كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

وفي يوم الاثنين رابعه: اتفق بالقاهرة حادثة شنعاء لم ندرك مثلها، وهي أن رجلاً من العشير بيبروت من سواحل الشام - يقال له شعث بن أبي بكر بن الحمراء - قدم ليسعى في بعض تعلقاته، فخرج سحر هذا اليوم من داره على فرسه، ومعه غلامه، وقد سايره رجل من أهل بلاده، وأخذ يحادثه حتى وصلا بين القصرين عند شروق الشمس، فأخرج الرجل خنجراً وضرب به ابن الحمراء ضربة وأتبعها بأخرى فسقط عن فرسه. وساق الرجل فرسه فلم يتبعه أحد. وبقي ابن الحمراء طريحاً عدة ساعات، ثم دفن. وبلغ الخبر السلطان، فطلب القاتل فلم يقدر عليه. وكان سبب هذا أن ابن الحمراء قتل والد هذا الرجل من سنين عديدة، وابنه هذا صبي، فتحول إلى القاهرة، وربي بها، وصار من جملة الأجناد بخدمة الأمراء. فلما قدم ابن الحمراء في هذه الأيام القاهرة، تردد إليه هذا الرجل من أجل أنه من أهل بلاده، فأنس به وغفل عما كان منه، إلى أن جاءه الرجل في هذا اليوم على عادته، وركب معه، فوجد الفرصة قد أمكنته من عدوه، ففعل ما فعل، وأخذ بثأره.
وفي هذا الشهر: انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً سواء.
وفيه ارتفع سعر القمح حتى تجاوز الأردب مائتي درهم من الفلوس.
وفيه هدم السلطان خرائب الططر بقلعة الجبل، وكانت خطاً كبيراً يشتمل عل مساكن عديدة، فسوى بها جميعها الأرض.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها من حساب اثني عشر درهماً الرطل. وكانت قد قلت وعز وجودها لشح الناس بإخراجها، فربح من كان عنده منها شيء، وخسر من له مطالبات، فإنه صار درهمه نصفاً.
شهر ذي الحجة، أوله السبت.
في سابعه: اتفقت حادثة شنعاء، وهي أن الخبز قل وجوده في الأسواق، فعنده خرج بدر الدين محمود العينتابي - محتسب القاهرة - من داره سائراً إلى القلعة صاحت عليه العامة، واستغاثوا بالأمراء، وشكوا إليهم المحتسب، فعرج عن الشارع وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامة له، وشكاهم إلى السلطان. وكان يختص به، ويقرأ له في الليل تواريخ الملوك، ويترجمها له بالتركية. فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة، فأخذوا على المارة أفواه السكك ليقبضوا على الناس. فرجى بعض العبيد أحد الأمراء بحجر أصابه، فقبض عليه، وضرب. وقبض على جماعة كبيرة من الناس، وأحضروا بين يدي السلطان، فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم، وسجنهم ليلة السبت. ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم - وعدتهم اثنان وعشرون رجلاً من المستورين - ما بين شريف وتاجر، فتنكرت القلوب من أجل ذلك، وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر اللحم، وعدم أياماً من الأسواق. وارتفع سعر القمح أيضاً، وعز وجوده، مع كثرته بالشون والمخازن، وعلو النيل وثباته.
وفي حادي عشرينه: خلع على شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين بن محمد المعروف بابن المحمرة، واستقر في مشيخة الخانكاة الصلاحية سعيد السعداء، بعد وفاة شمس الدين محمد بن أحمد البيري، المعروف بأخي جمال الدين الأستادار. وابن المحي هذا كان أبوه سمساراً في الغلال بساحل بولاق، وعمه طحاناً، وولد هو بظاهر القاهرة، وقرأ القرآن وقرأ عدة كتب ما بين فقه ونحو وغيره، واشتغل على شيوخ العصر حتى برع في الفقه على مذهب الشافعي. وشارك في فنون، وجلس في حوانيت الشهود زماناً، واستنابه في الحسبة بالقاهرة بوساطة الأمير يلبغا السالمي، وكان من أصحابه. ثم ناب في الحكم بالقاهرة عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني مدة سنين. وأثرى في قضائه، وكثر ماله. ثم صرف عن الحكم، ودرس الفقه بخانكاة شيخو بمال وزنه في التدريس، ثم ولي الخانكاة.

وفيه قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي من مكة وقد توجه حاجباً يتضمن أنه بعث، لما نزل من عقبة أيلة، قاصداً إلى الشريف حسن بن عجلان، يرغبه في الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة، فقدم ابنه الشريف بركات بن حسن، وقد نزل بطن مر، في ثامن عشرين ذي القعدة، فسر بقدومه ودخل به معه مكة أول ذي الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم، أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان، فعاد إلى أبيه، وقدم به مكة يوم الاثنين ثالث ذي الحجة، وأنه حلف له ثانياً، وألبسه التشريف السلطاني، وقرره في إمارة مكة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب، واستخلاف ولده بركات على مكة.
وفي خامس عشرينه: ورد إلى ساحل بولاق اثنا عشر غراب من أغربة الغزاة.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج، وأن الوقفة بعرفة كانت يوم الاثنين، وكانت بالقاهرة يوم الأحد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرقاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن علي بن بدر الدين أبو الثناء محمود بن أبي الجود أبي بكر بن مغلي الحموي الحنبلي، في يوم الخميس العشرين منالمحرم، وقد قارب السبعين سنة، وكانت آباؤه من سلمية، يعانون التجارة وولد هو بحماة، ونشأ بها، وعانى طلب العلم، وقدم القاهرة شاباً سنة إحدى وتسعين في زي التجار، واشتهر بكثرة الحفظ لجودة حافظته، وما زال يدأب حتى صار من أئمة الفقه والحديث والنحو، ويشارك في فنون كثيرة، وكان يحفظ في كل مذهب من المذاهب الثلاثة كتاباً، ويحفظ من مذهبه كثيراً إلى الغاية، وولي قضاء الحنابلة بحماة بعد سنة ثمانمائة، ثم ولاه المؤيد. شيخ قضاء القضاة الحنابلة بالديار المصرية، فباشره حتى مات. وكان له ثراء وسعة، ولم يخلف بعده مثله.
وقتل الأمير تغري بردي خنقاً بقلعة حلب في ربيع الأول، فمستراح منه، لا دين ولا عقل ولا مروءة، ما هو إلا الظلم والفسق.
ومات زين الدين شعبان بن محمد بن داود الآثاري في سابع عشر جمادى الآخرة، وقد ولي حسبة مصر في أيام الظاهر برقوق بمال عجز عنه، ففر إلى اليمن بعد عزله، وصار له بها حظ، لأنه كان يكتب خطاً جيداً وينظم الشعر، ثم قدم مكة بعد سنين، وقدم القاهرة، وتوجه إلى الشام، ثم عاد وهو مريض، فمات يوم قدومه، وورثه أخوه. وتوفي بدر الدين محمد بن عمر بن أبي بكر الدماميني المالكي، الأديب، الشاعر بمدينة كربركا من بلاد الهند، في شعبان، عن نحو سبعين سنة، وكان قد نشأ بالإسكندرية، وفاق في الأدب، وقال الشعر الجيد، وبرع في العربية، وعانى دولبة عمل الثياب الحرير، فاحتج، وألجأته الضرورة إلى فراره من أرض مصر، فصار له في بلاد الهند ثراء، فلم يتهن به، ومات.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن يوسف بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر التنوخي الشهير بابن العطار الحموي ناظر القدس، في ثالث عشر شوال، ببلد الخليل عليه السلام، ومولده في سنة أربع وسبعين وسبعمائة. وكان أبوه من أعيان أهل حماة، يباشر أستادار الأمراء، واختص بالظاهر برقوق أيام سجنه بالكرك، وقد كان بها، وخرج معه منها، فمات قبل عود الملك إليه، فاستدنى الظاهر برقوق ابنه ناصر الدين هذا، وأنعم عليه بإمرة في حماة، ثم ولي حجوبية حماة. ونوه به ناصر الدين محمد بن البارزي، لما ولي كتابة السر، لقرابته به، وولاه نيابة الإسكندرية ، فلما مات - وهو المؤيد - صرف عنها ثم ولاه السلطان نظر القدس والخليل، وكان من خير من صحبت ديانة وملازمة لتلاوة القرآن، ومعرفة وخبرة ومشاركة، في فنون من العلم.
ومات الفقيه نور الدين علي بن أحمد بن سلامة السليمي المكي، بها، في أخريات شوال، وقد أناف على الثمانين، وكان فقيهاً شافعياً فاضلاً في فنون، قدم القاهرة وسمع معنا الحديث وتردد إلى سنن بالقاهرة ومكة.

وتوفي شمس الدين محمد بن أحمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي، أخو الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، في يوم الجمعة المبارك رابع عشر ذي الحجة، عن نحو الثمانين سنة، وكان يلي قضاء البيرة، ثم قدم القاهرة وولي قضاء القضاة بحلب مدة ثم عزل وعاد إلى القاهرة، ودرس بالمدرسة الناصرية المجاورة لقبة الإمام الشافعي بعد الجلال محمد أبي البقاء، ووفي مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس بعد الشريف بدر الدين حسن النسابة، كل ذلك بجاه أخيه. فلما قتل أخوه نكب وصرف، ثم أفرج عنه وولي في أيام المؤيد شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء حتى مات وكان فيه سكون، ويذكر عنه تدين.
وقتل الأمير طوغان - أمير أخور في أيام المؤيد شيخ - ذبحا بقلعة المرقب، في ذي الحجة، وكان من جملة التراكمين، يخدم سايس خيل بعض أجنادها، فترقى حتى صار أمير أخور كبير للملك المؤيد، وله به اختصاص، ثم نكب بعده حتى قتل، وهو كما قيل: لم أبك منه على دنيا ولا في دين.
ومات الأمير سيف الدين أبو بكر حاجب طرابلس بها، وقد تكرر ذكره في أيام الأمير جكم، وكان مشكوراً.
سنة تسع وعشرين وثمانمائةأهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسلطان الإسلام الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي، وأتابك العساكر الأمير الكبير قجق، وأمير مجلس الأمير أينال الجكمي، وأمير سلاح الأمير أينال النوروزي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الأمير أزبك، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي، وحاجب الحجاب الأمير جرباش قاشق، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير الوزير فخر الدين عبد الغني ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين عبد الله بن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة بن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد بن عبد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب شارقطوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الداوادار، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية عجلان بن نعير.
وأسعار المبيعات بالقاهرة مع عامة الأقوات قليلة، سيما اللحم واللبن والجبن، لم نعهد مثل قلتهم في هذا الوقت، وقد انحل سعر الغلال، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب. والدينار الأفرنتي. بمائتين وخمسة وعشرين درهماً من الفلوس، والفلوس باثني عشر درهماً الرطل، وأحوال الناس بديار مصر وبلاد الشام واقفة، لقلة مكاسبهم، وقد شمل إقليم مصر - مدينتها وأريافها - الخراب، لا سيما الوجه القبلي، فمن شدة فقر أهله وفاقتهم وسوء أحوالهم لا يتبايعون إلا بالغلال، لعدم الذهب والفضة، بعد ما كان ما كانوا فيه من الغنى والسعة في غاية.
شهر الله المحرم، أوله الاثنين: في ليلة الخامس عشر: خسف جرم القمر بأجمعه، ومكث جميع جرمه منخسفا نحو ثماني عشر درجة.
وفي يوم الاثنين: هذا خلع على الأمير أينال الششماني، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن بدر الدين محمود العينتابي.
وفي تاسع عشره: قدم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان، وقد أفرج عنه من سجنه بالإسكندرية.
وفي عشرينه: منع قضاة القضاة الأربع من الإكثار من نواب الحكم بالقاهرة ومصر، وأن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، ولا يزيد الحنفي على ثمانية، ولا المالك على ستة ولا الحنبلي على أربعة، فعمل بذلك مدة أيام، وعادوا لما نهوا من الاستكثار منهم، ولو كان ذلك من الخير لنقص.

وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وتتابع قدومهم حتى قدم الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة بالمحمل، وتبعه ساقة الحاج وهم في ضر وبؤس شديد، من غلاء الأسعار، وقدم معه أيضاً الأمير قرقماس المقيم هذه المدة بمكة، وقدم الشريف حسن بن عجلان، فأكرم، ثم خلع عليه سابع عشرينه، واستقر في إمارة مكة على عادته، وألزم بثلاثين ألف دينار، فبعث قاصده إلى مكة حتى يحصرها، وأقام هو بالقاهرة رهينة، و لم يقع في الدولة الإسلامية مثل هذا.
وفي هذا الشهر: كثر موت الجاموس، ولذلك قلت الألبان والأجبان.
وفيه تجددت على الحجاج مظلمة لم تعهد من قبل، وذلك أنه منع التجار أيام الموسم أن يتوجهوا من مكة إلى بلاد الشام. مما ابتاعوه من أصناف تجارات الهند، وألزموا أن يسيروا مع الركب إلى مصر حتى يؤخذ منهم مكوس ما معهم، فلما نزل الحجاج بركة الحاج وخرج مباشرو الحاج وأعوانهم، واشتدوا على جميع القادمين من التجار والحجاج، واستقصوا تفتيش محايرهم وأحمالهم، وأخرجوا سائر ما معهم من الهدية وأخذوا مكسها، حتى أخذوا من المرأة الفقيرة مكس النطع الصغير عشرة دراهم فلوساً، وأما التجار فإنه كان أخرج إليهم في السنة الخالية بعض مسالمة الأقباط من القاهرة - كما تقدم ذكره - فوصل إلى مكة، ومضى إلى جدة بأعوانه، فضبط ما وصل في المراكب من بلاد الهند وهرمز من أصناف المتجر، وأخذ منها العشور، فقدم في المراكب الهندية إلى جدة في هذه السنة زيادة على أربعين مركباً تحمل أصناف البضائع، وذلك أن التجار وجدوا راحة بجدة، بخلاف ما كانوا يجدون بعدن، فتركوا بندر عدن واستجدوا بندر جدة عوضه، فاستمر بندر جدة عظيماً، وتلاشى أمر عدن من أجل هذا، وضعف حال متملك اليمن، وصار نظر جدة وظيفة سلطانية يخلع على متوليها، ويتوجه في كل سنة إلى مكة في أوان ورود مراكب الهند إلى جدة، ويأخذ ما على التجار ويحضر إلى القاهرة به، وبلغ ما حمل إلى الخزانة من ذلك زيادة على سبعين ألف دينار، سوى ما لم يحمل، فجاء للناس ما لا عهد لهم بمثله، فإن العادة لم تزل من قديم الدهر في الجاهلية والإسلام أن الملوك تحمل الأموال الجزيلة إلى مكة لتفرق في أشرافها ومجاوريها، فانعكست الحقائق، وصار المال يحمل من مكة، ويلزم أشرافها بحمله، ومع ذلك فمنع التجار أن يسيروا في الأرض يبتغون من فضل الله، وكلفوا أن يأتوا إلى القاهرة حتى تؤخذ منهم المكوس على أموالهم، وأني لأذكر أن الملك المؤيد شيخاً نظره مرة في أيام قدوم الحاج فرأى من أعلى قلعة الجبل خياماً مضروبة بالريدانية خارج القاهرة، فسأل عنها، فقيل عنها، فقيل له إن العادة أن ينصب ناظر الخاص عند قدوم الحاج خياماً هناك ليجلس فيها مباشرو الخاص وأعوانه، حتى يأخذوا مكس ما معهم من البضائع، فقال: والله إنه لقبيح أن يعامل الحاج عند قدومه بهذا، واستدعى بعض أعيان الخاصكية، وأمره أن يركب ويسوق حتى يأتي تلك الخيام ويهدمها على رءوس من فيها، ويضربهم حتى يحملوها وينصرفوا، ففعل ذلك، و لم يتعرض أحد في تلك السنة للحجاج، وكان ناظر الخاص إذ ذاك الصاحب بدر الدين حسن نصر الله، ولعمري لقد سمعت عجائز أهلنا وأنا صغير يقلن انه ليأتي على الناس زمان يترحمون فيه على فرعون فبرغمي إن مضين وخلفت حتى أدركت وقوع ما أنذرنا به قبل، ولله عاقبة الأمور.
شهر صفر، أوله الأربعاء: في نصفه: جع السلطان الأمراء والقضاة وكثيراً من التجار، وتحدث في إبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الأفرنتي، وهومن ضروب الفرنج، وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية. وهذا الأفرنتي كما تقدم ذكره قد غلب في زمننا من حدود سنة ثمانمائة على أكثر مدائن الدنيا، من القاهرة ومصر وجميع أرص الشام، وعامة بلاد الروم والحجاز واليمن، حتى صدر النقد الرابح، فصوب من حضر رأي السلطان في إبطاله، وان يعاد سبكه بدار الضرب، ثم يضرب على السكة الإسلامية، فطلب من الغد صياغ دار الضرب، وشرع في سبك ما عنده من الدنانير الإفريقية.

وفي هذا الشهر: عز وجود الخبز في الأسواق أحياناً، مع كثرة الغلال وقلة طالبيها. وفقد اللحم أيضاً عدة أيام من قلة جلب الأغنام، وسبب ذلك أن الوزير يحتاج في كل يوم إلى اثني عشر ألف رطل من اللحم برسم المماليك السلطانية، ومطبخ السلطان وحريمه، فحجر على باعة اللحم أن يزيدوا في سعره حتى لا يزداد عليه ما يقوم به في ثمن اللحم، واقتني أغناماً كثيرة، وصار يشتريها بما يريد، فلا تصل أثمانها إلى بائعها إلا وقد بخسوا فيها، كما هي عادتهم في بخس الناس أشياءهم، فنفر تجار الغنم وجلابتها من الحضور بها إلى أسواقها، خوفاً من الخسارة، وكانت أراضي مصر في السنة الخالية محلاً من قلة ماء النيل في أوانه، وسرعة هبوطه، حتى شرقت الأراضي إلا قليلاً، فقلت المراعي، ثم ارتفع سعر الفول والشعير، فشحت الأنفس بعلف البهائم والأنعام، خصوصاً الفلاحون، فإن أحوالهم ساءت فهزلت من أجل هذا بهيمة الأنعام من الغنم والبقر والجاموس، وتعذر من نصف شهر رمضان الماضي وجود لحم الضأن، وارتفع سعره من سبعة دراهم للرطل إلى عشرة دراهم ونصف، وقلت الألبان والأجبان والسمن، وبلغت أثماناً لم نعهد مثله في زمن الربيع، واتفق مع هذا كله الموت الذريع في الجاموس، حتى فني معظمه، ووقع الفناء أيضاً في الأبقار وماتت أيضاً الأغنام وحمير وخيل عير كثيرة العدد.
وفي سادس عشرينه: نودي بإبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية، وزنة الدينار منه زنة الدينار الأفرنتي، وألزم الناس بحمل ما عندهم من الأفرنتية إلى دار الضرب، حتى تسبك وتعمل دنانير أشرفية وخلع على شرف الدين أبي الطب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر دار الضرب، وقد كان باشر نظر وقف الأشراف، ونظر كسوة الكعبة أحسن مباشرة، بعفة وأمانة ونهضة.
وفي نصف هذا الشهر: ارتفع سعر القمح وتجاوز الأردب ثلاثمائة درهم وقل وجود الدقيق في الطواحين، ووجود الخبز بالأسواق، وشنع الأمر في تاسع عشرينه، وازدحم الناس بالأفران في طلب الخبز، وتكالبوا على ابتياع القمح، فشحت نفوس الخزان به وأبيع القدح الفول بأربعة دراهم ولهذا أسباب: أحدها أن البدر محمود العنتابي كان أيام حسبته يلين للباعة، حتى كأنه لا حجر عليهم فيما يفعلوه، ولا ما يبيعوا بضائعهم به من الأثمان، فلما ولي الششماني أرهب الباعة وردعهم بالضرب المبرح، فكادوه، وترك عدة منهم ما كان يعانيه من البيع، واتفق في هذه الأيام هلك كثير من الجاموس والبقر، بحيث أن رجلاً كان عنده مائة وخمسون جاموسة فهلكت بأجمعها، ولم يبق منها سوى أربع جاموسات، وما ندري ما يتفق لها، فقلت الألبان والأجبان والسمن. ثم هبت في نصف هذا الشهر رياح مريسية، وتوالت أياماً تزيد على عشرة، لم تستطع المراكب السفر في النيل، فانكشف الساحل من الغلة، وجاء الخبر بغلاء الأسعار في بلاد غزة والرملة ونابلس والساحل ودمشق وحوران وحماة، حتى تجاوز سعر الأردب المصري عندهم ألف درهم فلوساً، إذا عمل حسابه. وقدم الخبر بغلاء بلاد الصعيد وأنها بأسرها لا يكاد يوجد بها قمح ولا خبز بر، ومع هذه الرزايا كلها شح الأعيان وطمعهم، فإن بعض أمراء الألوف لما بلغ القمح مائتين وخمسين درهماً الأردب قال: لا أبيع قمحي إلا بثلاثمائة درهم الأردب. ومنع السلطان أن يباع من حواصله قمح لقلة ما عنده، فظن الناس الظنون، وجاعت أنفسهم، وقوى الحرص، وتزايد الشح، فأمسك خزان القمح ما عندهم منه ضناً به وأملوا أن يبيعوا البر بالدر. هذا، ومتولي الحسبة بعيد عن معرفتها، فآل الأمر إلى ما قيل: تجمعت البلوى علي وتحد فرد.
وفيه انحط سعر اللحم من عشرة دراهم ونصف الرطل إلى ثمانية ونصف، وهو هزيل لقلة علف البهائم.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة:

أهل هذا الشهر والأردب القمح بثلاثمائة، سوى كلفه، وهى مبلغ عشرين درهماً، والدقيق كل بطة زنة خمسين رطلاً بمائة وعشرين درهماً، وهما قليل، وقد خسر الناس في تفاوت سعر الدينار الأفرنتي والدينار الأشرفي جملة مال، فإن الأفرنتي كان يصرف بمائتين وخمسة وعشرين درهماً، وفي علم السلطان أنه إنما يصرف بمائتين وعشرين، ومشي الناس أيضاً فيما بينهم نقصه زنة قمحة، فلما نودي أن لا يتعامل أحد بالأفرنتي وضرب السلطان الدنانير الأشرفية وأنفقها في جوامك المماليك بالديوان المفرد، كثرت في أيدي الناس، فصار من عنده شيء من الأفرنتية يحتاج أن يتعوض بدله من الصيارفة دنانير أشرفية فيخسر في كل دينار أفرنتي سبعة دراهم ونصف، إن كان نقصه قمحة، وما زاد على القمحة فبحسابه، فتلفت أموال الناس بسبب ذلك، وربحت الصيارفة أرباحاً كثيرة، بحيث أخبرني من لا أتهم أنه خسر في دنانير أفرنتية خمسة آلاف درهم.
وفي يوم السبت ثانيه: تيسر وجود الخبز في الأسواق.
وفيه ابتدأ السلطان بعمل خبز يفرق في الفقراء كل يوم.
وفي رابع عشره: نودي أن يقطع كل أحد ما تحت حانوته من الأرض، ويرمي بالكيمان، وان تصلح الطرقات في سائر أزقة القاهرة ومصر وظواهرهما، وفي جميع الحارات والخطط، وهدد من لم يفعل ذلك، فشرع كل أحد - من جليل وحقير - في طلب الفعلة وقطع الأراضي، وطلب الحمارة لنقل الأتربة ورميها، فجاءتهم كلف ومغارم مع ما هم فيه من غلاء الأسعار والخسارة في الذهب، فلطف الله وبطل ذلك بعد يومين، وقد خسر فيه من خسر جملة.
وفيه قدم الأمير قصروه نائب طرابلس.

وفي هذا الشهر: ظهر رجلان أبديا صنائع بديعة أحدهما من مسلمة الفرنج الذين يتزيوا بزي الأجناد فإنه نصب حبلاً أعلى مأذنة المدرسة الناصرية حسن بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، ومده حتى ربطه بأعلى الأشرفية من قلعة الجبل، ومسافة ذلك رمية سهم أو أزيد، في ارتفاع ما ينيف على مائة ذراع في السماء، ثم إنه برز من رأس المأذنة، ومشى على هذا الحبل، حتى وصل إلى الأشرفية، وهو يبدي في مشيه أنواعاً من اللعب، وقد جلس السلطان لرؤيته، وحشر الناس من أقطار المدينة، فعد فعله من النوادر التي لو لم تشاهد لما صدقت، ثم خلع عليه السلطان، وبعثه إلى الأمراء، فما منهم إلا أنعم عليه فانتدب بعد ذلك بقليل شاب من أهل البلد لمحاكاة المذكور في فعله، ونصب حبلاً عنده في داره، ومشى عليه فلما علم من نفسه القدرة على ذلك صعد إلى رأس نخلة، ومد منها حبلاً إلى نخلة أخرى ومشى عليه، فأقدم عند ذلك وأظهر نفسه، ونصب حبلاً من رأس مأذنة المدرسة الظاهرية برقوق إلى رأس مأذنة المدرسة المنصورية بين القصرين بالقاهرة، وأرخي من وسط هذا الحبل الممتد حبلاً، وواعد الناس حتى ينظروا ما يفعله، مما لم يقدر ذلك الرجل على فعله، فجاءوا من كل جهة، وخرج من رأس المأذنة المدرسة الظاهرية، ومشى قائما على قدميه، وقامته منتصبة، حتى وصل رأس مأذنة المدرسة المنصورية، ومسافة ما بينهما نحو المائة ذراع في ارتفاع أكثر من ذلك، ثم إنه نام على الحبل، وتمدد، ثم قام ومشى حتى وقف على الحبل الذي أرخاه في وسط الحبل الذي هو قائم عليه، ونزل فيه إلى آخره، ثم صعد فيه، وهو يبدي في أثناء ذلك فنوناً تذهل رؤيتها، لو لا ضرورة الحس لما صدقت، وتلاشى بما فعله فعل ذلك الرجل، ثم إنه نصب حبلاً من مأذنة حسن إلى الأشرفية بالقلعة، كما نصب الرجل الأول، وجلس السلطان لمشاهدته، وأقبل الناس في يوم الجمعة تاسع عشرينه، وقد هبت رياح كادت تقتلع الأشجار، وتلقي الدور، فخرج هذا الشاب وتلك الرياح في شدة هبوبها، فمشى على قدميه حتى وصل إلى حبل قد أرخاه في الوسط، وأدلى رأسه، ونزل فيه منكوساً، رأسه أسفل ورجلاه أعلاه، إلى آخره، ثم صعد على الحبل الممتد، ومشى قائماً عليه حتى وصل إلى قبة المدرسة، فنزل من الحبل وصعد القبة وهو يجري في صعوده جرياً قوياً فوق شكل كرسي من رصاص أملس، حتى وقف بأعلاها، والرياح عماله في طول ذلك، بحيث لا يثبت لها طير السماء، ولا يقدر على المرور لشدة هبوبها، وهذا الشاب يروح ويجيء شاقاً لها، وماراً فيها، كأنما خلق من الريح، فكان شيئاً عجباً، لا سيما و لم يتقدم له إدمان في ذلك، ولا دربه فيه معلم، وإنما تاقت إليه نفسه، فامتحنها فإذا هي متأتية له فيما أراد، فبرز وأبدى ما يعجز عنه سواه.
ومن نصف هذا الشهر: انحل سعر الشعير، حتى أبيع الأردب بدينار أشرفي، وانحل سعر الفول، حتى أبيع الأردب بثلاثمائة درهم بعد ما بلغ أربعمائة، ووجد القمح وكثر، ولله الحمد.
وفيه قدم الأمير أرنبغا المتوجه في البحر إلى مكة، وكان معه هدية لصاحب اليمن فمضى بها في البحر من جدة ومعه شخص يقال له ألطنبغا فرنجي - ولي دمياط مراراً - ومعهما من المماليك السلطانية خمسون نفراً، وقد حسن للسلطان شخص أخا اليمن بهذه العدة، فتأخر فرنجي في مركب على ساحل حلي بني يعقوب بالمماليك، وتوجه أرنبغا ومعه منهم خمسة نفر بالهدية والكتاب، وهو يتضمن طلب مال للإعانة على جهاد الفرنج، فأخذ متملك اليمن في تجهيز الهدية، فأتاه الخبر بأن فرنجي نهب بعض الضياع، وقتل أربعة رجال فأنكر صاحب اليمن أمرهم، وتنبه لهم وقال لأرنبغا: ما هذا خبر خير، فإن العادة أن يقدم في الرسالة واحد فقدمتم في خمسين رجلاً، ويحضر إلي منكم إلا أنت في خمسة نفر، وتأخر باقيكم، وقتلوا من رجالي أربعة وطرده عنه من غير أن يجهز هدية ولا وصله بشيء، فنجا ومن معه بأنفسهم وعادوا جميعاً إلى مكة، وقدم أرنبغا مخفاً.
شهر ربيع الآخر، أول السبت: فيه توجه الأمير قصروه عائداً إلى طرابلس على نيابته بها.
وفي ثامنه: خلع على الأمير يشبك الساقي الأعرج، واستقر أمير سلاح بعد موت أينال النوروزي.

وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: نصب تاجر عجمي حبلاً فيما بين مأذنتي مدرسة حسن ليفعل كما فعل من تقدم ذكرهما، وخرج من أعلى أحديهما ومشى على الحبل عدة خطوات ثم عاد من حيث ابتدأ، ومشى ثانياً على قدميه إلى آخره، وأبدى عجائب، منها أنه جلس على الحبل وأرخى رجليه، وتناول وهو كذلك قوساً كانت على كتفه، وأخرج من كنانته سهمين رمى بهما واحد بعد آخر، ثم قام ودخل وهو قائم على الحبل في طارة كانت معه، وخرج منها، وكرر دخوله فيها وخروجه منها مراراً، فتارة يدخل رجليه قبل إدخاله يديه، وتارة يدخل يديه قبل رجليه، ثم ينزل من الحبل الممدود في حبل قد أرخاه، وهو حال نزوله يتقلب بطناً لظهر وظهراً لبطن، حتى نزل إلى أسفله ورأسه منكوسة نحو الأرض، وقامته ممتدة، بحيث صارت قدماه توازي السماء، ورمى وهو منكوس بالقوس ثلاثة سهام واحداً بعد واحد، ثم صعد من أسفل الحبل المرخاة حتى قام على قدميه فوق الحبل الممدود، ثم ألقى نفسه وهو قائم إلى جهة الأرض، فإذا هو قد تعلق بإبهامي قدميه، وصار رأسه منكوساً، ثم انقلب وهو منكوس، فصار رأسه على الحبل الممدود ورجلاه إلى السماء، ثم انقلب فصارت قدماه على الحبل وهو قائم فوقه، ثم رفع إحدى رجليه ووقف فوق الحبل على رجل واحدة، وهو يرفع تلك الرجل، حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف عليها، ورفع الرجل الأخرى التي كان قائماً عليها حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف على قدميه منتصب القامة، وخر ساجداً على الحبل حتى صار فمه عليه يشير أنه يقبل الأرض بن يدي السلطان، وهو مستقبله، فأنست أفعاله من تقدمه.
وفي خامس عشرينه: استقر كمال الدين محمد بن همام الدين محمد السيواسي الحنفي في مشيخة التصوف وتدريس الجامع الأشرفي، عوضاً عن علاء الدين علي الرومي، وقد عزم على عودته إلى بلاده. و لم يكن بالمشكور في علمه ولا عقله.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني. وخلع على التفهني، واستقر في مشيخة خانكاه شيخو بعد وفاة سراج الدين عمر قارئ الهداية.
وفي يوم الجمعة: أركب السلطان كثيراً من مماليكه، ونزلوا في عدة من الأمراء إلى القاهرة متقلدي سيوفهم، حتى طرقوا الجودرية - إحدى الحارات - وأحاطوا بها من جميع جهاتها، وفتشوا دورها، وقد وشى للسلطان بأن جانبك الصوفي في دار بها، فلم يعثروا عليه، وقبض على فخر الدين بن المرزوق وضرب بالمقارع ونفي، لتعلق بينه وبين جانبك الصوفي من جهة المصاهرة، ونودي من الغد بأن لا يسكن أحد بالجودرية، فأخليت عدة دور بها، واستمرت زماناً خالية، فكانت حادثة شنعة.
وفي سلخه: قدم المماليك الذين كانوا مجردين بمكة.
وفي هدا الشهر: ارتفع سعر الغلال بعد انحطاطها، وبلغ الأردب القمح ببلاد الصعيد أربعة دنانير.
وفيه تحارب الفرنج القطرانيون والبنادقة في ميناء الإسكندرية، فغلب القطرانيون، وأخذوا مركب البنادقة بما فيه، بعد ما قتل بينهم جماعة، ثم أسروا طائفة من المسلمين كانوا بالميناء، ومضوا في البحر.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: في سابع عشرينه: قدم رسول صاحب اسطنبول - وهي القسطنطنية - بهدية وشفع في أهل قبرس أن لا يغزوا.
وفي هذا الشهر: ارتفع سعر القمح حتى بلغ دينارين الأردب، ثم انحط في آخره إلى دينار، وانحطت البطة الدقيق من مائة وخمسين درهما إلى ثمانين درهماً، لكثرة وجود القمح.
وفيه تبرع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. مما له من المعلوم المقرر على القضاء، في أنظار الأوقاف ونحوها، لمدة سنة، فجبيت للسلطان، وباشر بغير معلوم.
شهر جمادى الآخرة أوله الأربعاء: في ثالث عشره: قدم من عسكر الشام عدة، ومن طوائف العشير جماعة ليسيروا للجهاد، فأنزلوا بالميدان الكبير.
وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي، الذي ولي قضاء الحنابلة بدمشق في الأيام المؤيدية، واستقر قاضي قضاة الحنابلة عوضاً عن محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي بعد عزله، وقد شنعت فيه القالة لسوء سيرة أخيه وابنه.
وفي ثالث عشرينه: جلس السلطان لعرض المجاهدين بالحوش من القلعة وأنفق فيهم فكان يوماً جميلاً.
شهر رجب أوله الخميس:

فيه أدير محمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، وعجل عن وقته لتوجه المجاهدين للغزو.
وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة كاتب إبراهيم البرددار، واستقر في نظر الديوان المفرد، وكان قد شعر عن الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ من حين ولي الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وعبد العظيم من مسلمة النصارى الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وفي يوم الجمعة ثانيه: سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جعل مقدم عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس وجعل مقدم عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا وتبعهم المجاهدين، وتوجهوا في النيل أرسالا، حتى كان أخرهم سفراً في يوم السبت حادي عشره.
وفي يوم الخميس عشره: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن تقص ويحضر بها مقصوصة إلى دار الضرب حتى تسبك، وهدد من خالف ذلك، وكان العامة بعد النداء الأول قد تعاملوا بها كما هي عادتهم في المخالفة، لقلة ثبات الولاة على ما يرسم به.
وفي ثامن عشرينه: قدم الخبر بأن الغزاة مروا في سيرهم إلى رشيد، وأقلعوا من هناك يوم السبت رابع عشرينه وساروا إلى أن كان يوم الاثنين سادس عشرينه، انكسر منهم أربعة مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس فانزعج السلطان لذلك، وهم بإبطال الغزاة، ثم بعث في يوم الجمعة آخره الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، لكشف خبرهم، والعمل في مسيرهم أو عودهم، بما يقتضيه رأيه، فقوي عنده إمضاء العزم على المسير، فساروا على بركة الله.
شهر شعبان، أوله الجمعة: في خامسه: قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قدمت بقية الغزاة من رشيد، ولي الفرنج الأدبار بعد ما استشهد من المسلمين عشرة.
وفي رابع عشره: جاء قاع النيل أربعة أذرع وسبعة أصابع، وابتدئ بالنداء بزيادة النيل في يوم الجمعة خامس عشره خمسة أصابع.
وفي يوم الأربعاء عشرينه: أقلع الغزاة من ميناء الإسكندرية طالبين قبرس، أيدهم الله على أعدائه بنصره.
شهر رمضان، أوله الأحد: في سابعه: قدم الخبر بوصول الغزاة في أخريات شعبان إلى قلعة اللمسون، وأن صاحب جزيرة قبرس قد استعد، وأقام بمدينة الأفقسية، وعزم على اللقاء.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: أنعم بإقطاع الأمير الكبير قجق على الأمير يشبك الساقي الأعرج أمير سلاح وأنعم بتقديمه قرقماس وإقطاعه على الأمير بردبك أمير أخور، وأنعم بطبلخاناه بردبك على الأمير يشبك أخي السلطان، ولم يتآمر قبلها، فصار من أمراء الطبلخاناه.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير يشبك الساقي واستقر أميرا كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير قجق بعد موته.
وفي يوم الخميس تاسع عشره - الموافق له أول يوم من مسرى - : كان النيل على ثلاث عشر ذراعاً وأربعة أصابع، وهذا المقدار مما يندر وقوعه في أول مسرى لكثرته.

وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: قدم الخبر في النيل بأخذ جزيرة قبرس وأسر ملكها. وكان من خبر ذلك أن الغزاة نازلوا قلعة اللمسون، حتى أخذوها عنوة في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان، وهدموها وقتلوا كثيراً من الفرنج، وغنموا. ثم ساروا بعد إقامتهم عليها ستة أيام، في يوم الأحد أول شهر رمضان وقد صاروا فرقتين، فرقة في البر وفرقة في البحر، حتى كانوا فيما بين اللمسون والملاحة، إذا هم بجينوس بن جاك متملك قبرس قد أقبل في جموعه، فكانت بينه وبين المسلمين حرب شديدة، انجلت عن وقوعه في الأسر بأمر من عند الله يتعجب منه لكثرة من معه وقوتهم، وقلة من لقيه، ووقع في الأسر عدة من فرسانه، فأكثر المسلمون من القتل والأسر، وانهزم بقية الفرنج، ووجد معهم طائفة من التركمان، قد أمدهم بهم علي بك بن قرمان فقتل كثير منهم، واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة، في يوم الاثنين ثانيه، وقد تسلم ملك قبرس الأمير تغري بردي المحمودي، وكثرت الغنائم بأيدي الغزاة، ثم ساروا من الملاحة يوم الخميس خامسه يريدون الأفقسية، مدينة الجزيرة، ودار مملكتها فأتاهم الخبر في مسيرهم أن أربعة عشر مركباً للفرنج قد أتت لقتالهم، منها سبعة أغربة، وسبعة مربعة القلاع، فأقبلوا نحوها وغنموا منها مركباً مربعاً، وقتلوا عدة كثيرة من الفرنج، حتى لقد أخبرني من لا أتهم من الغزاة أنه عد في الموضع الذي كان فيه ألفاً وخمسمائة قتيل، وانهزم بقيتهم، وتوجه الغزاة إلى الأفقسية وهم يقتلون، ويأسرون، ويغنمون، حتى دخلوها، فأخذوا قصر الملك، ونهبوا جانباً من المدينة، وعادوا إلى الملاحة بعد إقامتهم بالأفقسية يومين وليلة. فأراحوا بالملاحة سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام، ثم ركبوا البحر عائدين بالأسرى والغنيمة، في يوم الخميس ثاني عشره وقد بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان.
ولما قدم هذا الخبر دقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا، وقرئ الكتاب الوارد على الناس بالجامع الأشرفي، وندب جماعة من المماليك، فساروا في النيل لحفظ مراكب الغزاة، والمسير بها من دمياط، وقد قدمت بالغزاة وما معهم، حتى يوقفوها بميناء الإسكندرية.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان من مكة، وقد استدعى بعد موت أبيه فخلع عليه، واستقر في إمرة مكة، على أن يقوم بما تأخر على أبيه وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإنه كان قد حمل قبل موته من الثلاثين الألف التي التزم بها مبلغ خمسة آلاف دينار، وألزم بركات أيضاً بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة، وأن لا يتعرض لما يؤخذ بجدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره.
شهر شوال، أوله الاثنين: فيه ابتدأ عبور الغزاة، فقدم عدة منهم في البر وفي النيل.
وفي يوم الخميس رابعه - الموافق له اليوم الخامس عشر من مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، ففتح الخليج على العادة.

