كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

وفي خامس عشرى: أحضر الأمير بيبرس الداودار الأموال من عند الملك المظفر بيبرس. وفيه أمر السلطان اثنين وثلاثين أميراً من مماليكه منهم تنكز الحسمامي، وطغاي، وكستاي، وقجليس، وخاص ترك، وخلط قرا، وأركتمر، وأيدمر الشيخي، وأيدمر الساقي، وبيبرس أمير آخور، وطاجار، وخضر بن نوكاي، وبهادر قبجق، والحاج رقطاي، وأخوه أيتمس المحمدي، وأرغون الدوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر، وسنقر المرزوقي، وبلبان الجاشنكير، وأسنبغا، وبيبغا الملكي، وأمير علي بن قطلوبك، ونوروز أخو جنكلي، والجاي الحسامي، وطيبغا حاجي، ومغلطاي العزي صهر نوغاي، وقرمشى الزيني، وبكتمر قبجق، وبيغر الصالحي، ومغلطاي البهائي، وسنقر السلاح دار، ومنكلي بغا. وركبوا جميعاً بالشرابيش، وشقوا القاهرة، وقد أوقدت الحوانيت كلها إلى الرميلة وسوق الخيل، ورصت المغاني وأرباب الملاهي في عدة أماكن، ونثرت عليهم الدراهم، فكان يوماً مشهوداً. وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه، ومنهم أمراء عشراوات.
وفيه قبض على الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح أمير جاندار، بعدما حضرا من عند الملك المظفر وخلع عليهما. وفيه كتب إلى ولاة الأعمال بالحوطة على موجود الأمراء المقبوض عليهم، وطلب السلطان مباشرتهم.
وفيه سفر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندرية، وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها، وهم: الأقوش المنصوري قاتل الشجاعي، والشيخ علي التتري، ومنكلي التتري، وشاورشي بن قنغر الذي أثار فتنة الشجاعي، وكتبغا، وغازي وموسى أخوا حمدان بن صلغاي، فلما حضروا خلع عليهم، وأنعم عليهم بإمريات في الشام وأحضر شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية من سجن الإسكندرية إلى السلطان، فبالغ في إكرامه.
وأما المظفر بيبرس فإنه لما فارق قلعة الجبل أقام بإطفيح يومين، واتفق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح على المسير إلى برقة والإقامة بها، فلما بلغ المماليك هذا عزموا على مفارقتهم، فلما رحلوا من إطفيح رجع المماليك شيئاً بعد شيء إلى القاهرة، فما بلغ الملك المظفر إلى إحميم حتى فارقه أكثر من كان معه، فانثنى رأيه عن برقة. وتركه الخطيري والفتاح وعادا إلى القاهرة، فتبعهما كثير من المماليك المظفرية وهو يراهم. وبينما هو سائر قدم عليه الأميران بيبرس الدوادار وبهادر أص من عند الملك الناصر ليتوجه إلى صهيون، بعد أن يدفع ما أخذه من المال بأجمعه إلى بيبرس، فسار به بيبرس في النيل، وقدم بهادر آص في البر بالمظفر ومعه كاتبه كريم الدين أكرم. وسأل المظفر يمين السلطان مع من يثق به، فحلف له السلطان بحضرة الأمراء، وبعث إليه بنلك مع أيتمش المحمدي، فلما قدم عليه أيتمش بالغ في إكرامه، وتحير فيما يفعله، وكتب الجواب بالطاعة، وأنه يتوجه إليه ناحية السويس، وأن كريم الدين يحضره بالخزانة والحواصل التي أخذها فلم يعجب السلطان ذلك، وعزم على إخراج تجريدة إلى غزة ليردوه، وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقرا سنقر نائب دمشق والحاج بهادر نائب طرابلس.
فلما كان يوم الخميس الذي قبض فيه على الأمراء جلس بعض المماليك الأشرفية، فلما خرج الأمراء من الخدمة قال أولئك الأشرفية: وأي ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم، وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف، ودمه إلى الآن على سيفه ما خرج أثره، قد صار اليوم حاكم المملكة - يعني قرا سنقر. فنقل هذا لقرا سنقر، فخاف على نفسه، وأخذ في التعمل على الخلاص من مصر، والتزم للسلطان أنه يتوجه و يحصل المظفر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج التجريدة، فإن في بعث الأمراء لنلك شناعة، فمشي ذلك على السلطان، ورسم بسفرهما. فخرج قرا سنقر هو وسائر النواب إلى ممالكهم، فعوق السلطان أسندمر كرجي نائب حماة عن السفر، وسار البقية.

ثم جهز السلطان أسندمر كرجي لإحضار المظفر مقيداً، فاتفق دخول فرا سنقر والأمراء إلى غزة قبل المظفر، فلما بلغهم قربه ركب قرا سنقر وسائر النواب والأمراء ولقوة شرقي غزة، وقد تقى معه عمد من مماليكه وقد تأهبوا للحرب، فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم. فأنكر المظفر على مماليكه تأهبهم للقتال، وقال: أنا كنت ملكاً وحولي أضعافكم، ولي عصبة كثيرة من الأمراء، وما اخترت سفك الدماء، وما زال حتى كفوا عن القتال، وساق بنفسه حتى صار مع الأمراء، وأسلم نفسه إليهم، فسلموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة، وأخفوا سلاح مماليكه ووكلوا بهم من يحفظهم، وأصبحوا من الغد عائدين به معهم إلى مصر. فأدركهم أسندمر كرجي بالخطارة، فأنزل في الوقت المظفر عن فرسه وقيده بقيد أحضره معه، فبكي وتحدرت دموعه على شيبته. فشق ذلك على قرا سنقر وألقى الكلفتاه عن رأسه إلى الأرض، وقال: لعن اللّه! الدنيا فياليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم. فترجلت الأمراء، وأخفوا كلوثته ووضعوها على رأسه. هذا مع أن قرا سنقر كان أكبر الأسباب في زوال دولة المظفر، وهو الذي حسن للملك الناصر حتى كان ما كان.
ثم عاد قراسنقر والحاج بهادر إلى جهة الشام، وأخذ بهادر يلوم قرا سنقر على مخالفة رأيه، فإنه كان قد أشار على قراسنقر في الليل بعد القبض على المظفر بأن يخلي عنه حتى يصل إلى صهيون، ويتوجه كل منهما إلى محل ولايته، ويخيفا الناصر بأنه متى تغير عما كان قد وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفر وإعادته إلى الملك. فلم يوافق قراسنقر على ذلك، وظن أن الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفر، فلما رأى ما حل بالمظفر ندم على مخالفة بهادر. وبينما هما في ذلك إذ بعث أسندمر كرجي إلى قراسنقر بمرسوم السلطان أن يحضر صحبة المظفر إلى القلعة، وكان عزمه أن يقبض عليه أيضاً، ففطن فراسنقر بذلك وامتنع من التوجه إلى مصر، واعتذر بأن العشير قد جمعوا ويخاف على دمشق منهم، وجد في المسير، وعرف أنه ترك الرأي في مخالفة بهادر.
وقدم أسندمر بالملك المظفر في ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي القعدة، فلما مثل المظفر بين يدي السلطان قبل الأرض، فأجلسه وعنفه بما فعل به، وذكره بما كان منه وعدد ذنوبه، وقال: تذكر وقد صحت على وقت كذا بسبب فلان، ورددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في وقت كذا من الخزانة فمنعتها، وطلبت في وقت حلوى بلوز وسكر فمنعتني. ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي، والمظفر ساكت. فلما فرغ كلام السلطان قال له: يا مولانا السلطان كل ما قلت فعلته، و لم تبق إلا مراحم السلطان. وإيش يقول المملوك لأستاذه. فقال له: يا ركن الدين أنا اليوم أستاذك، وأمس تقول لما طلبت أوز مشوي إيش يعمل بالأوز، الأكل هو عشرون مرة في النهار. ثم أمر السلطان به إلى مكان، وكان ذلك ليلة الخميس، فاستدعى بوضوء وصلى العشاء الآخرة. ثم جاء السلطان وأمر به فقتل، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل، وغسل به في ليلة الجمعة خامس عشرة، ودفن خلف القلعة.

وقدم كريم الدين أكرم بن العلم بن السديد كاتب الملك المظفر بالمال والحواصل، فقربه السلطان وأدناه وأثنى عليه، ووعده بكل جميل إن أظهره على ذخائز بيبرس، ونزل إلى داره. فبذل كريم الدين جهده في تتبع أموال بيبرس، وخدم طغاي وكستاي وأرغون الدوادار، وبذل لهم مالا كثيراً حتى صاروا أكبر أعوانه وأنصاره، لا يبرحون في الثناء عليه مع السلطان. وقدم من كان مع بيبرس من المماليك وعدتهم ثلاثمائة، ومعهم الخيل والهجن والسلاح، ومبلغ مائتي ألف درهم وعشرين ألف دينار، وستون بقجة من أنواع الثياب. فقبض السلطان الجميع. وفرق المماليك على الأمراء، واختص منهم بكتمر الساقي الآتي ذكره وما صار إليه، واختص أيضاً طوغان الساقي وقباتمر وبلك في آخرين. واستدعى السلطان القضاة، وأقام عندهم البينة بأن جميع مماليك بيبرس وسلار وسائر ما وقفاه من الضياع والأملاك اشترى من مال بيت المال. فلما ثبت ذلك ندب السلطان الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك وكريم الدين أكرم لبيع تركة بيبرس، وإحضار نصف ما يتحصل فإنه للسلطان، ودفع النصف الآخر لابنة بيبرس - امرأة الأمير برلغي الأشرفي - فإنه لم يترك سواها. فشدد كريم الدين الطلب على امرأة بيبرس حتى أخذ منها جواهر عظيمة القدر وذخائر نفيسة جداً، وحمل منها إلى السلطان، وأهدي إلى الأمراء الخاصكية القائمين بأمره والعناية به، وادخر لنفسه. وباع موجود بيبرس، وكان شيئاً كثيراً: فوجد له ثمانين بذله ثياب، ما بين أقبية وبغالطيق للبسه، وستين سروالاً، وثمانين قميصاً. وصار كريم الدين يتردد إلى بيت الشهاب الدين أحمد بن عبادة وكيل السلطان المتحدث في أملاكه، وهو حينئذ عظيم الدولة المتحدث في سائر أمور المملكة، ويقرب إليه بما يحب. وطلب الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي مباشري الأمراء المقبوض عليهم، وطالبهم بالأموال.
وأما قرا سنقر والنواب فإنه سقط في أيديهم، وداخل كلا منهم الخوف على نفسه من السلطان، واتفقوا على ألا يحضر أحد منهم إلى السلطان إن استدعاه، فلم يفدهم ذلك. وكان من خبرهم ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فات السلطان قرا سنقر لم ير القبض على أسندمر كرجي، وخلع عليه وولاه نيابة حماة، وسار إليها. وندب الأمير علم الدين سنجر الخازن لمساعدة الصاحب فخر الدين على حوطات الأمراء.
ثم ركب السلطان إلى الميدان في موكب عظيم، واجتمع الناس لرؤيته، واستأجروا الحوانيت والدور بمال كبير، فكان يوما مشهوداً.
وفي أول ذي الحجة: دخل الأمير قرا سنقر دمشق. وفيه سار الأمير أرغون الدوادار على البريد إلى الشوبك بتشريف سلار، وأنعم عليه بمائة فارس، وأخرجت له بلاد من خاص الكرك زيادة على ما بيده من الشوبك، وكتب له به منشور.
وفيه وسط تحت القلعة سبعة من ممالك أقوش الرومي، بسبب أنهم تولوا قتله وأخنوا ماله، وصاروا إلى الكرك كما تقدم.
وفيه منع الأويراتية من الدخول إلى الخدمة السلطانية: وسببه أنهم كانوا مستخدمين عند الأمراء، فلما خامروا على أستاذيهم وفروا إلى السلطان بالكرك ظنوا أنهم قد اتخذوا عنده بذلك يداً، فصاروا بعد عوده إلى السلطنة يمشون في خدمة السلطان ويقفون فوق المماليك السلطانية، فشق ذلك على المماليك، وأغروا السلطان بهم حتى تنكر لهم، وأكثروا من ذمهم والعيب عليهم بكونهم خامروا على أستاذيهم وأنهم لا خير فيهم، إلى أن منعهم السلطان.
وفيه كتب لقرا سنقر نائب دمشق بمحاربة العشير وقتلهم، وكانت بنو هلال وبنو أسد قد كثرت حروبهم وعظم فسادهم لاختلال أمر الدولة، فبعث إليهم قرا سنقر تجريدة أحضرت رؤوسهم، وقرر عليهم ثلاثمائة ألف دحرهم، وحبس رهائنهم، وبعث يسأل الإنعام عليه بمبلغ، فأنعم عليه. وأعيد الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي إلى مشيخة سعيد السعداء، وعزل عنها بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر عوضه جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين على بن القسطلاني في خطابة القلعة، وكان قد عزل منها ابن جماعة أيضاً لتغير السلطان عليه. وأنعم على الأمير نوغاي القبجاقي بإمرة دمشق عوضاً عن قطلوبك، وسار إليها. وكتب بقطع خبز الأمير قطلوبك الأوشاقي والطنقش أستادار الأفرم وعلاء الدين علي بن صبيح مقدمي الجبلية وحملهم إلى مصر.

وفيه قبض على الأمير برلغي الأشرفي وطغلق السلاح دار ومغلطاي الفارقاني، وكتب لقرا سنقر بالقبض على نوغاي وبيبرس العلمي، فقبض عليهما وسحنا بقلعة دمشق. وأحيط بسائر ما لهما.
وفيها كانت حرب بالمدينة النبوية: وذلك أن الشريف مقبل بن جاز بن شيحة أمير المدينة تنافس مع أخيه منصور، فتركه وقدم إلى القاهرة، فولاه الملك المظفر نصف الإمرة بنجد، واستخلف ابنه كبيشة. ففر كبيشة عنها وملكها مقبل، فعاد كبيشة بجمع كبير وحاربه وقتله، واستقر منصور بمفرده.
ومات في هذه السنةممن له ذكر ضياء الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري البخاري، القرطبي المتحد، القنائي المولد والوفاة، في رابع ذي القعدة، وكان رئيساً ببلده.
ومات الشيخ الصالح المعمر أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحمامي البغدادي، بمكة في جمادى الآخرة.
ومات نبيه الدين حسن ابن حسين بن جبريل ابن نصر الأنصاري الأسعردي، بالقاهرة في أول جمادى الآخرة، ولي حسبة القاهرة، لما استقر ضياء الدين أبو بكر النشائي وزيراً تولى هو نظر الدولة، مات بمصر عن سبع وسبعين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الفقيه الحنبلي، في المحرم بمصر، وكان بارعاً في الفقه والنحو.
ومات الأمير الوزير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري في ربيع الأول؛ ودفن خارج باب النصر، بعدما استعفى من الإمرة ولزم داره حتى مات ومات الشيخ نجم الدين محمد بن إدريس القمولي الشافعي، بقوص في جمادى الأولى؛ وكان صالحاً عالماً بالفقه والتفسير والحديث.
ومات قاضي القضاة شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني الحنبلي، ليلة الجمعة رابع عشرى ربيع الأول، ودفن بالقرافة، ومولده بحران سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، بالقاهرة في عاشر رمضان.
ومات الأمير عز الدين أيبك الخازندار، بالقاهرة في سابع رمضان.
ومات الأمير عز الدين عبد العزيز بن شرف الدين محمد القيسراني، كاتب الدرج ومدرس المدرسة الفخرية بالقاهرة، يوم الخميس عاشر صفر.
ومات الأمير سيف الدين قيران شاد الدواوين بدمشق، بعد عزله.
ومات الأمير علاء الدين أقطوان الدواداري بدمشق أيضاً.
ومات الأمير علاء الدين علي بن معين الدين سليمان البرواناه نائب دار العدل، بقلعة الجبل، وقدمت أخته بعد موته فشاهدته ميتا، ثم دفن.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الرستمي شاد الدواودين، بدمشق في يوم الأحد ثاني عشرى جمادى الأولى.
ومات متملك تونس الأمير أبو عبد الله المعروف بأبي عصيدة ابن يحيى الواثق بن محمد المستنصر بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ربيع الآخر، وكانت مدته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، ووفى بعده الأمير أبو بكر بن أبي زيد عبد الرحمن ابن أبي بكر بن يحيى بن عبد الواحد المدعو بالشهيد، لأنه قتل ظلماً بعد ستة عشر يوماً، وبويع بعده أيضاً الأمير أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم.
ومات التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة، في يوم السبت ثاني رجب، وكان عند المظفر بيبرس بمكانة عظيمة قرره مشيراً، فكانت تحمل إليه فوط العلامة، فيمضي منها ما يختاره ويكتب عليه عرض، فإذا رأى السلطان خطه علم وإلا فلا، وكذلك كتب البريد، و لم يزل على ذلك حتى بعث إليه الأفرم نائب الشام يهدده بقطع رأسه، فامتنع، وكان مشهوراً بالأمانة والعفة، مهيباً له حرمة، لا يخالط أحداً ولا يقبل هدية.
سنة عشر وسبعمائةأهل المحرم: فوردت رسل سيس بهدية، منها طشت ذهب وإبريق بلور مرصع بالجوهر، وكتاب يتضمن الهناء بالعود إلى الملك، فأجيب بالشكر.
وصرف قاضي القضاء بمر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الدين بن جماعة الشافعي، وولى بعده القضاء بديار مصر جمال الدين أبو الربيع سليمان بن مجد الدين أبي حفص عمر بن شرف الدين أبي الغنائم سالم بن عمرو بن عثمان الأذرعي الشهير بالزرعي الشافعي، في يوم الثلاناء تاسع عشرى صفر.

وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي في رابع ربيع الأول، فأقام بعد عزله ستة أيام ومات واستدعى شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الحسن بن عبد الوهاب بن أبي عمر الأنصار الدمشقي المعروف بابن الحريري الحنفي من دمشق إلى القاهرة، واستقر في قضاء الحنفية بالقاهرة ومصر في رابع ربيع الآخر.
وعزل الأمير علاء الدين كشتغدي البهادري من شد الدواوين، واستقر عوضه بلبان المحسني، ثم عزل بلبان بعد أيام بعلم الدين سنجر الخازن. واستقر شمس الدين غبريال في نظر الدواوين، وعزل شاورشي بن قنغر من ولاية القاهرة.
وفي ربيع الأول قبض السلطان على إخوة سلار وحاشيته، فقبض علاء الدين سمك وجبا وداود وأمير على وساطي. وقبض على الأمير طشتمر الجوكندار وكوري السلاح دار وسيف الدين الطشلاقي وقلغاي، وتتمة ستة عشر أميراً. وكتب إلى نائب دمشق ونائب طرابلس بالقبض على الأمراء الذين أفرج عنهم عندما قدم السلطان من الكرك: وهم ألطنبغا وأشقتمر وعبد الله والأقوش المنصوري والشيخ علي التتري وبينجار النتري ومرسي وغازي وأخوا حمدان بن صلغاي وطرنطاي المحمدي وأقطوان الأشرفي، فقبض عليهم خوفاً من شرهم وإقامتهم الفتن. وكتب إلى نائب حلب بالقبض على فخر الدين أياز نائب قلعة الروم، فقبض عليه، وأخذ ماله فكان ألف ألف درهم، حملت إلى السلطان.
واستقر نجم الدين محمد بن عثمان البصروي في وزارة دمشق، وسار من القاهرة في سابع صفر. واستقر الأمير بكتمر الحسامي الحاجب في نيابة غزة، عوضاً عن بلبان البدري، وسار في سابع عشري المحرم. وندب الأمير بدر الدين القرماني لكشف القلاع الشامية، فسار ومعه أمين الدين عبد اللّه بن الغنام. وقبض السلطان على قطقطواه والشيخ على وضروط مماليك سلار، وأمر جماعة من المماليك منهم بيبغا الأشرفي وسيف الدين جغطاي وطيبغا الشمسي وبكتمر قبجق وبهادر السعيدي الكركري وطشتمر أخو بتخاص والعمري وقطلوبغا وأزدمر وملكتمر الشمسي وفردز الكمالي وبيحوا وقرا وأيدمر الدوادار وبهادرالنقيب.
وفيها قدم الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب في جمادى الأولى، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأل في أشياء منها: ولاة حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي، فأجابه السلطان إلى ذلك، ووعده بحماة عوضاً عن أسندمر كرجي، ومنها الشفاعة في عز الدين أيدمر الشيخي، فعفا عنه السلطان وأخرجه إلى قوص، ومنها الشفاعة في الأمير برلغي الأشرفي وكان في الأصل قد كسبه مهنا من التتر، وأهداه للملك المنصور قلاوون، فرتبه عند ابنه الملك الأشرف خليل فعدد السلطان ذنوبه، وما زال به مهنا حتى خفف عن برلغي، وأذن للناس في الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضي منها بذلك، وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء.
ولما فرغ السلطان من أمر المظفر بيبرس لم يبق عنده أهم من سلار، فندب إليه الأمير ناصر الدين محمد بن أمير سلاح بكتاش الفخري، وكتب على يده كتابا بحضوره، فاعتذر عن الحضور بوجع في فؤاده، وأنه يحضر إذا زال عنه. فتخيل السلطان من تأخيره، وخاف أن يتوجه إلى التتار، فكتب إلى قرا سنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب طرابلس يأخذ الطريق على سلار لئلا يتوجه إلى التتار، وبعث الأمير بيبرس الدوادار وعلم الدين سنجر الجاولي إلى سلار، وأكد عليهما في إحضاره، وأن يضمنا له على السلطان أنه يريد إقامته عنده ليستشيره في أمور المملكة فقدما عليه وبلغاه عن السلطان ما قال، فوعد بأنه يحضر، وكتب الجواب بذلك، فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله.
وأما سلار فإنه تحير في أمره، واستشار أصحابه فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بتوجهه إلى السلطان، ومنهم من أشار بتوجهه إلى قطر من الأقطار، إما إلى التتار أو إلى اليمن أو برقة. فعول سلار على المسير إلى اليمن، ثم أجمع على الحضور إلى السلطان، وخرج من الشوبك وعنده ممن سافر معه من مصر أربعمائة وستون فارسا، وسار إلى القاهرة، فقدم وقبض عليه في سلخ ربيع الآخر، وسجن بالقعة.
وفيها عزل صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل من وظائفه بدمشق، من أجل أنه قبض عليه بصالحية دمشق وعنده جماعة يعاقرونه الخمر.

وفيها ضيق على الأمير برلغي بعد سفر الأمير مهنا، وأخرج حريمه من عنده ومنع من الوصول إليه، ومن أن يدخل إليه بأكل أو شرب فلما أشفي برلغي على الموت قتل، بعدما يبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع، ومات ليلة الأربعاء ثاني رجب.
وفيها قتل الأمير سلار أيضاً بقلعة الجبل، في رابع عشري جمادى الأولى، وأحيط بماله وكان شيئا كثيرا. ولما وصل طلبه فرقه السلطان على الأمراء. ثم ماتت أمه بعد أيام. وكان سلار عاقلا له رأي وحزم، وأصله لما كسبه المنصور قلاوون من التتر.
وقدم البريد بموت الأمير قبجق نائب حلب، وأن عماد الدين إسماعيل لما ورد عليه التقليد بنيابة حماة سار إليها من دمشق. فمنعه أسندمر كرجي، فأقام بين حماة وحمص ينتظر مرسوم السلطان. فاتفق موت قبجق، فسار أسندمر من حماة إلى حلب، وكتب يسأل السلطان نيابتها، فغضب السلطان من أسندمر، وأسر ذلك في نفسه.
وفيها عزل الأمير بكتمر الحاجب عن نيابة غزة، وأحضر إلى القاهرة، وولي نيابة غزة الأمير قطلقتمر.
وفيها عزل الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي من الوزارة، والأمير علم الدين سنجر الخازن من شد الدواوين، واستقر الأمير بكتمر الحاجب في الوزارة في حادي عشر رمضان، واستقر فخر الدين أياز أستادار سنقر الأعسر في شد الدواوين. واتفق أن أياز هذا استخدمه الأمير سلار النائب استاداره بعد موت عز الدين أيدمر الرشيدي، فلم يزل حتى قبض على سلار وأحيط بماله، ورسم على أياز مع سائر مباشريه، وسلموا لعلم الدين سنجر الخازن مشد الدواوين في المصادرة، ليستخرج منهم المال فحمل أياز للخازن ألف دينار، وللصاحب فخر الدين ألف دينار، فرد الخازن المال وقبله الصاحب. فلم يمض سوى أيام حتى عزل الصاحب والخازن، وسلما لأياز ليستخرج المال منهما فبعث إليه الخازن ألف دينار فردها، وقال لقاصده: سلم عليه، وقل له ما لنا عنده شيء، وطيب خاطره، وبعث إليه الصاحب فخر الدين ألف دينار فأخذها، وقال لقاصده: عرفه أني أخذت وديعتي التي كان أخذها مني، ثم إن الأمير بكتمر الجوكندار شفع فيهما، فأفرج السلطان عنهما.
وفيها قدم مملوك عماد الدين إسماعيل بن الأفضل بأنه دخل حماة لمعد خروج أسندمر منها. وقدم رسول الأشكري ورسل ملك الكرج بهدايا سنية في رجب، وسألوا فتح الكنيسة المصلبة بالقدس. فكتب الجواب بأن هذه الكنيسة غلقت من الأيام الظاهرية على يد الشيخ خضر، وبنى فيها مسجد، ولا يمكن نقض ذلك، ورسم أن تفتح لهم كنيسة الملكية بمصر وكنيسة اليعاقبة التي بالقاهرة وكنيسة اليهود، وأذن لهم أن يركبوا على الاستواء.
وفيها كتب بعزل نجم الدين البصري عن وزارة دمشق، وولاية شرف الدين حمزة القلانسي عوضه. وقمم البريد بوفاة الحاج بهادر الحلي نائب طرابلس، فكتب بنقل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس، فسار إليها. وفرح السلطان بموت الحاج بهادر فرحاً زائداً، فإنه كان يخشاه ويخشى شره.
والتفت السلطان إلى أسندمر كرجي نائب حلب، وأخرج تجريدة من القاهرة فيها من الأمراء كراي المنصوري وهو مقدم العسكر، وسنقر الكمالي حاجب الحجاب، وأيبك الرومي، وبينجار، وكجكن، وبهادر آص، وفي عدة من مضافيهم أمراء الطبلخاناه والعشراوات ومقدمي الحلقة، وأظهر أنهم قد توجهوا لغزو سيس. وكتب السلطان لأسندمر كرجي بتجهيز آلات الحصار على العادة، والاهتمام في هذا الأمر حتى يصل العسكر المجرد من مصر، وكتب إلى عماد الدين صاحب حماة بالمسير مع العسكر. وسار الأمير كراي من القاهرة مستهل ذي القعدة، بعدما أخلع عليه، وأسر إليه السلطان ما يعتمده في أمر كرجي.
وفيها عدى السلطان النيل إلى الجيزة، ونزل تحت الأهرام ليتصيد. فمات ولده على ابن الخاتون أردوكين ابنة نوكيه، وله من العمر ست سنين، في ليلة الأحد حادي عشر رجب، ودفن بالقبة الناصرية بين القصرين، بعدما حضر الأمير علم الدين سنجر الجاولي لتجهيزه. واشتد حزن أمه عليه، ووقفت على القبة ما خصها من إرث الملك الأشرف خليل، ورتبت عند قبره القراء.

وفيها عظم شأن شهاب الدين أحمد بن عبادة وكيل السلطان، وضرب أكابر العنبر بالمقارع، مثل عز الدين بن حالومة وشمس الدين بن الحكيم : وسبب ذلك أن السلطان كان قد وهبه قبل توجهه إلى الكرك مملوكاً جميل الصورة، فصار يشتمل على المذكورين ويعاشرهم على ما لا ينبغي، فحنق ابن عبادة من ذلك وأوقع بهم. وضرب ابن عبادة أيضاً شهاب الدين أحمد النويري صاحب التاريخ بالمقارع: وذلك أنه كان استنابه في المدرسة الناصرية والمنصورية وغيرهما، وجعله يدخل على السلطان ويطالعه بالأمور، فاغتر بذلك وبسط القول في ابن عبادة. فلم يعجب السلطان منه وقيعته في ابن عبادة، وعرف ابن عبادة ما قاله في حقه، وسلمه إليه ومكنه منه، فضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً وصادره، فلم يشكر النويري أَحد على ما كان منه.
وفيها توحش خاطر الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطة بمصر من السلطان، وخاف منه، واتفق بكتمر مع الأمير بتخاص المنصوري على إقامة الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصاع علي بن قلاوون في السلطنة، والاستعانة بالمظفرية، وبعثوا إليه بذلك فوافقهم. وشرع النائب في استمالة الأمراء، ومواعدة المماليك المظفرية الذين بخدمة الأمراء، على أن كل طائفة تقبض على الأمير التي هي بخدمته في يوم عينه لهم، ثم يسوق الجميع إلى قبة النصر خارج القاهرة، وقد نزل هناك الأمير موسى. فدبروا ذلك حتى انتظم الأمر، و لم يبق إلا وقوعه، فأراد بيبرس الجمدار أحد المظفرية الذين انتظموا في سلك هذا العقد أن يتخذ يداً عند السلطان، وعرف خوشداشيته قياتمر الخاصكي بما وقع الاتفاق عليه، فبلغ الخبر إلى السلطان، وكان في الليل، فلم يتمهل السلطان، وطلب أمير موسى إلى عنده، وكان يسكن بالقاهرة، فلما نزل إليه الطلب هرب. واستدعى السلطان الأمير بكتمر النائب، وبعث أيضاً في طلب بتخاص، وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة، فلما دخل إليه بكتمر أكرمه وأجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص فسقط في يد بكتمر، وعلم بأنه قد هلك، فقيد بتخاص وسجن، وأقام السلطان في انتظار أمير موسى، فعاد إليه الجاولي ونائب الكرك وأخبراه بفراره، فاشتد غضبه عليهما. وما طلع النهار حتى أحضر السلطان الأمراء، وعرفهم ما كمان قد تقرر من إقامة أمير موسى وموافقة. بتخاص له، و لم يذكر بكتمر النائب. وألزم السلطان الأمير كشتغدي البهادري والي القاهرة بالنداء عليه، ومن أحضره من الجند فله إمرته، وإن كان من العامة أخذ ألف دينار. فنزل كشتغدي ومعه الأمير فخر الدين أياز شاد الدواوين وأيدغدي شقير وسودي وعدة من المماليك، وألزم سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة الأشرفية حتى يظهر أمير موسى، وقبض على حواشي موسى وجماعته وعاقب كثيراً منهم. فلم يزل الأمر على ذلك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة، ثم قبض عليه من بيت أستادار الفارقاني من حارة الوزيرية بالقاهرة، وحمل إلى القلعة فسجن بها. ونزل الأمراء إلى دورهم، وخلى عن الأمير بكتمر النائب أيضاً، ورسم بشمير أستادار الفارقاني، ثم عفى عنه وسار إلى داره.
وتتبع السلطان المماليك المظفرية فقبض عليهم، وفيهم بيبرس الذي نم عليهم وعملوا في الحديد. وأنزلو ليسمروا تحت القلعة، وقد حضر نساؤهم وأولادهم، وجاء الناس من كل موضع، فكثر البكاء والصراخ عليهم رحمة لهم، والسلطان ينظر، فاًخذته الرحمة وعفا عنهم، فتركوا ولم يقتل أحد منهم.

وأما العسكر فإنه لما وصل إلى حمص أقام بها على ما قرره السلطان مع الأمير كراي، حتى قدم عليه الأمير منكوتمر الطباخي بكتب السلطان لكراي ولكرجي نائب حلب بما يتعمدانه من المراسيم. وقد كتب السلطان معه أيضاً مطلقات إلى أمراء حلب بقبض كرجي، وحمله مشافهات لكراي وغيره، فقضى منكوتمر شغله من كراي بحمص، وسار إلى حلب. فرحل كراي في أثره، وجد في السير إلى حلب جريدة من غير أثقال، فقطع من حمص إلى حلب في يوم ونصف، ووقف بمن معه تحت قلعتها عند ثلث الليل الأخير، وصاح يال على وهي الإشارة التي رتبها السلطان بينه وبين نائب القلعة فنزل النائب عند ذلك من القلعة بجميع رجالها، وقد استعدوا للحرب، وزحف ومعه الأمير كراي على دار النيابة، ولحق بهم أمراء حلب وعسكرها. فسلم كرجي و لم يقاتل، فأخذ وقيد وسجن بالقلعة، وأحيط بموجوده، وسار منكوتمر الطباخي على البريد بذلك إلى السلطان. ثم حمل أسندمر كرجي إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرومي، فخاف قرا سنقر عند ذلك على نفسه، وسأل أن ينقل من دمشق إلى نيابة حلب، ليبعد عن السلطان، فأجيب إلى ذلك، وكتب تقليده وجهز إليه في أخريات ذي الحجة.
وفيها استقر كريم الدين وأبو الفضائل عبد الكريم بن العلم هبة الله بن السديد ابن أخت التاج بن سعيد الدولة في نظر الخاص ووكالة السلطان، بعد موت شهاب الدين أحمد بن عبادة، في يوم الإثنين سابع عشر جمادى الأولى.
وفيها قدم أسندمر كرجي، فاعتقل بالقلعة، وبعث يسأل عن ذنبه عنده، فأعاد جوابه: ما لك ذنب إلا أنك فلت لما ودعتك عند سفرك، أوصيك يا خوند لا تترك في دولتك كبشاً كبيراً، وأنشئ مماليكك، ولم يبق عندي كبش كبير غيرك.
وفيها قبض على طوغان نائب البيرة، وحمل إلى السلطان فحبسه أياماً، ثم ولاه شد الدواوين بدمشق. وخرج الأمير أرغون الدوادار على البريد بتقليد فرا سنقر حلب، وأسر إليه القبض عليه إن أمكن ذلك.
وفيها قدم الشريف منصور أحمد بن جاز من المدنية النبوية بتقادم، فأنعم عليه بإعادة ما خرج لأخيه مقبل.
وفيها استعفى الطواشي شهاب الدين مرشد الخازندار من الإمرة، فأعفي.
واتفق في هذه السنة أمر غريب قلما عهد مثله: وهو موت سلطان مصر، وقاضيها إمام الحنفية في عصره، ومفسرها، والمتكلم على القلوب، وواعظها، وشيخ شيوخها وإمام الشافعية وعالمهم، ومحتسبها، وناظر جيوشها، وأديبها فقتل السلطان الملك المظفر بيبرس في ذي القعدة. وتوفي القضاة إمام الحنفية في عصره شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروحي المصري، عن ثلاث وسبعين سنة، في يوم الخميس ثالث عشرى رجب، ومولده سنة سبع - وقيل سنة تسع - وثلاثين وستمائة، وأخذ الفقه عن صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب وغيره، ودفن بالقرافة، وله على كتاب الهداية شرح جليل لكنه لم يكمل، وله اعتراضات على التقي ابن تيمية.
ومات الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن الشيخ الرفعة مرتفع بن حازم ابن إبراهيم بن عباس الأنصاري البخاري المعروف بابن الرفعة الفقيه الشافعي المصري، في ليلة الجمعة ثامن عشر رجب، ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة. وتوفي الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد الجليل النمراوي، في تاسع ذي القعدة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عطا الله صاحب الكلام الرائق الفائق، في ثالث عشر جمادى الآخرة.
ومات شيخ الوعاظ نجم الدين العنبري، في سادس شعبان، ومات شيخ الشيوخ خانكاه السعداء كريم الدين أبو القاسم عبد الكريم بن الحسين أبي بكر الآملي الطبري، في تاسع شوال، وولي بعده علاء الدين على بن إسماعيل القونوي.
ومات القاضي بدر الدين حسن بن نصر الأسعردي المحتسب، في مستهل جمادى ا لآخرة.
ومات القاضي بهاء الدين أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن علي بن المظفر بن الحلي ناظر الجيوش، في ليلة العاشر من شوال.
ومات الأديب البارع شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف بن معتوق الخزاعي الموصلي في ثامن عشرى جمادى الآخرة، ومولده بالموصل سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان كثير المجون والشعر البديع، وله كتاب طيف الخيال، لم يصنف مثله في معناه.

