية بين القصرين.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: استدعي إلى قلعة الجبل، وخلع عليه بحضرة السلطان، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، ونزل ومعه أعيان الدولة إلى المدرسة الصالحية، فحكم على العادة.
وفي ثالث عشرينه: قبض على الأمير كزل العجمي الأجرود أمير جاندار، ونفي إلى صفد.
وفيه كثر الطاعون بدمشق، حتى بلغ عدد من يموت نحو المائتين في كل يوم. وفيه قبض على محمد بن سيف بن عمر بن محمد بن بشارة، الذي كان يقطع الطريق، وعلى عبده، وحمل من وادي التيم إلى دمشق.
وفي خامس عشرينه: نزل عرب لبيد في خمسمائة خيال - سوى المشاة - على ريف البحيرة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: فيه اشتد الطلب على الأمير بدر الدين بن محب الدين، وعوقب أشد عقوبة، ونوعت عقوبات إلزامه أيضاً. وفيه قدم الأمراء من الوجه القبلي. وفيه أشار السلطان لمن حضر مجلسه من الفقهاء بأن من الأدب أنه إذا دعا الخطاء في يوم الجمعة للسلطان، أن ينزلوا عن موقفهم الذي كانوا فيه درجة، ثم يدعوا للسلطان، حتى لا يكون ذكر السلطان في الموضع الذي فيه يذكر الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وأمر الخطباء بذلك، وكان ممن حضر يومئذ بين يديه الشيخ زين الدين أبو هريرة بن النقاش خطب الجامع الطولوني، والشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن حجر خطب الجامع الأزهر، فامتثلا ذلك.
وفي يوم الخميس رابعه: خلع على الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج، واستقر مشير الدولة، مضافاً لما بيده من الأستادارية وكشف الوجه البحري. وفيه قدم الأمير جقمق من الوجه القبلي.
وفي يوم الجمعة خامسه: اعتمد خطباء مصر والقاهرة ما أشار به السلطان، فنزلوا عندما أرادوا الدعاء له درجة، ثم دعوا، وامتنع من ذلك قاضي القضاة البلقيني في جامع القلعة، لكونه لم يؤمر بذلك ابتداء، فسئل عن ذلك، فقال: ليس هو السنة، فغير عزم السلطان عن ذلك، فترك الناس ذلك بعده ولقد كان عزم السلطان في هذا جيلاً، ولله الأمر.
وفي سادسه: فرق السلطان على يد الطواشي فيروز جملة فضة مؤيدية على الفقهاء والفقراء والأيتام، فتوسع الناس بذلك.
وفي يوم الاثنين ثامنه - وعاشر مسرى - : أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل السلطان وعدى النيل إلى المقياس، حتى خلق بين يديه، ثم سار، وفتح سد الخليج على العادة، وعاد إلى القلعة.

وفي سادس عشره: نودي أن يكون صرف الدينار المختوم الهرجة بثلاثين مؤيدياً فضة، وصرف الدينار الأفرنتي بثمانية وعشرين مؤيدياً، فيكون الدينار الهرجة بمائتين وسبعين درهماً من الفلوس، والدينار الأفرنتي بمائتين واثنين وخمسين درهماً، ومنع الناس أن يتعاملوا بالناصري، وأن يقص جميع ما ظهر منه، ويحسب في المثقال منه مبلغ مائتين وأربعين درهماً فلوساً، فلم يستقر الحال على ذلك، وخرج الدينار الأفرنتي بمائتين وستين درهماً، والناصري بمائتين وعشرة.
وفي سادس عشره: قدم الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص إلى الإسكندرية في تحصيل المال، فجلس بالخمس، وبين يديه أعيان أهلها، فجاءه الخبر بأن الفرنج الذين وصلوا ببضائع المتجر - وهم في ثمان عشاريات من مراكب بحر الملح - قد عزموا على أن يهجموا عليه، وأن يأخذوه هو ومن معه، فقام عجلاً من غير تأن يريد الفرار، وتسارع الناس أيضاً يفرون، فهجم الفرنج من باب البحر، فدافعهم من هناك من العتالين، حتى أغلقوا باب البحر، وقتلوا رجلاً من الفرنج، فقتل الفرنج نحو عشرين من المسلمين، وانتشروا على الساحل، وأسروا نحو سبعين مسلماً، وأخذوا ما ظفروا به، ولحقوا بمراكبهم، وأتوا في الليل يريدون السور، فتراموا ليلتهم كلها مع المسلمين إلى الفجر، فأخذ كثير من المسلمين في الرحيل من الإسكندرية، وأخرجوا عيالهم، وقام الصياح على فقد من قتل وأسر، وباتوا ليلة الجمعة مع الفرنج في الترامي من أعلى السور، فقدمت طائفة من المغاربة في مركب ومعهم زيت وغيره من تجاراتهم، فمال الفرنج عليهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى أخذوهم عنوة، وأخرجوهم إلى البر، وقطعوهم قطعاً، وأهل الإسكندرية يرونهم فلا يغيثونهم. فقدم الخبر بذلك في ليلة السبت عشرينه، فاضطرب الناس بالقاهرة، وخرج ناظر الخاص نجدة لولده، ومضى معه عدة من الأمراء، وخرج الشيخ أبو هريرة بن النقاش في عدة من المطوعة، يوم الأحد حادي عشرينه، وقدموا الإسكندرية، فوحدوا الفرنج قد أقلعوا، وساروا بالأسرى، وما أخذوه من البر ومن مركب المغاربة، في يوم الثلاثاء ثاني عشرينه، فعادوا في آخر الشهر إلى القاهرة.
وفيه كثر الطاعون بدمشق. وفيه قتل حميد بن نعير غدراً.
وفيه نزل على مدينة الرحبة حسين بن نعير وحصرها عشرين يوماً، كانت فيها حروب عظيمة، حتى أخذها ونهبها، ثم أحرقها حتى جعلها فحمة سوداء.
وفي سابع عشرينه: اعتقل الأمير كزل العجمي، الذي كان حاجب الحجاب بديار مصر، ونفي إلى قلعة صفد.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: في سابع عشره: دار المحمل على العادة، بعدما جبي الأمير سيف الدين خرز والي القاهرة ما حدث من أخذ الخمر للمماليك الرماحة من أهل الذمة، فجبي من اليهود خمسة وستين مروقة خمر، ثمنها عندهم مائة وعشرون درهماً كل مروقة، وغرموا مع ذلك جملة لأعوانه، بلغت خمسة آلاف درهم.
وطلب من النصارى مثل ذلك، فتعززوا عليه لقوة جاههم، فحقد عليهم ذلك، وكبس سريقة صفية خارج القاهرة، وكبس الكوم خارج مصر، وأراق للنصارى - باعة الخمر - عدة آلاف من جرارها وكتب على أكابرهم إشهادات بكثير من جرار الخمر، يقومون له بها، فمنهم من ألزمه بثلاثمائة جرة، وتلف لهم مع هذا مال كبير مما غرموه للأعوان، ومما نهب، فكان هذا من شنيع المنكرات.
وفي ثامن عشره: نودي أن يكون النصف المؤيدي بثمانية دراهم فلوساً، وكل رطل من الفلوس بخمسة دراهم ونصف، وكل دينار أفرنتي بمائتين وثلاثين فلوساً، وكل دينار هرجة بمائتين وخمسين درهماً فشملت المضرة عامة الناس لخسارة أموالهم.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الأمير منكلي بغا العجمي، وأعيد إلى حسبة القاهرة. وعزل ابن شعبان مزموماً لقبح سيرته، ونودي بتهديد من خالف ما رسم به في الفلوس والفضة المؤيدية، أو تكلم فيما لا يعينه.
وفي يوم الثلاثاء سلخه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، واستقر كاشف الوجه القبلي، بعدما ضرب بحضرة السلطان.

وفي هذا الشهر: رسم بدمشق على قاضي نجم الدين عمر بن حجي الشافعي، ونودي بعزله والكشف عليه، وأن من له عليه حق يحضر إلى بيت الحاجب الدعوى عليه، واستمر النداء مدة أيام، فلم يظهر عليه شيء ثم نفل إلى المدرسة اليونسية، بالشرف الأعلى، ورسم عليه، ونصب للحكم بين الناس نائبان من نوابه، وكتبت أوراق بوظائفه، وأشهد عليه أنه إن كان له غير ذلك يكون عنده عشرة آلاف دينار لعمارة الأسوار، وحملت الأوراق إلى السلطان.
وفيه نزل قرا يلوك على أرزنجان، وأفسد بلادها، فكتب نائبها بير عمر إلى قرا يوسف، فأمده بابنه اسكندر، ففر منه قرا يلوك، وأخذ ما كان معه. وفيه مات الأمير ناصر الدين محمد إلياس حاجب غزة وقد كان قدم إلى القاهرة غير مرة، وكان من الظلمة الكبار.
شهر شعبان المكرم، أوله الأربعاء: فيه انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً سواء، وثبت إلى وقت انحطاطه، فنزل نزولاً حسناً.
وفيه تردد السلطان إلى العمارة بجوار باب زويلة، غير مرة.
وفيه كثر طلب مباشري الدولة للرخام - من العمد والألواح - برسم الجامع المؤيدي، فأخذ ذلك من عدة بيوت في القاهرة ومصر.
وفيه كثر غبن الناس لانحطاط النقود بديار مصر، مع ثبات أسعار المبيعات وأجر الأعمال.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه: وسط بمدينة المحلة شمس الدين محمد بن مريجينة - قاضي ناحية جوجر من الغربية ومتدركها - وأحيط بموجوده، وهو نحو خمسة وأربعين ألف دينار، فدخل ديوان السلطان، ولم يترك منه لأولاده شيء.
وفي سلخه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين خلعة السفر، فتوجه إلى الوجه القبلي من غده. وفيه خلع على زين الدين قاسم قاضي العلايا من بلاد الروم، واستقر في قضاء العسكر وإفتاء العدل، على مذهب الحنفية، وكانتا قد شغرتا من مدة، وقاسم هذا قدم إلى القاهرة من نحو سنة، وحضر في مجلس السلطان مع من يحضر من الفقهاء في كل أسبوع.
وقدم الخبر بكثرة الوباء بالقدس وصفد، وأنه ابتدأ عندهم من مدة أشهر. وفيه وعك السلطان.
وفيه مات أيدغمش بن أوزر من أمراء التركمان، في الاعتقال بدمشق.
وفيه قبض على محمد عبد القادر وأخيه عمر بغزة، وحملا إلى القاهرة.
وفيه قدمت هدية سلمان بن أبي يزيد بن عثمان، متملك برصا، فأنزل قاصده بدار الضيافة، وقبلت هديته، ورسم أن تجهز له هدية.
شهر رمضان المعظم، أوله الجمعة: لم يشهد فيه السلطان الجمعة، لملازمته الفراش. وفيه فرق الطواشي فيروز في الناس مبلغاً من المؤيدية، على العادة. وفيه رتب السلطان عدة أبقار تذبح في مواضع متعددة، ويفرق لحمها كما كانت عادة الملك الظاهر برقوق في شهر رمضان.
وفي يوم الخميس سابعه: خلع على الأمير أقبغا شيطان، شاد الدواوين، واستقر في ولاية القاهرة، وعزل الأمير خرز، فصار بيده ولاية القاهرة وشد الدواوين والحجربية، وخلع على خرز واستقر في نقابة الجيش.
وفي تاسعه: نودي بأن يكون سعر المؤيدي ثمانية دراهم، وأن تكون الفلوس بخمسة دراهم ونصف كل رطل، ويكون الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وهدد من زاد في ذلك أو غيره. وكان الأفرنتي قد بلغ إلى أحد وثلاثين مؤيدياً.
وفيه قدم الشريف بركات بن الأمير حسن بن الأمير عجلان من مكة المشرفة بخيل وغيرها، تقدمة للسلطان، فقبلت منه، وأنزل وأجرى عليه راتب.
وفي حادي عشره: خلع على الأمير خرز، واستقر شاد الداوين، عوضاً عن أقبغا شيطان، وجعل من جملة الحجاب، فصار شاد الدواوين، نقيب الجيش، حاجباً.
وفي خامس عشره: كتب تقليد الشريف حسن بن عجلان بإعادته إلى إمرة مكة، وعزل الشريف رميثة.
وفي عشرينه: أحضر إلى السلطان برجل عجمي، ادعى أنه صعد إلى السماء السابعة، ورأى الله سبحانه، وأنه تعالى صرفه في الملك، فسجن بالمارستان عند الممرودين.
وفيه أعيد رسول ملك اليمن، ورسول الفرنج البندقية، ورسول قرا يوسف، ومع كل منهم هدية.
وفي آخره: قدم قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي من دمشق، وقد عزل عن قضاء دمشق بجمال الدين عبد الله بن نور الدين محمد بن صدر الدين محمد بن محمد ابن زيد، قاضي بعلبك.

وفي هذا الشهر: قرئ كتاب صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل، على ما جرت به العادة، وحضر قراءته القضاة الأربع، ولم تجر العادة بذلك، وإنما كان يحضر قاضي القضاة الشافعي، وشيخ الإسلام في طائفة يسيرة من الفقهاء، فزاد عدد الفقهاء الحاضرين في هذه السنة على ستين فقيهاً، صرف لكل منهم ألف درهم فلوساً. وفيه كان السلطان منقطعاً لألم رجله. وفيه كانت فتنة بالبحيرة. وفيه كثر الغبن من انحطاط النقود وتغيرها، مع ثبات السعر في المبيعات.
شهر شوال، أوله السبت: في ثالثه: قتل الأمير دمرداش الفخري كاشف الوجه البحري، موسى بن رحاب، وخلاف بن عتيق من شيوخ البحيرة، وقتل أهل البحيرة حسين بن شرف، وعدة من شيوخهم.
وفي سادسه: قدمت رسل قرا يوسف.
وفي رابع عشره: توجه الأمير فخر الدين بن أبي الفرج بالعسكر لقتال أهل البحيرة. وفيه قدم ركب التكرور للحج، ومعهم ألف وسبعمائة رأس من العبيد والإماء، وشيء كثير من التبر.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج، وحج من الأعيان قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي المالكي، والأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، وخوند خديجة زوجة السلطان.
وفي سابع عشرينه: قلع باب مدرسة السلطان حسن، ونقل إلى الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، ونقل معه التنور الذي كان معلقاً هناك، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار.
وفي هذا الشهر: توجه محمد كرشجي بن أبي يزيد بن عثمان صاحب برصا لقتال اسفنديار بن أبي متملك قسطمونية وحصره في جزيرة سينوب إلى أن وقع بينهما الاتفاق على أن يخطب له ويضرب السكة باسمه، فأفرج عنه وعاد اسفنديار إلى قسطمونية، وخطب باسم محمد كرشجي، فلم يوافقه وزيره خواند سلار على إقامة الخطة بالجامع الذي أنشأه لمحمد، وصار يخطب فيه باسم ملكة اسفنديار، وخطب اسفنديار في بقية جوامع قسطمونية باسم محمد كرشجي، وهذا من غريب ما وقع أن يخطب في مدينة واحد باسم ملكين في وقت واحد.
وفيه عز وجود لحم الضأن ولحم البقر بالقاهرة.