وفي يوم الأحد سابعه: قدم الأمير تغري بردي المحمودي والأمير أينال الجكمي - مقدماً الغزاة المجاهدين - بمن معهما من العسكر، وصحبتهم جينوس بن جاك متملك قبرس، وعاد ومن أسروه وسبوه من الفرنج، وما غنموه. وجميعهم في مراكبهم التي غزوا قبرس فيها، فمروا على ساحل بولاق حتى نزلوا بالميدان الكبير، فكان يوماً مشهوداً لم ندرك مثله. وأصبحوا يوم الاثنين ثامنه سائرين بملك قبرس والأسرى والغنائم، وقد اجتمع لرؤيتهم من الرجال والنساء خلائق لا يحصى عددها إلا الله الذي خلقها، فمروا من الميدان على ظهر أرض اللوق، حتى خرجوا من المقدس، وعبروا من باب القنطرة إلى بين القصرين، وشقوا قصبة القاهرة إلى باب زويلة، ومضوا إلى صليبة جامع ابن طولون، وأقبلوا من سويقة منعم إلى الرميلة، تحت القلعة، وطلعوا إليها من باب المدرج وكانوا في مسيرهم هذا الذي لا يبعد أن يقارب البريد قد قدموا الفرسان من الغزاة المجاهدين في سبيل الله أمام الجميع، ومن وراء الفرسان طوائف الرجالة - من عشران البلاد الشامية وزعر القاهرة ومطوعة البلاد - ومن وراء الرجالة الغنائم محمولة على رءوس الرجال، وظهور الجمال والبغال والحمير، وفيها تاج الملك وأعلامه ورايته منكسة، وخيله تقاد ومن وراء الغنائم الأسرى من الرجال والسبي من النساء والصبيان، وهم زيادة على ألف إنسان، ومن وراء الأسرى جينوس بن جاك الملك، وقد أركب بعلاً، وقيد بقيد من حديد، وأركب معه اثنان من خاصته، وركب الأميران تغري بردي وأينال الجكمي عن يمين جينوس بن جاك وشماله، حتى وصلا به باب القلعة، أنزلاه عن البغل، فكشف رأسه، وخر على وجهه إلى الأرض، فقبلها ثم انتصب قائماً ودخل يرسف في قيوده، حتى مثل بين يدي السلطان قائماً، وقد جلس السلطان بالمقعد، وفي خدمته أهل الدولة من الأمراء والمماليك والمباشرين، وحضر الشريف بركات بن عجلان أمير مكة، ورسل ابن عثمان ملك الروم، ورسل صاحب تونس، ورسل أمراء التركمان، ورسل عذراء أمير الغرب، ومماليك نواب البلاد الشامية، فعرضت الغنائم ثم الأسرى، ثم جيء بجينوس في قيوده مكشوف الرأس، فخر على وجهه يعفره في التراب، ويقبل الأرض، ثم قام وقد خارت قواه، فلم يتمالك نفسه لهول ما عاينه، وسقط مغشياً عليه، ثم أفاق من غشوته، فأمر به إلى منزل قد أعد له بالحوش من القلعة، فكان يوماً عظيماً لم ندرك مثله، أعز الله تعالى فيه دينه.
وفيه نودي بهدم الزينة، فهدمت، وخلع على الأمراء الأربعة القادمين من الغزاة، وأركبوا خيولا بقماش ذهب.
وفي تاسعه: جمع التجار لشراء ما حضر من الغنيمة، وهي ثياب وقماش وأثاث وأواني.
وأما جينوس فإنه لما استقر في منزله أتته قصاد السلطان لطلب المال، فأظهر جلداً، وقال: ما لي إلا روحي، وهي بيدكم، فغضب السلطان من جوابه وبعث إليه من الغد يهدده أن لم يفد نفسه منه بالمال، مثبت على التجلد، وقال: ألا لعنة الله على واحد من النصارى. فأمر السلطان بإحضاره، فأخرج إلى الحوش، وقد جعلت الأسرى فيه، فما هو إلا أن شاهدوا جينوس ملكهم قد أخرج أسيراً ذليلاً، صرخوا بأجمعهم صرخة مهولة، وحثوا بأكفهم التراب على رءوسهم، والسلطان قد جلس بالمقعد، وأوقف جينوس حيث أوقف أمس من تحت المقعد، وقد وقف معه جماعة من قناصلة الفرنج، فالتزموا عنه بفدائه بالمال من غير تعيين شيء، وأعيد إلى منزله، ودخل إليه قصاد الملك لتقرير المال.
فلما كان يوم الأربعاء، عاشره: رسم له ببدلتين من قماشه، ورتب له عشرون رطل لحم وستة أطيار دجاج في كل يوم، وفسح له في الإجتماع بمن يختاره، وطال الكلام فيما يفدي به نفسه، وطلب منه خمسمائة ألف دينار، فتقرر الصلح على مائتي ألف دينار، يقوم منها مائة ألف دينار، فإذا عاد إلى ملكه بعث بمائة ألف دينار ويقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار، واشترط على السلطان أن يكف عنه الطائفة البندقية وطائفة الكيتلان.
وفي حادي عشره: سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان عائداً إلى مكة أميراً.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير أينال الجكمي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير يشبك، وكانت شاغرة في هذه الأيام، وخلع على الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير قرقماس - الذي كان بمكة - واستقر حاجب الحجاب.

وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: قدم أمير الملأ عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، فأنزل بالميدان الكبير على عادة جده نعير، وأجريت له الرواتب، وعذراء هذا أقامه الظاهر ططر بعد موت الملك المؤيد شيخ، عوضاً عن حديثة بن مانع من آل فضل. وحديثة استقر بعد حسين بن نعير بن حيار بن مهنا، وحسين استقر بعد قتل أخيه العجل ابن نعير. والأمير الملأ عدة سنين لم يقدم إلى مصر.
وفي ثامن عشره: خلع على الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر الحسيني واستقر في إمرة المدينة النبوية عوضاً عن الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة إلى ظاهر القاهرة.
وفي خامس عشرينه: توجه الأمير عذراء عائداً إلى بلاده على إمرة العرب، بعد ما خلع عليه. وفيه كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل قد بلغ ثمانية عشر ذراعاً وإصبعاً واحداً.
وفي هذه الأيام: تعطلت أسواق القماش من البيع عدة أيام لاشتغال التجار بشراء الغنائم.
وفيها قل وجود اللحم بالأسواق لقلة الأغنام.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: في نصفه: قدم نجم الدين عمر بن حجي من دمشق بسعيه في ذلك، وكان منذ أخرج بعد عزله من كتابة السر مقيماً بدمشق.
وفي ثامن عشرينه - وهو رابع بابه - : انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً وخمسة أصابع، وثبت.
وفي هذا الشهر: انحط سعر الغلال.
وفيه كثر تتبع القضاة والفقهاء فيما تحت أيديهم من الأوقاف، وانطلقت الألسن بقالة السوء فيهم. وفيه وقع بالمدينة النبوية حادث شنيع، وهو أن خشرم بن درغان قدم المدينة وقد رحل عنها عجلان لما بلغه أنه عزل، فلم يلبث غير ليلة حتى صبحه عجلان في جمع من العربان، وحصره ثلاثة أيام، ثم دخل عربه المدينة ونهبوا دورها، وشعثوها وخربوا مواضع من سورها، وأخذوا ما كان للحجاج الشاميين من ودائع، وقبضوا على خشرم، ثم خلوه لسبيله، واستهانوا بحرمة المسجد، وارتكبوا عظائم.
شهر ذي الحجة، أوله الخميس: وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير شارقطلوا نائب حلب، خلع عليه وأتته تقادم الأمراء. وفي هذه المدة انحط ماء النيل قليلاً بحيث دخل شهر هتور في سادس عشرينه والماء في تسعة عشر ذراعاً. وهذا ثبات جيد نفعه، إن شاء الله.
وفيه قدم قاضي دمشق الشريف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، وقدم مبشروا الحاج وأخبروا بسلامتهم.
وفي هذه الأيام: رسم السلطان بمنع الأمراء والأعيان من الحمايات، ومحيت رنوكهم عن الطواحين والحوانيت والمعاصر، حتى يتمكن مباشرو السلطان من رمي البضائع، فرميت، وهي ما بين سكر وأرز وغير ذلك، فشمل الضرر كثيراً من الناس، لما في ذلك من الخسارة في أثمانها، والمغرم للأعوان.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالشيخ المعتقد خليفة بن المغربي، في حادي عشرين المحرم، من غير تقدم مرض، بل عبر إلى الحمام فأتاه أجله هناك، وكان قد انقطع بالجامع الأزهر نيفاً وأربعين سنة، وصار للناس فيه اعتقاد، وترك مالاً وأثاثاً له قدر.
ومات الأمير سيف الدين أينال النوروزي أمير سلاح، في أول شهر ربيع الآخر، قد أناف على الثلاثين سنة، فوجد له من الذهب خمسون ألف دينار، وكان ظالماً فاسقاً، لا يوصف بشيء من الخير.
ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن علي - المعروف بابن المكلله وبابن جماعة - في ثامن شهر ربيع الآخر، وقد ولي حسبة القاهرة فلم ينجب وخمل حتى مات.
وتوفي الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن فارس المعروف بقارئ الهداية. وقد انتهت إليه رئاسة الحنفية، لمعرفته بالأصول والعربية، ومشاركته في فنون عديدة، بعد ما تصدى للإفتاء والتدريس عدة سنين، وصار له ثراء وسعة، من كثرة وظائفه. وآخر ما ولي مشيخة خانكاه شيخو، وكان مقتصداً في ملبسه، يتعاطى شراء حوائجه من الأسواق بنفسه، مع جميل سيرته. ولم يخلف بعده مثله في إتقان فقه الحنفية واستحضاره.

وتوفي الشريف حسن بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن محمد الحسن السبط ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، ودفن خارجها، وقد أناف على الستين. ومولده ومرباته، وولي إمارتها في أوائل سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، فحسنت سيرته، ثم كلفه السلاطين حمل المال إليهم فجار. وولي سلطة الحجاز كله في شهر ربيع الأول سنه إحدى عشرة وثمانمائة، واستناب عنه بالمدينة الشريفة وخطب له على منبرها، وعارك خطوب الدهر حتى مضى لسبيله. والله يعفو عنه بمنه.
وتوفي قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن خالد بن نعيم بن مقدم بن محمد بن حسن بن غانم بن محمد بن علي الطائي البساطي المالكي، في يوم الاثنين عشرين جمادى الآخرة، عن ثمان وثمانين سنة، وهو مصروف، وكان فقيهاً مشاركاً في فنون، وفيه سياسة ودربة بالقضاء.
وتوفي شمس الدين محمد بن جمال الدين عبد الله بن محمد - المعروف بابن كاتب السمسرة، وبالعمري - ، عن نحو سبعين سنة، في يوم الأربعاء العشرين من شعبان. وقد كتب في الإنشاء عدة سنين، ووقع في الدست، وناب عن كاتب السر، وكان فاضلاً ماهراً في صناعته.
ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين قجق الشعباني أحد المماليك الظاهرية برقوق، في تاسع شهر رمضان، وكان لا معنى له في دين ولا دنيا.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد بن مكنون الشافعي، قاضي دمياط، ليلة الأحد ثاني عشرين شهر رمضان، عن ستين سنة. وقد قدم إلى القاهرة. وكان فاضلاً يعرف الفقه، ويشارك في غيره.
ومات شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن أحمد بن فضل الله بن محمد الرازي الهروي الشافعي بالقدس، في ثامن عشر ذي الحجة. ومولده بهراة سبع وستين وسبعمائة. وقد ولي قضاء القضاة، وكتابة السر، فلم ينجب. وكان يقرئ مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، ويعرف العربية، وعلم المعاني والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ، ويستحضر كثيراً من الأحاديث، والناس فيه بين عال ومقصر، وأرجو أن يكون الصواب ما ذكرته.
سنة ثلاثين وثمانمائةأهلت وسلطان الإسلام ببلاد مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير أتابك العساكر سيف الدين يشبك الساقي الأعرج، ورأس نوبة النوب الأمير تغري بردي المحمودي، وأمير سلاح الأمير أينال الجكمي، وأمير مجلس الأمير جرباش الكريمي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الكبير الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر بن الأمير فخر الدين عبد الغني بن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن عبد الله، المعروف بابن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب شارقطلوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار، وأمير مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي.

والأسعار مختلفة فالقمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشجر بمائة درهم الأردب وما دونها، والفول بمائة وخمسين درهماً الأردب، وقد كثر وجوده بعد ما كان قليلاً، والحمص بخمسمائة درهم الأردب، واللحم متعذر الوجود في الأحيان، فإن الوزير يمنع من الزيادة في سعره من أجل ما يحتاج إليه من راتب السلطان ومماليكه، وإذا حضر معاملوا اللحم أسواق الغنم، أخذوا الأغنام كيفما شاءوا، وأحالوا أربابها بالثمن على جهات، فيغبنوا فيما يصل إليهم من أثمان أغنامهم، فقل جلب الأغنام لأجل ذلك، والأسواق كاسدة، والجور فاش، وقد كل الناس الفاقة، وعمت الشكاية، ولا يزداد الناس إلا إعراضاً عن الله، فلا جرم أن حل بهم ما حل، ولا قوة إلا بالله.
شهر المحرم، أوله السبت: فيه سار الأمير شارقطلوا بحلب.
وفي سادسه: أخرج الأمير أزدمر شاية أحد الأمراء الألوف إلى حلب، على إمرة، وكان من أقبح الناس سيرة، يرمي بعظائم.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على نجم الدين عمر بن حجي، وأعيد إلى قضاء دمشق عوضاً عن الشريف شهاب الدين أحمد، بعد ما حمل عيناً وأهدى أصنافاً بنحو عشرة آلاف دينار، فلم يفد وعزل.
وفي هذا الشهر: منع الأمراء ونحوهم من حماية أحد على مباشري السلطان، ورميت البضائع على جماعات، فكثرت خسائرهم فيها مع الغرامة.
وفيه أبيع بالإسكندرية فلفل للديوان على تجار الفرنج، ثم رسم بزيادة ثمنه عليهم، وقد سافروا به، فكلف قناصلتهم القيام عنهم بذلك.
وفيه قدم التجار الذين تبضعوا بمكة ليسافروا ببضائعهم إلى الشام، فمنعوا من ذلك، ألزموا بمجيئهم إلى مصر، حتى يؤخذ منهم مكسها للخاص، وحتى يباع بالشام متجر الديوان، فأصابتهم بذلك بلايا عديدة.
وفيه اشتدت مطالبة أهل الخراج بما عليهم من الخراج والمغارم.
وفيه حصل العنت على الذمة في إلزامهم بأشياء حرجة، فلم يتم ذلك لاختلاف الآراء.
وفي سابع عشره: سافر قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي، بعد ما خلع عليه خلعة السفر.
وفي ثاني عشرينه: قدم بوادر الحاج.
وفيه سار أزدمر شاية إلى حيث نفي. وقدم الركب الأول من الغد، ثم قدم المحمل في رابع عشرينه ببقية الحاج.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه: توجه الشريف شهاب الدين أحمد عائداً إلى دمشق بغير وظيفة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار، سوى ما حمل أولاً وآخراً، وهو مبلغ سبعة وعشرين ألف دينار، وجملة ما حمله غريمه نجم الدين عمر بن حجي في تلك المدد ستون ألف دينار، وهذا الشيء لم نعهد مثله، وإن هذا لمحض الفساد، ولا قوة إلا بالله.
وفي هذا الشهر: حدثت زلزلة بجزيرة درحت المجاورة الرمز من البحرين فخسف ببعض إصطبل السلطان، وبدار القاضي، وانفرج جبل بالقرب منهم، فروي فيما انفرج منه فيران في قدر الكلاب، وورد الخبر بذلك إلى دمشق في كتاب من يوثق به.
شهر صفر، أوله الأحد: في سادسه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم بن موسى البرماوي الشافعي واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي، وكان شاغراً منذ وفاته. وهذا البرماوي كان أبوه يتعيش بتعليم الصبيان القراءة، ونشأ ابنه هذا في طلب العلم، فبرع في الفقه والأصول والنحو وغير ذلك، وتعلق بصحبة الجلال محمد ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وحاول أن يكون من نواب القضاة في أيام الجلال عبد الرحمن البلقيني، فأذن له في الحكم، ثم عزله، وطالت مدته في الخمول صغيراً وشاباً وكهلا، فتحول إلى دمشق، فنوه به نجم الدين عمر بن حجي واستنابه واختص به، فحسنت حاله وتحول في النعم إلى أن قدم مع ابن حجي، وولي كتابة السر، رفع من مقداره، ورتب له ما يقوم به فارتفع بين الناس قدره، حتى استقر في الصلاحية.
وفي سابعه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية، وهي فضة عليها شخوص من ضروب الفرنج، تعامل الناس بها من سنة ثمان عشرة وثمانمائة وبالعدد وبالوزن، ورسم بحمل ما في أيدي الناس منها إلى دار الضرب لتسبك دراهم أشرفية عليها صكة الإسلام، فجرى الناس على عادتهم في الإصرار والاستهانة بمراسيم الحكام، وتعاملوا بها، إلا قليلاً منهم.

وفي ثامنه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، فخلع عليه، وقدم للسلطان مبلغ خمسة عشر ألف دينار أفرنتية، وقماشاً وفرواً بثلاثة آلاف دينار، وتوجه عائداً إلى محل كفالته على عادته، في ثالث عشرينه.
وفيه قدم الطواشي افتخار الدين ياقوت - مقدم المماليك - من مكة بمبلغ ثلاثة عشر ألف دينار، مما ألزم به الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وكان قد تأخر بعد الحج بمكة حتى استخرج ذلك منه.
وفي هذه الأيام: عز وجود اللحم بالأسواق، وفقد أياماً، وقل وجود اللبن والجبن، وغلا سعر الحطب حتى أبيع بمثلي ثمنه منذ شهر. هذا والوقت شتاء والبهائم مرتبطة على الربيع، وعادة مصر في زمن ربيعها أن يكثر وجود اللبن والجبن، ويرخص ثمنها. غير أن سيرة ولاة الأمور، وقلة معرفتهم بما ولوه، وفساد الرعية اقتضى ذلك.
وفي يوم الاثنين سلخه: جاء جراد سد الأفق لكثرته، وانتشر إلى ناحية طرا، وقد أضر ببعض الزروع، فأرسل الله عليه ريحاً مريسية ألقته في النيل ومزقته حتى هلك عن آخره، ولله الحمد.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: أهل والأمراض من النزلات والسعال والجدري فاشية في الناس، بحيث لا يخلو بيت من عدة مرضى، إلا أنها سليمة العاقبة في الغالب، يزول بعد أسبوع. هذا والوقت شتاء. وقدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد صفد.
وفي ليلة الجمعة رابعه: كان المولد النبوي بالقصر عند السلطان، وحضر الأمراء والقضاة ومشايخ العلم ومباشروا العلم والدولة على العادة، فكان الذي عمل في السماط عشرة كباش، ذبحت ثم طبخ لحمها، ومد بعد سماط الطعام سماط الحلوى.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أفرج عن جينوس بن جاك متملك قبرس من سجنه بقلعة الجبل، وخلع عليه، وأركب فرساً بقماش ذهب، ونزل إلى القاهرة في موكب، فأقام في دار أعدت له، وصار يمر في الشوارع ويزور كنائس النصارى ومعابدهم، ويمض في أحواله بغير حجر عليه، وقد أجرى له راتب يقوم به وبمن معه.
وفي ها الشهر: كثرت الرياح العاصفة، فقدم الخبر بغرق ثلاثة عشر مركباً في بحر الملح، قد ملئت ببضائع، من ناحية صيدا وبيروت، وأقبلت نحو دمياط.
وفيه ألقى البحر دابة بشاطئ دمياط، أخبرني من لا أتهم، أنها ذرعت بحضوره فكان طولها خمسة وخمسين ذراعاً، وعرضها سبعة أذرع.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: فيه قدم الخبر بتشتت أهل المدينة النبوية، وانتزاحهم عنها، لشدة الخوف وضياع أحوال المسجد النبوي، وقلة الاهتمام بإقامة شعائر الله فيه، منذ كانت كائنة المدينة، فرسم الأمير بكتمر السعدي أحد أمراء العشرات إلى المدينة فأخذ في تجهيز حاله.
وقدم الخبر بتجمع التركمان وإفسادهم في المملكة الحلبية، فرسم في يوم الاثنين عشرينه بتجريد ثمانية أمراء مقدمي ألوف، وعدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، فأخذوا في أهبة السفر، ثم بطل ذلك.

وقدم الخبر بأن صاحب أغرناطة ومالقة والمرية ورندة ووادي آش وجبل الفتح من الأندلس، وهو أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف ابن لشيخ السلطان أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن نصر الأنصاري الخزرجي الأرجوني الشهير بابن الأحمر، خرج من غرناطة - دار ملكه - يريد النزهة في فحص غرناطة - يعني مرج غرناطة - في نحو مائتي فارس في مستهل ربيع الآخر هذا وكان ابن عمه محمد بن السلطان أبي الحجاج يوسف محبوساً في الحمراء، وهي قلعة أغرناطة، فخرج الجواري السود إلى الحراس الموكلين به، وقالوا لهم: تخلو عن الدار حتى تأتي أم مولاي تزوره وتتفقد أحواله. فظنوا أن الأمر كذلك، فخلوا عن الدار، فخرج في الحال شابان من أولاد صنايع أبي المحبوس، وأطلقوه من قيده وأظهروه من الحبس، وأغلقوا أبواب الحمراء، وذلك كله ليلاً، وضربوا الطبول والأبواق على عادتهم، فبادر الناس إليهم ليلاً، وسألوا عن الخبر، فقيل لهم من الحمراء: قد ملكنا السلطان أبا عبد الله محمد ابن السلطان، فأقبل أهل المدينة وأهل الأرباض فبايعوه محبة فيه وفي أبيه، وكرهاً في الأيسر، فما طلع النهار حتى استوسق له الأمر، وبلغ الخبر إلى الأيسر فلم يثبت وتوجه نحو رندة وقد فر عنه من كان معه من جنده، حتى لم يبق معه منهم إلا نحو الأربعين. وخرجت الخيل من غرناطة في طلبه، فمنعه أهل رندة، وأبوا أن يسلموه، وكتبوا إلى المنتصب بغرناطة في ذلك فآل الأمر إلى أن ركب سفينه وسار في البحر، وليس معه سوى أربعة نفر. وقدم تونس مترامياً على متملكها أبي فارس عبد العزيز الحفصي، وبلغ ألفنش متملك قشتلة ما تقدم ذكره، فجمع جنوده من الفرنج، وسار يريد أغرناطة في جع موفور، فبرز إليه القائم المذكور بغرناطة، وحاربه، فنصره الله على الفرنج، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم ما يجل وصفه.
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة: في سابعه: خلع على الأمير جرباش قاشق أمير مجلس، واستقر نائب طرابلس، عوضاً عن الأمير قصروه، ونقل قصروه إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير شارقطلوا. وكتب بحضور شارقطلوا. وقدم رسول صاحب رودس يسأل الأمان، وأن يعفي من تجهيز العسكر إليه، وأنه يقوم بما يطلب منه، فأركب فرساً، وفي صدره صليب من ذهب وطلع القلعة، وقبل الأرض بين يدي السلطان، وأدى رسالة، ثم نزل إلى القاهرة.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره: عملت الخدمة بدار العدل من قلعة الجبل، وجيء برسل رودس، فقدموا هدية قومت بستمائة دينار، وقرئ كتابهم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره: قدم ميخائيل بطركا لليعاقبة، عوضاً عن غبريال. وكان ميخائيل هذا أحد الرهبان بدير شعران من طرا.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في خامسه: خلع على ملك قبرس خلعة السفر.
وفي تاسعه: قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي كاتب السر بدمشق معزولاً.
وفي عاشره: قبض على الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وأخرج مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها، فاتفق أمر عريب، وهو أن رجلاً من مباشريه لما بلغه القبض عليه خرج إلى القلعة، فوافي نزول أستاذه مقيداً، فجعل يصيح ويبكى وهو ماش معه حتى وصل إلى ساحل النيل، وأحضر أستاذه في الحراقة، أشتد صراخه حتى سقط ميتاً.

وفي خامس عشره: خلع على الأمير أركماس الظاهري، واستقر رأس نوبة، عوضاً عن تغري بردي المحمودي، وأنعم عليه بإقطاعه، وأنعم بإقطاع أركماس وتقدمته على قاني باي البهلوان. وأنعم بطبلخاناه البهلوان على سودن ميق، وهذا المحمودي من جملة المماليك الناصرية فرج بن برقوق، ربي عنده صغيراً، ثم خدم بعد قتل الناصر عند الأمير نوروز الحافظي بدمشق، فلما قتل نوروز سجنه المؤيد شيخ بقلعة المرقب، فما زال مسجوناً بها حتى تنكر المؤيد على الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس وسب بالمرقب مع المحمودي وأينال الششماني، فرأى تغري بردي المحمودي في ليلة من الليالي مناماً يدل على أن برسباي يتسلطن، فأعلمه به، معاهده على أن يقدمه إذا تسلطن، و يعترضه بمكروه، فلما كان من سلطة الأشرف برسباي ما كان، وتقدمته للمحمودي ما ذكر فيما مضى، وتمادى الحال إلى أن بات على عادته بالقصر، فقال لبعض من يثق به من المماليك ما تقدم من منامه وهو بالمرقب، وأنه وقع كما رأى وأنه أيضاً رأى مناماً يدل على أنه يتسلطن ولا بد. فوشى ذلك المملوك به إلى السلطان، فحرك منه كوامن، منها أن المحمودي غره منامه وتحدث بما كان يجب كتمانه حتى أشيع عنه وصار يقول: أنا لما حجبت أحضرت ابن عجلان، ولما مضيت إلى قبرس أسرت ملكها، أين كان الأشرف حتى يقال هذا لسعده؟ والله ما كان هذا إلا بسعدي. وينقل كل ذلك إلى السلطان ومع هذا يبدو منه في حال لعبه بالكرة مع السلطان دالة، وقديماً قيل الملك ملول.
وفي سادس عشره: سار ملك قبرس ورسل رودس في النيل إلى الإسكندرية ليمضوا منها إلى بلادهم، فكان هذا من الفرج بعد الشدة.
شهر رجب، أوله الاثنين.
فيه قدم الخبر بموت المنصور عبد الله بن أحمد الناصر صاحب اليمن، وتملك أخيه الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر.
وفيه استقر القسيس أبو الفرج بطركاً للنصارى اليعاقبة، عوضاً عن ميخائيل بعد صرفه لطعن النصارى فيه، وكان يعلم أولاد النصارى بالمقيس، فرغبوا في ولايتا وتسمى لما ولي يوحنا.
وفي ثامنه: قدم الأمير شارقطلوا من حلب فخلع عليه واستقر أمير مجلس عوضاً عن جرباش قاشق المنتقل لنيابة طرابلس، وقد كانت شاغرة هذه المدة.
وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج، وحملت كسوة الكعبة على العادة، حتى شاهدها السلطان.
وفي تاسع عشره: توجه زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وزعيم الدولة على الهجن إلى بلاد الشام لعمارة سور حلب، وغير ذلك من المهمات السلطانية، بعد ما قدم خيوله وأثقاله بين يديه، قبل ذلك بأيام.
وفي هذه الأيام: انحط سعر الغلال عند دخول الغلال الجديدة حتى أبيع الأردب القمح من مائة وعشرة دراهم فلوساً إلى ثمانين درهماً، والشعير كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار، وأبيع الرطل من لحم الضأن السليخ بستة دراهم فلوساً، ولحم البقر بأربعة دراهم، والرغيف الخبز بنصف درهم فلوساً، فيشتري بالدرهم الفضة أربعون رغيفاً، ولم نعهد مثل ذلك فلله الحمد.
وفي هذا الشهر: هدمت إحدى المآذن الثلاثة اللاتي أنشأهن المؤيد شيخ بجامعه، وهي الصغرى التي تشرف على صحن الجامع، لميلها وخوف سقوطها، ثم جددت.
وفيه كثر عبث الفرنج في البحر، وأخذوا مراكب مشحونة بضائع للمسلمين، يقال عدتها ثماني مراكب، أخرها مركبان قدمتا من بلاد العلايا حتى قاربتا ميناء الإسكندرية أخذتا، ولا قوة إلا بالله.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه ابتدئ بقراءة الحديث النبوي بالقصر السلطاني من القلعة، على العادة التي استجدت، ورسم أن لا يحضر أحد من القضاة المعزولين، وأن لا يكون من الحاضرين بحث في حال القراء، وقد كان يقع بينهم في بحوثهم ما لا يليق.
وفيه رسم بعزل نواب قضاة القضاة، وأن يقتصر الشافعي من نوابه على عشرة، والحنفي والمالكي كل منهما على ثمانية، والحنبلي على ثلاثة، فهموا بذلك أو كادوا. ثم عادوا لما نهوا عنه، كما هي عادتهم.
وفي رابع عشره: أخذ قاع النيل بالمقياس، فكان خمسة أذرع، وخمسة عشر إصبعاً.
وفي يوم السبت خامس عشرينه - وسابع عشرين بؤونة - : ابتدئ بالنداء في الناس بزيادة النيل ثلاثة أصابع.

وفيه أيضاً اتفق حادث فظيع، وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدي السلطان، فإذا هو أقرع، فسخر منه من هنالك من الجراكسة، فسأل السلطان أن يجعله كبير القرعان، ويوليه عليهم، فأجابه إلى ذلك، ورسم أن يكتب له به مرسوم سلطاني، وخلع عليه، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه، وصار يأمر كل أحد بكشف رأسه حتى ينظر إن كان أقرع الرأس أو لا، وجعل على ذلك فرائض من المال؛ فعلى اليهودي مبلغ عينه، وعلى النصراني مبلغ، وعلى المسلم مبلغ، بحسب حاله ورتبته، ولم يتحاش من فعل ذلك مع أحد، حتى لقد فرض على الأمير الأقرع عشرة دنانير، وتجاوز حتى جعل الأصلع والأجلح في حكم الأقرع ليجبيه مالاً فكان هذا من شنائع القبائح، وقبائح الشنائع، فلما فحش أمره نودي بالقاهرة يا معشر القرعان لكم الأمان فكانت هذه مما يندر من الحوادث.
وفي هذا الشهر: كثر رخاء الأسعار حتى أبيع كل أربعة أردب شعير بدينار، وفي الريف كل خمسة أرادب بدينار، وأبيع الفول كل ثلاثة أرادب بأقل من دينار، وأبيع القمح كل أردبين بأقل من دينار، وأقبلت الفواكه إقبالاً زائداً على المعهود في هذه الأزمنة، وكثرت الخضروات، ولله الحمد. ونسأل الله حسن العاقبة. فإنك مع هذه النعم الكبيرة لا تكاد تجد إلا شاكياً لقلة المكاسب، وتوقف الأحوال، وفشو الظلم، والإعراض عن العمل بطاعة الله، سبحانه وتعالى سيما من يقيم الحدود.
شهر رمضان، أوله الخميس: فيه فتح الجامع الذي أنشأه الأمير جانبك الدوادار قريباً من صليبة جامع ابن طولون، وأقيمت به الجمعة ثانية، وجاء من أبهج العمارات وأحسنها.
وفي سابع عشره: قدم زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، بعد ما انتهى في سفره إلى مدينة حلب، ورتب عمارة سورها، فعمل به بين يديه في يوم واحد ألف ومائتا حجر، وبعد صيته، وانتشر ذكره، وعظم قدره، وفخم أمره، في هذه السفرة، بحيث لم ندرك في هذه الدولة المتأخرة صاحب قلم بلغ مبلغه. فلما نزل ظاهر القاهرة خرج الأمير جانبك الدوادار وطائفة من الأمراء وسائر مباشري الدولة، وعامة الأعيان إلى لقائه، فصعد القلعة، وخلع عليه، ونزل إلى داره في موكب جليل، وقد زينت له الأسواق، وأشعلت له الشموع وجلس الناس لمشاهدته، فسبحان المعطي ما شاء من شاء.
وفي حادي عشرينه: قبض على عبد العظيم ناظر الديوان المفرد، وأسلم إلى الأمير زين الدين عبد القادر أستادار على مال يحمله، ثم أفرج عنه بعد أيام.
وفي ثالث عشرينه: طلع عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط بهدية إلى السلطان، وفيها مائتا فرس وحلي ما بين زركش ولؤلؤ برسم النساء، وثياب صوف، وفرو سمور، وغيره مما قيمته نحو العشرين ألف دينار، وعم المباشرين والأمراء بأنواع الهدايا.
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه - وسابع عشرين أبيب - : نودي على النيل بزياداً إصبع واحد لتتمة عشر أذرع وتسعة عشر إصبعاً، فنقص من الغد أربعة أصابع إلا أن الله تدارك العباد بلطفه، ورد النقص، وزاد، فنودي يوم الخميس تاسع عشرينه بزيادة سبعة أصابع ولله الحمد.
شهر شوال، أوله السبت: في أثناء هذا الشهر قدم الخبر بأن مراد بن محمد كرشجي بن بايزيد بن عثمان، صاحب برصا من بلاد الروم، جمع لمحاربة الأنكرس - من طوائف الروم المتنصرة - وواقعهم، عدة من عسكره، وهزموا وأن مدينة بلنسية التي تغلب عليها الفرنج - مما غلبوا عليه من بلاد الأندلس - خسف بها وبما حولها نحو ثلاثمائة ميل، فهلك بها من النصارى خلائق كثيرة، وأن مدينة برشلونة زلزلت زلزالاً شديداً، ونزلت بها صاعقة، فهلك بها أمم كثيرة، وخرج ملكها فيمن بقي فارين إلى ظاهرها، موقع بهم وباء كبير.
وفي يوم الخميس عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية، ظاهر القاهرة، ورفع منها ليلاً إلى بركة الحاج على العادة، فتتابع خروج الحجاج.

وفي يوم الجمعة حادي عشرينه - الموافق له ثاني مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان حتى خلق عمود بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، و لم تزين الحراريق في هذه السنة، ولا كان للناس من الاجتماعات بمدينه مصر والروضة على شاطئ النيل ما جرت به عادتهم في ليالي الوفاء، وذلك أن النيل توقفت زيادته من أوائل مسرى، وأقام أياماً عديدة لا ينادي عليه في كل يوم سوى إصبع أو إصبعين، وأجرى الله العادة في الغالب من السنين أن تكون زيادة النيل المبارك منذ يدخل شهر مسرى في كل يوم عدة أصابع، فيقال: في أبيب يدب الماء في دبيب، وفي مسرى تكون الدفوع الكبرى. فجاء الأمر في نيل هذه السنة بخلاف ذلك، حتى ظن الناس الظنون، وتوقف خزان الغلال عن بيعها، وأخذ غالب الناس في شراء الغلال خوفاً من ألا يطلع النيل، فمنع السلطان من تزيين الحراريق، ومن اجتماع الناس بشاطئ النيل لانتظار الوفاء، فانكف عن منكرات قبيحة، كانت تكون هناك ولله الحمد، فإنه تعالى أغاث عباده وأجرى النيل بعد ما كادوا يقنطوا.
وفي هذا الشهر - والذي قبله - : كثر عبث المماليك الجلب الذين استجدهم السلطان، وتعدى فسادهم إلى الحرم. وهذا أمر له ما بعده.
وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً، فما أصبح يوم الخميس إلا وقد نقص.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: وكان النيل قد توقف عن الزيادة من يوم الخميس، والناس على ترقب مكروه، وإن لم يتدارك الله بلطفه فإنه نقص ثلاثة أصابع، وجمع السلطان القضاة والمشايخ عنده، وقرئت سورة الأنعام أربعين مرة في ليلة الأحد.
هذا ودعوا الله أن يجري النيل، ثم ركب السلطان من يوم الثلاثاء ثالثه إلى الجرف الذي يقال له الرصد ووقف بفرسه ساعة، وهو يدعو، ثم عاد إلى القلعة. فلما كان يوم الخميس خامسه، نودي بزيادة إصبع بعد رد الثلاثة الأصابع اللاتي نقصت، فسر الناس ذلك، لأن الغلال ارتفع سعرها، وشره كل أحد في طلبها، وشحت أنفس خزانها ببيعها.
وفي عاشره: قدم الخبر بأن قاضي دمشق - نجم الدين عمر بن حجي - وجد مدبوحاً في بستانه بالنيرب خارج دمشق، ولم يعرف قاتله.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير قاني باي البهلوان - أحد مقدمي الألوف - واستقر في نيابة ملطية، عوضاً عن الأمير أزدمر شاية وعين معه عدة من المماليك، وأن يتوفر له إقطاعه بديار مصر، عوناً له على قتال التركمان، وأن يستقر أزدمر شاية أميراً بحلب. وقانباي هذا أحد المماليك الناصرية فرج، وخدم بعد قتل الناصر عند أمراء دمشق، ثم اتصل بخدمة الأمير ططر فلما تسلطن بدمشق أنعم على قاني باي هذا بإمرة طبلخاناه بمصر، وقدم معه، ثم نقل إلى إمرة مائة حتى ولي نيابة ملطية.
وفي هذا اليوم: أخذ النيل في النقصان، بعد ما انتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً، وستة أصابع، ويوافق هذا اليوم ثامن توت، وهذا هبوط في غير أوانه، فما لم يقع اللطف الإلهي بعباد الله، وإلا عظم الخطب.
وفي العشر الأخير: من هذا الشهر تكالب الناس على شراء القمح ونحوه من الغلال، وارتفع الأردب إلى مائتي درهم، والشعير والفول إلى مائة وخمسين، وتعذر وجود ذلك لشح الأنفس ببيع الغلال، مع كثرتها بالقاهرة والأرياف، فرسم السلطان للأمير أينال الششماني المحتسب أن لا يمكن أحداً من الناس بيع القمح بأزيد من مائة وخمسين درهماً الأردب، وأن لا يشتري أحد أكثر من عشرة أرادب، وسبب ذلك أن الناس ترقبوا الغلاء، فأخذ أرباب الأموال في الاستكثار من شراء الغلال ظناً منهم أن يبيعوها إذا طلبها المحتاجون بأغلى الأثمان، حتى أن بعض من لم يكن شيئاً مذكور اشترى في هذه الأيام ألف أردب من القمح، وكم أمثال هذا، فالله يحسن العاقبة.
وفي سابع عشرينه: كمل نقص النيل مما زاده ستة عشر إصبعاً، ثم أغاث الله عباداً بعد ما كادوا أن يقنطوا. ونودي في يوم السبت ثامن عشرينه بزيادة إصبعين من النقص. واستمرت الزيادة في يوم الأحد والاثنين، فسكن قلق الناس قليلاً.