ومات ملك المغرب صاحب فاس أبو الربيع بن أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن عبد الحق المريني، في آخر جمادى الآخرة، وبويع بعده أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق.
ومات شهاب الدين أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم بن عبد العزيز بن جامع بن راضي العزازي التاجر، عن بضع وسبعين بالقاهرة في تاسع عشرى المحرم، وله ديوان شعر كبير ومات فخر الدين إسماعيل بن عبد القوي بن الحسن حيدرة الحميري الإسنائي المعروف بالإمام الفقيه الشافعي، بعدما كف بصره، بمدينة قوص.
ومات شهاب الدين أحمد بن علي بن عبادة وكيل الخاص، في ليلة الأحد سادس عشر جمادى الأولى بالقاهرة؛ودفن بالقرافة؛ وولي بعده كريم الدين أكرم.
ومات أمين الدين أبو بكر بن وجيه الدين عبد العظيم بن يوسف بن الرقاقي ناظر الدواوين بديار مصر، ليلة الأحد ثالث عشرى جمادى الأولى ، ودفن بالقرافة، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، ولي نظر بيت المال ونظر البيوت ونظر الدولة بمصر والشام.
ومات عز الدين الحسن بن الحارث بن الحسين بن يحيى بن خليفة بن نجا بن حسن ابن محمد من ولد الحارث بن مسكين، أحد أعيان الفقهاء الشافعية عصر ليلة السبت ثامن جمادى الأولى.
ومات الشريف أبو عبد اللّه محمد بن علي بن أبي طالب، عرف بالشريف عطوف الحسيني الموسى العطار، ليلة الخميس خامس جمادى الآخرة، ودفن خارج باب النصر، وقل حديثه.
ومات الأمير سيف الدين بلبان البيدغاني نائب بغراس، مقتولاً بيد مماليكه.
ومات الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي نائب طرابلس، في ربيع الآخر.
ومات الشيخ الصالح عبد اللّه بن ريحان التقوي السمسار بمصر، حدث عن ابن المقير وابن رواح وغيره.
ومات بهاء الدين على بن الفقيه عيسى بن سليمان بن رمضان الثعلبي المصري، الصدر المعمر المعروف بابن القيم، في ذي القعدة، وقد تعين للوزارة، ومولده سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكان سليم العقل والحواس.
ومات الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب حلب، في جمادى الأولى.
ومات الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب التاجي، في سادس ذي القعدة.
ومات بحر الدين أبو البركات عبد اللطيف ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، يوم الأحد ثامن عشرى جمادى الآخرة بالقاهرة، ومولده بدمشق سنة تسع وأربعين وستمائة، وولي قضاء العسكر.
ومات الخطيب بهاء الدين عبد الرحمن بن عماد الدين علي بن السكري في حياة أبيه، ليلة السبت حادي عشر رجب بمصر.
ومات الأمير سيف الدين قشتمر الشمسي، بدمشق.
ومات الطواشي شهاب الدين مرشد الخازندار المنصوري، بالقاهرة في ليلة الخميس ثالث ذي القعدة وكان خيرًا، وانفرد بالرواية عن جماعة، وولد سنة ثلاث عشر وستمائة، ومات و لم تتغير حواسه.
ومات الأمير جمال الدين أقوش قتال السبع الموصلي أمير علم، بمصر في تاسع رجب. ومات خضر بن الخليفة أبي الربيع سليمان، في ثالث عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير برلغي الأشرفي في سجن القلعة، بعدما يبست أعضاؤه وجف لسانه من الجوع في ليلة الأربعاء ثامن رجب.
ومات الأمير حسام الدين طرنطاي البغدادي.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا الجمدار.
ومات الأمير سيف الدين أرغون الجمقدار.
ومات قطب الدين محمود بن مسعود بن مفلح الشيرازي صاحب التصانيف، رمضان.

ومات الأمير سيف سلار في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وكان من التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالح علي بن قلاوون، وبقي بعد موته في خدمة الملك المنصور قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحظى عنده، فلما قتل حظى عند لاجين لمودة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائب السلطنة بديار مصر، وكان من أخباره ما تقدم ذكره، إلى أن قدم من الشوبك، فترك في السجن حتى مات جوعاً، وتولى الأمير علم الدين سنجر الجاولي دفنه بتربته على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش، وكان سلار أسمر، لطيف القد أسيل الخد، لحيته في حنكه سوداء، ظريفاً في لبسه، اقترح أشياء نسبت إليه إلى يوم، وبلغ من السعادة إلى مبلغ عظيم: فكان يدخل إليه من أجر أملاكه في كل يوم ألف دينار مصرية، ومن إقطاعاته وضماناته وحماياته تتمة مائة ألف درهم في اليوم، عنها حينئذ زيادة على خمسة آلاف دينار مصرية، وكان بقطاعه أربعين إمرة طبلخاناه، وكان عاقلاً متأنياً داهياً قليل الظلم، واشتملت تركته على ثلاثمائة ألف ألف دينار وزيادة: فوجد له في يوم ياقوت أحمر زنة رطلين ونصف، وبلخش زنة رطلين ونصف، وزمرد تسعة عشر رطلاً، وستة صناديق فيها جواهر، ومن الماس وعين الهر ثلاثمائة قطعة، ولؤلؤ زنة ما بين مثقال كل حبة إلى درهم عدة ألف ومائة وخمسين حبة، عين مصري مبلغ مائي ألف و أربعة وأربعين ألف دينار، وفضة دراهم مبلغ أربع مائة ألف و أحد وسبعين ألف درهم، ووجد له أيضاً في يوم فصوص مختلفة زنة رطلين، وذهب عين مصري مبلغ خمسة وخمسين ألف في دينار، ودراهم فضة ألف ألف درهم، وحلي ذهب أربع قناطير، وآلات ما بين طاسات ونحوها ستة قناطير فضة، ووجد في يوم ذهب مصري مبلغ خمسة وأربعين ألف دينار، ودراهم فضة مبلغ ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف درهم، وفضيات ثلاثة قناطير، ووجد في يوم ذهب عين ألف ألف دينار، وفضة ثلاثمائة ألف درهم، ووجد له ثلاثمائة قباء من حرير بفرو قاقم، وثلاثمائة قباء حرير بسنجاب، وأربعمائة قباء بغير فرو، وسروج ذهب مائة سرج، ووجد له ثمانية صناديق لم يعلم فيها، حملت مع ما تقدم إلى السلطان، ووجد له ألف تفصيلة ما بين طرد وحش وعمل الدار، ووجد له خام ست عشر نوبة، ووصل معه من الشوبك مبلغ خمسين ألف دينار ذهباً، وأَربعمائة ألف درهم وسبعين ألف درهم، وثلاثمائة خلعة ملونة وخركاه بغشاء حرير أحمر معدني مبطن بحرير أزرق مروى، وستر بابها زركش ووجد له ثلاثمائة فرس ومائة وعشرون قطار بغال، وعشرون قطار جمال، ومن الغنم والبقر والجواري والمماليك والعقار شيء كثير جداً، ووجد له في موضع بين حائطين عدة أكياس لم يدر ما فيها ولا كم عدتها، ووجد له في المرحاض شبه فسقية، كشف عنها فإذا هي مملوءة ذهباً؛ ووجد له من القمح والشعير والفول ونحوها ثلاثمائة ألف أردب، وذلك سوى ما أخذ من أخوته ومباشريه وحواشيه وأسبابه، فإنهم صودروا جميعاً حتى مقدم شونه وجباة أملاكه، فاجتمع من ذلك ما لا يدخل، تحت حصر لكثرته، واللّه يؤتي ملكه من يشاء.
سنة إحدى عشر وسبعمائةفي مستهل المحرم: وصل الأمير أرغون الدوادار إلى دمشق، فاحترس منه الأمير قرا سنقر على نفسه، وبعث إليه عدة من مماليكه يتلقونه ويمنعون أحداً ممن قدم معه أن ينفرد. مخافة أن يكون معه من الملطفات للأمراء ما فيه ضرر. ثم ركب إليه قرا سنقر ولقيه بميدان الحصا ظاهر المدينة، وأنزله عنده بدار السعادة، ووكل بخدمته من ثقاته جماعة. فلما كان الغد أخرج له أرغون تقليد نيابة حلب، فقبّله وقَّبل الأرض على العادة، وأخذ في التهيؤ للسفر، و لم يدع أرغون ينفرد عنه، بحيث إنه أراد زيارة أماكن بدمشق فركب معه بنفسه حتى قضى أربه وعاد.

وكثر تحدث الناس بدمشق في مجيء أرغون، وأنه يريد قبص قرا سنقر، وأن قرا سنقر قد حضره، فهم الأمراء بالركوب على قرا سنقر وأخذه، ثم خشوا العاقبة، وأنه لم يصل إليهم مرسوم السلطان بذلك، فكفوا عنه. وصار الأمير بيبرس العلائي يركب بمماليكه في الليل، ويطوف حول القلعة على هيئة الحرس. وبلغ ذلك قرا سنقر، فاستدعى الأمراء كلهم إلى عند الأمير أرغون، وقال لهم: إنه قد بلغني أن بعض الأمراء يركب في الليل، ويطوف بالقلعة خشية أن أخرج هارباً، وما فعل هذا إلا برأيكم ولابد أن يكون علمه عندك يا أمير أرغون. فإن كان قد حضر معك مرسوم بالقبض علي فما يحتاج إلى فتنة، فإني طالع للسلطان وهذا سيفي خذه، وحل سيفه. فقال له أرغون: لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب حسب سؤالك، وحاش اللّه أن يكون السلطان يرى الأمير بهذه العين، وأبكز أرغون أيضاً أن يكون عنده علم بركوب الأمير بيبرس العلائي في الليل حول السور، فوعد قرا سنقر أنه يتوجه غدًا إلى حلب، وانفض المجلس.
ثم إن قراسنقر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه ولا يخرج من بيته، واستعد وقدم أثقاله أولاً في الليل. فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرم في مماليكه وعدتهم ستمائة فارس، وركب أرغون بجانبه وبهادر آص في جماعة قليلة. وسار قرا سنقر، فقدم عليه الخبر أن الأمير سنقر الكمالي الحاجب قد تأخر في حلب بجماعة من عسكر مصر، فعرج عن الطريق حتى إذا قارب حلب نزل، وقال لأرغون: لا أدخل حلب وبها أحد من عسكر مصر، فبعث أرغون إلى سنقر الكمالي يأمره بالخروج من حلب فلما رحل عنها سنقر الكمالي دخل إليها قراسنقر في نصف المحرم، ولبس التشريف وقرئ تقليده على العادة، وأعاد الأمير أرغون وقد أنعم عليه. فوصل أرغون إلى دمشق، وقلد الأمير سيف الدين كراي المنصوري نيابة دمشق في يوم الخميس حادي عشرى، وألبسه التشريف على العادة، وقرئ تقليده، وركب الموكب. ثم اًنعم كراي على أرغون بألف دينار سوى الخيل والخلعة وغير ذلك، وأعاده إلى مصر، فشكره السلطان على ما كان من حسن تأنيه وإخماد الفتنة. وقدم الأمير سنقر الكمالي بالعسكر أيضاً، فخلع عليه وأجلس بالإيوان.
وفي صفر. توجه الأمير طوغان المنصوري إلى دمشق متولياً شاد الدواوين، عوضاً عن فخر الدين أياز، فقدمها في ثامن عشره، وقبض على أياز وألزمه بثلاثمائة ألف درهم. وولى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي نيابة حمص.
وفيها عزل الصاحب عز الدين حمزة القلانسي وزير دمشق، وعوق حتى حمل أربعين ألفاً انساقت باقيا على ضمان الجهات، ثم أفرج عنه وقدم القاهرة، فأنعم عليه ورسم بإعادة ما حمله إلى دمشق واستعاده.
وفيها عزل الأمير بكتمر الحسامي عن الوزارة، واستقر أمين الدين عبد اللّه بن الغنام ناظر الدواوين عوضه في الوزارة. وأنعم على الأمير بكتمر بإمرة، عوضاً عن سنقر الكمالي، وولى حاجباً، وذلك في سادس ربيع الآخر.
وفي يوم الأثنين حادي عشريه: أعيد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة إلى قضاء القضاة بديار مصر، وصرف جمال الدين سليمان بن عمر الزرعي واستقر الزرعي في قضاء العسكر وتدريس الجامع الحاكمي، ورسم له أن يجلس بين الحنفي والحنبلي بدار العدل.
وفي مستهل جمادى الأولى: استقر الأمير علم الدين سنجر الجاولي في نيابة غزة، وقبض على الأمير قطلو قتمر نائب غزة.
وقدم الخبر من سيس بأن فرنج جزيرة المصطكى أسروا رسل السلطان إلى الملك طقطاي، ومن معهم من رسل طقطاي وعدتهم ستون رجلاً، وأنه بعث في فدائهم ستين ألف دينار ليتخذ بذلك يداً عند السلطان، فلم يمكنوه منهم. فكتب إلى الإسكندرية ودمياط بالحوطة على تجار الفرنج واعتقالهم كلهم، فأحيط بحواصلهم وحبسوا بأجمعهم. وحضر أحد تجار الجنوية فضمن إحضار الرسل وما معهم، فمكن من السفر.
وفيها عزم السلطان على إنشاء جامع، فاستشار الفخر ناظر الجيش فأشار بعمارته على ساحل مصر، وعين موضع الجامع الجديد وكان بستاناً يعرف بالحاج طيبرس وشونا وغير ذلك، فاستبدل بالأرض على رأي الحنابلة، فإنها كانت وقفاً. نزل السلطان حتى رتبه، وأقام الفخر على عمارته.

وفيها قبض على الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وقبض معه على عدة أمراء، منهم صهره ألكنتمر الجمدار، وأيدغدي العثماني، ومنكوتمر الطباخي، وبحر الدين أيدمر الشمسي، وأيدمر الشيخي، وسجنوا إلا الطباخي، فإنه قتل في وقته. ثم استدعى السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وخلع عليه وولاه النيابة عوضاً عن بكتمر الجوكندار في يوم السبت ثامن عشره.
وفيها أمر أن يجمد السلطان الجلوس بدار العدل في كل ثنين، فحار النقباء على القضاة وغيرهم من أهل الدولة. وجلس السلطان في يوم الإثنين عشريه، ونودي في الناس من له ظلامة فليرفع قصته بدار العدل،فخاف الأمراء وغيرهم، وأدوا ما عليهم من الحقوق من غير شكوى، ورفع الناس قصصهم فقرأها الموقعون على السلطان بدار العدل، ووقع عليها بين يديه، وحكم بين الناس، وأنصف المظلوم، واستمر الجلوس في كل يوم إثنين.
وفيها صرف السلطان قاضي القضاة زين الدين أبا الحسن علي بن مخلوف، بسبب مفاوضة في مكتوب، ثم أعاده بعد أيام في سادس رجب، وخلع عليه.
وفيها استدعى السلطان القضاة، وولى كريم الدين أكرم عبد الكريم الكبير وكالته وجميع ما يتعلق به وبأمر السلطنة بحضورهم، وخلع عليه. فكان أول سعادته أن السلطان اشترى من الفرنج جواهر وغيرها، فبلغ ثمنها ستة عشر ألف دينار، وأحالهم بها على كريم الدين، فذكر الفرنج أنهم بعد ثلاثة أيام يسافرون فحلفه السلطان ألا يؤخرهم عن الثلاثة أيام، فنزل إلى داره وهو محصور لعدم المال عنده، واستشار الأمير علاء الدين بن هلال الدولة والصلاح الشرابيشي، فحسب له أخذ حاصل المارستان المنصوري والاقتراض، من تجار الكارم بقية المبلغ وكانت تجار الكارم بمصر حينئذ في عدة وافرة، ولهم أموال عظيمة. ومضى من الأجل يومان، وأصبح في اليوم الثالث آخر الأجل فأتاه الفرنج وقت الظهر لقبض المال، فاشتد قلقه وأبطأ عليه حضور الكارم. وبينا هو في ذلك إذ أتاه تجار الكارم، فنظر بعضهم إلى واحد من الفرنج له عنده مبلغ عشرين ألف دينار قراضا، فسأل التجار الفرنج عن سبب جلوسهم على باب كريم الدين، فقالوا: لنا عليه حوالة من قبل السلطان بمال، وقد وعدنا بقبضه اليوم. فطالبهم الكارمي بماله من مبلغ القراض، فوعدوه بأدائه. وبلغ ذلك كريم الدين، فسر به سروراً زائداً وكتمه، وأمر بالكارم والفرنج فدخلوا عليه، فلم يعرف الكارم بشيء من أمره، ولا أنه طلبهم ليقترض منهم مالاً، بل قال: ما بالكم من الفرنج؟ فعرفوه أمر القراض الذي عند الافرنجي، فقال لهم : مهما كان عند الإفرنجي هو عندي. ففرح الفرنج بذلك، وأحالوا الكارمي على كريم الدين بستة عشر ألف دينار، وهي التي وجبت عليه بحوالة السلطان، ودفعوا أربعة آلاف تتمة عشرين ألف دينار للكارمي. وقام الفرنج وقد خلص كريم الدين من تبعهم بغير مال، والتزم للكارمي بالمبلغ، فمضى هو وبقية التجار من غير أن يقترض منهم شيئاً، فعد هذا من غرائب الاتفاق.
وفيها قبض على الأمير قطلوبك نائب صفد. وأنعم على الصاحب نجم الدين البصروي بإمرة.
وفيها قرر على أملاك دمشق وأوقافها ألف وخمسمائة فارس، وهي التي كانت تسمى مقرر الخيالة، فلما ورد المرسوم بذلك على الأمير كراي نائب دمشق أعسف بالناس في الطلب، وضرب جماعة وأخذ مالاً كبيراً، فتجمع الناس مع الخطيب جلال الدين محمد القزويني، وكبروا ورفعوا المصاحف والأعلام، ووقفوا للنائب، فأمله بهم فضربوا وطردوا طرداً قبيحا، فكثر عليه الدعاء، فلم يمهل بعدها غير تسعة أيام.

وقدم أرغون الدوادار من مصر إلى دمشق يوم الأربعاء ثاني عشرى جمادى الأولى على البريد، وعلى يده مراسيم للأمراء بالقبض على الأمير سيف الدين كراي، ووصل أيضاً في هذا اليوم مملوك كراي، وصحبته تشريف وحياصة وسيف لمخدومه، واتفق قدوم رسل التتر. فأوصل الأمير أرغون الكتب إلى الأمراء، وأصبح كراي يوم الخميس فركب المركب، ونزل وقد احتفل لأجل لبس التشريف، ولقدوم الرسل. فلما فرغ الأكل، وانصرفت الرسل، أحاط الأمراء بكراي وأخرجوا مرسوم السلطان بمسكه، فقبض عليه وهو بتشريفه، وحمل مقيداً إلى الكرك، فسجن بها. وكان القبض عليه في يوم الخميس ثالث عشرى جمادى الأولى، وقبض في غده على قطلوبك نائب صفد، وسجن بالكرك. واستقر في نيابة دمشق عوض الأمير كراي الكبير جمال الدين أقوش نائب الكرك، وخلع عليه في مستهل جمادى الآخرة، فقدمها في رابع عشره.
وفيه استقر الأمير سيف الدين بهادر آص في نيابة صفد، وأرسل تشريفه صحبة الأمير جمال الدين أقوش، وقد توجه إليها. ورسم للأمير بدر الدين بكتوت القرماني بشد الدواوين بدمشق، وكتب على يده مساحة بما قرره كراي. وتوجه بكتوت مع الأمير جمال الدين أقوش إلى دمشق، فقدمها في رابع عشر جمادى الآخرة، قرئت المسامحة على منبر الجامع، فسر الناس بذلك. وقبض بدمشق على الأمير بكتوت الشجاعي، وسيف الدين جنقار الساقي، وحملا إلى الكرك.
وفيها نقل الأمير بكتمر الجوكندار النائب والأمير أسندمر كرجي من سجن الإسكندرية إلى سحن الكرك؛ فاجتمع بالكرك من الأمراء المعتقلين بكتمر الجوكندار، وأسندمر كرجي، وكراي المنصوري، وقطلوبك المنصوري نائب صفد، وبيبرس العلائي، في آخرين.
وفيها استقر الأمير سيف الدين بيبغا الأشرفي في نيابة الكرك، عوضاً عن الأمير أيتمش المحمدي، وكان السلطان قد استنابه بها لما خرج منها إلى دمشق.
وفيها وصل الأمير سليمان بن مهنا إلى القاهرة، ومعه عدة من التتر مقيمين، أسرهم في الغارة على التتر، فأنعم عليه بمائة ألف درهم.
وفيها قدم البريد من حلب بأن خربندا ملك التتر قتل جماعة من خواصه، وقتل خواصه.
وفيها أقيمت الخطبة للملك الناصر بطرابلس الغرب، أقامها له الشيخ أبو يحيى زكريا ابن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن حفص عمر اللحياني، لما جهزه السلطان إليها بالصناجق وبعدة من الأجناد، وكان ذلك في شهر رجب، وكان الأجناد قد قدموا مع بيبرس، بعدما قدمها أبو يحيى من مصر في جمادى الأولى.
وفي ثامن عشر رمضان: كتب باستقرار الأمير بلبان في نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن بهادر السنجرلي. ورسم لبهادر بنيابة قلعة البيرة.
وفي سادس شوال: قبض على الصاحب أمين الدين عبد اللّه بن الغنام، وعلى التاج عبد الرحمن الطويل، وقرر عليهما مال، فحملاه وهما معوقان بالقلعة، من غر أن يلي أحد. ثم أفرج عنهما يوم الخميس حادي عشريه، وخلع عليهما، واستقرا على عادتهما. فمات التاج في ذي القعدة، وإستقر عوضه في نظر الدولة تقي الدين أسعد ابن أمين الملك المعروف بكاتب برلغي، وولى التاج إسحاق والموفق هبة الله وظيفة مستوفي الدولة، وكانا كتابا لسلار.
وفيها توجه السلطان إلى بلاد الصعيد. ورسم بنقص الإيوان الأشرفي بقلعة الجبل، فنقض وجدد، فلما عاد السلطان جلس فيه على العادة.
وفيها وصل كرنبس ملك النوبة بالقود المقرر عليه، بعد قتل أخيه. وقدمت رسل الملك المؤيد هزبر الدين دواد ملك اليمن، بهدية ومائتي جمل ومائتي جمال وخيول ووحوش وطيور، ففرق ذلك على الأمراء الأكابر والأصاغر.
وفيها استقر علاء الدين علي بن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير في كتاب السر، عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري، في يوم الأحد سابع ذي الحجة، ونقل شرف الدين إلى كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أخيه محيي الدين يحيى. وكان ابن الأثير قد توجه من مصر مع السلطان، هو وجمال الدين إبراهيم بن المغربي، فلما أقام بالكرك خيرهما، فاختارا الإقامة عنده، فلما عاد إلى ملك مصر رعى لهما ذلك، وأقر ابن الأثير في كتابة السر، وابن المغربي في رياسة الأطباء.

وفيها أخذ الأمير قرا سنقر في التدبير لنفسه، خوفاً من القبض عليه كما قبض على غيره؛ واصطنع العربان وهاداهم، وصحب سليمان بن مهنا وأخاه، وأنعم عليه وعلى أخيه موسى، حتى صار الجميع من أنصاره، وقدم عليه الأمير مهنا إلى حلب، وأقام عنده أياما، وأفضى إليه بسره، وأنه خائف من السلطان، وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنا، وأنه لم يوافق على ذلك، فغضب الأمير مهنا، وأخذ يسكن ما بقرا سنقر، وانصرف وقد اشتد غضبه. وبعث قرا سنقر يسأل السلطان في الإذن له بالسفر إلى الحج، فأذن له في الحج، وقد سر أنه بخروجه من حلب يقدر على أخذه، وبعث إليه بألفي دينار وخلعة. وكتب السلطان إلى الأمير مهنا يطلب منه فرساً عينه، وأن يحضر إلى مصر لزيارته - وكان قد بلغه اجتماع مهنا بقرا سنقر. فدبر أمرا يعمله معه أيضا ً - فبعث مهنا الفرس وأعاد الجواب. وجهز قرا سنقر حاله. وخرج من حلب في نصف شوال، ومعه أربعمائة مملوك واستناب الأمير شهاب الدين قرطاي، وترك عدة مماليكه بحلب لحفظ حواصله.
فلما قدم البريد بمسيره من حلب كتب لقرطاي بالاحتراس، وألا يمكن قرا سنقر من حلب إذا عاد، ويحتج عليه بإحضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك، وكتب إلى نائب دمشق ونائب غزة ونائب الكرك وإلى بني عقبة بأخذ الطريق على قرا سنقر؛ فقدم البريد بأنه سلك البرية على صرخد إلى زيزاء. ثم كثر وهمه واشتد خوفه من السلطان، لورود الخبر من ثقاته بمصر بما عزم عليه السلطان، وما كتب به، فعاد من غير الطريق التي سلكها. ففات أهل الكرك القبض عليه، وكتبوا بالخبر إلى السلطان، فشق عليه ذلك، وكتب بكشف أخباره، وكتب إلى حلب بمنعه منهما ومنع مماليكه من الخروج إليه، وإن وجدت فرصة تقبض عليه، قدم قرا سنقر ظاهر حلب قبل قدوم ما كتب به السلطان. فمنعه قرطاي من الدخول، وعوق من بحلب من مماليكه عن الخروج إليه، فسقط في يده ورحل، وكتب إلى الأمير مهنا بما جرى له، فكتب مهنا إلى قرطاي بأن يخرج حواصل قرا سنقر إليه، وإلا هجم على مدينة حلب وأخذ ماله قهراً. فخاف قرطاي من ذلك، وجهز كتابه إلى السلطان في طي كتابه، وبعث بشيء من حواصل قرا سنقر إليه مع الأمير عز الدين فرج بن قرا سنقر. وانصرف قرا سنقر عن حلب وقصد البرية، ثم جهز ولده فرج ونائبه عبدون إلى الديار المصرية، وكذلك جملة من أمواله، فقدم فرج أواخر ذي الحجة، وانعم السلطان عليه بإمرة عشرة، أقام بالقاهرة مع أخيه علاء الدين علي بن قرا سنقر.
وقدم سليمان بن مهنا إلى قرا سنقر، وأخذه حتى أنزله في بيت أمه، واستجار بها من السلطان فأجارته. وأتاه الأمير مهنا وأولاده، وقام له بما يليق به، وكتب يعرف السلطان بنزول قرا سنقر في أبياته، وأنه استجار بأم سليمان فأجارته، وسأل العفو عنه، وبعث بذلك أحد أولاده. فأجاب السلطان سؤاله، وكتب إليه أن يخبر قرا سنقر في بلد من البلاد حتى يوليه.
فلما سافر ابن مهنا من مصر أخرج السلطان تجريدة فيها من الأمراء حسام الدين قرا لاجين الأستادار، حسام الدين لاجين الجاشنكير، وعلاء الدين مغلطاي المسعودي، وشمس الدين الدكز الأشرفي، ولاجين العمري، في مضافيهم من الطبلخاناه والعشراوات. ثم أردفهم السلطان بتجريدة أخرى، فيها الأمير سيف الدين قلى السلاح دار، وسيف الدين وآل ملك، وجنكلي بن البابا، وأمير حسين بن جندر، في جماعة من الخاصكية مثل أرغون الدوادار، وأرقطاي، وأيتمش، وجغطاي، والجاي الساقي، وطقطاي الساقي. وكنب السلطان لنائب دمشق بتجريد كجكن وكتبغا الحاجب بمضافيهما، وجعل مقدم هذه العساكر قرا لاجين الأستادار، وصاحب السر والمشورة أرغون الدوادارة فساروا من دمشق يريدون جهة مهنا.

فاستعد قرا سنقر، وكتب إلى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب طرابلس يستدعيه إليه، فأجابه بالموافقة، ووعده بالحضور إليه. وكتب الأفرم إلى صهره الأمير عز الدين أيدمر الزردكاش بدمشق يأمره باستفساد من قدر عليه ولحاقه به وبقرا سنقر، وجهز إليه خمسة آلاف دينار ليفرقها فيمن يستميله، ونزل العسكر السلطاني حمص. فأرادا قرا سنقر مخادعة السلطان ليتسع له المجال، وكتب إليه مع مملوكه، وكتب إليه مهنا مع ولده بالدعاء والشكر، وأن قرا سنفر قد اختار صرخد، وسألا يمين السلطان بالوفاء، وإخراج ما لقرا سنقر بحلب من المال وتمكينه منه. فمر ابن مهنا ومملوك قرا سنقر على حمص، وعرفا الأمير قرا لاجين وأرغون الدوادار بدخول قرا سنقر في الطاعة، وأنه عين صرخد. فمشى ذلك عليهما، وكتبا معهما إلى السلطان بمعنى ذلك. فانخدع السلطان أيضاً، وكتب تقليد قرا سنقر بنيابة صرخد، ورسم أن يتوجه به إليه أيتمش المحمدي، وكتب لأيتمش بأن يوصل الملطف إلى مهنا سراً، وأن طقطاي يتوجه إلى حلب، ويخرج ما لقرا سنقر بها من المال، ويسيره إليه. وأنعم السلطان على مملوك قرا سنقر بألف دينار، ووعده أنه متى قام على أستاذه حتى يعود إلى الطاعة أنعم عليه بإمرة، وأخرجه على البريد هو وابن مهنا. فسارا إلى حمص، ودفعا كتب السلطان إلى الأمراء، وسارا بأيتمش إلى قرا سنقر فسر به وأنزله، واحتج بأنه لا يتوجه إلى صرخد حتى يأتيه ما له في حلب، فتحيل أيتمش حتى أوصل ملطف السلطان إلى مهنا، فأطلع عليه قرا سنقر.
وبينا هم في ذلك إذ قدمت أموال قرا سنقر التي كانت بحلب إليه، فإن طقطاي توجه إليها وبعث إلى قرا سنقر بما كان له فيها فما هو إلا أن وصل ماله بحلب، إذا بالأفرم قد قدم عليه أيضاً من الغد، ومعه خمسة أمراء طبلخاناه وستة عشراوات في جماعة من التركمان. وقدم الزردكاش، ومعه الأمير بلبان الدمشقي والي القلعة، وبيبرس الحسامي، فسر قرا سنقر بقدومهم. ولما استقر بهم المنزل استدعوا أيتمش، وعددوا عليه من قتله السلطان من الأمراء، وأنهم قد خافوا على أنفسهم، وعزموا على الدخول إلى بلاد التتر، وركبوا بأجمعهم. فعاد أيتمش إلى الأمراء بحمص، وعرفهم الخبر، فركبوا عائدين إلى مصر بغير طائل، ووقعت الحوطة على أموال الأفرم ومن تبعه.
وفيها أفرج عن الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، وأنعم عليه بخبز الجاولي.
وفيها ولي شمس الدين غبريال كاتب قرا سنقر نظر الجامع الأموي بدمشق والأوقاف، عوضاً عن شرف الدين ابن صصري، وكان غبريال لما خرج قرا سنقر من حلب قدم إلى مصر وسعى حتى ولى ذلك.
وفي ثالث ذي الحجة: قدمت تقدمة اليمن على العادة، فقبلت.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر

الأمير بدر الدين بكتوت الخازنداري - عرف بأمير شكار - نائب الإسكندرية، وكانت وفاته بعد عزله، في ثامن عشرى رجب بالقاهرة، وأصله من مماليك الأمير بيليك الخازندار نائب السلطنة بمصر في الأيام الظاهرية، وتنقل حتى اشتهر في الأيام العادلية كتبغا وصار أمير شكار، ثم ولى الإسكندرية وكثر ماله، واختص بيبرس وسلار، فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة حضر وحسن للسلطان حفر خليج الإسكندرية ليستمر الماء فيه دائما، فندب معه الأمير بدر الدين محمد بن كيدغوي المعروف بابن الوزيري، وفرض العمل على سائر الأمراء، فأخرج كل منهم أستاداره ورجاله، وركب ولاة الأقاليم. ووقع العمل من رجب سنة عشر وسبعمائة، فكان فيه نحو الأربعين ألف راجل تعمل، وقد قسم بالأقصاب على الأمراء والولاة، وحفر كل أحظ ما حد له، فكان قياس العمل من فم البحر إلى شنبار ثمانية آلاف قصبة، ومثلها إلى الإسكندرية. وكان الخليج الأصلي من حد شنبار يدخل الماء، فجعل فم هذا البحر يرمي إليه، وعمل عمقه ست قصبات في عرض ثماني قصبات. فلما وصل الحفر إلى حد الخليج الأول حفر بمقدار الخليج المستجد، وجعل بحراً واحداً، وركب عليه القناطر. ووجد في الخليج من الرصاص المبني تحت الصهاريج شيء كثير، فأنعم به على بكتوت هذا. فلما فرغ أنشأ الناس عليه أراضي وسواقي، واستجدت عليه قرية عرفت بالناصرية، فبلغ ما أنشئ عليه زيادة على مائة ألف فدان ونحو ستمائة ساقية وأربعين قرية، وسارت فيه المراكب الكبار، واستغنى أهل الثغر عن خزن الماء في الصهاريج، وعمر عليه نحو ألف غيط، وعمرت به عدة بلاد. وتحول الناس حتى سكنوا ما عمر من الأراضي على الخليج، فصار بعدما كان سباخاً سواقي القصب والقلقاس والسمسم وغيره. فلما تم ذلك أنشأ بكتوت من ماله جسراً، أقام فيه نحو ثلاثة أشهر حتى بناه رصيفا واحدا نحو ثلاثة أشهر حتى بناه رصيفاً واحدا نحو الثلاثين قنطرة بناها بالحجارة والكلس، وعمل أساسه رصاصاً، وأنشأ بجانبه خاناً وحانوتاً، وعمل فيه خفراء، وأجرى لهم رزقة، فبلغت النفقة عليه نحو ستين ألف دينار. وأعانه على ذلك أنه هدم قصراً قديماً خارج الإسكندرية وأخذ حجره، ووجد في أساسه سرباً من رصاص مشوا فيه إلى قرب البحر المالح، فحصل منهه جملة عظيمة من الرصاص. ثم إنه شجر ما بينه وبين صهره، فسعى به إلى السلطان وأغراه بأمواله، وكتب أمين الدين عبد الله بن الغنام - وهو مستوفي الدولة - عليه أوراقاً بمبلغ مائة ألف دينار، فطلب إلى القاهرة. ولما قرئت عليه الأوراق قال: قبلوا الأرض بين يد السلطان وعرفوه عن مملوكه أنه إن كان راضياً عنه فكل ما كتب كذب، وإن كان غير راضياً فكل ما كتب صحيح. وكان قد وعك في سفره من الإسكندرية، فمات بعد ليال في ثامن عشر رجب وأخذ، له مال عظيم جداً، وكان من أعيان الأمراء وكرمائهم وشجعانهم مع الذكاء والمروءة والعصبية، وله مسجد خارج باب زويلة، وله عدة أوقاف على جهات بر.
ومات الأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري، مات بدمشق.
ومات الوزير فخر الدين عمر بن عبد العزيز الحسين بن الحنبلي التميمي، وهو معزول، ليلة عيد الفطر، ودفن بالقرافة، ومولد، في سنة أربعين وستمائة، وكان كريماً جواداً.
ومات مجد الدين عيسى بن عمر بن خالد بن الخشاب المخزومي الشافعي، وكيل بيت المال، في ثامن ربيع الأول بالقاهرة، دفن بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء، وولى الحسبة في الأيام المنصورية قلاوون، وصحب الشجاعي، وأضاف له قلاوون وكالة بيت المال ووكالة السلطان وعدة مباشرات، فعظمت مهابته، وعيب عليه مجونه وعزله وكثرة اجتماعه بالشجاعي ومعاشرته له، وكان الوزير ابن الخليلي يبكته بذلك، وكان لا يكتب في أخر كتبه سوى: حسبنا الله فقط، من غير ونعم الوكيل ، وسئل أن يكتب ونعم الوكيل فأبى.
ومات قاضي القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي الحنبلي، في يوم الأربعاء رابع عشرى ذي الحجة، ودفن بالقرافة، وسمع وخرج وصنف، وصار من الأئمة الحفاظ، وكتب على سنن أبي دادو قطعة.
ومات الشيخ صالح محمد العربان، في ثامن عشر رجب.