وفيه كانت فتنة بمكة وذلك أن الشريف حسن بن عجلان لما عزل بالشريف رميثة في صفر من السنة الخالية، ودخل رميثة إلى مكة في أول ذي الحجة منها - كما تقدم - لم يتعرض إليه الشريف حسن، حتى بعث ابنه بركات، وقائده شكر، إلى السلطان، فقدما - كما تقدم - فكتب السلطان بإعادة الشريف حسن إلى الإمرة في ثامن عشر شهر رمضان، وجهز إليه تشريفه وتقليده، فقدما عليه وهو بجدة في ثاني شوال، فبعث إلى القواد العمرية - وكانوا باينوه من شعبان ولحقوا برميثة في مكة - يرغبهم في طاعته، فأبوا عليه، وجمعوا لحربه، فسار إلى مكة، وعسكر بالزاهر - ظاهر مكة - في يوم السبت ثاني عشرين شوال هذا، ومعه الأشراف، آل أبي نمي، وآل عبد الكريم، والأدارسة، ومعه الأمير الشريف مقبل بن مختار الحسني أمير ينبع بعسكره، ومعه مائة وعشرون من الأتراك، فبعث إلى العمرية يدعوهم إلى طاعته، فندبوا إليه ثلاثة منهم، فلما أتوه خوفهم عاقبة الحرب، وحذرهم، ومضوا إلى مكة، فلم يعودوا إليه لتماديهم وقومهم على مخالفته، فركب يوم الاثنين رابع عشرينه من الزاهر، وخيم بقرب العسيلة أعلا الأبطح وأصبح يوم الثلاثاء زاحفاً في ثلاثمائة فارس وألف راجل، فخرج إليه رميثة في قدر الثلث من هؤلاء فلما بلغ الشريف حسن إلى المعابد، بعث يدعوهم، فلم يجيبوه فسار إلى المعلا ووقف على الباب ورمى من فوقه فانكشفوا عنه، وألقيت فيه النار فاحترق، وانبت أصحاب حسن ينقبون السور ويرمون من الجبل بالنشاب والأحجار أصحاب رميثة، ثم اقتحموا السور عليهم وقاتلوهم حتى كثرت الجراحات في الفريقين، فتقدم بعض بني حسن وأجار من القتال، فانكف عند ذلك حسن، ومنع أصحابه من الحرب، فخرج القضاة، والفقهاء، والفقراء، بالمصاحف والربعات إلى حسن، وسألوه أن يكف عن القتال، فأجابهم بشرط أن يخرج رميثة ومن معه من مكة، فمضوا إلى رميثة وما زالوا به حتى تأخر عن موضعه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلا، وبات بها، وسار يوم الأربعاء سادس عشرينه وعليه التشريف السلطاني، ومعه عسكره، إلى المسجد، فنزل وطاف بالبيت سبعاً، والمؤذن قائم على بر زمزم، يدعو له حتى فرغ من ركعتي الطواف ثم مضى إلى باب الصفا فجلس عنده، وقرئ تقليده إمرة مكة هناك، ثم قرئ كتاب السلطان إليه بتسلم مكة من رميثة، وقد حضره عامة الناس، ثم ركب وطاف البلد، ونودي بالأمان، وأجل رميثة ومن معه خمسة أيام، فلما مضت سار بهم إلى جهة اليمن، واستقر أمر الشريف حسن بمكة على عادته، وثبت من غير منازع. وفيه قدمت الخاتون زوجة الأمير أيدكي صاحب الدست إلى دمشق، تريد الحج، وفي خدمتها ثلاثمائة فارس.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: فيه سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان إلى مكة.
وفي رابعه: ركب السلطان، وعدى النيل البر الغربي، وأمام هناك يتصيد.
وفي ثامنه: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من البحيرة، ومعه شيء كثير من الأغنام وغيرها، وعدة رءوس ممن قتله من الناس، بعدما وصل في طلب أهل البصرة إلى العقبة، فلم يظفر بهم، فمضى من العقبة نحو برقة أياماً، ثم رجع بغير طائل، سوى تخريب البلاد ونهبها.
وفيه قدم أيضاً الأمير سودن الأشقر من سجن الإسكندرية، فنزل خارج القاهرة، ومضى منها إلى القدس، ليقيم به بطالاً.
وفي ثامن عشره: عاد السلطان إلى القلعة، وقد انتهى إلى الطرانة.
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على الأمير فخر الدين بن أبي الفرج واستقر في الوزارة بعد موت تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، مضافاً لما بيده من الأستادارية، والكشف. وخلع على سيدي سليمان بن الكويز، واستقر أستادار الأمير صارم الدين ابن السلطان، عوضاً عن تقي الدين بن أبي شاكر، ولبس هيئة الأجناد، وحملة السلاح، من القباء والكلفتاه، وترك زي أبيه وأخويه، وخلع على الأمير يحيى بن لاقي، واستقر شاد الخاص مضافاً لما بيده من المهمندارية.

وفي هذا الشهر: كان اللحم بالقاهرة عزيز الوجود. وفيه بيعت الباقية البنفسج - وهو حين أوانه - بمائة وخمسين درهماً فلوساً، عنها نحو عشرين مؤيدياً فضة، وذلك لقلة وجوده، فإنه لم يزرع سوى في موضع واحد ولقد عهدنا الباقة منه تباع بنصف درهم فضة، فسبحان محيل الأحوال. وفيه هدمت قلعة الخوابي إحدى قلاع الإسماعيلية من عمل طرابلس، حتى سوي بها الأرض بعد حصار طويل، فصارت أثراً بعد عين.
وفي سابع عشرينه: خلع على مانع بن سنيد بإمرة بني مهدي عوضاً عن محمد ابن هيازع، بحكم وفاته.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: في رابعه: استدعي نجم الدين عمر بن حجي، وخلع عليه بإعادته إلى قضاء القضاة الشافعية بدمشق.
وفي رابع عشره: وصل إلى القاهرة دوغان بن حديثة، أمير آل فضل، بكتاب أبيه، يتضمن تسحب أولاد نعير من الرحبة.
وفي سلخه: قدم رسول الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، ومعه دراهم قد ضربت بالسكة المؤيدية.
وفي هذا الشهر: ابتدأ الأمير جقمق الدوادار بعرض أجناد الحلقة.
وفي يوم النحر عاشره: أنزل بالخليفة المستعين بالله العباس بن محمد من محبسه بقلعة الجبل نهاراً إلى ساحل مصر، وهو على فرس، وجيء أيضاً بالأمير فرج بن الملك الناصر فرج، وباخويه محمد وخليل، في محفة، فساروا في النيل إلى الإسكندرية، ووكل بهم الأمير كزل الأرغون شاوي أحد أمراء حماة، فسجنوا بها، وكان الخليفة لما جلس الملك المؤيد على التخت، حوله من القصر، وأسكنه بدار من دور الحرم السلطانية ومعه أهله وولده، ثم نقله إلى برج قريب من باب القلعة، فأقام به وعنده أهله مدة، حتى حمل إلى الإسكندرية، فأنزل ببرج من أبراجها بأهله وولده، من غير أن يجري عليه شيء.
وفي ثاني عشره: ركب السلطان، وعدى إلى ناحية أوسيم. فأقام هناك إلى سادس عشرينه، ثم سار إلى شاطئ النيل، ونزل على منبابة إلى ثامن عشرينه وعدى إلى القلعة. وفيه قدمت خديجة خاتون - زوجة الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر - من أبلستين في طلب ولدها. وكان قد عوقه السلطان عنده من مدة طويلة، فأكرمها السلطان، وأنزلها، وجمع بينها وبين ابنها، وكان قد قبض عليه بعد فتنة الأمير قانباي، وحمله إلى قلعة الجبل، وأجرى عليها ما يليق بها.
وفي تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، وأخبروا أنهم وقفوا بعرفة يوم الخميس، وكانت الوقفة بمصر يوم الأربعاء. وكانت النفقة على الجامع المؤيدي إلى سلخ هذه السنة مبلغ أربعين ألف دينار. وفيها كانت بين ابن عثمان وبين النصارى حروب عظيمة، أخذ له فيها النصارى اثني عشر مركباً، وقتلوا من المسلمين أربعة آلاف.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير الوزير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر المعروف بابن قطنة - تصغير قطنة بالنون - يوم الأحد ثاني عشرين المحرم، باشر الوزارة في سنة اثنتين وثمانمائة دون الأسبوع، وعزل، وتصرف في عدة أعمال. وكان ذا يسار وترف.
ومات الأمير تنبك شاد الشراب خاناة، في سادس عشرين صفر، فشهد السلطان جنازته، وشكر لما سافر بالحاج في سنة ثمان عشرة.
ومات قاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن معبد القدسي، المعروف بالمدني المالكي، يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الأول، وقد بلغ سبعين سنة وكان مشكور السيرة في ولايته، بالعفة مع قلة العلم.
ومات شهاب الدين أحمد الصفدي ناظر المارستان وناظر الأحباس، ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن مشكور السيرة.
وماتت خوند ستيتة بنت الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق، ليلة السبت تاسع عشر ربيع الأول، فاشتد حزن زوجها الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان عليها.
ومات الشيخ فتح الدين أبو الفتح ابن الشيخ محمد بن محمد بن عبد الدايم الباهي الحنبلي، في ليلة الجمعة خامس عشرينه، وكان من نبهاء الفضلاء في عدة فنون.
ومات الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزمي الشافعي، شيخ المدرسة الجمالية، برحبة باب العيد من القاهرة وكان يدرس في عدة علوم، من فقه ونحو وغيره.
ومات قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي، ليلة السبت سادس عشرينه، وقد تجاوز أربعين سنة، وكان مشكور الطريقة.

ومات تقي الدين أبو بكر بن عثمان بن محمد الجيتي الحموي الحنفي، قاضي العسكر، في تاسع عشرينه، وكان من فضلاء الحنفية ونحاتهم.
ومات الطواشي زين الدين مقبل الأشقتمري، رأس نوبة الجمدارية، ليلة الاثنين رابع ربيع الآخر، ودفن بمدرسته بخط التبانة، خارج باب زويلة. وكان رومياً، يحفظ القرآن الكريم، وكتاب الحاوي في الفقه على مذهب الشافعي ويجله، مع ديانة.
ومات قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن العديم، الحلبي، الحنفي، في ليلة السبت تاسعه، بعد مرض طويل، عن سبع وعشرين سنة، وكان سيئ السيرة، رديء الطريقة، كثير الهوج، أحمقاً، مائقاً، جر هو وأبوه على أهل الإسلام عاراً كبيراً.
ومات الشيخ عز الدين محمد بن شرف الدين أبي بكر ابن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة يوم الأربعاء عشرين ربيع الآخر، ومولده بمدينة ينبع في سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان قد برع في عدة علوم مع الانقطاع عن الناس وإطراح التكلف والقنع باليسير.
ومات الوزير الصاحب تقي الدين عبد الوهاب بن الصاحب فخر الدين عبد الله بن الوزير تاج الدين موسى بن علم الدين بن أبي شاكر بن تاج الدين أحمد بن الصاحب شرف الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدولة في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة.
وماتت خوند عائشة ابنة الأمير أنص، أخت الملك الظاهر برقوق، وأم الأمير الكبير بيبرس، ليلة الأحد رابع عشرين ذي القعدة، وقد بلغت الكبر.
ومات الشيخ زين الدين أبو هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبي أمامة محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم الدكالي، المعروف بابن النقاش الشافعي، خطب جامع أحمد بن طولون، في يوم عيد النحر، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، قوياً في ذات الله تعالى.
ومات الأمير قماري شاد السلاح خاناه، وأمير الركب الأول، من الحاج، في تاسع عشرين شوال، بوادي القباب، وهو متوجه إلى الحج.
وقتل محمد بن سيف بن عمر بن محمدبن بشارة، أحد شيوخ صفد، بسجنه من القاهرة، في سادس ذي الحجة، وجعل بواً محشوا، وحمل إلى صفد، وكان قد قبض عليه، وحمل إلى القاهرة.
ومات الأمير أرغون، أمير أخور في أيام الناصر فرج، وهو بالقدس، في يوم الجمعة ثالث ذي القعدة، بعدما ابتلي بالجذام، وكان ديناً خيراً.
ومات حسين بن شرف، من شيوخ البحيرة، في نصف شهر رمضان.
سنة عشرين وثمانمائةأهلت، ومتملك مصر والشام والحجاز السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير سيف الدين ألطنبغا القرمشي، وأمير سلاح سيف الدين قجقار القردمي، وأمير مجلس الأمير بيبغا المظفري، وأمير أخور تنبك ميق والدوادار الكبير الأمير جقمق، ورأس نوبه الأمير برد بك. وأمير جندار نكباي. ونائب الشام الأمير ألطنبغا العثماني، ونائب حلب الأمير أقباي، ونائب طرابلس الأمير يشبك اليوسفي، ونائب حماة الأمير حار قطلي، ونائب غزة الأمير اجترك، ونائب الكرك الأمير شاهين، وقضاة القضاة بمصر، وكاتب السر، وبقية المباشرين على حالهم كما تقدم.
شهر الله المحرم، أوله الخميس: فيه ورد الخبر بأن حديثة بن سيف أمير آل فضل لما توجه إلى مدينة الرحبة، صحبه نائبها الأمير زين الدين عمر بن شهري وطائفة من عسكر الشام، افترق عذرا وموسى ولداً على بن نعير وتسحبا، فعادت العساكر، وأقام الأمير حديثة على الرحبة، ثم نزل قريباً من تدمر، فأتاه عذراً في نحو ثلاثة آلاف فارس، فحاربهم وكسرهم.
وفي ثانيه: جلس السلطان لعرض الأجناد البطالين، فعن منهم طائفة ليسافروا صحبته إلى الشام.
وفي خامسه: علق الشاليش على الطبلخاناه بقلعة الجبل، ليتأهب العسكر للسفر. وفيه نودي أن يكون سعر الفضة المؤيدية على ما هو عليه، كل مؤيدي بثمانية دراهم فلوساً، وأن كل دينار أفرنتي بمائتين وثلاثين درهماً فلوساً، وكل مثقال ذهب مصري بمائتين وخمسين، وكل رطل فلوس بستة دراهم، وكان بخمسة ونصف، فازداد نصف درهم فلوساً، وعاد كما كان، فسر الناس بذلك، وتمشت أحوالهم، إلا أنه حصل لكثير من الناس غبن، ولآخرين فوائد، لتفاوت السعرين.

وفي سادسه: وضعت جاموسة بناحية بلقس من ضواحي القاهرة مولوداً أنثى، برأسين، وعنقين، وأربع أيدي، ورجلين اثنين، وسلسلتي ظهر، وذنب مفروق من آخره اثنين، ودبر واحد، وفرج واحد.
وفي سابعه: خلع على الأمير طغرل بن صقل سيز ورسم بسفره لجمع تراكمينه. وفيه جلس السلطان لتفرقة النفقات، فبعث إلى كل من أمراء الألوف ألفي دينار، وأعطى كل مملوك ثمانية وأربعين دينار، صرفها عشرة آلاف درهم فلوساً، فرقت فيهم فضة مؤيدية وفلوساً وذهباً منه ما زنة الدينار الواحد منه عشرة مثاقيل.
وفي عشرينه: عرضت كسوة الكعبة على السلطان، وكان قد صرف عن نظر الكسوة شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني، وكيل بيت المال، في سنة سبع عشرة، وفوض ذلك إلى علم الدين داود ناظر الجيش، المعروف بابن الكويز، ثم فوض ذلك إلى زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الخزانة السلطانية، في سنة ثمان عشرة، فاستمر فيه، وزاد في تحسين الكسوة وبهجتها. وقدم الخبر بموت الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان، صاحب درند وسيس، واختلاف أولاده.
وفي ثالث عشرينه: قدم الخبر بنزول الأمير أقباي نائب حلب إلى قطيا، في ثمان هجن، فكثرت الأقوال، وساءت الظنون به، ورسم بتلقيه، فسار الأمراء والخاصكية إلى سرياقوس، وجهز له فرس بسرج ذهب، وكنبوش ذهب، وكاملية بفرو سمور، فقدم من الغد يوم السبت رابع عشرينه، فلامه السلطان وعنفه على حضوره على هذا الوجه، فاعتذر، واستغفر الله، ثم أمر السلطان باستقراره في نيابة الشام، واستقر عوضه في نيابة حلب الأمير قجقار القردمي أمير سلاح، وأنعم بإقطاع قجقار القردمي على الأمير بيبغا المظفري أمير مجلس، وجهز أقبغا المؤيدي أمير أخور إلى دمشق، للقبض على الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، وإيداعه القلعة، والحوطة على موجوده.
وفيه نودي للبطالين أن كلاً منهم يخدم عند الأمراء أو عند السلطان، ومن امتنع لا يلومن إلا نفسه. وفيه قدم الركب الأول من الحاج، مع أميرهم صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ناظر الخاص. وفيه نصبت المدورة السلطانية، برسم السفر خارج القاهرة. وفيه قبض على جماعة من البطالين الذين تركوا الخدمة، وتسببوا في البيع والشراء في الأسواق، واعتقلوا.
وفي خامس عشرينه: قدم الحاج ببقيتهم مع الأمير أزدمر شايا، وقد قاسوا شدة من موت الجمال، وغلاء الأسعار معهم.
وفي سادس عشرينه: توجه السلطان من قلعة الجبل، ونزل بمخيمه ظاهر القاهرة، تجاه مسجد تبر. وفيه خلع على شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي بحسبة القاهرة، وعزل عنها الأمير منكلي بغا الحاجب، وقدم من دمشق بخيمات مبيتين ومدورتين ومطبخين، وبيوتات، بلغت النفقة عليهم عشرة آلاف دينار.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أقباي نائب الشام خلعة السفر، وسار جريدة على الخيل، وخلع على الأمير طوغان أمير أخور، واستقر نائب الغيبة وعلى الأمير أزدمر شايا بنيابة القلعة، وعلى الأمير قجقار القردمي نائب حلب خلعة السفر وسار وتقدم الشاليش صحبة الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان ومعه عدة من الأمراء.
شهر صفر، أوله السبت: في رابعه: استقر بالمسير من ظاهر القاهرة ببقية العساكر يريد الشام، ومعه الخليفة وقضاة القضاة ومعه من القصاد الواردين في السنة الخالية قاصد قرا يوسف، وقاصد سليمان بن عثمان، وقاصد بير عمر صاحب أرزنكان، وقاصد ابن رمضان، وتأخر بالقاهرة الأمير فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، وخلع عليهما بمنزلة العكرشة فيه، فعين الأمير طوغان نائب العيبة من أجناد الحلقة - بعد عرضهم - مائتين يكونون مع الأمير فخر الدين.