وفي يوم الجمعة: هذا قدم الأمير صارم الدين إبراهيم بن رمضان أحد أمراء: التركمان، ونائب طرسوس وأذنة، ونائب الملك، وقد عزل وفر إلى ابن قرمان ليحميه، فأسلمه إلى قصاد السلطان خوفاً من معرة العسكر، فقيد وحمل من بلاد قرمان حتى قدم به كذلك، فسجن.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. واستقر في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن أبيه، وهو شاب صغير لم يستتر عذاريه بالشعر، لكن قام بمال كبير، فلم يلتفت مع ذلك لحداثة سنه، ولا لكونه ما قرأ ولا درى، وقديماً قيل:
تعد ذنوبه والذنب جم ... ولكن الغني رب غفور
شهر ذي الحجة.
أهل بيوم الثلاثاء، ووافقه من شهور القبط خامس عشرين توت.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعاً وإصبعين، بعد تراجع نقصه. وهبط شيئاً بعد شيء، فكثر شراقي الأراضي بالوجه القبلي والوجه البحري لقصور زيادة النيل وسرعة هبوطه.
وفي سابع عشره: خلع أياس أحد المماليك، واستقر نائب السلطة بالعلايا، ورسم أن يجهز معه طائفة من العسكر ليسيروا في البحر، وسبب ذلك أن صاحب العلايا الأمير قرمان بن صوجي بن شمس الدين ألجأته الضرورة إلى أن قدم منذ شهر بأهله مترامياً على السلطان في أخذه بلاد العلايا منه، وأن يقيم بخدمة السلطان حتى تدخل في الحوزة السلطانية.
وفيه جهز تشريف إلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان وقد ورد كتابه يرغب فيه أن يدخل في الطاعة السلطانية وينتمي إلى أبوابها، والتزم بإقامة الخطة للسلطان ببلاد الروم وضرب الصكة باسمه، ويستمر في نيابة السلطة ببلاد قرمان، فأجيب إلى ذلك، وكتب له التقليد، وجهز معه التشريف.
وفيه جهز أماج - أحد الدوادارية - إلى الأمير ناصر الدين محمد بن خليل بن دلغار نائب أبلستين، ليجهز عدد أغنام التركمان، على ما جرت به العوايد القديمة، وإلا داست العساكر بلاده.
وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، وقل طالبها، وكثر كسادها، مع كثرة الشراقي في أراضي مصر لقصور زيادة النيل، وسرعة هبوطه، وعدم العناية بعمل الجسور فكان هذا من جميل صنع الله تعالى وخفي لطفه، إن الله بالناس لرءوف رحيم.
وفي تاسع عشره: رسم بعرض المماليك على السلطان بآلة الحرب، فأخذوا في الاستعداد لذلك، وطلب الأسلحة بعد كسادها مدة وبوار أربابها وصناعها، فنفقت سوقها وربحت تجارتهم، واشتغل بعملها صناعهم.
وفيه ركب السلطان بثياب جلوسه، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب النصر عائداً إلى القلعة، ونظر في ممره وقف الشهابي بخط باب الزهومة ليؤخذ له، وهو من جملة الأوقاف التي ينصرف فيها القاضي الشافعي ويصرفها على ما يراه من وجوه البر، إلا أنه تشعث واحتاج إلى العمارة، فإنه قدم عهده مع كثرة مساكنه، وضاق الحال عن إصلاحه، فوجدوا ارتفاعه في الشهر عن الفندق الذي يعرف بخان الحجر وعلوه وما جاوره من الحوانيت وعلوها في الشهر ثلاثة آلاف درهم فلوساً، عنها نحو أربعة عشر ديناراً أشرفية، فقومت أنقاضه كلها بألفي دينار، وصارت للسلطان بالطريقة التي صار يعمل بها، ولم يقبض المبلغ المذكور للمتولي، بل وعد أنه إذا عمر هذا الوقف للسلطان جعل منه في كل شهر ثلاثة آلاف درهم لجهة الأوقاف الجكمية فمشى الحال على ذلك.

وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج ورخاء الأسعار بمكة، وأنه قرئ مرسوم السلطان بمكة بمنع الباعة من بسط البضائع أيام المواسم في المسجد الحرام، ومن ضرب الناس الخيام بالمسجد على مصاطبه وأمامها، ومن تحويل المنبر من مكانه إلى جانب الكعبة، لأنه عند جره على عجلاته يزعج الكعبة إذا أسند إليها، فأمر أن يترك مكانه مسامتا لمقام إبراهيم عليه السلام، ويخطب الخطيب عليه هناك، وأن تسد أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب، من كل جهة باب واحد، وأن تسد الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد، فامتثل ذلك، وأشبه هذا قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقد سأله رجل عن دم البراغيث فقال: عجباً لكم يا أهل العراق، تقتلون الحسين بن علي وتسألون عن دم البراغيث؟. وذلك أن مكة استقرت دار مكس حتى أنه يوم عرفة قام المشاعلي والناس بذلك الموقف العظيم يسألون الله مغفرة ذنوبهم، فنادى معاشر الناس كافة من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير القاهرة حل دمه وماله للسلطان، فأخر التجار القادمون من الأقطار حتى ساروا مع الركب المصري على ما جرت به هذه العادة المستجدة منذ سنين، لتؤخذ منهم مكوس بضائعهم، ثم إذا ساروا من القاهرة إلى بلادهم من البصرة والكوفة والعراق أخذ منهم المكس ببلاد الشام وغيرها. وهذا لينكر وتلك الأمور يعتني بإنكارها ويسعى أهل البلاد في إزالتها، فيا نفس جدي إن دهرك هازل. ولقد كان السبب في كتابة هذا المرسوم أن رجلاً من العجم يظهر للناس النسك، ولأمراء الدولة فيه اعتقاد، أمرهم بذلك، فأتمروا. وقد أذكرني هذا ما كتب به أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما ولي الخلافة: أما بعد فإنكم بلغتم، بالإقتداء والإتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم، تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعاجم والأعراب القرآن. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا " . ولم يعرف قط أن أبواب المسجد الحرام أغلقت إلا في هذه الحادثة، فإنها أقامت مدة أشهر مغلقة ضج الناس وفتحوا جميع أبواب المسجد على عادتها، واستمر المنع في بقية ما رسم بمنعه إلا جر المنبر، فإنه أيضاً جر على عادته إلى جانب الكعبة في يوم الجمعة.
وقدم من الهند إلى مكة رسولان أحدهما من صاحب كلبرجه واسمه محمود، واسم رسوله شمس الدين الغالي بغا، وصحبته هدية لأمير مكة، وهدية السلطان، ومبلغ ستة آلاف دينار ليشتري به داراً عن الصفا، وتعمر مدرسة، والرسول الآخر من صاحب بنكالة بهدية للسلطان وهدية للخليفة.
ووصل من العراق أحمد وعلي ولدا الشريف حسن بن عجلان. وكان لهما مدة بها، وصحبتهما مال جزيل، فنهب جميعه في الركب العقيلي قريب مكة، ونهبت أموال كثيرة، منها لتاجر واحد مائة جمل محملة بضائع ما بين شاشات وأرز وبهار، وغير ذلك.
وفي رابع عشرينه: قبض بالمدينة النبوية على أميرها الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، فإنه لم يقم بالمبلغ الذي وعد به، وقرر عوضه الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير قشتمر الذي تولى نيابة الإسكندرية، ثم أخرج إلى حلب، فقتل في وقعة التركمان في المحرم، ومستراح منه.
وتوفي بدر الدين محمد بن محمد بن محمد القرقشندي الشافعي، أمين الحكم، في يوم الاثنين رابع عشرين المحرم. ومولده أول المحرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وكان فقيهاً فاضلا ناب في الحكم بالقاهرة سنين، وبرع في الحساب والفرائض، وعمي قبل موته.

وتوفي زاهد الوقت الشيخ أحمد بن إبراهيم بن محمد اليمني، المعروف بابن عرب، في ليلة الأربعاء ثاني ربيع الأول، وحمل من الغد حتى صلى عليه تحت القلعة بمصلى المرمني. ونزل السلطان للصلاة عليه، فتقدم قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي الحنفي فصلى عليه بمن حضر، وكان الجمع موفوراً، ثم أعيد إلى خانكاه شيخو بالصليبة خارج القاهرة، فدفن بها. وهناك كان سكنه، ووجد له مبلغ ألفين وسبعمائة درهم فلوساً. ومن خبره أن أباه كان من أهل اليمن، وسكن مدينة برصا من بلاد الروم، وتزوج بها، فولد أحمد هذا، ونشأ ببرصا، ثم قدم القاهرة شاباً، ونزل خانكاه شيخو، وقرأ على إمام الخمس بها، خير الدين سليمان بن عبد الله فقيراً مملقاً، يتصدق عليه بما عساه يقيم رمقه، ويسد من خلته، وينسخ بالأجرة، ثم نزل بعد مدة في جملة صوفيتها بمبلغ ثلاثين درهماً الشهر فقط، فتعفف عند ذلك عن أخذ ما كان يتصدق به عليه، وانقطع عن مجالسة الناس في بيت بالخانكاه، وترك مخالطتهم وأعرض عن كل أحد، واقتصر على ملبس خشن حقير إلى الغاية، وتقنع بيسير القوت، وصار لا ينزل من بيته إلا ليلاً ليشتري قوته، ثم يطلع إليه، فإذا حاباه أحد من الباعة فيما يشتريه من قوته تركه، وما حاباه به. فلما عرف بذلك تبرك الباعة به، ووقفوا عند ما يشير لهم به، ثم صار لا ينزل من بيته إلا كل ثلاث ليال مرة، بعد عشاء الآخرة، فيشتري قوته، ويعود إلى منزله، ولا يقبل من أحد شيئاً، بحيث أن رجلاً دس في قفته قليل موز وهو لا يشعر فلما رآه عند طلوعه إلى منزله لم يزل يفحص عنه حتى عرفه، فألقى إليه موزه ولم يزرأ منه شيء، وكان يغتسل بالماء البارد شتاء وصيفاً في كل يوم جمعة، ويمضي إلى صلاة الجمعة من أول النهار، ويظل يصلي حتى تقام الصلاة، فيكون قيامه في تركعه هذا بنحو ربع القرآن، من غير أن تسمع له قراءة، إلا أنه يطل قيامه، حتى يجوز أنه يقرأ في كل ركعة بحزبين. ومع محبة الناس له وكثرة تعظيمهم له، صانه الله من إقبالهم إليه، فكان يمر إلى الجمعة، ولا يرى نهاراً إلا إذا راح إلى الجمعة، ولا يرى ليلاً إلا كل ثلاث ليالي إذا نزل لشراء ما يتقوت به، ولا يجسر أحد أن يدنو منه، فإن دنا منه أحد وكلمه لا يجيبه، أقام على ذلك نحو الثلاثين سنة، وفي أثناء ذلك ترك النسخ بالأجرة، واقتصر على الثلاثين درهماً فلوساً في كل شهر، وأفضل منها ما وجد بعد موته، وكان يرى في الليل، وقد قام على قدميه، وقرأ ربع القرآن، وكان يعرف القراءات، ورؤى مرة بسطح الخانكاه، وقد مد يده وفيها فتات الخبز، والطيور تأكل مما في يده، وكان إذا احتاج إلى خياطة خيشة ليلبسها، أو إعانة أحد عند عجزه في آخر عمره عن حمل الجرة الماء التي يتوضأ منها، أعطاه من الفلوس شيئاً ويقول: هذا أجرتك. وكانت تمر به الأعوام الكثيرة لا يتلفظ بكلمة، سوى قراءة القرآن، وذكر الله. وفي كل شهر خادم الخانكاه يحمل إليه الثلاثين درهم، فلا يأخذها إلا عدداً لا وزناً، فإن. المعاملة بالفلوس وزناً حدثت بعد انقطاعه، وبالجملة فلا نعلم أحداً على قدمه في هذا الزمان.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن موسى بن نصير المتبولي المالكي، موقع الحكم في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة. وقد حدث عن محمد بن أزبك، وعمر بن أميلة، وزغلس، وست العرب وجماعة، وناب في الحكم بالقاهرة. وتوفي شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد الزعيفريني الدمشقي، الشاعر في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول. وكان يقول الشعر ويكتب خطاً حسناً، ويزعم علم الحرف، ويستخرج من القرآن الكريم ما يريد معرفته من الأخبار بالمغيبات، وخدع بذلك طائفة من المماليك في أيام الفتن لأوائل دولة الناصر فرج، فتحرك له حظ راج به مديدة؛ ثم ركدت ريحه، وامتحن في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فإنه عثر على أبيات بخطه قد نظمها للأمير جمال الدين يوسف الأستادار يوهمه أنها ملحمة فيها أنه سيملك مصر ويملك بعده ابنه، فقطع الناصر لسانه، وعقدتين من أصابعه ورفق به عند القطع، فلم يمنعه ذلك من النطق، ولزم داره، وأظهر الخرس مدة أيام الناصر، ثم تكلم بعد ذلك، وأخذ في الظهور أيام المؤيد شيخ، فلم يبرح بهرجه، فانقطع حتى مات كمداً.

وهلك بطرك النصارى اليعاقبة غبريال، في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول. وكان أولاً من جملة الكتاب، ثم ترقى حتى ولي البطركية. وكانت أيامه شر أيام مرت بالنصارى. ولقي هو شدائد، وأهين مراراً، وصار يمشي في الطرقات على قدميه، وإذا دخل إلى مجلس السلطان أو الأمراء يقف، وقلت ذات يده، وخرج إلى القرى مراراً يستجدي النصارى، فلم يظفر منهم بطائل، لما نزل بهم من القلة والفاقة، وكانت للبطاركة عوائد على الحطي ملك الحبشة، يحمل إليهم منه الأموال العظيمة، فانقطعت في أيام غبريال هذا، لاحتقارهم له وقلة اكتراثهم به، وطعنهم فيه، بأنه كان كاتباً، وذمته مشغولة بمظالم العباد. وبالجملة فما أدركنا بطركاً أخمل منه حركة، ولا أقل منه بركة.
ومات الأمير الطواشي كافور الصرغتمشي، شبل الدولة، زمام الدار، وقد قارب الثمانين سنة، في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر، وكان من عتقاء الأمير منكلي بغا الشمسي، وخدم دهراً عند زوجته خوند الأشرفية، أخت الأشرف شعبان ابن حسين مدة، ثم خدم في بيت السلطان، فولاه الناصر فرج زمام الدار، وعزل منها بعد موت المؤيد شيخ، ثم أعيد، وكان قليل الشر. أنشأ بحارة الديلم جامعاً، وأنشأ بالصحراء خانكاه، وله عدة مواضع أنشأها بالقاهرة، ما بين رباع غيرها. وخلف مالاً مثيراً. وضرب عنق نصراني في يوم الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الآخر، على أنه ساحر، وقد حكم بعض نواب الحكم المالكية بقتله، واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم.
وتوفي الشيخ بدر الدين محمد بن إبراهيم بن محمد البشتكي في يوم الاثنين ثالث عشرين جمادى الآخرة. وجد في حوض الحمام ميتاً، ومولده في أحد الربيعين، من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. وكان أحد أفراد الزمان في كثرة الكتابة، ينسخ في اليوم خمس كراريس، فإذا تعب اضطجع على جنبه، وكتب كما يكتب وهو جالس. فكتب ما لا يدخل تحت حصر، ومن النسخ كانت معيشته، مع نزاهة النفس، وحدة المزاج، والإقتداء بالسنة، والتمذهب لابن حزم الظاهري، وكان يقول الشعر، ويذاكر بما شئت من أنواع العلوم، فالله يرحمه. ولقد أوحشنا فقده، و لم يخلف مثله بعده.
ومات نجم الدين عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد السعدي الحسباني الدمشقي الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بديار مصر، في ليلة الأحد مستهل ذي القعدة، عن ثلاث وستين سنة، وقد نقب عليه بستانه بالنيرب خارج دمشق، ودخل عليه وهو نائم عدة رجال فقتلوه، وخرجوا من غير أن يأخذوا له شيئاً فلم يرع زوجته إلا به وهو يضطرب. وكان أبوه من فقهاء دمشق، ونشأ بها، وولي قضاءها بعد الخراب في واقعة تمرلك. وعزل وأعيد مراراً، ثم ولي كتابة السر فلم ينجح، وخرج منها بأسوأ حال، ثم أعيد إلى قضاء دمشق، فمات وهو قاض. وكان يسير غير سيرة القضاة، ويرمي بعظائم، ولم يوصف بدين قط.
ومات بعدن من بلاد اليمن التاجر شهاب الدين بركوت بن عبد الله المكيني، مولى الحاج سعيد مولى المكين، في سادس ذي الحجة. وقد سكن القاهرة سنين.
وتوفي تقي الدين محمد بن الزكي عبد الواحد بن العماد محمد ابن قاضي القضاة علم الدين أحمد الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة عن المالكية، وهو بمكة في ثالث ذي الحجة، عن ثلاث وستين سنة. وكان بالنسبة إلى سواه مشكوراً.
ومات متملك اليمن الملك المنصور عبد الله بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يحيى بن المنصور عمر بن علي بن رسول في جمادى الأولى، وأقيم من بعده أخوه الأشرف إسماعيل، ثم خلع بعده وأقيم بدله الملك الظاهر هزبر الدين يحيى بن الأشرس إسماعيل في ثالث شهر رجب.
سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة

أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد العباسي، وسلطان الإسلام بمصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي الظاهري الجركسي، ثامن الملوك الجركسة، والأمير الكير الأتابك يشبك الأعرج الساقي، وأمير أخور الأمير جقمق العلاي وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس الأمير شارقطلوا، ورأس نوبة الأمير أركماس الظاهري، والدوادار الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن محمد، المعروف بكاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن بركة، المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي، قاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ومحتسب القاهرة ومصر الأمير أينال الششماني، ووالي القاهرة التاج الشويكي، ونائب الشام سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب الأمير قصروه، ونائب طرابلس الأمير جرباش قاشق، ونائب حماة الأمير جلبان، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني، ومتولي مكة - شرفها الله تعالى - الشريف بركات بن حسن بن عجلان الحسني، ومتولي المدينة النبوية الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز الحسيني، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن مختار بن مقبل بن راجح بن إدريس الحسني، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي.
وأسعار الغلال رخيصة، أما القمح فمن مائة وسبعين درهماً فلوساً الأردب إلى ما دونها، وأما الشعير فمن مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، وأما الفول فبنحو ذلك.
والناس بالنواحي في شغل بزراعة الأراضي، وقد كثر الشراقي في أعمال القاهرة ومصر، لقصور مد النيل، وسرعة هبوطه، على ما تقدم ذكره في السنة الحالية. والعسكر في الاهتمام للعرض على السلطان، والناس قد غلب عليهم في عامة أرض مصر القلة والفاقة، وعدم المبالاة بأمور الدين، والشغل بطلب المعيشة، لقلة المكاسب.
شهر الله المحرم، أوله الأربعاء: في يوم الجمعة ثالثه: قدم الحمل من قبرس، ومبلغه خمسون ألف في ينار، فرسم بضربها دنانير أشرفية، فضربت بقلعة الجبل، حيث يشاهد السلطان الحال في ضربها.
وفي يوم السبت حادي عشره: ركب السلطان من القلعة إلى دار الأمير جانبك الدوادار. يعوده وقد مرض.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحج، وقدم من الغد يوم الخميس ثالث عشرينه المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف خشرم أمير المدينة الشريفة في الحديد، وقدم الأمير بكتمر السعدي من المدينة النبوية، وقدم الحمل من عشور التجار الواردين من الهند إلى جدة وهو أصناف، ما بين بهار، وشاشات، يكون قيمة ذلك نحو الخمسين ألف دينار.
وفي يوم الأحد سادس عشرينه: ابتدئ في هدم خان الحجر وقف الشهابي الششماني وقد أخذه السلطان وألزم سكانه بالنقلة منه. وكانوا أمة كبيرة، قد مرت بهم وبآبائهم فيه عدة سنين، فنزل بهم مكاره كبير، لتعذر وجود مساكن يسكنون بها.
وفي هذا الشهر: كانت فتنة بين آل مهنا عرب الشام، قتل فيها الأمير عذراء بن علي بن نعير، واستقر أخوه مدلج عوضه في إمرة آل فضل.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه رسم أن لا يزرع أحد من الناس قصب السكر، وأن يبقى صنفاً مفرداً للسلطان يزرعه في مزارعه بجميع الإقليم، ويعصره عسلاً وقنداً وسكراً، ويبيعه من غير أن يشاركه في ذلك أحد، ثم بطل هذا المرسوم ولم يعمل به، وكثر في هذا الشهر - والذي قبله - أكل الدود للزراعات؛ من البرسيم الأخضر والقمح ونحو ذلك، وسببه شدة الحر في فصل الخريف، وعدم المطر، ومع هذا فأسعار الغلال منحطة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً الأردب، والشعير والفول بتسعين درهماً الأردب.

وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: خلع على محب الدين أحمد بن نصر الله، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنابلة، عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي، وقد عزل لتنكر كاتب السر عليه وسعايته به.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره. خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن عبد العظيم. واستقر عبد العظيم كاشف الجسور بالبهنساوية.
وفي يوم الثلاثاء المبارك تاسع عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل بثياب جلوسه، وشق من باب زويلة شارع القاهرة، حتى خرج من باب النصر إلى خليج الزعفران، فرأى البستان الذي أنشأه هناك، وعاد على تربته التي أنشأها بجوار تربة الظاهر برقوق وصعد إلى القلعة.
شهر ربيع الأول، أوله يوم السبت: ففي ليلة الجمعة: كان المولد النبوي الذي يعمله السلطان، ويحضره بقلعة الجبل، على عادته في كل سنة.
وفي ثالث عشره: أنعم بطبلخاناه الأمير بكتمر السعدي، على الأمير قجقار جقطاي، أحد أمراء العشرات.
وفي تاسع عشره: قدم قاضي القضاة الحنفي بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، وقد ألزم بحمل عشرة آلاف دينار.
وفي عشرينه: قدم قاضي القضاة الشافعي، ونقيب الأشراف بدمشق، شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني. وقد ألزم أيضاً بحمل مال كبير.
وفيه ركب السلطان وشق القاهرة بثياب جلوسه، على عادته.
وفي أخريات هذا الشهر: تحركت أسعار الغلال، وسببه خسة الزرع بالجيزية والوجه البحري لعدم المطر، وتوالى هبوب الرياح المريسية زيادة على ثلاثين يوماً، فلم تسر فيها المراكب.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: أهل والناس على تخوف من سوء حال الزرع، وانكشاف ساحل النيل من الغلال، وقلة وجود القمح مع هذا عدة أيام، وقدمت الأخبار بكثرة أمراض أهل الشام، وكثرة موت الخيول بدمشق وحماة.
وفي ثالث عشرينه: خلع على القاضي شهاب الدين أحمد بن الكشك خلعة الاستمرار في قضاء الحنفية بدمشق وقد حمل مبلغ ألفي دينار بعناية بعض الأمراء به، وكان قد ألزم بمال كثير.
وفي هذه الأيام: تتبعت أماكن الفساد، وأريقت منها الخمور الكثيرة، وشدد في المنع من عصير الزبيب، ومنع الفرنج من بيع الخمر المجلوب من بلادهم.
وفي سادس عشرينه: توجه الشهاب بن الكشك إلى محل ولايته.
وفي هذه الأيام: تشكى التجار الشاميون من حملهم البضائع التي يشترونها من جدة إلى القاهرة، فوقع الاتفاق على أن يؤخذ منهم بمكة عن كل حمل قل ثمنه أو كثر ثلاثة دنانير ونصف، ويعفوا من حمل ما يتبضعونه من جدة إلى مصر، فإذا حملوا ذلك إلى دمشق أخذ منهم مكسها هناك، على ما جرت به العادة.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في خامسه: غضب السلطان على الطواشي فيروز الساقي، وضربه وأخرجه إلى المدينة النبوية.
وفي سادسه: هدمت الحوانيت المعروفة بالصيارف وبالسيوفيين، فيما بين الصاغة ودرب السلسلة. وكانت في أوقاف المدارس الصالحية، فأخذت باسم ولد الأمير جانبك الدوادار، لتعمر له مما ورثه من أبيه.
وفي ثاني عشرينه: برز من القاهرة طائفة من العمار، ونزلوا بركة الحجاج، وساروا منها يريدون مكة في رابع عشرينه.
وفي سادس عشرينه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان إلى دمشق، بعد ما حمل ثلاثة آلاف دينار، وألزم بحمل خمسة آلاف دينار من دمشق، سوى ما أهدي إلى أرباب الدولة، وهو بمال جم.
وفي هذا الشهر: انحلت أسعار الغلال وكسدت.

وفيه كانت الفتنة الكبيرة. بمدينة تعز من بلاد اليمن. وذلك أن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول لما مات قام من بعده ابنه الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل، وقام بعد الملك الناصر أحمد ابنه الملك المنصور عبد الله بن أحمد، في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ومات في جمادى الأولى سنة ثلاثين، فأقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس فتغيرت عليه نيات الجند كافة من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبة إلى علي بن بولان العكي، فإنه أخر صرف جوامكهم ومرتباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثرت حساده، لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه. وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، وإطراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلها، فسألوا أن ينفق فيهم أربعة دراهم لكل منهم، يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرض في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففسح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة ،والسلطان غني عنهم. فهيج هذا القول حفائظهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسوءوا شيئاً، بل نشق كل عشرة في موضع، وهم أعجز من ذلك.
فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا: قبيل المغرب، هجم جماعة من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق، فرقة دخلت من باب الدار وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف - وقد اختفى بين نسائه وتزيا بزيهن - فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي فقال لهم: ما لكم في قتلى فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته في طبقة المماليك، ووكلوا به وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريباً من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليخرج الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من ثعبات فامتنع أمير البلد من الفتح ليلاً، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف. هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميع ما في دار السلطان، وأفحشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرم الله، و لم يدعوا في الدار ما قيمته الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحصر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة.

فلما أصبح يوم الجمعة عاشره: اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم، ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تم غير يحيى، فاطلعوا له هذه الساعة. فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبواب مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه، أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع. ففكوا القيد من رجليه، وطلبوا العسكر بأسرهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الاصطبل السلطاني في عدة بغال فتقدم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلف لنا أنه لا يحدث علينا منك سوء بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبق قبلها،. فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعددون عليه الأيمان، ويتوثقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحب ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يوماً مشهوداً. وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مقيداً به، وسجنوه بالدار التي كان مسجوناً بها، ثم حمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس. بما كان له، وخلع عليه، وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة.
وكان الذي حرك هذا الأمر بنو زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي، فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتهن بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعصرا على كعابهما وأصداغهما، وربطا من تحت إبطهما، وعلقا منكسين، وضربا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأخذ من ابن العلوي - ما بين نقد وعروض - ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام مبلغ ثلاثين ألف دينار، واستقر برقوق أمير جندار، واستقر الأمير بدر الدين محمد الشمسي أتابك العسكر، واستقر ابنه العفيف أمير أخور، ثم استقر الأمير بدر الدين المذكور أستادارا، وشرع في النفقة على العسكر، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر، بأجمعهم فإن له قوة وشجاعة، حتى أن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جره، مدحه الفقيه يحيى بن رويك بقصيدة، أولها:
بدولة ملكنا يحيى اليماني ... بلغنا ما نريد من الأماني
سيحيى بابن إسماعيل يحيى ... أناس أدركتهم موتتان
فكتب بخطه على الحاشية الموتتان هي دولة المنصور والأشرف،. وكانت عدة هذه القصيدة أحد وأربعين بيتا، فقال: ثمنوها. وأجاز عليها بألف دينار أحضرت له في المجلس وبهذه الكائنة اختل ملك بني رسول.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في خامسه: أنعم علي الأمير شارقطلوا، وخلع عليه، فاستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن يشبك الساقي، بحكم وفاته.

في سادسه: أحضرت هدية ملك كلبرجة من الهند، وهي أربعة سيوف، وستة عشر جمالاً، عليها شاشات وأزر، وقد أهدى إلى غير واحد من أعيان الدولة، وسأل أن تمكن رسله من بناء رباط بالقدس، وكان من خبر الهند أن بلاد الهند قسمان، قسم بيد أهل الكفر وهم الأكثر، وقسم بأيدي المسلمين. وكان ملك الهند صاحب مدينة دله، وهي قاعدة الملك. وكان ملكها فيروز شاه بن نصرة شاه من عظماء ملوك الإسلام، فلما مات، ملك دله بعده مملوكه ملو وعليه قدم الأمير تيمور لنك بعد سنة ثمانمائة، وأوقع بالهند وقيعة شنعاء، وخرب مدينة دله، وعاد إلى بلاده، فأتى بلاد الشام بعد ذلك. وكان ملو قد فر منه، فعاد مسير تيمور لنك إلى دله، ومضى منها إلى ملطان فخرج عليه خضر خان بن سليمان، وحاربه فقتل في الحرب. وكان قد ملك دله دولة يار، فنازله خضر خان وحصره مدة، ففر منه، وملك خضر خان دله حتى مات، فقام من بعده ابنه مبارك شاه بن خضر خان هذا، وقد انقسمت بعد أخذ تيمور مدينة دله مملكة الهند، وصار بها عدة ملوك، أجلهم ملك بنجالة، وملك كلبرجة، وملك بزرات. فأما بنجالة فقام بها رجل من أهل سجستان يقال له شمس الدين، فلما مات قام من بعده ابنه اسكندر شاه ثم ابنه غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، ومات سنة خمس عشرة وثمانمائة فملك بعده ابنه سيف الدين حمزة، فثار عليه مملوكه شهاب الدين وقتله، فلم يتهن بعد أستاذه، وأخذه الكافر فندو، وملك بنجالة وما معها، فثار عليه ولده - وقد أسلم - وقتله، وملك بنجالة، وتسمى. بمحمد، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب بجلال الدين، ثم جدد ما دثر أيام أبيه فندو من المساجد، وأقام معالم الإسلام.
فأما كلبرجة فإن محمد شاه صاحب مدينة دله، بعث إليها حسن بهمن، فأخذها له، وأقام نائبها عن محمد شاه حتى مات، فقام ابنه أحمد بن حسن بهمن، ثم قام بعد أحمد ابنه فيروز شاه بن أحمد بن حسن بهمن ثم قام بعده أخوه شهاب الدين أحمد أبو المغازي بن أحمد بن حسن بهمن، وهو الذي بعث الهدية المذكورة.
وأما بزرات وكنباية فإن ظفر خان كان ساقيًا عند الملك فيروز شاه بن نصرة شاه صاحب دله، فولاه كنباية على ألف ألف تنكة حمراء عنها من الذهب ثلاثة آلاف ألف مثقال وخمسمائة ألف مثقال. وكان ظفر هذا كافراً، وله أخ اسمه لاكه. وفي ولايته خرب تيمور دله، فقام عليه ابنه تتر خان وسجنه، وصانع تيمور فأقره، فلما سار تيمور عن الهند، خرج لاكه على ابن أخيه تتر خان وقتله، وأعاد أخاه ظفر خان إلى ملكه، فوثب أحمد خان بن تتر خان بن ظفر خان على جده، وقتله، وأحرق عم أبيه لاكه، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة. وقد أسلم وتلقب بالسلطان. وما عدا هذه المماليك الثلاثة، فإنها دونها كديوه ومهايم وتانه ونحو ذلك مما هو بأيدي المسلمين.
وفي ثامن جمادى: المذكور خلع على الأمير الكبير شارقطلوا، واستقر في نظر المارستان المنصوري بالقاهرة، ونزل إليه على العادة.
وفي عاشره: كتب بحضور الأمير صرماش قاشق نائب طرابلس، ليستقر أمير مجلس، وكتب إلى الأمير طرباي المقيم بالقدس بطالاً أن يستقر في نيابة طرابلس، وجهز إليه خيل ليركبها، ورسم لمن في خدمة الأمراء من مماليكه أن يتوجهوا إليه.
وفي تاسع عشرينه: قدمت رسل ملك الروم بمدينة برصا، مراد بك بن كرشجي محمد بن بايزيد، بكتاب وهدية فاحتفل السلطان لقدومهم، وأركب العسكر إلى لقائهم. ومن خبر ملوك الروم أن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان ترك أربعة أولاد: سلمان وهو أكبرهم، ومحمداً، وعيسى، وموسى، فقام بالأمر سلمان، وأقام ببر قسطنطنية في مدينة أدرنة وكالي بولي، وقام أخوه عيسى. بمدينة برصا، وتحاربا، فقتل عيسى، واستبد سلمان. مملكة أبيه، فثار عليه أخوه موسى وحاربه، فقتل سلمان، وملك بعده موسى ببر أدرنة، وقام ببرصا أخوه محمد كرشجي وقاتله، فقتل موسى، واستبد بالمملكة حتى مات فأقيم من بعده ابنه مراد بك بن محمد كرشجي.
وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال بديار مصر وكسدت، فأبيع الأردب القمح بمائة وأربعين فلوساً إلى ما دون ذلك، والشعير بتسعين درهماً الأردب.

وفيه أخذ السلطان خان مسرور والرباع التي تعلوه، وذلك أنه قومت أنقاضه باثني عشر ألف ديناراً، رصد منها تحت يد مباشري السلطان تسعة آلاف دينار لعمارة الربع، فصار النصف والربع للسلطان، وأقبض قاضي القضاة عن ثمن أنقاض الربع ثلاثة آلاف دينار، على أنه إذا كملت يكون ريعه جارياً تحت نظر الحكم العزيز الشافعي، يصرف ريعه فيما كان يصرف فيه ريع الأصل.
شهر رجب، أوله السبت: فيه عملت الخدمة بالإيوان من دار العدل من القلعة، وأحضرت رسل مراد بن عثمان ملك الروم بيرصا. وكان موكباً جليلاً أركب فيه الأمراء ومماليك السلطان، وأجناد الحلقة.
وفيه ابتدئ بهدم خان مسرور.
وفي سابعه: خلع علي القاضي كمال الدين محمد ابن القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن بدر الدين حسين بحكم وفاته. وكان القاضي كمال الدين منذ من عزل نظر الجيش بعد كتابة السر ملازماً لداره على أجمل حالة وأمثل طريقة، من الصيانة والديانة والوقار والسكينة، وتردد الأكابر والأعيان إلى بابه، وكثرت مداراته، وبسط يده بالإحسان.
وفي عاشره: خلع علي عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان العجلوني القدسي أحد خلفاء الحكم الشافعية، واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي. وعز الدين هذا قدم القاهرة بعد كائنة تيمور، فبلونا منه فضيلة ومعرفة بالحديث وغيره، وصحب كاتب السر فتح الله، وناب في الحكم فاشتهر، ثم نوه به ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، وصار يزاحم الأكابر في المحافل، ويناطح الفحول بقوة بحثه وشهامته وغزارة علمه، ونعم الرجل هو. وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة.
وفي تاسع عشره: كتب باستقرار السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسين، وحملت إليه الخلعة والتوقيع على يد نجاب.
وفي ثاني عشرينه: سار القاضي كمال الدين محمد بن البارزي إلى محل ولايته. ولقد استوحشنا لغيبته، فالله يمن علينا بجميل عودته.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير جرباش قاشق من طرابلس، واستقر أمير مجلس.
وفي سابع عشرينه: استدعى السلطان من في سجن القضاة، وأفرج عن عدة من ا لمديونين.
وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال فأبيع الشعير كل أردب بمائة وخمسة وعشرين بعد تسعين وأبيع الفول بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين بعد مائة وأربعين. هذا مع دخول الغلات الجديدة، إلا أن الفأر كثر عبثه في الغلال، ووقعت صقعة في عاشر طوبة من أشهر القبط ببلاد الصعيد، تلف بها أكثر الفول وهو أخضر، وكانت الشراقي كثيرة، فلم يزرع ما شرق من الأراضي وأكلت الدودة مواضع مزروعة و لم يزل الغلاء يترقب في هذه السنة منذ هبط النيل سريعاً، إلا أن الله تعالى أرخى الأسعار لطفاً منه بعباده " إن الله بالناس لرءوف رحيم " " الحج، الآية 65 " وقدمت الأخبار بأن أراضي حوران بالشام لم تزرع لعدم المطر، وأن الغلاء قد اشتد بالحجاز لعدم الغيث به. وفيه فشت أمراض حادة في الناس ببلاد الصعيد، وكثر الموتان، لاسيما بمدينة هو، وبوتيج، ومنشية أخميم وما حولها.
شهر شعبان، أوله الأحد: أهل وأسعار الغلال أخذة في الارتفاع، ولم يكد يوجد عند قطاف عسل النحل منه شيء. وهلك النحل من قلة المراعي، وعز وجود الفول لقلة ما تحصل منه عند الدراس، وقل الحمص أيضاً، وخس الكنان.
وفي سادس عشره: توجهت تجريدة عدتها خمسون مملوكاً إلى ينبع.
وكثر الوباء في هذا الشهر بصعيد مصر، فمات بشر كثير.
شهر رمضان، أوله الاثنين: في ثانيه - الموافق لسابع عشرين بؤونة - : نودي على النيل ثلاثة أصابع بعد ما أخذ القاع فكان ثلاثة أذرع وعشر أصابع.
وفيه عزل سعد الدين إبراهيم بن المرة من نظر الديوان المفرد، وولي عوضه زين الدين يحيى، قريب الأمير فخر الدين بن أبي الفرج.
وفي عشرينه: أخرج قانصوه - أحد أمراء الطبلخاناه - لنيابة طرسوس، وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد. وقانصوه هذا أحد مماليك الأمير نوروز الحافظي، وصار إلى المؤيد شيخ بعد قتل نوروز، فرقاه حتى صار أمير طبلخاناه، وهو أحد الفرسان المشهورين، وكبير الطائفة النوروزية.