ومات شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف بن الوحيد الزرعي، في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان بالقاهرة، وكان يكتب في التوقيع، وله معرفة بالإنشاء، وبلغ الغاية في جودة الكتابة، وانتفع الناس بالكتابة عليه، وكان فاضلاً شجاعاً مقداماً لسناً متكلماً، يرمي في دينه بالعظائم، ويعرف عدة لغات، وله نظم ونثر.
ومات الطبيب شرف الدين عبد اللّه بن أحمد بن أبي الحوافر رئيس الأطباء، في ليلة الجمعة ثالث عشرى شوال، ودفن بالقرافة، وكان ديناً فاضلاً رضي الأخلاق ماهراً في علم الطب.
ومات التاج عبد الرحمن الطويل القبلي الأسلمي، ناظر الدواوين، في ثاني عشرى ذي القعدة، وقد انتهيت إليه معرفة الكتابة الديوانية، وكان إسلامه في الأيام الأشرفية، وله صدقات كثيرة.
ومات القاضي محيي الدين محمد بن قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي، ليلة الخميس حادي عشر ذي الحجة، وكان ينوب عن أخيه بالقاهر في الحكم، ورسم له باستقلال بوظيفة القضاء بعد أبيه، فمات في حياته، وكان من النجباء.
ومات جمال الدين أبو الفضل محمد بن الشيخ جلال الدين المكرم بن علي، في ثالث عشرى المحرم، عن بضع وثمانين سنة، ودفن بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وروءساء القاهرة وأماثل كتاب الإنشاء، ومن رواة الحديث. ومات شمس الدين محمد ابن يوسف الجزري الشافعي خطيب جامع ابن طولون، وكان يعرف بالمحوجب، وكان عارفاً بالفقه والأصول، ودرس بالمعزية بمصر.
وفيها قتل متملك تونس الأمير أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في جمادى الأولى، فكانت مدته نحو عامين، وقدم الأمير أبو يحيى زكريا اللحياني من طرابلس، فملك تونس بعده.
سنة اثنتي عشر وسبعمائةفيها انتهت عمارة الجامع الجديد الناصري بساحل مصر، فنزل السلطان إليه، ورتب فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعية خطيباً، ورتب فيه أربعين صوفياً في سطحه، وأربعين صوفياً بداخله ورتب لكل منهم الخبز واللحم في اليوم. ومبلغ خمسة عشر درهماً في الشهر، وجعل شيخهم قوام الدين الشيرازي ووقف السلطان عليه قيسارية العنبر بالقاهرة، وعمر له ربعاً وحماماً، وأقام له خطيباً. وأول صلاة صليت به ظهر يوم الخميس ثامن صفر، بإمامة الفقيه تاج الدين أبي عبد اللّه محمد بن الشيخ مرهف، وخطب فيه من الغد يوم الجمعة تاسعه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. فحكر الناس حوله، وبنوا الدور وغيرها.
وقدم البريد من حلب بعبور قرا سنقر ومن معه من الأمراء إلى بلاد التتر، وأنهم بعثوا بأولادهم وحريمهم إلى مصر. وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا إلى الرحبة انقطع كثير ممن تبعهم من المماليك والتركمان، فبعث قرا سنقر ولده الأمير فرج، وبعث الأفرم ولده موسى مع بعض من يوثق به، وأمرا بتقبيل الأرض بين يدي السلطان، وأن يبلغاه أن الأمراء ما حملهم على دخول بلاد العدو إلا الخوف، وأن الأولاد والحريم وداعه، فليفعل السلطان معهم ما يليق به، فقدما إلى القاهرة، وبقيا في الخدمة. وسار الأمراء إلى ماردين، وكتبوا إلى خربندا بقدومهم، فبعث أكابر المغل إلى لقائهم، وتقدم إلى ولاة الأعمال بخدمتهم والقيام لهم. بما يليق بهم. فلما قاربوا الأرد وركب خربندا وتلقاهم، وترجل لهم لما ترجلوا له، وبالغ في إكرامهم وسار بهم إلى مخيمه، وأجلسهم معه على التخت، وضرب لكل منهم خركاه، ورتب لهم الرواتب السنية. ثم استدعاهم بعد يومين، واختلا بقرا سنقر، فحسن له عبور الشام، وضمن له تسليم البلاد بغير قتال، ثم خلا بالأفرم فحسن له أيضاً أخذ الشام، إلا أنه خيله من قوة السلطان وكثرة عساكره. فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر، وأقطع همذان للأفرم، واستمروا هكذا.

وفي يوم الأحد عاشر ربيع الأول: قبض السلطان على القاضي فخر الدين محمد ابن فضل الله ناظر الجيش، وعلى ولده شمس الدين: وسبب ذلك مفاوضة حصلت بينه وبين فخر الدين أياز الشمسي مشد الدواوين، اشتط فيها القاضي على الفخر أياز الشمسي وأهانه، فاجتمع أياز بالدواوين وعرفهم ماله من الأموال والدواليب في أعمال مصر، واجتمع بالسلطان وأغراه به، والتزم له أن يستخلص منه ألف درهم فأعجبه ذلك ومكنه منه، فاشتد بأسه حينئذ، وجلس على باب القلعة، وفتح مع الفخر باب شر، وأغلظ في القول بحضرة الأمراء إلى أن قال له: أنت كسرت معاملات السلطان وخربت بلاده، وأخذت أراضي الخاص عملتها لك رزقاً، ثم نهض وقال: أنا باللّه وبالسلطان، ودخل والفخر خلفه حتى وقفا بين يدي السلطان، فبسط أياز لسانه، وحانق الفخر على عدة فصول حتى غضب السلطان، قال له: تسلمه وخذ مالي منه، فأخذه إلى قاعة الصاحب وكتب أياز إلى الأعمال بالحوطة على مواشيه وزراعاته وسواقي أقصابه وغير ذلك وأحيط بموجوده في القاهرة ومصر، وتتبعت حواشيه، فلم يطق الفخر ما هو فيه من البلاء مع أياز، وبعث إلى طغاي وكستاي وإلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، فتحدثوا في أمره مع السلطان على أن ينقل إلى بيبرس الأحمدي، وأنه يحمل جميع ماله ولا يدع منه شيئاً فتسلمه لبيبرس أمير جاندار من أياز.
وفيها كتب بطلب قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية ناظر الجيش بدمشق على البريد، فحضر واستقر عوضاً عن الفخر في نظر الجيش. وتمكن أياز من حاشية الفخر، وضرب جماعة منهم بالمقارع، وأخذ سائر موجودهم، وحمل الفخر نحو الخمسمائة ألف درهم. ثم أفرج السلطان عنه وعن ولده وخلع عليهما، في يوم الأربعاء خامس عشرى ربيع الآخر، واستقر الفخر عوضاً عن معين الدين هبة الله ابن حشيش صاحب ديوان الجيش. و لم يوفق ابن شيخ السلامية وارتبك في المباشرة، بحيث أن السلطان كان إذا سأله عن كشف بلد ليعرف حالها يتأخر قدر ساعة، ثم يجيب بغير الغرض، فتبين جهله بمعرفة جيش مصر.
وفي حادي عشرى ربيع الأول: ولى قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن عبد الله المقدسي، عوضاً عن سعد الدين مسعود الحارثي.
وفي سادس ربيع الآخر: أمر السلطان ممن مماليكه ستة وأربعين أميراً منهم طبلخاناه تسعة، وعشراوات سبعة عشر، وألوف عشرون؛ وشقوا القاهرة بالشرابيش، وكان يوماً عظيماً.
وفيها قدم العسكر المجرد إلى الشام في يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر، وطلع الأمراء إلى القلعة، فقبض على عدة من الأمراء لميلهم إلى قرا سنقر: منهم جمال الدين أقوش نائب الكرك - وكان قد حضر من دمشق، وخلع عليه - وبيبرس المنصوري نائب السلطنة بمصر، وسنقر الكمالي، ولاجين الجاشنكير، وبينجار، والدكز الأشرفي، ومغلطاي المسعودي، و سجنوا.
وفيها استقر سودون الجمدار نائباً بحلب في ربيع الأول، وتمر الساقي المنصوري في نيابة طرابلس في ربيع الآخر.
وفيها كتب بطلب فضل أخي مهنا وولده أبي بكر، وسير إليه تقليد الإمرة عوضاً عن مهنا، وأن مهنا لا يقيم بالبلاد، وخرج بذلك الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار.وفيها قبض أيضاً في رابع ربيع الأول على بيبرس العلمي بحمص، وعلى الأمير بيبرس المجنون. والأمير علم الدين سنجر البرواني، والأمير طوغان المنصوري، وبيبرس التاجي، وقيدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك، فسجنوا بها لميلهم مع قرا سنقر.
وفيها استقر الأمير تنكر الناصري في نيابة دمشق، عوضاً عن الأمير جمال الدين نائب الكرك، مستهل ربيع الآخر، وسار على البريد يوم الجمعة سابعه، فدخلها يوم الخميس عشرى ربيع الآخر، ورسم له ألا يستبد بشيء إلا بعد الاتفاق مع الأمير سيف الدين أرقطاي، والأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار.
وفي سادس عشر ربيع الآخر: أمر السلطان في يوم واحد ستة وأربعين أمير منهم طبلخاناه تسعة وعشرون، وعشراوات سبعة عشر، وشقوا القاهرة بالشرابيش والخلع.
وفي يوم الأثنين أول جمادى الأولى: استقر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري نائب السلطنة، عوضاً عن بيبرس الدوادار المنصوري. ورسم بنيابة صفد لبلبان طرنا أمير جاندار، عوضاً عن بهادر آص، وأن يرجع بهادر إلى دمشق أميراً على عادته، فسافر إليها.

وفيه ركب السلطان إلى بر الجيزة، وأمر طقتمر الدمشقي، وقطلوبغا الفخري المعروف بالفول المقشر، وطشتمر البدري حمص أخضر.
وفيها هدم السلطان الرفرف الذي أنشأه أخوه الأشرف خليل على يد الشجاعي.
وفيها ورد الخبر في أول رجب بحركة خربندا وسبب ذلك رحيل مهنا إليه عند إخراج خبزه لأخيه، وإقامته عنده، وتقوية عزمه على أخذ الشام. وكان السلطان تحت الأهرام بالجيزة، فقوي عزمه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشر شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نواب الشام بتجهيز الإقامات. وعرض السلطان العسكر، وقطع جماعة من الشيوخ العاجزين عن الركوب، وانفق فيهم الأموال. وابتدأ العرض من خامس ربيع الآخر، وكمل في أول جمادى الأولى، فكان السلطان يعرض في كل يوم أميرين بنفسه من مقدمي الألوف، ويخرجان بمن معهما من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد، وترحلوا شيئاً بعد شيء. من أول رمضان إلى ثامن عشريه، حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر.
وخرج السلطان في ثاني شوال، ونزل مسجد تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثه، ورتب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي. فلما كان ثامنه قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرى رمضان من الرحبة، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففرق السلطان العساكر في قانون وعسقلان، وعزم على الحج. ودخل السلطان دمشق في تاسع عشره، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، وكان قد أقام بدمشق أرغون النائب للنفقة على العساكر وغير ذلك من الأعمال، وكلف الصاحب أمين الدين بن الغنام بجمع المال اللازم. ودخل السلطان الكرك في ثامن ذي القعدة، وتوجه إلى الحجاز في أربعين أميراً.
وفيها خرج الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، ودخل دمشق وأقام بها بعد توجه السلطان ليحصل الأموال، فأوقع الحوطة على الوزير والمباشرين، وطالب محيي الدين بن فضل اللّه بمال كبير عمل به أوراقاً، وأغلظ عليه وأحاط بموجوده، وتتبع حواشيه؛ وصادر أمين الدين أكثر الناس.
وأما القاهرة فإن الأمير علم الدين سنجر الخازن نقل من ولاية البهسنا إلى ولاية القاهرة، أقام الأمير أيتمش المحمدي نائب الغيبة الحرمة، ومنع الأكابر من الهجرة وأنصف الضعفاء منهم. وحج بالركب المصري الأمير مظفر الدين قيدان الرومي.
وفيها استقر في نيابة قلعة دمشق عز الدين أبيك الجمالي، عوضاً عن بلبان البدري، ثم كتب بأن يكون بلبان شريكاً له، فباشرا جميعاً.
وفيها قدت هدية الأشكري
ومات في هذه السنة ممن له ذكرضياء الدين أحمد بن عبد القوي بن عبد الرحمن القرشي الإسنائي المعروف بابن الخطيب. الفقيه الشافعي، وكانت وفاته ببلدة أدفو في شوال، وهو في الطريق إلى الحج، فحمل إلى سنا فدفن بها.
ومات تاج الدين أحمد بن محمد بن أبي نصر الشيرازي، محتسب دمشق وناظر الدواوين بها، في رجب عن بضع وخمسين سنة.
ومات عماد الدين أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن سرور المقدسي الفقيه الحنبلي، في جمادى الآخره بمصر، ومولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات زين الدين حسن بن عبد الكريم بن عبد السلام الغماري الفقيه أبو محمد المالكي، سبط زيادة بن عمران، وكانت وفاته في شوال بمصر، قرأ القرآن، وكان خيراً فاضلاً.
ومات نور الدين على بن نصر اللّه بن عمر القرشي - المعروف بابن الصواف - الخطيب الفقيه الشافعي، في رجب بمصر. ومات أبو الحسن علي بن محمد بن هارون ابن محمد بن هارون الثعلبي الدمشقي - قارئ المواعيد - الفاضل الصالح، في ربيع الآخر بمصر عن ست وثمانين سنة، ومات نور الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحيم ابن عبد عز الدين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الحموي بحماة، وكان فاضلاً ديناً، ومات الملك المنصور نجم الدين غازي بن المنصور ناصر الدين أرتق بن إيلغازي بن البن بن تمر تاس بن ايلغازي بن أرتق الأرتقي، صاحب ماردين، في تاسع رجب، وكانت إمرته نحو عشرين سنة، وكان مهاباً، فقام بعده ابنه الملك العادل علي، وأقام سبعة عشر يوماً، ثم ملك أخو الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور.

ومات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الناصر صلاح الدين داود بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، يوم الإثنين ثاني عشر رجب بالقاهرة، عن نيف وسبعين سنة، وقد حدث، وماتت امرأته ابنة عمه الملك المغيث بعده، فحرجت الجنازتان معاً، وكان قد حج، وقدم القاهرة من طريق القدس بعدما زاره، ومولده بالكرك في عاشر جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان ديناً متواضعاً فاضلاً. ومات الأمير علم الدين سنجر الصالحي أمير آخور بدمشق، عن مال كبير جداً، مات شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن خليل القدسي في خامس عشر شعبان بالقاهرة، وكان يباشر التوقيع في الإنشاء، ويكتب الخط المليح، ويقول الشعر، ويغلب عليه الهجاء، مع تفننه في علوم كثيرة.
ومات تاج الدين عبد الرحيم بن تقي الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيي السنهوري، في يوم الثلاثاء، سابع عشر ربيع الآخر، وباشر نظر النظار بديار مصر ستين سنة، وعرضت عليه الوزارة غير مرة فأباها، وكان أميناً كثير الخير، ولم ينكب قط، وعاش مائة وتسع سنين، عزل قبل موته.
ومات قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن داود بن حازم الأذرعي الحنفي بدمشق، وهو معزول.
ومات الشيخ عمر بن الشيخ أبي عبد اللّه بن النعمان، بمصر يوم الأربعاء خامس عشرى رمضان.
ومات شهاب الدين غازي بن أحمد الواسطي بحلب، في ثامن عشر ربيع الآخر، ولى نظر الدواوين بمصر مدة، ثم نقل إلى نظر حلب، وولي نظر دمشق ونظر الصحبة، وكتب بديوان الإنشاء مدة.
ومات الفقيه نجم الدين أبو عبد الله محمد بن الفقيه جمال الدين عبد العزيز بن أحمد ابن عمر بن جعفر بن اللهيب، في خامس عشر جمادى الآخرة.
ومات بطرابلس الأمير علاء الدين مغلطاي البهائي، وقد رسم بالقبض عليه، فمات قبل وصول البريد بيوم.
سنة ثالث عشرة وسبعمائةفي أول المحرم: قدم الأمير سيف الدين قجليس من الحجاز إلى القاهرة مبشرا بعود السلطان.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم السلطان من الحجاز إلى دمشق، بعد دخوله إلى المدينة لنبوية، وتوجهه على الكرك وكان دخوله إلى دمشق يوماً مشهوداً، بلغت فيه أجر البيوت مبلغاً زائداً، حتى إن بيتاً أخذت أجرته للنظر إلى السلطان في مدة من بكرة النهار إلى الظهر ستمائة درهم. وعبر السلطان وهو على ناقة وعليه لشت من ملابس العرب بلثام، وبيده حربة، ولعب يوم السبت في الميدان بالكرة. ثم أخذ في الإنعام على بعض رجال دولته، فولى شمس الدين عبد الله بن غبريال بن سعيد نظر دمشق على قاعدة الوزراء، وكان ناظر البيوت؛ ونقل الأمير بدر الدين بكتوت القرماني من شد الدواوين بدمشق إلى نيابة الرحبة، عوضاً عن بدر الدين موسى الأزكشي. وخلع السلطان على الأمراء الذين كانوا صحبته بالحجاز، وعدتهم نحو الأربعين أميراً، وأفرج عن المصادرين، وأعاد الفخر إلى نظر الجيش بديار مصر، وأعاد قطب الدين موسى بن شيخ السلامية إلى نظر الجيش بدمشق.
وصار السلطان إلى مصر في سابع عشريه، بعد أن أقام بدمشق خمسة عشر يوماً، وصلى بالجامع الأموي الجمعة مرتين. وقدم قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر صفر، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها نقل الأمير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسي التركماني من ولاية الجيزة إلى شد الدواوين، واستقر فخر الدين أياز الشمسي في شد الدواوين بدمشق، عوضاً عن القرماني، واستقر كريم الدين أكرم بن الخطيري - كاتب الحميدي - المعروف بكريم الدين الصغير، في نظر الدواوين، رفيقاً لتقي الدين أسعد كاتب برلغي ابن أمين الملك مستوفي الحاشية.
وفيها ابتدأ السلطان بعمارة الميدان تحت القلعة، فاختطه من باب الإسطبل إلى نحو باب القرافة، ووزع عمله على الأمراء، فنقلت جمالهم الطين إليه حتى امتلأ وغرس فيه النخل والأشجار، وحفرت فيه الآبار وركبت عليها السواقي، وأدير عليه سور من حجر، وبنى خارجه حوض ماء للسبيل. فلما فرغت عمارته لعب السلطان فيه مع الأمراء بالكرة، وخلع عليهم وشملهم الإنعام الكثير.
وفيها اجتمع القضاة في حادي عشر ربيع الآخر بالمدارس الصالحية بين القصرين للنظر في الشهود، وأقيم منهم جماعة.

وفيها عمل السلطان أيضاً أربع سواقي على النيل تنقل الماء وترميمه على الماء الجاري من النيل إلى السور حتى يصل إلى القلعة، ورم السور وأزال شعثه، فكثر الماء بقلعة الجبل، وزاد البئر الظاهري المجاور لزاوية تقي الدين رجب. بأن عمل عليه نقالة إلى بئر الإسطبل، واهتم بعمل مصالح الجسور التي بالنواحي والترع.
وفيها قبض على الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام في يوم الخميس سابع عشرى جمادى الأولى، وألزم بحمل ثلاثمائة ألف درهم، وذلك بسعي كريم الدين الكبير وبدر الدين بن التركماني. وأغرق السلطان به، وقيل له إنه أخذ مالاً كثيراً من المصادرين بمصر والشام.
وفيها أبطلت الوزارة، فلم يل أحد بعد أمين الدين، ونقل كريم الدين أكرم الصغير من ديوان الجيش إلى نظر الدولة، شريكاً للتقي أسعد بن أمين الملك كاتب برلغي كما تقدم، واستقر شرف الدين الخيري كاتب سلار، والتاج إسحاق، الموقف أخو الخيري، مستوفي الدولة. فانفرد كريم الدين الكبير بالتمكن من السلطان، وصارت الأمور كلها منوطة به، وركب بجنيبين، وخلع عليه أطلس بطرز زركش، وأشهد على السلطان أنه ولاه جميع ما ولاه اللّه تعالى، وكاتبه الملوك المجاورة مثل ما كاتبوا السلطان.
وفيها أخذ كريم الدين الكبير مع السلطان في العمل على الوزير، وأغراه بالأسعد غبريال كاتب نائب السلطنة، وأنه كثير الظلم، وأنه نقل إلى أستاذه أموراً تضر الدولة، وأغراه بالعلم كبيبه كاتب منكلي بغا. وما زال كريم الدين الكبير بالسلطان حتى سلم الأسعد إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة، ليخلص منه المال، وسلم العلم كبيبه إليه أيضاً، وضربا قدام السلطان، وضرب معهما أمين الدين بن الغنام بالعصي، إلا غبريال فإنه ضرب بالمقارع. وأوقعت الحوطة على موجود غبريال، وسلم هو وأمين الدين إلى شاد الدواوين، ورسم لمجد الدين سالم أن يتولى بيع موجودهما وحمله إلى بيت المال، فأقام البيع نحو شهر. وحمل من أمين الدين نحو ثلاثماثة ألف درهم من ثمن المبيع، و لم يوجد له نقد ألبته؛ ثم أفرج عنه. وأما غبريال فإن الخازن والي القاهرة عاقبه حتى هلك بعد أسبوع. وما زال أمين الدين ملازماً لداره إلى يوم السبت تاسع عشرى ذي الحجة، فاستدعى وأخلع عليه، واستقر ناظر النظار عوضاً عن الصاحب ضياء الدين النشائي، ونقل النشائي إلى نظر الخزانة، عوضاً عن سعد الدين الحسن بن عبد الرحمن الأقفهسي بعد وفاته.
ولما استقر أمين الدين في نظر النظار، ودخل عليه مجد الدين سالم ليهنه، والمجلس غاص بالناس، نظر أمين الدين إلى الحاضرين، وقال: هذا القاضي مجد الدين تفصل في حقي. حيث كان يتولى أمري في بيع حواصلي، وباع حتى زبادي المطبخ. فالتفت إليه المجد على الفور، وكان مقداماً جريئاً، وقال له: يا مولانا أني والّه تفضلت عليك، وأحسنت إليك غاية الإحسان، وخدمتك أتم خدمة، وبعت من زبادي ونحاس وفرش بمبلغ ثلاثمائة ألف درهم، وما تحدثنا في ظهور درهم ولا دينار، بل سكتنا، ونحن سكوت إلى الآن. فلم يجب أمين الدين سوى بقول حسبنا اللّه.
وفيها ولى السلطان الأمير بدر الدين محمد بن كندغدي بن الوزيري نيابة دار العدل وشد الأوقاف، بسبب قصة رفعت في الأوقاف. وكان ابن الوزيري أميناً حاد الخلق عارفاً بالأمور. فباشر الأوقاف في داره يوم الثامن من ربيع الأول.

وجلس ابن الوزيري بدار العدل في يوم السبت خامس عشرى ربيع الأول، وجلس القضاة الأربعة بين يديه بدار العدل، ورفعت إليه القصص، وصرف الأمور، وطلب سائر مباشري الأوقاف وألزمهم بعمل الحساب مدة عشرين سنة بالأوقاف، وطلب موادع الحكم وتشدد عليهم. فقلق القضاة من ذلك، وسألوه الاغضاء عن ذلك؛ فتمادى في الطلب، وأخرق بعدة من المباشرين، وضربهم لفساد حسابهم. فقام قاضي بدر الدين محمد بن جماعة في العمل عليه - وكان عارفاً بالسعي، وله في ذلك أياد وتراتيب - ووافق رفاقه وصار إلى القاضي كريم الدين الكبير بنفسه، وترامى عليه، ثم اجتمع بالفخر ناظر الجيش، وبعلاء الدين كاتب السر، وبعدة من الخاصكية، وما زال بهم حتى خيلوا السلطان من ابن الوزيري أنه شرس الأخلاق، وله أغراض فاسدة، وقصده إهانة القضاة، وأهل العلم وحط أقدارهم، وقد كثر الدعاء على لسلطان بسببه. فلما تكاثر ذكر ذلك لدى السلطان، وبلغه عدة حكايات عنه، ومنعه من التحدث في الأوقاف، ومن حينئذ بدت عداوة ابن جماعة لفتح الدين محمد بن سيد الناس، واشتد الأمر بينهما إلى أن بلغ السلطان ذلك وتسلط الشهاب أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي الشاعر علي ابن جماعة، وهجاه بعدة قصائد بعثها إليه، ورتب هو وابن سيد الناس القصيدة التي أولها: " تري يسمع السلطان شكوى المدارس " ، وعدتها ستون بيتاً، فحبسه ابن جماعة بسببها، لأنه أقذع فيها، وشهرها في الناس إلى أن قرئت على السلطان، فقام أيدغدي شقير في حقه، وأخرجه من السجن.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى: استقر صدر الدين بن المرحل في تدريس الزاوية المجدية بالجامع العتيق، عوضاً عن جلالي الدين على بن عبد الله العسلوجي بحكم عزله.
وفي يوم الثلاثاء رابعة: أوفى النيل، وهو أخر أيام النسيء قبل المفرد ثم قدم المفرد بعد الوفاء في يوم الخميس سادسه.
وفيها عمل الروك بالبلاد الشامية، وندب له الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وابن معبد، ومعين الدين هبة الله بن حشيش ناظر الجيش بالشام، مع مباشري ديوان الجيوش بمصر. فتوجه الجاولي إلى دمشق، وأمام مع الأمير تنكر النائب إلى أن عملت أوراق بعبرة البلاد ومنحصلها، وما فيها من إقطاع ووقف وملك. وكمل ذلك في ذي الحجة، ونقلت سنة اثنتي عشرة إلى سنة ثلاث عشرة، وجهزت الأوراق إلى السلطان فقرئت عليه؛ فكتب السلطان مثالات جديدة لأمراء دمشق وأجنادها، ووفر عدة قطاعات وبلاد أدخلها في ديوان الخاص، وزاد إقطاع النيا، وكتب بلك مناشير سار بها على البريد الأمير سيف الدين قجليس حتى فرقها على أربابها وعاد.
وفيها توجهت تجريدة إلى مكة صحبة الأمير سيف الدين طقصاي الناصري والي قوص، وسيف الدين بيدوا، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصاروجا الحسامي، وتوجه دمشق سيف الدين بلبان البدري مع الركب، وأضيف إليهم عدة من الأجناد، وذلك بسبب حميضة بن أبي نمي، فإنه كثر ظلمه.
وفيها قبض على الأميرين عز الدين أيبك الرومي المنصوري، وركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، في رابع عشرى رمضان. وبسبب ذلك مفاوضة جرت بين الأمير علاء الدين أيدغدي شقير وبين أيبك الرومي بحضرة الأمراء على باب القلعة، في انتقال إقطاعات بينهما خرجا فيها عن الحد. فخرج الأمير طغاي وهما في ذلك - والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاي وبيبرس الجمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلاد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراً زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.

وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراً، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشرى رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنا وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر اللّه موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس عسكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.
وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوما مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجندي من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك - المعروف بكاتب برلغي - وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالى وكانت الجوالى قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالى كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، و

إقطاع الجندي منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظلم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم أخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولى ابن الشيخي شد هذه الجهة - قبل أن يلي الوزارة - عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.

ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، فيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أًقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم. ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجيء من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من البغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أوباش مصر وضمان تجيب بمصر. و منها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، و تجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد. ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبي التي كانت تستأدى من البلاد. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن. ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وابطل السلطان أيضاً وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين. ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزية وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأخرجت الجوالى من الخاص، و فرقت في البلاد. وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة. وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأدخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.

وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟، حتى لا يخفى عليه شيء من أمره، ثم يعطه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفرعه، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكاراً، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، و لم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالا بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟. فقال لقلة سعادته: يا خوند؟ هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند؟ ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ رزقه، فلو قال أصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟، فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار. فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن حاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له. فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتكلم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.

وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر اللّه أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصوري ليستريح، فدخل بعض المرقدارية - وكان يقال له عزيز - ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك.عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمر في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: ياخوند !هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، و لم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد اللّه سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد وفي هده السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بلاد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فاًر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشرى شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشرى شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرشهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشرى رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل
حرمت الطيف منك ففاض دمعي ... وطرفي فيك محرم وسائل
ومات تقي الدين سليمان بن حمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكي، بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفق بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المعقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.

ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميمي الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار. ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي - المعروف بالهندي الأرموي - الفقيه الشافعي، في تاسع عشرى صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجه، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة، وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
وملت شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين موسى بن على بن أبي طالب الشريف أبو الفتح الموسوي الحنفي العدل، في سابع ذي الحجة بمصر، وانفرد بالرواية عن ابن الصلاح والسخاوي، ورحل الناس إليه.
ومات الأمير عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الشريف أبو الغيث بن أبي نمي.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقر الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل في أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرا لاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، واًنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.
ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصر نائب طرابلس بها، وكان حسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأَخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلي، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدوي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد ا للّه محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشرى ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشرى شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطواني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الإثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشرى ذي القعدة.
سنة أربع عشر وسبعمائةمستهل المحرم: وافقه حادي عشري برمودة.
فيه اخضر ماء النيل، وتغير لونه تغيراً زائداً عن العادة، وتغير طعمه وريحه أيضاً، وجرت العادة أن يكون في هذه الأيام في غاية الصفاء.

وفي نصف المحرم: اتفق أنه كان للنصارى مجتمع بالكنيسة المعلقة بمصر، واستعاروا من قناديل الجامع العتيق جملة. فقام في إنكار ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري، وجمع من البكرية وغيرهم خلائق، وتوجه إلى المعلقة وهجم على النصارى وهم في مجتمعهم وقناديلهم وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وأنزل القناديل. وعاد البكري إلى الجامع، وقصد القومة، فاحتجوا فعله. وجمع البكري الناس معه على ذلك، وقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى منه وتوجه إلى الفخر ناظر الجيش وعرفه بما وقع، وأن كريم الدين أكرم هو الذي أشار بعارية القناديل فلم يسعه إلا موافقته. فلما كان الغد عرف الفخر السلطان بما كان، وعلم البكري أن ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجمعه إلى القلعة واجتمع بالنائب وأكابر الأمراء، وشنع في القول وبالغ في الإنكار، وطلب الاجتماع بالسلطان، فأحضر السلطان القضاة والفقهاء وطلب البكري، فذكر البكري من الآيات والأحاديث التي تتضمن معاداة النصارى، وأخذ يحط عليهم، ثم أشار إلى السلطان بكلام فيه جفاء وغلظة حتى غضب منه عند قوله: أفضل المعروف كلمة حق عند سلطان جائر. وأنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعت أموال المسلمين في العمائر والإطلاقات التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطان له: ويلك! أنا جائر؟ فقال: نعم! أنت سلطت الأقباط على المسلمين، وقويت دينهم. فلم يتملك السلطان نفسه عند ذلك، وأخذ السيف وهم بضربه. فأمسك الأمير طغاى يده، فالتفت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجرأ علي؟ إيش يجب أفعل به؟ قل لي!، وصاح به. فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئاً ينكر عليه فيه، ولا يجب عليه شيء، فإنه نقل حديثاً صحيحاً. فصرخ السلطان فيه وقال: قم عني!. فقام بن فوره وخرج. فقال صدر الدين بن المرحل - وكان حاضراً - لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرأ على السلطان وقد قال الله تعالى أمرا لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون " فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى " فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرأ ولم تبق إلا مراحم مولانا السلطان. فانزعج السلطان انزعاجاً عظيماً، ونهض عن الكرسي، وقصد ضرب البكري بالسيف، فتقدم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقطع لسانه، فأخرج البكري إلى الرحبة، وطرح إلى الأرض، والأمير طغاي يشير إليه أن يستغيث، فصرخ البكري وقال: إنا في جيرة رسول الله، وكررها مراراً حتى رق له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشفاعة فيه، فنهضوا بأجمعهم وما زالوا بالسلطان حتى رسم بإطلاقه وخروجه من مصر. وأنكر الأمير أيدمر الخطيري كون البكري قوى نفسه أولا في مخاطبة السلطان، ثم إنه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنه لم يكن قيامه خالصاً لله.
وفيه قدم الركب من الحجاز، وقد كثرت الشكوى من الأمير بلبان الشمسي أمير الركب، وأنه كثير الطمع مفرط في أمر الحاج سيء السيرة، فقبض عليه.
وفيه أفرج عن الأمير برلغى صهره المظفر بيبرس.
وفيه قدم البريد من دمشق بأنه قد اجتمع على الناس بواق كثيرة من ضمانات ومقررات على أهل البلاد، وقد تضرروا منها. فكتب مثال بمسامحة أهل الشام بالبواقي لاستقبال سنة ثمان وتسعين وتسمائة وإلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وسير إلى دمشق فقرئ بها على منبر الجامع في يوم الجمعة عاشر المحرم، وتلاه مثال آخر بإبطال المقرر على السجون، وإعفاء الفلاحين من السخر، وإبطال مقرر الأقصاب، ومقرر ضمان القواسين، ورسوم الشد والولاية. فأبطل ذلك كله من جميع ممالك البلاد الشامية بأسرها.
وفيه كتب لنواب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحداً منه لا يكاتب السلطان، وإنما يكاتب الأمير تنكر نائب الشام، ويكون هو المكاتب في أمرهم للسطان. فشق ذلك على النواب، وأخذ الأمير سيف الدين بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك، فكاتب فيه تنكز السلطان حتى عزل في صفر، واستقر عوضه الأمير بلبان البدري، وحمل طرنا في القيد إلى مصر، وسجن بالقعلة.

وفيها استقر الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب في نيابة حلب، بعد وفاة الأمير سيف الدين سودي في نصف رجب. وقدم زين الدين قراجا الخزنداري والخاص ترك من بلاد طقطاي، وأخبراً بموته، وهو طقطاى بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجى ابن جنكز خان ملك التتار ببلاد الشمال، أقام في الملك مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان يعبد الأصنام على دين البخشية، وملك بعده أزبك خان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان.
وفيها اهتم السلطان بعمارة جسور نواحي أرض مصر وترعها وندب الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى الشرقية، والأمير علاء الدين أيدغدي شقير إلى البهنساوية، والأمير شرف الدين حسين بن حيدر إلى أسيوط ومنلفوط والأمير سيف الدين آقول الحاجب إلى الغربية، والأمير سيف الدين قلى أمير سلاح إلى الطحاوية وبلاد الأشمونين، والأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى القليوبية، والأمير علاء الدين التليلي إلى البحيرة، والأمير بهاء الدين أصلم إلى قوص.
وفيها قدم الأمراء المجردون إلى الحجاز: وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا صحبة الحاج من السنة الماضية فر الشريف حميضة نحو اليمن، وأقام بحلى بني يعقوب: فلما انقضى الموسم وخرج الحاج أقام الأمير طقصبا المغربي بالمعسكر حتى رتب الشريف أبا الغيث في إمارة مكة، ولم يزل مقيماً معه مدة شهرين بعد انقضاء الحج. ولم تمطر تلك السنة بمكة، وقل الجلب، فكثرت كلف العسرك، واحتاج طقصبا إلى السفر. فأشهد عليه أبو الغيث أنه أذن له في السفر، وكتب بذلك إلى السلطان. فلم يكن بعد توجه العسكر من مكة غير قليل حتى جمع حميضة وقدم، ففر منه أبو الغيث إلى هذيل بوادي نخلة، وملك حميضة منه مكة، وبعث حميضة إلى السلطان القود اثنى عشر فرساً وكتاباً،وهو يترفق ويبذل الطاعة ويعتذر؛ فلم يقبل منه العذر، وحبس رسوله.
وفيها توجه الأمير قجلس لقبض مال سودى نائب حلب وكشف أخبار مهنا، فأشار تنكز نائب الشام بإخراج مهنا من البلاد وأن عسكر الشام يكفيه، فبطل أمر التجريدة من مصر. وجرد من الشام الحاج أرقطاي وكجكن، ومن حماة ألف فارس مع عسكر طرابلس وحلب، وخرج طلب قجليس من القاهرة ليكون مقدم العساكر، فاجتمعت عنده العساكر والعربان بحلب. وبلغ ذلك منها فأجمع على الرحيل، وسارت إليه العساكر، فلما قاربته رحل وهي في إثره إلى عانة والحديثة من العراق، فجفلت أهل البلاد. وبلغ ذلك جوبان نائب خربندا ملك التتار، فظن أن السلطان قد نقض الصلح ويريد أخذ العراق، فانزعج لذلك إلى أن بلغه مجيء العسكر بسبب العرب، وأنه لم يتعد عانة ولا تعرض لزرع البلاد ولا كرومها، فسكن ما به. ورجع العسكر عن عانة إلى ضيعة تعرف بالعنقاء من ضياع منها، وأخذ ما كان بها من المغل، وسار كذلك إلى ضياع منها حتى وصل الرحبة، وقد حمل الغلال إليها. فبعث السلطان إلى قجليس بعود العساكر إلى بلادها، وإقامته على سلمية إلى أن يخزن مغلها بقلعة حلب، فاعتمد ذلك وأقام حتى استغل سلمية، وعاد قجليس إلى القاهرة فأخلع عليه.
وفيها خرج عسكر من القاهرة في أول ذي القعدة: فهي من الأمراء سيف الدين بكتمر البوبكرى السلاح دار وإليه تقدم العسكر وقلى السلاح دار، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وركن الدين بيبرس الحاجب، وبكتمر البوبكري الجمدار، وبدر الدين محمد بن الوزيري، وأيتمش المحمدي، بمضافيهم من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد. وكتب لنائب الشام الأمير تنكز بالمسير معهم بعسكر دمشق، وأن يكون المقدم على جميع العساكر، وكتب بخروج عساكر حماة وحلب وطرابلس، وأشيع أن ذلك لغزو سيس. فوصل عسكر مصر إلى دمشق في عشريه، وأقام بها حتى انقضت السنة.
واتفقت حادثة غريبة بالقاهرة: وهذا أن رجلاً من سكان الحسينية يقال له علي بن السارق ركب في يوم الجمعة فرساً وبيده سيفه، وشق القاهرة فما وجد بها يهودياً ولا نصرانياً إلا ضربه، فجرح جماعة، وقطع أيدي جماعة، وشج جماعة، ثم أمسك خارج باب زويلة، وضرب عنقه.
؟

ومات فيها ممن له ذكر
رشيد الدين إسماعيل بن عثمان الدمشقي الحنفي، بمصر في رجب عن إحدى وتسعين سنة، أخذ القراءات عن السخاوي، وأفتى ودرس، وقدم القاهرة من سنة سبعمائة في الجفل.