وفي سابع عشره: سار الأمير فخر الدين باتباعه وأجناد الحلقة المذكورين إلى الوجه البحري، لتحصيل المال، وقد كثر بالقاهرة طرح البضائع على التجار والباعة، فغرم الناس فيها أموالاً جمة، وداخل الخوف كثيراً من الناس أن يوقع بهم الأمير فخر الدين، فإنه ألزم طائفة من الكتاب بالدواوين بمال، ومضى في مسيره هذا إلى المحلة ودمياط، وجبى جميع تلك الأعمال البحرية بفريضة ذهب، يقرره على كل قرية من قرى ديوان السلطان، وقوي الأمراء والأجناد لم يترك بلداً من بلدان الوجه البحري حتى أخذ منه ما قرره على أهله، فكان لا يأخذ إلا الذهب فقط، فتحسن سعر الذهب لكثرة طلبه، وبلغ الدينار المصري مائتين وستين، بعد مائتين وثلاثين، وتتبع مع ذلك كل من يشار إليه بغنى أو مال، فأخذ مالاً كثيراً من مصادرات الناس، سوى ما ساق من الخيل والجمال وغيرها، فأنزل بالإقليم من الخلل ما يخاف عواقبه.
وفي هذا الشهر: كثر فساد العربان ببلاد الجيزة وكورة البهنسي. وفيه هدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الدور التي بالأحكار فيما بين طهر المقس إلى قنطرة الموسكي ليعمل مكانها بستاناً، فأتى الهدم على ما لا يدخل تحت حصر من الدور والرباع والمساجد والأسواق، وغير ذلك مما يكون قدر مدينة من مدن الشام.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في هذا الشهر: كثر ضرر المفسدين بالوجه القبلي والوجه البحري، وثقلت وطأة الأمير فخر الدين بن أبي الفرج على أهل النواحي البحرية، وعظم البلاء بالوجه القبلي، من جور الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين. وفيه هدمت الدور التي فوق البرج المجاور لباب الفتوح من القاهرة، رسم أن يعمل سجناً لأرباب الجرائم، عوضاً عن خزانة شمايل.
وفيه كثرت حركة الإرجاف بحركة الفرنج، فحفر خندق الإسكندرية، واستعد أهلها.
وفي حادي عشره: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني من الوجه البحري، ونزل بداره التي شرع في عمارتها، وتعرف ببيت بهادر الأعسر، وكانت تعرف قديماً بدار الذهب.
وفي خامس عشره: قدم الخبر بدخول السلطان إلى دمشق في أول الشهر، وأن الأمير أق بردى المنقار مات، وأنعم بإقطاعه على الأمير سودن القاضي، بعد ما عفي عنه، وأخرج من سجنه بدمشق.
وفي سادس عشره: سار الأمير الوزير المشير فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار بجمع موفور إلى جهة الصعيد، ومعه القرب والروايا، ليتبع العربان في البرية، حيث ساروا، فإنه كثر عبثهم وفسادهم.
وفي عشرينه: دخل السلطان مدينة حلب.
وفي سادس عشرينه: مات الأمير فرج بن السلطان الملك الناصر فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق، بثغر الإسكندرية، وقد ناهز الاحتلام فكان في هذا عبرة لمن يعتبر، فإن أباه الناصر فرج أخرج أخويه - عبد العزيز وإبراهيم - إلى الإسكندرية لما توجه إلى الشام، فماتا بها، واتهم أنه سمهما، ففعل الله كذلك بأولاده، وأخرجهم المؤيد شيخ عند مسيره إلى الشام، وسجنهم بالإسكندرية، فمات فرج - أكبرهم - في هذا اليوم، وبموته يثورون، ويقيمونه في السلطة، ولا يزالون يتربصون الدوائر لأجل ذلك، فبطل ما كانوا يعملون.
وفي هذا الشهر: كثر الموت بدمياط والإسكندرية وما حولهما، وكان منه بالقاهرة شيء بلغ في اليوم عدة من يموت نحو الأربعين، وكل ذلك بالطاعون. وفيه واقع الأمير فخر الدين العرب بناحية القلندون من الأشمونين، وهزمهم.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: فيه قدم قاصد السلطان يبشر بقدومه حلب. وأهل هذا الشهر، وفي جميع أرض مصر - أعلاها الذي يقال له بلاد الصعيد، وأسفلها الذي يعرف بالوجه البحري، وحاضرتها، وفي القاهرة ومصر - من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم، ولا حكايته بقول، من كثرته وشناعته، فجملته أن الحكام بالقاهرة وأعمالها ما بين محتسب، ووال، وحجاب، وقضاة، ونائب الغيبة، والأمير فخر الدين الأستادار، فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن فيه الناس في البيع يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهى عنها، ويؤديان منه من استداناه من المال الذي دفع رشوة عند ولاياتهما، ويؤخران منه بقيه لمهاداة أتباع السلطان، ليكونوا عوناً لهما في بقائهما.

وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم، مع ما يأتون - هم وكتابهم وأعوانهم - من المنكرات بما لم يسمع بمثله فيما سلف، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم، ولا يغرم أحد منهم شيئاً للسلطنة، بل يتوفر عليهم فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق، ويحسبون أنهم على شيء، بل يصرحون بأنهم أهل الله وخاصته، افتراء على الله سبحانه.
وأما والي القاهرة، ووالي مصر، وغيرهما من سائر ولاة النواحي، فإن جميع ما يسرق من الناس يأخذونه من السراق، إذا ظفروا به، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه، فإن لم تكن السرقة معه ألزموه مالاً، ويتركوه لسبيله، وقد تيقن أنه متى عثر عليه صانع عن نفسه، وتخلص.
وصار كل من يقطع من السراق يده، إنما يقطع لأحد أمرين، إما لقوة جاه المسروق منه، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال، ويزيد ولاة البر على والي مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنماً أو إبلاً أو رقيقاً، من الفلاحين أو العربان وغيرهم، فإذا صار أحد من ذكرنا في أيديهم، قتلوه واستهلكوا ماله، ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ الأموال من الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعها، حتى أنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين، فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير، بقدر جرمه، بحيث تبلغ الغرامة آلافا كثيرة. وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين، إما للسلطة مصانعة عن إقامتهم في ولاياتهم، أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر الموبقات، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك، ويتلفونه إسرافاً وبدار في سبيل الفساد، ويتعرض الولاة لمقدميهم، ويأخذون منهم المال حيناً بعد حين.
وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل شاك إليهم، ومشكو عليه، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له رأس نوبة، يضمن له في كل يوم قدراً معلوماً من المال، يقوم له به، ومن هذا المال المضمون يقيم أوده، فيقسط رأس نوبة على النقباء الذين تحت يده ما ضمنه للحاجب، وما لا بد له من صرفه على عياله، ومؤنة فرسه، وأجرة سايسها، وما اعتاده من المحرمات التي لا يتركونها ما وجدوا إليها سبيلاً وما يرصده ويدخره عنده عدة له في وقت مكروه ينزل به من عزله، أو مصادرة الحاجب له، أو غير ذلك من العوارض، فيتناول من كل واحد من النقباء شيئاً مقرراً عليه عند مضيه في طلب غريم، يقال له الإطلاق، فإذا حضر الغريم فتح عليه رأس نوبة أبواباً من أنواع مكرهم الذي تفقهوا فيه، فيحتاج إلى بذل المال له، ولدوادار الحاجب، وللحاجب، بحسب ما يقتضيه رأيهم. فربما بلغ الغرم في الشكوى الآلاف من الدراهم، فإنهم يسلسلون قضايا ظلمهم حتى يستمر المشكو في الترسيم الأيام والأشهر، وجميع ما يتحصل الحجاب من هذه الوجه، فإنهم يصرفونه فيما لا تجيزه أمة من الأمم من أنواع قبائح المحرمات، ولا يكلفون حمل شيء منه إلى السلطان. وأما نائحاً الغيبة فسبيل بابه سبيل أبواب الحجاب فيما تقدم ذكره.
وأما الأستادار فإنه أمدهم باعاً، وأقواهم في الظلم ذراعاً، وأنفذهم في ضرر الناس أمراً، وأشنعهم في الفساد ذكراً، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري، ففرض على جميع القرى فرائض ذهب، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن آخرهم، ولم يعف عن أحد منهم البتة، فما وصلت إليه مائة دينار إلا وأخذ أعوانه مائة دينار أخرى، ثم تتبع أرباب الأموال مصادرهم، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالاً كثيراً ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها، فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم، وأكثر ما تبلغ الجيدة منهن إلى ألفي درهم، فجبى من الوجه البحري على اسم الجاموس مالاً جماً، ثم أنه ألزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهم المؤيدي إلا من حساب سبعة دراهم ونصف، وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم، وألزمهم أيضاً ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهماً القنطار، وهو إلى الناس بستمائة درهم.

فإذا أمر بصرف الفلوس على أحد حسب عليه بستمائة درهم القنطار، وربما كان هذا الذي حسبت عليه بستمائة قد أخذت منه أمس بخمسمائة وخمسين، وألزمهم أيضاً أن لا يقبضوا الذهب الأفرنتي إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار، وهو معدود على الناس بمائتين وستين، وإذا صرف لأحد ذهباً يحسبه عليه بمائتين وستين، فلا يورد أحد لديوان السلطان ألف درهم إلا ويحتاج إلى غرامة مثلها، أو قريب منها، ثم إنه كل قليل يلزم صيارفته، ومقدميه، وشادي أعماله، ومباشريها، وولاتها، بمال يقرره عليهم، في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس، ثم تقرر في أعمالهم حتى يعلم أنهم قد جمعوا شيئاً آخر، أعاد عليهم المصادرة، فما من مرة إلا وهم يبالغون في ظلم الناس، حتى يفضل لهم بعد المصادرة شيء هذا وهم يبالغون في الترف، ويتلفون المال الكثير في أنواع السرف في المحرمات، ثم أنه لما عاد من الوجه البحري وسار إلى بلاد الصعيد أوقع بلهانه على الأشمونين، وكسرهم، وساق من الأغنام والأبقار والجمال والخيل شيئاً كثيراً فرقه على أهل الوجه البحري بأغلى الأثمان، وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري ومع ذلك فقد شمل باعة مصر والقاهرة رماية البضائع عليهم، من السكر والعسل والصابون والقمح وغير ذلك، فإنه اشترى من الإسكندرية وغيرها بضائع كثيرة، ثم طرحها على الباعة بأغلى الأثمان فلا يصير إليه درهم حتى يغرم لأعوانه نظيره، وله نوع آخر من الظلم وهو أنه أخذ دار بهادر الأعسر بخط بين السورين - فيما بين باب الخوخة وباب سعادة - وشرع في عمارتها، وعمارة ما حولها، وما تجاهها من بر الخليج الغربي، فأخذ من الناس آلات العمارة بغير ثمن، أو بأقل شيء، وتفنن أعوانه في ظلم من يستدعيه بهم إلى هذه العمارة حمل صنف من الأصناف، أو عمل شيء من أنواع العمارة حتى يغرموه لأنفسهم مالاً آخر، هذا وجميع ما يتحصل من وجوه الأموال التي تقدم ذكرها فإنه يحمل إلى السلطان وأعوانه، وينفق في سبيل الشهوات المحرمة. وقد اختل إقليم مصر في هذه السني خللاً شنيعاً، يظهر أثره في القابلة.
ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين من التجار وغيرهم شيء، عظيم قبحه، شنيع وصفه. والسلطان بعسكره في البلاد الشامية يجول وقد قال الله سبحانه وتعالى: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون " .
ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش بدمياط والغربية والإسكندرية، والإرجاف بالإفرنج متزايد، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم، وقد استعدوا لذلك، ولله عاقبة الأمور.
وفي سابع عشره: سقط من العمال بالعمارة السلطانية بجوار باب زويلة عشرة، مات منهم أربعة، وتكسر ستة.
وفي عشرينه: قدم الخبر برحيل السلطان في ثاني عشرين شهر ربيع الأول من حلب، ونزوله على العمق.
وفي خامس عشرينه: سار مفلح - رسول الناصر أحمد متملك اليمن - عائداً إلى بلاده، وصحبته الأمير بكتمر السعدي، بكتاب السلطان وهديته. وقد كثر بر مفلح هذا، وصلاته وصدقاته، وحسن الثناء عليه واحتاج من كثرة مصروفه إلى قرض مال.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: في ثانيه: أقيمت الجمعة بالجامع المؤيدي، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبلي، وخطب به عز الدين عبد السلام القدسي - أحد نواب الحكم الشافعية بالقاهرة - نيابة عن ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي كاتب السر.
وفي خامسه: نودي على النيل ثلاثة أصابع، وكانت القاعدة ستة أذرع.
وفي عاشره: سافر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله - ناظر الخاص - إلى جهة الشام، بالخزانة السلطانية.

وفي رابع عشره: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه القبلي ومعه ستة آلاف رأس من البقر، وثمانية آلاف رأس من الغنم، وألفا جمل، وألفا قنطار من القند، وعدد كثير من الإماء والعبيد، ومبلغ وافر من الذهب، وذلك أنه فرض على أهل البلاد مالاً قاموا به فمن النواحي من فرض عليها الألفي دينار. وفرض على هوارة خمسة وعشرين ألف دينار، عوضوه عن أكثرها أصنافاً فما هو إلا أن قدم أخذ يطرح الأبقار وغيرها على نواحي بلاد الجيزة وسائر الوجه البحري، وعلى دواليب الناس بالقاهرة من البساتين والمعاصر، بأغلى الأثمان، وبث أعوانه في طرح ذلك وجباية ثمنه، فأذاقوا الناس أنواع المكاره، ونظر في الرقيق الذي أحضره - وفيه من بنات أهل الصعيد عدة قد استرقهن بعد الحرية - ففرق من خيارهن طائفة على الأعيان، وطئوهن - على زعمهم - بملك اليمين، واختار لنفسه طائفة، وباع باقيهن مع ما جلبه من العبيد، فشملت مضرته عامة أهل مصر، من أعلى الصعيد إلى أسفل مصر، وصادر مع هذا عدة من أعيان الصعيد، فاختل الإقليم بهذا من فعله خللاً فاضحاً.
وفي تاسعه: نودي أن يكون سعر الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين فنقص ثلاثين، وأن يكون الدينار الهرجة بمائتين وخمسين فنقص ثلاثين أيضاً، وأن لا يتعامل بالدينار الناصري وإنما يقص، وكان قد بلغ إلى مائتين وعشرين، فوقفت أحوال الناس، وكسدت الأسواق وذلك أن القصد جباية ممن ما طرح من البضائع بنوع آخر من التجسر.
هذا والنيل ينادي عليه كل يوم إصبع، من سادس عشره إلى ثالث عشرينه، فارتفع سعر القمح من مائة وثمانين الأردب إلى مائتي درهم، فلما كان يوم السبت رابع عشرينه لم يناد عليه، فقلق الناس، وطلبوا القمح، وساءت ظنونهم، وأصبح الناس يوم الأحد وقد نقص ستة أصابع، ثم زاد سبعة أصابع، فرد النقص، وزاد إصبعاً نودي به في يوم الاثنين سادس عشرينه واستمرت الزيادة في كل يوم، فانحل سعر القمح.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: في ثامن عشره: وقع الشروع في بناء برجين بجانبي باب السلسلة، أحد أبواب قلعة الجبل.
وفي حادي عشرينه: عزل ابن يعقوب عن حسبة القاهرة، واستقر فيها عماد الدين ابن بدر الدين بن الرشيد، وكان ينوب في الحسبة عن التاج وغيره، وناب أبوه في حسبة مصر أكثر من أربعين سنة متوالية، وخلع الأمير طوغان نائب الغيبة.
وفي رابع عشرينه: - الموافي له سادس عشرين مسرى - وفي النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج على العادة، واستمرت زيادة النيل في كل يوم بقية الشهر.
وأما السلطان فإنه رحل من العكرشة في رابع صفر، فلما نزل سبخة بردويل - في ثاني عشره - قدم ناصر الدين بن خطاب الحاجب بدمشق، وعلى يده سيف الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، وقد قبض عليه وسجن بقلعة دمشق، وكان من خبره أن كتب قبل ذلك إلى الأمير شاهين الحاجب الكبير بدمشق بالقبض على المذكور وسجنه، فوافاه الكتاب والنائب قد توجه من دمشق، وهو بنابلس، فلما بلغه الخبر بادر بالتوجه إلى دمشق، فلقيه شاهين بعسكر دمشق، قريباً من الخربة، وقرأ عليه كتاب السلطان، فأذعن وحل سيفه بيده، وتوجه صحبة العسكر إلى دمشق حتى تسلمه نائب القلعة، فسار السلطان، ونزل غزة في يوم السبت خامس عشره على مصطبة، استجدها بظاهر المدينة، ضرب مخيمه عليها، ونودي بالأمان والاطمئنان، فقدم الأمير غرس الدين خليل الجشاري نائب صفد، والأمير بدر الدين حسن بن بشارة مقدم البلاد الصفدية بغزة، ثم ما زال يسير، وأمراء العربان ومشايخ البلاد والمقدمين يردون عليه إلى أن وصل إلى برج الكثيبة في يوم الخميس سابع عشرينه، فقدم عليه قصاد الأمير علي باك بن دلغادر، وكردي باك بن كندر، والأمير طغريل بن صقلسيز بمكاتباتهم يسألون الصفح والعفو عنهم، ويعدون بحضورهم إلى الطاعة، فأجيبوا بأنهم أن صدقوا وداسوا البساط، وإلا فليتخذ كل منهم نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، ثم قدم من الغد الأمير أقباي نائب الشام بعسكر دمشق، لملاقاة السلطان، وقدم سيف الأمير آق بردى أحد الأمراء المقدمين الألوف بالديار المصرية، وقد مات في ليلة الخميس المذكور بدمشق.