وفي هذا الشهر: بلغ القمح إلى مائتين وستين درهماً الأردب، وأناف الأردب من الشجر والفول على المائتين، وبلغت البطة الدقيق - وهي خمسون رطلا - ثمانين درهماً.
وفيه قدم إلى الإسكندرية مركبان من مراكب طائفة الفرنج القطلان لأخذ المدينة، فإذا الناس على يقظة وأهبة لهم، فإن متملك قبرس كان قد بعث يحذر منهم، فردهم الله خائبين. وفيه قدم الحمل من قبرس.
شهر شوال، أوله الأربعاء: في حادي عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل، فشق القاهرة، ونظر إلى عمارته، ونزل إلى المارستان المنصوري، فعاد المرضي، وعاد إلى القلعة.
وفي ثاني عشره - الموافق لأول مسرى - : نودي على النيل بزيادة أربعة وعشرين إصبعاً، لتتمة اثني عشر ذراعاً وعشر أصابع، وهذا مما يستكثر من زيادة النيل.
وفي هذه الأيام: هدمت الحوانيت التي تجاه شبابيك المدرسة الصالحية التي بجوار قبة الملك الصالح. وكانت في وقف الجو كندار، وكان هدمها في رابعه.
وفي سادسه: توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى جدة لأخذ مكوس التجار الواردين من الهند، وقد أعيد إلى ولايته.
وفي حادي عشره: سارت تجريدة خمسون مملوكاً، عليها الأمير أرنبغا - أحد أمراء العشرات - وسببها أن الخبر ورد من مكة بأن بني عجلان أخوة الشريف بركات بن عجلان متولي مكة طلبوا من شاهين المتوجه إلى جدة أن يأخذوا مما يتحصل ما كانت عادتهم أخذه في أيام أبيهم الشريف حسن بن عجلان، فمنعهم من ذلك، فهددوه بالقتل، وأن كثيراً من القواد قد قام معهم، فأخرج التجريدة تقوية لابن المرة على حفظ المال.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة، إلا أنه أناخ ببركة الحجاج، و لم ينزل بالريدانية خارج القاهرة، وخرج معه أمير الحاج الأمير قرا سنقر الذي كان كاشف الجيزة، وقد خرج أمير الركب الأول الأمير أينال الششماني المحتسب - أحد رءوس النوب - واستناب عنه في الحسبة دواداره.
وفي خامس عشرينه - الموافق له رابع عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وركب المقام الناصري محمد بن السلطان، ومعه الأتابك شارقطلوا وغيره من الأمراء، حتى خلق المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثامن عشرينه: أمسك الأمير قطش أحد أمراء الألوف، والأمير جرباش قاشق أمير مجلس، وحمل قطش في الحديد إلى الإسكندرية، فسجن بها وأخرج الأمير جرباش قاشق الكريمي بغير قيد إلى دمياط.
وفيه خلع على الأمير أينال الجلالي الأجرود، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير تمراز الدقماقي، وأنعم بطبلخاناته على الأمير تمراز الدوادار، وكتب بإحضار الأمير بيبغا المظفري من القدس، وقد نقل إليها من دمياط من نحو شهر.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وقل طالبها، وعز وجود اللحم بالأسواق، أحياناً.
شهر ذي القعدة الحرام، أوله الجمعة: أهل وأسعار الغلال رخيصة، فأخذت في الارتفاع، وعز وجود التبن، فبلغ الحمل مائتي درهم، وعز وجود اللحم أيضاً، وفقد من الأسواق، وصارت المماليك تخرج إلى الضواحي في طلب التبن لخيولها، فتأخذ بالعسف على عادتها، فامتنع الناس من جلبه من الأرياف، ولم يقدر عليه أحد بعد ذلك، فندب السلطان طائفة من غلمانه للخروج إلى الأرياف بالجمال السلطانيه، وشراء التبن من النواحي، وأن يكون بمائة درهم الحمل، وتوقف الجمال المحملة التبن تحت القلعة، ويباع الحمل منه بمائة وأربعين درهماً، ومنع المماليك من الخروج إلى الضواحي في طلب التبن، وأن لا يشتري أحد التبن إلا من تحت القلعة، فتمشي الحال في وجوده.
وفي هذه الأيام: تعدى سعر القمح ثلاثمائة درهم الأردب، والفول مائتين وستين، والشعير مائتين وثلاثين، وفقدت الغلال من الغراس مع كثرتها، وتوفر زيادة النيل، فإنه بلغ إلى يوم النوروز - وهو يوم الأحد سابع عشره - ثمانية عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً. وهذا مما يستكثر من زيادة النيل، إلا أن الأمراء والأعيان شرهوا في الفوائد، وشاركوا من دونهم في إدخار الغلال وغيرها من البضائع، رجاء الفائدة، فعز وجود الغلال، وارتفع سعرها وفقد الخبز من الأسواق أحياناً، وصارت ولاة الأمور مع ذلك بعيدة عن معرفة طرق المصالح، فإن غاية مقاصدهم إنما هي أخذ المال على كل وجه أمكن أخذه، فلهذا اختلت الأحوال، وضاعت المصالح.

وفي حادي عشرينه: قدم الأمير بيبغا المظفري من القدس، وأنعم عليه بإمرة جرباش قاشق وإقطاعه.
شهر ذي الحجة الحرام أوله السبت: أهل والغلال عزيزة الوجود، مع كثرتها في الشون والمخازن، وإمساك أربابها أيديهم عن بيعها لأملهم فيها غاية الربح، فبلغ القمح أربعمائة درهم الأردب، والبطة الدقيق مائة وثلاثين درهماً، والشعير ثلاثمائة درهم الأردب، والفول بنحو ذلك، وأبيع الفدان البرسيم بألف درهم، ففرج الله عن عباده، وانحل السعر، حتى أبيع القمح بثلاثمائة وخمسين درهماً الأردب وما دونها، وكسدت الغلال حتى لا يجد من يطلبها.
وفي ليلة الخميس سادسه: قبض على الأمير أزبك الدوادار، وأخرج من ليلته إلى القدس بطالا، وقبض على عدة من الخاصكيته، وسبب ذلك أنه في أخريات ذي القعدة الحرام بلغ السلطان أن جماعة من خاصكيته ومماليكه يريدون الفتك به وقتله ليلا، فقبض على عدة منهم في أيام متفرقة، ونفي جماعة منهم إلى الشام وقوص، وعاقب طائفة منهم، فكثرت القالة، واشتد الإرجاف، وأخذ السلطان في الاستعداد والحذر، وسقط عليه مراراً سهام من طباق المماليك، سلمه الله تعالى منها. وبلغه أن المماليك كانت تجتمع بأزبك.
وفي ثامنه: خلع على الأمير أركماس الظاهري رأس نوبة. واستقر دواداراً كبيراً عوضاً عن أزبك، وخلع على الأمير تمراز القادم من غزة، واستقر رأس نوبة عوضاً عن أركماس، وأنعم على الأمير يشبك المشد، وأنعم بطبلخاناه يشبك على أقبغا الخازندار، واستقر الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا خازنداراً عوضاً عن أقبغا، فبلغ الاختصاص بالسلطان مبلغاً كبيراً.
وفي ثاني عاشره - الموفق ثالث عشر توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة زيادته عشرين ذراعاً سواء، وابتدأ نقصه من الغد.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي والي القاهرة، واستقر مهمنداراً عوضاً عن حرز - مضافاً بما بيده من الولاية وشد الدواوين والحجوبية - وهو من مجالسي السلطان في مجالسه الخاصة.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الأمن والرخاء، وأنه قدم محمل من العراق معه أربعمائة جمل تحمل الحاج، جهزه حسين بن علي ابن السلطان أحمد بن أويس من الحلة، وكان قد استولى على ششتر وصاهر العرب، فقوي بهم، وناهض شاه محمد بن قرا يوسف صاحب بغداد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرشمس الدين محمد بن يعقوب النحاس الدمشقي، في يوم الجمعة ثالث المحرم، وهو من عامة دمشق، تشفع بي لما قدمت دمشق في سنة عشر وثمانمائة، أن يلي حسبة الصالحية، ثم قدم القاهرة في سنة اثني عشرة، وولي حسبة القاهرة ثم وزارة دمشق، فلم تحمد سيرته، ولا شكرت طريقته.
ومات أمير الملأ عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، مقتولا، في المحرم.
ومات الأمير بكتمر السعدي، في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول، وكان قد رباه الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب صغيراً في حجور نسائه، فنشأ على أجمل طريقة من الديانة وطلب العلم، وترقى بعد أستاذه حتى صار من أمراء الطبلخاناه، ولم يخلف في أبناء جنسه مثله، ديناً وعلماً وشجاعة ومعرفة.
ومات الشيخ سعيد المغربي في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول. وكان مجاوراً بالجامع الأزهر عدة سنين، وللناس فيه اعتقاد، ويؤثرون عنه كرامات، وترك مالا يبلغ الألفي دينار ذهباً، ما بين ذهب وفضة وفلوس، وقد علت سنه وطال مرضه.
ومات الأمير سيف الدين جانبك الدوادار، في يوم الخميس سابع عشرين شهر ربيع الأول وكان قد رباه السلطان صغيراً، وتقلب معه في تقلباته. فلما تسلطن رقاه حتى صار أجل الأمراء وعذقت به أمور الدولة كلها فاعتبط قبل بلوغ الثلاثين - وكان فطناً ذكياً شهماً - وتولى السلطان تمريضه، ونزل إليه وحضر وفاته، ودفنه وله جامع بهج الذي في الشارع خارج باب زويلة بالقرب من اليانسية.
ومات الأمير أزدمر شايه في سادس شهر ربيع الآخر بحلب، وهو أحد المماليك الظاهرية الذين خرجوا من القاهرة في أيام الفتن، والتحق بالأمير شيخ، وتقلبت به الأحوال معه، فرقاه لما تسلطن حتى صار من أمراء الألوف، ثم خرج في الأيام الأشرفية من القاهرة، و لم يشكر في دينه، ولا في أمر دنياه، بل كان من الظلم والشح والإعراض عن الله بمكان.

ومات الأمير كمشبغا الجمالي في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى. وهو أحد المماليك الظاهرية، ومن جملة أمراء الطبلخاناه، وشهرته جميلة.
ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين يشبك الساقي الأعرج، في يوم السبت ثالث جمادى الآخرة. وهو أحد المماليك الظاهرية الذين خرجوا في أيام الفتن وممن له في تلك الفتن ذكر، وكان أولا من أتباع نوروز الحافظي في قيامه بالشام، ثم صار مع الأمير شيخ، فلم يقبل عليه، ونفاه إلى مكة، ثم حمله منها إلى القدس، فأحضره الأمير ططر بعد موت المؤيد شيخ، وانعم عليه بإمرة، فرقاه السلطان إلى أن صار الأتابك، وهو الذي أثار الفتنة بمكة حنقا على الشريف حسن بن عجلان، حتى وقع بها ما وقع. وكان يقرأ القرآن ويشدو شيئاً من الفقه، ويؤثر عنه ديانه وعفة، إلا عن المال فإن له في الشح والطمع أخبار سيئة.
ومات نجم الدين حسين بن عبد الله السامري الأصل كاتب السر وناظر الجيش، بدمشق يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة وكان من سمرة دمشق، يعاني كتابة الديونة، وخدم عند الأمير بكتمر شلق، وقدم إلينا القاهرة معه في الأيام الناصرية، وهو بزي المسلمين، فلما كانت الأيام الأشرفية جمع له بين كتابة السر ونظر الجيش بدمشق، ولم يجتمعا لأحد قبله، وطالت أيامه وكثر ماله حتى أتاه حمامه، ولم يشهر بفضل ولا دين.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الدايم بن موسى البرماوي، مدرس الصلاحية بالقدس، في يوم الخميس ثاني عشرين جمادى الآخرة، وقد أناف على الستين بل قارب السبعين. كان أبوه يؤدب الأطفال، فنشأ ابنه هذا وطلب العلم حتى برع في الفقه على مذهب الشافعي، وفي الأصول والحديث والنحو، وناب في الحكم بالقاهرة قليلا، ثم خرج إلى دمشق لضيق حاله، فأكرمه قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي، ورفع من مقداره، ثم نوه به لما ولي كتابة السر بديار مصر. وولي الصلاحية بالقدس، حتى مات بها، وله مصنفات مفيدة.
ومات بدر الدين حسن بن أحمد بن محمد البرديني أحد خلفاء الحكم الشافعي في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب، وقد أناف على الثمانين. وكانت فيه عصبية ومحبة لقضاء حوائج الناس. ولم يوصف بعلم ولا دين، صحبناه سنين، ومستراح منه.
ومات الأمير قجقار جقطاي، في يوم الاثنين هذا. وهو أحد أمراء الطبلخاناه الذين أنشأهم المؤيد شيخ، وسار في إقطاعه سيرة جميلة، حتى أنه عمر الخراب، ورفق بالفلاحين، فزرع في أيامه ما كان بوراً.
ومات الأمير جانبك ابن الأمير حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، في يوم الخميس سادس عشرين شعبان، عن نحو ثمانين سنة، وكان من جملة أمراء. الطبلخاناه في أيام أخيه الأشرف شعبان بن حسين، وأقام بقلعة الجبل سنين بطالا، حتر أنزل السلطان الأسياد بني قلاوون إلى القاهرة، فنزل فيمن نزل، ومات وهو قعدد بني قلاوون.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن علي العسقلاني الشامي الحنبلي، في يوم السبت ثامن عشرين شعبان. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة. حدث عن العرضي وغيره بالسماع، وناب في الحكم بالقاهرة سنين. وكان مفيداً.
ومات الأمير سيف الدين إبراهيم - ويقال له حرز - في يوم الخميس ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قدم مع الأمير شيخ من الشام، فولاه ولاية القاهرة، ثم عمله مهمندار فمات وهو يباشر المهمندارية.
سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائةشهر الله المحرم، أوله الاثنين: ففي ليلة الاثنين خامس عشره: حدث مع غروب الشمس برق متوال، تبعه رعد شديد، ثم مطر غزير، واستمر معظم الليل، فلم يدرك بمصر مثله برقاً ورعداً، ولا عهدنا مثل غزارة هذا المطر في أثناء فصل الخريف. وقدم الخبر بأنها أمطرت وقت العشاء من ليلة الاثنين ثامنه بناحية بني عدي من البهنساوية برداً في قدر بيضة الدجاجة وما دونها كبيضة الحمامة، فهلك به من الدجاج والغنم والبقر شيء كثير، فهلك لرجل ستون رأساً من الضأن، وهلك لآخر خمسون رأساً من المعز، و لم يتجاوز هذا البرد بني عدي، وكان مع البرد والمطر راعد مرعب من شدته، وبرق متوال ورياح عاصفة.
وفي هذا الشهر: تتبع الأمير قرقماس حاجب الحجاب مواضع الفساد، فأراق من الخمور وحرق من الحشيشة المغيرة للعقل شيئاً كثيراً، وهدم مواضع، ومنع من الاجتماع في مواضع الفساد.

وفي ثاني عشرينه: قدم ركب الحاج الأول صحبة الأمير أينال الششماني، وقدم من الغد محمل الحاج ببقيتهم.
وحدث في هذا الشهر: ثلاث مظالم، إحداها: أنه كان قد تقرر في العام الماضي مع الفاضي كريم الدين عبد الكريم بن بركة ناظر الخاص أن تعفي تجار الشام ومشهد علي والكوفة والبصرة، الذين يتبضعون من متاجر الهند، من القدوم من مكة إلى القاهرة بضاعتهم، وأن يقوموا عن كل جمل بثلاثة دنانير ونصف، فانتقض ذلك في الموسم بمكة، وألزم سائر التجار أن يحضروا من مكة ببضائعهم صحبة الركب، وتتبعوا، بحيث لم يقدر أحد منهم أن يتأخر بمكة ولا يتوجه إلى الشام، بل حضروا بأجمعهم، وأقيمت عليهم الأعوان في طول الطريق بتفقدهم وبعد أجمالهم، حتى قدموا صحبة الحاج فحل بهم من البلاء ما لا يوصف.
ثانيها: أنه منع بالإسكندرية أن ينصب قبان لوزن بضاعة أحد من التجار، فامتنع الكافة من بيع النهار على الفرنج، وألزم الفرنج بشراء فلفل السلطان المحضر من جدة بمائة وعشرين ديناراً الحمل، وكانت قيمته مع التجار ثمانين ديناراً، فأخذ الفرنج منه ما وصلت قدرة مباشري السلطان أن يبيعوه عليهم، وامتنعوا من أخذ بقيته، ورجعوا بكثير مما حملوه من بضائعهم إلى بلادهم، فشمل التجار وغيرهم من ذلك ضرر كبير.
ثالثها: أنه بلغ السلطان أن التجار الواردة إلى القاهرة من الموصل وحماة ودمشق تربح فيما تجلبه من الثياب المنسوجة من القطن مالاً كثيراً فألزم السماسره أن لا تبيع لأحد من هذا الصنف شيئاً، بل يكون بأجمعه متجراً للسلطان، فأخذ تاجر ومعه ثمانون ثوباً، وأخذ آخر ومعه عشرة ثياب، وقومت، بأقل من ثمنها في بلادها، وكتب إلى بلاد الشام بأن لا تمكن التجار من حمل شيء من ذلك إلى القاهرة، فصادف قدوم قفل من الموصل إلى مدينة حماة بثياب موصلية، فرسم عليهم حتى رحلوا من حماة. مما معهم وعبروا إلى البرية عائدين إلى بلادهم. واحتج عليهم بأنهم ردوهم لأن طول الثياب نقص عن ثلاثين ذراعاً كل ثوب، وأنه لا يمكن أحد منهم أن يبيع ثوباً حتى يكون ثلاثين ذراعاً في عرض ذراع ونصف، وأن لا يكون فيها ثوب يغلو ثمنه، فحل بالناس بلاء لا يمكن حكايته، وخربت الموصل بعد ذلك، وبطل عمل الثياب بها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقدم مع ذلك الحمل من جزيرة قبرس وفيه ثياب صوف، فحملت إلى دمشق، وهي ثمانمائة ثوب، مطرح الثوب بثمانية عشر ديناراً، ويحتاج إلى دينار آخر كلفه، فأبيع أحسنها باثني عشر ديناراً، فخسر كل ثوب سبعة دنانير، وطرح بها أيضاً السكر المعمول بالأغوار على الناس، فلم يكد يسلم أحد من الأخذ منه، ولله عاقبة الأمور.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: فيه جبيت أثمان البضائع بالعسف.
وفي حادي عشرينه: كتب على يد نجاب بحضور الطواشي فيروز الساقي من المدينة النبوية.
وفي رابع عشرينه: خرجت تجريدة لأخذ خيول أهل الغربية والبحيرة.
شهر ربيع الأول، أوله الخميس: فيه ترك طائفة كبيرة من مماليك السلطان الجلب الذين يسكنون الطباق بقلعة الجبل إلى بيت الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، وتسوروا الجدران حتى دخلوه فنهبوا ما فيه، وكان غائباً عنه، وعبثوا في طريقهم بالناس، فأخذوا ما قدروا على أخذه، ثم مضوا إلى بيت ناظر الديوان المفرد، ثم إلى بيت الوزير، فأدركهم مقدم المماليك والزمام، وتلطفا بهم، حتى انصرفوا عن بيت الوزير وسبب ذلك تأخر جوامكهم بالديوان المفرد لشهرين، فلما شكوا ذلك إلى السلطان قال لهم امضوا إلى المباشرين. فنزلوا وكان يوماً شنعاً.
وفي خامسه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية والدراهم اللنكية، فامتنعوا وتصدى جماعة لأخذها بأقل من قيمتها، لعلمهم بأن الدولة لا يمضي لها أمر ولا تثبت على حال، فخسر طوائف من الناس جملة، وربح آخرون.
وفي حادي عشره: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وضرب، ثم خلع عليه من الغد، واستقر على عادته.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة:

أهل وقد ارتفع سعر القمح من أربعمائة درهم الأردب إلى أربعمائة وخمسين والشعير من مائة وثمانين درهماً الأردب إلى ثلاثمائة. والفول بنحو ذلك، وأبيعت البطة من الدقيق بمائة وأربعين درهماً، هذا والبهائم مرتبطة على البرسيم الأخضر. ومن العادة انحطاط أسعار الغلال في مثل هذا الوقت، غير أن الاحتكار على الغلال متزايد، والطمع في غلاء أثمانها كثير.
وفي ثامنه: نودي أن تكون الفلوس بثمانية عشر درهماً الرطل، وقد كان الناس تضرروا من قلة وجود الفلوس، فإن التجار أكثرت من حملها إلى بلاد الهند وغيرها لرخصها بالنسبة إلى سعر النحاس الأحمر الذي لم يضرب.
وفي يوم السبت سادس عشره: وكب السلطان بثياب جلوسه ونزل من قلعة الجبل إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، فأقام عنده قليلا، وعاد إلى القلعة، فحمل إليه عبد الباسط من الغد ألفي دينار، وخيلاً وبغالاً.
وفي هذا الشهر: تكرر ركوب السلطان مراراً.
وفيه ارتفع القمح إلى خمسمائة درهم الأردب، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب، بعد خمسمائة.
وفي سادس عشرينه: تقدم أمر قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر إلى الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بتحمل الشهادات بين الناس أن لا يكتبوا صداق امرأة إلا بأحد النقدين، الدراهم الفضة أو الدنانير الذهب. وأدركناهم يكتبون الصداقات من الذهب والفضة التي هي الدراهم النقرة. فلما راجت الفلوس رسم قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني - رحمه الله تعالى - في سنة ست وثمانمائة أن لا تكتب صداقات النساء، وأجاير الدور، وسجلات الأراضي، وعهد الرقيق من العبيد والإماء، ومساطير الديون، إلا من الفلوس الجدد معاملة القاهرة، فاستمر ذلك إلى الآن.
وفي هذا الشهر: أعيد الحجر على السكر، ورسم أن لا يشتريه أحد ولا يبيعه إلا السلطان، ثم بطل ذلك.
وفيه عثر على بعض تجار العجم المنتمين إلى الإسلام وقد توجه من عند الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج يحثهم على القيام معه لإزالة دين الإسلام وأهله، وإقامة الملة العيسوية، فإنه قد عزم على أن يسير من بلاد الحبشة في البر بعساكره، فتلاقوه بجموعكم في البحر إلى سواحل بلاد المسلمين، فسلك هذا التاجر الفاجر في مسيره من الحبشة البرية حتى صار من وراء الواحات إلى وراء المغرب، وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج، ودعاهم للثورة مع الحطي على إزالة ملة الإسلام وأهلها، واستعمل بتلك البلاد عدة ثياب مذهبة باسم الحطي، ورقمها بالصلبان، فإنه شعارهم، وقدم من بلاد الفرنج في البحر إلى الإسكندرية ومعه الثياب المذكورة وراهبان من رهبان الحبشة، فنم عليه بعض عبيده، فأحيط بمركبه، وحمل هو والراهبان وجميع ما معه إلى السلطان.
وفي هذا الشهر: كشف عن أمر الديوان المفرد واعتبر متحصله في السنة ومصروفه، فإذا هو يعجز مبلغ ستين ألف دينار عن جميع ما يرد إليه من خراج النواحي، والحمامات، والمستأجرات، ورماية البضائع، وغرامات البلاد، فعين له مبلغ ثلاثين ألف دينار برسم المتجر السلطاني وأول ما بدأ به من ذلك تحكير صنف السكر، فلا يدولب زراعة القصب واعتصاره وعمل القند سكر ثم بيع السكر إلا السلطان، وأن توزع الثلاثين ألف الأخرى على الكشاف والولاة، ثم أهمل و لم يتم، ولله الحمد.
وفي هذا الشهر: ألزم دلالو الخيل أن لا يبيعوا فرساً لمتعمم ولا لجندي من أولاد الناس، ثم بطل ذلك.
وفي سادس عشرينه: قدم الطواشي فيروز الساقي من المدينة النبوية باستدعاء، فأعيد على ما كان عليه من الخدمة.
وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وانحط القمح عن خمسمائة درهم الأردب، وفرقت الحمال على الأمراء برسم التجريدة إلى بلاد الشام وحلب.
وفي يوم السبت سلخه: كثر الإرجاف بأخذ خيول الناس من مرابطها على البرسيم بالنواحي، فسارع كل أحد إلى أخذ خيله، وقودها من الربيع إلى الاصطبلات فمنهم من نجا بها ومنهم من عوجل، فأخذت خيله وسلمت إلى أمير أخور، وسبب ذلك أن الخيول شنع هلاكها، فنفق للسلطان ومماليكه نحو الألفي فرس، ثم وقف جماعة للسلطان فأفرج لهم عن خيولهم فأخذوها.

وفي هذا الشهر: هدم علو بيت الأمير منجك بخط رأس سويقة منعم، قريباً من مدرسة السلطان حسن، وأبيعت أنقاضه لرجل بألفي دينار، فباعها هو في الناس، وكان من جملة أوقاف صهريج منجك، وسبب هدمه أن الأمراء كانت تسكنه، ولا تعطي له أجره، فإذا تهدم فيه موضع ألزموا مباشري الوقف بعمارته، ورأى الناس أن هذا فأل رديء فإنه قيل وقع الخراب في بيوت الأمراء.
شهر جمادى الأولى، أوله الأحد: في ثامنه: برز ركب يريد المسير إلى مكة المشرفة، صحبة سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، فيه جماعة كبيرة.
وفي رابع عشرينه: استدعى قضاة القضاة للنظر في أمر نور الدين علي بن الخواجا، التاجر التوريزي المتوجه برسالة الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج، فاجتمعوا بين يدي السلطان، وندب قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي للكشف عن أمره، وإمضاء حكم الله فيه فنقله من سجن السلطان إلى سجنه، فقامت عليه بينة بما أوجب عنده إراقة دمه، فشهر في يوم الأربعاء خامس عشرينه على جمل بمصر وبولاق، ونودي عليه هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدو ويلعب بالدينين. ثم أقعد تحت شباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وضربت عنقه. وكان يوماً مشهوداً، نعوذ بالله من سوء العاقبة.
وفي هذا الشهر: سار الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، إلى النواحي، ففرض على كل بلد مالاً سماه الضيافة، ليستعين بذلك على عجز الديوان المفرد لنفقة المماليك السلطانية فجبي مالاً كثيراً، فإنه كان يأخذ من البلد مائة دينار، ويأخذ من أخرى دون ذلك، على حسب ما يراه، فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد، والله المستعان.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: فيه استدعى شيخ الشيوخ شهاب الدين أحمد بن الصلاح - المعروف بابن المحمرة - شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء إلى مجلس السلطان، وعرض عليه قضاء القضاة بدمشق فقبله، فخلع عليه عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. وكان السلطان قد استدعى قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وسأله بذلك فلم يقبل، وكان منذ صرف عن القضاء ملازماً لداره، وهو مقبل على الميعاد في كل يوم جمعة بمدرسة أبيه، وعلى التدريس والإفتاء.
وفي يوم الثلاثاء ثانيه: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان. وكان الجمال منذ عزل عن كتابة السر مقيماً بالقاهرة.
وفيه كتب بانتقال شهاب الدين أحمد بن الكشك من قضاء الحنفية بدمشق إلى قضاء طرابلس، عوضاً عن شمس الدين محمد الصفدي، ثم بطل ذلك، واستقر الصفدي عوضاً عن ابن الكشك في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي ثامن عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة، والقاضي جمال الدين يوسف بن الصفي إلى محل ولايتهما بدمشق، وعين أحد الخاصكية مسفراً معهما، وأن يحضر الصفدي من طرابلس إلى قضاء دمشق، على أن يأخذ من الثلاثة ألف وثلاثمائة دينار ذهباً، يخص ابن المحمرة منها ثلاثمائة دينار، وتبقى الألف نصفين على ابن الصفي والصفدي، ولم تجر العادة بأن يخرج مسفر مع متعمم.
وفي هذا الشهر: نزل القمح إلى مائتين وثمانين درهماً الأردب، بعد خمسمائة. وأبيع بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد أن كان بثلاثمائة، وأبيعت البطة من الدقيق بتسعين درهماً بعد ما بلغت مائة وخمسين درهماً.
وفيه تتبع والي القاهرة العبيد السود، وقبض على عدة منهم، لكثرة فسادهم، ونفاهم من القاهرة وفيه رسم بأخذ الشعير من النواحي لعجز الديوان عن عليق خيول المماليك السلطانية، فأخذ من شعير الناس ما قدر عليه.
شهر رجب، أوله الأربعاء: أهل والقمح من مائتين وأربعين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشجر بمائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والذهب عزيز الوجود، وقد بلع الدينار الأشرفي إلى مائتين وخمسين درهماً، ورخص اللحم حتى أبيع لحم الضأن بستة الرطل ولحم البقر بأربعة دراهم الرطل.

وفي ثامنه: خلع على جلال الدين أحمد بن بدر الدين محمد بن مزهر بكتابة السر، عوضاً عن أبيه. وله من العمر نحو خمس عشرة سنة، وخلع على شرف الدين أبي بكر ابن سليمان الأشقر الحلبي، واستقر نائب كاتب السر، وألزم ابن مزهر بحمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه، فشرع في بيع موجوده وهو أصناف كثيرة ما بين بضائع للمتجر، وكتب علمية، وثياب بدنه وخيول وجمال ورقيق، وحمل ما ألزم به.
وفي تاسعه: أدير محمل الحج، فكان فيه من نهب المماليك السلطانية لمآكل الباعة، والتعرض للنساء والشباب في ليالي الزينة شناعات، اقتضت تجمع السودان وقتالهم المماليك عدة مرار، فقتل بينهم رجلان.
وفي هذه الأيام: قدم عدة تجار من الموصل، فأخذ منهم ما معهم من الثياب الموصلية، وقومت بما لم يرضيهم، ورسم أن يكون صنف البعلبكي والعاتكي والموصلي للسلطان، لا يشتريه ممن يجلبه إلى القاهرة ويبيعه في الناس إلا هو.
وفيه حكر بيع الحطب من بلاد الصعيد، وجعل من أصناف المتجر السلطاني، وحكر بيع غلات النواحي بأسرها، وجعلت أيضاً من جملة المتجر السلطاني ثم بطل ذلك كله، ولله الحمد.
وفيه طرحت بضائع من المتجر السلطاني على الناس، ولم يعف أحد من التجار عن أخذها فارتفعت الغلة من مائتين وعشرين درهماً الأردب، إلى ثلاثمائة.
وفي ثامنه: أيضاً خلع على شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوي الدمشقي، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نور الدين علي الصفدي وكان قد وليها في الأيام الناصريه فرج، مع نظر الكسوة.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وصحبته القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فحمل النائب تقدمته في ثالث عشرينه، وفيها مبلغ خمسة عشر ألف دينار، وخيل وثياب حرير، وفرو سمور، وغيره، فأخذ السلطان الذهب، وأعاد ما عداه إعانة له على تقادمه للأمراء. وقدم الكمال ثياب حرير وفرو سمور بنحو خمسمائة دينار.
شهر شعبان المكرم، أوله الخميس: في يوم الجمعة ثانيه: نزل من مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة جماعة إلى بيت الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونهبوه لتأخر لحمهم المرتب لهم كل يوم.
وفيه توجه نائب الشام ومن معه إلى دمشق على حالهم، بعد ما ألزم النائب بحمل خمسين ألف دينار، حمل منها خمسة وعشرين، ووعد أن يرسل من دمشق خمسة وعشرين.
وفي ثالثه: خلع على نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق. وكان قد قدم القاهرة، وعمل بالجامع الأزهر عدة مواعيد، دلت على حفظه وتفننه.
وفي سادسه: ثارت فتنة بين طائفة من مماليك السلطان الجلب وبين طائفة من مماليك الأمير الكبير شارقطلوا، فباتوا على تخوف وأصبح الجلب تحت القلعة في جمع كبير، وقد امتنع الأمير الكبير منهم بداره - وهي تجاه باب السلسلة - فماج الناس، وخشوا من النهب، فكانت حركة مزعجة بالقاهرة، من تكالب الناس على شراء الخبز والدقيق، وانتشار أهل الفساد في الشوارع للنهب، ثم سكن الحال، وأقام الجلب يومهم لا يقدرون على الأمير الكبير، لعجزهم وقلة دريتهم بالحرب، وعدم السلاح، فطلب السلطان ثلاثة من مماليك الأمير الكبير وضربهم وسجنهم من أجل أنهم أصل هذه الفتنة، فخمد الشر، ولله الحمد.
وفي خامسه: ورد إلى ميناء الإسكندرية خمسة أغربة للفرنج، وباتوا وقد استعد لهم المسلمون ثم واقعوهم من الغد، وقد أدركهم الأمير زين الدين ابن أبي الفرج أستادار في سابعه. وكان بتروجة ومعه جمع كبير من العرب، فلما اشتد الأمر على الفرنج، انهزموا وردوا من حيث أتوا، في يوم الأحد حادي عشره، ولم يقتل سوى فارس واحد من جماعة ابن أبي الفرج.
وفي ثاني عشره: أنفق السلطان في ثلاثمائة وتسعين من المماليك، كل واحد خمسين ديناراً، وفي أربعة من أمراء الألوف - وهم أركماس الدوادار، وقرقماس حاحب الحجاب، وتغري بردي، ويشبك المشد - كل واحد ألفي دينار، وأنفق في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، فبلغت النفقة نحو الثلاثين ألف ديناراً، ورسم بسفرهم إلى الشام، فتوجهوا في سادس عشرينه.
وفيه سقط موضع مبني على كتاب أطفال، فمات منهم اثني عشر طفلاً، وأصيب تسعة يخاف عليهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بغزة والرملة، من أرض فلسطين.
شهر رمضان، أوله الجمعة:

فيه ابتدئ بهدم حوانيت الصيارف، وسوق الكتب، وحوانيت النقليين والأمشاطيين، فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية، وهي جارية في وقف المارستان المنصوري، لتجدد عمارتها.
وفي رابع عشره: خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وأعيد نظر الديوان المفرد، وكان شاغراً.
وفيه حملت نفقة المماليك السلطانية إلى القلعة لتنفق فيهم على العادة، فامتنعوا من قبضها، وطلبوا زيادة ستمائة درهم لكل واحد.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره - الموافق لسادس عشرين بؤونة - : أخذ قاع النيل وكان خمسة عشر ذراعاً وسبعة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة خمسة أصابع. وفيه زيد في جوامك عدة من شرار المماليك، فسكن شرهم، وأخذوا جميعاً النفقة.
وفي حادي عشرينه: استعفي ابن الهيصم من نظر الديوان المفرد، فأعفي، ولزم على عادته.
وفي هذه الأيام: اشتد فساد المماليك الجلب، وكثر عيثهم وعبثهم بالناس، وأخذهم ما قدروا عليه من مال وحريم، فتجمع السودان وقاتلوهم، فقتل بينهم عدة، وصاروا جمعين، لكل جمع عصبة. شهر شوال، أوله الأحد: أهل والأسعار قد ارتفعت، فالقمح من مائتين وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها والشعير من مائة وثلاثين إلى ما دونها وسببه هيف الزرع في كثير من النواحي عند توالي رياح حارة فقل وقوع الغلة عند الدراس.
وفي هذه الأيام: اشتد بلاء من الممالك، وعظم الضرر بهم، حتى أن السلطان منع الناس من عمل الأعراس والولائم، وتهدد من عمل ذلك، خوفاً من المماليك أن تهجم على النساء وهن مجتمعات، وتبين قصور اليد عن ردعهم، ولا قوة إلا بالله.
وفي عاشره: نودي بمنع الناس من أخذ الدراهم البندقية والقرمانية واللكنية، فعاد الضرر في خسارة قوم وربح آخرين، ونودي أيضاً أن تكون الدنانير بمائتين وثلاثين وكانت العامة قد رفعت سعره إلى مائتين وستين، بحجة أن الذهب قليل الوجود بأيدي الناس، وأن الدراهم الأشرفية كثر فيها البندقية واللكنية والقرمانية، وكل ذلك من إعراض ولاة الأمور عن عمل المصالح، لبعدهم عن معرفتها، مع طلبهم المال بكل وجه يذم ويستقبح.
وفي تاسع عشره: برز محمل الحاج على العادة، فرحل الركب الأول من بركة الحجاج في ثاني عشرينه، ورحل المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه، صحبة الأمير قرا سنقر. وانتهت زيادة النيل في هذا اليوم - ويوافقه أول مسرى - إلى عشرة أذرع وخمسة عشر إصبعاً. وهذا مقدار كبير، ولله الحمد.
وفي هذا الشهر: خربت مدينة الرها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: في رابعه - الموافق لثاني عشر مسرى - : نودي بزيادة سبعة أصابع لتتمة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً، و لم يناد عليه من الغد، وتوقفت الزيادة إلى تاسعه. وذلك أنه نقص أربعة أصابع، لتقطع عدة جسور من فساد عملها، فغرق عدة جرون، تلف فيها ما شاء الله من الغلال، فتكالب الناس على شراء الغلة، خوفاً من الشراقي، فنزل السلطان في يوم الثلاثاء ثامنه إلى رباط الآثار النبوية، ودعا الله تعالى، فأغاث الله عباده، ووفى النيل ستة عشر ذراعاً، ونودي عليه بالوفاء يوم الأربعاء تاسعه - الموافق له سابع عشر مسرى - فنزل المقام الناصري محمد بن السلطان لتخليق المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفيه قدم الخبر بأخذ مدينة الرها. وذلك أن العسكر سار من القاهرة لأخذ قلعة خرت برت، وقد مات متوليها، ونازلها عسكر قرا يلك صاحب آمد، فلما وصلوا إلى مدينة حلب، ورد إليهم الخبر بأخذ قرا يلك قلعة خرت برت وتحصينها، وتسليمها لولده، فتوجه العسكر وقد انضم إليه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وجميع نواب المماليك الشامية، ومضوا بأجمعهم إلى الرها، فأتاهم بالبيرة كتاب أهل الرها بطلب الأمان، وقد رغبوا في الطاعة، فأمنوهم، وكتبوا لهم به كتاباً، وساروا من البيرة، وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشافة، فوصلت الكشافة إلى الرها في تاسع عشر شوال، فإذا الأمير هابيل قد وصل إليها من قبل أبيه الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرا يلك صاحب آمد، وحصنها، وجمع فيها عامة أهل الضياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فناولوها وهم يرمونهم بالنشاب من فوق الأسوار ثم برز إليهم الأمير هابيل في عسكر نحو ثلاثمائة فارس، وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعلق رءوسهم على

قلعة الرها، فأدركهم العسكر، ونزلوا على ظاهر الرها في يوم الجمعة عشرينه، وقد ركب الرجال السور. ورموا بالحجارة، فتراجع العسكر المصري والشامي عنهم، ثم ركبوا بأجمعهم بعد نصف النهار وأرسلوا إلى أهل قلعة الرها بتأمينهم، وإن لم تكفوا عن القتال وإلا أخربنا المدينة. فجعلوا الجواب رميهم بالنشاب، فزحف العسكر وأخذوا المدينة في لحظة، وامتنع الأكابر وأهل القوة بالقلعة. فانتشر العسكر وأتباعهم في المدينة ينهبون ما وجدوا، ويأسرون من ظفروا به، فما تركوا قبيحاً حتى أتوه ولا أمراً مستشنعاً إلا فعلوه. وكان فعلهم هذا كفعل أصحاب تيمور لما أخذوا بلاد الشام. وأصبحوا يوم السبت محاصرين القلعة، وبعثوا إلى ما فيها بالأمان فلم يقبلوا، ورموا بالنشاب والحجارة، حتى لم يقدر أحد على أن يدنو منها. وباتوا ليلة الأحد في أعمال النقوب على القلعة، وقاتلوا من الغد يوم الأحد حتى اشتد الضحى، فلم يثبت من بالقلعة، وصاحوا الأمان،. فكفوا عن قتالهم حتى أتت رسلهم الأمير نائب الشام، وقدم مقدم العساكر، فحلف لهم - هو والأمير قصروه نائب حلب - على أنهم لا يؤذوهم ولا يقتلون أحد منهم فركنوا إلى أيمانهم. ونزل الأمير هابيل بن قرا يلك ومعه تسعة من أعيان دولته عند دخول وقت الظهر من يوم الأحد المذكور، فتسلمه الأمير أركماس الدوادار، وتقدم نواب المماليك إلى القلعة ليتسلموها فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فمنعوهم فأفحشوا في الرد على النواب، وهموا بمقاتلتهم،، وهجموا القلعة، فلم تطق النواب منعهم، ورجعوا إلى مخيماتهم فمد المماليك أيديهم ومن تبعهم من التركمان والعربان والغلمان، ونهبوا جميع ما كان بها، وأسروا النساء والصبيان، وألقوا فيها النار، فأحرقوها بعد ما أخلوها من كل صامت وناطق، وبعد ما أسرفوا في قتل من كان بها وبالمدينة حتى تجاوزوا الحد، وخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت. ولقد أخبرني من لا أتهمه أنه شاهد المماليك، وقد أخذوا النساء، وفجروا بهن فكانت الواحدة منهن إذا قامت من تحت واحد منهم، مضت - إن كان لها ولد - هي وولدها، إلى موضع كان به تبن لتختفي فيه. قال فاجتمع بذلك الموضع نحو الثمانين امرأة، ومعهن أو مع غالبهن أولادهن، وقد زنوا بهن جميعاً، ثم أضرموا النار عليهن، فاشتعل التبن فاحترقن جميعاً. وأخبرني الثقة أنه كان يدوس في المدينة القتلى لكثرتهم بها، وأنه كاد الماء الذي لهم أن يمتلئ بجيف القتلى. ثم رحلوا من الغد يوم الاثنين ثالث عشرينه، وأيديهم قد امتلأت بالنهوب والسبي، فتقطعت منهم عدة نساء من التعب، فمتن عطشاً، وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة. وكانت هذه الكائنة من مصائب الدهر.
وكنا نستطيب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب
فأما بالعهد من قدم، لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه أحد من ملوك الأقطار أنه قد فعل ما لا يجوز أو فعل ذلك رعيته، بعث منكر عليه ويهدده، فصرنا نحن نأتي من الحرام بأشنعه، ومن القبيح بأفظعه وإلى الله المشتكى.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة: نودي على النيل بزيادة إصبع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً، و لم يناد عليه من الغد.
وفيه كتب باستدعاء السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بها، وناظر الجيش، ونقيب الأشراف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني، ليستقر في كتابة السر، وتوجه لإحضاره من دمشق أحد الخاصكية.
وهى يوم الجمعة خامس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين، بعد رد ما نقصه، لتتمة ستة عشر إصبعاً من الذراع الثامنة عشر، وكان قد انقطع بعض جسور النواحي لفساد عملها، فقل وجود الغلال، وارتفع الأردب من مائتين وسبعين إلى ثلاثمائة، واستمرت زيادة النيل إلى يوم الثلاثاء تاسع عشرينه، وقد بلغ ثمانية عشر ذراعاً إلا إصبعين، ونقص من يومه خمسة أصابع، لتقطع الجسور، فتكالب الناس على شراء الغلة، وشحت الأنفس ببيعها، حتى قل وجودها وارتفع ثمنها.
شهر ذي الحجة، أوله الخميس: أهل هذا الشهر والنيل متوقف عن الزيادة، وقد نقص، فمن الله تعالى، ونودي في يوم السبت ثالثه برد النقص وزيادة تتمة ثمانية عشر ذراعاً.