ومات بدمشق العدل نجم الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد عرف جده بالقابوني السعدي الأنصاري الدمشقي، في ليلة الجمعة أول محرم، ومولده سنة ستين وستمائة، وسمع من أبي اليسر في آخرين، وحدث عن أبي عبد الله ابن أمين الدين سليمان الموصلي، وروى عنه شيخنا العماد بن كثير، وقال كن رجلاً جيداً يشهد على القضاء، وباشر استيفاء الأوقاف.
ومات الشريف أمين الدين أبو الفضل جعفر بن محمد بن عدلان بن الحسن الحسيني، نقيب الأشراف بدمشق، في ليلة الخميس ثالث رجب، ومولده أول رجب سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان حسن السيرة عفيفاُ، وولى نظر الدواوين بدمشق أيضاً.
ومات الأمير سودي نائب حلب في نصف رجب، ووجد له من الذهب العين مبلغ أربعين ألف دينار، واشتملت تركته على ألف ألف درهم، حملت إلى القاهرة، وكان كريماً حشماً مشكور السيرة.
ومات الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، بمصر ليلة الجمعة سادس ذي القعدة عن ثلاث وثمانين سنة، وكان من أئمة الفقهاء الشافعية، درس وصنف وأفتى.
ومات جمال الدين عطية بن إسماعيل بن عبد الوهاب بن محمد بن عطية اللخمي الإسكندراني، عن ثمنين سنة بالإسكندرية، ومات شرف الدين يعقوب بن فخر الدين مظفر بن أحمد مزهر الحلى، ناظر حلب ودمشق، في ثامن عشري شعبان، عن ست وثمنين سنة بحلب، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، ولم تبق مملكة بالشام إلا باشرها، وكانت له مروءة.
ومات الأمير سيف الدين كهرداش المنصوري بدمشق.
ومات عماد الدين إسماعيل بن الملك المغيث شهاب الدين عبد العزيز بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، بحماة في ثامن عشري ربيع الآخر.
ومات الأمير سيف الدين ملكتمر الناصري المعروف بالدم الأسود بدمشق، وكان ظالماً.
ومات الأمير فخر الدين أقجبا الظاهري بدمشق، وكان خيراً، ومات الشيخ تقي الدين رجب بن أشترك العجمي، صاحب زاوية تقي الدين تحت قلعة الجبل، في ثامن رجب، وكان له أتباع ومريديون، وله حرمة ووجاهة عند أهل الدولة، ومات الشيخ شرف الدين أبو الهدى أحمد بن قطب الدين محمد بن أحمد بن القسطلاني بالقاهرة، ومولده بمكة في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكان ورعاً ديناً، ومات الشيخ المعمر محمد بن محمود بن الحسين بن الحسن المعروف بحياك الله الموصلي، في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، بزاويته من سويقة الريش خارج القاهرة، عن مائة وستين سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره يومئذ خمس وثمانون سنة، ومات سليم الحواس جيد القوة. ومات صرد الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الخشاب، وكيل بيت المال، يوم الإثنين تاسع شعبان، وولي عوضه مجد الدين حرمي، ومات القاضي سعد الدين محمد بن فخر الدين عبد المجيد بن صفي الدين عبد الله الأقفهسي، ناظر الخزانة، يوم الجمعة ثامن عشري ذي الحجة فجأة، واستقر عوضه الصاحب ضياء الدين النشائي. ومات القاضي شمس الدين عبد الله بن الفخر ناظر الجيش يوم السبت ثالث عشر شعبان، وكان ناظر ديوان المماليك وأبوه غائب بالقدس، فقدم بعد موته ليلة رابع عشريه، فقررت جامكيته باسم ابنه، واستنيب عنه، ومات القاضي تقي الدين بن الفائزي، ليلة الجمعة ثاني عشري صفر. ومات الشيخ عمر الدماميني في ثاني عشري ذي القعدة. وقتل بدمشق في يوم الجمعة تاسع عشري رجب موسى بن سمعان النصراني، كاتب الأمير قطلوبك الجاشنكير بحران، وذلك أنه نصر مسلما، وكواه على يده مثال صليب، فحكم قاضي القضاة جمال الدين المالكي بقتله، فقتل.
سنة خمس عشرة وسبعمائةفي أول المحرم: سار العسكر من دمشق إلى حلب، وعليه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، وقد استصحب معه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وشرف الدين ابن فضل الله، وجماعة من الموقعين، وكان تنكز بزي الملوك من العصائب والكوسات، ولم تجر عادة نائب قبله بذلك، وتبعه عسكر صفد وحمص حماة وطرابلس. فلا مر الأمير تنكز إلى حلب فجرد منها الأمير قرطاي والأمير ملكتمر الجمدار إلى ملطية، وكان في الظن أن المسير إلى سيس.

وسبب غزو ملطية أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياب لقتل قرا سنقر، فصار هناك رجل من الأكراد يقال له مندوه يدل على قصاد السلطان أخذ منهم جماعة، فشق ذلك على السلطان، وأخذ في العمل عليه. فبلغه أنه صار يجني خراج مطلية، وكان نائبها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخذ منه نيابة ملطية، فما زال السلطان يتحيل حتى كاتبه ميزامير. وقرر معه أن يسلم البلد لعساكره. فجهز السلطان العساكر، وروى أنها تقصد سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكر منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميع السلاح وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثة أيام. فاتفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عدة منم الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمنهم وألبسهم التشاريف السلطانية المجهزة من القاهرة، وأعطى الأمير ميزامير سنجقا سلطانيا، ونودي في العسكر ألا يدخل أحد إلى المدينة. وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي وسلم إلى الأمير قلى، وتكاثر العسكر ودخلوا إلى المدينة ونهبوها. وقتلوا عدة من أهلها. فشق ذلك على الأمير تنكز، وركب معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، وترك نائب حلب مقيماً عليها لهدم أسوارها. ففر مندوه قبل الدخول إلى الدربند. وفات أمره. فلما قطعوا الدربند أحضرت الأموال التي نهبت والأسرى، فسلم من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأفرد الأرمن.
فلما فتحت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقدم يوم الخميس ثالث صفر، ودقت البشائر بذلك. وتبعه الأمير تنكز بالعساكر - ومعه الأمير ميزامير وولده - حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نول تعمل الصوف، وتجلب كلها إلى حلب. ثم سار تنكز، فقدم دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلاً مع العسكر المصري إلى القاهرة فقدموا في خامس ربيع الآخر.
وفيها قبض على الأميرين علاء الدين أيدغدي شقير، وجمال الدين بكتمر الحسامي الحاجب، في أول ربيع الآخر، فقتل شقير من يومه لأنه اتهم بأنه يريد الفتك بالسلطان، وأخذ لبكتمر الحاجب مائة ألف دينار، وسجن. وكان قد قبض على الأمير بهادر المعزي في عاشر المحرم، وقبض أيضاً بعد القبض على شقير على الأمير طغاي، وقبض على تمر الساقي نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير بهادر آص وحمل إلى الكرك. واستقر الأمير سيف الدين كستاي الناصري في نيابة طرابلس.
وأفرج في مستهل ربيع الآخر عن داود وجبا أخوى الأمير سلار، وأفرج عن الأمير سيف الدين قجماس المنصوري أحد البرجية. وأخرج الأمير بدر الدين محمد الوزيري عن مصر ليقيم بدمشق، في يوم السبت سلخ ربيع الآخر، وأنعم عليه بما خص السلطان من خمس ملطية، وهو نحو الخمسين ألف درهم.
وفي ثامن عشري رجب: أفرج عن الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، وخلع عليه، وأمر في ثامن عشري شهر رجب، ثم أنعم عليه في ثالث عشر شعبان بإقطاع الأمير حسام الدين لاجين أستادار بعد موته.
وفيه قدم محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا، واعتذر عن أخيه مهنا، وقدم فرساً أصيلاً للسلطان، فقدمت الفرس للسلطان في شعبان، وعرفت ببنت الكزتا، بلغ ثمنها وكلفتها ستمائة ألف درهم. فكتب السلطان إلى مهنا بالرجوع إلى البلاد، وخلع على محمد بن عيسى، ثم بعث إلى مهنا باثنى عشر ألف دينار، وأنعم عليه بمائتي ألف درهم، وكتب له بضيعة من الخاص على سبيل الملك.
وفي يوم الجمعة عشري جمادى الأولى: وتاسع عشري مسرى كان وفاء النيل، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثاني عشريه: عزل علاء الدين القطزى من ولاية مصر، وولى بعده ابن أمير حاجب، نقل إليها من ولاية الشرقية.
وفي ثالث جمادى الآخرة: حضر الشريف أسد الدين أبو غرارة رميثة ابن أبي نمى، من مكة فاراً من أخيه حميضة، وأخبر أنه قطع اسم السطان من الخطبة بمكة، وخطب لصاحب اليمن. فجرد السلطان معه الأمير سيف الدين طيدمر، والأمير نجم الين ذمرخان بن قرمان، وثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة وأجناد الأمراء.

وفيها قدم الأمير سيف الدين الخاص تركي وزين الدين قراجا الخازندار من بلاد طقطاي، ومعهم رسل الملك أزبك القائم بعد طقطاي، وأخبروا بإسلامه ومعهم هدية. فأكرم السلطان الرسل، وكتب جوابه، وسفرهم، وبعث معهم الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي بهدية.
وفيها قدم البريد من حلب بقدوم والدة صاحب ماردين تريد الحج، فرسم للنواب بخدمتها والقيام بما يليق بها.
وفيها قدم البريد بخروج سليمان بن مهنا عن الطاعة، ونهبه القريتين، وتوجهه نحو العراق من أجل خروج إقطاعه عنه. فكتب إلى مهنا في ذلك، فأجاب بأنه خارج عن طاعته.
وفيها قدمت رسل صاحب اليمن، وهما بدر الدين حسن بن أبي المنجا، والطوشي جمال الدين فيوز، وقد خرج عليهما عرب صحراء عيذاب، وأخذوا منهما الهدية، فجرد السلطان من الأمراء علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وسيف الدين ساطي السلاح دار، وصارم الدين أزبك الجرمكي، وعز الدين أيدمر الدوادار، علاء الدين علي بن قرا سنقر، وعلم الدين سنجر الدنيسرى، في عدة من الأجناد ومقدمي الحلقة، وأمروا بالتوجه إلى دمقلة بالنوبة، فساروا في أول شوال.
وفي العشر الأخير من شعبان: وقع الشروع في روك أرض مصر وسبب ذلك أن السلطان استكثر أخبارز المماليك أًحاب بيبرس الجاشنكير وسلار النائب وبقية البرجية، وكان الخبرز الواحد ما بين ألف مثقال في السنة إلى ثمانمائة مثقال، وخشي السلطان من وقوع الفتنة بأخذ أخبازهم. فقرر السلطان مع الفخر محمد بن فضل الله ناظر الجيش روك البلاد وإخراج الأمراء إلى الأعمال فتعين الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا للغربية، ومعه آقول الحاجب ومكين الدين إبراهيم بن قروينة، وللشرقية الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، ومعه أيتمش المحمدي وأمين الدين قرموط، وللمنوفية والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاى وبيبرس الحمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد، وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراَ زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.
وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراَ، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشري رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنما وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر الله موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس سكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.

وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجند من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب برلغي وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالي وكانت الجوالي قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالي كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وإقطاع الجند منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولي ابن الشيخي شد هذه الجهة قبل أن يلي الوزارة عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.

ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، قيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها ممن الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم، ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجئ من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من الغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أباش مصر وضمان تجيب بمصر. ومنها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، وتجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد، ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضمن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبى التي كانت تستأدى من البلاد،. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن، ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وأبطل السلطان أيضاَ وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين، ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزة وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأحرجت الجوالي من الخاص، وفرقت في البلاد، وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة، وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.

وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في ويوم الخميس ثاني عشري ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟ حتى لا يخفى عليه شيء من أمره. ثم يعطيه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفره، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكارا، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، ولم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالاً بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟ . فقال لقلة سعادته: يا خوند! هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند! ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ ززقه، فلو قا لأصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟ فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار، فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن جاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له، فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتلكم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.
وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر الله أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصروي ليستريح، فدخل بعض المرقدارية - وكان يقال له عزيز - ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك: عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمز في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: يا خوند! هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، ولم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد الله سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد.

وفي هذه السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بالد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فأر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشري شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشر شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرشهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشري رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل
حرمت الطيف منك ففاض دمعي ... وطرفي فيك محرم وسائل
ومات تقي الدين سليمان بن جمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشر ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكين بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفن بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.
ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميميم الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار.
ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي المعروف بالهندي الأرموي الفقيه الشافعي، في تاسع عشري صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجة، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
ومات شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل فتى أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرالاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، وأنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.

ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصري نائب طرابلس بها، وكان جسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلى، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشري ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشري شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطوني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الاثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشري ذي القعدة.
سنة ست عشر وسبعمائةفي المحرم: قدم البريد من حلب بموت خربندا، وجلوس ولده أبي سعيد بعده.
وفي يوم السبت ثالث عشريه: سمع بالقاهرة هدة عظيمة شبه الصاعقة، وتبعها رعد ومطر كثير وبرد، وغرقت بلبيس لكثرة المطر.
وفي ثامن صفر: استقر شمس الدين محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع في قضاء الحنابلة بدمشق، وجهز له توقيعه من القاهرة، فلم يغير زيه، واستمر يحمل ما يشتريه من السوق بنفسه، ويجلس على ثوب يبسطه بيده في مجلس الحكم، ويحمل نعله بيده.
وفي أول ربيع الأول: فوضت إمرة العرب بالشام إلى الأمير شجاع الدين فضل بن عيسى بن مهنا.
وفيه قدم البريد بوقوع المطر في قارا وحمص وبعلبك، وفي بلاد حلب وإعزاز وحارم، بخلاف المعهود، وعقبه برد قدر النارنج، فيها ما زنته ثلاث أواق دمشقية، هلك بها من الناس والأَغنام والدواب شيء كثير. وخربت عدة ضياع، وتلف من التركمان وأهل الضياع خلق كثير. وعقب هذا المطر نزول سمك كثير ما بين صغار وكبار بالحياة، تناوله أهل الضياع واشتروه وأكلوه. وسقط بالمعرة وسرمين عقيب هذا المطر ضفادع كثيرة في غاية الكبر، منها ميت ومنها بالحياة ثم نزل ثلج عظيم طم القرى وسد الطرقات والأودية، وامتنع السفر حتى بعث النواب الرجال من البلاد والجبال مع الولاة بالمساحي، وعملوا فيها حتى فتحت الطرقات.
وفي سادس عشرى جمادى الأولى: استقر قاضي القضاة نجم الدين بن صصري في مشيخة الشيوخ بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللّه البكاشغري.
فيها رأى السلطان أن يقدم برشنبو النوبي، وهو ابن أخت داود ملك النوبة، فجهز صحبته الأمير عز الدين أيبك على عسكر. فلما بلغ ذلك كرنبس ملك النوبة بعث ابن أخته كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز يسأل السلطان في أمره، فاعتقل كنز الدولة. ووصل العسكر إلى دمقلة، وقد فر كرنبس وأخوه أبرام، فقبض عليهما وحملا إلى القاهرة، فاعتقلا. وملك عبد اللّه برشنبو دمقلة، ورجع العسكر في جمادى الأولى سنة سبع عشرة. وأفرج عن كنز الدولة، فسار إلى دمقلة وجمع الناس وحارب برشنبو، فخذله جماعته حتى قتل، وملك كنز الدولة. فلما بلغ السلطان ذلك أطلق أبرام وبعثه إلى النوبة، ووعده إن بعث إليه بكنز الدولة مقيداً أفرج عن أخيه كرنبس. فلما وصل أبرام خرج إليه كنز الدولة طائعاً، فقبض عليه ليرسله، فمات أبرام بعد ثلاثة أيام من قبضه، فاجتمع أهل النوبة على كنز الدولة وملكوه البلاد.

وفيها أخذ عرب برية عيذاب رسل صاحب اليمن وعدة من التجار وجميع ما معهم، فبعث السلطان العسكر وهم خمسمائة فارس، عليهم الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، في العشرين من شوال، فساروا إلى قوص، ومضوا منها في أوائل المحرم سنة سبع عشرة إلى صحراء عيذاب، ومضوا إلى سواكن حتى التقوا بطائفة يقال لها حي الهلبكسة، وهم نحو الألفي راكب على الهجن بحراب ومزاريق، في خلق من المشاة عرايا الأبدان، فلم يثبتوا لدق الطبول ورمى النشاب، وانهزموا بعد ما قتل منهم عدد كبير. وسار العسكر إلى ناحية الأبواب، ثم مضوا إلى دمقلة، وعادوا إلى القاهرة تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، وكانت غيبتهم ثمانية أشهر. وكثرة الشكاية من الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس مقدم عسكرهم، فأخرج إلى دمشق.
وفيها أغار من الططر نحو ألف فارس على أطراف بلاد حلب، ونهبوا إلى قرب قلعة كمختا فقاتلهم التركمان وقتلوا كثيرا منهم، وأسروا ستة وخمسين من أعيانهم، وغنموا ما كان معهم، فقدمت الأسرى إلى القاهرة في صفر سنة سبع عشرة.
وفيها هبت ريح سوداء مظلمة بأرض أسوان وسود وإسنا وأرمنت، وقدحت لشدة حرها نار عظيمة أحرقت عدة أجران من الغلال. ثم أمطرت السماء، فعقب ذلك وباء هلك فيه بأسوان وغيرها عالم كبير، ودب الوباء إلى الأشمونين.
وفيها أفرج عن الأمير بكتمر الحسامي الحاجب. وخلع عليه في يوم الخميس ثالث عشر شوال بنيابة صفد واًنعم عليه بمائتي ألف درهم، فسار على البريد ودخلها في آخر ذي الحجة. وكان بكتمر في مدة اعتقاله مكرماً لم يفقد غير ركوب الخيل، وبعث إليه السلطان بجارية حبلت منه في الاعتقال، وولدت ولداً سماه ناصر الدين محمداً، فكانت مدة سجنه سنة وسبعة أشهر وأياماً.
وفيها ولي الأمير سيف الدين أرقطاي نيابة حمص في تاسع رجب، عوضاً عن شهاب الدين قرطاي بحكم انتقاله إلى نيابة طرابلس في جمادى الآخرة.
رفيها أخرجت قطيا عن الأجناد، وأضيفت إلى الخاص، وخرج إليها ناظر وشاد. وعوض الأجناد بجهات في القاهرة بعد عرضهم على السلطان، وأعطى كل منهم نظير ما كان له.
وفيها توجه الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار إلى الأمير مهنا وعاد.
وفيها أفرج عن الأمير كراي المنصوري والأمير سنقر الكمالي من سجن الكرك، وقدما إلى القاهرة فسجنا بالقلعة ومعهما نساؤهما.
وفيها قدمت رسل أزبك، ورسل ملك الكرج، ورسل طغاي قريب أزبك بهدايا؛ فأجيبوا وسيرت إليهم الهدايا. فاجتمع هذه السنة ثمانية رسل وهم رسل جوبان، وأبي سعيد، وأزبك، وطغاي، وصاحب برشلونة، وصاحب إسطنبول، وصاحب النوبة، وملك الكرج، وكلهم يبذل الطاعة، و لم يتفق في الدولة التركية مثل ذلك، وأكثر ما اجتمع في الأيام الظاهرية خمسة رسل.
وفيها سافر في الرسلية إلى بلاد أزبك الأمير علاء الدين أيدعدي الخوارزمي مملوك يازي، ومعه حسين بن صاروا أحد مقدمي الحلقة، بالهدية في آخر المحرم وهي مائتا عدة كاملة، ما بين جوشن وخوذة وبركستوان، وخلعة كاملة التحتاني أطلس أحمر مزركش، وشاش كافوري وبلغطاق فوقاني مفرج مقصب محقق بطرز ذهب، وكلفتاه ذهب، وحياصة ذهب، وفرس مسرجة ملجمة بذهب مرصع، وجتر، وسيف بحلية ذهب، وسار معهم بطرك الملكية.
وفيها قدمت أم الأمير بكتمر الساقي.
وفيها تغير السلطان على الأمير سيف الدين طغاي، وضربه بيده بالمقرعة على رأسه، ثم رضي عنه وخلع عليه.
وفيها صرف بهادر الإبراهيمي من نقابة المماليك، وبقي على إمرته وولى عوضه دقماق نقابة المماليك.
وفيها مرضت زوجة الأمير طغاي، فعادها السلطان مراراً، فلما ماتت نزل الأمراء كلهم للصلاة عليها، وعمل كريم الدين لها مهماً عظيماً.
وفيها سار السلطان إلى الصيد في يوم الجمعة سابع شعبان، وتوجه إلى بلاد الصعيد. وعاد إلى قلعة الجبل يوم الإثنين تاسع عشر رمضان، وأعطى الأمراء دستوراً، ونزل تحت الأهرام.
وفيها توجه كريم الدين إلى الإسكندرية وعاد وهو متوعك، فخلع السلطان عليه فرجية أطلس أبيض بطراز، وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم.
وكان وفاء النيل يوم الأربعاء حادي عشرى جمادى الأولى - في ثامن عشر مسري

- بعد أن بلغ في يوم الثلاثاء أربع عشرة إصبعاً من ستة عشر ذراعاً. فانقطع الجسر المجاور للقناطر الأربعين بالجيزة، فنقص عدة أصابع، وجمع لسده خلق كثير، غرق منهم نحو ثلاثين رجلاً في ساعة واحدة انطبق عليهم الجسر. ثم جمع من مصر رجال كثيرة، وكتفوا وأنزلوا في مركب وعدتهم سبعون رجلاً، فانقلبت بهم المركب فغرقوا بأجمعهم في يوم السبت سابع عشره. ثم زاد النيل حتى أوفى.
وفيها قطعت أرزاق المرتزفة من أرباب الرواتب لاستقبال المحرم، وعوضوا على جهات أجودها نسترواة، فصارت سنتهم ثمانية أشهر. وتولى ذلك الصاحب سعد الدين محمد بن عطايا، والسعيد مستوفي الرواتب. ومنع شهر المحرم، وصولح من له راتب بثلث المدة - وهي شهران وثلثا شهر - ، وأحيلوا على المطابخ، وثمنت عليهم قطارة، فحصل من كل دينار سدسه. ونزل بالناس من ذلك شدة، وحصلت ذلة للحرم والأيتام، وسماهما الناس سعد الذابح وسعد بلع، وشافهوهما بكل مكروه.
وفيها قدم الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بمناظر الكبش، وحمل تقدمته في غده، وسار في تاسع عشر جمادى الآخرة.
وفيها لعب السلطان بالميدان الجديد تحت القلعة في يوم السبت ثامن جمادى الآخرة، وخلع على الأمراء وعلى الملك المؤيد صاحب حماة.
وفيها استقر الصاحب أمين الدين بن الغنام ناظر الدواوين بمفرده في خامس عشر رجب، بعد موت التقي أسعد كاتب برلغي.
وفيها سافر الفخر ناظر الجيش وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة إلى القدس، وقدم ابن جماعة في تاسع عشرى رمضان.
وفيه استقر العلم أبو شاكر بن سعيد الدولة في نظر البيوت، واستقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الدواوين، شريكاً لأمين الدين، في يوم الأحد أول ذي القعدة. وفيه توجه الأمير أرغون النائب إلى الحجاز.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرعز الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن أحمد بن ميسر المصري، بدمشق في ليلة الإثنين أول رجب، ومولده بمصر في حادي عشرى رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان فاضلاً جليل القدر ولي نظر الدواوين بمصر، وولي نظر الشام وطرابلس وإسكندرية، ثم تغيرت حالته وانحطت رتبته، واستقر في نظر أوقاف دمشق مع الحسبة، وكان عاقلاً خبيراً بالولايات، وفيه لين وسكون ومروءة وسماح لمن تحت يده من المباشرين. ومال صدر الدين أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن أبي اليسر مكتوم بن أحمد القيسي السويدي الدمشقي، في ليلة السبت ثالث عشرى شوال بدمشق، كان فقيهاً مقرئاً محدثاً، درس وانفرد بالرواية عن جماعة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الأفرم أحد مماليك المنصور قلاوون، وكان نائب دمشق، في ثالث عشرى المحرم بهمذان.
ومات الشيخ نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي البغدادي الحنبلي، في رجب ببلد الخليل عليه السلام، أقام بالقاهرة مدة، وامتحن بها.
ومات شمس الدين عبد القادر بن يوسف بن مظفر الخطيري الدمشقي، في جمادى الأولى عن إحدى وثمانين سنة، حدث، وولي نظر الخزانة بدمشق وكذلك نظر الجامع الأموي والمارستان النووي بها، وكان ديناً صيناً.
ومات الكاتب علاء الدين على بن مظفر بن إبراهيم الكندي - عرف بكاتب ابن ابن وداعة - الأديب البارع المقرئ ومات الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن مكي - المعروف بابن المرحل، وبابن الوكيل - في يوم الأربعاء رابع عشرى ذي الحجة بالقاهرة ومولده بدمياط في شوال سنة خمس وستين وستمائة، واستقر بعده في تدريس الزاوية بجامع عمرو شهاب الدين بن الأنصاري، وفي تدريس المجدية شمس الدين محمد بن اللبان. وقتل بالكرك من الأمراء سيف الدين أسندمر كرجي، وسيف الدين بينجار المنصوري، وبكتوت الشجاعي، وبيبرس العلمي، وبيبرس المجنون، وقطلوبك الكبير، وبكتمر الجوكندار نائب السلطنة، وبلبان طرنا خنقوا في ليلة واحدة.
ومات بطرابلس نائبها الأمير سيف الدين كستاي الناصري، في تاسع جمادى الآخرة، واستقر عوضه الأمير شهاب الدين قرطاي الصالحي نائب حمص، وولي حمص أرقطاي الجمدار.
ومات الأمير سيف الدين طقتمر الدمشقي طنبغا الشمسي، أحد أمراء مصر، وكان حشماً عاقلاً.

ومات الصاحب ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله بن أحمد بن منصور بن شهاب النشائي، وزير مصر، في يوم الإثنين تاسع عشرى رمضان، وكان قد ولي التدريس بالمدرسة التي بجوار الشافعي بالقرافة، ومشيخه الميعاد بالجامع الطولوني، ونظر الأحباس ونظر الخزانة، وكان مشكور السيرة، فقيهاً فاضلاً إماماً في الفرائض مشاركاً في علم الحديث، كثير الصدقة، وقال بعض الشعراء يرثيه:
إن بكى الناس بالمدامع حمرا ... فهو شيء يقال من حناء
فاختم الدست بالنشائي فإني ... لأرى الختم دائماً بالنشاء
وكان في وزارته غير نافذ الأمر، و قال فيه أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي من أبيات:
زقوا منصب الوزارة حتى ... لزقوها وقتنا بالنشاء
وولي بعده نظر الخزانة تقي الدين أحمد بن قاضي القضاة عز الدين عمر بن عبد الله الحنبلي.
ومات تقي الدين أسعد الأحوال بن أمين الملك - المعروف بكاتب برلغي - ناظر الدواوين، في ليلة الإثنين ثامن شهر رجب، فاستقر بعده الصاحب أمين الدين بن الغنام، والتقى هذا هو الذي كان سبب الروك، بتحسينه عمل ذلك للسلطان، وهو الذي أدخل جهات المكوس في ديوان الوزارة وجعلها برسم المطبخ، وفرق جوالي الذمة في الإقطاعات بعدما كانت قلماً مفرداً، فما زال رجال الدولة بالسلطان حتى تنكر عليه وسبه ولعنه وهدده بالقتل، فأثر فيه الخوف ولزم فراشه حتى مات، وكان من الظلمة اللئام، واستسلمه الأمير برلغي، ولم يوجد له بعد موته، شيء سوى دواة وأثاث لم تبلغ قيمته مائتي درهم.
ومات ناصر الدين أبو بكر بن عمر بن السلار - بتشديد اللام بعد السين المهملة - في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم، ومولده ليلة الاثنين تاسع عشر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة بدمشق، وكان أديباً بارعاً بديع الكتابة، وتفتن في عدة فضائل، وهو من بيت إمارة، ومن شعره:
لعمرك ما مصر بمصر وإنما ... هي الجنة الدنيا لمن يتبصر
فأولادها الوالدان من نسل آدم ... وروضتها الفردوس والنيل كوثر
ومات الطواشي ظهير الدين مختار المنصوري - المعروف بالبلبيسي - الخازندار، بدمشق في عاشر شعبان، وكان يقراً القرآن، وفيه شجاعة وشهامة، وفرق ماله على عتقائه قبل موته، ووقف أملاكه على تربته.
ومات الأمير بدر الدين محمد بن كيدغدي بن الوزيري، بدمشق في سادس عشر شعبان.
وماتت المسندة المعمرة ست الوزراء أم محمد، وتدعى وزيرة، ابنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية، بدمشق في ثامن عشر شعبان، ومولدها في سنة أربع وعشرين وستمائة، وحدثت بصحيح البخاري في القاهرة ومصر وقلعة الجبل، سنة خمس وسبعمائة.
ومات القاضي فخر الدين علي ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد، في يوم الثلاثاء عشرى رمضان. ومولده بقوص سنة تسع وخمسين وستمائة، وانقطع بعد أبيه للأشغال، ودرس بالكهاربة من القاهرة.
ومات الكاتب المجود نجم الدين موسى بن على بن محمد بن البصير الدمشقي، بها في عاشر ذي القعدة، وولد سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكان شيخ الكتابة بدمشق.
ومات نجاد بن أحمد بن حجي أمير آل مرا، وحضر ثابت بن عساف بن أحمد بن حجي إلى القاهرة، واستقر عوضه. وقتل سيف الدين خاص بك، في يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى، ضربت عنقه، وكان ممن فر إلى بلاد المغرب وقبض عليه.
ومات الشيخ نور الدين الكناني المقرئ، ليلة الأربعاء عشرى جمادى الأولى بروضة مصر.
مات سراج الدين عمر الأسعردي، في يوم الأربعاء ثالث رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافور الطيبرسي - الشهير بالعاجي - يوم الخميس ثامن عشر رجب.
ومات جمال الدين عبد اللّه بن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، يوم الثلاثاء رابع عشرى رجب.
ومات شهاب الدين أحمد بن العسقلاني، إمام جامع المنشاة، يوم الأربعاء سلخ رجب.
ومات شهاب الدين محمد بن عبد الحميد - المتصدر بجامع عمرو - بمصر يوم الأحد تاسع عشر شعبان، ومولده سنة أربع وعشرين وستمائة، وكان معتقداً.
سنة سبع عشر وسبعمائة

أول المحرم: قدم طيبغا الحموي مبشراً بسلامة الحاج، ووصل القاضي كريم الدين ناظر الخاص من القدس يوم الإثنين سادسه. وقمم الأمير سيف الدين أرغون النائب من الحجاز يوم الثلاثاء سابعه.
وفيه مرضت امرأة الأمير سيف الدين طغاي وماتت، فأكثر زوجها من الصدقة، وفرق بداره التي كانت للملك المنصور قلاوون بالقاهرة مالاً على الفقراء، و هلك في الزحام اثنا عشر شخصاً وبهيمة كانت تحت أحدهم.
وفي حادي عشرى صفر: شنع الناس بموت القاضي كريم الدين، فركب في سادس عشريه وصعد إلى مصر، فزينت له وأوقدت الشموع.
وفيه قدم البريد بمحضر ثابت على قاضي بعلبك بنزول مطر في يوم الثلاثاء سابع صفر ببعلبك، عقبه سيل عظيم أتلف شيئاً كثيراً، وهدم قطعة من السور، وغرق المدينة، وتلف بها شيء كثير، ومات ألف وخمسمائة إنسان سوى من مات تحت الردم، وانهدم منه بستاناً، وثلاثة عشر جامعاً ومدرسة ومسجداً، وسبعة عشر فرناً، وأحد عشر طاحوناً، وهدم برجاً من السور ارتفاعه ثمانية وثلاثون ذراعاً ودوره من أسفله ثلاثة عشر ذراعاً، ذهب جميعه.
وفي ثالث عشر جمادى الأولى - وهو يوم السبت تاسع عشرى أبيب - : قدم المفرد إلى مصر وعلق الستر، فنقص النيل في ليلة الأحد ثلاثة أصابع، فخلق المقياس يوم الأحد، وفتح الخليج مع النقص، ثم رد النيل وزاد إصبعين نودي بهما يوم الأربعاء ثالث مسرى. واستمرت الزيادة، فكان ينادي في اليوم بتسعة أصابع وما دونها حتى بلغت الزيادة في يوم الأحد رابع عشرى توت - وهو ثالث رجب - ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع، وفسد من ذلك عدة مواضع لقلة الاعتناء بالجسور.
وفي بكرة يوم الخميس رابع جمادى الأولى: سار السلطان ومعه خمسون أميراً، وكريم الدين الكبير ناظر الخاص. والفخر ناظر الجيش، وعلاء الدين بن الأثير كاتب السر، بعدما فرق في كل واحد فرساً مسرجاً وهجينين، وبعضهم ثلاثة هجن. وركب السلطان إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات لزيارة القدس، فتوجه إلى القدس، ودخل إلى الكرك، وعاد في رابع جمادى الآخرة، فكانت غيبته أربعين يوماً.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي ومعه الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، من سجن الكرك، فخلع السلطان عليهما، وأنعم على بهادر بإمرة في دمشق، ولزم بيبرس داره، ثم أنعم عليه بتقدمه ألف على عادته.
وفيه صرف أمين الدين عبد اللّه بن الغنام من نظر الدواوين، ونزل بتربته من القرافة، واستمر التاج إسحاق بن القماط والموفق هبة الله مستوفي الأمير سلار في نظر الدواوين عوضه نقلا من استيفاء الدولة، واستقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الكارم ودار القند في ثالث عشريه، وخلع على الثلاثة في يوم السبت خامس عشريه.
وفي رابع رجب: تقطعت جسور منية الشيرج وقليوب، وغرقت ليلة خامسه، وفر أهلها وتلفت أموالهم وغلالهم. فركب متولي القاهرة وغلق سائر الحوانيت والأسواق، وأخذ الناس والعسكر والأمراء لتدارك ما بقي من الجسور.
وفيه قدم الأمير محمد بن عيسى ومعه ابن أخيه موسى بن مهنا، فأنعم عليهما.
وفي يوم الإثنين ثامن عشره: صرف قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحنفي عن قضاء مصر خاصة، واستقر عوضه سراج الدين عمر بن محمود بن أبي بكر الحنفي قاضي الحسينية، فجلس سراج الدين للحكم في يوم الثلاثاء تاسع عشره، ومات ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وعاد ابن الحريري إلى قضاء مصر. وكان سبب عزله أنه بالغ في الحط على الكتاب من النصارى والمسالمة، وأخرق بجماعة منهم وضربهم ، وكان إذا رأى نصرانياً راكباً أنزله وأهانه وإذا رأى عليه ثياباً سرية نكل به، فضاق ذرعهم به، وشكوا أمرهم إلى كريم الدين الكبير.