وفي يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول: حل السلطان بمنزلة برزة بالموكب السلطاني، وولده الأمير صارم الدين إبراهيم حامل القبة على رأسه، من قرب ميدان الحصى خارج دمشق من جهة مصر إلى المصطبة المستجدة بمنزلة برزة خارج دمشق من جهة حلب، فكان يوم مشهوداً، مر السلطان من تحت القلعة، ولم ينزلها، بل مضى حتى أناخ ببرزة.
وفي ثالثه: أفرج عن الأمير سودن القاضي من سجنه بقلعة دمشق، وأركب فرساً بسرج ذهب وكنبوش ذهب.
وفي ليلة الجمعة رابعه: عمل السلطان المولد النبوي بالمصطبة ظاهر برزة، وحضره القضاة والأمراء والخاصكية والقراء، فكانت من الليالي المشهودة المذكورة، وأنعم على السادة القراء بالخلع والمال.
وفي ثامنه: توجه الخواجا زين الدين ولى تاجر الخاص إلى الأمير محمد بن قرمان، رسولاً بكتاب السلطان.
وفي تاسعه: قدم الأمير يشبك نائب طرابلس، وقد نزل السلطان قريباً من حسيا.
وفي عاشره: نزل السلطان حمص، فقدم نائب طرابلس المذكور تقدمته، وفيه قدم الأمير جار قطلو نائب حماة، فأعيد من ساعته إليها لعمل المهم، وسار السلطان إلى حماة، فقدم عليه بها الأمير حديثة بن سيف، أمير آل فضل وقدم غنام بن زامل، كبير عرب آل موسى، فكانت بينهما مشاجرة بسبب قتل سالم بن طويب من آل أحمد، فسكن السلطان ما بينهما، وعرضت عليه تقادم نائب طرابلس، وأمير آل موسى، ونائب حمص، وقدم قصاد الأمير إبراهيم بن رمضان، وقصاد أولاد بن أوزر، وهم يسألون العفو فكان يوماً مشهوداً، ثم سار السلطان وخيم في ليلة الثلاثاء سابع عشرة بمنزلة تل السلطان، وبها من تقدم من العساكر في الجاليش.
وقد رسم لهم أن لا يبرحوا منها حتى يقدم السلطان، فبات السلطان، وأصبح يوم الثلاثاء وقد ضرب له صيوان على التل المذكور، وجلس في أبهة ملكه. ونودي في العساكر أن تتقدم للعرض بعددها وأسلحتها، فعرضت بين يديه. وفيه ورد الخبر بوصول جميع التراكمين من الأوجقية وغيرهم.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: رحل السلطان إلى منزلة قنسرين فقدم بها الأمير قجقار القردمي نائب حلب بعسكرها، وقدم أيضاً الأمير طغريل بن صقلسيز في ألف وخمسمائة فارس.
وفي يوم الجمعة: انتقل السلطان إلى منزلة الوضيحي.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: ركب السلطان عند انشقاق الفجر، وشرع في صف الأطلاب وتعبئة العساكر بنفسه، فانتشرت يميناً وشمالاً إلى أن طبقت الأرض، ثم سار إلى حلب، ومر من ظاهرها، ودخل منها نائب الشام، ونائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب صفد، وعدة من العربان والتركمان، وخرجوا من الباب الآخر، ونزل السلطان بالمصطبة الظاهرية في مخيماته، وترقب عود الرسل المتوجهة إلى الأطراف، فقدم في ثاني عشرينه خليل بن بلال نائب مدينة أياس، وكان قد ولي نيابتها في عاشر شوال سنة ست عشرة وثمانمائة ومعه مفاتيح قلعتها، فخلع عليه.

وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: جلس السلطان بالميدان، وحضر نواب الشام وأمراء مصر، ومن قدم من التركمان والعربان والأكراد، وعين السلطان الأمير أقباي نائب الشام والأمير جار قطلو نائب حماة وعسكر دمشق وحماة ومعهم خمسمائة ماش من التركمان الأوشرية والأينالية، وفرقة من البوصجاوية وفرقة من عرب آل موسى، المتوجة إلى ملطية وإخراج حسين بن كبك منها وإلى كختا وكركر. وخلع علي داود بن أوزر، وجمائعه، وسوغهم مالاً جزيلاً وأسلحة، وأعادهم إلى بيوتهم بالعمق، وولي الأمير سيف الدين صاروجا مهمندار حلب نيابة أياس، عوضاً عن خليل بن بلال، وقدم الجاليش بين يديه، وفيه الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي أتابك العساكر، والأمير يشبك اليوسفي نائب طرابلس، والأمير غرس الدين خليل الجشاري التوريزي نائب صفد، في عدة من أمراء مصر، فساروا إلى العمق، وركب السلطان إلى قلعة حلب، وأقام بها، ثم رحل السلطان بكرة يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر إلى جهة العمق على درب الأثارب، فقدم بالمنزلة المذكورة قصاد الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، وفيهم القاضي مصلح الدين مرتيل - قاضي عسكره - بهدية، وكتاب يتضمن أنه ضرب السكة المؤيدية، ودعا للسلطان في الخطة، وبعث من جملة الهدية طبقاً فيه دراهم بالصكة المؤيدية، فعنف السلطان رسوله ووبخه، وعدد له خطأ مرسله في تقصيره في الخدمة، لما وصل السلطان والعسكر إلى قيسارية، ومنها إهماله القبض على كزل ومن معه من المستحبين، ومنها عدم تجهيزه مفاتيح طرسوس، لما استولى عليها، فاعتذر مصلح الدين، وسأل الصفح، فقال السلطان له: إنما سرت وتكلفت هذه الكلفة العظيمة لأجل طرسوس لا غير، ثم فرق الدراهم وغيرها على الحاضرين، وأمر مصلح الدين، فجلس وأنسه وقدم كتاب الأمير سلمان بن أبي يزيد ابن عثمان، صاحب برصا، ثم قدم الأمير صارم الدين إبراهيم بن رمضان، وابن عمه حمزة بن أحمد بن رمضان، وسائر أمراء التركمان الأوحقية، في جمع كبير، ومعهم أم إبراهيم المذكور، وأولاده الصغار في خمسمائة من أمرائه وأقاربه وألزامه، فقام السلطان لها، وخلع على إبراهيم وعلى أخيه، وأركبهما بالسروج الذهب والكنابيش الذهب.
وفي يوم السبت سابعه: عمل السلطان الموكب بالعمق، وحلف التركمان على الطاعة، وأنفي فيهم، وخلع عليهم نحواً من مائتي خلعة، وألبس إبراهيم بن رمضان الكلوتة، وأنعم عليه، وعلى جماعته، فقبلوا الأرض بأجمعهم، وضجوا بالدعاء، فكان وقتاً عظيماً، ثم تقرر الحال على أن الأمير قجقار نائب حلب يتوجه بمن معه إلى مدينة طرسوس، ويسير السلطان على جهة مرعش إلى الأبلستين، ويتوجه مصلح الدين إلى ابن قرمان بجوابه، ويعود في مستهل جمادى الأولى بتسليم طرسوس، فإن لم يحضر مشى السلطان إلى بلاد ابن قرمان، فسار مصلح الدين صحبة نائب حلب إلى طرسوس، وسار السلطان يريد الأبلستين، فنزل النهر الأبيض في حادي عشره، وقدم كتاب نائب حلب أنه لما نزل بغراص قدم إليه خليفة الأرمن بسيس - المسمى كريكون - وأكابر الأرمن، وعلى يدهم مفاتيح قلعتي سيس وناورزا، وأنه جهزهم، فحضروا بالمفاتيح، فولى السلطان نيابة القلعة الشيخ أحمد أحد أمراء العشرات بحلب، وخلع عليه وعلى الأرمن، وأعادهم إلى القلعة المذكورة.

وفي ثاني عشره: نزل السلطان بمنزلة كونيك، فقدم كتاب نائب الشام بأن حسين ابن كبك أحرق ملطية في خامس شهر ربيع الآخر، فشاهد أسواقها ودار السعادة بها قد عمهم الحريق، وأنه لم يتأخر بها إلا الضعيف والعاجز، وأن فلاحي بلادها نزحوا بأجمعهم، وأن ابن كبك قد نزل عند كوركي، فإنه سار من ملطية في إثره، فندب عند ذلك السلطان - وهو بكونيك - ولده الأمير صارم الدين إبراهيم للمسير، ووجهه في يوم الأحد ثالث عشره، ومعه الأمير جقمق الدوادار، وجماعة من الأمراء، لكبس الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، فساروا مجدين، وأصبحوا بالأبلستين، وقد فر ابن دلغادر منها، وأخلى البلاد من سكانها، فجدوا في السير ليلاً ونهاراً، إلى أن نزلوا بمكان يقال له كل دلى في يوم الثلاثاء خامس عشره، فأوقعوا بمن هناك من التركمان، وأخذوا بيولهم، وأحرقوها. ومضوا إلى خان السلطان فأوقعوا بمن هناك أيضاً، وأحرقوا بيوتهم، وأخذوا من الدواب شيئاً كثيراً، وصاروا إلى موضع يقال له صاروش، فحرفوا بيوت من فيه من التركمان، وأخذوا ما عندهم، وباتوا هناك، وتوجهوا بكرة يوم الأربعاء سادس، عشره، فأدركوا محمد بن دلغادر وهو سائر بأثقاله وحريمه، فتبعوه، وأخذوا أثقاله، وأثاثه، وجميع ما كان معه، وخلص على جرائد الخيل ووقع في قبضتهم عدة من أصحابه، ثم عادوا إلى السلطان بالغنائم ومن جملتها مائة بسرك - يعني بختي - كالأفيلة، وخمسمائة حمل من اللوكات - جمال الأثقال - ومائتي فرس، وأما ما أخذ من الأقمشة الحرير والفرو والأواني ما بين فضيات وغيرها، فشيء لا يكاد ينحصر.

ومازال السلطان يتنقل في مراعي الأبلستين، فقدم الأمير أقباي نائب الشام، بعد أن سار في إثر حسين بن كبك إلى أن بلغه أنه دخل بلاد الروم، وبعد أن قرر أمر ملطية بعود أهلها إليها، وبعد أن جهز الأمير جار قطلو نائب حماة، ومعه عدة من الأمراء، ونائب البيرة، ونائب قلعة الروم، ونائب عين تاب، ونائب كختا وكركر إلى جهة كختا وكركر فنازلوا القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها وتحصن بقلعتها، فبعث السلطان إليهم نجدة فيها ألف ومائتي ماش وعدة من آلات الحصار، وقدم كتاب محمد بن دلغادر وهو يسأل العفو، وأنه يسلم قلعة درندة، فأجيب إلى ذلك، وكان الأمير قجقار نائب حلب لما توجه إلى طرسوس، قدم بين يديه إليها الأمير شاهين الأيدكاري متولي نيابة السلطة بها، وقد بعث ابن قرمان نجدة إلى نائبه بطرسوس الأمير مقبل، فلما بلغ مقبل مسير عساكر السلطان إليه، رحل من طرسوس وبعث إلى شاهين الأيدكاري يخبره برحيله، فدخل شاهين طرسوس وقد امتنع مقبل بقلعتها، فنزل الأمير قجقار والأمير شاهين عليها، وكتب إلى السلطان بذلك، فورد كتابه في سادس عشرينه إلى الأبلستين، فدقت البشائر لذلك، وبعث السلطان الأمير سيف الدين أينال الأزعري - أحد مقدمي الألوف بديار مصر - إلى درندة ليحمل من معاملتها الميرة، فأحضر شيئاً كثيراً من العلوفات ونحوها، بحيث أبيعت العليقة الشعير بنصف درهم بمعاملة درندة. واستمر الأمير قجقار والأمير شاهين على حصار قلعة طرسوس، إلى أن أخذت بالأمان في يوم الجمعة ثامن عشره، وأخذ مقبل ومن معه وسجنوا، وكتب بذلك إلى السلطان، فقدم الكتاب في عشية يوم الأحد سابع عشرينه فانتقل السلطان إلى منزلة سلطان قرشي، فقدم قاصد الأمير على باك بن دلغادر بهديته وكتابه، وقدم كتاب الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر مع ولده، وصحبته كواهي، ومفاتيح قلعة درندة، فأضاف السلطان نيابة الأبلستين إلى على باك بن دلغادر مع ما بيده من نيابة مرعش، وجهز له التشريف. ثم ركب السلطان في ثامن عشرينه ليرى درندة، وسار جرائد الخيل ونازلها، وبات عليها، وأصبح فرتب الأمير أقباي نائب الشام في إقامته عليها، واستدعى من المخيمات بالزردخاناه والعتالين والنقابين والصناع، وألزمهم بأخذها، وعادوا إلى المخيم، فوصل في تلك الليلة مفاتيح قلعة خندروس، من مضافات درندة، وقدم الخبر باستقرار على باك بن دلغادر في الأبلستين على يد ولده حمزة، ومعه هدية، وقدم الخبر بأن الأمير أسنبك بن أينال واقع عسكر الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، وأخذ منهم جميع ما معهم، وأنه قطعت يد ولده الكبير في الوقعة، فسر السلطان بذلك، وركب إلى درندة وبات على سطح العقبة المطلة عليها، فلما أصبح، ركب بعساكره، وعليهم السلاح، ونزل بمخيماته على القلعة وهي في شدة من قوة الحصار، فلما رأى من فيها السلطان قد نزل عليهم طلبوا الأمان فأمنهم ونزلوا بكرة الجمعة سلخه، وفيهم داود بن الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، فألبسه السلطان تشريفاً، وأركبه فرساً بقماش ذهب، وخلع على جماعته، واستولى السلطان على القلعة، وكتب بالبشارة إلى البلاد، وخلع على الأمير ألطنبغا الحكمي أحد رءوس النوب، واستقر في نيابة درندة، وأنعم عليه بأربعة ألاف دينار سوى السلاح، وخلع على الأمير منكلي بغا الأرغون شاوي - أحد الأمراء الطبلخاناه بالديار المصرية - واستقر به في نيابة ملطية ودوركي، وأنعم عليه بخمسة آلاف دينار، وصعد السلطان من الغد إلى قلعة درندة، وأحاط بها علماً، ثم رحل، فورد كتاب ناصر الدين محمد بن شهري يتضمن أنه جهز في يوم الأربعاء سابع جمادى الأولى عشرة أنفس، ليسرقوا قلعة كرت برت من أصحاب محمد بن دلغادر، وأردفهم بعسكر، فقاتلوا من بالقلعة في يوم الخميس غده، حتى غلبوهم، وأخذوا القلعة، وجهز من أهلها أحد عشر رجلاً، فصلبوا على قلعة درندة.

ولما قضى السلطان الغرض من أمر درندة وطرسوس وأياس، وجعل أمر الأبلستين إلى علي باك بن دلغادر، وأمر مرعش إلى ولده حمزة، ارتحل بالعسكر ونزل على النهر من غربي الأبلستين بنحو مرحلة، ليتوطد له أمر ملطية ونائب درندة، وتكمل رجوع أهل البلدين إليهما، فأقام أربعة أيام، ثم عاد ونزل الأبلستين، يريد بهسنى وكختا وكركر، وأعاد من هناك حمزة بن علي باك دلغادر إلى أبيه، وجهز دنكز رسول قرا يوسف وصحبته رسول على يده جوابه وهدية، وكان قد سار الأمير أقباي نائب الشام إلى بهسنى فرحل السلطان في أثره، فقدم الخبر من الأمير أقباي نائب الشام بأنه كتب إلى الأمير طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر، المقيم بقلعة بهسنى يرغبه في الطاعة، ويدعوه إلى الحضور، فاعتذر عن حضوره بخوفه على نفسه، مما زال به حتى سلم القلعة، وحضر إليه.
فلما كان في سادس عشرين جمادى الآخرة: قدم الأمير أقباي، ومعه الأمير طغرق - وقد قارب السلطان في مسيره حصن منصور - فخلع على طغرق ومن معه، وأنعم عليهم بمال والكساوى، وأنزل بخام ضرب له، ونزل السلطان بحصن منصور، فقدم الخبر بنزول الأمير قجقار نائب حلب على كركر وكختا وقدم أيضاً قاصد قرا يلك بهدية، فخلع عليه، وقدم رسول الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا بهدية، فلما كان الغد رحل السلطان ونزل شمالي حصن منصور، قريباً من كركر وكختا، وأردف نائب حلب بالأمير حار قطلو نائب حماة، وجماعة من أمراء مصر والشام، وبعث يشبك اليوسفي نائب طرابلس لمنازلة كختا.
وفيه خلع على الأمير منكلي خجا السيفي أرغون شاه بنيابة قلعة الروم، عوضاً عن الأمير أبي بكر بن بهادر البابيري الجعيري، وخلع على الأمير كمشبغا الركني رأس نوبة جمال الدين الأستادار - كان - بنيابة بهسنى، عوضاً عن الأمير طغرق بن دلغادر. وقدم جواب قرايوسف صحبة القاضي حميد الدين قاضي عسكره، وكتاب محمد شاه بن قرايوسف وكتاب بير عمر حاكم أرزنكان وهدية جليلة من قرايوسف، فانزل حميد الدين وأجرى عليه ما يليق به.
ثم رحل السلطان ونازل كختا وحصر قلعتها، وقد نزح أهل كختا ومعامليها عنها، فنصب للرمي على القلعة مدفعا زنة حجره ستمائة رطل بالمصري، وعدة مدافع دون ذلك، فبينما هو في حصارها، إذ ورد الخبر بقرب قرايوسف وأنه يقصد قرايلك. فبادر قرايلك وجهز ابنه الأمير حمزة العشاري صحبة نائبه الأمير شمس الدين أمير حمزة بهدية، من خيل وشعير، ويسأل الاعتناء به، فأكرم السلطان ولده ونائبه وأنزلهما.
وقدم أيضاً قاصد طور على نائب الرها وقاصد الأمير ناصر الدين محمد بن شهري نائب دوركي، وقاصد بيرعمر حاكم أرزنكان، بكتابه أنه مشى يريد قرا يلك، معه عشرون ألف فارس لأخذه. وقدم أيضاً قاصد الأمير محمد بن دولات شاه الحاكم بأكل من ديار بكر، ومعه مفاتيح قلعتها، فأعيدت إليه المفاتيح، ومعها تشريف أطلسين. فلما اشتد الحصار على قلعة كختا، وفرع النقابون من النقب، ولم يبق إلا إلقاء النار فيها، طلب قرقماس شمس الدين أمير زاه فبعثه السلطان إليه، فجرت أمور آلت إلى أنه بعث ولده رهناً، وأنه بعد رحيل السلطان عنه ينزل، فرحل السلطان إلى جهة كركر، وأقام الأمير جقمق على كختا وسارت الأثقال إلى عين تاب، فنازل السلطان قلعة كركر، ونصب عليها منجنيقا يرمي بحجر زنته ما بين الستين والسبعين رطلاً بالدمشقي، وذلك في يوم الجمعة تاسع عشرينه.
؟؟شهر رجب، أوله السبت:

فيه قدم الخبر من الأمير جقمق بنزول الأمير قرقماس من قلعة كختا، ومعه حريمه، فتسلمها نواب السلطان، وأنه توجه ومعه قرقماس إلى حلب، وقدم الخبر من الأمير منكلي بغا نائب ملطية بأن طائفة من عسكر قرايوسف نزلوا تحت قلعة منشار ونهبوا بيوت الأكراد، وعدى الفرات منها نحو ثلاثمائة فارس، وأنه ركب عليهم وكسرهم، وقتل منهم نحو العشرين، وغرق بالفرات نحو ذلك، وأسر اثني عشر نفراً، وأنهم ساروا وفيه خلع السلطان على الأمير شاهين الحاجب بصفد، واستقر به في نيابة كركر، وعلى الأمير كزل بغا - أحد أمراء حماة - بنيابة كختا، فمضى كزل بغا وتسلم كختا وقلعتها ورحل السلطان بكرة يوم الثلاثاء رابعه، وقد عاوده ألم رجله الذي يعتريه في كل سنة، فركب المحفة عجزاً عن ركوب الفرس، وقصد حلب، ثم ركب الفرات في الزوارق من تجاه بلدة يقال لها كيلك وصحبته خاصته، ونزل قلعة الروم عشية الخميس سادسه وبات بها ونزل من الغد بالميدان، بعدما رتب أحوال القلعة، وأنعم على نائبها بخمسمائة دينار، وعلى بحريتها بنفقة، فقدم الخبر في يوم الجمعة سابعه من الأمير قجقار نائب حلب بهزيمة قرا يلك من قرايوسف، وأن من معه من العسكر المقيم على كركر خافوا، وعزموا على الرحيل، وبينما كتابه يقرأ، إذ قدم كتاب الأمير أقباي نائب الشام، بأن الأمير قجقار رحل عن كركر بمن معه، من غير أن يعلمه، وأنه عزم على محاصرتها، فكتب إليه بأن يستمر على حصارها.
وفي بكرة يوم السبت ثامنه: انحدر السلطان على الفرات إلى البيرة، فدخلها من آخره، وصعد قلعتها، وقرر أمورها، فقدم الخبر من الغد بقرب قرايوسف، وأن الأمير أقباي نائب الشام صالح خليل نائب كركر، ورحل بمن معه، فحنق السلطان من ذلك، واشتد غضبه على الأمير قجقار نائب حلب، ثم رحل السلطان من البيرة يريد حلب فدخلها بكرة يوم الخميس ثالث عشره، بأبهة الملك، وقد تلقاه أهل حلب، وفرحوا بمقدمه لكثرة الإرجاف بقدوم قرايوسف، فاطمأنوا، وصعد القلعة، ونادي بالأمان، وفرق في الفقهاء والفقراء مالاً جزيلاً، وأمر ببناء القصر الذي كان الأمير جكم شرع في عمارته.
وفي سابع عشره: قدم أقباي نائب الشام، وقجقار نائب حلب، وجار قطلو نائب حماة، فأغلظ السلطان على الأمير قجقا ووبخه، فأجابه بدله، ولم يراع الأدب، فقبض عليه وحبسه بالقلعة، ثم أفرج عنه من يومه بشفاعة الأمراء، وبعثه إلى دمشق بطالاً. واستقر بالأمير يشبك اليوسفي - نائب طرابلس - في نيابة حلب، وخلع عليه. واستقر بالأمير بردبك رأس نوبة في نيابة طرابلس.
وفي يوم الخميس عشرينه: ركب السلطان إلى خارج حلب وعاد إلى دار العدل في موكب عظيم، وحضر الأمير حديثة أمير العرب، وحميد الدين رسول قاصد قرايوسف، وخلع عليه، وأنعم له بمال وأعاده. وخلع على الأمير ططر، واستقر به وأس نوبة كبيراً، عوضاً عن برد بك نائب طرابلس، واستقر بالأمير نكباي في نيابة حماة، عوضاً عن جار قطلو، واستقر بجار قطلو في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير غرس الدين خليل التوريزي الجشاري، واستقر خليل في الحجوبية الكبرى بطرابلس وخلع على الجميع، فاستعفى خليل من حجوبية طرابلس، فأعفي، وخلع على الأمير سودن قرا صقل حاجب الحجاب بديار مصر، واستقر في الحجوبية بطرابلس، واستقر بالأمير شاهين الأرغون شاوي في نيابة قلعة حلب عوضاً عن الأمير ألطنبغا المرقبي، بحكم انتقاله في جملة مقدمي الألوف على إقطاع الأمير أقبردي المنقار.
وفي رابع عشرينه: رسم للنواب بالتوجه إلى محل كفالاتهم، وخلع عليهم خلع السفر.
وفي خامس عشرينه: قبض على الأمير طغرول بن صقل سيز وابن عمه طر علي وسجنا بقلعة حلب واستقر الأمير ناصر الدين محمد بن التركماني في نيابة شيزر، عوضاً عن طغرول المذكور، واستقر الأمير مبارك شاه في نيابة الرحبة، عوضاً عن عمر بن شهري.
وفي سادس عشرينه: كملت عمارة القصر بقلعة حلب، وجلس فيه السلطان واستدعى مقبل القرماني ورفاقه، وضربه ضرباً مبرحاً ثم صلب هو ومن معه.
وفيه قدم الخبر من القاهرة بوفاء النيل وقدم رسول سليمان صاحب حصن كيفا وكتابه، يسأل انتسابه إلى السلطان، وأن ينعم عليه بتقليد باستقراره واستمراره واحداً من نواب السلطة، وطلب تشريفاً على عادة النواب، فأجيب إلى ذلك وخلع على قاصديه وعين له حجرة بقماش ذهب، وتعبية ثياب.
شهر شعبان، أوله الاثنين:

فيه عمل السلطان الخدمة بالقصر الجديد من قلعة حلب، وأصلح بين الأمير حديثة أمير آل فضل وبين غنام بن زامل، وحلفهما على الطاعة، وأن لا يتضارا، واستقر بالأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر في نيابة الأبلستين على عادته، وجهز له نفقة وسيفاً وسلاحاً وجمالاً وخيولاً.
وفيه قدم قاصد كردي باك، ومعه الأمير سودن اليوسفي، أحد المنسحبين من وقعة قانباي، وقد قبض عليه، فسمر تحت قلعة حلب من الغد، ثم وسط. وانتهت زيادة النيل في يومه - وهو سادس عشر توت - إلى عشر أصابع من عشرين ذراعاً.
وفي يوم الجمعة خامسه: خطب القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي - كاتب السر - خطة الجمعة، وصلى بالسلطان في القصر المستجد بقلعة حلب.
وفي يوم السبت سادسه: أمسك بالقاهرة نصراني وقد خلا بامرأة مسلمة، فاعترفا بالزنا، فرجما خارج باب الشعرية ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب، وأحرق العامة النصراني ودفنت المرأة، فكان يوماً عظيماً.
وفي ثامنه: قدم على السلطان بحلب كتاب الأمير سليمان بن عثمان، بأنه قبض على محمد بن قرمان وعلى ولده مصطفى بعد محاصرته بقونيا، وأنه استولى عليها، وعلى غالب بلاد ابن قرمان، قيسارية وغيرها.
وفيه خلع على تمراز بحجوبية حلب، عوضاً عن أقبلاط الدمرداشي. وفيه اجتمع عدة من فقهاء القاهرة عند الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار، في أمر نصراني ادعى عليه بما يوجب إراقة دمه، فتشطرت البينة عليه، ولم يكمل النصاب، فحكم قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي المالكي بتعزيره، فعندما جرد ليضرب أسلم، فأنعم عليه، وترك لحاله، وتجاورا ما فيه النصارى من كبر عمائمهم، ولبسهم الفرجيات والجبب بالأكمام الطويلة الواسعة، كهيئة قضاة الإسلام، فنودي بمنعهم من ذلك، ومن ركوبهم الحمر الفرة، ومن استخدامهم المسلمين، وأن يلتزموا الصغار، ولا يلبسوا إلا عمامة من خمسة أذرع فما دونها.
وفي يوم الخميس حادي عشره: قدم الأمير يشبك - أحد دوادارية السلطان - إلى القاهرة، وقد استقر أمير ركب الحاج. وفيه عزل السلطان تمراز عن حجوبية حلب، واستقر عوضه بالأمير عمر سبط بن شهري، وخلع عليه وعلى عمر شاه بن بهادر البابيري بنيابة جعبر عوضاً عن خليل ابن شهري.
وفي يوم الاثنين خامس عشره: جمع الناس بالجامع الأزهر من القاهرة وبالجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، وقرأ عليهم القاضي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر بالجامع الأزهر كتاب السلطان بأنه وصل إلى الأبلستين وملك كختا وسيس والمصيصة وأذنة وغير ذلك، وأن قرايوسف حاكم توريز وبغداد بعث إليه بهدية، وقد قرب ما بينهما، وأن السلطان عاد إلى حلب، وسطرها في تاسع عشر رجب وقرئ ذلك بالجامع المؤيدي، فكثر كلام الناس واختلف على قدر أغراضهم.
وفي سابع عشره: قدم الخبر على السلطان بحلب من الأمير فخر الدين عثمان بن طور على قرايلك، ومن الأمير ألطنبغا نائب البيرة، ومن نائب قلعة الروم، ومن نائب كختا، ونائب ملطية، بأن الصلح وقع بين قرايوسف على أن قرايوسف تسلم قلعة صور، وعوض قرا يلك عنها ألف ألف درهم بمعاملتهم، ومائة فرس ومائة جمل بسارك، ثم رحل في رابع شهر شعبان عنه إلى جهة توريز، فلما تحقق أهل حلب رحيل قرايوسف، وعوده إلى بلاده اطمأنوا، بعدما كانوا قد تهيئوا للرحيل عن حلب.
وأصبح السلطان بكرة يوم الخميس ثامن عشره، راجلاً عن حلب إلى جهة مصر، فنزل عين مباركة. وفيه أسلم الأسعد النصراني خازناً، وكان كاتب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار، وذلك بعدما حفظ جزءاً من القرآن الكريم، وشدا طرفاً من النحو، فتسمى بعد إسلامه بمحب الدين محمد.
وفي عشرينه: استقل السلطان بالمسير من عين مباركة، ونزل قنسرين، وأعاد منها الأمير يشبك نائب حلب إليها، بعدما خلع عليه، ثم سار ونزل حماة بكرة الأربعاء رابع عشرينه. ورحل عنها من الغد، ونزل حمص، ورحل عنها عشية الجمعة سادس عشرينه.
شهر رمضان المعظم، أوله الثلاثاء: في بكرة يوم الخميس ثالثه: دخل السلطان دمشق، ونزل بقلعتها وكان يوماً مشهوداً، ونودي في الناس بالأمان والاطمئنان.

وفي سابعه: قبض على الأمير أقباي نائب الشام، وقيد وسجن بقلعة دمشق، وسبب ذلك أن السلطان اشتراه صغيراً بألفي درهم، ورباه، ثم عمله خازنداراً، ثم نقله في أيام سلطنته إلى أن صار من الأمراء، وولي داوداراً كبيراً، ثم ولاه نيابة حلب، وهو مجبول على طبيعة الكبر، يحدث نفسه - كلما انتهى إلى غاية - بأعلى منها، فآوي جماعة من مماليك قانباي بعد قتله، وعدة من العصاة، فأشيع عنه الخروج عن الطاعة فلما بلغه ذلك، بادر إلى التوجه إلى القاهرة، وقدم على السلطان بغتة، كما سبق فيما سبق، فتنكر السلطان له وأسرها في نفسه، وولاه نيابة الشام، وكان الجاليش قد نصب، وفرقت نفقات السفر، فظن أن يصل قبل ذلك، فيثني عزم السلطان عن السفر بعده، كما شرح فوشى به دواداره، الأمير شاهين الأرغون شاوي إلى السلطان، في جماعة من أمراء دمشق، وقد ذكروا للسلطان إنه يسير إذا مرض السلطان، أو عاوده ألم رجله، وأنه استخدم جماعة من أعداء الدولة وأن حركاته كلها تدل على أنه يطلب فوق ما هو فيه، وأنه يعاني غير ما تعانيه النواب، وأنه يكثر سماطه وجنايبه وهجنه إذا ركب في الموكب، ونحو ذلك، إلى أن كان يوم تاريخه، التفت السلطان إليه بحضرة الأمراء، وسأله عن المماليك المستخدمين عنده، وعدد له من استجده من العصاة الذين كانوا مع قانباي وغيره، وأنكر عليه تركه إمساك جماعة رسم له بمسكهم، وكونه قدم إلى مصر بغتة، وأشياء من هذا الجنس، وقبض عليه، ثم أشار إلى الأمير تنبك ميق أمير أخور كبير باستقراره في نيابة الشام، فامتنع من ذلك ساعة طويلة، ثم أذعن، ولبس التشريف، وقبل الأرض على العادة.
وفيه استدعى السلطان الأمير قجقار القردمي نائب حلب - كان - وأنعم عليه بإمرة الأمير تنبك ميق. وفيه أفرج عن الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام - كان - ورسم بتوجهه إلى القدس بطالاً. وفيه قبض على جماعة من المماليك. وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز المقدسي، واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبادة بحكم وفاته.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: سار السلطان من دمشق يريد مصر، ونزل على قبة يلبغا، ثم استقل بالمسير، وأعاد الأمير تنبك ميق إلى دمشق بعدما خلع عليه.
وفي ثامن عشره: سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان من القاهرة عائداً إلى مكة في تجمل زائد، وقد التزم عنه وعن أبيه الأمير فخر الدين بمال للسلطان.
وفيه بلغ الأمير فخر الدين أن السجن الذي استجد عند باب الفتوح بالقاهرة - عوضاً عن خزانة شمايل - تقاسى فيه أرباب الجرائم شدة من ضيقه، ويقاسون غماً وكرباً شديداً، فعين قصر الحجازية، بخط رحبة باب العيد، ليكون سجناً وأنعم على من هو بيده بعشره آلاف درهم فلوساً عن أجرة سنتين، وشرع في عمله سجناً، ثم أهمل.
وفي ليلة الخميس رابع عشرينه: توجه الأمير فخر الدين بن أبي الفرج لملاقاة السلطان.
وفي بكرة يوم الجمعة خامس عشرينه: قدم السلطان بيت المقدس فزار وفرق في أهله مالاً جزيلاً، وصلى الجمعة، وجلس بالمسجد الأقصى بعد الصلاة، وقرئ صحيح البخاري من ربعه فرقت على من بين يديه من الفقهاء القادمين إلى لقائه من القاهرة، ومن القدس، ثم قام المداح بعد فراغهم، فكان وقتاً مشهوداً. ثم سار السلطان من الغد إلى الخليل عليه السلام، فزار وتصدق، وسار فلقيه الأمير فخر الدين بين قرية السكرية والخليل فأقبل عليه، وسر السلطان بالقائمة التي أوقفه الأمير فخر الدين عليها، مما أعده له من الأموال، ونزل غزة يوم الاثنين ثامن عشرينه، فأراح بها.
شهر شوال، أوله الخميس:

فيه صلى السلطان صلاة العيد على المسطبة المستجدة ظاهر غزة، وصلى به وخطب شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، ورحل من آخره، فقدم قاضي القضاة جلال الدين إلى القاهرة في ثامنه، ونزل السلطان على خانكاه سرياقوس في يوم الجمعة تاسعه، فأقام إلى يوم الأربعاء رابع عشره، ثم رحل ونزل خارج القاهرة، فبات، وركب يوم الخميس من الريدانية في أمرائه وعساكره، وعبر من باب النصر، وولده الأمير صارم الدين إبراهيم يحمل القبة على رأسه، فترجل المماليك، ومشوا من داخل باب النصر وبقي الأمراء ركاباً، ببعد من السلطان، وعليهم - وعلى قضاة القضاة وسائر أرباب الدولة - التشاريف، وفي جملتهم الخليفة المعتضد بالله فمر كذلك إلى الجامع المؤيدي، ونزل به وقد زينت القاهرة وأشعلت بحوانيتها القناديل والشموع، فأكل السلطان سماطاً، عبأه له الأمير فخر الدين، ثم ركب إلى قلعة الجبل، ودخلها من باب السر، راكباً بشعار الملك حتى دخل من باب الستارة، وهو على فرسه، إلى قاعة العواميد، فنزل عن فرسه على فراشه بحافة الإيوان، وقد تلقاه حرمه، فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره: خلع على الأمير طوغان، واستقر أمير أخور كبير. مكان الأمير تنبك العلاي - ويقال له ميق - المتنقل إلى نيابة الشام، وخلع على الأمير علاء الدين ألطنبغا المرقبي نائب قلعة حلب، واستقر حاجب الحجاب، وعلى الأمير فجقار القردمي، واستقر أمير سلاح، على عادته قبل نيابة حلب، وعلى الأمير فخر الدين بن أبي الفرج خلعة الاستمرار، وأضيف إليه أستادارية الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان، عوضاً عن سليمان بن الكويز.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة، مع الأمير بشبك الدوادار الثاني، أحد الطبلخاناه وحصل في الجمال شيء يستغرب، وهو أن العادة غلو سعر الجمال عند سفر الحاج لطلبها، فمنذ قدم السلطان من الشام انحط سعرها، لكثرة ما جاء به العسكر منها، حتى أبيع الجمل الذي كان ثمنه أربعين ديناراً بخمسة عشر ديناراً.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: سرح السلطان إلى بر الجيزة لصيد الكركي وعاد في آخره من باب القنطرة، ومر بين السورين ونزل في بيت الأمير فخر الدين، فقدم له فخر الدين المذكور عشرة آلاف دينار، وركب حتى شاهد الميضأة التي بنيت للجامع المؤيد وصعد قلعة الجبل، ثم ركب من الغد وسرح أيضاً ثم عاد في يوم الأحد خامس عشريه إلى القلعة.
وفي يوم الاثنين سادس عشريه: خلع على الأمير أرغون شاه الأعور - أستادار نوروز - واستقر في الوزارة عوضاً عن الأمير فخر الدين، وخلع على الأمير فخر الدين خلعة باستمراره في الأستادارية وأن يكون مشير الدولة، وبلغت تقدمه فخر الدين التي قدمها للسلطان عند قدومه من الشام أربعمائة ألف دينار عيناً، وثمانية عشر ألف أردب غلة، من ذلك ما وفره من ديوان الوزارة مبلغ أربعين ألف دينار وثمانية عشر ألف أردب غلة، وما وفره من الديوان المفرد ثمانين ألف دينار، وما جباه من النواحي مائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن إقطاعه ثلاثين ألف دينار، وذلك سوى مائة ألف دينار حملها إلى السلطان وهو بالشام.
شهر ذي القعدة الحرام، أوله الجمعة: في سادسه: قدم الخبر من الأمير تنبك ميق نائب الشام بأن في ليلة السبت رابع عشرين شوال خرج الأمير أقباي ومن بالقلعة من المسجونين، ففر نائب القلعة، وخرج في أثره أقباي إلى باب الحديد، بمن معه، وقد أدركه الأمير تنبك ميق بالعسكر، فأغلق الباب، وامتنع بالقلعة، وأنه على حصاره، فتشوش السلطان من ذلك، وكتب بالجد في أخذه، فقدم من الغد كتاب الأمير تنبك ميق، بأن أقباي استمر بالقلعة إلى ليلة الاثنين سادس عشرين شوال، ثم نزل فيها من قرب باب الحديد، ومشى في نهر بردا إلى طاحون باب الفرج، فقبض عليه هناك وعلى طائفة، فأجيب بمعاقبته حتى يقر على الأموال ثم يقتل، وحمل جماعة من أهل القلعة إلى مصر، وأنعم عليه بفرس قماش ذهب، وكاملية حرير مخمل بفرو سمور، وطراز عريض ورسم أن يستقر الأمير شاهين - مقدم التركمان - الحاجب الثاني بدمشق نائب القلعة، ويستقر عوضه حاجباً كمشبغا السيفي طولو. وفي تقدمة التركمان الأمير شعبان بن اليغموري، أستادار المفرد بدمشق.

وفي يوم الجمعة ثامنه: سار الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان في عدة من الأمراء إلى الوجه القبلي، لأخذ تقادم العربان، وولاة الأعمال.
وفي تاسعه: قدم رسول قرا يلك. وفيه خلع على الأمير ططر رأس نوبة، واستقر في نظر الشيخونية على عادة رءوس النوب، وخلع على الأمير طوغان أمير أخور، واستقر في نظر المدرسة الظاهرية برقوق. وسرح السلطان إلى الطرانة في يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة.
وفيه قدم محمد وخليل - ولدا الملك الناصر فرج بن برقوق - من الإسكندرية، إلى قلعة الجبل.
وفي تاسع عشره: وصلت رمة الأمير فرج بن الناصر مرج من الإسكندرية، فصلى عليها بمصلى المؤمني تحت قلعة الجبل، ودفن بتربه جده الملك الظاهر برقوق، خارج باب النصر.
وفي يوم الاثنين حادي عشرينه: عاد السلطان من السرحة، وهو وصل إلى العظامي ويعرف برأس القصر، فنزل بقصر أنشأه القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر على شاطئ النيل من البر الغربي، تجاه داره المطلة على النيل، وكان قد شرع في أساسه قبل سرحة السلطان، ففرغ منه بعد أربعة أيام، واستمر به السلطان ثلاثة أيام ثم ركب النيل، وتصيد بناحية سرياقوس، وصعد القلعة.
واتفق هذا الشهر ببلاد الصعيد أن غنماً عدتها نحو الأربعة وعشرين ألف رأس من الضأن رعت ببعض المراعي، فماتت عن آخرها.
وفيه جهزت الأضاحي السلطانية، فقام الأمير فخر الدين منها بعشرة آلاف رأس من الضأن، وقام الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله - ناظر الخاص - بألفي رأس.
وفي سلخه: نودي بأن يكون سعر المؤيدي الفضة تسعة دراهم من الفلوس وزنتها رطل ونصف. وأن يكون الذهب بسعره الذي يتعامل به، وكان قد بلغ المثقال الذهب الهرجة المختوم إلى مائتين وثمانين درهماً، والدينار الإفرنتي إلى مائتين وستين درهماً فلوساً، فآل الأمر على هذا.
وفي هذا الشهر: انحل سعر عامة المبيعات من أغلال وسائر الأقوات وغيرها من الملابس والدواب والأثاث. وكان في الظن أن تغلو بقدوم العسكر من الشام، فجاء الأمر بخلاف ذلك.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: فيه حمل إلى الأمير فخر الدين مائة ألف دينار، وإلى الأمير الوزير أرغون شاه خمسون ألف دينار، وإلى الصاحب بدر الدين ناظر الخاص خمسون ألف دينار، وأمر الثلاثة أن يأخذوا من القاهرة بهذه المائتي ألف دينار فلوساً لتضرب بصكة مؤيدية. ففرق الذهب في الناس، وألزموا بالفلوس، على أن كل دينار بمائتين وستين.
وفي ثانيه: قدم رأس الأمير أقباي من دمشق، فعلق على باب النصر، بعدما علقت جثته - بعد قتله - على قلعة دمشق، وصلب عليها جماعة.
وفي ثالثه: نودي بالقاهرة من كان عنده فلوس فليحملها إلى الديوان السلطاني. وهدد بالنكال من امتنع من حملها، أو سافر بها من القاهرة. وفيه فرقت الأضاحي السلطانية. وفيه ساق الأمير فخر الدين إلى السلطان ألف رأس من الكباش المعلوفة، ومائة وخمسين بقرة في غاية السمن.
وفي سادس عشره: ركب السلطان بثبات جلوسه في قليل من خاصكيته ونزل بالجامع المؤيدي، ثم توجه منه إلى بيت ناصر الدين محمد بن البارزي الحمري كاتب السر، بسويقة المسعودي فقدم له تقدمة، ثم ركب إلى القلعة.
وفي رابع عشرينه: استقر الأمير علاء الدين أقبغا شيطان. شاد الدواوين، ووالي القاهرة، في الحسبة، عوضاً عن عماد الدين، بعد عزله لسوء سيرته.
واستقر الأمير سودن القاضي - الحاجب كان - في نيابة الوجه القبلي، وعزل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، ورسم بإحضاره.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: قدم الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان من سفره، بعد أن وصل إلى جرجا وأخذ التقادم، ومن جملتها تقدمة الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وتبلغ نحو اثني عشر ألف دينار، سوى الكلف من العلوفات والمآكل في مدة النزول عليه.

وفي هذا الشهر: وقعت فتنة بدمياط قتل فيها الوالي، وهي أن أعمال مصر منذ ابتداء الأيام الظاهرية برقوق، لا يولي بها وال إلا بمال يقوم به، أو يلتزم به، وكان من اتباع المماليك رجل سولت له نفسه ولاية في دمياط، يعرف بناصر الدين محمد السلاخوري، إلتزم بمال ووليها، واستدان مالاً حتى عمل له ما يتجمل به وباشرها غير مرة في هذه الأيام المؤيدية، فلما وليها في هذه السنة، جرى على عادته في ظلم الناس، وأخذ أموالهم ونسائهم وشباب أولادهم. ومن جملة أهل دمياط طائفة يقال لهم السمناوية، يتعيشون بصيد السمك من بحيرة تنيس ويسكن كثير منهم بجزائر يسمونها العزب - واحدتها عزبة - فأنفوا من قبائح أفعال السلاخوري في يوم الأحد ثاني عشرين ذي الحجة: وأوقعوا بنائب الوالي وضربوه وأهانوه، بحيث كاد يهلك، وجروه إلى ظاهر البلد، وتجمعوا على باب الوالي، وقد امتنع بها، ورماهم بالنشاب من أعلاها، فأصاب واحداً منهم قتله، وجرح ثلاثة حردهم وألحوا في أخذه، وهو يرميهم، حتى نفدت سهامه، فألقى نفسه في البحر، وركب في سفينته إلى الجزيرة، فتبعوه في السفن، وأخذوه وتناوبوا ضربه، وأتوا به إلى البلد، وسجنوه موثقاً في رجليه بالخشب، وباتوا يحرسونه إلى بكرة غدهم، ثم أخرجوه وحلقوا نصف لحية نائبه، وشهروه على جمل والمغاني تزفه، حتى طافوا به البلد ثم قتلوه شر قتلة، وأخرجوا الوالي من الحبس، وأتوا ببعض قضاتهم وشهودهم، ليثبتوا عليه محضراً، وأوقفوه على رجليه مكشوف الرأس عاري البدن، فبدره أحد السمناوية، وصرعه. وتواثب عليه باقيهم حتى هلك، وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه وأولاده ما عليهم، وقتلوا ابناً له في المهد، مات من الرجفة، واسروا له ابنا. فكانت فتنة لم يدرك مثلها في معناها.
وفي ليلة الأحد تاسع عشرينه: طرق القاهرة منسر، عددهم ثلاثة وعشرون رجلاً منهم فارسان، ومروا على الجامع الأزهر أول الليل، وقتلوا رجلين برحبة الأيدمري ونهبوا عدة حوانيت، وعادوا على حارة الباطلية فكان هذا مما لم يدرك مثله في الشناعة ببلدنا.
وفي هذا الشهر: قلت الغلال، وبلغ سعر الأردب القمح مائتين وأربعين بعد مائة وثلاثين، ومائة وخمسين، وبلغ الأردب من الشعير والفول قريباً من المائتين، بعدما كان الشعير قريباً من تسعين فما دونها، وسبب ذلك قلة المطر في فصلي الخريف والشتاء، وعدمه، فخفت زروع الوجه البحري، وأمسك الناس ما عندهم من الغلال، فلما طلبت تعذر وجودها، فارتفع سعرها، فتدارك الله بلطفه، وأنزل الغيث - بعدما قنطوا - في يوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء رابع عشره، وسقي الزروع عند حاجتها، فإن الزمن شهر أمشير، حتى جادت وزكت ونمت، " إن الله بالناس لرءوف رحيم " . وفيها نزل ابن عثمان صاحب برصا على قونيا، وحاصر محمد بن قرمان، فدهمه سيل عظيم، كاد أن يهلكه وعساكره، فرحل عنها.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير أقبردي المنقار، أحد الأمراء المقدمين بمصر، في ليلة الخميس سابع عشرين صفر بدمشق، وقد توجه إليها صحبة العساكر. وهو أحد المماليك المؤيدية، ولم يكن بالمشكور. ومات الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق في ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الأول بثغر الإسكندرية وقد نفي إليها ثم حملت رمته، ودفنت بتربة جده خارج باب النصر، ولم يبلغ الحلم وتحدث غير مرة بإقامته في الملك، فلم يقدر ذلك ومات القاضي الرئيس تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن الفوي، أخو الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، ومولده سنة ستين وسبعمائة ولي نظر الأحباس، ووكالة بيت المال، ونظر الكسوة، وتوقيع الدست، وناب عن قضاة الحنفية ووقع عند عدة أمراء، وورثه أبوه.

ومات الشيخ موسى بن محمد بن علي المناوي بمكة، في ثاني شهر رمضان، ولم تدرك مثله فيما رأينا وعاشرنا، فإنه نشأ بالقاهرة يعاني طلب العلم، وتفقه على مذهب مالك، وحفظ الموطأ حفظاً جيداً، وبرع في الفقه والعربية، ثم زهد في الدنيا الفانية، وترك ما كان بيده من الوظائفي من غير عوض تعوضه، وانفرد بالصحراء مدة. ثم خرج إلى مكة في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وأقبل على العبادة متخلياً عن كل شيء من أمور الدنيا، معرضاً عن جميع الناس، يسكن القفر والجبال، ويقتات ما تنبته الأرض، ولا يدخل مكة إلا يوم الجمعة فقط، ليشهد بها الجمعة، ثم مضى لشأنه في الجبال، وأقام بالمدينة النبوية على هذا القدم زماناً، وهو يتردد إلى الحرمين، ولا يأوي داراً، ولا يسكن إلى أحد، ثم سافر إلى اليمن، وعاد إلى مكة، وطالما عرض عليه المال الكثير من المذهب، يحمل إليه من مصر وغيرها، ويراه فلا يمسه بيده، بل يأمر بتفرقته على من يعينه لهم، فيدفع إليهم، ولم يزل على ذلك حتى خلصه الله تعالى إلى دار القدس والسعادة.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن جعفر البلالي، شيخ خانكاه سعيد السعداء بها، في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكان فقيهاً معتقداً، له شهرة طارت في الآفاق، وللناس فيه اعتقاد، وعليه انتقاد.
ومات الأمير أقباي نائب الشام مقتولاً بها، في ذي القعدة، كما شرح أمره.
وقتل الأمير ناصر الدين محمد السلاخوري والي ثغر دمياط مقتولاً، في رابع عشرين ذي الحجة، كما ذكر.
ومات عز الدين محمد بن علاء الدين بن بهاء الدين عبد الرحمن ابن قاضي القضاة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة بدمشق، في ليلة السبت رابع عشرين ذي القعدة، وكان عالماً ديناً حسن السيرة.
سنة إحدى وعشرين وثماني مائةأهل شهر الله المحرم بيوم الثلاثاء.
فيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامتهم.
وفي ثالثه: أعرس الأمير فخر الدين ببعض جواري السلطان، وعمل مهماً جليلاً ذبح فيه ثمانية وعشرين فرساً وأغناماً، بلغ زنة لحمها عشرة آلاف رطل، ومن الدجاج ألفين ومائة طائر، ومن الأوز ثلاثة آلاف طائر، ومن الدقيق ستة وخمسين قنطاراً، ومن الزبيب خمسين قنطاراً عملت مشروباً.
وفي رابعه: ركب السلطان إلى جامع أحمد بن طولون وصلى فيه الجمعة، ثم عدى النيل، وسرح إلى ناحية أوسيم.
وفي حادي عشره: كتب من المخيم على يد الأمير حكم الخاصكي بخروج عسكر من دمشق ومن حمص وحماة، والأمير حديثة بن سيف أمير آل فضل، إلى قتال التركمان. وكذلك أن الأمير ألطنبغا الجكمي - نائب درندة - ركب على حسين كبك، فتقنطر به فرسه، فقبض عليه وقتل، ونزل حسين على ملطية وحصرها.
وفي خامس عشره: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار من الوجه القبلي.
وفي سادس عشره: قدم الخبر بأن الأمير يشبك الدوادار أمير الحاج لما قدم المدينة النبوية، بعد انقضاء الحج، أظهر أنه يسير إلى الركب العراقي، يبتاع منه جمالاً، ومضى في نفر يسير، وتسحب صحبة الركب العراقي خوفاً أن يصيبه من السلطان ما أصاب الأمير أقباي نائب الشام.
وفي ثالث عشرينه: نودي بالقاهرة أن جميع الباعة من الجبانين والطباخين والخبازين واللحامين، ونحوهم، يحمل كل واحد منهم عشرة مسارج إلى بولاق، لتعرض على الأمير التاج، فشرعوا في تحصيل المسارج، وحملوها إلى الأمير تاج الدين الشويكي. وفيه قدم محمل الحاج الأربعاء.
وفي ليلة الخميس رابع عشرينه: كان الوقيد ببر منبابة، بين يدي السلطان، وذلك أنه سار من وسيم، ونزل بالقصر الذي أنشأه ابن البارزي بحري منبابة على النيل، وألزم الأمراء بحمل الزيت والنفط، فجمع من ذلك شيء كثير، وأخذ من البيض، وقشر النارنج، ومن المسارج الفخار التي أحضرها الباعة عدد كثير جداً، وعمل فيها فتايل القطن المغموسة بالزيت، وأشعلت بالنار، ثم أرسلت في النيل بعد غروب الشمس بنحو ساعة، وأطلقت النقوط وقد امتلأ البران بطوائف الناس، ومر لهم جميعاً من السخف ما لم نعهد مثله لملك قط.
وفي خامس عشرينه: قدم محمل الحاج ببقيتهم. وفيه عدى السلطان النيل، وصعد قلعة الجبل.