وفي ليلة الخميس ثامنه: قدم السيد الشريف شهاب الدين أحمد من دمشق وقد خرج الأعيان إلى لقائه، وهو موعوك فلزم الفراش.
وفي ثاني عشره - الموافق لخامس عشر توت - : نودي بزيادة إصبعين لتتمة ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً ثم نقص من الغد لقطع الصليبيات.
وفي يوم الخميس نصفه: خلع على الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان، واستقر في كتابة السر عوضاً عن الجلال محمد بن مزهر، وعملت للطرحة الخضراء برقمات ذهب، فكان موكباً جليلاً إلى الغاية، ركب بين يديه الأمراء والوزراء وقضاة القضاة الأربع، والأعيان، فابتهج الناس به، وسروا بقدومه.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبع.
وفيه خلع على الجلال محمد بن مزهر، واستقر في توقيع المقام الناصري محمد ابن السلطان، كما كان في أيام أبيه.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير هابيل بن الأمير قرا يلك ومن معه في الحديد فشهروا، بالقاهرة إلى القلعة، وسجنوا بها. وفيه قدم مبشرو الحاج.
وفيه نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة تسعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعاً ووافق ذلك ثامن عشرين توت، ثم لم يناد عليه، فكانت هذه زيادة ماء النيل في هذه السنة. وفي هذا الشهر: كانت حرب بنواحي المدينة النبوية بين بني حسين، قتل فيها غير واحد من أعيانهم.
وفيه كان خراب مدينة توريز. وسبب ذلك أن متملكها اسكندر بن قرا يوسف قرا محمد بين بيرم خجا، زحف على مدينة السلطانية، وقتل متوليها من جهة ملك المشرق شاه رخ بن تيمور كركان في عدة من أعيانها، ونهب وأفسد، فسار إليه جموع كبيرة فخرج اسكندر من توريز، وجمع لحربه، ولقيه وقد نزل خارج توريز، فانتدب لمحاربته الأمير قرا يلك صاحب آمد، وقد لحق بشاه رخ، وأمده بعسكر كبير، وقاتله خارج توريز في يوم الجمعة سابع عشره، قتالاً شديداً، قتل فيه كثير من الفئتين، وانهزم اسكندر وهم في إثره يطلبونه ثلاثة أيام، ففاتهم هذا. وقد نهبت جقطاي عامة تلك البلاد، وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا ما يشنع ذكره. ثم إن شاه رخ ألزم أهل توريز بمال كبير احتاجهم فيه أموالهم، حتى لم يدع بها ما تمتد إليه العين، ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند، فما ترك إلا ضعيفاً عاجزاً لا خير فيه، ورحل بعد مدة يريد بلاده، وقد اشتد الغلاء معه، فأعقب رحيله عن توريز جراد عظيم، لم يترك بها ولا بجميع أعماله خضرا وانتشرت الأكراد بتلك النواحي تعبث وتفسد، ففقدت الأقوات، حتى أبيع اللحم الرطل بعده دنانير. وصار فيما بين توريز وبغداد مسافة عشرين يوماً وأزيد خراباً يباباً وأما اسكندر فإنه جال في بلاد الأكراد، وقد رقعت بها الثلوج مدة، ثم صار إلى قلعة سلماس فحصره بها الأكراد فنجا وتشتت في البلاد.
ومات في هذه السنة من الأعيانالعبد الصالح شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أحمد الصوفي، بعد ما عمي سنين، في ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم. ومولده في سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وهو أحد من صحبته من أهل العبادة والنسك. ورأس مدة. واتصل بالظاهر برقوق وولي نظر المارستان المنصوري. وجال في الأقطار، فدخل بغداد والحجاز واليمن والهند، رحمه الله.
ومات شمس الدين محمد بن سعيد المعروف بسويدان أحد أئمة السلطان، في يوم الاثنين سابع صفر. كان أبوه عبداً أسوداً يسكن القرافة. وحفظ هو القرآنمع الأجواق، فأعجب الظاهر برقوق صوته، فجعله أحد أئمته، واستمر، فولاه الناصر فرج حسبة القاهرة. ثم عزل فعاد كما كان يقرأ في الأجواق عند الناس، ويأخذ الأجرة على ذلك، وصار رئيس جوقة حتى مات على ذلك. وكان أسود اللون.
ومات ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباي الشافعي، في ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول، وقد أناف على الستين. وقد برع في الفقه وأصوله وفي العربية، والحساب، ودرس وخطب عدة سنين بدمياط، والقاهرة.

ومات الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن بن المواز، في يوم الأحد حادي عشر ربيع الأول. وقد قدم إلى زيارتي على عادته. وطلع إلى سلماً كنت في بيت بأعلاه، فما هو إلا أن خلع إحدى نعليه، خر على وجهه، ثم رفع رأسه، ونزل إلى الأرض، وأنا أستدنيه إلى، وأعتبه على انقطاعه أياماً عني، فزحف قدر ذراعين وسقط إلى الأرض، فإذا هو قد مات، رحمه الله. فلقد كان لي به أنس وله في اعتقاد كبير، وبلوت منه تألهاً وديانة وعبادة مرضية، فرأيته سحر يوم الجمعة العشرين من صفر سنة ثلاث وثلاثين، وقد اضطجعت بعد الوتر، وكأنه قدم علي على عادته لزيارتي فقمت فرحاً به وأنا أذكر أنه ميت. وقلت كالمباسط له: كيف دار البلاء فهش. فقلت له: أسلمت من عذاب القبر قال: نعم. قلت وأنت الآن لا تعذب ولا يشوش عليك؟، قال: نعم. قلت فلقيت الله. فأيقظني صوت رجل قريب مني قبل أن يخبرني، رحمه الله تعالى.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الله الشطنوفي الشافعي، في ليلة الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الأول، وقد قارب الثمانين، وبرع في الفقه والفرائض والعربية وغير ذلك. ودرس سنين عديدة، فانتفع به جماعة.
ومات بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي، في ليلة الأحد سابع عشرينه جمادى الآخرة، عن نحو خمسين سنة. ولد سنة ست وثمانين وسبعمائة. وهو من بيت رياسة. ولي أبوه كتابة الإنشاء بدمشق. واشتهرت رياسته ومكارمه، وباشر هو كتابة الإنشاء بدمشق، واتصل، بنائبها الأمير شيخ المحمودي، فلما قدم بعد قتل الناصر فرج إلى القاهرة، كان ممن قدم معه، وولاه نظر الاصطبل. ثم ناب عن القاضي كمال الدين محمد بن البارزي في كتابة السر، وقام بأعباء الديوان في أيام العلم داود بن الكويز ومن بعده، واستقل بكتابة السر، فاستبد بتدبير المملكة وكثر ماله، رحمه الله. ومات نور الدين علي السفطي، وكيل بيت المال المعمور في ليلة الثلاثاء سلخ شهر جمادى الآخرة، وكان مشكور السيرة.
ومات السيد الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبو طالب، رضي الله عنه، مقتولا في ذي الحجة. وقد ولي إمرة المدينة النبوية مراراً، وقبض عليه في موسم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وحمل في الحديد إلى القاهرة، فسجن ببرج في قلعة الجبل، ثم أفرج عنه وكان في الإفراج عنه ذكرى من كان له قلب. وهم أن عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي قاضي القضاة ببغداد ثم بدمشق رأى في منامه كأنه بمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالقبر قد فتح، وخرج منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس على شفيره، وعليه أكفانه، وأشار بيده الكريمة إلى عبد العزيز هذا فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: قل للمؤيد يفرج عن عجلان، فانتبه وصعد إلى قلعة الجبل. وكان من جملة جلساء السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي، وجلس على عادته بمجلسه وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه معرفة. ثم قص عليه رؤياه فسكت ثم خرج بنفسه بعد انقضاء المجلس إلى مرماة النشاب التي قد استجدها بطرف الدركاه، واستدعى بعجلان من سجنه بالبرج، وأفرج عنه، وأحسن إليه. وقد حدثني قاضي القضاة عز الدين بهذه الرؤيا غير مرة، وعنه كتبتها وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عق أو فجر.
ومات الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، الحسين مقتولاً في ذي الحجة أيضاً، في الحرب.

ومات الواعظ المذكر بالله شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن عبد الله المعروف بالشاب التائب بدمشق، في يوم الجمعة ثامن عشر رجب عن نحو سبعين سنة ، ومولده ومنشأه بالقاهرة. وكان من جملة طلبة العلم الشافعية، ثم صحب في أثناء عمره رجلاً من الفقراء يعرف بأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر ابن الزياب أحد أصحاب الشيخ يحيى الصنافيري، فمال إلى طريقة التصوف، ورحل إلى اليمن. ثم قدم وعمل الميعاد، ونظم الشعر على طريق القوم، وبنى زواية خارج القاهرة، فحصل له قبول من العامة. وسمعت ميعاده بالجامع الأزهر، وقد تكلم في تفسير آية من كتاب تعالى فأكثر من النقل الجيد بعبارة حسنة، وطريقة مليحة. وحج مراراً، ثم رحل إلى دمشق وبنى بها زاوية وعمل الميعاد، فأقبل عليه الناس، وزاد اعتقادهم فيه بمصر والشام، حتى توفي. ونعم الرجل كان.
ومات بالنحريرية الأديب المعتقد نور الدين علي بن عبد الله الشهير بابن عامرية، في يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر، وأكثر شعره - رحمه الله - في المدائح النبوية.
سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائةأهلت هذه السنة بيوم الجمعة، الموافق له ثاني بابة: والشمس في نصف برج الميزان، والوقت فصل الخريف.
شهر المحرم: في يوم السبت ثانيه: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار خلعة الإستمرار، ثم خلع عليه ثانياً في يوم الاثنين رابعه، وخلع على الأمير أقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي خلعة الاستمرار، وقد أرجف باستقراره أستادارا وألزم بحمل عشرين ألف دينار.
وفي تاسعه: خلع على الصاحب كريم الدين الوزير، واستقر في نظر الديوان المفرد، مضافاً إلى الوزارة، ليتقوى به الأمير زين الدين أستادار.
وفي ليلة الجمعة تاسعه أو عاشره: أمطرت مدينة حمص مطراً وابلاً، ونزل معه ضفادع خضر حتى امتلأت بها أزقة المدينة وأسطحة الدور.
وفي العشر الثاني من هذا الشهر: حملت نفقة المماليك السلطانية من حاصل الأستادار إلى قلعة الجبل، لتنفق في المماليك على العادة في كل شهر، فامتنعوا من قبضها وطلبوا أن يزاد كل واحد على ماله مبلغ ثلاثمائة درهم في كل شهر وكانوا قد فعلوا ذلك في نفقة ذي الحجة، حتى زيد كل منهم أربعمائة درهم في كل شهر فبلغت الزيادتان في الشهر نحو الخمسة آلاف دينار. وكان قبل رضائهم بذلك قد استطار شرهم، وتعدوا في العتو طورهم حتى خافهم أعيان أهل الدولة، ووزعوا ما في دورهم خوف وقوع الفتنة.
وفي حادي عشرينه: قدم ركب من الحاج تقدم أولا، ثم قدم الركب الأول من الغد، وقدم المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه.
وفي رابع عشرينه: قدم رسول ملك المشرق - شاه رخ بن تيمور - بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ قاضي القضاة شهاب الدين، أحمد بن حجر، وتاريخي السلوك للدول الملوك ويعرض فيه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة.
وفي ثامن عشره: بعث صاحب تونس وإفريقية وتلمسان - أبو فارس عبد العزيز - أسطولاً فيه مائتا فرس، وخمسة عشر ألف مقاتل من العسكرية والمطوعة، لأخذ جزيرة صقلية، فنازلوا مدينة مارز حتى أخذوها عنوة، ومضوا إلى مدينة مالطة. وحصروها حتى لم يبق إلا أخذها فانهزم من جملتهم أحد الأمراء من العلوج، فانهزم المسلمون لهزيمته، فركب الفرنج أقفيتهم، فاستشهد منهم في الهزيمة خمسون رجلاً من الأعيان، ثم إنهم ثبتوا وقبضوا على العلج الذي كادهم بهزيمته، وبعثوا به إلى أبي فارس، فأمدهم بجيوش كثيرة.
شهر صفر، أوله الأحد: في رابع عشره: خلع على السيد الشريف شهاب الدين كاتب السر ونزل إلى الجامع المؤيدي، وقد استقر ناظره على العادة، فقرئ به تقليده بكتابة السر، تولى قراءته منشأة القاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر. وقد حضر قضاة القضاة الثلاث، ولم يحضر الحنفي، وحضر الأمير أركماس الدوادار، وكثر من الأعيان، فكان من المجامع الحفلة الحشمة.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الذهب حتى بلغ الدينار الأفرنتي مائتين وستين درهماً، وارتفع أيضاً سعر الغلال.
وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمدينة حلب ودمشق، وأن بدمشق وحمص طاعون فاش في الناس.

وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع على قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وخلع على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن بدر الدين محمود العيني، ورسم باستقراره صدر الدين أحمد بن محمود العجمي في ميشخة خانكاه الأمير شيخو، عوضاً عن قاضي القضاة زين الدين التفهني، ورسم أن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، والحنفي على ثمانية، والمالكي على ستة، والحنبلي على أربعة فكان حسناً أن تم.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: فيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في ميشخة الشيخونية.
وفي يوم الثلاثاء سلخه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة كاتب جكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وألزم بحمل ستين ألف دينار، فشرع في حملها.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وسبب ذلك أن المحتسب أينال الششماني منع كل من ورد بغلة إلى ساحلي مصر وبولاق من بيعها، وتشدد في ذلك، فامتنعوا وأخذوا في بيع الغلال السلطانية، على أن كل أردب من القمح بثلاثمائة وستين درهماً، فتوفرت الغلال في مدة بيعه، ثم أذن لهم في بيعها، وقد تكفي الطحانون بغلال السلطان، فانحل السعر ولله الحمد، وربما صحت الأجسام بعد العلل.
شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: في رابعه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي، واستقر في الحسبة بالقاهرة ومصر، عوضاً عن الأمير أينال الششماني، مضافاً لما معه من نظر الأحباس.
وفي تاسعه: خلع على الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير أقبغا التمرازي، ورسم بإحضاره.
وفي ثالث عشره: خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وأعيد إلى نظر الديوان المفرد، عوضاً عن الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ وفي خامس عشرينه: خلع على الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الكاشف، واستقر أستاداراً، عوضاً عن الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، على أن يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان، فلم ينهض بها.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، فأبيع القمح بمائتين وخمسين درهماً الأردب، والشعير بمائة وعشرة دراهم الأردب.
وفيه فشى الطاعون في الوجه البحري، سيما في التحريرية ودمنهور، فمات خلق كثير جداً بحيث أحصي من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان. ومن ناحية صا زيادة على ستمائة إنسان وكان قد وقع بغزة والقدس وصفد ودمشق في شعبان في السنة الماضية طاعون، واستمر إلى هذا الشهر. وعد هذا من النوادر، فإن الوقت شتاء، وما عهد فيما أدركناه وقوع الطاعون إلا في فصل الربيع. ويعلل الأطباء ذلك بسيلان الأخلاط في الربيع، وجمودها في الشتاء ولكن الله يفعل ما يريد. وقدم الخبر بشناعة الطاعون بمدينة برصا من بلاد الروم، وأنه زاد عدد من يموت بها في كل يوم على ألفي وخمسمائة إنسان. وأما القاهرة فإنه جرى على ألسنة غالب الناس منذ أول العام أنه يقع في الناس عظيم، حتى لقد سمعت الأطفال تتحدث بهذا في الطرقات. فلما أهل شهر ربيع الآخر هذا: كانت عدة من ورد الديوان فيه من الأموات اثني عشر إنساناً، وأخذ يتزايد في كل يوم حتى بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة في يوم الأربعاء سلخه ثمانية وأربعين إنساناً. وجملة من أحصاه ديوان القاهرة في الشهر كله أربعمائة وسبعة وسبعون إنساناً. وبلغ ديوان المواريث بمدينة مصر دون ذلك. هذا سوى من مات بالمارستان، ومن جهز من ديوان الطرحاء على الطرقات من الفقراء، وهم كثير.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: فيه برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة إلى خارج القاهرة، وقد توجه معه كثير من الناس يريدون العمرة والحج. وفيه بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة مائة، على أنهم لا يرفعون في أوراقهم إلى الوزير وغيره إلا بعض من يرد، لا كلهم.
وفيه نودي في الناس بصيام ثلاثة أيام، وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم. ويخرجوا من المظالم، ثم يخرجوا في يوم الأحد رابعه إلى الصحراء. هذا والحكام والولاة على ما هم عليه.

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وفي يوم الأحد رابعه: خرج قاضي القضاة علم الدين صالح في جمع موفور إلى الصحراء خارج باب النصر، وجلس بجانب تربة الظاهر برقوق فوعظ الناس على عادته في عمل الميعاد، فكثر ضجيج الرجال والنساء وكثر بكاؤهم في دعائهم وتضرعهم ثم انفضوا قبيل الظهر، فتزايدت عدة الأموات عما كانت.
وفي ثامنه: ورد كتاب اسكندر بن قرا يوسف، بأن شاه رخ عاد إلى بلاده وأنه هو رجع إلى توريز، وقصده أن يمشي بعد انقضاء الشتاء لمحاربة قرا يلك صاحب آمد.
وقدم كتاب مراد بن عثمان صاحب برصا بأنه هادن الفرنح ثلاث سنين. وقدم كتاب قرا يلك يسأل العفو عن ولده هابيل وإطلاقه.
وفي حادي عشرينه: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من إلزامه، وسلموا إلى الأمير أقبغا أستادار، ثم أفرج عنه في رابع عشرينه على مال يحمله.
وفي سادس عشرينه: حضر تجار الإسكندرية وقد طلبوا منها، فأوقفوا بين يدي السلطان، وألزموا جميعهم أن لا يبع أحد منهم شيئاً من أصناف البضائع التي تجلب من الهند، كالفلفل ونحوه، لأحد من التجار الفرنج، وهددوا على ذلك. وسبب هذا أن السلطان أقام طائفة تشتري له البضائع وتبيعها، فإذا أخذت بجدة المكوس من التجار التي ترد من الهند، حملت فلفلاً وغيره في بحر القلزم من جدة إلى الطور، ثم حملت من الطور إلى مصر، ثم نقلت في النيل إلى الإسكندرية، وألزم الفرنج بشراء الحمل من الفلفل بمائة وثلاثين ديناراً. هذا وسعره بالقاهرة خمسون ديناراً. فبلغ السلطان أن بعض التجار سأل الفرنج بالإسكندرية أن يبتاعوا منه الحمل بأربعة وستين ديناراً، فأبوا أن يأخذوه إلا بتسعة وخمسين، فأحب السلطان عند ذلك الزيادة في الفوائد، وأن يأخذ ما عند التجار من الفلفل بسعر ما دفع لهم فيه الفرنج، ليبيعه هو على الفرنج. مما تقدم ذكره، فمنعهم من يبيعهم على الفرنج ليبور عندهم، فيأخذه حينئذ منهم بما يريد.
وفيه أيضاً طلب الأمير أقبغا الأستادار الباعة بالقاهرة ومصر ليطرح عليهم السكر فأغلقوا الحوانيت، وفروا منه فأعيا الناس شراء الأدوية للمرضى ولم يكادوا أن يجدوا ما يعللوهم به.
وفي هذا الشهر: شنع الموتان الوحي السريع بالطاعون، والنزلات التي تنحدر من الدماغ إلى الصدر، فيموت الإنسان في أقل من ساعة، بغير تقدم مرض. وكان أكثر في الأطفال والشباب، ثم في العبيد والإماء، وأقله في النساء والرجال. وتجاوز في مدينة مصر الفسطاط المائتين في كل يوم، سوى من لم يرد الديوان. وتجاوز في القاهرة الثلاثمائة سوى من لم يرد الديوان. وضبط من صلى عليه في مصليات الجنائز فبلغت عدتهم تزيد على ما أوردوه في ديوان المواريث زيادة كثيرة. وبلغت عدة من مات بالنحريرية - خاصة - إلى هذا الوقت تسعة آلاف، سوى من لم يعرف، وهم كثر جداً. وبلغت عدة الأموات بالإسكندرية في كل يوم نحو المائة. وشمل الوباء عامة البحيرة الغربية والقليوبية.
وفي العشر الأخر من هذا الشهر: وجد بالنيل والبرك التي بين القاهرة ومصر كثير من السمك والتماسيح، قد طفت على وجه الماء ميتة، واصطيدت بنية كبيرة، فإذا هي كإنما صبغت بدم من شدة حمرتها. ووجد في البرية ما بين السويس والقاهرة عدة كثيرة من الظباء والدياب موتى. وقدم الخبر بوقوع الوباء ببلاد الفرنج.
وفي يوم الخميس سلخه: ضبطت عدة الأموات التي صلي عليها، فبلغت ألفين ومائة، ولم يورد في أوراق الديوان سوى أربعمائة ونيف.

وفيه مات ببولاق سبعون لم يورد منهم سوى اثني عشر. وشنع الموتان حتى أن ثمانية عشر من صيادي السمك كانوا في موضع فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر، ومضى الأربعة ليجهزوهم إلى القبور، فمات منهم وهم مشاة ثلاثة فقام الواحد بشأن السبعة عشر، حتى وصل بهم إلى المقبرة مات أيضاً. وركب أربعون رجلاً في مركب، وساروا من مدينة مصر نحو بلاد الصعيد، فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم الميمون. ومرت امرأة من مصر تريد القاهرة وهي راكبة على حمار مكاري، فماتت وهي راكبة، وصارت ملقاة بالطريق يومها كله، حتى بدأ تغير ريحها، فدفنت، ولم يعرف لها أهل. وكان الإنسان إذا مات تغير ريحه سريعاً، مع شدة برد الزمان. وشنع الموت بخانكاه سريا قوس، حتى بلغت العدة في كل يوم نحو المائتين، وكثر أيضاً بالمنوفية والقليوبية، حتى كاد يموت في الكفر الواحد في كل يوم ستمائة إنسان.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: فيه تزايدت عدة الأموات عما كانت فأحصي في يوم الاثنين رابعه من أخرج من أبواب القاهرة، فبلغت عدتهم ألفاً ومائتي ميت، سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكورة والحسينية وبولاق والصليبة ومدينة مصر والقرافتين والصحراء، وهم أكثر من ذلك. ولم يورد بديوان المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين وذلك أن أناساً عملوا توابيت للسبيل فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها، ولا يردون الديوان أسماءهم.
وفي هذه الأيام: ارتفعت أسعار الثياب التي تكفن بها الأموات، وارتفع سعر ما تحتاج إليه المرضى كالسكر وبذر الرجلة والكمثرى، على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية، بل معظمهم يموت موتاً وحيا سريعاً في ساعة وأقل منها وعظم الوباء في المماليك السلطانية - سكان الطباق بالقلعة - الذين كثر فسادهم وشرهم، وعظم عتوهم وضرهم، بحيث كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مرضى فيموت في اليوم زيادة على الخمسين مملوكاً، وشنع الموت. بمدينة فوه ومدينة بليبس، ووقع ببلاد الصعيد الأدنى. وانقطع الوباء من البحيرة والنحريرية، وكثر بمدينة المحلة.

وفي يوم الخميس سابعه: أحصي من صلى عليه من الأموات في المصليات المشهورة خاصة، فكانوا نحو الألف ومائتي ميت، وصلى بغير هذه المصليات على ما شاء الله. ولم يورد في ديوان القاهرة سوى ثلاثمائة وخمسين، وفي ديوان مصر دون الثلاثين. وصلى بها على مائة. وضبط في يوم السبت تاسعه من صلى عليه بالقاهرة، فكانوا ألفاً ومائتين وثلاثاً وستين، لم يرد الديوان سوى ما دون الأربعمائة، فكان عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في هذا اليوم أربعمائة وخمسين ومات بعض الأمراء الألوف، فلم يقدر له على تابوت، حتى أخذ له تابوت من السبيل. ومات ولد لبعض الوزراء فلم يقدر الأعوان - مع كثرتهم وشدتهم - على تابوت له، حتى أخذ له تابوت من المارستان. وبلغ عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في يوم الأحد عاشره خمسمائة وخمسة، وهي من جملة أربع عشرة مصلى. وبلغت عدة من صلى عليه في يوم الاثنين حادي عشره في المصليات المشهورة بالقاهرة وظواهرها ألفين ومائتين وستة أربعين. وانطوى عن الذي ضبط الكثير، ممن لم يصل عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه بمصلى باب النصر خاصة في يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميت، ومثل ذلك في مصلى المؤمني تحت القلعة، وكان يصلي على أربعين ميتاً معاً، فما تنقضي الصلاة على الأربعين جميعاً، حتى يؤتي بعدة أموات وبلغت عدة من خرج من أبواب القاهرة من الأموات اثنا عشر ألفاً وثلاثمائة ميت. واتفق في هذا الوباء غرائب منها أنه كان بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف، ما بين رجل وامرأة، صغير وكبير، ففنوا بالطاعون، حتى لم يبق منهم إلا قليل. ففروا إلى أعلى الجبل، وباتوا ليلتهم سهارى لا يأخذهم نوم لشدة ما نزل بهم من فقد أهليهم وظلوا يومهم من الغد بالجبل، فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنساناً، وأصبحوا، فإلى أن يأخذوا في دفنهم مات منهم ثمانية عشر. واتفق أن إقطاعاً بالحلقة انتقل في أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل منهم يموت، ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات، تعطلت أسواق البز ونحوه من البيع والشراء، وتزايد ازدحام الناس في طلب الأكفان والنعوش، فحملت الأموات على الألواح والأقفاص وعلى الأيدي وعجز الناس عن دفن أمواتهم، فصاروا يبيتون بها في المقابر، والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا حفائر كثيرة، تلقى في الحفرة منها العدة الكثيرة من الأموات وأكلت الكلاب كثيراً من أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كله يسعون في طلب الغسال والحمالين والأكفان، وترى نعوش الأموات في الشوارع كأنها قطارات الجمال، لكثرتها والمرور بها متواصلة بعضها في إثر بعض، فكان هذا من الأهوال التي أدركناها.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: جمع السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان كاتب السر بأمر السلطان أربعين شريفاً، اسم كل شريف منهم محمد، وفرق فيهم من ماله هو خمسة آلاف درهم، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرءوا ما تيسر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة ثم قاموا - هم والناس - على أرجلهم، فدعوا الله تعالى، وقد غص الناس بالجامع الأزهر فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر، فصعد الأربعون شريفاً إلى أعلى الجامع وأذنوا جميعاً، ثم نزلوا فصلوا مع الناس صلاة العصر، وانفضوا، وكان هذا مما أشار به بعض العجم، وأنه عمل هذا ببلاد المشرق في وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك، فلما أصبح الناس يوم السبت أخذ الوباء يتناقص في كل يوم حتى انقطع وفشا ببلاد الصعيد، وببوادي العرب، وبمدينة حماة، ومدينة حمص. ووجد في بعض بساتين القاهرة سبعة دياب قد ماتوا بالطاعون. ومات عند رجل أربع دجاجات، وجد في كل واحدة منهن كبة في ناحية من بدنها. وكان عند رجل نسناسة فأصابها الطاعون برأسها وأقامت ثلاثة أيام إذا وضع لها الماء والأكل لا تتناول الغداء وتشرب مرة واحدة في اليوم، ثم هلكت بعد ثلاث.
وفي ليلة الجمعة التاسع والعشرين: منه خرج بعد غروب الشمس بقليل كوكب في هيئة الكرة، بقدر جرم القمر في ليلة البدر، فمر بين المشرق والقبلة إلى جهة المغرب، وتفرق منه شرر كثير من ورائه.
شهر رجب، أوله الأحد:

أهل هذا الشهر والوباء قد تناقص بالقاهرة، إلا أنه منذ نقلت الشمس إلى برج الحمل في ثامن عشر جمادى الآخرة، ودخل فصل الربيع، فشا الموت في أعيان الناس وكبرائهم ومن له شهرة، بعد ما كان في الأطفال والخدم، وقد بلغت أثمان الأدوية وما تحتاح إليه المرضى أضعاف ثمنها. وذلك أن الأمراض طالت مدتها، بعد ما كان الموت وحيا فلا تخلو دار من ميت أو مريض. وشنع في هذا الوباء ما لم يعهد مثله إلا في النادر، وهو خلو دور كثيرة جداً من جميع من كان بها، حتى أن الأموال المخلفة عن عدة من الأموات أخذها من لا يستحقها. وشنع أيضاً الموت والأمراض في المماليك السلطانية، بحيث ورد كتاب من طرابلس فلم يجد الشريف عماد الدين أبو بكر بن علي بن إبراهيم ابن عدنان من يتناوله حتى يفتحه السلطان. وكان السيد أبو بكر إذ ذاك يباشر بعد موت أخيه السيد شهاب الدين، وقد عين كتابة السر، فأخبرني - رحمه الله - أنه خرج من بين يدي السلطان حتى وجد واحداً من المماليك خارج القصر، فدخل به حتى أخذ الكتاب من القادم به وفتحه ثم قرأه هو على السلطان.
وفي يوم الاثنين تاسعه: خلع على الطواشي زين الدين خشقدم، واستقر مقدم المماليك بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت. وخشقدم هذا رومي الجنس، رباه الأمير يشبك وأعتقه، واشتهر في الأيام المؤيدية شيخ، وترقى حتى عمل نائب المقدم، وعرف بالمهابة والحرمة الوافرة.
وفي سادس عشره: قدم الأمير تغري بردي المحمودي من سجنه بدمياط، فرسم أن يتوجه من قليوب إلى دمشق، ليكون أتابك العساكر بها، فتوجه إليها.
وفي ثالث عشرينه: خلع على بدر الدين حسن بن القدسي، واستقر في مشيخة الشيخونية بعد موت صدر الدين أحمد بن محمود العجمي.
وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وقد دخلت سعر الغلة الجديدة، فأبيع الشعير بتسعين درهماً الأردب، والقمح بمائتين وما دونها، وكثر الإرجاف بحركة قرا يلك على البلاد الفراتية وأن شاه رخ بن تيمور شتا على قرا باغ، فأخذ السلطان في تجهيز العسكر للسفر.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: في ثالثه: منع نواب القضاة من الحكم، ورسم أن يقتصر الشافعي على أربعة نواب، والحنفي على ثلاثة، والمالكي والحنبلي كل منهما على نائبين، فما أحسن هذا إن تم.
وفي يوم الاثنين ثامنه: أدير محمل الحاج على العادة، و لم نعهده أدير قط في شعبان، وإنما يدار دائماً في نحو نصف من شهر رجب، غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك، حتى أن معلمي اللعب بالرماح أخذوا في تعليم من بقي من المماليك ما عرفوا منه كيف يمسك الرمح، فكان الجمع فيه دون العادة.
وفي ثالث عشرينه: خلع على جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي - المعروف بابن المجير - أحد فضلاء الشافعية، واستقر في مشيخة الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء. وكان قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة قد استنابه فيها. واستقر أيضاً بدر الدين محمد بن عبد العزيز - المعروف بابن الأمانة - أحد خلفاء الحكم الشافعي في تدريس الشافعية بالشيخونية، وكان ابن المحمرة قد استنابه عنه، فاستقل كل منهما بالوظيفة عوضاً عن مستنيبه بحكم إقامته على قضاء دمشق. وخلع أيضاً على أمين الدين يحيى بن محمد الأقصراي، واستقر في مشيخة الأشرفية المستجدة، وتدريس الحنفية بها، عوضاً عن كمال الدين محمد بن الهمام لرغبته عنها، تعففاً وزهادة.
وفي هذا الشهر: انحطت الأسعار فأبيع القمح. بمائة وخمسين درهما الأردب فما دونها، والشعير بتسعين فما دونها، والفول بسبعين درهماً فما دونها. وبلغ الدينار الأشرفي إلى مائتين وثمانين درهماً، والأفرنتي إلى مائتين وستين.
وفيه كثر الإستعداد لسفر السلطان.
شهر رمضان، أوله الأربعاء: في تاسعه: قرر السلطان في جامعه المستجد بجوار قيسارية العنبر من القاهرة دروساً ثلاثة، فجعل مدرس الشافعية شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي. وقرر عنده عشرين طالباً، وجعل مدرس المالكية عبادة بن علي بن صالح الزرزاري، مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وعنده عشرة من الطلبة وجعل مدرس الحنابلة زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الزركشي، ومعه عشرة من الطلبة. ومولد عبد الرحمن الزركشي في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.

وسمع علي بن إبراهيم البناني صحيح مسلم وفي يوم السبت ثامن عشره: قدم كاتب السر بحلب، شهاب الدين أحمد بن صالح ابن السفاح، باستدعاء ليستقر في كتابة السر بديار مصر، ويستقر عوضه في كتابة السر بحلب ابنه زين الدين عمر، على أن يحمل عشرة آلاف دينار. وكانت كتابة السر قد شغرت بعد موت السيد الشريف شهاب الدين، فباشر أخوه عماد الدين أبو بكر أياماً قلائل، ومات فباشر شرف الدين أبو بكر الأشقر نيابة حتى يلي أحد، وسعى فيها جماعة، فاختار السلطان ابن السفاح، وبعث في طلبه وخلع عليه في عشرينه.
وفي ثالث عشرينه: قدم رجل أدعى أنه شريف - اسمه هاشم - بكتاب شاه رخ ابن تيمور، ومعه هدية هي عدة قطع فيروزج، و لم يختم الكتاب، ولا كتب فيه بسملة بل ابتدأه بقوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة وخاطب السلطان فيه بالأمير برسباي، وأبرق وأرعد.
وفي تاسع عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة ستة أذرع وثلاثة أصابع شهر شوال، أوله الخميس: أهل هذا الشهر وعامة المبيعات من الغلال واللحوم والفواكه رخيصة جدا.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: برز محمل الحاج وكسوة الكعبة إلى الريدانية خارج القاهرة فرحل الركب الأول في ثاني عشرينه، ورحل المحمل من بركة الحاج في ثالث عشرينه وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة خمسة وعشرين إصبعاً من الذراع التاسعة، ولم يناد عليه من الغد، فتوقفت الزيادة، ثم نودي عليه من يوم الأحد.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: قدم المماليك السلطانية من التجريدة إلى الرها وخلع علي سليمان بن عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، واستقر أمير الملأ عوضاً عن مدلج بن نعير، وعمره نحو خمس عشرة سنة.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: في ثانيه: قدم رسول شاه رخ أيضاً بكتابه.
وفي ثالثه: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي مضافاً إلى الوزارة.
وفي سادس عشره: قبض على أقبغا الجمالي، وعوقب على المال.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره - وخامس عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان حتى خلق المقياس، وفتح الخليج. و لم يركب لذلك منذ تسلطن إلا هذه السنة.
وفي رابع عشرينه: خلع على أقبغا الجمالي وأخرج لكشف الجسور.
وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة سبعة عشر ذراعاً، وتسعة أصابع. وفيه نقص النيل لتقطع الجسور، من فساد عمالها، فتوقفت الزيادة.
وفي ليلة السبت خامس عشره: ظهر للحجاج - وهم سائرون من جهة البحر الملح - كوكب يرتفع ويعظم، ثم يفرع منه شرر كبار، ثم اجتمع. فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة ثم من الركبان عالم كثير، وتلف من حمالهم وحميرهم عدد عظيم، وهلك أيضاً في بعض أودية ينبع جميع ما كان فيه من الإبل والغنم، كل ذلك من شدة الحر والعطش.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: فيه نودي على النيل برد النقص وزيادة ثلاثة أصابع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً ونصف.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: نزل السلطان من قلعة الجبل إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل، وقدم بين يديه في النيل غرابان حربية، فلعبا كما لو حاربا الفرنج، ثم ركب سريعاً، وعاد إلى القلعة.
وفي عاشره: توجه عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش ومدبر الدولة في جماعته لزيارة القدس.
وفي عشرينه - الموافق لثاني عشر توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة تسعة عشر ذراعاً وعشر أصابع ولم يناد عليه من الغد، ونقص عشر أصابع لتقطع الجسور.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بهلاك من هلك من العطش.
وفي تاسع عشرينه: قدم القاضي. زين الدين عبد الباسط من القدس.
وفي سلخه: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبعين.
وفي هذا الشهر: توجه الأمير قصروه نائب حلب والأمراء المجردون من مصر بمن معهم لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير، فلقوا جمائعه تجاه قلعة جعبر وقد أخلى الجليل، فأخذ العسكر في نهب البيوت، فخر عليهم العرب فقتلوا كثيراً منهم، وفيهم أتابك حلب، وسلبوهم، فعادوا إلى حلب بأسوأ حال.