فلما أخذ السلطان دار الأمير سلار ودور إخوته وقطعتة من الميدان، وأنشأ الأمير سيف الدين بكتمر الساقي المظفري قصراً في موضع ذلك على بركة الفيل. أراد السلطان أن يدخل فيه قطعة من أرض بركة الفيل، وهي في أوقاف الملك الظاهر بيبرس على أولاده، فأراد استبدال ما يحتاج إليه منها بموضع آخر، وأراد من ابن الحريري الحكم بذلك كما هو مذهبه، فابى وجرت بينه وبين السلطان مفاوضة قال فيها: لا سبيل إلى هذا، ولا يجوز الاستبدال في مذهبي، ونهض قائماً وقد اشتد حنق السلطان منه. فسعى السراج عند كريم الدين الكبير في قضاء مصر. ووعد بأنه يحكم بذلك، فأجيب وحكم بالاستبدال وصار ابن الحريري على قضاء الحنفية بالقاهرة فقط، فمرض السراج عقيبها إلى أن مات في ثالث عشرى رمضان، فعد ذلك من بركة الحريري، وأعيد إليه قضاء مصر.
وفي أواخر شعبان: عدى جماعة من الططر الفرات، وقدم دمشق في سادس رمضان منهم أمير كبير اسمه طاطاي في مائة فارس بنسائهم وأولادهم، ودخلوا القاهرة في شوال.
وفي رمضان: عادت الرسل من عند أزبك، وهم أيدغدي الخوارزمي ومن معه، وصحبته رسل إزبك.
وفيه قدم البريد بأنه ظهر في سابع عشر ذي القعدة رجل من أهل قرية قرطياوس من أعمال جبلة زعم أنه محمد بن الحسن المهدي، وأنه بينا هو قائم يحرث إذ جاءه طائر أبيض فنقب جنبه وأخرج روحه وأدخل في جسده روح محمد بن الحسن، فاجتمع عليه من النصيرية القائلين بإلهية علي بن أبي طالب نحو الخمسة آلاف، وأمرهم بالسجود له فسجدوا، وأباح لهم الخمر وترك الصلوات وصرح بأن لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد، ورفع الرايات الحمر، وشمعة كبيرة تقد بالهار ويحملها شاب أمرد زعم أنه إبراهيم بن أدهم، وأنه أحياه، وسمي أخاه المقداد بن الأسود الكندي، وسمي أخر جبريل، وصار يقول له: اطلع إليه وقل كذا وكذا ، و يشير إلى الباري سبحانه وتعالى، وهو بزعمه علي بن أبي طالب، فيخرج المسمى جبريل ويغيب قليلاً، ثم يأتي ويقول: افعل رأيك. ثم جمع هذا الدعي أصحابه و هجم على جبلة يوم الجمعة العشرين منه، فقتل وسبى وأعلن بكفره، وسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما. فجرد إليه نائب طرابلس الأمير شهاب الدين قرطاي الأمير بدر الدين بيليك العثماني المنصوري على ألف فارس فقاتلهم إلى أن قتل الدعي، وكانت مدة خروجه إلى قتله خمسة أيام.
وفيه قدم كتاب المجد إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي بإذعان الملك أبي سعيد ابن خربندا، ووزيره خواخا على شاه، والأمير جوبان، والأمراء أكابر المغل للصلح، ومعه هدية من جهة خواجا رشيد الدين، فجهزت إلى أبي سعيد هدية جليلة من جملتها فرس وسيف وقرفل.
وفيه أفرج عن الشريف منصور بن جماز أمير المدينة النبوية، وكان قد قبض عليه وحضر مع أمير الركب، وأعيد إلى ولايته عوضاً عن أخيه ودي بن جماز، وسار منصور إلى المدينة ومعه عز الدين أيدمر الكوندكي.
وفيه قدم البريد من حلب بخروج ريح في يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول وقت العصر سوداء مظلمة تمادت تلك الليلة، ومن الغد عقبها برق ورعد عظيم ومطر غزير وبرد كبار، وجاء سيل لم يعهد مثله، فأخذ كل ما مر به من شجر وغيره، وتكون عمود من نار متصل اقتلع كنيسة كبيرة من عهد الروم، ومشى بها رمية سهم، ثم فرقها الريح حجراً.
وفيه قدم الخبر بعود حميضة من العراق إلى مكة، ومعه نحو الخمسين من المغل، فمنعه أخوه رميثة من الدخول إلا بإذن السلطان، فكتب بمنعه من ذلك ما لم يقدم إلى مصر. وفيه قبض على الأمير أقبغا الحسني، وضرب وأخرج إلى دمشق على إمرة، من أجل أنه شرب الخمر، ووسط خازن داره، وقطعت ألسنة جماعة من أصحابه، وكحل جماعة منهم.
وفيه قدم الشريف رميثة أمير مكة فاراً من أخيه حميضة، وأنه ملك مكة وخطب لأبي سعيد بن خربندا وأخذ أموال التجار، فرسم بتجريد الأمير صارم الدين أزبك الجرمكي، والأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي في ثلاثمائة فارس من أجناد الأمراء، مع الركب إلى مكة.
وفيه عزل الأمير ركن الذين بيبرس أمير أخور من الحجوبية، واستقر عوضه الأمير سيف الدين ألماس، وكان ألماس تركياً غتمياً لا يعرف باللسان العربي.

وفيها أخرج إلى الشام الأمير عز الدين أيدمر الدوادار، وعلاء الدين على الساقي، وعلاء الدين مغلطاي السنجري، وطغاي الطباخي، وشرف الدين قيران الحسامي أمير علم. وأنعم عليهم بإمريات وإقطاعات بها.
وفيه قدم مندوه الكردي الفار من أسره بملطية بعدما أمن، فأنعم عليه بأمرة في دمشق.
وفيه حاصر الأمير سنجر الجاولي غزة قلعة سلع - ومعه نحو العشرة آلاف فارس - مدة عشرين يوماً إلى أن أخذها، وقتل من أهلها ستين رجلاً من العرب المفسدين، وغنم العسكر منها شيئاً كثيراً، ورتب الجاولي بها رجالاً وعاد إلى غزة.
وفي جمادى الأول استقر فخر الدين أحمد بن تاج الدين سلامة السكندري المالكي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن جمال الدين محمد بن سليمان بن سومر الزواوي بعد موته، فسار فخر الدين إليها من القاهرة، وقدمها في عشريه.
وفيه كان روك المملكة الطرابلسية على يد شرف الدين يعقوب ناظر حلب، فاستقر أمرها لاستقبال رمضان سنة عشر وسبعمائة الهلالي، ومن الخراجى لاستقبال مغل سنة سبع عشرة. و تو بهذا الروك إقطاعات ستة أمراء طبلخاناه، وثلاثة إقطاعات أمراء عشروات، وأبطل منها رسوم الأفراح، ورسوم السجون، وغير ذلك من المكوس التي كان مبلغها في كل سنة مائة ألف درهم وعشرة آلاف درهم، وقدم شرف الدين بأوراق الروك إلى القاهرة.
وفيه قدم الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي وحسين بن صاروا وبطرك الملكية من بلاد أزبك، ومعهم عدة من رسل أزبك: وهم شرنك و بغرطاي وقرطقا وعمر القرمي، ورسل الأشكري صاحب قسطنطينية، وهم خادمه وكبير بيته ميخائيل وكاشمانوس وتادروس، ومعهم الهدايا: فدية أزبك ثلاث سناقر وستة مماليك وزردية وخوذة فولاذ وسيف، فأكرموا وأعيدوا مع الأمير سيف الدين أطرجي والأمير سيف الدين بيرم خجا، بهدية قيمتها عشرة آلاف دينار.
وفيه سافر السلطان إلى الصيد بالبحيرة، وأقام أياماً وعاد. وفيه أعطى السلطان زين الدين قراجا التركماني النازل بالبركة إمرة.
وفيه استقر الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي في كتابة السر بدمشق، بعد موت شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه العمري. واستقر الأمير سيف الدين ألجاي دواداراً، بعد موت بهاء الدين أرسلان.
وفيه طلق السلطان زوجته خوندا أردركين ابنة الأمير سيف الدين نوكاي. وفيه أنعم على الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا بإقطاع الأمير سيف الدين قلي السلاح دار، بعد موته. وحج بالركب الأمير سيف الدين مجليس، ومعه من الأمراء شرف الدين أمير بن جندر وعرلوا الجوكندار، وسيف الدين ألجاي الساقي، وسيف الدين طقصبا الظاهري، وشمس الدين سنقر المرزوقي، وحج أيضاً الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وأخوه محمد في عدة من عرب آل فضل، بلغت عدتهم نحو اثنى عشر ألف راحلة. وفيه تمزقت جماعة الثائر بجبلة، وكان قد قام في النصيرية وادعى أنه المهدي، وأن دين النصيرية حق، وأن الملائكة تنصره. فركب العسكر وقاتلوه فقتل، ورسم أن يبنى بقرى النصيرية في كل قرية مسجد، وتعمل له ارض لعمل مصالحه، وأن يمنع النصيرية من الخطاب وهو أن الصبي إذا بلغ الحلم عملت له وليمة، فإذا اجتمع الناس وأكلوا وشربوا حلفوا الصبي أربعين يميناً على كتمان ما يودع من الذهب، ثم يعلمونه مذهبهم وهو إلهية علي بن أبي طالب، وأن الخمر حلال، وأن تناسخ الأرواح حق، وأن العالم قديم، والبعث بعد الموت باطل، وإنكار الجنة والنار، وأن الصلوات خمس وهي إسماعيل وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، ولا غسل من جنابة، بل ذكر هذه الخمسة يغني عن الغسل وعن الوضوء، وأن الصيام عبارة عن ثلاثين رجلاً وثلاثين امرأة ذكروهم في كتبهم، وأن إلههم علي بن أبي طالب خلق السموات والأرض، وهو الرب، وأن محمداً هو الحجاب وسلمان هو الباب.
؟؟؟؟؟؟؟؟

ومات في هذه السنة
ممن له ذكر شمس الدين أبو العباس أحمد بن يعقوب بن إبراهيم الأسدي الطيبي، بطرابلس في سادس عشرى رمضان، عن تسع وستين سنة، كان أديباً فالملا؛ باشر الإنشاء مدة، ونفل إلى طرابلس في توقيعها إلى أن مات، ومن شعره:
هجرت الخمر لما صح عندي ... بأن الخمر آفة كل طاعة
ولم تر مقلتي في الخمر شيئاً ... سوى أن تجمع الأحباب ساعة

ومات الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار الناصري، يوم الثلاثاء ثالث عشرى رمضان، فوجد له مال جزيل: منه أربعون حياصة ذهباً، وأربعون كلفتاه زركش، ومبلغ ثلاثين ألف دينار، وإليه تنسب خانكاه بهاء الدين بمنشاة المهراني.
ومات شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري كاتب السر، يوم الثلاثاء ثالث رمضان بدمشق، ومولده سابع ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة، حدث عن ابن عبد السلام، وبرع في الأدب، وكان ديناً عاقلاً وقوراً، ناهضا ثقة أميناً مشكوراً. مليح الخط جيد الإنشاء، فولي بعده شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبي أحد كتاب الدرج بديار مصر، نقل إليها من القاهرة، فقدم دمشق ثامن عشرى شوال.
ومات فخر الدين عثمان بن بلبان بن مقاتل معيد المدرسة المنصورية بين القصرين، وكان فاضلاً، حدث وروى وحصل وكتب وخرج، ومات عن اثنتين وخمسين سنة. ومات علاء الدين على ن فتح الدين محمد بن محيي الدين عبد اللّه بن عبد الظاهر السعدي، أحد أعيان كتاب الإنشاء، يوم الخميس رابع رمضان، وكان عالي الهمة صاحب مكارم، وتمكن من الأمير سلار أيام نيابته، فإنه كان موقعه.
ومات زين الدين محمد بن سليمان بن أحمد ابن يوسف الصنهاجي المراكشي الإسكندارني، في أول يوم من ذي الحجة.
ومات جمال الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي الربيع سليمان بن سومر الزواوي المالكي قاضي دمشق، في تاسع جمادى الأولى بها، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة، وقدم الإسكندرية وهو شاب، وتفقه بها حتى برع في مذهب مالك، وأَكثر من سماع الحديث، فسمع من ابن رواج والسبط وأبي عبد اللّه المريني وأبي العباس القرطبي وابن عبد السلام وأبي محمد بن برطلة، وولي قضاء المالكية بدمشق ثلاثين سنة، بصرامة وقوة في الأحكام وشدة في إراقة دماء الملحدين والزنادقة والمخالفين، إلى أن اعتل بالرعشة نحو عشرين سنة، ومازال إلى يعلته أن عجز عن الكلام، فصرف. ومات بعد عزله بعشرين يوماً، وبعد أن علم بالعزل بسبعة أيام.
ومات الصدر شرف الدين محمد بن الجمال إبراهيم بن الشرف عبد الرحمن بن صصري الدمشقي، يوم الجمعة سابع ذي الحجة بمكة، وعمره خمس وثلاثون سنة، فدفن بالمعلاة، وكان حسن الأخلاق.
ومات بطرابلس عماد الدين محمد بن صفي الدين محمد بن شرف الدين يعقوب النويري، صاحب ديوان طرابلس.
ومات الأمير سيف الدين قلني السلاح دار.
ومات الأمير شمس الدين الذكر السلاح دار - صهر علم الدين سنجر الشجاعي - وهو في الحبس.
ومات الأمير سيف الدين ألكتمر - صهر الجوكندار - بالحبس أيضاً.
ومات الخطيب عماد الدين ابن بنت المخلص، في حادي عشرى المحرم.
ومات قاضي القضاة نجم الدين الحنفي الملطي، يوم الإثنين رابع ربيع الأول.
وفيه خلع نفسه الأمير أبو يحيى زكريا اللحياني بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك تونس، وولى ابنه أبا عبد اللّه محمد المعروف بأبي ضربة في آخر ربيع الآخر، وكانت مدته ست سنين.
//سنة ثمان عشرة وسبعمائة في المحرم: قدم الركب من الحجاز على العادة، وصحبته المجردون، فشكى الصارم أزبك الجرمكي من بهادر الإبراهيمي، وأنه منعه من اخذ الشريف حميضة، وأنه تعاطى الخمور، فقبض عليه وعلى رمضان المقدم وأقجبا وجماعة، وسجنوا بالإسكندرية، وأنعم على الأمير مغلطاي الجمالي بخبز الإبراهيمي.
وفيه قدم البريد من حلب بغلاء الأسعار بديار بكر والموصل وبغداد وتوريز، وكثرة الوباء والموت بها. وأن جزيرة ابن عمر خلت من الساكن، وميافارقين لم يوجد من يخطب بها في جامعها.
وفي أول صفر: توجه القاضي كريم الدين الكبير إلى دمشق، فدخلها في سابعه، وتلقاه الأمير تنكز النائب وأنزله بدار السعادة، وقدم إليه هدية سنية فلم يقبل منها غير فرس واحد ورد البقية، وأمر بإنشاء جامع خارج ميدان الحصا، وعاد إلى القاهرة بعد أربعه أيام.
وفي سابعه: استقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الدواوين.
وفي سادس عشره: وصل الأمير جمال الدين بكتمر الحسامي نائب صفد، وأنعم عليه بتقدمة ألف في سادس عشرة.

وفي سابع عشرة: سافر الصاحب أمين الدين بن الغنام على البريد إلى طرابلس ناظراً. وسبب ذلك أنه لما طالت عطلته اجتمع بالأمير سيف الدين البوبكري وحط على كريم الكبير وأنه قد استولى على الأموال وأنفقها على مماليك السلطان ليصانع بها عن نفسه. فعرف البوبكري السلطان عنه ما قال، فأعلم به كريم الدين فقال هو يا خوند معذور، فأنه قد بطل، ولابد له من شغل يأكل فيه صدقة السلطان. وعينه لنظر طرابلس. فبعث السلطان إليه في الحال بخلعة وبريدي، وخرج لوقته.
وفي حادي عشريه: عزل الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من شد الدواوين، ونزل إلى داره.
وفيه عوفي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وركب إلى القلعة، وترك معلوم القضاة تنزهاً عنه، فخلع عليه وباشر بغير معلوم.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشريه: خلع على الأمير سيف الدين طغاي الحسامي الكبير، وسفر على خيل البريد لنيابة صفد عوضاً عن بكتمر الحاحب. وسبب ذلك كثرة دالته على السلطان، وتحكمه في الأمراء والمماليك، وقوة حرمته، وتعرضه على السلطان فيما يفعله من ملاذه. وخرج معه مغلطاي الجمالي، فوصل صفد في تاسع عشر ربيع أول، وقدم الأمير بكتمر الحاجب إلى القاهرة.
وفيه قدم البريد بأنه في يوم الأربعاء ثاني صفر هبت ريح شديدة بأرض طرابلس، ومرت على أبيات مقدم التركمان بالجون فكسرتها، وصارت عموداً أغبر هيئة تنين متصل بالسحاب، ومر ذلك العمود على أبيات علاء الدين طوالي بن اليكي مقدم التركمان، وتلوى يميناً وشمالاً، فلم يترك هناك شيئاً حتى أهلكه، وطوالي يصيح: " يا رب قد أخذت الرزق، وتركت العيال بغير رزق، فإيش أطعمهم،، فعاد ذلك التنين إليه بعد ما كان خرج عنه، وأهلكه وامرأته و أولاده وثلاثة عشر نفساً. وحملت الريح جملين حتى ارتفعا في السماء قدر عشرة أرماح، وأتلفت القدور الحديد. ومرت على عربان هناك فاحتملت لهم أربعة جمال حتى غابت عنهم في اليوم، ثم نزلت مقطعة. وعقب هذا الريح مطر وبرد زنة البردة الواحدة منه ثلاث أواق دمشقية.
وفيه أجلس السلطان جماعة من مقدمي الحلقة الشيوخ في أوقات المشورة مع الأمراء، وسمع كلامهم.
وفيه سأل النصارى في رم جدران كنيسة بربارة بحارة الروم، فأذن لهم السلطان في رمها. فاجتمع لعمارتها جماعة كثيرة من النصارى، وأحضر الأقباط لهم الآلات، وأقاموا على عملها عدة من المسلمين شادين ومستحثين، فجاءت كأحسن المبانى. فشق ذلك على جيران الكنيسة من المسلمين، وشكوا أمرها إلى الأمير أرغون النائب والفخر ناظر الجيش، وأن ذلك وقع بجاه كريم الدين الكبير وكريم الدين الصغير، ورفعوا عدة قصص إلى السلطان بدار العدل. فساعد النائب والفخر عند قراءة القصص في الإنكار على بناء الكنيسة، إلى أن رسم لمتولي القاهرة على علم الدين سنجر الخازن بخراب ما جدد فيها من البناء، فنزل إليها علم الدين، واجتمع إليه من الناس عدد لا يحصيه إلا الله، وهدم ما جدد فيها، ومضى لسبيله. فقامت طائفة من المسلمين وبنوا الجانب الذي هدم محراباً، وأذنوا فيه أوقات الصلوات، وصلوا وقرأوا هناك القرآن، ولزموا الإقامة فيه. فحنق النصارى من ذلك، وشكوا أمرهم إلى كريم الدين، فرفع كريم الدين ذلك للسلطان، وأغراه ممن فعل ذلك، وأنه يريد نهب النصارى وأخذ أموالهم، وشنع القول. فرسم السلطان للخازن بهدم المحراب وإعادة البناء، وقبض أهل حارة الروم وعملهم في الحديد، فلما توجه الخازن لذلك اجتمع الناس وصاحوا به، فساس الأمير وتركهم، وأهمل ذلك الموضع حتى صار كوم تراب.
وفيه تجهز السلطان لركوب الميدان، وفرق الخيول على جميع الأمراء واستجد بركوب الأوشاقية بكوافي زركش على صفة الطاسات، وهم الذين عرفوا باسم الجفتاوات. واستجد النداء في البحر على أرباب المراكب ألا يركبوا أحداً من مماليك السلطان في مركب يوم الميدان، وشدد الإنكار على الطواشي المقدم في غفلته عن المماليك.
وفيه شدد على الأمراء المسجونين ببرج السباع من قلعة الجبل، وهم: طوغان نائب البيرة، وعلم الدين سنجر البرواني، وبيبرس المجنون، وفخر الدين أياز نائب قلعة الروم، والحاج بيليك، وسيف الدين طاجا، والشيخ على مملوك سلار، ومنع حريمهم من الإقامة عندهم.

وفيه خرج الأمير مغلطاي الجمالي على البريد إلى صفد بتقليد الأمير طغاي نيابة حلب، وكتب إلى الأمير سيف الدين أقطاي نائب حمص بنيابة صفد عوضاً عن طغاي، واستقرار الأمير بدر الدين بكتوت القرماني في نيابة حمص. وأسر السلطان إلى الأمير مغلطاي القبض على طغاي. فتوجه مغلطاي إلى صفد للقبض على طغاي. فتوجه مغلطاي إلى صفد بعد اجتماعه بالأمير تنكز نائب الشام، وهو على طغاي، وأحضره إلى قبة النصر خارج القاهرة، فخرج إليه الأمير قجليس، وصعد إلى القلعة وهو مقيد في خامس عشر جمادى الأ ولى، وأخرج به في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى إلى الإسكندرية، فكان أخر العهد به. وأخرج بهادر أيضاً إلى سجن الإسكندرية، ووقعت الحوطة في يوم الخميس عشريه على موجوده وفرقت مماليكه على الأمراء.
وفيه توجه الأمير قجليس إلى الشام.
وفيه ابتدئ في صفر بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشت خاناه والفرش وجامع القلعة، وبنى الجميع جامعاً، فجاء على ما هو عليه الآن من أحسن المباني. تم بناؤه ورخامه جلس فيه السلطان، واستدعى سائر مؤذني القاهرة ومصر وقراءها وخطباءهما وعرضوا عليه، فاختار عشرين مؤذناً رتبهم فيه، وقرر به درساً وقارئ مصحح وأوقف عليه الأوقاف الكثيرة.
وفيه تجدد بدمشق ثلاثة جوامع بظاهرها: وهي جامع الأمير تنكز، والأمير كريم الدين، وجامع شمس الدين غبريال بن سعد.
وفيه غرقت مركب في بحر الملح وهي متوجهة إلى اليمن، وكان فيها لكريم الدين متجر. بمبلغ مائة ألف دينار سوى ما لغيره، فلم يسلم منها سوى سبعة أنفس، وغرق الجميع.
وفيه وقعت الفتنة بين المغل، فقتل فيها نحو الثلاثين أميراً سوى الأجناد والأتابك وقتل من الخواتين سبع نسوة مع عالم عظيم، وانتصر أبو سعيد. فسر السلطان بذلك لما فيه من وقوع الوهن في المغل.
وفيها قبض على الأمير بدر الدين ميزامير ابن الأمير نور الدين صاحب ملطية، من أنه كتب إلى جوبان القائم بدولة أبي سعيد بن خربندا بالأردو أن يطلبه من السلطان. وقبض أيضاً على مندوه الكردي بغزة.
وفيه حبس شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، بسبب مسألة الطلاق، وكان ذلك بسعي قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري الحنفي عليه، وإغرائه السلطان به.
وفيه أنعم على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري بإقطاع مغلطاي ابن أمير مجلس، بإمرة ثمانين فارساً، وخلع عليه وجلس رأس الميسرة، ونقل مغلطاي إلى الشام.
وفيه قدم صاحب خرتبرت، فأنعم بإمرية.
وفيه استقر في نيابة الكرك الأمير عز الدين أيبك الجمالي نائب قلعة دمشق، واستقر عوضه في نيابة قلعة دمشق الأمير عز الدين أيبك الدميتري.
وفيه خرج الأمير بدر الدين بن عيسى بن التركماني بطائفة من العسكر مجردين إلى الحجاز، في طلب الشريفين حميضة ورميثة.
وفيه أفرج عن الأمير سيف الدين أقبغا الحسني، وأنعم عليه بإمرة في دمشق.
وفي شعبان: قدم حمل سيس على العادة.
وفيه ولي قضاء القضاة المالكية بالقاهرة ومصر تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيس ابن بدران الأخنائي، بعد موت زين الدين علي بن مخلوف في ثاني عشر جمادى الآخرة.
وفيه حج بالركب المصري الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وقبض على الشريف رميثة، وفر حميضة، وقدم رميثة مقيداً إلى قلعة الجبل، فسجن بها.
وفيه قدمت رسل ابن قرمان بدراهم ضربت باسم السلطان، وأنه خطب هناك للسلطان، وهي أطراف بلاد الروم، فكتب له تقليد، وسيرت إليه هدية جليلة.
وفيه خلع أبو عبد ا لله محمد المعروف بأبي ضربة ابن الأمير أبي زكريا اللحياني ابن أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، في أخر شهر ربيع الآخر. وكانت مدته سنة واحدة، وقام بعده بتونس الأمير أبو بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص.
وفي هذه السنة. انقرضت دولة بني قطلمش ملوك قونية. وذلك أن عز الدين اسيكاوس بن كيخسرو لما مات سبع وسبعين وستمائة ترك ابنه مسعوداً، فولاه أبغا بن هولاكو سيواس وغيرها. واستبد معين الدين سليمان برواناه على ركن الدين قلج أرسلان ابن كيخسرو بقيصرية ثم قتله، ونصب ابنه غياث الدين كيخسرو، فعزله أرغون بن أبغا، وولي ابن عمه مسعود بن كيكاوس، فأقام مسعود حتى انحل أمره وافتقر، وبقي الملك بالروم للتتر إلا ملك بني أرتنا، فأنه بقي بسيواس.

ومات في هذه السنة ممن له ذكر
كمال الدين أحمد بن جمال الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سحمان الكبري الوائلي الشريشي الفقيه الشافعي. قدم مصر وسمع بها وبالإسكندرية، وبرع في الأصول والنحو، وناب بدمشق في الحكم عن البدر محمد بن جماعة، وولى وكالة بيت المال مرتين، ومشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق، وعلق تعاليق، وقال الشعر. ومولده في رمضان سنة ثلاث وخمسين وستمائة بسنجار، وتوفي بمنزلة الحسا من طريق الحجاز عن ست وستين سنة، في سلخ شوال.
ومات جمال الدين أبو بكر بن إبراهيم بن حيدرة بن علي بن عقيل الفقيه الشافعي المعروف بابن القماح، في سابع عشر ذي الحجة، وهو عم القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن القماح .
ومات شرف الدين أبو الفتح أحمد بن سليمان بن أحمد بن أبي بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله السيرجي الأنصاري الدمشقي، في سابع عشري ربيع الأول. وهو من بيت جليل، وولي عدة مناصب، وكان ديناً صاحب مروءة وسعة، ومات يوم الإثنين سابع عشري ربيع الأول.
ومات فخر الدين أحمد بن تاج الدين بن أبي الخير سلامه بن أبي العباس أحمد بن سلامة السكندري المالكى، قاضي القضاة المالكية بدمشق، ولد سنة إحدى وأربعين وستمائة، ومات مستهل ذي الحجة، وكان مشكور السيرة، بصيراً بالعلم ماهراً في الأصول حشماً.
ومات أحمد بن المغربي الإشبيلي، كان يهودياً يقال له سليمان، فأسلم في أيام الملك الأشرف خليل بن قلاوون ، سنة تسعين وستمائه، وتسمى أحمد، ومات في ليلة العشرين من صفر. وكان بارعاً في عدة علوم، إماماً مي الفلسفة والنجامة، ولي رياسه الأطباء بديار مصر.
ومات مجد الدين أبو بكر بن محمد بن قاسم التونسي المقرئ المالكي النحوي. قدم في صباه إلى القاهرة، وأخذ بها القراءات والنحو حتى برع فيهما، وسكن دمشق وأقرأ بها، واشتغل في عدة علوم من أصول وفقه وغير ذلك، وكان ديناً رصيناً مفرط الذكاء، فيه تودد ويحب الإنفراد، وتخرج به الفضلاء. ومات يوم السبت سادس عشري ذي القعدة بدمشق، عن اثنتين وستين سنة.
ومات مسند الوقت زين الدين أبو بكر أحمد بن عبد الدايم بن نعمة المقدسي الصالحي، سمع سنة ثلاثين وستمائة على الفخر الإربلي، وسمع الصحيح كله على ابن الزبيدي، وسمع من الناصح ابن الحنبلي وسالم بن صصري وجعفر الهمذاني وجماعة، وأضر قبل موته بثلاثة أعوام، وثقل سمعه، وكان له همة وجلادة وفهم، وحدث وعاش ثلاثاً وتسعين سنة. ومات ليلة الجمعة تاسع عشري رمضان، ومولده في سنة خمس أو ست وستمائة.
ومات زين الدين أبو الحسن علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري الجزولي المالكي، قاضي القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، في ليلة الأربعاء ثاني عشر جمادي الآخرة، وأقام قاضياً نحواً من أربع وثلاثين سنة، ومولده سنة عشرين وستمائة. وكان مشكور السيرة،، خبيراً بتدبير أموره الدنيوية، كثير المداراة سيوساً، محباً لقضاء الحوائج، وولي بعده نائبه تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عتيق الأخنائي ومات محمد بن قاضي الجماعة أبي القاسم وقيل أبي عمر أحمد ابن القاضي أبي الوليد محمد بن محمد بن الحاج وقيل أحمد بن محمد بن عبد الله ابن القاضي أبي جعفر بن الحاج أبو الوليد التجيبي الأندلسي القرطبي الإشبيلي، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وورث مالاً كثيراً، فصادره ابن الأحمر، وأخذ منه عشرين ألف دينار، ونشأ يتيماً في حجر أمه، ونقلته إلى شريش ثم إلى غرناطة، فلما شب قدم تونس، ثم رحل منها بإبنيه إلى القاهرة، وسكن دمشق حتى مات بها في رجب. وكان فاضلاً ديناً، أم بمحراب الجامع، وامتنع من ولاية الحكم.
ومات الأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب، بمحبسه من القلعة، في ربيع الآخر، وكان في ولايته مشكوراً حشماً صين اللسان.
ومات الأمير علاء الدين أقطوان الظاهري، بدمشق في عاشر رمضان، وقد تجاوز الثمانين سنة.
ومات الأمير سيف الدين طغاي، بمحبسه بالإسكندرية أول شعبان.
ومات الأمير شمس الدين الدكز الأشرفي، أحد المماليك المنصورية قلاوون، بمحبسه بالقلعة. ومات الأمير سيف الدين منكوتمر الطباخي.
ومات أركتمر بالجب من القلعة.
وأشيع موت الأمير موسى ابن الملك الصالح علي بن قلاوون بقوص .

ومات الأمير عز الدين طقطاي نائب الكرك.
ومات ركن الدين بيبرس نائب عجلون.
وفيه قدم الخبر. بموت الوزير رشيد الدولة أبو الفضل فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمذاني الطبيب، في تاسع رمضان. وكان قد علت منزلته عند غازان، وقدم معه الشام، وتقدم في أيام خربندا. فلما مات خربندا عزل عن وظائفه، فصانع عن نفسه. بمال كبير، فلم يغنه شيئاً، واتهم أنه قتل خربندا بالسم، وشهد عليه الأطباخي، وقتل وحمل رأسه إلى تبريز، ثم قطعت أعضاؤه وحمل إلى كل بلد عضو.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الشمسي، بقلعة دمشق في ذي الحجة.
وفيه قدم من العراق محمل إلى مكة وكسوة للكعبة، فلم يمكنوا من الكسوة، وكان القان أبو سعيد قد جهز الركب، وقدم عليهم رجلاً شجاعاً، فلم يمكن العربان أن يأخذ شيئاً من الحاج. فلما كان العام القابل خرجت العيون على الركب ونهبوه، وأخذوا من الحاج شيئاً كثيراً، فسأل أبو سعيد كم قدر ما أخذوا من الركب، فقيل له نحو الثلاثين ألف دينار، فرتب لهم ستين ألف دينار، فمات من سنته.
سنة تسع عشرة وسبعمائةفي خامس المحرم: قدم مبشر الحاج بسلامة الحاج والقبض على الشريف رميثة بن أبي نمى، وأنه استقر عوضه في إمرة مكة أخوه الشريف عطيفة. وقدم الحاج مع مغلطاي الجمالي، وصحبته الشريف رميثة، فسجن من سابع عشرة إلى أن دخل المحمل في ثاني عشريه. فشق الجمالي على الناس بكثرة عجلته في السير وكانت العادة أولاً بقدوم المحمل في ثامن عشري المحرم، ثم استقر دخوله في الأيام الناصرية يوم الخامس أو الرابع والعشرين منه، فأنكر عليه السلطان ما فعله، وجهز محمد بن الرديني. بمائتي جمل عليها الزاد والماء برسم حمل من انقطع من الحاج، فسافر من يومه.
وفيه قدم كتاب الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التركماني من مكة بأنه منع العبيد من حمل السلاح. بمكة، وأنه أخرج المفسدين ونادى بالعدل، وأنه مقيم لأخد الشريف حميضة.
وفيه جهز الأمير أيتمش المحمدي على عسكر إلى برقة، ومعه فايد وسليمان أمراء العربان لجباية زكاة الأغنام على العادة، فسار في ثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة ومعه من الأمراء بلبان الخاص تركي، وبلبان الحسني، وسنقر المرزوقي، وصمغار بن سنقر الأشقر، ومنكلي الجمدار، وغرلوا الجوكندار، ونوغاي، أخر يوم من المحرم، ونزل بالإسكندرية.
ثم سار أيتمش يريد بلاد جعفر بن عمر من برقة، ومسافتها من الإسكندرية على الجادة نحو شهرين. فدله بعض العرب على طريق مسافتها ثلاثة عشر يوماً يفضي به إلى القوم من غير أن يعلموا به، وطلب في نظير دلالته على هذه الطريق مائة دينار وإقطاعات من السلطان بعد عود العسكر إلى القاهرة، فعجل له أيتمش المائة، والتزم له بالإقطاع من السلطان، وكتب له بعشرة أرادب قمحاً لعياله، وأركبه ناقة، وكتم ذلك كله عن العسكر من الأمراء والأجناد والعربان، وسار بمسيره. فأنكر سليمان وفايد على أيتمش مسيره في غير الجادة، وخوفوه العطش وهلاك العسكر، فلم يعبأ بكلامهما، فمضيا إلى الأمراء وشنعا القول وأكثرا من الإرجاف، فاجتمعوا بأيتمش ليردوه إلى الجادة فلم يفعل ومضى، فلم يجدوا بداً من أتباعه حتى إذا مضت ثلاث عشرة ليلة أشرف على منازل جعفر بن عمر وعربانه، فدهشوا لرؤية العسكر. وأرسل إليهم أيتمش بسليمان وفايد يدعوهم إلى الطاعة، فأجابوا مع رسلهم: إنا على الطاعة ولكن ما سبب قدوم هذا العسكر على غفلة من غير أن يتقدم لنا به علم؟. فقال لهم أيتمش: حتى يحضر الأمير جعفر ويسمع مرسوم السلطان، وأعادهم. وتقدم أيتمش إلى جميع من معه ألا ينزل أحد عن فرسه طول ليلته، فباتوا على ظهور الخيل.