وفي يوم السبت سادس عشرينه: قبض على الأمير سيف الدين بيبغا المظفري: أحد مقدمي الألوف، وأمير سلاح، وحمل مقيداً إلى الإسكندرية، ليعتقل بها. وفيه وجد السجن المستجد بجوار باب الفتوح قد نقب، وفر منه جماعة من المعتقلين.
وفي ثامن عشرينه: نودي بالقاهرة أن كل غريب ينزح إلى وطنه، فإنه كان قد كثرت بالقاهرة أصناف الطوائف من القلندرية وغيرهم من العجم، فاضطربت الأعاجم، ثم تركوا على حالهم.
شهر صفر، أوله الأربعاء: أهل والناس بالقاهرة ومصر في ضيق من قلة الفلوس، فإن السلطان - كما تقدم - طرح على التجار والباعة الذهب، يريد بدله فلوسا، فقلت في الأيدي، من الشح بإخراجها، حتى عزت بعد هوانها.
وفي رابعه: وسط قرقماس متولي كختا وخمسة عشر رجلاً معه، خارج باب النصر. وكانوا فيمن أحضره السلطان معه في الحديد، وسجنوا بالقلعة.
وفي سادسه: ركب السلطان بثياب جلوسه، ومعه ابنه الأمير إبراهيم في نفر يسير، إلى جامعه بجوار باب زويلة، ثم توجه منه إلى دار الأمير فخر الدين فأكل عنده، وقدم له فخر الدين خمسة آلاف دينار، ثم توجه إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ونزل عنده، فقدم له ثلاثة آلاف دينار، وعرض عليه خزانة الخاص، فأنعم منها على ولده، وعلى من معه من الأمراء، بعدة ثياب حرير، وفرو سمور، ثم عاد إلى القلعة.
وفي عاشره: نودي أن يكون سعر الدينار المختوم بمائتين وخمسين وكان بمائتين وثمانين، وأن يكون الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وكان بمائتين وستين وأن تكون الفلوس على حالها، كل رطل بستة دراهم، والمؤيدي بحاله، كل نصف بتسعة دراهم.
وفي سادس عشره: نودي أن يكون سعر الدينار المختوم بمائتين وثلاثين، والدينار الأفرنتي بمائتين وعشرة، وأن يكون المؤيدي بسبعة دراهم، حتى يصرف بالدينار الأفرنتي من المؤيدية بمبلغ ثلاثين، فماج الناس، وكثر قلقهم وكلامهم، لما نزل بهم من الخسارة، فلم يعتد بهم، واستمر الحال على ذلك.
وفي سابع عشره: طلب الأمير علاء الدين أقبغا شيطان - والي القاهرة ومحتسبها وشاد الدواوين - جميع أرباب المعايش، وقرر أسعار المبيعات على حططتها بقدر ما انحط من سعر الذهب والفضة، وتشدد عليهم، فلم يجدوا بداً من امتثال ما أمر به، على مضض وكره، فغرم كثير من الناس غرامات متعددة.
وفي ثاني عشرينه: ركب السلطان لعيادة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، من وعك به، ثم مضى إلى بيت الأمير جقمق الدوادار، وأقام عنده يومه كله، وعاد من آخره إلى القلعة على حالة غير مرضية في الديانة من شدة السكر.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة: في ثالثه: قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي، أحد فضلاء العجم، من بلاد الشرق، فبدأ أولاً بزيارة قبر الإمام الشافعي، ثم نزل بالقاهرة، فأكرمه الناس، وأتاه قضاة القضاة والفقهاء للسلام عليه، ثم اجتمع بالسلطان، وتردد إلى مجلسه مع الفقهاء.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: جمع الأمير أقبغا شيطان أهل الأسواق من تجار البز وغيرهم، وأنكر عليهم مخالفة ما رسم به في سعر الذهب والفضة، وبالغ في تهديدهم ووعيدهم، من أجل أنهم لم يحطوا من سعر البضائع بقدر ما انحط من سعر الدينار والدرهم، وضمن بعض أكابر الأسواق لبعض، وواعدهم الحضور بين يدي السلطان في يوم الجمعة، وصرفهم، فكثر الإرجاف بهم، وتوقف أحوال الناس، وقل جلب البائع، وكثرت خسارات الناس.
وفي رابع عشره: انقطع السلطان عن حضور الموكب بالقصر على العادة، لانتقاض ألم رجله عليه.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير برديك الخليلي - نائب طرابلس - خرج للدورة، فلما عاد بلغه اتفاق قضاة طرابلس وأمرائها ورعيتها على منعه من الدخول إلى البلد، كراهة فيه، لكثرة ظلمه وطمعه، فأقام بعد مراسلتهم في جهة من الجهات، حتى يرد مرسوم السلطان، ثم سار إلى جهة مصر، فكتب أهل طرابلس إلى السلطان بقبيح سيرته وأخذه الأموال بغير حق، ومخالفته المراسم السلطانية، فرسم السلطان بإحضاره.

وقدم الخبر بقيام أهل المحلة - من النواحي الغربية - على الوالي بها ورجمه، بسبب طلب الفلوس، وذلك أنه حمل إلى الغربية مبلغ كبير من الذهب لتؤخذ به الفلوس، بسعر مائتين وعشرة الأفرنتي، فنزل بالناس بلاء عظيم، وعملوا في الحديد، ونزح كثير منهم إلى القاهرة في طلب الفلوس، فانحط سعر الدينار إلى مائة وسبعين، لعزة الفلوس، وهوان الذهب.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: جمع الأمير أقبغا شيطان التجار وكبار المتعيشين، ومضى بهم إلى قلعة الجبل، وقد اشتد خوفهم من السلطان، وشنعت القالة بالإرجاف فإذا بالسلطان في شغل عنهم بألم رجله، فلم يروه بل أوقفهم الأمير جقمق الدوادار، وقرر معهم أن يكون المؤيدي هو النقد المتعامل به، دون غيره من الذهب والفلوس، فلا يباع ويشتري إلا بالدراهم المؤيدية، ويدفع الذهب أو الفلوس عوضاً عنها، ليكون النقد الرابح المنسوب إليه ثمن المبيعات، وقيم الأعمال هي المؤيدية، وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة درهم اشترى بها الفائدة سوى درهمين، وحذرهم من مخالفة ذلك، ثم أفرج عنهم، فانصرفوا، وكأنما ردت إليهم الحياة بعد الموت. ونودي من الغد على الخيل في سوقها تحت القلعة بالدراهم المؤيدية، وعمل كذلك في بقية أسواق القاهرة، فبطل النداء على البضائع بالفلوس من يومئذ. وفيه نودي أن يكون الدينار على حاله بمائتين وعشرة، والمؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، إلا في الديون القديمة، وأجر الأملاك، وجوامك الغلمان، فإن المؤيدي يحسب بتسعة كما كان، فظهر ارتفاع الأسعار فيما نودي عليه بالمؤيدية.
وفي هذا الشهر: تنكر السلطان على قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني لاستكثاره من النواب، فكثرت القالة وتجرأ عليه رفاقه، فعزل طائفة من نوابه، واقتصر منهم على أربعة عشر.
وفي ثامن عشره: خلع على الشريف حسن بن الشريف علي بن محمد بن على الأرموي، بنقابة الأشراف، عوضاً عن والده بعد وفاته، واستقر الأمير فخر الدين في نظر وقف الأشراف، لصغر سن الشريف.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير بردبك الخليلي نائب طرابلس، وقدم الخبر بكثرة الأمطار بالغربية، وأنه سقط برد، منه ما زنة الحبة الواحدة مائة درهم، تلف منه زروع كثيرة قد استحق حصادها، حتى أن مارساً فيه ثمانمائة فدان تلف عن آخره، وهلكت عدة أغنام بوقوعه عليها.
وفي سلخه: قدم الأمير سودن الأسندمري من الإسكندرية، وقد أفرج عنه، وكان مسجوناً بها منذ زالت الدولة الناصرية فرج. وفيه قدم الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله الهروي ناظر القدس والخليل، ومدرس الصلاحية بالقدس، فأكرمه السلطان، وأنزله، وبعث إليه الأمراء عدة تقادم. وأجرى له راتب.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: أهل هذا الشهر وألم السلطان متزايد من رجله، وهو منقطع ملازم للفراش، والناس في ضيق من تعذر وجود الفلوس، وقلة وجود المآكل بالأسواق، منذ نودي على المؤيدية بسبعة دراهم.
وفي ثانيه: قبض على الأمير أرغون شاه الوزير، وعلى الأمير أقبغا شيطان وسلما إلى الأمير فخر الدين، متتبع حواشيهما وأسبابهما، ودورهما.
وفيه استقر الأمير بردبك نائب طرابلس في نيابة صفد، وكتب بنفي عمر بن الهذباني إلى طرسوس، ثم كتب باستقراره في نيابة بهسنى، عوضاً عن كمشبغا رأس نوبة جمال الدين، واستقر شاهين بن عبد العزيز - الحاجب بصفد - في نيابة قلعتها، عوضاً عن عمر بن الطحان.
وفيه قدم كتاب طغرول بن صقيل سيز على يد أخيه طرعلي، يسأل الأمان، وكان قد قدم إلى القاهرة، وسار في ركاب السلطان، ثم فر من دمشق فأمن، وقدمت مكاتبه الأمير شاهين الأيدكاري - نائب طرسوس - بأنه محصور مدة أربعة أشهر من إبراهيم بن رمضان، وقد عزم محمد بن قرمان على المشي إلى طرسوس.
وفي ثالثه: نقل الأمير علاء الدين علي أبن الأمير ناصر الدين محمد بن الطبلاوي، من ولاية مصر إلى ولاية القاهرة، عوضاً عن أقبغا شيطان.
وفي خامسه: أعيد شمس الدين محمد بن يعقوب الدمشقي إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن أقبغا شيطان.
وفي يوم السبت سابعه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه.
وفي عاشره: أفرج عن أرغون شاه، من غير عقوبة.
وفي ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين عيسى.

وفي سادس عشره: ضرب عنق بعض أعوان الظلمة المتصرفين بأبواب الوزراء، لتعرضه إلى ما يريق دمه شرعاً.
وفيه نقل سوق الرقيق من موضعه بخط المطاح فيما بين الوزيرية وخط الملحيين إلى فندق تجاه المشهد الحسيني، ثم أعيد إلى موضعه بعد قليل.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير أرغون شاه وأركب فرساً، واستقر في إمرة لتركمان بثلاثين ألف دينار، وكتب أن ينقل الأمير سنقر نائب المرقب إلى نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن شاهين، ويستقر ألطنبغا الجاموس في نيابة المرقب، ويستقر سودن الأسندمري - الذي أفرج عنه - حاجباً بطرابلس، عوضاً عن بزدار، واستقر في وزارة دمشق يعقوب الإسرائيلي، بعدما أسلم، وكان صيرفياً في يهوديته، واستقر في وزارة حلب علم الدين سليمان بن الجابي.
وفيه أوقع الأمير سودن القاضي - نائب الوجه القبلي - بعرب فزارة، ونهب أموالهم، وساق إلى السلطان منها ألف جمل وخمسين فرساً، وفر من نجا منهم إلى البحيرة، فأوقع بهم الأمير دمرداش نائب الوجه البحري، وقتل كثيراً منهم، ونهب ما معهم، وحمل إلى السلطان منه أربعمائة جمل وعشرين فرساً، ورءوس رجال كثيرة قد قطعها، فانحسم أمرهم وقدم الخبر بقتل منكلي بغا الأجرود وسودن الركني، من جماعة الأمير أقباي، وقتل علي بن نعير، وناصر الدين وزير حلب، وصلبهم على شرفات قلعة دمشق.
وقدم الخبر من حلب بوقعة عظيمة بين علي باك بن دلغادر وأخيه محمد باك، انتصر فيها محمد، وكسر أخاه، وغنم جميع موجوده، فأدركه الأمير يشبك نائب حلب بعد الواقعة وقد انتصر، فتلقاه وأضافه، وقدم له وحلف على الطاعة. وفيه جهز الأمير جار قطلو نائب حماة وصفد إلى الإسكندرية، فسجن بها عند حضوره من صفد إلى قطيا، فحمل منها.
وفي تاسع عشره: سار الأمير فخر الدين بن أبي الفرج إلى الوجه القبلي، وخيم بالجيزة، واستقل بالمسير من غده في طوائف كثيرة من العربان، وعدة من المماليك. وقد استعد للحرب، وأخذ معه الروايا والقرب والزاد ليتتبع العرب حيث ساروا.
وفيه ظهر بالمأذنة المؤيدية اعوجاج.
وفي ثالث عشرينه: استمر الأمير برسباي الدقماقي - أحد مقدمي الألوف - في نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير بردبك الخليلي، المنتقل إلى نيابة صفد، وأنعم بإقطاعه على الأمير فخر الدين على الوزير الأمير بدر الدين، وكان برسباي يلي كشف التراب وعمل الجسور بالغربية، فطلب منها، وخلع عليه فيه، واستقر أيضاً الأمير سودن الأسندمري أميراً كبيراً بطرابلس.
وفيه كتب محضر بهدم المأذنة المؤيدية، فهدمت من الغد، وغلق باب زويلة مدة ثلاثين يوماً.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: فيه سافر الأمير أرغون شاه إلى دمشق على تقدمة التركمان بها. وفيه تحرك عزم السلطان إلى الحجاز، فكتب إلى أمراء الحجاز بذلك.
وفي رابعه: قدم من الشام ألف وثلاثمائة حمل، جهزها الأمير تنبك ميق نائب الشام. وذلك أنه أوقع بعرب آل علي، قريباً من حمص، وكسرهم، وأخذ لهم ألفاً وخمسمائة حمل، باع منها رديئها، وجهز باقيها.
وفي يوم الخميس حادي عشره: ولد للسلطان ولد ذكر، سماه موسى، من أمة يقال لها طولو باي، فدقت البشائر، وكتب إلى الأقطار بذلك، فتوجه الطواشي مرجان الهندي إلى الشام للبشارة بولادته، وزينت القاهرة ومصر.
وفي سادس عشره: ابتدئ بالنداء على النيل ثلاثة أصابع، وجاءت القاعدة أربعة أذرع وثمانية أصابع.
وفي سابع عشره: كانت عقيقة الأمير موسى ابن السلطان، عمل فيها مدة جليلة، وخلع على الأمراء، وأركبوا خيولاً بقماش ذهب، بلغ المصروف عليها خمسة عشر ألف دينار.
وفي ثالث عشرينه: قدم الخبر بأن الأمير فخر الدين ركب في طلب هوارة، فتبعهم من سيوط مدة خمسة أيام، حتى أركبهم قريب أسوان، فقاتلوه عامة يومهم، فجرح كثير منهم، وقتل جماعة نحو المائتين وعشرين، وانهزم باقيتهم إلى الواحات فأحاط بأموالهم، وبعث خمسة رءوس من أعيانهم.
وفي يوم الجمعة خامس عشرينه: عرض السلطان مماليك الطباق بالقلعة، وعين منهم عدة للسفر معه إلى الحجاز، وأخرج الهجن، وجهز الغلال في البحر إلى مكة وينبع. وفيه كتب أن يستقر الأمير شاهين الزردكاش - حاجب الحجاب بدمشق - في نيابة حماة، عوضاً عن الأمير نكباي، ويستقر نكباي في الحجوبية.