فكانت هذه السنة ذات مكاره عديدة من أوبئة شنعة، وحروب وفتن، فكان بأرض مصر - بحريها وقبليها - وبالقاهرة ومصر وظواهرهما، وباء مات فيه - على أقل ما قيل - مائة ألف إنسان والمجازف يقول المائة ألف من القاهرة فقط، سوى من مات بالوجه القبلي والوجه البحري، وهم مثل ذلك، وغرق ببحر القلزم في شهر ذي القعدة مركب فيه حجاج وتجار يزيد عددهم على ثمانمائة إنسان، لم ينج منهم سوى ثلاث رجال، وهلك باقيهم، وهلك في ذي القعدة أيضاً بطريق مكة - فيما بين الأزلم وينبع - بالحر والعطش ثلاثة آلاف ويقول المكثر خمسة آلاف، وغرق بالنيل في مدة يسيرة اثنتا عشرة سفينة، تلف من البضائع والغلال ما قيمته مال عظيم. وكان بغزة والرملة والقدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأعمالها وباء، هلك فيه خلائق لا يحصى عددها إلا الله تعالى. وكان ببلاد المشرق بلاء عظيم، وهو أن شاه رخ بن تيمور ملك المشرق، قدم إلى توريز في عسكر يقول المجازف عدتهم سبعمائة ألف. فأقام على خوي نحو شهرين، وقد فر منه اسكندر بن قرا يوسف، فقدم عليه الأمير عثمان بن طر علي - المعروف بقرا يلك التركماني - صاحب آمد في ألف فارس، فبعثه على عسكر لمحاربة اسكندر، وسار في إثره، وقد جمع اسكندر جمعاً يقول المجازف إنهم سبعون ألفاً، فاقتتل الفريقان خارج توريز، فقتل بينهما آلاف من الناس، وانهزم اسكندر وهم في أثره يقتلون ويأسرون وينهبون فأقام اسكندر ببلاد الكرج، ثم نزل بقلعة سلماس، وحصرته العساكر مدة، فنجا منهم، وجمع نحو الأربعة آلاف، فبعث إليه شاه رخ عسكراً أوقعوا به وقتلوا من معه، فنجا بنفسه جريجاً.
وفي مدة هذه الحروب ثار أصبهان بن قرا يوسف، ونزل على الموصل ونهب تلك الأعمال، وقتل وأفسد فساداً كبيراً، وكانت بعراقي العرب والعجم نهوب وغارات ومقاتل، بحيث أن شاه محمد بن قرا يوسف - متملك بغداد - من عجزه لا يتجاسر على أن يتجاوز سور بغداد، وخلا أحد جانبي بغداد من السكان، وزال عن بغداد اسم التمدن، ورحل عنها حتى الحياك، وجف أكثر النخل من أعمالها، ومع هذا كله، فوضع شاه رخ على أهل توريز مال الأمان، حتى ذهبت في جبايته نعمهم، ثم جلاهم بأجمعهم إلى بلاده، وكثر الإرجاف بقدومه إلى الشام، فأوقع الله في عسكره الغلاء والوباء حتى عاد إلى جهة بلاده، وعاد قرا يلك إلى ماردين فنهبها، ونهب ملطية وما حولها إلى عينتاب وحرقها.

وكان ببلاد السراي والدشت وصحاري في هذه السنة والتي قبلها قحط شديد، ووباء عظيم جداً، هلك فيه عالم كبير، بحيث لم يبق منهم ولا من أنعامهم إلا أقل من القليل. وكان ببلاد الحبشة بلاء لا يمكن وصفه، وذلك أنا أدركنا ملكها داود بن سيف أرعد بن قسطنطين - ويقال له الحطي - ملك أمحرة، وهو وهم نصاري يعقوبية. فلما مات في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، قام من بعده ابنه تدرس بن داود، فلم تطل مدته، ومات. فملك بعده أخوه أبرم، ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أرعد، وفخم أمره، وذلك أن بعض مماليك الأمير بزلار نائب الشام ترقى في الخدم، وعرف بألطنبغا مغرق، حتى باشر ولاية قوص من بلاد الصعيد، ثم فر إلى الحبشة واتصل بالحطي هذا، وعلم أتباعه لعب الرمح، ورمي النشاب وغير ذلك من أدوات الحروب، ثم لحق بالحطي أيضاً بعض المماليك الجراكسة - وكان زرد كاشا - فعل له زرد خاناه ملوكية، وتوجه إليه مع ذلك رجل من كتاب مصر الأقباط النصارى - يقال له فخر الدولة - فرتب له مملكته، وجبى الأموال وجند له الجنود، حتى كثر ترفه، بحيث أخبرني من شاهده وقد ركب في موكب جليل وفي يده صليب من ياقوت أحمر، وقد قبض عليه ووضع يده على فخذه، فصار يبين ويظهر لهذا الصليب الياقوت طرفان كبيران من قبضته، فشرهت نفسه إلى أخذ ممالك الإسلام لكثرة ما وصف له هؤلاء من محاسنها، فبعث بالتوريزي التاجر ليدعو الفرنج للقيام معه، وأوقع في بمن مملكته من المسلمين، فقتل منهم وأسر وسبي عالماً عظيماً. وكان ممن أسر منصوراً ومحمداً، ولدى سعد الدين محمد بن أحمد علي بن ولصمع الجبرتي - ملك المسلمين بالحبشة، فعاجله الله بنقمته، وهلك في شهر ذي القعدة، فأقيم بعده ابنه اندراس بن إسحاق، فهلك لأربعة أشهر، فأقيم بعده عمه حزبناي بن داود بن سيف أرعد، فهلك في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين، فأقيم بعده ابن أخيه سلمون بن إسحاق بن داود بن سيف أرعد، فكانت على أمحرة أربعة ملوك في أقل من سنة.

وفي هذه المدة: ثار جمال الدين ابن الملك سعد الدين محمد بن أحمد بن علي بن ولصمع الجبرتي. وذلك أن سعد الدين محمد لما قام بأمر المسلمين أكثر من محاربة النصارى، واتسعت مملكته، وحارب الحطي غير مرة حتى استشهد بعد سنة عشر وثمانمائة، فتمزق أصحابه، وذهب ملكه، ولحق أولاده بزبيد، فأكرمهم ملك اليمن، ثم عادوا إلى الحبشة بعد سنين، فقام بالأمير صبر الدين علي بن سعد الدين مدة ثماني سنين ومات، فقام من بعده أخوه منصور بن سعد الدين بأمر المسلمين في بلاد الحبشة، وحارب الحطي مراراً آخرها في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وقد سار إليه في عدد جم، وأوقع بالنصارى واقعة شنعاء، قتل فيها وأسر وسبي عالماً كبيراً، بحيث كان عدد من أسر عشرة آلاف، ورجع مظفراً منصوراً، فسار عليه الحطي في آلاف كثيرة وواقعه، فقتل من أمحرة أتباع الحلي خلق كبير، ولم يقتل من المسلمين سوى دون العشرين رجلاً، إلا أنه وقع في قبضة الحطي إسحاق بن داود بن سيف أرعد منصور بن سعد الدين، وأخوه محمد، وانهزم المسلمون، فقيدهما ورجع إلى مقر ملكه، وقد كاد يطير فرحاً، فلما قرب من مدينة الملك، أركب الملك المنصور كهيئته في مملكته، وسار في العساكر به حتى دخل المدينة، فأنزله وأخاه محمداً بدار وأجري لهم ما يليق بهما، ووكل بهما الحرس، فقام بأمر المسلمين بعد منصور أخوه جمال الدين بن سعد الدين، فلما مات الحطي إسحاق بن داود جمع جمال الدين المسلمين وأغار على بلاد أمحرة، فدوخ تلك البلاد، وقتل وأسر وسبي عالماً عظيماً، واستسلم منهم أمماً كثيرة، فأقر كل من أسلم ببلاده، وولى عليهم من قبله، فاتسع نطاق مملكته، وقويت عساكره، وكثرت أموالهم، وبعث بالسبي إلى الآفاق، فكثر الرقيق من العبيد والإماء ببلاد اليمن والهند وهرمز والحجاز ومصر والشام والروم، وظهر من ثبات جمال الدين وشجاعته وصرامته ومهابته وعدله ما يتعجب منه، بحيث أن بعض أولاده الصغار لعب مع صبيان من الحبشة، فضرب منهم صبياً كسر يده، فكتموا ذلك عنه مدة ثم بلغه الخبر، فجمع أعيان الدولة ولامهم على كتمان خبر ولده عنه، ثم أمر بولده فجيء به محمولاً على الكتف لصغره حتى يقتص به، فقام إليه الأعيان بأجمعهم يشفعون فيه ويلتزمون بإحضار أولياء الغريم، فلم يقبل شفاعتهم فيه، فأحضروا أبا الصبي وأهله، فأسقطوا حقهم، وتضرعوا إليه جهدهم في العفو عن ولده، فلم يجبهم، وأخذ ابنه بيده، ومد يده على حجر، وضرب عضده بحديده، فكسره، والأعيان قيام يبكون لبكاء الصغير، وهو يقول له: تألم كما آلمت هذا الصغير. ثم سار به الخدم وهو يصيح من الألم إلى أمه، حتى تمرضه فكان يوماً مهولاً، ولم يجسر بعد ذلك أحد في مملكته أن يظلم أحداً. وله من هذا النمط عدة أخبار، مع العفة والنسك والإستبداد بجميع أموره، وأمور مملكته، ووفور الحرمة، وقمع أهل الفساد، وإزالة المنكرات، فالله يؤيده بعونه.
وأما بلاد المغرب، فإن متملك فاس أبا زيد عبد الرحمن حفيد السلطان أبي سالم إبراهيم، ثار عليه السعيد أبو عبد الله محمد المعروف بالجبلي ابن أبي عامر عبد الله بن أبي سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، في أوائل سنة ثمان وعشرين، وملك فاس، وقتله، وخرج إلى الشاوية فقتلوه، وأقيم ولده أبو عبد الله محمد، فقام الوزير صالح وبايع الناصر أبي علي بن أبي سعيد عثمان، فقدم أبو عمرو بن السعيد محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن من إفريقية، وملك فاس، ثم فر، فأعيد الناصر أبو علي، فعالجه أخوه أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد وملك فاس بعد قتال في آخر، شهر رجب، سنة ثلاث وثلاثين.
ومات في هذه السنة من الأعيانولى الدين محمد بن الدمياطي في ليلة الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول، وقد تجاوز الثمانين، ولى وكالة بيت المال ونظر الكسوة في الأيام الناصرية، ثم تعطل حتى مات، وكان قليل الشر. ومات شرف الدين أبو الطيب بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الأول، ومولده في ليلة السبت خامس عشرين شهر ذي القعدة، سنة سبع وتسعين وسبعمائة. وكتب في الإنشاء، وولي نظر وقف الأشراف ونظر الكسوة، ودار الضرب، فشكرت سيرته.

ومات كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف بابن كاتب جكم، ناظر الخاص، في ليلة الجمعة العشرين من شهر ربيع الأول. خدم أبوه بكتابة الديونة حتى باشر ديوان الأمير جكم، وترقى ابنه كريم الدين في الخدم الديوانية، وباشر استيفاء البولة ثم نظر الدولة ثم نظر الخاص. وكان مشكوراً، فيه خير وبر، وله صدقات كثرة. ومات الأمير أزبك الدوادار بالقدس، في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الأول، وهو أحد مماليك الظاهر برقوق. وكان غير مشهور بارتكاب الفواحش.
ومات الأمير كمشبغا القيسي بدمشق في رابع عشر شهر ربيع الآخر، وهو أحد الأمراء الناصرية فرج. وكان بها أمير أخور، ثم انحطت رتبته في الأيام المؤيدية، وأخرج إلى الشام ولم يشهر بشيء من غير. ومات الملك المظفر أحمد بن المؤيد شيخ المحمودي بثغر الإسكندرية، في ليلة الخميس آخر شهر جمادى الأولى، هو وأخوه إبراهيم، وحملا إلى القاهرة، بعدما دفنا بالثغر، في يوم الاثنين نصف شعبان، ودفنا بجوار أبيهما في القبة من الجامع المؤيدي، ولم يبق للمؤيد بعدهما ولد ذكر.
ومات الشريف علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي محمد بن حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسن بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أمير مكة، وهو بالقاهرة، مطعوناً، في يوم الأحد ثالث جمادى الآخرة. وكان قد توجه بعد عزله إلى بلاد المغرب، فأكرمه أبو فارس عبد العزيز صاحب تونس، ثم عاد فطالت عطلته وإقامته بالقاهرة. وكان جميل المحاضرة، له معرفة بالأدب.
ومات الأمير بيبغا المظفري، في ليلة الأربعاء سادس جمادى الآخرة. وهو أحد المماليك الظاهرية، وترقي في الخدم حتى صار من أمراء الألوف في الأيام الناصرية فرج، ونكب وسجن مراراً، وعمل أتابك العساكر، وكان تركي الجنس، قوي النفس، لم يبك منه على دين ولا دنيا.
ومات الأمير برد بك أحد الألوف، في يوم الأحد، عاشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري، في ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة. وكان يتزيا بزي الأجناد، ويكتب الخط المنسوب، ويحب الأدب وأهل الفضائل، وباشر الحسبة في الأيام المؤيدية شيخ. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالإسكندرية في يوم الاثنين حادي عشره؛ وله من العمر إحدى وعشرون سنة، وأمه أم ولد، اسمها عاقولة.
ومات الأمير زين الدين قاسم ابن الأمير الكبير كمشبغا الحموي، أحد الحجاب، في ليلة الثلاثاء تاسع عشره.
ومات الشيخ يحيى سيف الدين يوسف بن محمد بن عيسى السيرامي، الحنفي، شيخ الظاهرية المستجدة، بين القصرين. وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، وفضلائهم، أفتى ودرس عدة سنين.
ومات الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الحاكم أبي العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر العباسي بالإسكندرية، في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة، و لم يبلغ الأربعين وترك ولداً ذكراً اسمه يحيى. وكان خيراً ديناً هيناً ليناً، حشماً، وقوراً، إلا أن الأيام لم تسعده، والأقدار، لم تساعده.
مات الأمير ناصر الدين محمد بن السلطان الملك الأشرف برسباي، في يوم الثلاثاء سادس عشرينه. وقد ترشح للسلطنة بعد أبيه، فدفن على أمه بالأشرفية المستجدة بالقاهرة.
مات الأمير الطواشي مرجان الهندي الخازندار، في سادس عشرين جمادى الآخرة، بلغ في أيام السلطان الملك المؤيد شيخ مبلغاً كبيراً من التمكن في الدولة، ثم انحط بعد موته.
ومات الأمير زين الدين عبد القادر أستادار ابن الأمير الوزير أستادار فخر الدين عبد الغني بن الأمير الوزير أستادار عبد الرزاق بن أبي الفرج، في يوم الأربعاء سابع عشرينه، ودفن على أبيه بمدرسته، وكان ساكناً ليناً محباً لأهل الخير.
ومات السلطان الملك الصالح محمد بن الظاهر ططر، في ليلة الخميس ثامن عشرينه، وانقرض بموته عقب ططر.

ومات السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم بن عدنان بن جعفر بن محمد بن عدنان الحسيني كاتب السر، في ليلة الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة. ومولده في سابع شوال سنة أربع وسبعين وسبعمائة بدمشق. ونشأ بها، وولي كتابة السر، وقضاء القضاة الشافعية، ونظر الجيش بها، ثم طلب وولي كتابة السر بديار مصر، فسار فيها أجمل سيرة، رحمه الله.
ومات تقي الدين يحيى بن العلامة شمس الدين محمد الكرماني الشافعي، في يوم الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة، وكان فاضلاً في عدة فنون، قدم من بغداد قبل سنة ثمانمائة، وأشهر شرح أبيه على البخاري، وصحب الأمير شيخ المحمودي، وسافر معه إلى طرابلس لما ولي نيابتها، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن، وقدم معه القاهرة، فلما تسلطن، عمله ناظر المارستان المنصوري. وكان ثقيل السمع.
ومات الشريف سرداح بن مقبل بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبي عزيزة قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسن بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر جمادى الآخرة، وولي أبوه مقبل ابن نخبار إمرة ينبع مدة، ثم وثب عليه ابن أخيه عقيل بن وبير بن نخيار وحاربه بأهل الدولة في سنة خمس وعشرين وثمانمائة، ثم قبض عليه وحمل إلى سجن الإسكندرية، فمات به، وكحل ابنه سرداح هذا حتى تفقأت حدقتاه وسالتا، وورم دماغه، نتن.
فتوجه بعد مدة من عماه إلى المدينة النبوية، ووقف عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وشكا ما به، وبات تلك الليلة، وأصبح وعيناه أحسن ما كانتا. وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح عينيه بيده المقدسة، فانتبه وهو يبصر، واشتهر ذلك عند أهل المدينة، ثم قدم القاهرة، فشق ذلك على السلطان وأغضبه، واستدعى الذين تولوا كحله، وسمل عينيه، وضربهما. فأقاما عنده من أخبره. بمشاهدة الميل وقد أحمي في النار ثم كحل به فسألت حدقتاه بحضورهم، وكذلك أخبر أهل المدينة أنهم رأوه ذاهب الحدقتين، وأنه أصبح عندهم وهو يبصر، وقص عليهم رؤياه، فترك حاله حتى مات بالطاعون، فضم - أعزك الله - هذه إلى قضية عجلان بن نعير وأخواتها، وتنبه بها لإكرام الله تعالى لآل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم عساك تقوم لهم ببعض ما يجب من حقوقهم، إن وفقك الله لذلك.
ومات الطبيب الفاضل جمال الدين يوسف بن البرهان إبراهيم بن عبد الله بن داود ابن أبي الفضل بن أبي المني بن أبي البيان الدواداري الإسرائيلي في أول شهر رجب، وقد أناف على التسعين.
ومات الأمير الطواشي فخر الدين ياقوت مقدم المماليك، في يوم الاثنين ثاني شهر رجب. وكان حبشي الجنس، وشهرته جميلة.
ومات الأمير سيف الدين يشبك أخو السلطان، في رابع رجب، وهو أحد الأمراء الألوف وماتت خوند هاجر ابنة الأمير منكلي بغا الشمسي، في رابع رجب، وأمها خوند فاطمة بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وتزوجها الظاهر برقوق بكراً، وحظيت عنده حتى مات. وهي آخر نسائه موتاً، و لم تعقب.
ومات الشيخ نصر الله بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل العجمي، في ليلة الجمعة سادس رجب. وكان قدم القاهرة بعد الثمانمائة على قدم التجريد، فصحب الأمراء حتى كثر ماله، وعين لكتابة السر، وكان يكتب الخط المنسوب، ويتكلم في علم التصوف على طريقة ابن العربي، وله مشاركة في فنون وعدة مصنفات.
ومات فخر الدين ماجد، ويدعى عبد الله بن السديد، أبي الفضائل بن سناء الملك المعروف بابن المزوق في ليلة الخميس ثاني عشر رجب. وولي كتابة السر ونظر الجيش في الأيام الناصرية، ثم ولي نظر الإصطبل، وتعطل بعد ذلك مدة.
ومات الشريف عماد الدين أبو بكر بن إبراهيم بن عدنان الحسيني في ليلة الجمعة ثالث عشر رجب، و لم يبلغ الأربعين. وكان قد قدم على أخيه السيد شهاب الدين أحمد، فوقع الوباء ومات أخوه، فباشر بعده، وتعين لكتابة السر، فقافصته المنايا، وعاجله ريب المنون، ومات رحمه الله.
ومات الشيخ زين الدين أبو بكر بن عمر بن عرفات بن عوض القمني، في ليلة الجمعة ثالث رجب، عن نحو الثمانين، وقد صار من أعيان الفقهاء الشافعية وفضلائهم، مع الديانة والنسك، رحمه الله.

ومات أبو مسلم هابيل بن الأمير عثمان بن طر علي - المعروف بقرا يلك التركماني - في يوم الجمعة ثالث عشر رجب، وهو مسجون.
ومات صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود بن محمد بن عبد الله القيصري - المعروف بابن العجمي - في يوم السبت رابع عشر رجب. وقد ولي الحسبة بالقاهرة مراراً، وولي نظر الجيش بدمشق، وكان من فضلاء الحنفية، وله معرفة جيدة بالنحو.
ومات جلال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن محمد بن مزهر، في ليلة الاثنين سادس عشرين رجب، عن نحو عشرين سنة. وولي كتابة السر بعد أبيه، فكان حظه منها الاسم.
ومات زين الدين محمد بن شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الملك الدميري، في يوم الأربعاء ثالث شعبان. وولي حسبة القاهرة ونظر البيمارستان المنصوري. وكان من الفقهاء المالكية، وله معرفة بالعربية.
ومات الأمير مدلج بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، أمير آل فضل، مقتولاً، في ثاني عشر شوال، بظاهر حلب.
ومات شيخ الرفاعية الشيخ نور الدين علي في العشرين من جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن المعلمة السكندري، في سابع شعبان. وولي حسبة القاهرة.
سنة أربع وثلاثين وثمانمائةأهل شهر الله المحرم بيوم الأربعاء: والأسعار رخيصة؛ القمح كل أردبين - وشيء - بدينار، والشعير والفول كل أربعة أرادب بدينار هرجة.
وفي يوم الخميس عاشره - وثاني بابة - : انتهت زيادة النيل إلى تسعه عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً، ونقص من الغد.
وفي ثامن عشره: قدم الأمراء المجردون، وهم قرقماش حاجب الحجاب، وأركماس الدوادار، وبقية الأمراء.
وفي ثالث عشرينه: قدم ركب الحاج الأول، وقدم المحمل ببقية الحاج في رابع عشرينه، وقد هلك كثير منهم - ومن جمالهم وحميرهم - عطشاً فيما بين أكره وينبع، وهم متوجهون إلى مكة.
وفي سابع عشرينه: برز الأمراء المجردون إلى ظاهر القاهرة، وهم الأمير الكبير شارقطلوا، والأمير أينال الجكمي، والأمير تمراز الدقماقي، والأمير أقبغا التمرازي، والأمير مراد خجا، في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، ومن المماليك السلطانية خمسمائة مملوك، وسبب تجردهم أن قرا يلك نزل في أول هذا الشهر على معاملة ملطية فنهبها وحرقها، وحصر ملطية، فخرج إليه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام بالعساكر الشامية، وأردف بالعسكر المذكور.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه رسم بعود الأمراء والمماليك المجردين فرجعوا من خانكاه سريا قوس، واستعيدت منهم النفقات التي أنفقت فيهم، فاحتاجوا إلى رد الأمتعة والأزواد على من ابتاعوها منهم، واحتاجوا إلى استعادة ما أنفقوه على غلمانهم، وقد تصرف الغلمان فيما أخذوه، فاشتروا منه احتياجهم، ودفعوا منه إلى أهاليهم، فنزل من أجل هذا بالناس ضرر كبير. وفي هذا الشهر: نزل الفول إلى خمسين درهماً الأردب، والشعير إلى ستين درهماً الأردب، والقمح إلى مائة وثلاثين درهماً الأردب. هذا والذهب. بمائتين وثمانين درهماً الدينار. وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب السلطان من قلعة الجبل في موكب جليل ملوكي، احتفل له، ولبس قماش الركوب كما كان يلبس الظاهر برقوق، وهو قباء أخضر. بمقلب أحمر، وعلى رأسه كلفتاه، وجر الجنائب، وصاحت الجاويشية وهو سائر، وحوله الطبردارية، حتى عبر من باب زويلة، فشق القاهرة وخرج من باب الشعرية يريد الصيد، فبات ليلة الثلاثاء وعاد يوم الثلاثاء آخر النهار. و لم يركب منذ تسلطن للصيد سوى هذه الركبة.

وكانت الدراهم الأشرفية التي يتعامل الناس بها في القاهرة ومصر، ويصرف كل درهم منها بعشرين من الفلوس - زنتها رطل وأوقية وثلث أوقية - قد كثر فيها أنواع من الدراهم، وهي البندقية ضرب الفرنج، والقرمانية ضرب بني قرمان أصحاب الروم، واللنكية ضرب بلاد العجم، والقبرسية ضرب قبرس، والمؤيدية التي ضربت في الأيام المؤيدية شيخ، والدراهم الزغل وهي عمل الزغلية فترد عند النقد لكثرة ما فيها من الغش، فنودي في يوم الأحد رابع عشرينه أن لا يتعامل بشيء من الدراهم سوى الأشرفية. وكان قد نودي. بمثل ذلك فيما تقدم، وعمل به الناس مدة، ثم ترخصت الباعة في التعامل بها كلها، لما جمعوه منها في أيام النهي عنها، حتى مشت في أيدي الناس، وتعاملوا بها، فلما نودي بالمنع منها عاد الأمر كما كان، فخسر أناس عدة خسارات، وأخذت الباعة وغيرها في جمعها لتتربص بها مدة، ثم تخرجها شيئاً فشيئاً، لعلمهم أن الدولة لا تثبت على حال، وأن أوامرها لا تمضي.
في خامس عشرينه: ركب السلطان للصيد، ورمي الجوارح، وعاد من الغد. وتكرر ركوبه لذلك مراراً.
وفي هذا الشهر: توقف التجار في أخذ الذهب، من كثرة الإشاعة بأنه ينادي عليه، فنودي في يوم السبت سلخه أن يكون سعر الدينار الأشرفي. بمائتين وخمسة وثلاثين، والمشخص بمائتين وثلاثين، وهدد من زاد على ذلك بأن يسنبك في يده، فعاد الضرر في الخسارة على كثير من الناس، لانحطاط سعر الدينار خمسين درهماً.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في رابعه: جمع الصيارفة والتجار، وأشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانية، ولا الدراهم اللنكية، ولا القبرسية، وأن هذه الثلاثة أنواع تباع بالصاغة على حساب وزن كل درهم منه بستة عشر درهماً من الفلوس، حتى يدخل بها إلى دار الضرب، وتعمل دراهم أشرفية خالصة من الغش، ونودي بذلك وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية والدراهم المؤيدية، والدراهم البندقية، فإن هذه الثلاثة فضة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف الدراهم التي منع من المعاملة بها، فإن عشرتها إذا سبكت تجيء ستة، لما فيها من النحاس. واستقر الذهب الأشرفي. بمائتين وثمانين، والأفرنتي. بمائتين وسبعين، وأخذت الدنانير الأفرنتية في القلة، لكثرة ما يسبك منها في دار الضرب، وتعمل دنانير أشرفية، فإنها بوزن الأفرنتية، وسعرها عشرة دراهم على الأفرنتي.
في تاسعه: ركب السلطان للصيد، وعاد من الغد.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: أهل هذا الشهر والسلطان والأمراء في الاهتمام بحركة السفر لمحاربة قرا يلك والأسعار رخيصة جداً.
وفي سادسه: برز الأمير شاهين الطويل - أحد الأمراء العشرات - ليسير إلى طريق الحجاز، ومعه كثير من البناة والحجارين والآلات والأزواد والأمتعة، لإصلاح المياه التي فيما بين القاهرة ومكة، وحفر آبار في المواضع المعطشة، فساروا في نحو المائة بعير.
وفي سابعه: نودي بأن الفضة على ما رسم به، وأن لا يتعامل بالقرمانية ولا اللنكية، وأن الدينار الأشرفي بمائتين وثلاثين، والأفرنتي بمائتين وخمسة وعشرين. وحذر من خالف ذلك، فتزايدت المضرة لكثرة التناقض، وعدم الثبات على الأمر، واستخفاف العامة براعيها، وقلة الاهتمام بما يرسم به.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في سابعه: برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يريد التوجه إلى مكة فسار معه ركب فيه جماعة ممن يريد الحج والعمره، تبلغ عدة جمالهم نحو الألف وخمسمائة جمل، ثم رفعوا من بركة الحاج في ثاني عشره، فلما وصلوا إلى الوجه - وكنت فيهم بأهلي - وجدنا فيما بين الوجه وأكره عدة موتى، ما بين رجال ونساء، ممن هلك في عطشة الحاج، فدفن منهم نحو الألف، وترك ما شاء الله.
وفي رابع عشرينه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر، وأعيد إلى قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:

في تاسع عشره: عارض ركب المعتمرين رفقة ابن المرة عرب زبيد، فانحنا في غير وقت النزول، وكادت الفتنة أن تثور، حتى صولحوا على مائة دينار، قام بها ابن المرة من ماله، ولم يكلف أحد وزن شيء، فلما نزلنا رابغ أهلينا بالعمرة، ونحن على تخوف وسرنا، فبينما نحن فيما بين الجرينات وقديد أغار علينا، ونحن سائرون ضحى، الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في نحو مائة فارس وعدة كثيرة من المشاة، وقاتلنا فقاتله القوم صدراً من النهار، والجمال مناخة بأحمالها، فقتل منا رجلان، ومن العرب نحو العشرة، وجرح كثير، ثم وقع الصلح معه على ألف ومائة دينار أفرنتية، وعلى ثياب جوخ وصوف وعبي بنحو أربعمائة دينار، فكف الناس عن القتال بعد ما تعين الظفر لزهير، وبتنا بأنكد ليلة من شدة الخوف، والمال يجبى من كل أحد بحسب حاله، فمنهم من جبي منه مائة دينار، ومنهم من أخذ منه دينار واحد، وحمل ذلك من الغد، وسرنا فقدمنا مكة ولله الحمد في يوم الثلاثاء ثامن عشرينه، فكانت مدة سيرنا من القاهرة إلى مكة - شرفها الله تعالى - ستة وأربعين يوماً.
وفي هذا الشهر: استقر جانبك الناصري الإسكندرية، بعد موت الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار، وأصله من مماليك الأمير يلبغا الناصري، ثم عمل في الأيام المؤيدية رأس نوبة المقام الناصري إبراهيم ابن السلطان، وصار من جملة الأمراء وولي كشف الجسور بالغربية.
وفيه أندر المنجمون بكسوف الشمس، فنودي بالقاهرة أن يصوم الناس ويفعلوا الخير، فلم يظهر الكسوف، ووقع الإنكار على من أنذر به، ثم قدم الخبر بحدوث كسوف الشمس بجزيرة الأندلس، حتى استولى على جرم الشمس كله، إلا مقدار الثمن منه، وذلك بعد نصف النهار من ثامن عشرينه.
شهر رجب، أوله السبت: في سابع عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
شهر شعبان، أوله الاثنين:

في حادي عشره: كانت زلزلة عظيمة شديدة، بعد صلاة الظهر، بجزيرة الأندلس، وبمرج أغرناطة، سقطت بها أبنية كثيرة على سكانها فهلكوا، وخسف بثلاث بلاد كبيرة في مرج أغرناطة - وهي بلد همدان وبلد أوطورة وبلد دارما - فابتلعت الأرض هذه البلاد بأناسها وبقرها وغنمها وسائر ما فيها، حتى صار من يمر من حولها يقول كان هنا بلد كذا وبلد كذا، وانخسف في كثير من البلاد عدة مواضع، وسقط نصف قلعة أغرناطة، وتهدم كثير من الجامع الأعظم، وسقط أعلى منارته، ورؤى حائط الجامع يرتفع ثم يرجع، ومقدار ارتفاعه نحو عشرة أذرع، ارتفع كذلك مرتين، وخاف رجل عند حدوث الزلزلة، فأخذ ابنه وأراد أن يخرج من باب داره، فالتصق جانبا الباب، وانفرج الحائط فخرج من ذلك الفرج هو وابنه وامرأته، فعاد الحائط كما كان، وتراجع جانبا الباب إلى حالهما قبل الزلزلة، وأقامت الأرض بعد ذلك نحو خمسة وأربعين يوماً تهتز، حتى خرج الناس إلى الصحراء ونزلوا في الخيم خوفاً من المدينة أن تسقط مبانيها عليهم، وكان هذا كله بعد وصول السلطان المخلوع أبي عبد الله محمد الأيسر من تونس إلى الأندلس، وحصره قلعة أغرناطة سبعة أشهر، وقتله الأجناد والرجال حتى فنيت العدد والأموال، فبلغ ذلك ملك قشتالة الفنشي فجمع عساكره من الفرنج، وركب البحر إلى قرطبة يريد أخذ أغرناطة من المسلمين، فاشتد البلاء عليهم لقلة المال بأغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة، وموت من هلك في الزلزلة، وهم زيادة على ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قتل من المسلمين نحو الخمسة عشر ألف، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألف، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رشدهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر ابن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق - شيخ الغزاة - خرج من مدينة أغرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفاً من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار. حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع إمارة في الجبال يعلم بها السلطان بأغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنج، تتبعهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقي فيه النار، ووضع السيف فيمن هنالك، فقتل وأسر وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل أغرناظة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطان بمن معه أقفيتهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثون ألفاً، ولحق باقيهم ببلادهم، بعد ما كادوا أن يملكوا أغرناطة.
وبلغت عدة من أسر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفاً، ويقول المكثر إنه قتل ومات وأسر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفاً. وكان سبب هذه الحادثة أنه وقع بين ملك القطلان صاحب برجلونة، وبين ملك قشتالة صاحب أشبيلية وقرطبة، فجمع القشتيلي، وسار لحرب القطلاني، حتى تلاقى الجمعان، فمشى الأكابر بين الملكين في الصلح، فاعتذر القشتيلي بأنه أنفق في حركته مالاً كثيراً، فأشير عليه بأخذ ما أنفقه من المسلمين، بأن يغزوهم فإنهم قد ضعفوا، وما زالوا حتى تقرر الصلح، ونزل على أغرناطة، وكان ما تقدم ذكره.
وفي شهر رمضان: هذا ابتدأت في إسماع كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلم من أول يوم فيه بقراءة - المحدث الفاضل تقي الدين محمد بن محمد بن فهد الهاشمي، بالمسجد الحرام تجاه الميزاب، وكان جمعاً موفوراً. شهر شوال، أوله الثلاثاء: في يوم الأربعاء تاسعه - الموافق لسادس عشرين بؤونة - : أخذ قاع النيل، فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة ثلاثة أصابع، واستمرت الزيادة.

وفي حادي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة، صحبة الأمير قرا سنقر، ورفع منها إلى بركة الحجاج، وحج القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، عظيم الدولة ومدبرها، وحجت خوند جلبان زوجة السلطان أم ولده، في تجمل كبير بحسب الوقت.
وفي هذا الشهر: اتفقت حادثة غريبة، وهو أنه اجتمع بأجران كوم النجار بالغربية، من الفيران، عدد لا يحصيه إلا الله تعالى، واقتتلوا من العصر إلى قريب عشاء الآخرة، فوجد من الغد نحو خمسة آلاف فار ميت، فجمعوا، وأحرقوا، وأفسد الفار مقاتي البطيخ ونحوه، وأكلوا الغلال وهي في سنبلها، وأكلوا أكثر ما في جرون نواحي الغربية، بحيث أن بعض النواحي لم ترد بذارها وكان يجتمع في المواضع الواحد أكثر من ثلاثمائة فأر.
شهر ذي القعدة، أوله الخميس: في يوم الاثنين ثاني عشره - الموافق له تاسع عشرين أبيب - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وركب الأمير قرقماس حاجب الحجاب حتى خلق المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفيه زاد النيل اثني عشر إصبعاً من الذراع السابعة عشر، وفي هذا نادرتان من نوادر النيل، إحداهما الوفاء قبل مسرى، وقد أدركنا ذلك وقع مرتين. والثانية زيادة هذا القدر في يوم الوفاء ولم يدرك مثل ذلك، واستمرت زيادة النيل والنداء عليه في كل يوم.
وفي هذا الشهر: استجد بعيون القصب من طريق الحجاز بئر حفرت بإشارة القاضي زين الدين عبد الباسط، فعظم النفع بها. وذلك أنني أدركت عيون القصب، وتخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض، فينبت فيه القصب الفارسي وغيره شيء كثير، ويرتفع في الماء حتى يتجاوز قامة الرجل في عرض كبير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء يغتسلون منه ويردون ثم انقطع هذا الماء، وجفت تلك الأعشاب فصار الحاج إذا نزل هناك، احتفروا حفائر يخرج منها ماء رديء إذا بات ليلة واحدة في القرب نتن فأغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذباً. وكان قبل ذلك بنحو شهرين قد حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له زعم وقبقاب وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه، تارة يجد فيه الماء، وتارة لا يجده. فلما هلك الناس من العطش في السنة الماضية، بعث السلطان بشاهين هذا كما تقدم ذكره، فحفر البئرين بناحية زعم، حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه، فيروي الحاج منهما، وعم الانتفاع بهما، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة.
شهر ذي الحجة، أوله السبت: في ثاني عشرينه: خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بعد موته. وابن الخطير هذا من نصارى القبط، وله بيتوته مشهورة. كان اسمه جرجس، وتلقب بالشيخ التاج، وترقى في الخدم الديوانية، وباشر ديوان الأمير برسباي في الأيام المؤيدية شيخ، فألزمه بالإسلام، فأسلم وتسمى تاج الدين عبد الوهاب، وخدم بديوان الخاص وبالديوان المفرد، فلما تسلطن الأشرف برسباي، رقاه، وولاه نظر الاصطبل، عوضاً عن بدر الدين محمد بن مزهر لما ولاه كتابة السر، وأضاف إليه عدة رتب، منها أستادار المقام الناصري ابن السلطان، فشكرت سيرته من عفته وأمانته ورفقه بالفلاحين، ولين جانبه، وحسن سياسته، مع كثرة بره وإحسانه، بحيث لا يوجد في أبناء جنسه من يدانيه فكيف يساويه. وإن أراد الله عمارة البلاد جعل إليه تدبير أمرها.
وفي يوم السبت سلخه: قدم مبشرو الحاج، وقد مات كبيرهم الأمير فارس بينبع، وكان مجرداً. بمكة على طائفة من المماليك، وهو أحد أمراء العشرات.
ومات في هذه السنة من الأعيانمجد الدين إسماعيل بن أبي الحسن بن علي بن عبد الله البرماوي الشافعي، في يوم الأحد خامس عشر ربيع الآخر. ومولده في حدود الخمسين وسبعمائة. مهر في الفقه والعربية، وعدة فنون، وتصدى للأشغال سنين كثيرة، وخطب بجامع عمرو بن العاص بمصر.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار بن الأقطع نائب الإسكندرية، في يوم الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة كان أبوه من الأوشاقية في الاصطبل السلطاني. وترقى أحمد هذا في الخدم حتى اتصل بالأمير برسباي، وعمل دواداره، فرقاه في سلطته، وعمله من جملة الأمراء، ثم ولاه نيابة الإسكندرية.