فلما كان الصباح حضر أخو جعفر ليسمع المرسوم، فنهره أيتمش وقال له ولمن معه: ارجعوا إلى جعفر فإن كان طائعاً فليحضر، وإلا فليعرفني، وبعث معه ثلاثة من مقدمي الحلقة، فامتنع جعفر من الحضور. فللحال لبس العسكر السلاح وترتب، وأفرد سليمان وفايد. بمن معهما من العسكر ناحية، واستعد جعفر أيضاً وجمع قومه وحمل بهم على العسكر. فرموهم بالنشاب فلم يبالوا به، ودقوا العسكر برماحهم، وصرعوا الأمير شجاع الدين غرلوا الجوكندار بعدما جرحوه ثلات جراحات، فتداركه أصحابه وأركبوه. وحملوا على العرب فكانت بين الفريقين تسع عشرة وقعة أخرها انهزم العرب إلى بيوتهم، فقاتلهم العسكر عند البيوت ساعة وهزموهم إليها، وكانت تلك البيوت في غاية قصب. فكف العسكر عن الدخول إليهم، ومنعهم أيتمش عن التعرض إلى البيوت وحماها، وأباح لهم ما عداها، فامتدت الأيدى، وأخذت من الجمال والأغنام ما لا ينحصر عدده. وبات العسكر محترسين، وقد أسروا نحو الستمائة رجل سوى من قتل. فلما أصبح الصبح من أيتمش على الأسرى وأطلقهم، وتفقد العسكر فوجد فيه اثنى عشر جريحاً، ولم يقتل غير جندي واحد، فرحل عائداً عن البيوت بأنعام تسد الفضاء، وأبيع معهم فيما بينهم الرأس الغنم بدرهم، والجمل ما بين عشرين إلى ثلاثين درهماً، وسار أيتمش ستة أيام في الطريق التي سلكها والعسكر بالسلاح، خشية من عود العرب إليهم.
وبعث أيتمش بالبشارة إلى السلطان، فبعث الأمير سيف الدين ألجاي الساقي لتلقي العسكر بالإسكندرية وإخراج الخمس مما معهم للسلطان، وتفرقة ما بقي فيهم، فخص الجندي ما بين أربعة جمال وخمسة، ومن الغنم ما بين العشرين إلى الثلائين. وحضروا إلى القاهرة، فخلع السلطان على أيتمش، وبعد حضورهم بإسبوع قدم جعفر بن عمر إلى القاهرة، ونزل عند الأمير بكتمر الساقي مستجيراً، فأكرمه ودخل به على السلطان، فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وأن يقرر عليه ما يقوم به، فقبل السلطان قوله وعفا عنه، وخلع عليه ومضى، وصار يحمل القود في كل سنة.
وفي ليلة أول المحرم: هبت ريح بدمشق شديدة رمت عدة منازل وخربت كثيراً من البيوت، فهلك تحت الردم خلق كثير، وقلعت أشجار كثيرة من أصولها. ثم سكنت الريح، ثم ثارت ليلة التاسع عشر منه، و لم تبلغ شدة الأولى.
وفي صفر: استقر الأمير سيف الدين بهادر البدري نائب السلطنة بحمص، عوضاً عن بدر الدين بكتوت القرماني، فتوجه إليها في رابع ربيع الأول، واستقر القرماني من جملة أمراء دمشق. واستقر شرف الدين محمد بن معين الدين أبي بكر ظافر بن عبد الوهاب الهمذاني المالكي ابن خطب الفيوم في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن فخر الدين أحمد بن سلامة، في تاسع عشري ربيع الأول. واستقر تاج الدين أحمد بن القلانسي في وكالة بيت المال بدمشق، وكتب. بمنع ابن تيمية من الفتوي بالكفارة في اليمن بالطلاق.
وفيه قل المطر ببلاد الشام حتى أيس الناس واستسقوا بدمشق فسقوا، ومر دمشق سيل عظيم قل ماعهد مثله.
وفيه استجد السلطان القيام فوق الكرسي للأميرين جمال الدين أقوش نائب الكرك وسيف الدين بكتمر البوبكري السلاح دار، إذا دخلا عليه. وكان نائب الكرك يتقدم على البوبكري عند تقبيل يد السلطان، فعتب الأمراء على البوبكري. وسئل السلطان عن تقديمه نائب الكرك وتأخيره البوبكري، فأن العادة جرت أن يتأخر الكبير في تقبيل اليد ويتقدم الصغير قبله، فقال لأنه أكبر. فكشف عن ذلك، فوجد أن نائب الكرك قد أمره الملك لمنصور قلاوون إمرة عشرة، وجعله أستادار إبنه الملك الأشرف في سنة خمس وثمانين وستمائة، ووجد أن البوبكري تأمر بعد مسك سنقر الطويل، عندما طلب من مماليك البرج هو والخطيري وسنجر الجمقدار وطشتمر الجمقدار، في سنة تسعين وستمائة.
وفي يوم الخميس عاشر ربيع الآخر: قدم شمس الدين غبريال على البريد من دمشق باستدعاء، وخلع عليه بنظر الشام.
وفي يوم الإثنين رابع عشر ربيع الآخر. فر الشريف رميثة أخر النهار، فبعث السلطان في طلبه الأمير قطلوبغا المغربي والأمير أقبغا أص الجاشنكير على الهجن السلطانية، في ليلة الخميس سابع عشره، فقبض عليه. بمنزلة حقل في يوم الإثنين حادي عشريه، وقدم في خامس عشريه، فسجن في الجب من القلعة.

وفي يوم الخميس سابع عشر رجب: قدم الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من مكة بكتاب الشريف عطيفة، وأخبر بأن القواد في طاعته، وأن حميضة نزح إلى اليمن، وذلك بعد أن فارقه بنو شعبة وغيرهم.
وفيه قدم الخبر بإفساد العرب بثغر عيذاب وقتلهم الشاد المقيم بها. فجرد إليهم السلطان من الأمراء آقوش المنصوري وهو المقدم، ومحمد بن الشمسي، وعلي بن قراسنقر، وطقصباي الحسامي، وبيبرس الكريمي، وآقوش العتريس، وأنعم على آقوش المنصوري بإمرة طبلخاناه، وأقطع ثغر أسوان ليقيم بعيذاب.
وفي جمادى الآخرة: قدم سليمان بن مهنا طائعاً، بعد دخوله إلى الأردو ملتجئاً إلى المغل، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه بمائتي ألف درهم من دمشق، وأعطاه قماشاً بثلاثين ألف درهم، وعاد.
وفيه استقر في نقابة الجيوش أحمد بن آقوش العزيزي المهمندار، بعد وفاة الأمير طيبرس الخزنداري.
وفيه قدم كتاب أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني الزاهد بن عبد الواحد ابن أبي حفص المعروف باللحياني ، يسأل الإسعاف بتجريد طائفة من العسكر إليه يحضر معهم إلى مصر. فخرج إليه الأمير طقصباي الحسامي والأمير بدر الدين بيليك المحسني في طائفة من الأجناد، وأحضراه بحرمه، وفيه أنزلت خوند أردوكين بنت نوكاي من القلعة إلى القاهرة، بعدما أخذ السلطان منها كثيراً من الجواهر، ورتب لها عدة رواتب.
وفيه عمل إبرنجي خال القان أبي سعيد على قتل جوبان، وواعد قرمشي ودقماق وغيرهما من المقدمين على ذلك. فنقل الخبر لجوبان، ففر ونهبت أثقاله، وقتل له نحو ثلاثمائة رجل. ولحق جوبان بتبريز، وقدم ومعه علي شاه إلى بو سعيد، فتبرأ مما جرى عليه. وجهز له بو سعيد عسكراً وركب معه حتى لقوا إبرنجي ومن معه، فقاتلوهم وأخذوا إبرنجي وقرمشي ودقماق، فقتلوا وأمسك أمراؤهم. وتمكن جوبان من أعدائه، وقتل خلائق من المغل، واتهم القان بوسعيد بأنه كان أمر إبرنحي بقتل جوبان لكثرة تحكمه عليه.
وفيه اهتم السلطان بالحركة إلى الحجاز ليحج، وتقدم إلى كريم الدين الكبير بتجهيزه والسفر إلى الإسكندرية لعمل ثياب أطلس برسم شمسوة الكعبة. فطلب كريم الدين أكرم الصغير وغيره من المباشرين، وأمرهم بتجهيز الإقامات والمعلوات والحوائج خاناه، وكتب لنائب الشام ونائب غزة بتجهيز ما يحتاج إليه. فتوالت تقادم الأمراء والنواب من سائر البلاد الشامية. وكانت أول تقدمة وصلت من الأمير تنكز نائب الشام، وفيها الخيل والهجن بأكوار ذهب، وسلاسل ذهب وفضة، ومقاود حرير، ثم تقدمة الملك المؤيد صاحب حماة. وتولى كريم الدين بنفسه تجهيز ما يحتاج إليه، وعمل عدة قدور من ذهب وفضة ونحاس تحمل على البخاتي ويطبخ فيها، وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين في أحواض من خشب تحمل على الجمال، فتصير مزوعة وتستقى ويحصد منها ما تدعو الحاجة إليه، فيها من البقل والكراث والكزبرة والنعناع والريحان وأنواع المشمومات شيء كثير، ورتب لها الخولة لتعهدها، وجهزت الأفران وصناع الكماج والجبن المقلي وغيره. ودفع كريم الدين إلى العربان أجرة الأحمال من الشعير والدقيق والبقسماط، وجهز في بحر الملح مركبين إلى ينبع ومركبين إلى جدة، وكتب أوراق العليق للسلطان والأمراء وعدتهم اثنان وخمسون أميراً، لكل أمير ما بين مائة عليقة في كل يوم إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة، فكانت حملة العليق في مدة الغيبة مائة ألف وثلاثين ألف أردب من الشعير. وحمل من دمشق خمسائة حمل على الجمال، ما بين حلوى وسكردانات وفواكه، ومائة وثمانون حمل حب رمان ولوز وما يحتاج إليه من أصناف المطبخ. وجهز كريم الدين من الأوز ألف طائر، ومن الدجاج ثلاثة ألاف طائر. وعين السلطان الأمير أرغون النائب بديار مصر للإقامة بقلعة الجبل، ومعه الأمير أيتمش وغيره، ورسم لمن تأخر من الأمراء أن يتوجهوا إلى نواحي إقطاعهم، فيكون كل منهم ببلاد إقطاعه إلى حين عود السلطان، ولا يجتمع أمير بأمير في غيبته. وكتب إلى النواب بالشام أن يستقر كل نائب. بمقر مملكته، ولا يتوجه إلى صيد إلى حين عوده، فامتثلت أوامره.

وفيه قدم الملك المؤيد من حماة، فتوجه المحمل على العادة في يوم الأحد ثامن عشر شوال، مع الأمير سيف الدين طرجي أمير مجلس. وركب السلطان من القلعة في أول ذي القعدة، وسار من بركة الحاج في سادسه، ومعه صاحب حماة والأمراء وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وأهل الدولة.
وقدم السلطان مكة بتواضع وذلة، بحيث قال الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا. لازلت أعظم نفسي إلى أن رأيت الكعبة، وذكرت بوس الناس الأرض لي، فدخلت في قلبي مهابة عظيمة مازالت حتى سجدت لله تعالى. وحسن له بدر الدين محمد بن جماعة أن طوف راكباً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " ومن أنا حتى أتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والله لا طفت إلا كما يطوف الناس. ومنع السلطان الحجاب من منع الناس أن يطوفوا معه، وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد من الناس، في مدة طوافه وفي تقبيله الحجر. وبلغه أن جماعة من المغل ممن حج قد اختفي خوفاً منه، فأحضرهم وأنعم عليهم وبالغ في إكرامهم. وغسل الكعبة بيده، وأخذ أزر إحرام وغسلها لهم بنفسه. وأبطل سائر المكوس من الحرمين، وعوض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات. بمصر والشام. وأحسن إلى أهل الحرمين، وأكثر من الصدقات.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة: ظهر بعد الظهر القمر في السماء مقارناً لكوكب، وأقاما ظاهرين إلى بعد العصر.
وفيه مهد السلطان ما كان في عقبة أيلة من الصخور، ووسع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة.
وفيه اتفقت موعظة: وهي أن السلطان بالغ في تواضعه. بمكة، فلما أخرجت الكسوة لتعمل على البيت صعد كريم الدين الكبير إلى أعلا الكعبة بعدما صلى بجوفها، ثم جلس على العتبة ينظر إلى الخياطين، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفتين، فبعث الله عليه نعاساً سقط منه على أم رأسه من علو البيت، فلو لم يتداركوه من تحته لهلك. وصرخ الناس في الطواف تعجباً من ظهور قدرة الله في إذلال المتكبرين، وانقطع ظفر كريم الدين، وعلم بذنبه فتصدق. بمال جزيل.
وفي هذه السنة: حشد الفرنج، وأقبلوا يريدون استئصال المسلمين من الأندلس في عدد لا يحصى، فيه خمسة وعشرون ملكاً، فقلق المسلمون بغرناطة، واستنجدوا بالمريني ملك فاس فلم ينجدهم، فلجوا إلى الله وحاربوهم وهم نحو ألف وخمسمائة فارس وأربعة ألاف راجل، فقتلوا الفرنج بأجمعهم. وأقل ما قيل أنه قتل منهم خمسون ألفاً، وأكثر ما قيل ثمانون ألفاً، ولم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وغنم المسلمون ما لا يدخل تحت حصر، وسلخ الملك دون بتروا وحشي قطناً، وعلق على باب غرناطة، فطلب الفرنج الهدنة فعقدت، وبقي دون بتروا معلقاً عدة سنين.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير سيف الدين كراي المنصوري، في سادس عشر المحرم بسجن القلعة، وكان مقدماً قليل السياسة.
ومات الأمير شجاع الدين أغرلوا العادلي، أحد مماليك العادل كتبغا، بدمشق سلخ جمادى الأولى، وكان شجاعاً كريماً.
ومات الأمير علاء الدين طيبرس الخزنداري، نقيب الجيش وأحد أمراء الطبلخاناه، في عشري ربيع الآخر، ودفن بمدرسته المجاورة للجامع الأزهر، وكان قد أقام في نقابة الجيش نحو أربع وعشرين سنة، لم يقبل فيها لأحد هدية، وكان ديناً صاحب مال كبير، وهو أول من عمر في أرض مصر بستان الخشاب والجامع والخانكاه على النيل، وبنى المدرسة المجاورة للجامع الأزهر، وعمل لذلك أوقافاً كثيرة، ولما كملت وجاءه مباشروه بحساب مصروفها لم ينظر فيه وغسله بالماء، وقال: " شيء خرحنا عنه الله لا نحاسسب عليه " .
ومات الأمير ملكتمر السليماني الجمدار، فجأة.
ومات الشيخ أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ومولده في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان معتقداً عارفاً بالقراءات، محدثاً فقيهاً حنفياً، وأقام عدة سنين لا يأكل اللحم، وحصل له حظ وافر في الدولة المظفرية بيبرس.
ومات القاضي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله الأنصاري الشافعي عرف بإبن بنت أبي سعد، في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ومولده في حادي عشري رجب سنة تسع وعشرين وستمائة بداريا ظاهر دمشق، واستقر عوضه في تدريس الجامع الطولوني عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.

ومات الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن المجاهد أسد الدين شيركوه ابن القاهر محمد ابن المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، بالقاهرة في ثاني ذي القعدة، وقد حضر من دمشق في طلب إمرة، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق، فمات قبل عوده إليها. ومولده بدمشق في سنة خمس وخمسين وستمائة. ومات بدمشق شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين محمد ابن الملك الأمجد مجد الدين حسن ابن الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب، في رجب يوم الإثنين لست بقين منه.
ومات الصدر بدر الدين محمد بن ناصر الدين منصور بن الجوهري الحلبي، بدمشق في سادس عشر جمادى الآخرة، ومولده بحلب في ثالث عشر صفر سنة اثنين وخمسين وستمائه، وكان من رؤساء الدولة العادلية كتبغا، وعرضت عليه وزارة دمشق فأبى.
سنة عشرين وسبعمائةفيها عاد السلطان من الحجاز بعدما من بخليص، وقد جرى الماء إليها. وكان قد ذكر له وهو بمكة أن العادة كانت جارية بحمل مال إلى خليص، ليجري الماء من عين بها إلى بركة يردها الحاج، وقد انقطع ذلك منذ سنين، وصار الحاج يجد شدة من قلة الماء بخليص، فرسم بمبلغ خمسة ألاف درهم لإجراء الماء من العين إلى البركة، وجعلها مقررة في كل سنة لصاحب خليص. فأجرى صاحب خليص الماء قبل وصول السلطان إليها، واستمر حمل المال إليه في كل سنة، ووجد الماء في البركة دائماً.
ولقى السلطان في هذه السفرة جميع العربان: من بني مهدي وأمرائها، وشطى وأخيه عساف وأولاده، وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم، وأشراف المدينة والينبع وخليص، وبني لام وعربان حوران، وأولاد مهنا موسى وسليمان وفياض، وأحمد وجبار، بعربهم، و لم يتفق اجتماع هؤلاء لملك قبله. وأكثروا من الدالة على السلطان، وجروا على عوائدهم العربية من غير مراعاة الآداب الملوكية وهو يحتملهم، بحيث أن موسى بن مهنا كان ولد صغير، فقام في بعض الأيام ومد يده إلى لحية السلطان وقال له: يا أبا علي بحياة هذي ومسك منها شعرات إلا ما أعطتني الضيعة الفلانية إنعاماً علي. فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال له: شل يدك قطع يدك والك تمد يدك إلى السلطان، فتبسم له السلطان وقال: " يا قاضي هذه عادة العرب، إذا قصدوا كبيراً في شيء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته، يريدون أنهم قد استجاروا بذلك الشيء، فهو سنة عندهم. فغضب الفخر، وقام وهو يقول: " وا لله إن هؤلاء مناحيس، وسنتهم أنحس.
وفيها قدم الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب مبشراً إلى القاهرة، ومعه الأمير قطلوبغا المغربي. وقدم الأمير بدر الدين بدرجك إلى دمشق مبشراً.
وقدم السلطان في يوم السبت ثاني عشر المحرم، فخرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحاج، وركب بعد انقضاء أمر السماط في موكب جليل، وقد خرج سائر الناس لرؤيته، وسار إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة.
وفي يوم الخميس خامس عشره: جلس السلطان، وخلع على سائر الأمراء والقضاة وأرباب الدولة، وعلى الأمير شطي بن عبية وحسن بن دريني، وألبس كريم الدين الكبير أطلسين، ولم يتفق ذلك لمتعمم قبله.
وفيه بعث السلطان بالجمال والزاد لتلقي المنقطعين من الحاج، فتواصل قدوم الحاج إلى أن وصل المحمل يوم الأحد سابع عشريه، وصحبته قاضي القضاة بدر الدين وغيره، فاتفق فيه مطر عظيم قل ما عهد مثله بمصر. وكانت الأسعار قد تزايدت، فانحطت منذ قدم السلطان.
وفيه خلع على الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وركب بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية بين القصرين، وحمل وراءه الأمير قجليس السلاح، والأمير ألجاي الدواة، ورتب معه الأمير بيبرس الأحمدي أمير جندار وأمير طبر، وسار بالغاشية والعصائب وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن صعد القلعة، فكانت عدة التشاريف مائة وثلاثين تشريفاً: فيها ثلاثة عشر أطلس، والبقية كنجي وعمل الدار وطرد وحش. وجلس صاحب حماة رأس الميمنة، ولقبه السلطان بالملك المؤيد، وسافر من يومه بعدما جهزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه.

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر البروانى، والأمير علاء الدين أيتغلي الشيخى، وصارم الدين العينتابي، وعز الدين أيدمر الشيخي، وعلاء الدين مغلطاي السيواسي، والحاج بدر الدين بيليك، وشمس الدين سنقر الكمالي الصغير، والشيخ علي التبريزي ، وسيف الدين منكجار، وسيف الدين طوغان، نائب البيرة ، وناصر الدين منكلي، وطاشار، وموسى وغازي أخوي حمدان بن صلغاي، وعن الشريف رميثة بن أبي نمى.
وفيه هرب من سجن الإسكندربة الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي النقيب، ويقال له زيرامو، وبهادر التقوى الزراق، فأدركهما الطلب، وأخذا وحملا إلى القلعة بعد ما خرج الأمير أيتمش المحمدي والأمير أصلم للقبض عليهما فلما أحضرا كتب بعود الأميرين أيتمش المحمدي وأصلم، فرجعا ثالث يوم سفرهما، وأنزل بالأميرين الهاربين ليوسطا تحت القلعة، فشفع فيهما الأمراء، فأعفى السلطان عنهما من القتل، وكحلهما بالحديد المحمي مرتين حتى فقدا البصر.
وفيه رسم بالإفراج عمن في سجن الإسكندرية، فقدموا القاهرة وأنعم عليهم بالإقطاعات، من أجل أنهم لم يوافقوا على الهروب.
وفيه كتب بإعفاء الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من نظر طرابلس، وأن يقيم بالقدس، ورتب له في كل شهر ألف درهم، وبعث إليه كريم الدين الكبير هدية حسنة. وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الأول: سار الأمير بيبرس الحاجب بطائفة من الأجناد إلى مكة، ليقيم بها بدل الأمير آقسنقر شاد العمائر الذي استخلفه السلطان.بمكة، ومعه عدة أجناد تخوفاً من هجوم الشريف حميضة على مكة.
وفيه كتب بخروج عساكر الشام إلى غزو بلاد متملك سيس، لمنعه الحمل.
وفيه أبطل مكس الملح بديار مصر، فأبيع الأردب الملح بثلاثة دراهم بعدما كان بعشرة، فإنه كتب إلى الأعمال ألا يمنع أحد من شيل الملح من الملاحات، وأبيحت لكل أحد، فبادر الناس إليها وجلبوا الملح.
وفيه وصلت الستر الرفيع الخاتوني طلنباي ويقال دلنبية، ويقال طولونية بنت طغاي بن هندو بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان. وسبب ذلك أن السلطان كان قد بعث إلى أزبك يخطب بعض الجهات الجنكزية، فاشتط به أزبك في طلب المهر وطول المدة وكثرة الشروط، فأعرض السلطان عن الخطبة وسير إليه الهدية كما تقدم. وكان أزبك قد عين المذكورة، فاستدعى التجار واقترض منهم ثلاثين ألف دينار. بمعاملتهم، صرف كل دينار ستة دراهم، وجهزها مع بعض أمرائه في مائة وخمسين رجلاً وستين جارية وقاضي سراي، ومعهم هدية سنية، فقدموا في البحر إلى الإسكندرية في عشري ربيع الأول. وخرج الأمير أقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء ومعه الحراريق إلى لقائها، وخرج كريم الدين الكبير ومعه عربان وبخاتي وبغال، وضرب الخيام الحرير الأطلس بالميدان. فحملت الخاتون في الحراريق إلى ساحل مصر، وركبت في العربة إلى الميدان، والحجاب تمضي قدام العربة، فأقامت بالخيام ثلاثة أيام. ثم حملت إلى القلعة ليلة السبت سلخه في عربة تجرها العجل، وهي كالقبة مغطاة بالديباج، وفي خدمتها الأمير أرغون النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين الكبير.

وفي يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر: جلس السلطان للرسل، وحضر كبيرهم باينجار، وكان مقعداً لا يقدر على القيام ولا المشي وإنما يحمل، ودخل معه إيتغلي وطقبغا، ومنغوش، وطرجي، وعثمان خجا، والشيخ برهان الدين إمام القان، ورسل الأشكري. فأجلس باينجار، وأخذ منه كتاب أزبك، فبلغ السلام وقال: أخوك أزبك، أنت سيرت طلبت من عظم القان بنتاً، فلما لم يسيرها لم يطب خاطرك، وقد سيرنا لك من بيت كبير، فإن أعجبتك خذها بحيث لا تخلي عندك أكبر منها، وإن لم تعجبك فاعمل بقول الله تعالى: " إن ا لله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " . فقال السلطان: " نحن ما نريد الحسن، وإنما نريد كبر البيت والقرب من أخي، ونكون نحن وإياه شيئاً واحداً " . وبلغه أيضاً برهان الدين مشافهة من قبل أزبك. فتولى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة العقد على ثلاثين ألف دينار، الحال منها عشرون ألفاً، والمؤجل عشرة ألاف، وقبله السلطان بنفسه. وكتب علاء الدين على بن الأثير كاتب السر العقد بخطه، وصورته بعد البسملة: " هذا ما أصدق مولانا السلطان الأجل الملك الناصر على الخاتون الجليلة بنت أخي السلطان أزبك خان طولو ابنة طغاي بن بكر بن دوشي خان بن جنكزخان " . وخلع السلطان يومئذ خمسمائة خلعة، وكان يوماً مشهوداً. وبني عليها من ليلتها، فلم تلق بخاطره. وأصبح السلطان فتقدم إلى كريم الدين أكرم الصغير بالتوجه إلى الصعيد وتعبية الإقامات إلى قوص، وجهز الرسل بالهدايا والإنعامات وسفرهم، وركب للصيد.
وفيها توقف حال الناس بسبب الفلوس وما كثر فيها من الزغل، وكانت المعاملة بها عدداً عن كل درهم فضة عدة ثمانية وأربعين فلساً من ضرب السلطان، فعملها الزغلية، وخفوا وزنها حتى صار الفلس زنته سدس درهم. وكانت معاملة دمشق بالفلوس التي يقال لها القراطيس، والقرطاس ستة فلوس، ويعد في الدرهم الفضة أربعة وعشرون قرطاساً، فأبطل السلطان القراطيس من دمشق، وضرب بها كل فلس زنته درهم، والدرهم بثمانية وأربعين فلساً مثل معاملة مصر، فنقلت هذه الفلوس الخفاف القراطيس إلى مصر، وخلطت بفلوس المعاملة حتى كثرت، وقلت الجياد. فتعبت الناس فيها، وزادت الأسعار كلها، حتى غلقت الباعة الحوانيت عندما نودي أن يكون الفلوس بالميزان، على أن كل رطل منها بثلاثة دراهم فضة. فركب وإلى القاهرة، وضرب كثيراً من أرباب المعايش بالمقارع، وشهرهم و لم يرجعوا، فنودي أن الفلس الذي عليه بقجة من ضرب دار الضرب يؤخذ، والفلس الخفيف يرد، فلم يفد ذلك شيئاً. وعمل الزغلية فلوساً خفافاً عليها بقجة، فنودي أن يؤخذ الجميع بحساب درهمين ونصف الرطل، فمضي الحال قليلاً، واستمر عنت العامة، وكثر تعطيلهم الحوانيت وغلقها.
وكان السلطان غائباً، فلما نزل بالجيزة وخرج كريم الدين إلى لقائه صاحت به العامة وفاجأوه. مما لا يليق، وتكاثروا عليه من كل جهة، وشكوا ما بهم من أمر الفلوس ورد الباعة لها وقلة الخبز وغيره، فوعدهم بخير، وعرف كريم الدين السلطان ذلك. فاستدعى السلطان الأمراء، وأنكر عليهم رد مباشريهم الفلوس وعدم بيعهم القمح من الشون للطحانين والموانة، وقرر ضرب فلوس جدد زنة الفلس منها درهم، وعلى أحد وجهيه لا إله الا الله محمد رسول الله، وعلى الآخر اسم السلطان، فضرب منها نحو ثمانين ألف رطل. واستقر الفلوس العتق كل رطل بثلاثة دراهم إلى أن تخرج الفلوس الجدد من دار الضرب. فاستمر ذلك، ومشت الأحوال، إلا أنه صار فيها غبن زائد، وذلك أن الرطل من العتق يبلغ سبعة دراهم بالعدد.
وفيها قدمت رسل متملك اليمن بالهدية، وأحضروا بالقلعة يوم الإثنين ثالث عشر جمادى الآخرة.
وفي ليلته: خسف القمر.
وفيها بعث السلطان ثلاثين فداويا من أهل قلعة مصياب للفتك بالأمير قراسنقر، فعندما وصلوا إلى تبريز نم بعضهم لقراسنقر عليهم، فتتبعهم وقبض على جماعة منهم، وقتلهم. وانفرد به بعضهم وقد ركب من الأردو، فقفز عليه فلم يتمكن منه، وقتل.
واشتهر في الأردو خبر الفداوية، وأنهم حضروا لقتل السلطان أبي سعيد وجوبان والوزير على شاه وقراسنقر وأمراء المغل، فاحترسوا على أنفسهم، وقبضوا عدة فداوية.

فتحيل بعضهم وعمل حمالاً، وتبع قراسنقر ليقفز عليه فلم يلحقه، ووقع على كفل الفرس فقتل، فاحتجب أبو سعيد بالخركاه أحد عشر يوماً خوفاً على نفسه. وطلب المجد إسماعيل، وأنكر عليه جوبان وأخرق به، وقال له: " والك أنت كل قليل تحضر إلينا هدية، وتريد منا أن نكون متفقين مع صاحب مصر، لتمكر بنا حتى تقتلنا الفداوية والإسماعيلية " ، وهدده أنه يقتله شر قتلة، ورسم عليه، فقام معه الوزير على شاه حتى أفرج عنه.
ثم قدم الخبر من بغداد بأن بعض الإسماعيلية قفز على النائب بها ومعه سكين فلم يتمكن منه، ووقعت الضربة في أحد أمراء المغل، وأن الإسماعيلي فر، فلما أدركه الطلب قتل نفسه. فتنكر جوبان لذلك، وجهز المجد السلامي إلى مصر ليكشف الخبر، وبعثوا في أثره رسولاً بهدية.
وفيها عادت العساكر من غارة سيس إلى أبيات مهنا، وطردوه من مكانه، وفرقوا جمعه في نواحي العراق.
وفيها كثرت كتابة الأوراق للسلطان في أمرائه وأهل دولته، وإلقائها من غير أن يعلم من أين هي، أو ربطها بجناح طائر حمام وحذفه خارج حائط الميدان تحت القلعة إلى داخله، فتأذى بذلك جماعة كثيرة. فاتفق إن السلطان ركب إلى مطعم الطيور بالمسطبة التي أنشأها قريباً من بركة الحبش، فوجد ورقة مختومة فقرأها و لم يعلم أحداً فيها، وعاد إلى القلعة وقد اشتد حنقه، ووقف عند دار النيابة وأمر بهدم المساطب والرفرف وغلق الشباك. ثم بعث السلطان أمير جاندار الأمير سيف الدين البوبكري أن يتحول من داره بالقلعة ويسكن بالقاهرة، فنزل من يومه وسكن بدار كراي المنصوري، وهدمت الدار التي كان البوبكري يسكنها، وعمرت قاعات وطباق للخاصكية. وامتنع السلطان من ركوبه إلى المطعم المذكور، وصار يركب إلى ميدان القبق. وكانت الورقة تتضمن سب السلطان وسوء تصرفه، وتسليطه الكتاب النصارى على المسلمين، وصلحه مع المغل.
واتفق أن بعض العامة أخبر عن شخص غريب، فأفضى الأمر إلى حملهما إلى الخازن وإلى القاهرة، فقال العامي: هذا الغريب قاصد ومعه فداوية " ، فقرره الوالي فاعترف أن معه أربعة من جهة قراسنقر بعثهم لقتل السلطان، فقبض منهم على رجلين، وفر الآخران. وحمل الوالي إلى السلطان، فأقرا بأنهما من جهة قراسنقر، فأمر بهما فقتلا. وأخذ السلطان يحترس على نفسه، ومنع عند ركوبه إلى الميدان المتفرجين من الجلوس في الطرقات، وألزم الناس بغلق طاقات البيوت.
وفيها قبض على الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وسجن بالإسكندرية، ووقعت الحوطة على موجوده يوم الجمعة ثامن عشري رمضان. وكان ذلك لقلة اكتراثه بالأمير نائب الشام، وموافقة بعض مماليكه على ما قيل فيه أنه يريد التوجه إلى اليمن.
وفيها قدم الخبر من الأمير بيبرس الحاجب بقتل الشريف حميضة بن أبي نمى، ثم قدم الأمير بيبرس الحجاز ومعه المماليك الذين اتفقوا على قتل الشريف حميضة، فقتل السلطان قاتله.

وفيها قدم المجد السلامي على البريد من عند الملك أبي سعيد بن خربندا في طلب الصلح، فخرج القاضي كريم الدين الكبير إلى لقائه، وصعد به إلى القلعة، فأخبر المجد السلامي برغبة جوبان وأعيان دولة أبي سعيد في الصلح، وأن الهدية تصل مع الرسل، فكتب إلى نائبي حلب ودمشق بتلقي الرسل وإكرامهم. فقدم البريد بأن سليمان بن مهنا عارض الرسل، وأخذ جميع ما معهم من الهدية، وقد خرج عن الطاعة لإخراج أبيه مهنا من البلاد وإقامة غيره في إمرة العرب. ثم قدمت الرسل بعد ذلك بالكتب، وفيها طلب الصلح بشروط: منها ألا تدخل الفداوية إليهم، وأن من حضر من مصر إليهم لا يطلب، ومن حضر منهم إلى مصر لا يعود إليهم إلا برضاه، وألا يبعث إليهم بغارة من عرب ولا تركمان، وأن تكون الطريق بين المملكتين مفسوحة تسير تجار كل مملكة إلى الأخرى، وأن يسير الركب من العراق إلى الحجاز في كل عام. بمحمل ومعه سنجق فيه اسم صاحب مصر مع سنجق أبي سعيد ليتجمل بالسنجق السلطاني، وألا يطلب الأمير قراسنقر. فجمع السلطان الأمراء، واستشارهم في ذلك، بعد ما قرأ عليهم الكتاب، فاتفق الرأي على إمضاء الصلح بهذه الشروط، وجهزت الهدايا لأبي سعيد: وفيها خلعة أطلس باولي زركش، وقباء تتري وقرقلات وغير ذلك، مما بلغت قيمته أربعين ألف دينار. وأعيد الرسل بالجواب، وفيه آلا يمكن عرب آل عيسى من الدخول إلى العراق، فإن العسكر واصل لقتالهم، وسافر السلامي على البريد يبشر بعود الرسل بالهدية.
وفيها أنشأ السلطان ميدان المهار بجوار قناطر السباع فيما بين القاهرة ومصر، ونقل إليه الطين، وزرع فيه النخل، ولعب فيه بالكرة مع الأمراء، ورتب فيه الحجورة للنتاج، فاستمر ذلك، وصار يتردد إليه، ثم أنشا السلطان بجوار جامع الأمير علاء الدين طيبرس زريبة على النيل، ليبرز بمناظر الميدان الكبير إلى قرب شاطئ النيل، وكان قد أخر عمل ذلك بسبب قرب سفره إلى الصعيد.
وفيها مرض كريم الدين الكبير نحو أسبوعين، فكان يحضر عليه في كل يوم جمدار فيخلع عليه بكرة النهار، ويعود فيأتيه أخر العصر فيخلع عليه، وكلما أتاه مملوك من جهة أحد الأمراء للسلام عليه خلع عليه، فلما عوفي وركب زينت القاهرة، وأوقدت فيها الشموع، وجلست المغاني، واجتمع الناس لرؤيته، فكان يوماً مشوداً. ولما قدم إلى المدرسة المنصورية بين القصرين بمال، فتصدق فمات في الإزدحام ستة أنفس، وصعد كريم الدين إلى القلعة، ثم ركب من الغد إلى مدينة مصر، فزينت لركوبه أيضاً، وزينت الحراريق ولعبت في النيل، فخلع على رؤساء الحراريق، وفرق في رجالها مالاً، وعمل لهم مائة خروف شواء، وكان عدة الشموع التي اشتعلت له في مصر ألفاً وستمائة شمعة، ونثر الناس على رأسه الذهب والدراهم، وعمل له الفخر ناظر الجيش ضيافة عظيمة، فكانت تلك الأيام من الأيام المشهودة.
وفيها قدم الخبر بأن أبا سعيد أراق الخمور في سائر مملكته، وأبطل منها بيوت الفواحش، وأبعد أرباب الملاهي، وأغلق الخانات، وأبطل المكوس التي تجبي من التجارة الواردة إليهم من البلاد، وهدم كنائس بالقرب من توريز، ورفع شهادة الإسلام، ونشر العدل، وعمر المساجد والجوامع، وقتل من وجد عنده الخمر بعد إراقته، فكتب السلطان سائر نواب الشام بإبطال ضمان الخمارات وإراقة الخمور، وغلق الحانات واستتابة أهل الفواحش، فعمل ذلك في سائر مدن البلاد الشامية وضياعها وجبالها، واجتهد النواب في إزالة المناكير حتى طهر الله منها ومن أهلها البلاد.
وفيها قدم مملوك المجد السلامي ورسول أبي سعيد وجوبان، وأخبروا بوصول الهدية السلطانية، وسألوا تجهيز السنجق السلطاني ليسير مع الركب إلى الحجاز، فسير سنجق حرير أصفر بطلعة ذهب، وكتب لصاحب مكة بإكرام حاج العراق.
وفيها قدم البريد من حلب بأن أبا سعيد قد نادى في مملكته بالحج، فتجهز عالم عظيم، وأن فياضاً وسليمان ابني مهنا قد كثر فسادهما وقطعهما الطريق على التجار، ويخاف على الراكب العراقي من عرب مهنا. فاقتضى رأي السلطان أن استدعي سيف ابن فضل أخي مهنا من البلاد، وقرر معه أن أباه فضلاً يمنع مهنا وأولاده من التعرض لركب العراق، فقام في ذلك فضل، وخدع أخاه مهنا حتى كف عنهم، ولم يتعرض لأحد منهم، وبعث مهنا بإبنه موسى إلى السلطان بأنه لم يتعرض للركب، فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى من معه.