وفي سابع عشرينه: ركب السلطان - ومعه ولده - الأمير إبراهيم، والأمراء، ونزل إلى المارستان المنصوري بخط بين القصرين، وهو بثياب جلوسه، فزار المرضى، وعاد إلى القلعة. وفيه فتح باب زويلة، ولم يعهد قط أنه أقام هذه المدة مغلوقاً.
وفيه كتب بإعادة إقطاع علي بن أبي بكر الجرمي إليه واستقراره في الإمرة على عادته، وجهز له تشريفي، وكتب إلى الأمير شاهين نائب الكرك أنه جهز إليه نائب عزة ونائب القدس، وكاشف الرملة، بمن معهم من العساكر، لضرب عربان بني عقبة وأخذهم، وجهز إليه فوقاني بوجهي حرير كمخا بطراز عريض، وكتب إلى المذكورين أن يتوجهوا إلى الكرك، لضرب بني عقبة وأخذهم صحبة نائب الكرك، وأسر إلى نائب غزة بأن يقبض عليه، ويوقع الحوطة على موجوده. وفيه جهز إلى ملطية مبلغ أربعين ألف دينار، لعمارة طاحونين وخان وقيسارية تشتمل على أربعين دكاناً وزاوية، وكتب إلى نائب طرابلس أن يتوجه إلى ملطية بعسكره، ويقيم مع نائبها لمعاضدته.
وفي ثامن عشرينه: منع قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني من الحكم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه: خلع على الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله الهروي، واستقر قاضي القضاة، عوضاً عن شيخ الإسلام جلال الدين بن اللقيني، ونزل من قلعة الجبل، ومعه الأمير جقمق الدوادار والأمير قطلوبعا التنمي رأس نوبة، وعدة من الأمراء والقضاة وغيرهم، إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وحكم على العادة، ومضى إلى داره، ثم بعث إلى قاضي القضاة جلال الدين بأن يحمل ما عنده من مال الحرمين والأوقاف، فأبى أن يسلمه ذلك إلا بإذن السلطان، وكان قاضي القضاة جلال الدين لما أعيد إلى وظيفة القضاء في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة تصدى لمحاسبة مباشري أوقاف الحرمين وغيرهما بنفسه، فضبط عليهم ضبطاً زائداً، وخشي من تفريطهم، فجعل ما يتحصل من المال تحت يده، وصار ينفق ما يحتاج إليه من مصارف الحرمين وغيرهما، ففاض تحت يده نحو سبعة آلاف دينار، منها لجهة حرمي مكة والمدينة ستة آلاف دينار، ولجهة الجامع الطولوني والمدرسة الأشرفية ألف دينار. وهذا شيء لم يقع لقاض قبله في الدولة التركية.
وفي يوم الأربعاء غده: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي شهود القاهرة ومصر، الجالسين بالحوانيت للتكسب بتحمل الشهادة وأدائها ليعرضوا عليه، فأوقفهم بين يديه، طائفة بعد أخرى، وأقرهم على ما هم عليه، ولم يستنب سوى عشرة، وكان قاضي القضاة جلال الدين قد انصرف ونوابه أربعة عشر، ثم زاد الهروي بعد ذلك في عدة النواب في الحكم حتى بلغوا نحو العشرين، وأقام أياماً يركب ويمر في الشوارع بهيئة العجم، وهو لابس فرجية مفتوحة عن صدره، ولعمامته عذبة مرخاة على يساره، وسلك في تحجبه مسلكاً غير مسلك القضاة، مع قلة الدراية بمصطلح البلد، وعادة الناس بمصر.
وفي يوم الجمعة: ترقب الناس ركوبه للقلعة ليخطب ويصلي بالسلطان في جامع القلعة، فبعث نائباً عنه، فإن لسانه فيه عجمة، وعنده حبسة، بحيث أنه إذا أراد أن يتكلم عسر عليه ابتداء الكلام قليلاً، وهو يعالجه علاجاً، ثم يتكلم بعجمة، وهذا لا يتأتى معه إقامة الخطبة، واتفق له أيضاً أنه حضر مع رفقائه قضاة القضاة الثلاث عند السلطان، فلما حان انصرافهم لم يستطع قراءة الفاتحة والدعاء كما هي العادة، فقرأ قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي فاتحة الكتاب، ودعا، ومن العادة أن لا يتقدم أحد في القراءة على قاضي القضاة الشافعي.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء: في ثالثه: وقفت طائفة من بلد الخليل عليه السلام للسلطان، وشكوا الهروي على مال أخذه منهم في أيام نظره على بلد الخليل، وأنه طرح على بعضهم بيضاء وألزمه أن يحمل بعدده دجاجاً، فبعث السلطان إليه يأمره أن يخرج لهم مما يلزمه من الحق.

وفيه وشي للسلطان بالأمير جقمق الدوادار أنه موافق لقرايوسف، وذلك أنه اتصل بالسلطان رجل ادعى أنه من أولاد علي الدربندي، فأحسن إليه وأمر بتجهيزه للحج، فحج وعاد، فوشي بالأمير جقمق أنه لما كان السلطان بكختا حسن لرسول قرايوسف جذبه إلى البلاد الشامية، وأنه مشى بينه وبين قرايوسف بذلك، فبعث إليه قطعة بلخش ثمينة، فأعلم السلطان الأمير جقمق بما قيل عنه، ولم يسم القائل، وأظهر له أنه لم يصدق الناقل، فقلق جقمق قلقاً كبيراً، إلى أنكان في شهر تاريخه، أعاد ابن الدربندي الكلام، وأنه قدم إلى جقمق كتاب في المعني المذكور، فأسلمه السلطان في هذا اليوم إلى جقمق، وأعلمه بخبره، وما نقل عنه، فعاقبه فلم يثبت، وأحضر وتداً مجوفاً مسدوداً بالحديد من رأسه، وطيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية بماء الذهب معناه أنه للأمير جقمق من قرايوسف، أن القاضي حين وصل إليه أوصله رسالته وهديته، وأن هذا الكلام لم يرد إلينا منك وحدك، ولكن اعتمدنا عليك، وعد من الذين فروا جماعة، واللقاء بيننا وبينك حلب، ولك نياتها، فطلب الأمير جقمق الخراطين وأراهم الوتد المذكور، معرفة بعضهم وقال: أنا صنعت هذا لشخص شاب، ولم يعطني أجره فأحضر الشاب، وتنبع الكتاب من العجم، فوجد رجل أعجمي قد مرض، ونزل بالمارستان فأوقف على الكتاب فاعترف أنه خطه، فنفي الشاب إلى قوص، وطلب ابن الدربندي وعنف على ما عمل، فقال: الأمير ألطنبغا الصغير ألجأني إلى الكذب على الأمير جقمق، فلم يعبأ به ولا بقوله، وغرق في النيل. ومات العجمي المريض بالمارستان من ليلته.
وفي رابعه: قدم الخبر بأن الشيخ إبراهيم الدربندي مات، وأن قرايوسف بعث ابنه الخان على ستة آلاف فارس إلى شماخي فأتته عساكر بلاد الدشت، وكسرته، وقتل منه أناس كثير. فلما بلغ ذلك شاه ميرزه بن تيمورلنك، عزم على أن يصيف في تبريز لأجل قرايوسف، وأن بير عمر حاكم أرزن كان انكسر من عساكر الروم كسرة عظيمة، قتل فيها كثير من أصحابه وأن قرا يلك ركب على بلاد قرايوسف، وحارب من بماردين منهم وكسرهم، وقتل وأسر منهم نحو السبعين، وأخذ له ثمان قلاع ومدينتين، ورحل مائتين وعشرين قرية بأموالها وعيالها، ليسكنهم ببلاده، وأنه على حصار ماردين.
وفي ثامنه: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه القبلي، ومعه من الأغنام عشرون ألف رأس، سوى ما تلف منها، فإنه أخذ أربعة وخمسين ألف رأس لم يحضر للسلطان إلا ما ذكر، ومن الرقيق العبيد والإماء ألف وثلاثمائة شخصاً، ومن البقر ثلاثة آلاف رأس، ومن الجاموس تسعة آلاف رأس، ومن الجمال ألفان، ومن القند والعسل والغلال شيء كثير جداً، قوم عليه بمائة ألف دينار، يقوم بها. وفيه رسم أن يستقر الأمير بردبك العجمي في نيابة سيس، وجهزت إليه الخلعة، عوضاً عن أقبغا.
وفي تاسعه: رسم بإخراج من لا وظيفة له من العجم، بين الفقهاء من الخوانك وغيرها ثم أهمل أمرهم.
وفي تاسع عشره: قدم الخبر بأن هوارة اجتمعوا - ما بين راكب وماشي - نحو الألفين، وأقبلوا يريدون الأمير سودن القاضي، وكان معه من الأمراء أينال الأزعري أحد مقدمي الألوف، فاقتتلوا قتالاً كبيراً قتل فيه من أصحاب الأميرين جماعة. ثم كانت الكسرة على هوارة، وقتل منهم جماعة، حمل منهم عشرون رأساً إلى السلطان. فتوجه الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي والأمير جقمق الدوادار، والأمير ططر رأس نوبة النوب، والأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، والأمير قطلو بغا في عدة من المماليك في حادي عشرينه نجدة لسودن القاضي.
وفي عشرينه: أعيد شمس الدين محمد بن الحاج عمر بن شعبان الجابي إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن يعقوب.
وفي رابع عشرينه: قدم الخبر بأن نائب غزة، وكاشف الرملة ونائب القدس، ساروا نجدة للأمير شاهين نائب الكرك على العرب، فتلقاهم ليسير بهم، ويقاتل العرب، فامسكوه - كما أسر إليهم السلطان - وحمل مع نائب القدس إلى دمشق، وسجن بقلعتها، وقبض معه على حاجب الكرك، واعتقل بقلعتها، وسبب إمساك شاهين هذا لم يحضر لملاقاة السلطان عند عوده من بلاد الروم. وقدم الخبر بأن نائب حلب سار بالعسكر الحلبي ونواب القلاع، وأمراء تركمان الطاعة، ونزل على قلعة كركر، في ثاني جمادى الآخرة هذا، وحصر خليل نائبها، وقد جلا أهل كركر عنها، واستعد خليل بقلعتها وحصنها.

وفي هذا الشهر: شرع السلطان في بناء مارستان للمرضى، موضع مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسن تجاه الطلبخاناه من القلعة.
وفي آخره: نقل سوق الرقيق من مكانه إلى مكان بطرف البندقانيين.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه وفى النيل ستة عشر ذراعاً، وزاد إصبعين، فركب السلطان النيل إلى المقياس حتى خلق بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، مكان يوماً مشهوداً، وغرق فيه جماعة انقلبت بهم المركب، فهلكوا.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: ولد للسلطان ولد ذكر، من خوند ابنة الأمير تنم الحسني، نائب الشام سماه محمداً، وكناه بأبي المعالي، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفي عشرينه: ورد الخبر بأن الأمراء أوقعوا بهوارة على ناحية جرجا فقتلوا منهم وأسروا نحو الخمسين، ومر باقيهم على طريق الواحات، وتركوا حريمهم وأموالهم.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: كانت عقيقة الأمير المعالي محمد ابن السلطان، وخلع على الأمراء، وأركبوا الخيل بالقماش الذهب، فتجاوز المصروف عليها خمسة عشر ألف دينار.
وفي ثالث عشرينه: قدم سيف بردبك الخليلي، نائب صفد، بعد موته.
شهر شعبان، أوله الجمعة: فيه وجد السلطان ورقة بمجلسه. فيها:
يا أيها الملك المؤيد دعوة ... من مخلص في حبيه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة ... فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه ... وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم ... ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى ... فله سهام في الجوانح تجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه ... تدري ولا حين الخطابة يفصح
واكشف هموم المسلمين بثالث ... فعسى فساد منهم يستصلح
فعرضها السلطان على الفقهاء الذين يحضرون مجلسه في يوم الأحد، فلم يعرفوا كاتبها، واستحسن السلطان الأبيات، وكانت ابتداء سقوط الهروي من عينه.
وفيه غرق ولد بعض الباعة في الخليج، فأخرجه أبوه ميتاً، فلم يمكن من دفنه إلا بعد استئذان الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي، والي القاهرة، - كما هي العادة - فأمر به عندما استأذنه إلى السجن، فسجن، وبعث إليه أنه لا سبيل إلى الإفراج عنك، حتى تحمل خمسة دنانير، مما زالوا به حتى وعدهم بذلك، وخرج وهو موكل به، فباع بضاعته التي يقيم منها أوده وأود عياله فأحرزت ثلاثة دنانير، ثم أخذ جميع ما عند امرأته - أم الغريق - وباعه، مبلغ ديناراً واحداً واقترض ديناراً، حتى كملت الخمسة دنانير التي للوالي، ثم اقترض شيئاً أخذه الموكلون عليه من أعوان الوالي، وشيئاً كفن به ولده ودمعه لمن دفنه، ثم ترك امرأته، وفر. وهذا من بعض ما تفعله الولاة، في هذا الزمن العجيب.
وفي يوم السبت ثامن شعبان: نودي على النيل بزيادة إصبعين، تتمة ثلاثة أصابع، من تسعة عشر ذراعا. وكان له من يوم النوروز - وهو يوم الاثنين سادس عشرين شهر رجب لم يزد، فإنه انتهى في يوم النوروز إلى إصبع من تسعة عشر ذراعاً. ثم نقص نصف ذراع، ثم تراجع قليلاً قليلاً، حتى ود النقص وزاد إصبعين، وكان منذ نقص النيل، ارتفع سعر الغلال.
وفيه قدم الأمراء من الوجه القبلي، بألفي جمل، واثني عشر ألف رأس من الغنم الضأن، سوى ما تفوقه الأمراء من الجمال، وعدتها نحو الألفين، وسوى ما نهب من الأغنام، وهو شي كثير جداً.

وفيه نودي أن لا يتعامل الناس بالدنانير الأفرنتية الناقصة عن درهم وثمن في الوزن، وأن من وجد معه دينار ناقص يقص، ويحضر به إلى دار الضرب، وأن يكون الدينار الأفرنتي التام على حاله بثلاثين مؤيدياً وكل مؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، ليكون الأفرنتي بمائتين وعشرة دراهم فلوساً، والأصل في هذه الدنانير المشخصة، التي يؤتى بها من بلاد الفرنج، وتعرف بالأفرنتية، أن تكون زنة كل مائة دينار منها أحد وثمانين مثقالاً وربع مثقال، والمعاملة بها عدداً لا وزناً، فلم يتركها أهل الفساد على حالها، بل يردئوا منها، حتى فحش نقصها، نودي عليها، وقع كثير من الناس في الخسارة من أجل ما في الأيدي منها، ووجدت الصيارفة والباعة السبيل إلى أخذ أموال الناس، بحجة أن الدينار نقص بكذا وكذا، ويتحكم الصيرفي بما يريد فذهب كثير من أموال الناس في تغيير أحوال النقود، ولا قوة إلا بالله.
وفي تاسعه: قبض على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ناظر الخاص، بقلعة الجبل، وأنزل به مع بعض الأمراء المقدمين إلى بيت الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، وسلم له، وكان قد تقدم من ابن نصر الله قبل ذلك بأيام يسيرة مفاحشة، خرج فيها عن الحد في حق ابن أبي الفرج، وشافهه في حضرة السلطان بعظائم تقتضي غضب السلطان عليه، فما شك أحد في هلاكه، فكان الأمر بخلاف ذلك، وأكرمه ابن أبي الفرج، وأنزله وقام له بما يليق به، وأرسل إلى داره يعد أهله بكل خير، ويأمر غلمانه وأتباعه أن يلازموا ما هم فيه من خدمته على عادتهم، وركب فخر الدين من الغد إلى السلطان، وقد نزل إلى بركة الحبش لعرض الهجن التي بها إلى الحجاز، فأقام عنده يومه كله، وهو يلج في السؤال أن يفرج عن ابن نصر الله، ويقره على ما بيده، إلى أن قبل شفاعته فيه، فلما عاد أركبه إلى داره، فبات بها وركب في بكرة يوم الثلاثاء ثاني عشره إلى القلعة، فخلع عليه خلعة الرضا والاستمرار، ونزل إلى داره، وقد سر الناس به سروراً كبيراً، وعدت هذه الفعلة من ابن أبي المرج نجداً لا يشابهه شيء من أخلاق أهل زماننا.
وقدم الخبر بأن الأمير يشبك نائب حلب أقام على كركر أربعين يوماً، مجداً في حصارها، حتى نفذ العليق من العسكر، فأخلى بلاد كركر من أهلها، وسيرهم إلى بلاد حلب، ورعى الكروم وحرقها، وحرق القرى حتى تركها بلاقع وعاد إلى حلب بمن معه، من غير أخذ قلعة كركر. وقدم الخبر بأن الأمير ناصر الدين محمد بيك بن علي بيك بن قرمان نزل على طرابلس، في خامس عشر رجب، وحاصرها، وسأل نائبها الأمير شاهين الأيدكاري النجدة، فكتب بخروج عساكر الشام إليها. واستقر الأمير عز الدين حمزة ابن الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان في نيابة أذنة، وإمرة التركمان، على عادة أبيه عوضاً عن إبراهيم بن رمضان، لانتمائه إلى ابن قرمان. وأنعم على عساكر حلب بعشرة آلاف دينار، نفقة كونهم توجهوا إلى كركر. واستقر في نيابة كختا الأمير بردبك الحمزاوي، عوضاً عن الأمير منكلي بغا، وأعيد منكلي بغا إلى إمرته بحماة.
وفي يوم الجمعة نصفه: نقص النيل عشر أصابع، بعد ما انتهى في الزيادة إلى عشر أصابع، من تسعة عشر ذراعاً.
وفي سادس عشره: ابتدئ بهدم دار التفاح، خارجباب زويلة، وهي جارية في وقف الأمير طقز دمر، على خانكاته بالقرافة، بعد ما دفع فيها ألف دينار أفرنتية، ليعتاض أهل الوقف بها مكاناً غيره.
وفي ثامن عشره: استقر الأمير مراد خجا أحد أمراء الألوف - في نيابة صفد وخلع عليه، وأنعم بتقدمته وإقطاعه على الأمير جلبان المؤيدي رأس نوبة السلطان، ورأس نوبة الأمير إبراهيم ابن السلطان.
وفي ثالث عشرينه: توجه الأمير أزدمر الظاهري - أحد مقدمي الألوف - في عدة الأمراء والمماليك السلطانية إلى بلاد الصعيد، لإقامة بها، وعاد الأمير جقمق الداودار بمن بقي معه.
وفيه قدم الخبر باستمرار ابن قرمان على حصار طرسوس ونزول قرايوسف على آمد، وفرار قرايلك منه، ونزوله على جانب الفرات تجاه قلعة نجمة، واستئذانه نائب حلب في التعدية، وأن أهل البلاد الحلبية عظم خوفهم، وعزموا على الفرار منها، مخافة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في نوبة تمرلنك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21