ومات برهان الدين إبراهيم بن علي بن إسماعيل بن الظريف أمين الحكم، في يوم السبت خامس عشر شوال، عن نحو ستين سنة.
ومات سراج الدين عمر بن منصور البهادري في يوم السبت ثاني عشر شوال وقد برع في الفقه والنحو، وناب في الحكم عن القضاة الحنفية، وانفرد بالتقدم في علم الطب، فلم يخلف بعده مثله.
ومات الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة. وقد ولي أستادار وولي الوزارة، ونكب غير مرة.
سنة خمس وثلاثين وثمانمائةشهر الله المحرم، أوله الأحد: في عاشره - الموافق لعشرين مسرى - : انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً واثني عشر إصبعاً، ثم نقص خمسة عشر إصبعاً، وزاد ونقص إلى حادي عشرينه، وهو أول بابه. ثم لم يناد عليه لاستمرار النقص.
وفي ثاني عشرة: قدم الأمير طرباي نائب طرابلس، فأكرمه السلطان وأعاده إلى محل كفالته، فسار بعد خمسة أيام.
وفي ثالث عشرينه: قدم القاضي زين الدين عبد الباسط، وصحبته خوند جلبان، وبقية الركب الأول، وقدم بعدهم من الغد محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر، وقدمت معهم، وقد عسف الأمير الناس في المسير، مع ما أصابهم من العطش في توجههم.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: في خامسه: انتشر بآفاق السماء جراد كثير، كفى الله شره.
وفي نصفه: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، وأعيد إلى كشف الوجه القبلي، عوضاً عن مراد خجا، وقد ساءت سيرته، ومبالغته في ظلم الناس.
وقدم الخبر بأن الخراب شمل البلاد من توريز إلى بغداد، مسيرة خمسة وعشرين يوماً بالأثقال، وأن الجراد وقع بتلك البلاد حتى لم يدع بها خضراً، مع شدة الوباء وانتهاب الأكراد ما بقي، وأن الغلاء شنع عندهم حتى أبيع المن من لحم الضأن - وهو رطلان بالمصري - بدينار ذهب، وأبيع لحم الكلب كل من بستة دراهم، وقد كثر الوباء ببغداد والجزيرة وديار بكر، ومع ذلك فقد عظم البلاء بأصبهان بن قرا يوسف بناحية الحلة والمشهد.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في سابع عشره: نزل عدة من المماليك السلطانية - سكان الطباق - من قلعة الجبل، إلى دار الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ أستادار، يريدون الفتك به، وكان علم من الليل، فتغيب واستعد، فلم يظفروا به ولا بداره، وعادوا، وقد أفسدوا فيما حوله فسأل الإعفاء من الأستادارية، فأعفى واستدعى الوزير صاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في يوم السبت ثالث عشرينه، وخلع عليه، وأعيد إلى الأستادارية. فكان في ذلك موعظة، وهي أن المماليك كانت جراياتهم ولحومهم وجوامكهم وعليقهم مصروفة، ولا يخطر ببال أحد عزل ابن كاتب المناخ لثباته وسداد أمور الديوان في مباشرته، وانقطاع ابن نصر الله في بيته منذ نكب عدة سنين، فألقى الله في نفس ابن كاتب المناخ الخوف من المماليك، حتى طالب الإعفاء، وألهم الله السلطان ذكر ابن نصر الله، فبعث إليه بالقاضي زين الدين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص في يوم الأربعاء يسلمون عليه من قبل السلطان، ويعلموه بأنه عينه أستاداراً، فاعتذر بقلة ماله، وتغير أحواله، وهم يرددون سؤاله في القبول، ويشيرون عليه بذلك، ويحذرونه من المخالفة، فاستمهلهم حتى يستخير الله، فتركوه وانصرفوا، فأشار عليه من يثق به أن يقبل فأجاب، وأرسلوا إليه، فوافقهم على رأيهم.
وفي سابع عشرينه: نودي بأن لا يسافر أحد صحبة ابن المرة إلى مكة، فشق ذلك على الناس لتجهز كثير منهم للسفر.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: في ثامنه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة خلعة السفر إلى جدة وحذر من أخذ أحد معه، خوفاً عليهم من العرب.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف جرم القمر جميعه مدة ثلاث ساعات من أول الليل.
وفي سادس عشره: ابتدئ بهدم قصر بيسري بين القصرين، وكان قد أخذ رخامه وعمل في داير الأشرفية المستجدة.
وفي خامس عشرينه: ركب السلطان من القلعة، وعبر القاهرة من باب زويلة، ونزل في بيت عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط، ثم ركب منه بعد ساعة إلى بيت سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص، فجلس عنده قليلاً، وعاد إلى القلعة، وأكثر في هذا الشهر - بل في هذه السنة - من الركوب وعبور القاهرة، وإلى الصيد والنزهة، بخلاف ما كان عليه أولاً.

وفي سادس عشرينه: حمل القاضي زين الدين عبد الباسط، والقاضي سعد الدين ناظر الخاص إلى السلطان تقادم جليلة.
وفي هذه الأيام: قدم بيرم التركماني الصوفي صاحب هيت فاراً من أصبهان بن قرا يوسف، وقد قتل السلطان حسين، وملك الحلة، فخرج بيرم من هيت في ستمائة من أصحابه، فيهم ثلاثمائة فارس، فلقيته غزية عرب تلك البلاد، فأخذوا من كان معه، وكان جمعاً غفيراً ما بين تجار وغيرهم ونجا في طائفة معه، فأكرمه السلطان، وأنزله وأجرى له راتباً يليق به، ثم أقطعه بناحية الفيوم إقطاعاً معتبراً.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في ثانيه: عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ورسم لأقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي أن يتحدث في وظيفة الأستادارية، ثم خلع عليه من الغد، ولزم ابن نصر الله داره. وسبب ذلك لما بلغ أقبغا عزل ابن كاتب المناخ من الأستادارية سأل في الحضور، فأجيب، وقدم، فسعى في الأستادارية على أن يحمل عشرة آلاف دينار، إن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين، وهي مبلغ أربعين ألف دينار، فأجيب، وأبقى الكشف أيضاً معه، وأضيف إليه كشف الوجه البحري.
وفي عاشره: برز سعد الدين بن المرة يريد السفر إلى جدة، ثم رحل في ثاني عشره، ولم يمكن أحداً من السفر معه، فلم يتمكن إلا إلزامه وحاشيته.
وفي سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقد طالت مدة مرضه، فباشر القضاء والحسبة ونظر الأحباس جميعاً.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه خلع على الأمير صلاح الدين أستادار ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله، واستقر محتسب القاهرة، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي. وكان الأمير صلاح الدين - منذ نكب هو ووالده - ملازماً لداره، وعمل مع الحسبة حاجباً.
وفي ثالثه: أدير محمل الحاج على العادة، إلا أنه عجل به في أول الشهر لأجل حركة السلطان إلى سفر الشام، فإنه تجهز لذلك هو وأمراؤه.
وفي عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء، وقدم معه قاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فباتا في تربة الظاهر برقوق خارج القاهرة، وصعدا من الغد إلى قلعة الجبل، وقبلا الأرض، فلما انقضت الخدمة نزل النائب إلى بيته ولم يخلع عليه، فعلم أنه معزول، وخلع عليه من الغد واستقر أميراً كبيراً عوضاً عن الأمير شارقطلوا، وخلع على شارقطلوا واستقر عوضه في نيابة الشام، ورسم بإبطال الحركة إلى السفر، فبطلت.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه خلع على الأمير شارقطلوا نائب الشام خلعة السفر، وتوجه إلى مخيمه خارج القاهرة، وخلع على القاضي كمال الدين بن البارزي خلعة السفر، ثم خلع عليه من الغد يوم الجمعة ثالثه، واستقر قاضي القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة، مضافاً لما بيده من كتابة السر، ولم يعهد مثل ذلك في الجمع بين القضاء وكتابة السر، إلا أنه أخبرني - أدام الله رفعته - أن والده المرحوم ناصر الدين محمد بن البارزي جمع بين قضاء حماة وكتابة السر بها.
شهر رمضان، أوله الخميس: في يوم الثلاثاء ثالث عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وسبب ذلك أنه سافر إلى بلاد الصعيد، فعاث في البلاد عيث الذئب في زريبة غنم، فصادر أهلها وعاقبهم أشنع عقوبة، حتى أخذ أموالهم، وتعتع ما بقي من الإقليم، فشنعت القالة فيه، فوعد لما قدم أن يحمل عشرين ألف دينار، فحاققه القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير ناظر الديوان المفرد على ما أخذ من أموال النواحي، حتى تسابا بين يدي السلطان، فرسم بمحاسبته، فحقق في جهته خمسة عشر ألف دينار، فخلع عليه تقوية له، ونزل على أنه يحمل ما وجب عليه.
وفي هذه الأيام: أوقعت الحوطة على فلفل التجار بالقاهرة ومصر والإسكندرية، ليشتري للسلطان من حساب خمسين ديناراً الحمل، وكان قد أبيع عليهم فلفل السلطان في أول هذه السنة بسبعين ديناراً الحمل، ورسم بأن يكون الفلفل مختصاً بمتجر السلطان، لا يشتريه من تجار الهند الواردين إلى جدة غيره، ولا يبيعه لتجار الفرنج القادمين إلى ثغر الإسكندرية سواه، فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير.

وفي سادس عشرينه: خلع على دولات خجا، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج الشويكي وأخيه عمر. ودولات هذا أحد المماليك الظاهرية، وولي كشف الوجه القبلي فتعدى الحدود في العقوبات، وصار ينفخ بالكير في دبر الرجل حتى تنذر عينيه وتنفلق دماغه إلى غير ذلك من سيء العذاب، ثم ولي كشف الوجه البحري، وكان التاج قد ترفع عن مباشرة الولاية، وأقام فيها أخاه عمر، فشره في المال، حتى كان كلما أتاه أحد بسارق أخذ منه مالاً وخلى عنه، فأمن السراق في أيامه على أنفسهم، وصاروا له رعية يجبى منهم ما أحب، فلما ولي دولات خجا بدأ بالإفراج عن أرباب الجرائم من سجنهم، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنه، رهب إرهاباً زائداً، وركب في الليل، وطاف، وأمضى وعيده في السراق، فما وقع له سارق إلا وسطه، فذعر الناس منه.
وفيه خلع على عمر أخي التاج، واستقر من جملة الحجاب، ليرتفق بمطالع العباد على بلوغ أغراضه ونيل شهواته.
وأكثر دولات خجا من الركوب ليلاً ونهاراً بفرسانه ورجالته، وألزم الباعة بكنس الشوارع، ثم رشها بالماء، وعاقب على ذلك، ومنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام الجمع.
وفي هذا الشهر: أجريت العين حتى دخلت إلى مكة، بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاه، ومرت على سوق الليل إلى الصفا وانتهت إلى باب إبراهيم، وساحت من هناك فعم النفع بها، وكثر الخير، لشدة احتياج الناس بمكة، إلى الماء، وقلته أحياناً، وغلاء سعره وتولى ذلك سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي، أحد التجار وأنفق فيه من ماله جملة وافرة.
شهر شوال، أوله السبت: في ثالثه: قدم النجاب من دمشق بجواب الأمير شارقطلوا نائب الشام يعتذر عن حضور قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك. وكان قد كتب بحضوره ليستقر في كتابة السر، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد موته، ويحمل عشرة آلاف دينار، فامتنع من ذلك واحتج بضعف بصره وآلام تعتريه، فاستدعى السلطان عند ذلك الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، ورسم له بكتابة السر.
فلما أصبح يوم الثلاثاء رابعه: خلع عليه خلعة الوزارة، واستقر في كتابة السر مضافاً إلى الوزارة، ولم يقع مثل ذلك في الدولة التركية أنهما اجتمعا لواحد، فنزل في موكب جليل إلى الغاية، وباشر مع بعده عن صناعة الإنشاء وقلة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال، غير أن الكفاءة غير معتبرة في زماننا، بحيث أن بعض السوقة ممن نعرفه ولي كتابة السر بحماة على مال قام به، وهو لا يحسن القراءة ولا الكتابة، فكان إذا ورد عليه كتاب وهو بين يدي النائب لا يقرأه مع شدة الحاجة إلى قراءته، ليعلم ما تضمنه، ثم يمضي إلى داره حتى يقرأه له رجل أعده عنده لذلك، ثم يعود إلى النائب فيعلموه بمضمون الكتاب، وتداعى بالقاهرة خصمان عند كبير من قضاتها، فقضي على المدعي عليه، فقال له ما معناه أنه حكم بغير الحق، فأمر بإخراجهما حتى ينظر في مسألتهما، ثم طلع بعض كتب مذهبه، فوجد الأمر على ما ادعاه الرجل من خطأ القاضي، فردهما، وقال: وجدنا في الكتاب الفلاني الأمر كما قلت، ولم يبال بما تبين من جهله، ولهذا نظائر لو عددنا ما بلغنا منها، لقام من ذلك سفر كبير مع الحجاب وإعجاب، وفرط الرقاعة، وإلى الله المشتكى.
وفي الخميس ثالث عشره: ابتدأ السلطان بالجلوس في الإيوان بدار العدل من القلعة. وكان قد ترك من بعد الظاهر برقوق الجلوس به في يوم الاثنين والخميس، إلا في النادر القليل، سيما في الأيام المؤيدية شيخ، فتشعث ونسبت عوائده ورسومه، إلى أن اقتضى رأى السلطان أن يجدد عهده، فأزيل شعثه وتتبعت رسومه. ثم جلس فيه، وعزم على ملازمته في يومي الخدمة، ثم ترك ذلك.
وفيه قدم ركب الحجاج المغاربة، وقدم ركب الحاج التكرور أيضاً، وفيهم بعض ملوكهم، فعوملوا جميعاً بأسوأ معاملة من التشدد في أخذ المكوس مما جلبوه من الخيل والرقيق والثياب، وكلفوا مع ذلك حمل مال، فشنعت القالة.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج.
وفي حادي عشرينه: أخذ قاع النيل،، فكان ستة أذرع، وعشرين إصبعاً.

وفي هذه الأيام: رسم بشراء الغلال للسلطان، فإنها رخيصة، وربما توقفت زيادة النيل، فغلت الغلال، فيكون السلطان أحق بفوائدها، فخرجت المراسيم إلى أعمال مصر بشراء غلال الناس، وألزم سماسرة الغلة بساحل مصر وساحل بولاق أن لا يبيعوا لأحد شيئاً من الغلال، حتى يتكفي السلطان، فكثر من أجل هذا تطلع الناس إلى شراء الغلة، ما كان عدة أشهر وهي كاسدة، وسعر القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والفول والشعير من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها، وسائر أسعار المبيعات رخيصة جداً، فالله يحسن العاقبة.
وفي ثاني عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، فنودي بزيادة أربعة أصابع، وقدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأرسى منها اثنان بساحل عدن، فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن، فكتب كبير هذين الزنكين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، يستأذن في قدومهم إلى جدة، فاستأذنا السلطان في ذلك، ورغباه في كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال، فكتب بقدومهم إلى جدة وإكرامهم.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: فيه استدعى قضاة القضاة الأربع، بجميع نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر إلى القلعة، لتعرض نوابهم على السلطان، وقد ساءت القالة فيهم، فدخل القضاة الأربع إلى مجلس السلطان، وعوق نوابهم عن العبور معهم، فانفض المجلس على أن يقتصر الشافعي على خمسة عشر نائباً، والحنفي على عشرة نواب، والمالكي على سبعة، والحنبلي على خمسة، وقد تقدم مثل هذا كثير ولا يتم.
وفي سابعه: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن دولات خجا.
وفي ثامن عشرينه: ورد الخبر بموت جينوس بن جاك صاحب قبرس.
وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي، واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بدمشق، عوضاً عن نظام الدين عمر بن مفلح، وخلع عليه من بيت الوزير كاتب السر كريم الدين، ولم يعهد قضاة القضاة يخلع عليهم إلا من عند السلطان، غير أن الوزير أعاد لكنابة السر بعض ما كان من رسومها لوفور حرمته واستبداده، وكان مع ذلك القضاة والفقهاء قد انحط جانبهم، واتضع قدرهم.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: فيه نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، ووافق ذلك خامس مسرى. وهذا مما يندر وقوعه، فركب الأمير جقمق أمير أخور لفتح الخليج على العادة.
وفي خامس عشرينه: سارت سرية عدتها ستون مملوكاً مع بعض أمراء العشرات إلى قبرس، ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره في مملكة قبرس، عوضاً عن أبيه، نيابة عن السلطان، ومطالبته بما تأخر على أبيه، وهو أربعة وعشرون ألف دينار، وما التزم به في كل سنة، وهو خمسة آلاف دينار.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي هذا الشهر: كثر تقطع الجسور بالنواحي، فغرقت بلاد عديدة، ودخل الماء إلى كثير من البلاد قبل أوانه، فغرقت الجرون وهي ملآنة بالغلال، وتلف من المقاتي والسمسم والنيلة ما يبلغ قيمته آلاف دنانير، وشرقت عدة بلاد، وكل ذلك من فساد عمل الجسور وأخذ الأموال في النواحي عوضاً عن رجال العمل وأبقارها.
وفيه فرقت عدة بلاد من بلاد الديوان المفرد على جماعة ليعمروها، فإنها خربت من سوء ولاية الأستادارية وعسفهم، وكثرة المغارم، فسلم إلى القاضي زين الدين عبد الباسط وإلى الوزير كريم الدين، وإلى سعد الدين ناظر الخاص، وإلى التاج بن الخطير، كل منهم بلد من البلاد، وسلم إلى آخرين دون هؤلاء عدة بلاد.
وفيه رسم أن يعلق على كل حانوت من حوانيت الباعة بالأسواق قنديل يضيء الليل، فعمل ذلك.
وفيه كثرت زيادة ماء النيل، فانسلخ ذو الحجة بيوم الأربعاء رابع أيام النسىء، والماء على ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً.
وهذه السنة: تحول الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز، فحولت سنة ست إلى سنة سبع وثلاثين.

وفيها نزل الطاغية النشو بن دون فرنادو بن أندريك بن جوان قتيل الفرس بن فدريك بن أندريك ملك الفرنج القطلان، وصاحب برشلونة، على جزيرة صقلية، في شهر رمضان، وسار ومعه صاحب صقلية في نحو مائتي قطعة بحرية حتى أرسى على جربة في سابع عشر ذي الحجة وملكها. وكان ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز غائباً عن تونس في جهات تلمسان، فلما بلغه ترك معظم عسكره وسار على الصحراء حتى دنا من جربة، وكانت بينه وبين الفرنج وقعة كاد يؤخذ فيها، وقتل من الفريقين جماعات كثيرة. وهذا الطاغية النشو مات جده أندريك، وملك بعده ابنه جوبان بن أندريك بن جوبان. خرج فرناندو بن أرندريك من بلد أشبيلية يريد محاربة القطلان أهل برشلونة - وقد مات ملكهم مرتين، فغلبهم، وملك برشلونة وأعمالها، حتى مات، فملك بعده ابنه النشو هذا.
وفيه قدم أحد ملوك التكرور للحج، فسار إلى الطور ليركب البحر إلى مكة، فمات بالطور ودفن بجامعه. وكان خيراً كثير التلاوة للقرآن، فيه بر وإحسان.
ومات في هذه السنة من الأعيانالسلطان حسين بن علاء الدولة بن القان غياث الدين أحمد بن أويس. وكان قد أقيم بعد أحمد بن أويس في السلطة ببغداد شاه ولد بن شاه زاده بن أويس، ثم قتل بعد ستة أشهر بتدبير زوجته تندو ابنة السلطان حسين بن أويس، وقامت بالتدبير، ثم خرجت من بغداد بعد سنة فراراً من شاه محمد بن قرا يوسف، ونزلت ششتر في عدة من العسكر، وملك شاه محمد بغداد، فأقيم مع تندو في السلطنة السلطان محمود بن شاه ولد؛ فدبرت عليه وقتلته بعد خمس سنين، وانفردت بمملكة ششتر، وملكت البصرة، بعد حرب شديدة، ثم ماتت بعد انفرادها بثلاث سنين، فأقيم ابنها أويس بن شاه ولد، وقتله أصبهان بن قرا يوسف في الحرب بعد سبع سنين، وأقيم بعده بششتر أخوه شاه محمد بن شاه ولد، فمات بعد ست سنين وقام من بعده حسين بن علاء الدولة وملك البصرة، وواسط، وعامة العراق ما عدا بغداد، فإنها بيد شاه محمد بن قرا يوسف. ولم يزل محارباً لأصبهان بن قرا يوسف حتى نزل عليه أصبهان وحصره بالحلة مدة سبعة أشهر، حتى أخذه وقتله في ثالث صفر من هذه السنة، فانقرضت بمهلكه دولة الأتراك بني أويس من العراق، وصار عراقا العرب والعجم بيد اسكندر وشاه محمد وأصبهان - أولاد قرا يوسف - وقد خرب على بأيديهم.
ومات شرف الدين عيسى بن محمد بن عيسى الأقفهسي الشافعي، أحد نواب الحكم، في ليلة الجمعة سادس عشرين جمادى الآخرة، ومولده في سنة خمسين وسبعمائة. وبرع في الفقه، وناب في الحكم عن العماد أحمد الكركي، ومن بعده من سنة اثنين وتسعين، وكان كثير الاستحضار للفروع.
ومات شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر المعروف بابن السفاح الحلبي، في ليلة الأربعاء رابع عشر شهر رمضان، عن ثلاث وستين سنة، وباشر هو وأخوه وأبوه كتابة السر بحلب، ولهم بها رياسة وتمكن وأموال، ثم باشر كتابة السر بديار مصر، فلم يسعد ولم ينجب، وكان فيه هوج وطيش.
ومات الصاحب علم الدين يحيى أبو كم الأسلمي، في ليلة الخميس ثاني عشرين رمضان، وقد أناف على السبعين، فباشر نظر الأسواق، وتنقل حتى ولي الوزارة في الأيام الناصرية فرج، وكان يريد الانتفاء من النصرانية، فحج وجاور بمكة، وأكثر من زيارة الصالحين، والله أعلم. بما كانوا عاملين.
ومات قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني الحنفي، بعد مرض طويل، في ليلة الأحد ثامن شوال، وقد أناف على السبعين. ومولده سنة أربع وستين سبعمائة تخميناً. وقد برع في الفقه والأصول والعربية وولي قضاء القضاة فحسنت سيرته، ولم يترك في الحنفية مثله، ويقال إن بعض جواريه سمعته وقد أوصى بخمسة آلاف درهم لمائة فقير يذكرون الله، قدام جنازته، وسبعة آلاف درهم لكفنه وجهازه ودفنه وقراءة ختمات.
ومات جينوس بن جاك يبروس بن أنطون بن جينوس ملك قبرس، وملك بعده ابنه في حدود سنة ثمانمائة، وقدم إلى القاهرة مأسوراً، ثم أعيد إلى مملكته، وصار نائباً عن السلطان يحمل إليه المال كل سنة.
وقتل نصراني في سابع شوال، ضربت رقبته تحت شباك المدرسة الصالحية، بسبب وقوعه في حق نبي الله داود بعد ما سجن مدة، وعرض عليه الإسلام، فامتنع.
سنة ست وثلاثين وثمانمائة

أهلت هذه السنة والخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان مصر والشام والحجاز وقبرس الملك الأشرف أبو الفرج برسباي، والأمير الكبير الأتابك سودن من عبد الرحمن، وأمير سلاح أينال الجكمي، وأمير مجلس أقبغا التمرازي، ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي، وأمير أخور جقمق، والدوادار الأمير أركماس الظاهري، والوزير كاتب السر كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وناظر الجيش عظيم الدولة ومدبرها القاضي زين الدين عبد الباسط وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب الجكمي، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي ناظر الأحباس بدر الدين محمود العينتابي، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، والمحتسب الأمير الحاجب صلاح الدين محمد بن نصر الله، والوالي التاج الشويكي، ونائب الشام الأمير شار قطلوا، ونائب حلب الأمير قصروه، ونائب طرابلس الأمير طرباي، ونائب حماة الأمير جلبان، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني، ونائب غزة الأمير أينال الأجرود، ومتولي مكة - شرفها الله تعالى - الشريف بركات بن حسن بن عجلان، ومتولي مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريف مانع بن علي بن عطية، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار، وملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس الحفصي، وملك المشرق شاه رخ بن تيمورلنك، ومتملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف، وملك الروم مراد بن محمد كرشجي بن عثمان، وملك اليمن الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن العباس بن رسول.
ونيل مصر متزايد، والأسعار رخيصة، القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دون ذلك والشعير والفول من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها. والدينار الأشرفي بمائتين وستين درهماً من الفلوس التي كل رطل منها بثمانية عشر درهماً، ومصر الدرهم الأشرفي بعشرين درهماً من الفلوس، والدينار الأفرنتي بمائتين وخمسين درهماً من الفلوس، والأسواق كاسدة.
شهر الله المحرم، أوله الخميس: في يوم الجمعة ثانيه: كان نوروز القبط بأرض مصر، وهو أول توت.
وقد صار ماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً، وثلاثة وعشرين إصبعاً. واتفق من الغرائب أن يوم الخميس أول السنة وافقه أول يوم من تشرين وهو رأس سنة اليهود، فاتفق أول سنة اليهود مع أول سنة المسلمين، ويوم الجمعة وافقه أول توت - وهو أول سنة النصارى القبط - فتوالت أوائل سنين الملل الثلاث في يومين متوالين واتفق ذلك أن طائفة اليهود الربانيين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم بالحساب، وطائفة القرائين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم برؤية الأهلة.
كما هو عند أهل الإسلام، فيقع بين طائفتي اليهود في رءوس السنين والشهور اختلاف كبير، فاتفق في هذه السنة مطابقة حساب الربانيين والقرائين للرؤيا، فعمل الطائفتان جميعاً رأس سنتهم يوم الخميس. وهذا من النوادر التي لا تقع إلا في الأعوام المتطاولة.
يوم الأحد ثامن عشره: وافقه سابع عشر توت، وهو يوم عيد الصليب عند أقباط مصر. ونودي فيه على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً. وهذا أيضاً مما يندر من كثرة ماء النيل.
وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل من الغد ببقية الحاج.
وفي سادس عشرينه: ضرب السلطان الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وأنزله على حمار إلى ييت الأمير التاج والي القاهرة ليعاقبه على استخراج المال. وخلع من الغد يوم الثلاثاء سابع عشرينه على الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، وأعاده إلى الأستادارية. ورفعت يده من مباشرة كتابة السر، فاستقل بالوزارة والأستادارية، ورسم لشرف الدين الأشقر نائب كاتب السر بمباشرة كتابة السر، حتى يستقر أحد، وعين جماعة لكتابة السر، فوقع الاختيار منهم على قاضي القضاة كاتب السر بدمشق كمال الدين محمد بن البارزي.
وفي ثامن عشرينه - الموافق لسابع عشرين توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وخمسة أصابع.

وفي هذا الشهر: طرق الفرنج ميناء طرابلس الشام، في يوم السبت عاشره، وأخذوا مركباً فيه عدد كثير من المسلمين، وبضائع لها قيمة جليلة. وبينا هم في ذلك إذ قدمت مركب من دمياط فأخذوها أيضاً بما فيها وساروا، فلما ورد الخبر بذلك كتب بإيقاع الحوطة على أموال الفرنج الجنوية والقطلان دون البنادقة، فأحيط بأموالهم التي بالشام والإسكندرية.
وفيه أقلع الطاغية صاحب برشلونة عن جزيرة جربة في عاشره، ومضى إلى جزيرة صقلية. بمن معه من جمائع القطلان، وأهل صقلية.
شهر صفر، أوله السبت: في ثانيه: توجه القاصد لاستدعاء القاضي كمال الدين محمد بن البارزي ليستقر في كتابة السر، وأن يستقر عوضه في قضاء القضاة بدمشق بهاء الدين محمد بن حجي. وأن يستقر عوضه في كتابة السر بدمشق قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفي، ويستقر ولده شمس الدين محمد بن الكشك في قضاء القضاة الحنفية، ويستقر جمال الدين يوسف بن الصفي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن بهاء الدين محمد بن حجي؛ كل ذلك بمال.
وفي سابعه: قدمت الرسل المتوجهة إلى قبرس. وكان من خبرهم أنهم ركبوا البحر من دمياط في شينين، فوصلوا إلى الملاحة يوم السبت عاشر المحرم، وسار أعيانهم في البر يريدون مدينة الأفقسية دار مملكة قبرس، فتلقاهم وزير الملك جوان بن جينوس بن جاك في وجوه أهل دولته، وأنزلهم خارج المدينة، وعبروا المدينة من الغد يوم الاثنين ثاني عشره، ودخلوا على الملك جوان. في قصره، فإذاهو قائم على قدميه، فسلموا عليه وأوصلوه كتاب السلطان وهو قائم وبلغوه الرسالة، فأذعن وأجاب بالسمع والطاعة وقال: أنا مملوك السلطان، ونائب عنه، وقد كنت على عزم أن أرسل التقدمة. فطلبوا منه أن يحلف، فأجابهم إلى ذلك، واستدعى القسيس، وحلف على الوفاء والاستمرار على الطاعة، والقيام بما يجب عليه من ذلك، فأفيض عليه التشريف السلطاني المجهز له.
وخرجت الرسل من عنده، فداروا بالمدينة وهو ينادي بين أيديهم باستمرار الملك جوان في نيابة السلطنة، وأن للناس الأمان والاطمئنان، وأمروا بطاعته وطاعة السلطان، ثم أنزلت الرسل في بيت قد أعد لهم، وأجرى لهم ما يليق بهم من المأكل، وحمل إليهم سبعمائة ثوب صوف قيمتها عشرة آلاف دينار مما تأخر على أبيه أظهر خصم أربعة آلاف دينار ووعد بحمل العشرة آلاف دينار بعد سنة، وبعث إليهم أيضاً بأربعين ثوباً صوفاً برسم الهدية للسلطان الملك، المالك الأشرف أبو النصر برسباي الدقماقي، وأرسل لكل من الرسل شيئاً يليق به على قدره.
وساروا بعد عشرة أيام من قدومهم إلى اللمسون، وركبوا البحر ستة أيام حتى أرسوا على دمياط، وعبروا في النيل إلى القاهرة فقبل السلطان ما حملوه إليه وقرئ كتابه، فإذا هو يتضمن السمع والطاعة، وأنه نائب السلطنة فيما تحت يده، ونحو هذا.
وفي ثامنه: خلع على حسن باك بن سالم الذكري أحد أمراء التركمان، وابن أخت قرا يلك، واستقر في نيابة البحيرة، ورسم أن يكون ملك الأمراء، عوضاً عن أمير علي، وأنعم عليه بمائة قرقل، ومائة قوس، ومائة تركاش، وثلاثين فرساً.
وفي سادس عشرينه: ضربت رقبة رجل ارتد عن الإسلام. وكان من خبره أنه كان نصرانياً، فوجده بعض الناس عند زوجته، فاتقي من القتل بأن أظهر الإسلام، ومضى لسبيله، فلم يقم سوى أشهر وجاء يوم جمعة إلى بعض القضاة وذكر له أنه كان نصرانياً وأسلم، ثم أنه رغب أنه يعود إلى النصرانية.
وقصد أن يطهر بالسيف، وتكلم بما لا يليق من القدح في دين الإسلام وتعظيم دين النصرانية وصرح بما يعتقد من إلاهية المسيح وأمه، فتلطف به القاضي ومن عنده، وهو يلح ويعاند ويفحش في القول، فأمر به فسجن، وعرض عليه الإسلام مراراً في عدة أيام وهو متماد في غيه، فلما أعياهم أمره، وملت الأسماع من فحش كلامه، وجهره بالسوء، ضربت رقبته ثم أحرقت جثته.
وفي سابع عشرينه: كتب باستقرار تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين - أحد موقعي الدست بدمشق - في كتابة السر بها، لامتناع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن الكشك من ولايتها. وكتب أيضاً باستقرار محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحياني المغربي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي بعد موته.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الاثنين:

فيه قدم رسول ملك القطلان من الفرنج بكتابه، وقد نزل على جزيرة صقلية، في ثاني رمضان، بما ينيف على مائتي قطعة بحرية، فتضمن كتابه الإنكار على الدولة ما تعتمده من التجارة في البضائع، وأن رعية الفرنج لا يشترون من السلطان ولا من أهل دولته بضاعة، فرد رسوله رداً غير جميل.
وفي رابعه: فتحت القيسارية المستجدة بخط باب الزهومة من القاهرة، وسكنها الكتبيون؛ وكان سوق الكتب المقابل للصاغة قد هدم وما حوله في سنة ثلاث وثلاثين، وبني قيسارية يعلوها ربع، وبدائرها حوانيت، حيث كانت الصيارف تجاه الصاغة، وحيث كانت النقليون وسوق الكتب والأمشاطيين تجاه شبابيك المدرسة الصالحية، بالقاهرة والصليبة، وسكن في القيسارية التي عملت بجوار الكتبيين أرباب الأقفاص الذين كانوا بالقفيصات تحت شبابيك القبة المنصورية وشبابيك المدرسة المنصورية، وصارت هذه القيسارية سوقاً يضاهي الصاغة، وأسكن في مقاعد القفيصات ودككها قوم من الخريزاتية - بياعي الخرز - وطائفة من أرباب المعايش. فلما كملت القيسارية المستجدة بباب الزهومة، تجاه درب السلسلة، تحول إليها الكتبيون، وجاءت من أحسن ما بني بالقاهرة.
وفي ثامن عشره: سرح السلطان إلى جهة أطفيح، برسم الصيد، وقدم من الغد آخر النهار، وسرح قبل هذا إلى جهة شيبين، وإلى بركة الحجاج أربع سرحات.
وفي تاسع عشره: قدم القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق، ومثل يدي السلطان، وقد خرج الناس إلى لقائه، ثم نزل في داره وخلع عليه من الغد يوم السبت عشرينه، واستقر في كتابه السر ونزل في موكب جليل، فسر الناس به سروراً كثيراً لحسن سيرته وكفايته وجميل طويته وكرمه، وكثرة حيائه، يؤيده.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: فيه قدم الأمير مقبل الزيني نائب صفد، وكان السلطان قد ركب إلى خارج القاهرة، فركب في الخدمة إلى القلعة، ثم نزل في دار أعدت له.
وفي خامسه: خلع على ابن ... واستقر في كشف الوجه القبلي، عوضاً عن طوغان العثماني، على مبلغ اثني عشر ألف دينار يحملها من البلاد.
وفي ثامنه: خلع على الأمير أسنبغا الطياري، أحد أمراء العشرات، واستقر في نظر جدة، عوضاً عن سعد الدين إبراهيم بن المرة، وأذن لابن المرة أن يتوجه معه.
وفي حادي عشره: نودي للناس بالإذن في السفر صحبة الطياري إلى مكة، فسروا بذلك سروراً زائداً، وتجهزوا للسفر.
وفيه توجه الأمير مقبل نائب صفد إلى محل كفالته على عادته، بعد ما قدم مالاً وغيره بنحو اثني عشر ألف دينار.
وفي ليلة الثلاثاء ثالث عشره: بالرؤية ورابع عشره بالحساب، خسف جميع جرم القمر في الساعة الحادية عشر، وأقام في الخسوف ثلاث ساعات ونصف ساعة.
وفي سابع عشرينه: توجه الوزير الأمير أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ إلى الوجه البحري، لتحصيل ما يقدر عليه من الجمال والخيل والغنم والمال، لأجل سفر السلطان إلى الشام.
وفي تاسع عشرينه: ورد كتاب شاه رخ بن تيمور ملك المشرق على يد بعض التجار، يتضمن أنه يريد كسوة الكعبة. ولم يخاطب السلطان إلا بالأمير برسباي وقد تكررت مكاتبته بسبب كسوة الكعبة مراراً عديدة، ولم يظهر لذلك أثر.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الجمعة: في خامسه: أنفق السلطان في المماليك المجردين إلى مكة صحبة الأمير أسنبغا الطياري، وهم خمسون مملوكاً، كل واحد مبلغ ثلاثين ديناراً.
وفي ثامن عشره: برز الطياري بمن معه.
وفيه خلع على سعد الدين بن المرة ليكون رفيقاً للطياري.
وفيه ابتدئ بصر نفقة السفر إلى الشام.
وفي حادي عشره: أنفق في الأمراء نفقة السفر، فحمل إلى الأمير الكبير الأتابل سودن من عبد الرحمن فضة عن ثلاثة آلاف دينار، وإلى كل من الأمراء الألوف - وهم عشرة - ألفا دينار، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، كل ذلك فضة.
وفي ثالث عشرينه: استقل الطياري بالمسير من بركة الحجاج في ركب يزيد على ألف ومائة جمل.
وفي سلخه: ابتدئ بنفقة المماليك السلطانية، وهم ألفاً وسبعمائة، لكل منهم صرة فيها ألف درهم أشرفي، وخمسون درهماً أشرفية، عنها من الفلوس اثنان وعشرون ألف درهم؛ وهي مصارفة مائة دينار، من حساب كل دينار بمائتين وعشرين درهماً فلوس والدينار يومئذ يصرف بمائتين وثمانين. وكذلك نفقات الأمراء التي تقدم ذكرها، إنما حملت إليهم دراهم على هذا الحساب.

وفي هذا الشهر: نزل بأهل الوجه البحري من نزول الأستادار على بلاء عظيم.
شهر رجب أوله، الأحد: في ثالثه: قدم الوزير أستادار من الوجه البحري، وقد احتاج أهله بأخذ خيولهم وأغنامهم وأموالهم، هو وأتباعه، فما عفوا ولا كفوا.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: أدير محمل الحاج، ولم يعمل ما جرت العادة به من التجمل، بل أوقف تحت القلعة، وأعيد، و لم يتوجه إلى مصر، وهذا شيء لم يعهد مثله.
وفي رابع عشره: نصبت خيام السفر خارج القاهرة، بطرق الريدانية، تجاه مسجد تير.
وفي سادس عشره: خرج أمراء الجاليش - وهم الأمير الكبير سودن من عبد الرحمن، وأمير سلاح أينال الجكمي، وحاجب الحجاب قرقماس، وقانباي الحمزاوي وسودن ميق - ونزلوا بالمخيمات، ورسم بإخراج البطالين من الأمراء والمماليك، فتوجه الأمير ألطنبغا المرقبي - صاحب الحجاب في الأيام المؤيدية - والأمير أيتمش الخضري أستادار إلى القدس. وكان كل منهما عدة سنين ملازماً لداره، ومنع من بقي من الأسياد أولاد الملوك من ذرية الناصر محمد بن قلاوون من سكن القلعة وطوعها، وأخرجوا من دورهم بها، وكانوا لما منعوا من سنين، سكن أكثرهم بالقاهرة وظواهرها، فذلوا بعد عزهم، وتبذلوا بعد تحجبهم، وبقي من أعيانهم طائفة مقيمة بالقلعة، وتنزل بالقاهرة لحاجاتها، ثم تعود إلى دورها، فأخرجوا بأجمعهم في هذه الأيام، ومنعوا من القلعة، فتفرقوا شذر مذر، كما فعل أبوهم الناصر محمد بن قلاوون بأولاد الملوك بني أيوب، وكذلك فعل الله ببني أيوب كما فعل أبوهم الكامل محمد بن العادل أبو بكر بن أيوب بأولاد الخلفاء الفاطميين، " ولا يظلم ربك أحداً " " الكهف، 49 " .
وفي سابع عشره: أعيد دولات خجا إلى ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج، لسفره في الخدمة السلطانية مهمندار وأستادار الصحبه، وجليساً. وخلع على شهاب الدين أحمد ابن محمد بن علي - ويعرف بابن النسخة شاهد القيمة - واستقر في حسبة مصر، عوضاً عن شمس الدين أحمد بن العطار.
وقدم كتاب متملك تونس - وعامة بلاد المغرب - أبي فارس عبد العزيز، يتضمن واقعته مع ملك الفرنج القطلان، على جزيرة جربة.
وفي يوم الخميس تاسع عشره - الموافق له أول فصل الربيع - : وانتقال الشمس إلى برج الحمل - ركب السلطان، وعبى أطلابه، وتوجه في أثناء الساعة الثالثة من النهار، فسار في ركب جليل إلى الغاية، وقد تجمع الناس لرؤيته، حتى نزل بمخيمه، وصحبته الأمير جقمق العلاي أمير أخور، والأمير أركماس الظاهري الدوادار، والأمير تمراز القرمشي رأس نوبة، والأمير جانم ابن أخي السلطان، والأمير يشبك المشد، والأمير جانبك الحمزاوي، هؤلاء أمراء الألوف، ومن الطبلخاناه الأمير تمرباي الدوادار الثاني، والأمير قراخجا الشعباني، والأمير قرا سنقر من عبد الرحمن، واستقر في نيابة الغيبة بباب السلسلة من القلعة الأمير تغري برمش التركماني أحد الألوف، واستقر بالقلعة المقام الجمالي ولد السلطان أحد الألوف، والأمير خشقدم الزمام أحد الطبلخاناه، والأمير تاني بك والي القلعة، في عدة من المماليك. واستقر خارج القلعة الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس، وقد رسم بحضوره من عمل الجسور بعد فراغها. ورسم للأمير أينال الششماني أحد الطبلخاناه أن يكون أمير الحاج في الموسم، ورسم بإقامة الأمير الإسماعيلي أحد الطبلخاناه وحاجب الميسرة، وإقامة الأمير الوزير كريم الدين أستادار.
وفي يوم الجمعة عشرينه: سار السلطان من الريدانية ومعه من ذكرنا من الأمراء والمماليك، ومعه الخليفة وقضاة القضاة الأربع، وسافر في الصحبة ناظر الدولة أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم، ونديم السلطان ولي الدين محمد بن قاسم الشيشيني.
شهر شعبان، أوله الاثنين: فيه وصل السلطان إلى غزة، ورحل منها في رابعه، وقدم النجاب بذلك في ثامنة، فنودي بالقاهرة في الناس بالأمان، ورفع الظلم، ومنع الرمايات على الباعة.
وفي يوم الاثنين خامس عشره: وصل السلطان إلى دمشق، وسار عنها يريد حلب في يوم السبت عشرينه، وقدم النجاب بذلك في سادس عشرينه، فدقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي في القاهرة وظواهرها بذلك.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: وفي خامسه: وصل السلطان إلى حلب، فنزل بظاهرها في المخيمات، ورحل يريد مدينة آمد في حادي عشرينه.