وفيها أخرج الأمير بدر الدين محمد بن التركماني في الشام على إمرة لتغير كريم الدين الكبير منه.
وفي ثاني عشري رجب: عقد بدار السعادة بدمشق مجلس لإبن تيمية، ومنع من الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم اعتقل بالقلعة إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين، فأفرج عنه.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي اسحاق قاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي إسحاق السروجي الحنفي، في يوم الخميس، ثاني عشري رجب، بعد عزله في رابع ربيع الآخر بشمس الدين محمد بن عثمان الحريري، ومولده سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان من أئمة الحنفية، ولم يسمع عنه ما يشينه، ولا راعي صاحب جاه قط، مع السماح والجود.
ومات الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن عرام بن إبراهيم بن ياسين بن أبي القاسم بن محمد بن إسماعيل الشيخ بهاء الدين أبي العباس بن أبي الفضال بن أبي المجد ابن أبي إسحاق الربعي الشافعى، سبط أبي الحسن على الشاذلي، في ليلة سابع شوال، ومولده سنة أربع وستين وستمائة. سمع الحديث وقرأ النحو وتصوف، وتصدر بالإسكندرية لإقراء العربية، وولي نظر الأحباس بها، وصنف في الفقه وغيره.
ومات الصاحب قوام الدين الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم بن أبي سعيد المعروف بابن الطراح، في أول المحرم ببغداد، ومولده في ربيع الأول سنة خمسين وستمائة، وهو من بيت علم ورياسة، وكان يعرف النحو واللغة والحساب والنجوم والأدب.
ومات الصدر فخر الدين أبو الهدى أحمد بن اسماعيل بن علي بن الحباب الكاتب، يوم الخميس تاسع رمضان، عن سبع وتسعين سنة.
وقتل إسماعيل بن سعيد الكردي على الزندقة، يوم الإثنين سادس عشري صفر، وكان عارفاً بالقراءات والفقه والنحو والتصريف، ويحفظ كثيراً من التوراة والإنجيل، ويحل في الفقه، ويحفظ العمدة في الحديث، غير أنه حفظت عنه عظائم في حق الأنبياء، وكان يتجاهر بالمعاصي، فاجتمع القضاة وضربوا عنقه بين القصرين.
ومات الحسن بن عمر بن عيسي بن الخليل الكردي الدمشقى، بناحية الجيزة تجاه مصر في ثالث ربيع الآخر، وقد أناف على التسعين، قرأ على السخاوى، وسمع الحديث.
ومات كمال الدين عبد الرحيم بن عبد المحسن بن ضرغام الكناني الحنبلي، خطيب جامع المنشاة فيما بين القاهرة ومصر، في ربيع الآخر عن ثلاث وتسعين سنة.
ومات كمال الدين أبو الحفص عمر بن عز الدين أبي البركات عبد العزيز بن محيي الدين أبي عبد الله بن محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن جمال الدين هبة الله أبي الفضل بن مجد الدين أبي غانم محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة الحنفية بحلب، وكان مشكوراً.
ومات زين الدين أبو القاسم محمد بن العلم محمد بن الحسين بن عتيق بن رشيق الإسكندري الفقيه المعمر المالكي بمصر في ليلة الجمعة حادي عشر المحرم، عن اثنتين وتسعين سنة، ولي قضاء الإسكندرية مدة اثنتي عشرة سنة، وعرض عليه قضاء دمشق فامتنع، وله نظم.
ومات شرف الدين يعقوب بن أحمد بن الصابوني الحلبي، بالقاهرة في يوم الخميس تاسع عشري رجب، كان محدثاً عدلاً، ودرس بالمنكوتمرية من القاهرة، وتميز في كتابة السجلات.
ومات القاضي زين الدين أبو بكر بن نصر بن حسين بن حسن بن حسين الأسعردي، محتسب القاهرة ووكيل بيت المال، في يوم الإثنين سادس عشري رمضان، واستقر في الوكالة بعده قطب الدين محمد بن علي بن عبد الصمد السنباطي، وفي حسبة القاهرة ابن عمه نجم الدين محمد بن الحسين.
ومات علي بن عبد الصمد الأسعردي، في سابع شوال.
ومات الشيخ نجم الدين أبو الحسن على بن الأسيوطي المقرئ الواعظ، في يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة.
وقتل أقبجا مملوك ركن الدين بيبرس التاحي بدمشق، لدعواه النبوة، في خامس عشري ربيع الأول.
ومات بهاء الدين السنجاري محتسب مصر، يوم الثلاثاء حادي عشري ذي القعدة، فولي بعد نجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم القمولي خليفة الحكم، في ثامن ذي الحجة.
ومات صاحب غرناطة من بلاد الأندلس الغالب بالله أبو الوليد اسماعيل بن فرج بن إسماعبل بن يوسف بن نصر، في ذي القعدة، وأقيم بعده ابنه أبو عبد الله محمد، فكانت مدته ثلاث عشرة سنة.
سنة إحدى وعشرين وسبعمائة

في يوم الإثنين ثالث المحرم: قدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز، وكان قد سافر إلى مكة في مدة اثنى عشر يوماً، وغاب حتى قدم نحو شهر، وتصدق في الحرمين بإثني عشر ألف دينار.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم الأمير أرغون النائب من الحجاز، وكان قد سافر أول ذي القعدة، ومشى من مكة إلى عرفات على قدميه بهيئة الفقراء. ثم قدم الأمير بهاء الدين أصلم أمير الركب بالحاج، و لم ير فيما تقدم مثل كثرة الحاج في موسم الحالية. وكانت الوقفة يوم الجمعة. وكان حاج مصر سبعة ركوب: ركب في شهر رجب، وأربعة في شوال أولها رحل في يوم الإثنين سادس عشره، ورحل أخرها يوم الجمعة تاسع عشره. وسار الأمير أرغون النائب أول ذي القعدة في جماعة، ثم توجه الفخر في جماعة، وركب البحر خلائق، واجتمع بعرفة ما يزيد على ثلاثين ركباً. ووقف محمل العراق خلف محمل مصر، ومن خلفه محمل اليمن.
واعتنى أبو سعيد بأمر حاج العراق عناية تامة، وغشى المحمل بالحرير ورصعه باللؤلؤ والياقوت وأنواع الجواهر، وجعل له جتراً ينصب عليه إذا وضع. فلما مر ركب العراق بعرب البحرين خرج عليهم ألف فارس يريدون أخذهم، فتوسط الناس بينهم على أن يأخذوا من أمير الركب ثلاثة ألاف دينار، فلما قيل لهم إنما جئنا من العراق بأمر الملك الناصر صاحب مصر وكتابه إلينا بالمسير إلى الحجاز أعادوا المال، وقالوا: " لأجل الملك الناصر نخفركم بغير شيء " ، ومكنوهم من المسير. فبلغ ذلك السلطان فسر به، وبالغ في الإنعام على العربان. وكان السلطان قد بعث إلى أمراء المغل وأعيانهم الخلع، فلما انقضى الحج خلع عليهم الأمير أرغون النائب، ودعا لأبي سعيد بعد الدعاء للسلطان بمكة.
وفيه قدم كتاب نائب الشام في الشفاعة في ابن تيمية، وكان قد سجن في السنة الماضية، فأفرج عنه بعدما سجن خمسة أشهر، وشرط عليه ألا يفتي بمسألة الطلاق.
وفيه استقر كريم الدين الكبير في نظر الجامع الطولوني، فنمت أوقافه.
وفيه قدم البريد من دمشق بهدم كنيسة لليهود بدمشق، على يد العامة.
وفيها أخرج الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر إلى دمشق. وسببه أنه لما أنشأ جامعه المعروف بجامع أمير حسين بجوار داره في بر الخليج الغربي، وعمل القنطرة، أراد أن يفتح في سور القاهرة خوخة تنتهي إلى حارة الوزيرية، فأذن له السلطان في فتحها، فخرق باباً كبيراً وعمل عليه رنكه، فسعى به علم الدين سنجر الخياط متولي القاهرة أنه فتح باباً قدر باب زويلة وعمل عليه رنكه، فشق عليه ذلك وأخرجه من يومه على إقطاع الأمير جوبان، ونقل جوبان إلى الإمرة بديار مصر.
وفيه قدم الأمير سيف الدين طقصباي من بلاد أزبك. وقدم من الأردو الأمير باورر ابن براجوا أحد أعيان المغل، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بمصر.
وفيه قدم أبو يحيى اللحياني من الغرب، ولم يمكن من البلاد، فرتب له بالإسكندرية ما يكفيه، وأقام بها. وفيه أخرج الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي حاجباً بالشام.
وفي يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: ثارت العامة يداً واحدة، وهدموا كنيستين متقابلتين بالزهري، وكنيسة بستان السكري وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصر وكان ذلك من غرائب الاتفاق ونوادر الحوادث: والخبر عنه أن السلطان لما عزم على إنشاء الزريبة بجوار جامع الطيبرسي على النيل احتاج إلى طين كثير، فنزل بنفسه وعين مكاناً من أرض بستان الزهري قريباً من ميدان المهارة ليأخذ منه الطين، ولينشئ في هذا المكان بركة وعوض مستحقي وقفه بدله، وكتب أوراقاً بأسماء الأمراء، وأفزر لكل منهم قياساً معلوماً، فتولى قياس ذلك عدة من المهندسين مع الأمير بيبرس الحاحب. وابتدأ الأمراء في الحفر يوم الثلاثاء تاسع عشري ربيع الأول، ورفعوا الطين على بغالهم ودوابهم إلى شاطئ النيل حيث عمل الزريبة. فلم يزل الحفر مستمراً إلى أن قرب من كنيسة الزهري، وأحاط بها الحفر من دايرها وصارت في الوسط، بحيث تمنع من اتساع البركة. فعرف الأمير أقسنقر شاد العمائر السلطان بذلك، فأمره أن يبالغ في الحفر حولها حتى تتعلق، وإذا دخل الليل فيدع الأمراء تهدمها، ويشيع أنها سقطت على غفلة منهم، فاعتمد الحفر فيما حولها، وكتم ما يريده، وصارت غلمان الأمراء تصرخ وتريد هد الكنيسة، وآقسنقر يمنعهم من ذلك.

فلما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: بطل العمل وقت الصلاة لاشتغال الأمراء بالصلاة، فاجتمع من الغلمان والعامة طائفة كبيرة، وصرخوا صوتاً واحداً ا لله أكبر، ووقعوا في أركان الكنيسة بالمساحي والفوس حتى صارت كوماً، ووقع من فيها من النصارى، وانتهب العامة ما كان بها. والتفتوا إلى كنيسة الحمراء المجاوره لها، وكانت من أعظم كنائس النصارى، وفيها مال كبير، وعدة من النصارى ما بين رجال ونساء مترهبات فصعدت العامة فوقها، وفتحوا أبوابها ونهبوا أموالها وخمورها. وانتقلوا إلى كنيسة بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت معبداً جليلاً من معابد النصارى، فكسروا بابها ونهبوا ما فيها، وقتلوا منها جماعة، وسبوا بنات كانوا بها تزيد عدتهن على ستين بكراً فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرض، فلما خرج الناس من الجامع رأوا غباراً ودخان الحريق قد ارتفعا إلى السماء، وما في العامة إلا من بيده بنت قد سباها أو جرة خمر أو ثوب أو شيء من النهب، فدهشوا وظنوا أنها الساعة قد قامت.
وانتشر الخبر من السبع سقايات إلى تحت القلعة، فأنكر السلطان ارتفاع الأصوات بالضجيج، وأمر الأمير أيدغمش بكشف لخبر. فلما بلغه ما وقع انزعج لذلك انزعاجاً زائداً، وتقدم إلى أيدغمش أمير أخور، فركب بالوشاقية ليقبض على العامة ويشهرهم. فما هو إلا أن ركب أيدغمش إذا بملوك الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة حضر وأخبر بأن العامة ثارت بالقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة، وأنه ركب خوفاً على القاهرة من النهب. وقدم مملوك والي مصر وأخبر بأن عامتها قد تجمعت لهدم كنيسة المعلقة حيث مسكن البترك وأموال النصارى، ويطلب نجدة. فلشدة ما نزل بالسلطان من الغضب هم أن يركب بنفسه، ثم أردف أيدغمش بأربعة أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجب، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينال إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وجدوه. فقامت القاهرة ومصر على ساق، وفرت النهابة، فلم تدرك الأمراء منهم إلا من غلب على نفسه بالسكر من الخمر. وأدرك الأمير أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامة من زقاق المعلقة، وأنكوا مماليكه بالرمي عليهم، ولم يبق إلا أن يحرقوا أبواب الكنيسة، فجرد هو ومن معه السيوف ليفتك بهم، فرأى عالماً عظيماً لا يحصيهم إلا خالقهم، فكف عنهم خوف اتساع الخرق، ونادى من وقف فدمه حلال، فخافت العامة أيضاً وتفرقوا. ووقف أيدغمش يحرس المعلقة إلى أن أذن العصر، فصلي بجامع عمرو، وعين خمسين أوشاقيا للمبيت مع الوالي على باب الكنيسة، وعاد.
وكان كأنما نودي في إقليم مصر بهدم الكنائس، وأول ما وقع الصوت بجامع قلعة الجبل: وذلك أنه لما انقضت صلاة الجمعة صرخ رجل موله في وسط الجامع: " اهدموا الكنيسة التي في القلعة " ، وخرج في صراخه عن الحد واضطرب. فتعجب السلطان والأمراء منه، وندب نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسة في خرائب التتر قد أخفيت، فهدموها. وما هو إلا أن فرغوا من هدمها والسلطان يتعجب إذ وقع الصراخ تحت القلعة، وبلغه هدم العامة للكنائس كما تقدم، وطلب الرجل الموله فلم يوجد.
وعندما خرج الناس من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامة في هرج عظيم، ومعهم الأخشاب والصلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: " السلطان نادى بخراب الكنائس " ، فظنوا الأمر كذلك. وكان قد خرب من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبين أن ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان.
فلما كان يوم الأحد حادي عشره: سقط الطائر من الإسكندرية بأنه لما كان الناس في صلاة الجمعة تجمع العامة وصاحوا هدمت الكنائس، فركب الأمير بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاة ليدرك الكنائس، فإذا بها قد صارت كوماً، وكانت عدتها أربع كنائس. ووقعت بطاقة من والي البحيرة بأن العامة هدمت كنيستين في مدينة دمنهور، والناس في صلاة الجمعة. ثم ورد مملوك والي قوص في يوم الجمعة سابع عشره، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامة ست كنائس بقوص في نحو نصف ساعة. وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاة الجمعة، فكثر التعجب من وقوع هذا الاتفاق في ساعة واحدة بسائر الأقاليم.

وصار السلطان يشتد غضبه من العامة، والأمراء تسكن غضبه وتقول. " يا مولانا هذا إنما هو من فعل الله. وإلا فمن يقدر من الناس على هدم كنائس الإسكندرية ودمياط والقاهرة ومصر وبلاد الصعيد في ساعة واحدة " ، وهو يشتد على العامة ويزيد البطش بهم، فهرب كثير منهم.
وكان الذي هدم في هذه الساعة من الكنائس ستون كنيسة: وهي كنيسة بقلعة الجبل، وكنيسة بأرض الزهري موضع البركة الناصرية، وكنيسة بالحمراء، وكنيسة بجوار السبع سقايات، وكنيسة أبي المنا بجوارها، وكنيسة الفهادين بحارة الحكر، وكنيسة بحارة الروم من القاهرة، وكنيسة البندقانيين منها، وكنيسة بحارة زويلة، وكنيسة بخزانة البنود، وكنيسة بالخندق خارج القاهرة، وأربع كنائس بالإسكندرية، وكنيستان بدمنهور الوحش، وأربع كنائس بالغربية، وثلاث كنائس بالشرقية، وست كنائس بالبهنساوية، وبسيوط ومنفلوط ومنية بن خصيب ثماني كنائس، وقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة، والإطفيحية كنيستان، وبمدينة مصر بخط المصاصة وسوق وردان وقصر الشمع ثماني كنائس، ومن الأديرة شيء كثير.
وكان عقيب هدم الكنائس وقوع الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتر إلى سلخه. وكان من خبره أن الميدان الكبير المطل على النيل لما فرغ العمل فيه ركب السلطان إليه في يوم السبت المذكور، وكان أول لعبه فيه بالأكرة، فبلغه الخبر بعد عوده إلى القلعة بأن الحريق وقع في ربع من أوقاف المارستان المنصوري، بخط الشوايين من القاهرة. واشتد الأمر، والأمراء تطفئه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوت قبل المغرب بالحريق في حارة الديلم بزقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير. ودخل الليل واشتد هبوب الرياح، فسرت النار في عدة أماكن. وبعث كريم الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يعرفه، فبعث عدة من الأمراء والمماليك لإطفائه خوفاً على الحواصل السلطانية ثم تفاقم الأمر، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائر السائقين والأمراء، ونزلت الحجاب وغيرهم، والنار تعظم طول نهار الأحد، وخرجت النساء مسبيات من دورهن. وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الإثنين والنار تتلف ما تمر به، والهد واقع في الدور التي تجاور الحريق خشية من تعلق النار فيها وسريانها في جميع دور القاهرة.
فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريق عن القدرة البشرية، وخرجت ريح عاصفة ألقت النخيل وغرقت المراكب، ونشرت النار، فما شك الناس في أن القيامة قد قامت. وعظم شرر النيران، وصارت تسقط في عدة مواضع بعيدة، فخرج الناس وتعلقوا بالمأذن، واجتمعوا في الجوامع والزوايا، وضجوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وصعد السلطان إلى أعلا القصر، فهاله ما شاهد.
وأصبح الناس يوم الثلاثاء في أسوأ حال، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميع من في القلعة وجميع أهل القاهرة، ونقل الماء على جمال الأمراء، ولحقه الأمير بكتمر الساقي وأخرجت جمال القرى السلطانية، ومنعت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونقلت المياه من المدارس والحمامات والآبار. وجمعت سائر البنائين والنجارين، فهدت الدور من أسفلها والنار تحرق في سقوفها. وعمل الأمراء الألوف وعدتهم أربعة وعشرون أميراً بأنفسهم في طفي الحريق، ومعهم سائر أمراء الطبلخاناه والعشراوات، وتناولوا الماء بالقرب من السقائين، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحراً، وحضر كريم الدين أكرم الصغير. بمائتي رجل. فكان يوماً لم ير أشنع منه، بحيث لم يبق أحد إلا وهو في شغل. ورؤى سائر الأمراء وهي تأخذ القرب من مماليكها، وتطفئ النار بأنفسها، وتدوس الوحل بأخفافها. ووقف الأمير بكتمر الساقي والأمير أرغون النائب حتى نقلت الحواصل السلطانية من بيت كريم الدين إلى بيت ولده علم الدين عبد الله بدرب الرصاصي، وهدم لأجل نقل الحواصل ستة عشر داراً. وخمدت النار وعاد الأمراء.

فوقع الصياح في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهر خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبت الرياح مع ذلك. فركب الحجاب والوالي وعملوا في طفيها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دوراً كثيرة مما حوله. فما كاد أن يفرغ العمل من إطفاء النار حتى وقعت النار في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلا البادهنج وكان ارتفاعه من الأرض زيادة على مائة ذراع بذراع العمل ورأوا فيه نفطاً قد عمل فيه فتيلة كبيرة، فمازالوا بالنار حتى أطفئت، من غير أن يكون لها أثر كبير. ونودي بأن يعمل بجانب كل حانوت بالقاهره ومصر زير ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقة، فبلغ ثمن كل دن من ثلاثة دراهم إلى خمسة، وكل زير إلى ثمانية دراهم لكثرة طلبها.
فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحال كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوع الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرة والأمير بيبرس الحاجب من النوم. فشاع بين الناس أن الحريق من جهة النصارى لما أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيران توجد تارة في منابر الجوامع وتارة في حيطان المدارس والمساجد. ووجدت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلق الناس وكثر خوفهم، وزاد استعدادهم بادخار الآلات المملوءة ماء في أسطحة الدور وغيرها. وأكثر ما كانت النار توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطحة والبادهنجانات، ويوجد النفط قد لف في الخرق، المبللة بالزيت والقطران.
فلما كانت ليلة الجمعة حادي عشريه: قبض على راهبين خرجا من المدرسة الكهارية بالقاهرة، وقد أرميا النار، وأحضرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشم منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغد إلى السلطان، فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا. فلما نزل الأمير علم الدين بهما وجد العامة قد قبضت على نصراني من داخل باب جامع الظاهر بالحسينية، ومعه كعكة خرق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانب المنبر، فلما فاح الدخان وأنكروه وجد النصراني وهو خارج والأثر في يديه، فعوقب قبل صاحبيه. فاعترف النصراني أن جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعملوا النفط، وفرقوه على جماعة ليدوروا به على المواضع. ثم عاقب الأمير علم الدين الراهبين، فأقرا أنهما من دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا سائر الأماكن التي تقدم ذكرها. وذلك أنه لما مر بالكنائس ما كان، حنق النصارى من ذلك وأقاموا النياحة عليها، واتفقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفط وحشوه بالفتائل وعملوها في سهام ورموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السهم تقع على مسافة مائة ذراع. فلما أنفقوا ذلك فرقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقوا الفتيلة، حتى كان ما كان. فطالع الأمير علم الدين السلطان بذلك.
واتفق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال كريم الدين: " النصارى بطرك يرجعون إليه، وهو الذي يعرف أحوالهم " . فامر السلطان كريم الدين بطلب البطرك إفي بيته واستعلام الخبر منه، فاتاه ليلا في حماية وافي القاهرة خوفا من العامة، مبالغ كريم الدين في إجلاله، وأعلمه. مما ذكر الرهبان وأحضرهم إليه، فذكروا له كما ذكروا للوالي، فبكا وقال: " هؤلاء سفهاء قد فعلوا كما فعلوا سفهاؤكم، والحكم للسلطان. ومن أكل الحامض ضرس، والحمار العثور يلقي الأرض بأسنانه " . وأقام البطرك ساعة، وقام فركب بغلة كان قد رسم له منذ أيام بركوبها، فشق ذلك على الناس، وهموا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك.
فلما ركب كريم الدين من الغد صاحت العامة به: " ما يحل لك يا قاضي تحامي للنصاري ، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتركبهم البغال، فانتكى كريم الدين منهم نكاية بالغة، وأخذ يهون من امر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمر البطرك، وأنه اعتنى به. فأمر السلطان الوالي بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهباً بدير البغل، فقبض عليهم من الدير. وعملت حفيرة كبيرة بشارع الصليبة، وأحرق فيها أربعه منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالم عظيم. فاشتدت العامه عند ذلك على النصارى ، وأهانوهم وسلبوهم ثيابهم، وألقوهم من الدواب إلى الأرض.

وركب السلطان إلى الميدان يوم السبت ثاني عشريه، وقد اجتمع عالم عظيم، وصاحوا: " نصر الله الإسلام، انصر دين محمد بن عبد الله " . فلما استقر السلطان بالميدان حتى أحضر له الخازن والي القاهرة نصرانيين قد قبض عليهما، فأحرقا خارج الميدان. وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريف، فصاحت به العامة: " كم تحامي للنصارى " ، وسبوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان. فشق ذلك على السلطان، واستشار الأمراء في أمر العامة، فأشار عليه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بعزل الكتاب النصاري، فإن الناس قد أبغضوهم، فلم يرضه ذلك. وتقدم السلطان إلى ألماس الحاجب أن يخرج في أربعة أمراء ويضع السيف في العامة حتى ينتهي إلى باب زويلة، ويمر إلى باب النصر وهو كذلك ولا يرفع السيف عن أحد، وأمر والي القاهرة أن يتوجه إلى باب اللوق والبحر، ويقبض من وجده، ويحملهم إلى القلعة، وعين لذلك مماليك تخرج من الميدان. فبادر كريم الدين وسأل السلطان العفو، فقبل شفاعته، ورسم بالقبض على العامة من غير قتلهم.
وكان الخبر قد طار، ففرت العامة حتى الغلمان، وصار الأمير لا يجد من يركبه. وانتشر ذلك، فغلقت جميع أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجدوا أحدا، وشقوا القاهرة إلى باب النصر، فكانت ساعة لم يمر بالناس أعظم منها. ومر الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيراً من الكلابزة والنواتية وأراذل العامة، بحيث صار كل من رأه أخذه. وجفل الناس من الخوف، وعدوا في المراكب إلى بر الجيزة.
فلما عاد السلطان إلى القلعة لم يجد أحداً في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يصلبوا، وأفرد جماعة للشنق وجماعة للتوسيط وجماعة لقطع الأيدي. فصاحوا: " يا خوند ما يحل لك! فما نحن الغرماء " ، وتباكوا فرق لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراء، ومازالوا بالسلطان حتى رسم بصلب جماعة منهم على الخشب من باب زويلة إلى سوق الخيل، وأن يعلقوا بأيديهم. فأصبحوا يوم الأحد صفاً واحداً من باب زويلة إلى سوق الخيل تحت القلعة، فتوجع لهم الناس، وكان منهم كثير من بياض الناس، ولم تفتح القاهرة.
وخاف كريم الدين على نفسه، ولم يسلك من باب زويلة، وصعد القلعة من خارج السور، فإذا السلطان قد قدم الكلابزة وأخذ في قطع أيديهم. فكشف كريم الدين رأسه وقبل الأرض، وباس رجل السلطان، وسأله العفو. فأجابه السلطان بمساعدة الأمير بكتمر، وأمر بهم فقيدوا وأخرجوا للعمل في الحفير بالجيزة. ومات ممن قطع يده رجلان، وامر بحط من علق على الخشب.
فللحال وقع الصوت بحريق أماكن بجوار جامع ابن طولون، وبوقوع الحريق في القلعة وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفندق طرنطاي خارج باب البحر، فدهش السلطان. وكان هذا الفندق برسم تجار الزيت الوارد من الشام، فعمت النار كل ما فيه حتى العمد الرخام، وكانت ستة عشر عموداً، طول كل منها ستة أذرع باعمل، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلها جيراً، وتلف فيه لتاجر واحد ما قيمته تسعون ألف درهم، وقبض فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائل النفط، اعترفوا أنهم فعلوا ذلك.
فلما كان يوم السبت تاسع عشريه: ركب السلطان إلى الميدان، فوجد نحو العشرين ألفاً من العامة قد صبغوا خرقاً بالأزرق والأصفر، وعملوا في الأزرق صلباناً بيضاء، ورفعوها على الجريد، وصاحوا عليه صيحة واحدة: " لا دين إلا دين الإسلام! نصر الله دين محمد بن عبد الله! يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام، إنصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى فخشح السلطان والأمراء، ومر إلى الميدان وقد اشتغل سره وركبت العامة أسوار الميدان، ورفعت الخرق وهي تصيح. " لا دين إلا دين الإسلام " . فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم، وتقدم إلى الحاجب بأن يخرج وينادي: " من وجد نصرانياً فدمه وماله حلال " . فلما سمعوا النداء صرخوا صوتاً واحداً: " نصرك الله يا ناصر دين الإسلام " ، فارتجت الأرض.

ونودي عقيب ذلك بالقاهرة ومصر: " من وجد من النصارى بعمامة بيضاء حل دمه. ومن وجد من النصارى راكباً باستواء حل دمه " . وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزرق، وألا يركبوا فرساً ولا بغلاً، وأن يركبوا الحمير عرضاً، ولا يدخلوا الحمام إلا بجرس في أعناقهم، ولا يتزيوا بزي المسلمين هم ونساؤهم وأولادهم. ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ومن دواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال، وغلقت الكنائس والأديرة، وطلب السني ابن ست بهجة، والشمس بن كثير فلم يوجدا.
وتجرأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعروهم ثيابهم، فلم يتجاسر نصراني أن يخرج من بيته. و لم يتحدث في أمر اليهود، فكان النصراني إذا طرأ له أمر يتزيا بزي اليهود، ويلبس عمامه صفراء يكتريها من يهودي ليخرج في حاجته. واتفق أن بعض كتاب النصارى حضر إلى يهودي له عليه مبلغ ألف درهم ليأخذ منه شيئاً، فأمسكه اليهودي وصاح: " أنا با للة وبالمسلمين، فخاف النصراني، وقال له: أبرأت ذمتك، وكتب له خطه بالبراءة وفر. واحتاج عدة من النصارى إلى إظهارهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخلع عليه، وأسلم كثير منهم، واعترف بعضهم على راهب بدير الخندق أنه كان ينفق المال في عمل النفط للحريق ومعه أربعة، فأخذوا وسمروا.
وانبسطت ألسنة الأمراء بسب كريم الدين أكرم الصغير، وحصلت مفاوضة بين الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بكتمر الساقي بسبب كريم الدين الكبير، فإن بكتمر كان يعتني به وبالدواوين، والفخري يضع منه ومنهم، وصار مع كل من الأميرين جماعة، وبلغ السلطان ذلك، وأن الأمراء تترقب وقوع الفتنة.
وصار السلطان إذا ركب إلى الميدان لا يري أحداً في طريقه من العامة لكثرة خوفهم من أن يبطش بهم، فلم يعجبه ذلك، ونودي بخروج الناس للفرجة على الميدان، فخرجوا على عادتهم. فلما كانت ليلة الأحد ثاني عشريه وقع الحريق بالقلعة، وعظم أمره حتى اشتد القلق إلى أن طفي.
وفي رابع عشريه: توجه كريم الدين الكبير إلى الإسكندرية، ونادى فيها بلبس النصارى العمائم الزرق، ومنعهم من المباشرة في الديوان. فوردت مراكب تحصل منها للديوان نحو الخمسين ألف دينار، فسر كريم الدين بذلك. وعاد كريم الدين إلى القاهرة، فشفع في إطلاق المقيدين الذين فبض عليهم فأطلقوا، وأعطى كل واحد منهم عشرة دراهم فضة وعشرة فلوساً وقميصاً، وفرق ألف قميص، ثم استدعى المسجونين على الديوان، وصالح غرماءهم عنهم، وخلى سبيلهم بحيث لم يبق أحد بسجن القضاة وأغلق.
وفيها ألقيت ورقة في جناح طائر وجد بالإسطبل تتضمن الإنكار على السلطان، وأنه فرط في ملكه ومماليكه، والعسكر قد تلف، وقد باع أولاد الناس الإقطاعات التي بأسمائهم، وصاروا يسألون الناس من الحاجة. فغضب السلطان من ذلك، وتقدم إلى نقيب الجيش بكتابة أسماء من باع خبزه، وكشف حال الأجناد ومعرفة من فيهم بغير فرس، وعرض مماليك السلطان، وأخرج منهم مائة إلى الكرك.
وفيه سافر كريم الدين الكبير إلى دمشق على البريد، فتلقاه النائب على العادة، وقدم الناس إليه تقادم جليلة، فلم يقبل منها لأحد منهم شيئاً، بل عمهم بالإنعامات والصدقات، وعاد إلى القاهرة.
وفيها جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، فضرب جماعة وحبس جماعة، وقطع أخباز أربعة عشر من أولاد الأمراء، ثم أفرج عن المحبوسين بعد شهرين، وبعثهم إلى الشام.
وفيه قدم عرب البحرين بأربعين فرساً، فقومت بخمسمائة ألف درهم فضة، وأنعم عليهم بعشرة ألاف دينار مصرية زيادة على ذلك، وخلع على الجميع.
وفيها خرج إلأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك بعسكر إلى أياس، وخرجت معه عساكر الشام وحلب بالآلات، فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق، وقاتلوا الأرمن حتى ملكوها، وغنموا منها مالاً كثيراً وقتلوا عدة كثيرة منهم، ومر من بقي في البحر، وذلك في حادي عشرى ربيع الآخر. وعادت العساكر فأغارت على بلاد تكفور، وأخذت مالاً كبيراً، وقدم الأمير جمال الدين أقوش إلى القاهرة. فبلغ الأمير ألطنبغا نائب حلب أن أهل إياس قد عادوا إليها، فأمسك إلى أن كانت أيام عيد لهم، وركب بعسكر حلب وطرقهم على غفلة، وقتل منهم نحو ألفي رجل وأسر ثلاثمائة، وغنم مالاً جزيلاً وعاد.