وفيه قدم الخبر بذلك إلى قلعة الجبل، فدقت البشائر، ونودي بإعلام الناس، فنزل السلطان إلى البيرة في سادس عشرينه، وكتب منها إلى القاهرة على يد نجاب.
شهر شوال، أوله الخميس: في تاسعه: قدم النجاب برحيل السلطان من البيرة، بعد تعدية الفرات في سادس عشرين رمضان.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الأمير أينال الششماني إلى الريدانية خارج القاهرة، ورفع منها إلى بركة الحجاج، ثم استقل بالمسير من البركة في ثالث عشرينه، والحاج ركب واحد لقلتهم، و لم نعهد الحاج فيما سلف بهذه القلة.
وفي هذا الشهر: تعدد وقوع الحريق في أماكن، فظهرت نار في الجرون بناحية شيبين القصر، وأحرقت غلات كثيرة، وكان وقت الدراس، واجترت فارة فتيلة سراج في خن مركب قد أوسق بثياب وسيرج وغير ذلك، ووقف بساحل مدينة مصر ليسير إلى الصعيد، فأحرقت النار جميع ما كان في الركب، وسرت إليها فاحترقت بأجمعها، وهي في الماء حتى صارت فحماً، ووقعت النار في دور متعددة بالقاهرة ومصر.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه. كسف من جرم الشمس نحو الثلثين في برج السرطان، بعد العصر بزيادة على ساعة، فما غربت حتى بدأ الكسوف ينجلي، وفي مدة الكسوف اعتمت الآفاق، وظهر بعض الكواكب.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: فيه أخذ قاع النيل، فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع، ونودي من الغد بزيادة خمسة أصابع، واستمر النداء بزيادة ماء النيل.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف أكثر جرم القمر، فطلع من الأفق الشرقي منخسفاً، وانجلى الخسوف وقت العشاء. وهذا من النوادر، وقوع الخسوف القمري بعد كسوف الشمس بخمسة عشر يوماً.
وفي خامس عشره: قدم ساع على قدميه من حلب بكتاب السلطان من آمد بأنه نزل عليها وقد خرج عنها عثمان بن ططر علي المعروف بقرا يلك، وأشحنها بالمقاتلة، فحصرها العسكر.
وفي حادي عشرينه: قدم نجاب بكتاب السلطان من آمد مؤرخ بعشرين شوال، بأن قرا يلك عزم تعدية الفرات يريد حلب، فأدركته العساكر السلطانية، وقد نزل بعض أصحابه الفرات، فقاتلوهم، وقتلوا منهم، وغرق منهم جماعة، وأسر جماعة، ضربت أعناقهم.
وفي رابع عشرينه: دقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي بأن اسكندر بن قرا يوسف قدم بعساكره نجدة للسلطان، ثم تبين كذب هذا الخبر.
وفي هذا الشهر: تحركت أسعار الغلال فأبيع القمح بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد مائة، وأبيع الأردب الشعير والفول من ثمانين إلى بضع وتسعين بعد ما كان بستين. وسبب ذلك أن طائفة من الناس قد اعتادت منذ سنين أن ترجف في أيام زيادة النيل بأنه لا يبلغ الوفاء، يريدون بذلك غلاء الأسعار، فتكف أرباب الغلال أيديها عن البيع، ويأخذ آخرون في شراء الغلال وخزنها، ليتربص بها دوائر الغلاء، فيتحرق السعر من أجل ذلك، فإذا بلغ النيل القدر المحتاج إليه في ري الأراضي، وزرع الناس، أيس طلاب الغلاء فباعوا ما قد اختزلوه منها، فينحل السعر، ويتضع.
وفي ثامن عشرينه: عزل نائب الغيبة دولات خجا عن ولاية القاهرة، وأقام عوضه دواداره - أعني دولات حجا - وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا يتعرف، ومع ذلك فأحوال الناس بالقاهرة جميلة لحسن سيرة نائب الغيبة، وتثبته وإظهار العدل، مع كثرة الأمن ورخاء أسعار عامة المبيعات كلها.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: في سادسه: قدم الأمير كمشبغا الأحمدي أحد الطبلخاناه بكتاب السلطان من الرها، مؤرخ بثامن عشر ذي القعدة، يتضمن أنه رجل عن آمد بعد ما أقام على حصارها خمسة وثلاثين يوماً، حتى طلب قرا يلك الصلح، فصولح، ورحل العسكر في ثالث عشر ذي القعدة، فدقت البشائر، ونودي بذلك في الناس، وقدم الخبر بقدوم السلطان إلى حلب في خامس عشرين ذي القعدة، ورحيله منها في خامس ذي الحجة، وقدومه دمشق في تاسع عشره.
وفي ثامن عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة خمسة عشر ذراعاً، وثمانية عشر إصبعاً. وأصبح الناس يوم الأحد عشرينه - وهو ثالث عشرين مسرى - وقد نقص ستة أصابع، فازدحم الناس على شراء القمح، وقد بلغ إلى مائة وأربعين درهماً الأردب، فتعدى مائة وخمسين.
وفيه خرج الأمير الوزير كريم الدين أستادار إلى لقاء السلطان.

وفي ثامن عشرينه: برز السلطان من دمشق يريد القاهرة. وكان من خبره أنه سار من حلب في حادي عشرين رمضان، ونزل البيرة في خامس عشرينه، وقد ترك الأثقال والقضاة ونحوهم بحلب، فعدى الفرات بالمقاتلة في يومين، ودخل الرها في سلخه، وسار من الغد، فنزل على آمد في ثامن شوال، ومعه من المماليك السلطانية والأمراء ومماليكهم ونواب البلاد الشامية بأتباعهم، ومن انضم إليهم من التركمان، ومن عرب كلاب، ما يقارب عددهم عشرة آلاف، والمجازف يقول ما لا يعلم، فأناخ عليها، وقد خرج قرا يلك منها إلى أرقنين وترك بآمد ولده، فترامى الفريقان بالنشاب، ثم زحف السلطان بمن معه في يوم السبت عاشره من بكرة النهار إلى ضحاه وعاد فلم يقع زحف بعد ذلك، وقتل في هذا الزحف مراد بك بن قرا يلك بسهم، وفتل حمزة الخازندار نائب آمد وجماعة، وجرح من أهل آمد ومن العسكر كثير، وقبض على جماعة من أهل آمد، فقتل بعضهم وترك بعضهم في الحديد، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر، وصار يقتل من خرج من الغلمان ونحوهم لأخذ القمح ونحوه، ومنع الميرة عن العسكر. فقدم في يوم الاثنين ثاني عشره صاحب أكل - واسمه دولات شاه - فخلع عليه، وأنزل في العسكر، ثم قدم الملك الأشرف أحمد بن سليمان ابن غازي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله، صاحب حصن كيفا، باستدعاء، حتى قارب العسكر، فخرج عليه عدة من العسكر قرا يلك، فقتلوه وقتلوا معه قاصد السلطان المتوجه إليه، فاشتد ذلك على السلطان وبعث في إحضار قاتليه جماعه من العربان والتركمان، فأحضروا من جماعة قرا يلك عشرين رجلاً، ثم توجهوا ثانية فأحضروا ثلاثين رجلاً وسطوا تجاه قلعة بآمد ثم توجهوا ثالثاً فأحضروا واحداً وعشرين رجلاً، منهم قرا محمد أحد أمراء قرا يلك، ومنهم صاحب ماردين فوسط قرا محمد ومعه عشرون رجلاً. فاتفق أن واحداً منهم انفلت من وثاقه، فمر يعدو والعسكر تنظره، فما أحد رماه بسهم، ولا قام في طلبه حتى نجا، وطلع القلعة. وفي أثناء ذلك سار الأمير شار قطلوا نائب الشام، ومعه عدة من التركمان والعرب وغيرهم لقتال قرا يلك، فكانت بينهم وقعة، قتل وجرح فيها من التركمان والعرب وأصحاب قرا يلك جماعة، وتأخر شار قطلوا عن لقائه، فبعث قرا يلك بقرا أحمد بن عمه، وبكاتب سره بكتبه يترامى على نواب الشام في الصلح، فما زالوا بالسلطان حتى أجاب إلى ذلك، وبعث إليه شرف الدين أبا بكر الأشقر نائب كاتب السر، حتى عقد الصلح معه، وحلفه على الطاعة، وجهز إليه كاملية حرير مخمل بفرو سمور، وقباء حرير بوجهين وعليه طراز عرض ذراع ونصف وربع، وثلاثون قطعة قماش سكندري، وسيف بسقط ذهب، وفرس بقماش ذهب، وخلع على قصاده. فقدم قاصداً اسكندر بن قرا يوسف صاحب توريز وعراق العجم بأنه قادم إلى الخدمة السلطانية، فأجيب بالشكر، وأنه قد وقع الصلح مع قرا يلك.
وكان الذي وقع الصلح عليه أن قرا يلك لا يتعرض إلى شيء من أطراف المملكة من الرحبة، وإلى دوركي، وأن يسهل طرق الحجاج والتجار ونحوهم من المسافرين، ولا يتعرض لحصن كيفا ولا لرعيتها وحكامها، ولا لدولات شاه حاكم أكل وقلاعه، وأن يضرب السكة، ويقيم الخطبة للسلطان بديار بكر، وأن يمتثل ما يرد عليه من مراسيم السلطان.
ثم قدم الملك شرف الدين يحيى بن الأشرف صاحب كيفا - وقد استقر في سلطنة الحصن أخوه الملك الصالح صلاح الدين خليل بن الملك الأشرف - بتقدمة أخيه، فخلع عليه، وجهز للصالح خلعة وسيف.

ثم رحل السلطان ومن معه عن آمد، بعد الإقامة عليها خمسة وثلاثين يوماً، في ثالث عشر ذي القعدة، وقد غلت عندهم الأسعار، فبلغ الأردب الشعير نحو دينارين ونصف، وأنه كان يعطي فيه اثنان وسبعون درهماً مؤيدية، عن كل مؤيدي سبعة دراهم ونصف من الفلوس، نقد القاهرة، ويصرف دينار بثلاثين مؤيدياً فضة، وبلغ القمح كل أربعة أقداح بدرهمين فضة، وبلغ القدح الواحد من الملح خمسة عشر درهماً فضة، وبلغ الرطل من الزيت ومن السرج بثلاثين درهماً فضة، ونهب من ضواحي آمد غلال لا تحصى، منها زيادة على مائتي ألف أردب بمقتضى المحاسبة، سوى ما انتهبه العسكر، وخرب ما هنالك من الضياع، وأخذت أخشابها، وقطعت أشجارها، ونهب ما فيها، وفعل بأهلها ما لا يمكن وصفه، فلما وصل السلطان من آمد إلى الرها أقر الأمير أينال الأجرود نائب غزة بالرها، وقواه بنحو خمسة آلاف دينار وشعير وبشماط وأرز وزيت وصابون وسلاح كثير، وولي عوضه نيابة غزة الأمير جانبك الحمزاوي، وقدمه إليها، ثم رحل، فقدم حلب في خامس عشرينه، وسار منها في خامس ذي الحجة، ودخل دمشق في تاسع عشره. وكانت سفرة مشقة زائدة الضرر، عديمة النفع، أنفق السلطان فيها من المال الناض خمسمائة ألف دينار، وتلف له من سلاح والخيل والجمال وغير ذلك. وأنفق الأمراء والعساكر بمصر والشام، وتلف لهم من الآلات والدواب والقماش ما تبلغ قيمته مئات قناطير من ذهب، وتلف لأهل آمد وذهب مال عظيم جداً وقتل خلق كثير، ونفق من دواب العسكر زياده على عشرة آلاف، ما بين جمل وفرس، و لم يبلغ أحد غرضاً من الأغراض، ولا سكنت فتنه. وإني لأخشى أن يكون الأمر في هذه الكائنة كما قيل:
لا تحقرن سبيبا ... كم جر شراً سبيب
و لله عاقبة الأمور.
وفيها تحيل أصبهان بن قرا يوسف على أخذ بغداد من أخيه محمد شاه، بأن بعث أربعين رجلاً قد حلقوا لحاهم، كأنهم قلندرية، ثم دخلوا بغداد شيئاً بعد شيء، وقد واعدهم على وقت، فلما وافاهم ليلاً إذا هم قد ركبوا السور، ورفعوا من أصحاب أصبهان جماعة، ثم قتلوا الموكلين بالباب، ودخل بمن معه، ففر شاه محمد بحاشيته في الماء، واستولى أصبهان على بغداد، وسلب من بها جميع ما بأيديهم، بحيث لم يبق بها من الأسواق سوى حانوتين فقط، ولحق شاه محمد بالموصل.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرنور الدين علي جلال الدين محمد الطنبدي التاجر، في ليلة الجمعة رابع عشر صفر، عن سبعين سنة، وترك مالاً جما.
ومات الشهاب أحمد بن غلام الله بن أحمد بن محمد الكومريشي في سادس عشرين صفر، وقد أناف على الخمسين. وكان يجيد حل التقويم من الزيج ويشدو شيئاً من أحكام النجوم، ولم يخلف بعده مثله.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن الأموي المالكي بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر. وقد ولي قضاء القضاة المالكية بديار مصر في الأيام المؤيدية شيخ، ولم يشهر بعلم ولا دين.
ومات الأمير علاء الدين منكلي بغا الصلاحي، أحد الحجاب، في ليلة الخميس عشر ربيع الأول، بعد مرض امتد سنين. وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق، وأحد دواداريته. وولي حسبة القاهرة في الأيام المؤيدية، وعزل عنها وصار من جملة الحجاب. وكان يدري طرفاً من الفقه، ويكتب الخط الجيد وأرسل إلى تيمور لنك رسولاً في الأيام الناصرية فرج.
وماتت قنقباي خوند أم المنصور عبد العزيز بن برقوق، في سلخ جمادى الآخرة، عن مال كثير، وكانت تركية الجنس. وهي آخر من بقي من أمهات أولاد الظاهر برقوق. وكانت شهرتها جميلة.
ومات الأمير تغري بردي المحمودي أتابك العساكر بدمشق، مقتولاً على آمد في شوال.
ومات الأمير سودن ميق أحد الألوف، مقتولاً على أمد أيضاً.
ومات الأمير جانبك الحمزاوي. وقد ولي نيابة غزة، وتوجه إليها فأتته المنية في طريقه. ومستراح منه ومن أمثاله.
ومات الأمير تنبك المصارع أحد أمراء العشرات مقتولاً على آمد.
ومات تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين كاتب سر دمشق في ذي القعدة، وولي عوضه نجم الدين يحيى بن المدني، ناظر الجيش بحلب.

ومات الملك الأشرف أحمد بن العادل سليمان بن المجاهد غازي بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن الأوحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب بن شادي، صاحب حصن كيفا. وقد سار من بلده يريد لقاء السلطان على آمد، فاغتيل في ذي القعدة. وكان قد أقيم في سلطنة الحصن بعد أبيه في سنة سبع وعشرين. وكان فاضلاً بارعاً أديباً، له ديوان شعر. وكان جواداً محباً في العلماء. وولي بعده ابنه الكامل أبو المكارم خليل.
سنة سبع وثلاثين وثمانمائةأهلت هذه السنة وخليفة الوقت المعتضد بالله داود. وسلطان الإسلام بمصر والشام، والحجاز وقبرس الملك الأشرف برسباي. والأمير الكبير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس أقبغا التمرازي. ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي، وأمير أخور جقمق. والدوادار أركماس الظاهري. وحاجب الحجاب قرقماس. والوزير وأستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ. وكاتب السر كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وهو عظيم الدولة وصاحب تدبيرها. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم. وقضاة القضاة على حالهم. ونواب السلطنة وملوك الأطراف كما تقدم في السنة الخالية.
والنيل قد تأخر وفاءه، والناس لذلك في قلق وتخوف، وقد كثر تكالبهم على شراء الغلة، وبلغ القمح إلى مائة وأربعين درهماً الأردب. على أن الذهب بمائتين وخمسة وثمانين درهماً الدينار.
شهر الله المحرم، أوله الثلاثاء: فيه نودي على النيل برد ما نقص، وزيادة ثلاثة أصابع، فعظم سرور الناس بذلك، وباتوا على ترجي الوفاء، فنودي من الغد - يوم الأربعاء ثانيه، وسادس عشرين مسرى - بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وزيادة إصبعين من سبعة عشر ذراعاً، فكاد معظم الناس يطير فرحاً. وغيظ من عنده غلال يتربص بها الغلاء، ففتح الخليج على العادة.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج.
وفي ثاني عشره: ورد الخبر بمسير السلطان من دمشق، بمن معه في أوله فنودي بالزينة، فزين الناس الحوانيت. ووافق هذا اليوم أول توت، وهو نوروز أهل القبط بمصر. وماء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع.
وفيه قدمت أثقال كثير من العسكر.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، وتتابع مجيء الأثقال من أمتعة العسكر وجمالهم، واستعد الناس للملاقاة.
وفيه خرج المقام الجمالى يوسف ابن السلطان، لملاقاة أبيه.
وفيه أمطرت السماء، و لم نعهد قبله مطراً في فصل الصيف، فأشفق أهل المعرفة على النيل أن ينقص، فإن العادة جرت بأن المطر إذا نزل في أيام الزيادة هبط ماء النيل، فكان كذلك، ونقص في يوم الجمعة ثامن عشره، وقد بلغت زيادته سبعة عشر ذراعاً، وثمانية عشر إصبعاً. وكان نقصه في هذا اليوم ستة وعشرين إصبعاً، فشرق من أجل هذا كثير من أراضي مصر، لفساد الجسور، وإهمال حفر الترع.
وفي يوم الأحد عشرينه: قدم السلطان بمن معه من سفره، ومر من باب النصر في القاهرة، وقد زينت لقدومه، فنزل بمدرسته، وصلى بها ركعتين، ثم ركب وخرج من باب زويلة إلى القلعة. وخلع على أرباب الدولة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة على عادته، مع ما بيده من شد الدواوين وغيره.
وفي ثاني عشرينه: قدم سوابق الحاج. ونزل المحمل ببركة الحاج في غده، وقد مات من الحاج بطريق المدينة من شدة الحر عدة كثيرة.
شهر صفر: أهل بيوم الخميس، وقلق الناس متزايد، فإن النيل تراجع نقصه، حتى صار على سبعة عشر ذراعاً. ثم نقص تسعة أصابع، فشره الناس في ابتياع الغلال، وشح أربابها بها. فبلغ الأردب القمح مائة وثمانين درهماً، والشعير مائة وأربعين. وفقد الخبز من الأسواق عدة ليالي وفيه ألزم السلطان الوزير الصاحب كريم الدين أستادار بحمل ما توفر من العليق بالديوان المفرد في مدة السفر، وهو خمسون ألف أردب، وما توفر من العليق بديوان الوزارة، وهو عشرون ألف أردب، وبعث إلى النواحي من يتسلمها منه.
وفي ثاني عشرينه: عزل داود التركماني من كشف الوجه القبلي، وسلم إلى الأمير أقبغا الجمالي أستادار - كان - وقد أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن تنبك المصارع.

وفي هذا الشهر: ظهر في جهة المغرب بالعشايا كوكب الذؤابة وطوله ف الرمحين، ورأسه في قدر نجم مضيء، ثم برق، حتى تبقى ذنبه كشعب برقة الشعر وذنبه مما يلي المشرق.
وفيه أيضاً توالت بروق ورعود وأمطار غزيرة متوالية بالوجه البحري، وفي بلاد غزة والقدس.
وفيه أيضاً أخذ الفرنج قريباً من طرابلس الغرب تسع مراكب، تحمل رجالاً وبضائع بآلاف دنانير، وتصرفوا في ذلك بما أحبوا.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة: في ليلة الجمعة ثامنه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة. وفي هذه الأيام انحل سعر الغلال لقلة طالبها. وكان ظن الناس خلاف ذلك.
وفيها طلب السلطان بعض الكتاب، فهرب منه فرسم بهدم داره، فهدمت حتى سوى بها الأرض.
وفيها أمر بإحراق معصرة بعض المماليك، فأحرقت بالنار حتى ذهبت كلها.
وفي ثاني عشره: ركب السلطان في موكب ملوكي، وسار من قلعة الجبل، فعبر من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة يريد الرماية بالجوارح لصيد الكراكي ثم عاد في آخر رابع عشره.
وفي خامس عشره: نصب المدفع الذي أعد لحصار آمد، وهو مكحلة من نحاس زنتها مائة وعشرون قنطاراً مصرياً. وكان نصبها فيما بين باب القرافة وباب الدرفيل، فرمت إلى جهة الجبل بعدة أحجار، منها ما زنته خمسمائة وسبعون رطلاً. وقد جلس السلطان بأعلا سور القلعة لمشاهدة ذلك، واجتمع الناس. واستمر الرمي بها عدة أيام.
وفي تاسع عشره: رسم أن يخرج الأمير الكبير سودن بن عبد الرحمن إلى القدس بطالاً، فاستعفى من سفره وسأل أن يقيم بداره بطالا، فأجيب إلى ذلك، ولزم داره، وأنعم بإقطاعه زيادة في الديوان المفرد. و لم يقرر أحد عوضه في الإمرة .
وفي هذا الشهر: ثارت رياح عاصفة بمدينة دمياط، فتقصفت نخيل كثيرة، وتلف كثير من قصب السكر المزروع، وهدمت عدة دور، وخرج الناس إلى ظاهر البلد لهول ما هم فيه. وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً ونزل مطر مغرق. ولم يكن بالقاهرة شيء من هذا.
وفي سادس عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، بمال وعد به. وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة الأسلمي، وأعيد إلى نظر ديوان المفرد، عوضاً عن تاج الدين الخطير. وكان قد ترك ذلك تنزهاً عنه من قبل سفر السلطان إلى الشام، ولم يباشر أحد عوضه.
شهر ربيع الآخر، أوله السبت: فيه خلع على دولات شاه المعزول من ولاية القاهرة، واستقر في ولاية المنوفية والقليوبية وفي ثالثه سرح السلطان للصيد وعاد في خامسه.
وفي عاشره: خلع السلطان على الأمير أينال الششماني، واستقر في نيابة مدينة صفد عوضاً عن الأمير مقبل بعد وفاته. واستقر خليل بن شاهين في نظر الإسكندرية، عوضاً عن فخر الدين بن الصغر. وخليل هذا أبوه من مماليك الأمير شيخ الصفوي، وسكن القدس، وبه ولد له خليل هذا ونشأ.
ثم قدم القاهرة من قريب، واستقر حاجب الإسكندرية. ثم عزل، فسعى في النظر بمال، حتى وليه مع الحجوبية.
وفي حادي عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، واستقر كاشف الوجه البحري، عوضاً عن حسن باك بن سقل سيز التركماني، وأضيف له كشف الجسور أيضاً.
وفي ثالث عشره: ركب السلطان بعد الخدمة، ومعه ناظر الجيش، وكاتب السر، والتاج الشويكي. ونزل إلى المارستان المنصوري للنظر في أحواله ليلى التحدث فيه بنفسه، فإنه لم يول نظره أحداً بعد الأمير سودن بن عبد الرحمن.
وأقام الطواشي صفي الدين جوهر الخازندار لما عساه يحدث من الأمور، فاستمر على ذلك.
شهر جمادى الأولى: أوله الاثنين.
في سادسه: خلع على نظام الدين بن مفلح وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق. عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي.
وفي ثامن عشرينه: استقر حسين الكردي في كشف الوجه البحري عوضاً عن أقبغا الجمالي، بعد قتله في خامس عشرينه، في حرب كانت بينه وبين عرب البحيرة. وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان وخلع على الوزير أستادار كريم الدين جبه بفرو سمور؛ ليتوجه إلى البحيرة - ومعه حسين الكردي - لعمل مصالحها، واسترجاع ما نهبه أهلها من متاع أقبغا الجمالي. وكتب إليهم بالعفو عنهم، وأن أقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم، وأخذ أولادهم، ونحو ذلك مما يطمئنهم، عسى أن يؤخذوا بغير فتنة ولا حرب.

وفي ليلة الجمعة سادس عشرينه: وقع بمكة المشرفة مطر غزير، سالت منه الأودية، وحصل منه أمر مهول على مكة، بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعاً أربعة أذرع. فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء، أزالوا عتبة باب إبراهيم، حتى خرج الماء من المسفلة، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قدر نصف ذراع في ارتفاعه فانتدب عدة من التجار لإزالته.
وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة، يقول المكثر زيادة على ألف دار. ومات تحت الردم اثنا عشر إنساناً، وغرق ثمانية أنفس. ودلف سقف الكعبة، فابتلت الكسوة التي بداخلها، وامتلأت القناديل التي بها ماء. وحدث عقيب ذلك السيل بمكة وأوديتها، وبأطرق من اليمن.
شهر جمادى الآخرة: أوله الثلاثاء.
فيه أحصي ما بالإسكندرية من القزازين، وهم الحياك، فبلغت ثمانمائة نول، بعد ما بلغت عدتها في أيام محمود أستادار - أعوام بضع وتسعين وسبعمائة - أربعة عشر ألف نول ونيف، شتت أهلها ظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم.
وفي ثالثه: سار الوزير إلى البحيرة.
وفي ثاني عشره: رسم بإعادة أبي السعادات جلال الدين محمد بن أبي البركات ابن أبي السعود بن زهيرة إلى قضاء الشافعية بمكة، عوضاً عن جمال الدين محمد بن علي بن الشيبي بعد موته.
وفي سابع عشره: رجم مماليك الطباق بالقلعة المباشرين عند خروجهم من الخدمة السلطانية؛ لتأخر جوامكهم بالديوان المفرد عن وقت إنفاقها.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أصبح السلطان ملازماً للفراش من آلام حدثت في باطنه من ليلة الخميس، وهو يتجلد لها إلى عصر يوم الجمعة، فاشتد به الألم، وطلب رئيس الأطباء، فحقنه في الليل مراراً. وأصبح لما به، فلم يدخل إليه أحد من المباشرين. وبعث بمال فرقه في الفقراء. وما زال محجوباً عن كل أحد، وعنده نديماه ولي الدين محمد بن قاسم، والتاج الشويكي فقط.
ثم دخل في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه الأمراء لعيادته وقد تزايد ألمه. ثم خرجوا سريعاً، فأبل تلك الليلة من مرضه.
شهر رجب الفرد، أوله الخميس: فيه عملت الخدمة السلطانية بالبيسرية، وقد زال عن السلطان ما كان به من الألم. وشهد الجمعة من الغد بالجامع على العادة. وخلع على الأطباء في يوم السبت ثالثه. ثم ركب في يوم الخميس ثامنه، وشق القاهرة من باب زويلة، ومضى إلى خليج الزعفران بالريدانية، وعاد إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
وفي خامس عشره: نودي في القاهرة بسفر الناس إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا وقد عين أن يسافر بطائفة من المماليك، فأخذ طائفة من الناس في التأهب للسفر.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب بسيف الأمير شار قطلوا نائب الشام، وقد مات بعد ما مرض خمسة وأربعين يوماً، في تاسع عشره .
وفيه قدم الوزير من البحيرة، وقد مهد أمورها على ما يجب.
وفي تاسع عشرينه: كتب بانتقال الأمير قصروه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، عوضاً عن شارقطلوا، وأن يتوجه له بالتشريف وتقليد النيابة الأمير خجا سودن، نوبة من أمراء الطبلخاناه. وخلع على الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قصروه، وأن يتوجه متسفره الأمير شادي بك رأس نوبة من الطبلخاناه. وخلع على الأمير يشبك المشد الظاهري ططر، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن قرقماس. وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس، وبإقطاع أقبغا على الأمير يشبك المذكور. وخلع على الأمير أينال الجمكي أمير سلاح، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، وكانت شاغرة منذ لزم سودن بن عبد الرحمن داره.
وخلع على الأمير جقمق أمير أخور، واستقر أمير سلاح، عوضاً عن الأمير أينال الجمكي. وخلع على الأمير تغري برمش، واستقر أمير أخور عوضاً عن جقمق. وأخرج سودن بن عبد الرحمن إلى دمياط. وسار الأمير بربغا التنمي؛ ليبشر الأمير قصروه بنيابة الشام.
شهر شعبان، أوله الجمعة:

فْيه نودي ألا يتعامل الناس بالدراهم القرمانيِة ونحوها بما يجلب من البلاد، وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية فقط، وأن يكون الذهب والفلوس على ما هما عليه. وذلك أنه كان قد عزم السلطان على تجديد ذهب ودراهم وفلوس، وإبطال المعاملة. مما بأيدي الناس من ذلك، فكثر اختلاف أهل الدولة عليه بحسب أغراضهم. ولم يعزم على أمر، فأقر النقود على حالها، وجمع الصيارفة، وضرب عدة منهم وشهرهم من أجل الدراهم القرمانية وإخراجها في المعاملة، وقد نهوا عن ذلك مراراً فلم ينتهوا.
وفي سابعه: خلع على الأمير الكبير أينال الجكمي، واستقر في نظر المارستان المنصوري على عادة من تقدمه.
وفى تاسعه: رزت المماليك المتوجهة إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا، ورافقهم عدة كبيرة من الرجال والنساء يريدون الحج والعمرة.
وفي هذا الشهر: - والذي قبله - فرض السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه البحري خيولاً تؤخذ من أهل النواحي.
وكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوساً عن ثمن فرس، ويؤخذ من بعض النواح عشرة آلاف عن ثمن فرسين. ويحتاج أهل الناحية مع ذلك إلى مغرم لمن يتولى أخذ ذلك منهم. وأحصي كُتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر كلها - قبليها وبحريها - فكانت ألفين ومائة وسبعين قرية. وقد ذكر المسَّبحي أنها عشرة آلاف قرية فانظر تفاوت ما بين الزمنين.
وفي رابع عشره: برز الأمير قرقماس نائب حلب، في تجمل حسن بالنسبة إلى الوقت؛ ليسير إلى محل كفالته. وخلع عليه خلعة السفر ططري بفرو سمور ومن فوقه قباء نخ بفرو قاقم.
وفي تاسع عشره: ختن السلطان ولده، المقام الجمالي يوسف، وأمه أم ولد اسمها جلبان، جركسية وختن معه نحو الأربعين صبياً، بعد ما كساهم. وقدم له المباشرون ذهباً وحلاوات، فعمل مهما للرجال وللنساء، أكلوا فيه وشربوا.
وكتبتُ عند ذلك كتاباً سميته الأخبار عن الأعذار، وما جاء فيه من الأخبار والآثار، وما لأئمة الإسلام فيه من الأحكام، وما فعله الخلفاء والملوك. وفيه من المآثر الجسام، والأمور العظام، لم أُسبق بمثله فيما علمت.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه: فُقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، فخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم ناظر الدولة، واستقر في الوزارة.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ظهر الوزير كريم الدين، وصعد إلى القلعة، فخلع عليه قباء من أقبية السلطان. ونزل على أنه أستادار. ثم خلع عليه من الغد، فكان موكبه جليلاً إلى الغاية. وقد ألزم السلطان في غيبة الوزير عظيم الدولة، القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بإقامة دواداره جانبك أستادار، فلم يرض بذلك خوف العاقبة، وأخذ يسعى في دفع ذلك عنه حتى أعفي، فعين سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم ناظر الخاص أستادار، فما زال يسعى في الإعفاء، حتى ظهر الوزير كريم الدين، فتنفس خناق الجميع. وفيه قدم الحمل من قبرس على العادة في البحر في كل سنة.
وفي هذا الشهر: اشتد الوباء بمكة وأوديتها، حتى بلغ بمكْة في اليوم عدة من يموت خمسين، ما بين رجل وامرأة.
شهر رمضان، أوله السبت: في ثامنه: ورد الخبر من دمياط بأخذ الكيتلان من الفرنج خمس مراكب من ساحل بيروت، فيها بضائع كثيرة ورجال عديدة. وبعث ملكهم إلى والي دمياط كتاباً ليوصله إلى السلطان، يتضمن جفاء ومخاشنة في المخاطبة؛ بسبب إلزام الفرنج أن يشتروا الفلفل المعد للمتجر السلطاني، فغضب السلطان لما قرئ عليه، ومزقه.
وفي هذه الأيام: قطع عدة مرتبات للناس على الديوان المفرد، وعلى الاصطبل السلطاني، وعلى ديوان الوزارة. وذلك ما بين نقد ف كل شهر، ولحم في كل يوم، وقمح في كل سنة. واغتنم لذلك كثير من الناس وكانت العادة أن تكثر الصدقات والهبات في شهر رمضان، فاقتضى الحال قطع الأرزاق لضيق حال الدولة.
وفيها عينت تجريدة في النيل لتركب بحر الملح من دمياط، وتجول فيما هنالك، عسى تنكف عادية الفرنج ويقل عبثهم وفسادهم.
وفي ثاني عشرينه: دخل الأمير قرقماس إلى حلب. فما كاد أن يستقر بها حتى ورد الخير بوقعة كانت بين الأمير أينال الأجرود نائب الرها وبين أصحاب قرا يلك، انهزم فيها. فأخذ في أهبة السفر إلى الرها.
وفي هذا الشهر: تناقص الوباء بمكة.
شهر شوال، أوله الاثنين:

وأتفق في الهلال ما لم يذكر مثله، وهو أن أرباب تقويم الكواكب، اقتضى حسابهم أن هلال شهر رمضان في ليلة السبت يكون مع جرم الشمس، فلا يمكن رؤيته. فلما غربت الشمس تراءى السلطان بمماليكه من فوق القلعة الهلال، وتراءاه الناس من أعلى الموادن والأسطحة بالقاهرة ومصر وما بينهما وما خرج عنهما، وهم ميون ألوف، فلم ير أحد منهم الهلال، فانفضوا وقد أظلم الليل.
وإذا برجل ممن يتكسب في حوانيت الشهود بتحمل الشهادة جاء إلى قاضي القضاة الشافعي، وشهد بأنه رأى الهلال، فأمر أن يرفع للسلطان. فلما مثل بين يديه ثبت وصمم على رؤيته الهلال. وكان حنبلياً، وهو من أقارب نديم السلطان ولي الدين بن قاسم، فبالغ في الثناء عليه عند السلطان، فأمر بإثبات الهلال، فأثبت بعض نواب قاضي القضاة الحنبلي بشاهدة هذا الشاهد أول رمضان، ونودي في الليل بصوم الناس من الغد بأنه من رمضان. فاصبح الناس صائمين، وألسنتهم تلهج بالوقيعة في القضاة والشهود، وتمادوا على ذلك، فتوالت الكتب من جميع أرض مصر، قبليها وبحريها، ومن البلاد الشامية وغيرها. بأنهم تراءوا الهلال ليلة السبت، فلم يروه، وأنهم صاموا يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين التي يزعم الناس أنها أول ليلة من شوال، تراءى الناس الهلال من القلعة، وبالقاهرة ومصر وما بينهما وحولهما، فلم يزوره، فجاء بعض نواب القضاة، وزعم أنه رآه، وأنه شهد عنده برؤيته من أَثبت بشهادته أن هلال شوال غدا يوم الاثنين، فكانت حادثة لم ندرك قبلها مثلها، وهي أن الهلال بعد الكمال عدة ثلاثين يوماً لا يراه الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم إلا خالقهم، مع توفر دواعيهم على أن يروه، وقد خلت السماء من الغيم. وجرت العادة باًن يتساوى الناس في رؤيته، وأوجب ذلك تزايد الوقيعة في القضاء بل وفي سائر الفقهاء، حتى لقد أنشدني بعضهم لمحمود الوراق:
كنا نَفِر من الولاة ... الجائرين إلى القضاة
فالآن نحن نفر من ... جور القضاة إلى الولاة
وفي ثامنه: سارت التجريدة في النيل، وهي مائتا مملوك من المماليك السلطانية، ومائة من مماليك الأمراء. وعليهم ثلاثة أمراء من أمراء العشرات، بعد ما أنفق في كل مملوك ألف وخمسمائة درهم فلوساً، عنها خمسة دنانير وكسر. وفيه برز الأمير قرقماس نائب حلب إلى الرها.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: وسط الأمير علم الدين حذيفة بن الأمير نور الدين علي بن نصير الدين، شيخ لواته، خارج القاهرة.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر بوقعة أينال الأجرود المذكورة، وهي أن بعض من معه من أمراء حلب صادف بين بساتين الرها طائفة من التركمان، وهو يسير خيله، فقاتلهم وهزمهم. فلما بلغ ذلك أينال خرج من مدينة الرها نجدة له، فخرجت عليه ثلاث كمائن، فكانت بينه وبينهم وقعة، قتل فيها من الفريقين عدة. ولحق أينال بالمدينة، فوقع العزم على سفر السلطان. وكتب إلى بلاد الشام بتعبئة الإقامات من الشعير ونحوه.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر إلى بركة الحاج، وصحبته كسوة الكعبة علىْ العادة. وقد قدم من بلاد المغرب، ومن التكرور، ومن الإسكندرية وأعمال مصر حاج كثير، فتلاحقوا بالمحمل شيئاً بعد شيء.
ثم استقل الركب الأول بالمسير من البركة في ثاني عشرينه. ورحل الأمير قرا سنقر بالمحمل وبقية الحاج في ثالث عشرينه.
وكتب إلى البلاد الشامية بخروج نواب المماليك للحاق بالأمير قرقماس نائب حلب. ثم أبطل ذلك: وكتب بمنعهم من المسير، حتى يصح لهم نزول قرا يلك على الرها بجمائعه وبيوته. فإذا صح لهم ذلك ساروا لقتاله.
وفيه أيضاً كتب باستقرار خليل بن شاهين ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الثغر، مع النظر والحجوبية. وكان قد بعث بثلاثة آلاف دينار، ووعد بحمل مثلها، وسأل في ذلك فأجيب إليه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21