وفيه تنكرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير، لتأخر جوامكهم شهرين، ثم تجمعوا في يوم الخميس ثامن عشرى صفر قبل الظهر، ووقفوا بباب القصر. وكان السلطان وقتذاك عند الحريم، فلما بلغه ذلك خشى منهم، وبعث بخروج الأمير بكتمر الساقي إليهم، فلم يرضوه، فخرج إيهم السلطان وقد صاروا ألفاً وخمسمائة، فعندما رأهم سبهم وأهانهم، وأخذ العصا من المقدم وضرب بها رءوسهم وأكتافهم، وصاح فيهم: " اطلعوا مكانكم " ، فعادوا بأجمعهم إلى الطباق، فعدت سلامته من العجائب. ثم إنه أمر النائب بعرضهم، فعرضهم في يوم السبت أخر صفر، وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشامية، وأخرج بعد ذلك منهم جماعة من الطباق إلى خرائب تتر، وضرب واحداً منهم بالمقارع هو وغلامه، لكونه شرب الخمر، فمات بعد يومين من ضربه، وأخرج جماعة من الخدام وقطع جوامكهم، وأنزلهم من القلعة.
وفيه قدم رسول جوبان من الأردو يسأل أن يعطى ضيعة من ضياع مصر الخراب ليعمرها ويقفها على الحرم، فأعيد رسوله بأنه يسير إليه مكاتيب ضيعة بعد ذلك.
وفيه أنعم السلطان على جماعة من المماليك بإمريات: منهم علاء الدين أيدغدي التيليلي الشمسي أحد مماليك سنقر الأشقر، وكان قد أمر في أيام المنصور لاجين، وأنعم على كل من بيبرس الكريمي، وقطلوبغا طاز الناصري، وعبد الملك المنصوري والي القلعة، وأبو بكر ابن الأمير أرغون النائب، وملكتمر السرجواني، وطيبغا القاسمي، وطقبغا، وبيدمر، وطغاي تمر من الخاصكية، يإمرة. ونزلوا إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقد أشعلت لهم القاهرة، وجلس المغاني بالحوانيت في عدة أماكن، وعمل لهم كريم الدين سماطا جليلا وفواكه ومشارب بالمدرسة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه نزل السلطان لصيد الكراكي من بركة الحاج، وتقدم لكريم الدين الكبير أن يعمل بها احواشاً للخيل والجمال وميداناً، ويبني الأمير بكتمر الساقي مثل ذلك. فجمع كريم الدين من الرجال للعمل نحو ألفي رجل ومائة زوج من البقر حتى فرغ في أيام يسيرة، وجعل في الميدان عدة من الحجورة المستولدة، وركب السلطان لمشاهدة ذلك، واستمر يتعاهد الركوب إليها.
وفيه شكا طائفة من أجناد الحلقة من زايد القانون في البلاد، فرسم للفخر ناظر الجيش ألا يتحدث في ذلك. وزايد القانون شيء حدث في الأيام الناصرية: وذلك أن السلطان لما عمل الجسور، واتفق أمرها، وأنشا عليها القناطر، صار الماء إذا أروى بلاد البحيرة يجد ما يمنعه من الخروج إلى البحر فيتراجع، ثم حرق من موضع خرقاً كالمجراة، واتسع حتى صار خليجاً صغيراً يمر على أراض لم يكن من عادتها أن يعلوها الماء. فطالع الأمير ركن الدين القلنجقي كاشف البحيرة السلطان بأن عدة من الأراضي التي في بلاد المقطعين قد شملها الري، وسأل أن يقتطع ولده منها خبزاً بعشرة أرماح، فإنها زايدة عن قانون المقطعين. فندب السلطان الأمير أيتمش المحمدي والموفق مستوفي الدولة لكشف هذه الأراضي وقياسها، فتوجها إلى البحيرة وكشفا عنها، فبلغت خمسة وعشرين ألف فدان، فكتبت مشاريحها، و لم يذكر منها غير خمسة عشر ألف فدان فقط، فإنها كانت أراضي متفرقة في بلاد المقطعين. فكتب السلطان بها مثالات ما بين ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار، وفرقها على أرباب الجوامك من المماليك، فشق هذا على الأجناد، فإنها كانت من أراضي إقطاعاتهم.
وفي نصف جمادى الآخرة: ولد للسلطان من خوند طغاي ولداً أسماه آنوك.
وكانت طغاي هذه جارية تركية اشتراها تنكز نائب الشام من دمشق بتسعين ألف درهم، وبعثها إلى السلطان. فشق على سيدها ذلك لشغفه بها، وحضر إلى السلطان، فأنعم عليه بألفي دينار مصرية، وكتب له مسموحا بألفي دينار. وحظيت الخاتون طغاي عند السلطان، وكانت بارعة الجمال، فعمل السلطان عند ولادتها مهما عظيماً إلى الغاية، وأنعم لها بالسفر إلى الحجاز لتحج، فشرع كريم الدين في تجهيزها، وبعث الأمير تنكز أيضاً يستأذن في الحج، فأذن له.
وفيها قبض على الأمير صلاح الدين بن البيسري، وأرخي في الجب مقيداً، ثم أخرج بعد يومين إلى الإسكندرية. وسببه أنه كان يتورع عن الأكل من سماط السلطان، وكانت أخته تحت الحاج آل ملك، فشكا منه أنه قد أكل مالها، فقال السلطان: " متورع عن الأكل من السماط، ويأكل مال اليتيم " ، وأمر به فقيد.

وفيها قدم البريد من حلب بمسير جوبان بعساكر المغل لحرب الملك أزبك.
وفيها أنشأ السلطان على بركة الفيل داراً بجوار دار الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وأقام آقسنقر شاد العمائر على عملها، وأدخل فيها كثيراً من دور الناس وأراضي ملاكها، ورسم بنقل كريم الدين الكبير إليها.
وفيها قدمت تقادم نواب الشام برسم سفر الخاتون طغاي إلى الحجاز، وعمل الأمير أرغون النائب برسمها ثماني عربات كعاده بلاد الترك لتسافر فيها، وجرها إلى الإسطبل، فأعجب بها السلطان وخلع عليه. وعين للسفر مع الخاتون الأمير قجليسي والقاضي كريم الدين الكبير، وخرج النائب والحجاب في خدمتها إلى بركة الحاج حتى رحلت في يوم الأربعاء سابع عشرى شوال، ومعها من النقباء صاروجا وبكتاش، ورفعت عليها العصائب السلطانية، ودقت الكوسات وراءها، وحملت الخضراوات والبقول والرياحين في المحابر مزروعة في الطين، ولم يعهد سفر امرأة من نساء الملوك مثل سفرها.
وفيها خرج السلطان إلى الصيد، وقد توقف حال الناس في أمر الفلوس لكثرة الزغل فيها، وتحسنت البضائع. فلما قدم السلطان من الصيد رسم أن تكون الفلوس بالميزان، بعدما ضرب كثيراً من الباعة.
وفيها سقط نجم عظيم بعد العصر، فطبق شعاعه الأرض، ورأه كل أحد.
وفيها ولدت كلبة بالقاهرة ثلاثين جرواً، وأحضرت بجراها إلى السلطان.
وفي يوم الإثنين سادس عشرى رمضان: شكا طلبة زاوية الشافعي بجامع عمرو من مدرسهم شهاب الدين الأنصاري، وأبدوا فيه قوادح، فصرف عنهم، وولي عوضه قاضي القصاة بدر الدين محمد بن جماعة، ونزلت إليه الخلعة يوم الجمعة سلخه، فلبسها يوم العيد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرنور الدين إبراهيم بن هبة الله بن علي الحميري الإسنائي الفقيه الشافعي، قاضي قوص، بالقاهرة يوم الثلاثاء سادس عشرى صفر، أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله القفطي، والأصول عن الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، والنحو عن ابن النحاس. وبرع في ذلك وصنف.
ومات تاج الدين أبو الهدى أحمد بن محمد بن الكمال أبي الحسن علي بن شجاع القرشي العباسي، بمنشاة المهراني خارج مدينة مصر، عن تسع وسبعين سنة، في سابع جمادى الأولى.
ومات مجد الدين أحمد بن معين الدين أبي بكر الهمذاني المالكي، خطيب الفيوم، يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول، وكان يضرب به المثل في المكارم والسودد، وهو أخو قاضي الفضاة شرف الدين المالكي، وصهر الصاحب تاج الدين محمد بن حنا.
ومات بمكة الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد بن محمد الأصبهاني، في جمادى الآخرة.
ومات الأمير زين الدين كتبغا العادلي حاجب دمشق بها، في يوم الجمعة ثامن عشرى شوال، واستقر عوضه الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وكان شجاعاً كريماً.
ومات تقي الدين محمد بن عبد الحميد بن عبد الغفار الهمذاني الحلبي الضرير بمصر، وجد ميتاً في حادي عشر ذي الحجة، وقد أناف على السبعين، وحدث بأشياء.
ومات الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن المظفر شمس الدين يوسف ابن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني ملك اليمن، في مستهل ذي الحجة، وكانت مدته خمساً وعشرين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المجاهد سيف الدين علي.
ومات كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الدست، يوم الإثنين خامس عشر ذي الحجة بالقاهرة، وكان حشماً رئيساً عاقلاً.
ومات الطواشي صفي الدين جوهر مقدم المماليك السلطانية، فاستقر بعده الطواشي صفي الدين صواب الركني، وكان صواب الركني هذا يلي تقدمة المماليك في الأيام الركنية بيبرس، فلما قدم السلطان من الكرك عزله، ثم أعاده بعد موت جوهر.
ومات حميد الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود بن نصر النيسابوري، شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، في تاسع عشر جمادى الآخرة، ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين يحيى بن عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمنهوري الشافعي، في ثالث عشر جمادى الأولى. كان يتصدر لإقراء النحو، وصنف.
ومات بمكة الإمام المقرئ عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله ابن عبد الأحد المخزومي الدلاصي، في ليلة رابع عشر المحرم.
سنة اثنتين وعشرين وسبعمائةأهل المحرم يوم الأربعاء.

ففي يوم الأربعاء خامس عشره: وصل أوائل الحجاج.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشريه: وصل القاضي كريم الدين الكبير، والأمير قجليس صحبة الخاتون طغاي. وخرج السلطان إلى لقائها ببركة الحاج، ومد سماطاً عظيماً، وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف وجميع القهرمانات: مثل الست حدق المعروفة بالست مسكة، ونساء الأمراء، ودخل الجميع إلى منازلهم، فكان يوماً مشهوداً. ولم يسمع بمثل هذه الحجة في كثرة خيرها وسعة العطاء، ويقال إن السلطان أنفق على حجة طغاي مبلغ ثمانين ألف دينار وستمائة وثمانين ألف درهم، سوى كرى الحمول وثمن الجمال ومصروف الجوامك، وسوى ما حمل من أمراء الشام وأمراء مصر.
وفي تاسع عشريه: قدم المحمل ببقية الحاج.
وفي يوم السبت ثاني صفر: خرج الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، والأمير سيف الدين ألماس الحاجب، والأمير سيف الدين طرجي أمير مجلس، والأمير بهاء الدين أصلم السلاح دار، بمضافيهم وطائفة من أجناد الحلقة، إلى غزو بلاد متملك سيس، لمنعه الحمل. ولم يكن الأمر كدلك، بل مسيرهم إنما كان لأجل توجه الملك أزبك إلى بلاد أبي سعيد. وكتب بخروج عساكر الشام أيضاً. وفيه هدم موضع دار العدل الذي أنشأه الملك الظاهر بيبرس، وعمل طبلخاناه، في شهر رمضان، فاستمر موضع الطلخاناه إلى اليوم، ولما هدم وجد في أساسه أربعة قبور، فلما نبشت وجد بها رمم أناس طوال عراض، وإحداها مغطاة بملاءة دبيقي ملونة اذا مس منها شي ء تطاير، وعليهم عدة القتال، وبهم جراحات، وفي وجه أحدهم ضربة سيف بين عينيه عليها قطن، فلما رفع القطن نبع من تحته دم، وشوهد الجرح كأنه جديد، فنقلوا إلى العروستين، وعمل عليهم مسجد.
وفي مستهل ربيع الآخر: قدم الأمير سيف الدين طقصبا الظاهري، ومعه رسل الملك أزبك بكتابه، فأحضروا، ولم يعبأ السلطان بهم لكثرة شكوى طقصبا من تغير أزبك عليه وإطراحه له، واعيد الرسل بالجواب.
وفيه قدم عرب البحرين بمائة وثلاثين فرساً، فقومت بأثمان غالية ما بسين عشرة ألاف درهم الفرس إلى خمسين ألفاً، فلما أخذت أثمانها أنعم السلطان عليهم بخلع وتفاصيل وغير ذلك، وسفروا إلى بلادهم.
وفيه عوض السلطان أمير مكة عن نظير ما كان يستأديه من مكس الغلال، وأقطعه ثلثي دمامين بالوجه القبلي.
وفيه قدم البريد من دمشق بحضور أخت الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا من الشرق، وصحبتها جماعة كثيرة إلى دمشق، وأنها ماتت بعد قدومها بثلاثة أيام، فاستدعي من حضر معها إلى مصر، فلما وصلوا أنعم عليهم السلطان بالإقطاعات وغيرها.
وفي مستهل جمادى الأولى: قدم البريد بأن العسكر أغار على بلاد سيس، وأخرب وغنم وقتل جماعة، وأن أوشين متملك سيس هلك، وقام من بعده ابنه ليفون، وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة، وأن العساكر نازلت أياس وأخذوها عنوة بعد حصار، وقتلوا أهلها وخربوها، وعادوا على الأرمن فغنموا وأسروا منهم كثيراً، وتوجهوا عائدين. فقدم الأمير جمال الدين أقوش بالعسكر إلى القاهرة في سابع عشرى جمادى الآخرة، وخلع عليه.
وفي يوم الأربعاء تاسع رجب: قدم الأمير تنكز نائب الشام باستئذان، فأنعم عليه السلطان إنعامات جليلة بلغت قيمتها نحو ثمانين ألف دينار، ورسم لسائر الأمراء بحمل تقادمهم إليه، وأن من أحضر تقدمة يخلع على محضرها من الخزانة السلطانية، فحملت إليه تقادم جليلة، منها أربعون سلسلة ما بين ذهب وفضة، وحمل كريم الدين الكبير تقدمة بعشرة ألاف دينار. وعاد تنكز بعد إقامته خمسة أيام على البريد، في يوم الإثنين رابع عشريه، ودخل دمشق أول شعبان.
وفيه توجه الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي إلى السلطان أبي سعيد بن خربندا لعقد الصلح، وعلى يده هدية سنية، وسفر بألفي دينار.

وفي ثاني شعبان: عقد على الأمير أبي بكر بن الأمير أرغون النائب عقد خوند بنت السلطان، وتولى العقد قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحنفي، على أربعة ألاف دينار. وختن السلطان أولاد ثلاثة من الأمراء: وهم بكتمر الساقي، وطشتمر حمص أخضر، ومنكلي بغا الفخري، وعمل لهم مهماً عظيماً مدة أربعة أيام. ورمى الأمراء الذهب في الطشت، فبلغ ما في طشت ابن الأمير بكتمر الساقي أربعة ألاف وثلاثمائة وثمانين ديناراً، وفي طشت ابن طشتمر حمص أخضر ثلاثة ألاف دينار ونيف، وفي طشت ابن منكلي بغا ألف دينار وثمانمائة دينار.
وفي يوم الخميس عاشر رمضان: قبض على الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري وولديه، ثم وقعت الشفاعة في ولديه فأطلقا. وسبب ذلك كثرة معارضته للسلطان، فعينه السلطان لنيابة صفد، فاستعفى من ذلك، فبعث إليه كريم الدين الكبير بألفي دينار وتشريف نيابة صفد ومثالين بإمرتين لولديه بها، فلم يعبأ بكريم الدين وفارقه وهو متغير. فركب الأمير بكتمر وسأل السلطان الإعفاء، فغضب وقبضه وولديه، وسجنهم بالبرج إلى ليلة عيد الفطر، ثم أفرج عن الولدين.
وفيه قدم الشريف عطيفة بن أبي نمى صاحب الحجاز، وأخبر بقحط مكة لعدم المطر، وأنهم استسقوا ثلاثاً فلم يسقوا، ووصل القمح إلى مائتين وخمسين درهماً الأردب. فرسم السلطان أن يحمل إلى مكة ألفا أردب، وحمل النائب ألف أردب، والحاج آل ملك ألف أردب. فلما وصلت الغلال تصدق بها، فانحل السعر، وأبيع الأردب القمح بمائة درهم، وأغيث أهل مكة عقيب ذلك.
وفيه قدم الملك المؤيد صاحب حماة، وسار مع السلطان إلى قوص.
وفيه نقل البوبكري إلى الإسكندرية عند سفر السلطان إلى بلاد الصعيد، فسجن بها.
وفيه ورد الخبر بخلع الملك المجاهد على صاحب اليمن، وإقامة الناصر جلال الدين.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالشيخ نجم الدين الحسين بن محمد بن عبود، ليلة الجمعة ثالث عشرى شوال وكان قد عظم قدره في الدولة المنصورية لاجين، وعمر زاويته بالقرافة، وقصده الناس لقضاء حوائجهم.
ومات الشيخ جلال الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمود القلانسي، بالقدس في ذي القعدة. وكان قدم إلى مصر في سنة تسع وتسعين وستمائة، وأقام بها وحصل له بها رياسة، واعتقده الأمراء وأهل الدولة، وترددوا إلى زاويته على بركة الفيل، ثم أخرج إلى القدس، وكان كاتباً فاضلاً معتقداً.
ومات الشيخ حسن الجوالقي القلندري، صاحب زاوية القلندرية، خارج باب النصر من القاهرة، في يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة بدمشق. وكان قد تقدم في دولة العادل كتبغا.
ومات الرئيس الكاتب زين الدين عبد الرحمن بن أبي صالح رواحة بن علي بن الحسين بن مظفر بن نصر بن رواحة الأنصاري الحموي، بسيوط من بلاد الصعيد، في ذي القعدة من أربع وتسعين سنة، ورحل إليه الناس لسماع الحديث.
ومات محي الدين عبد الرحمن بن مخلوف بن جماعة بن رجاء الربعي الإسكندراني المالكي مسند الإسكندرية، بها في يوم الثامن من ذي الحجة عن ثلاث وتسعين سنة. ومات تقي الدين عتيق بن عبد الرحمن بن أبي الفتح العمري المحدث الزاهد، في ذي الفعدة بمصر.
ومات أبو عبد الله محمد بن علي بن حريث القرشي البلنسي السبتي بمكة في جمادى الآخرة عن إحدى وثمانين سنة، وأقام بها مجاوراً سبع سنين، وكان خطيباً بسبتة ثلاثين سنة، وبرع في فنون.
ومات شمس الدين محمد بن الحسن بن سباع المعروف بابن الصائغ بدمشق، وقدم إلى مصر، وبرع في الأدب، وصنف.
ومات أمين الدين محمد بن حمزة بن عبد المؤمن الأصفوني الشافعي، بسيوط.
ومات تاج الدين محمد بن الجلال أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الدشناوي الشافعي بقوص.
وماتت زينب بنت أحمد بن عمر بن أبي بكر بن شكر أم محمد المقدسية المعمرة الرحلة، في ذي الحجة بالقدس، عن أربع وتسعين سنة، حدثت بمصر والمدينة النبوية. ومات بدمشق الأمير غلبك العادلي، والأمير فخر الدين أياز شاد الدواوين، والأمير أيدمر الساقي المعروف بوجه الخشب.
ومات أقجبا البدري والي الفيوم.
ومات بدر الدين والي قوص.
ومات الأمير عز الدين أيبك البغدادي بمحبسه من قلعة الجبل، في سابع عشر جمادى الآخرة.
ومات بمصر القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن المكين بن رابعة، في ثالث عشرى المحرم.

ومات أقضى القضاة نور الدين أبو الحسين علي بن إسماعيل بن يعقوب الزواوي المالكي، يوم الأربعاء سابع عشرى صفر.
ومات القاضي سعد الدين مسعود بن نفيس الدين موسى بن عبد الملك القمني الشافعي، يوم الئلاثاء ثالث عشرى شعبان.
ومات أقضى القضاة قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي، خليفة الحكم الشافعي ووكيل بيت المال بالقاهرة، سحر يوم الجمعة رابع عشرى ذي الحجة.
سنة ثلاث وعشرين وسبعمائةأهل المحرم بيوم الأحد الموافق له رابع عشر طوبة: سقط بالدقهلية والمرتاحية من بلاد الغربية بعد مطر عظيم وريح قوية جداً برد وزن الحبة منه ما ينيف على خمسين درهماً، أتلف كثيراً من الزرع ومن الغنم والبقر، ووجد فيه حجارة منها ما وزنه من سبعة أرطال إلى ثلاثين رطلاً، وتلف من البلاد أحد وسبعون بلداً بالغربية، وإثنان وثلاثون بلداً بالبحيرة.
وفيها نزل السلطان بالجيزة عائداً من بلاد الصعيد، وخلع على نائب حماة، ورسم له بالعود إلى بلده. واستدعى السلطان بالحريم من القلعة إلى عنده، وكان الوقت شتاء، فطرد سائر الناس من الطرقات، وعلقت الحوانيت، ونزلت خوند طغاي، والأمير أيدغمش أمير أخور ماش يقود عنان فرسها بيده، وحولها سائر الخدام مشاة منذ ركبت من القلعة إلى أن وصلت إلى النيل، فعدت في الحراقة. واستدعى الأمير بكتمر الساقي وغيره من الأمراء الخاصكية حريمهم، وأقاموا في أهنأ عيش وأرغده.
وفيها قدم من عند صاحب ماردين الجارية التي طلبت: وكان المجد السلامي قد بعث بأنه أراد شراء جارية جنكية من الأردوا، فبذل صاحب ماردين فيها الرغائب لصاحبها حتى اشتراها، وأن المجد سير يعلمه بأنه قد عينها للسلطان، فلم يعبأ بقوله وشغف بها. فكتب السلطان لصاحب ماردين بالإنكار عليه، وأن يحملها إلى مصر، فسير جارية غيرها من مملوكين، فلم يخف ذلك على السلطان، ورد الثلاثة، وقال لقاصده شفاهاً: متى لم يبعث بالجارية، وإلا أخربت ماردين على رأسه، فلم يجد بداً من إرسالها، فلما حضرت أنعم السلطان عليه بإنعامات جليلة.
وفيه عاد السلطان من الجيزة إلى القلعة، وقد توعك كريم الدين الكبير.
وفي خامس عشره: قدمت بوادر الحجاج، وقدم المحمل ببقية الحاج في يوم الخميس سادس عشره.
وفيه تكرر إرسال السلطان الأمراء وغيرهم لتفقد حال كريم الدين، فلم ينزل إليه أحد إلا وخلع عليه أطلس بطراز وكلفتاه زركش وحياصة ذهب، حتى استعظم الناس ذلك. وبالغ السلطان في كثرة الإنعام على الأمراء والحكماء إلى يوم الخميس ثالث ربيع الأول. ثم ركب كريم الدين إلى القلعة، وتوجه بعد اجتماعه بالسلطان إلى القرافة، فكان يوماً مشهوداً، زينت فيه القاهرة زينة عظيمة، وصفت بها المغاني، وأشعلت الشموع، واجتمع الناس بالمدرسة المنصورية بين القصرين لأخذ الصدقات، فمات في الزحمة أربعة عشر إنساناً، وتأذى أناس كثيرة، و لم يفرق فيهم شيء. وخلع على جميع الأطباء، أخرج أهل السجون، وتصدق بأموال جزيلة.
وفيه قدم الخبر باجتماع الأمير أيتمش بالسلطان أبي سعيد، وأنه أكرم غاية الإكرامة، وعاد إلى ماردين.
وفي عشريه: قتل الشيخ ضياء الدين عبد الله الدربندي الصوفي. وكان قد قدم من دمشق في أوائل هذه السنة على هيئة الفقراء اليونسية، ولايزال في يده طبر، وشهر بدين وعلم. فلما كان هذا اليوم تحزم وقال: " أنا رايح أجاهد في سبيل الله وأموت شهيداً " ، وسار من خانكاه سعيد السعداء إلى قلعة الجبل، والأمراء جلوس على باب القلة، فرأى رجلاً من المسلمين قد تبع بعض الكتاب النصارى وقبل يده والنصراني لا يعبأ به، فحنق منه وضرب النصراني بالطبر فهدل كتفه وثنى عليه فارتجت القلعة، واجتمع الناس وقبضوه، فاشتد غضب السلطان، وأمر به فضرب عنقه على باب القلعة.
وفي ثالث عشريه: قدم البريد بوفاة نجم الدين أحمد بن محمد بن صصري قاضي القضاة الشافعية بدمشق، فاستقر عوضه قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن عمر الزرعي، واستقر عوضه في تدريس المدرسة المنصورية القاضي تقي الدين السبكي، وفي تدريس الجامع الحاكمي الشيخ شمس الدين محمد بن عدلان.

وفيه قدم الأمير أيتمش المحمدي من عند أبي سعيد، وقد عقد الصلح بينه وبين السلطان، وخطب بذلك في يوم الجمعة بمدينة توريز على منبر الجامع، وقد حمل الأمير أيتمش معه نسخة الأيمان التي تتضمن حلف أبي سعيد وجوبان والوزير، وما أنعم به عليه أبو سعيد: وهو ما قيمته نحو المائتي ألف درهم، ولؤلؤاً اشتراه بأربعين ألف درهم قوم بمائة ألف. وقدم أيتمش ذلك كله للسلطان، وحلف ألا يدخل في ملكه، فقبله منه وأنعم عليه بمائة ألف درهم، وحمل له كريم الدين عشرين ألف درهم من عنده.
وفي يوم الخميس سلخ ربيع الأول: قبل الظهر ولد للسلطان ولد ذكر من حظيته طغاي سماه أنوك، وفيه وقف بعض بزدارية السلطان وشكا أن أحد أجناد الأمير بكتمر الحاجب تزوج بامرأته من غير أن يكون قد طلقها، وأنه رشا الشهود حتى فعلوا له ذلك. فكشف علم الدين الخازن والي القاهرة عن قوله فتبين كذبه، وأنه طلق المرأة وانقضت عدتها ثم تزوجت بالجندي فتعصب الأمير بكتمر على البازدار لظهور كذبه، فحنق السلطان وأمر الوالي بتعزير الشهود ومنعهم من تحمل الشهادة، وإلزام الجندي بطلاق المرأة وردها إلى البازدار، فكان هذا من الأمور الشنيعة.
وفيه قبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم بن هبة الله بن السديد ناظر الخاص ووكيل السلطان، في يوم الخميس رابع عشره ربيع الآخر، بعدما تجهز ليسافر في يوم الجمعة خامس عشره إلى الشام. فعندما طلع إلى القلعة على العادة، ووصل إلى الدركاه، منع من الدخول إلى السلطان، وعوق بدار النيابة هو وولده علم الدين عبد الله وكريم الدين أكرم الصغير ناظر الدولة. ووقعت الحوطة على دور كريم الدين الكبير خاصة التي بالقاهرة وبركة الفيل، ونزل شهود الخزانة بولده إلى داره ببركة الفيل، وحملوا ما فيها إلى القلعة. وتوالت مصادرته، فوجد له شيء كثير جًدا: من ذلك قماش وبرد وطرز وحوايص قيمتها زيادة على ستين ألف دينار، وقند وسكر زنته ثمانون ألف قنطار، وعسل عدة ثلاثة وخمسين ألف مطر، وصناديق بها مسك وزعفران وعنبر وعود ولبان وعير ذلك عدة أحد وأربعين صندوقاً. وأبيعت داره التي على بركة الفيل للأمير سيف الدين طقتمر بثلاثة عشر ألف دينار. وحمل ماله في الإسكندرية، وكان خمسين ألف دينار، ومن أصناف المتجر شيء كثير جداً، ومنه ثمانون ألف قطعة خشب، ومائة وستون ألف قنطار رصاص، وبلغت قيمة الأصناف التي له في الإسكندرية خمسمائة ألف دينار. ووجد له بدمشق ألف ألف دينار وستمائة ألف درهم، وخمسة وعشرون ألف دينار. وبلغت قيمة أوقافه ستة ألاف ألف درهم.
وفي يوم السبت سلخه: قبض على كريم الدين الصغير، وسبب أنه امتنع من أن يتحدث في الخاص والمتجر ويدبر الأمور كلها بعد القبض على خاله كريم الدين الكبير.

وفيه نقل كريم الدين الكبير وولده علم الدين إلى البرج المرسوم للمصادرين بباب القرافة من القلعة، وطولب بالحمل. وعوق بالقلعة ناصر الدين شاد الخاص، والمهذب العامل، وغيره لعمل حساب كريم الدين. وكان سبب نكبته حسد الأمراء وغيرهم له على تمكنه من السلطان وسعة ماله وكثرة عطائه، فوشوا به إلى السلطان أنه يتلف الأموال السلطانية بتفريقها، ليقال عنه إنه كريم. واتفق مع ذلك أن كريم الدين أكرم الصغير كان له اختصاص بالأمير أرغون النائب، فأكثر من شكاية كريم الدين الكبير، وأنه يمنعه من تحصيل الأموال. وكان أكرم الصغير ظلوماً غشوماً، يريد أن يمد يده إلى ظلم الناس، فيمنعه كريم الدين. فبلغ النائب السلطان شكوى أكرم الصغير مراراً، فأثر في نفسه ذلك. وصار السلطان يرى عند الخاصكية من الملابس الفاخرة والطرز الزركش، وعند نسائهم من الملابس والحلي ما يستكثره، فإذا سأل عنه قيل له هذا من كريم الدين، فتصغر نفسه عندهم لأنه لا يعطيهم قط مثل ذلك. ولما حضر عرب البحرين بالخيل قومت بألف ألف ومائتي ألف درهم، سلمها كريم الدين إليهم بجملتها فيما بين بكرة النهار إلى الظهر، وعادوا إلى السلطان وقد دهشوا، فإنه كان أخرج إليهم شكائر ما بين ذهب وفضة. فلما قال لهم السلطان: قبضتم. قالوا: نعم، قال: لعله تأخر لكم شيء، فقالوا: وحياتك! عند كريم الدين مال في خزانة إذا أخرج منه مدة شهر ما يفرغ. فتحرك السلطان لذلك، وقال لبكتمر الساقي. سمعت قول العرب أنه دفع هذا القدر في يوم واحد، والخزانة ملآنة ذهباً وفضة؟ وأنا أطلب منه ألفي دينار فيقول ما تم حاصل. وتبين الغضب في وجه السلطان، فأخذ بكتمر يتلطف به وهو يحتد إلى أن قبض عليه.
وفي يوم السبت سابع جمادى الآخرة: نقل تاج الدين بن عماد الدين بن السكري من شهادة الخزانة إلى نظر بيت المال، وخلع عليه بطرحة.
وفيه نقل علاء الدين بن البرهان البرلسي من نظر بيت المال إلى نظر خزائن السلاح، وخلع عليه.
وفي رابع عشره: قدمت رسل أبي سعيد لتحليف السلطان على الصلح، ومعهم هدية ما بين بخاتي وأكاديش وتحف، فقرئ كتابه بوقوع الصلح، ثم سفروا بهدية سنية بعدما عمرهم إحسان السلطان في ثاني عشريه.
وفيه قدم الحمل من عند متملك سيس صحبة رسوله، ومعه جواهر ثمينة، واعتذر الرسول عما كان من متملك سيس، واستأذن في عمارة أياس، على أن يحمل في كل سنة مائة ألف درهم، فأجيب إلى ذلك.
وفيه قدم موسى بن مهنا وعمه محمد بالقود على العادة، وخيول كان السلطان استدعى بها. وسبب ذلك وقوع الصلح مع أبي سعيد، فضاقت بهم البلاد، فأكرمهما السلطان وأنعم عليهما، وأعادهما إلى بلادهما.
وفيه وقعت مرافعة بين فرج وعلي ولدي قراسنقر، بسبب دخيرة لأمهما تبلع نحو المائتي ألف ألف درهم، فأخذها السلطان منهما.
وفيه قدم المجد السلامي من الشرق، وقدم تقدمة جليلة، فرتبت له الرواتب السنية، وكتب له مسموح بمبلغ خمسين ألف درهم في السنة، ومرسوم بمسامحة نصف المكس عن تجاراته، وعاد إلى توريز.
وفيه قبض على جماعة من المماليك، وعوقوا بسبب ورقة وجدت تحت كرسي السلطان فيها سبه وتوبيخه، وأخرج منهم عدة إلى بلاد، وسجن منهم جماعة.
وفي سادس عشره: استقر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي أستاداراً، عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائي، وخرج بكتمر إلى دمشق. وكان ذلك بسبب أنه استخدم طباخ كريم الدين الكبير في مطبخ السلطان، فأنكر عليه السلطان ذلك وقال له: تستخدم طباخ رجل قد عزلته وصادرته في مطبخي؟ وأخرج أيضاً الأمير سنقر السعدي نقيب المماليك إلى طرابلس.
وفيه أفرج عن كريم الدين أكرم الصغير، ورسم له أن يتحدث في الأموال السلطانية كلها بغير مشارك، فامتنع من ذلك، فعزل عن نظر الدواوين. ثم خلع عليه واستقر صاحب ديوان الجيش، عوضاً عن معين الدين بن حشيش، وخلع على معين الدين بنظر الجيش بالشام.
وفيه ولى السلطان نظر الخاص تاج الدين اسحاق أحد نظار الدواوين، وتسمى لما أسلم عبد الوهاب، ورسم ألا يتحدث في متجر. وكان سبب ولايته أن السلطان لما قبض كريم الدين الكبير بعث إليه أن يعين من يصلح لنظر الخاص، فعين التاج، وباشر التاج الخاص بسكون زائد وسياسة جيدة إلى أن مات.
وفيه طلب الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من القدس.

وفي ليلة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة،: سفر كريم الدين أكرم الصغير على البريد إلى صفد.
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: أفرج عن كريم الدين الكبير وولده، وألزم بالإقامة في تربته من القرافة، وكان له يوم عظيم جداً، وأتاه الناس من كل مكان.
وفيه استقر الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك في نظر المارستان، عوضاً عن كريم الدين الكبير، فوجد حاصله أربعمائة ألف درهم، سوي سكر وغيره قيمته مائة ألف درهم.
وفيه استقر الأمير سيف الدين قجليس في نظر جامع ابن طولون، عوضاً عن كريم الدين الكبير أيضاً.
وفيه خرج الطلب لإحضار شمس الدين غبريال من دمشق، فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خول اموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرماً.
ثم قدم الصاحب أمين الدين يوم الأحد رابع عشرى ربيع الآخر، وقرر في الوزارة، وجلس بقلعة الصاحب من القلعة، ونزل إلى داره، فكان يوماً مشهوداً. واستقر في نظر النظار شرف الدين إبراهيم بن زنبور، واستمر عوضه في استيفاء الصحبة شمس الدين إبراهيم بن قروينة صهر الصاحب أمين الدين، فصار نظر النظار بين القاضي موفق الدين هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم وبين ابن زنبور. وشفى الصاحب أمين الدين نفسه من كريم الدين أكرم الناظر، وأخرق به.
وفي يوم السبت سلخ ربيع الأخر: قبض على كريم الدين الصغير، واعتقل ببرج في القلعة، فشرع في حمل المال، ثم أفرج عنه سلخ جمادى الأولى، ورسم له بنظر صفد، فتوجه إليها ليلة الإثنين رابع عشر جمادى الآخرة.
وفيه قدم شمس الدين غبريال، ومعه حمل دمشق ألف ألف وستمائة ألف درهم، ومن الذهب مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار من حاصل كريم الدين ومتاجره.
وفي يوم السبت تاسع عشرى جمادى الآخرة: أخرج كريم الدين الكبير وولده الشوبك، بعدما أشهد عليه أن جميع ما وقفه من الأملاك وغيرها إنما اشتراه من مال السلطان دون ماله. فأبقى السلطان أوقاف الخانكاه بالقرافة، وأوقاف الجامع بدمشق، وأعيد غبريال إلى دمشق على عادته.
وفيه توجه التاج اسحاق والأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي إلى الاسكندرية، واحتاطا على أموال كريم الدين الكبير، وكانت تحت يد مكين الترجمان، وقد أخذ المكين منها ثلاثة وخمسين ألف دينار، فاستقر التاج إسحاق يتحدث في متجر الخاص. وعاد التاج إسحاق ومعه الأمير مغلطاي فأوقع الحوطة على أموال التجار، وألزم ابن المحسني متولي الثغر بخمسين ألف دينار، ورسم على سائر المباشرين، وصادر الناس، فغلقت المدينة وبلغ السلطان ذلك فأنكره، وأفرج عن ابن المحسني بعدما أخذ منه مبلغ اثني عشر ألف دينار، وعاد الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي بستين ألف دينار من المصادرات.
وفيه كان عرس أمير علي بن أرغون النائب على ابنة السلطان، في يوم الإثنين ثامن عشر شعبان. وقد اعتنى السلطان بجهازها عناية عظيمه، وعمل لها بشخاناه وستارة وداير بيت زركش بمبلغ ثمانين ألف دينار، وآلات ذهب وفضة بما ينيف على عشرة ألاف دينار. وعمر السلطان لها مناظر الكبش عمارة جديدة، ونقل الجهاز إليها، ثم نزل بنفسه حتى نصب الجهاز. وعمل المهم مدة ثلاثة أيام، حضره نساء الأمراء بتقادمهم: وهي ما بين أربعمائة دينار سوى تعابي القماش إلى مائتي دينار. وكان فيه ثماني جوق من مغاني القاهرة، وعشرون جوقة من جواري السلطان والأمراء، خص كل جوقة من جوف القاهرة خمسمائة دينار ومائة وخمسون تفصيلة حرير، ولم يحصو ما حصل لجواري السلطان والأمراء لكثرته. فلما انقضى المهم بعث السلطان لكل من نساء الأمراء تعبية قماش على قدرها، وعم جميع الأمراء بالخلع، وفضل من الشممع بعدما استعمل منه مدة العرس ألف قنطار مصري. وأنعم السلطان على الأمير أرغون النائب بمنية بني خصيب، زيادة على إقطاعه.
وفيه قبض على الأمير طشتمر حمص أخضر الساقي، وفرج بن قراسنقر، وكرت، وعدة من المماليك. ثم أفرج عن طشتمر من يومه، ونفي كرت إلى صفد، وبقي فرج ابن قراسنقر بالجب.
وفيه هبت ريح سوداء حارة بدمشق، مات منها جماعة من الناس فجأة، وفسدت الثمار وجفت المياه، فتحسن سعر الغلال. ثم وقع مثل ذلك بالقاهرة ومصر، فتغيرت أمزجة الناس، وفشت الأمراض، وكثر الموت مدة شهر، وفسدت الثمار، وتحسن السعر لهيف الغلة وقلة وقوعها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21