كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

وأفرج السلطان عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي، وأقامه في نيابة السلطة بديار مصر، وأقر الصاحب برهان الدين السنجاري على وزارته، ولازم الجلوس بدار العدل في يومي الإثنين والخميس.
وفي يوم السبت ثالث شعبان. ركب السلطان الملك المنصور قلاوون بشعار السلطنه وأبهة المملكة، وشق القاهرة وهي مزينة، فكان يوما مشهودا، لأنه أول ركوبه. وكتب السلطان إلى لأمير شمس الدين سنقر الأشقر كتابا، بخط القاضي عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير، ويخبره فيه بركوبه، وخاطبه بالمملوك. وأعفي تقي الدين التكريتي مما عليه من البواقي، وفوض إليه نظر الخزانة بدمشق. وصام الناس شهر رمضان يوم الجمعة، على اختلاف شديد وشك كبير.
وفي ثالثه. استقر الأمير جمال الدين أقش الشريفي أمير جاندار، في نيابة السلطنة بالصلت والبقاء.
وفي ثامنه: أفرج عن فتح الدين عبد الله بن القيسراني وزير دمشق، بعد ما اعتقل بقلعة الجبل زيادة على ثلاثين يوما.
وفي عاشره: استقر الأمير فخر الدين الطنبا في نيابة السلطنة بالقصر الذي بالقرب من أنطاكية، واستقر الأمير علم الدين سنجر المنصوري في نيابة السلطنة ببلاطنس، واستقر الأمير فخر الدين أياز الملوحي في ولاية الأعمال الغربية، عوضاً عن الأمير ناصر الدين بيليك بن المحسني الجزري.
وفي رابع عشره: استقر الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم، بحكم رغبته عن ذلك وسعيه في استقرار حسام الدين طرنطاي. وذلك إنه تمارض، فلما عزم السلطان على عيادته صنع له طبيبه شيئا تهيج به وجهه واصفر، ودخل عليه السلطان فتألم له وسأله عن حوائجه، فأشار عليه أن يقدم مماليكه وأثني عليهم، ثم قال: وتعفيني من النيابة، وأظهر العجز عنها. فلم يوافقه السلطان على ذلك، فأخذ يلح عليه، فقال له السلطان: فأشر على بمن يصلح لها، فقال: طرنطاي، فوافق قوله غرض السلطان.
وفي سابع عشره: قبض على الأمير نور الدين على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، وعلى عدة من الناصرية.
وفي سادس عشريه: صرف الصاحب برهان الدين خضر السنجاري عن الوزارة، وقبض عليه وعلى ولده شمس الدين عيسي، وأخذت خيولهما وخيول أتباعهما. وسجنا بدار الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وأحيط بسائر أتباعهما، وألزموا بمائتي ألف وستة وثلاثين ألفا.
وفي ثاني شوال: استقر القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء في الوزارة، بعد ما حمل إليه الأمير علاء الدين كندغدي الشمسي الأستادار خلع الوزارة إلى بيته بقلعه الجبل، وامتنع امتناعا شديدا فلم يسمع منه وألبسه الخلع، وباشر عوضاً عن الصاحب برهان الدين السنجاري وأفرج عن السنجاري، فلزم مدرسة أخيه بالقرافة.
وفيه استقر القاضي فتح الدين محمد بن محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في قراءة البريد وتلقي الأجوبة، عوضاً عن ابن لقمان.
وفيه قبض على جماعة من الأمراء. منهم الأمير علاء الدين مغلطاي الدمشقي، وسيف الدين بكتمر الأمير آخوري قرطاي المنصوري، وصارم الدين الحاجب، واعتقلوا. وفوضت وزارة دمشق لتقي الدين توبه ناظر الخزانة، وخلع عليه الوزراء وتلقب بالصاحب.
وفي تاسعه: خرج الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري على عسكر من القاهرة إلى جهة الشوبك وكان قد بعث إليها الملك السعيد بركة قان بن الظاهر وهو بالكرك الأمير حسام الدين لاجين رأس نوبة الجمدارية السعيدية، وتغلب عليها، وبعث السعيد إلى النواب أيضاً يدعوهم إلى القيام معه، فسار الأمير بدر الدين الأيدمري ونزل على الشوبك، وضايقها حتى تسلمها في عاشر ذي القعدة، بعد ما فر منها الملك نجم الدين خضر بن الظاهر، ولحق بأخيه السعيد في الكرك.
وقدمت رسل الفونش بكتب للملك السعيد وهدية، فقبض على هديتهم وكتبهم، وأعيدوا في خامس عشر شوال.
وفي حادي عشريه: قبض على الملك الأوحد وأخيه شهاب الدين محمد، ولدي الملك الناصر صلاح الدين داود صاحب الكرك، واعتقلا.
وفيه استقر الأمير بدر الدين بيليك الطياري في نيابة السلطنة بقلعة صفد، ونقل الأمير علم الدين سنجر الكرجي إلى الولاية، ونقل الأمير سيف الدين بلبان الجوادي إلى خزندارية القلعة.

وفي ثالث عشريه: استقر شرف الدين أبو طالب بن علاء الدين بن النابلسي ناظر النظار بديار مصر، عوضاً عن نجم الدين بن الأصفوني في الوجه القبلي، وعن تاج الدين بن السنهوري في الوجه البحري.
وفي رابع عشريه: صرف النصارى من ديوان الجيوش، وأقيم بدلهم كتاب مسلمون، فاستقر أمين الدين شاهد صندوق النفقات في كتابة الجيش، عوضاً عن الأسعد إبراهيم النصراني.
وفيه هدم دير الخندق خرج باب الفتوح من القاهرة، واجتمع لهدمه عالم كثير، وكان يوماً مشهوداً.
وفي خامس عشريه: وصل الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود صاحب حماة إلى ظاهر القاهرة، فركب السلطان إلى لقائه، وأنزله بمناظر الكبش، واهتم به اهتماما زائداً. ورسم بتضمين الخمر، فظهر شرب الخمر، وكثرت السكاري وزال الاعتراض عليهم، فلم يقم ذلك غير أيام قلائل حتى رسم في سادس عشريه بإراقة الخمور وإبطال ضمانها، ومنع من التظاهر بشيء من المسكرات.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: كتبت تقاليد القضاة الأربعة، واستقر الحال على أن يكون قاضي القضاة صدر الدين عمر، ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي، هو الذي يولي في أعمال مصر قضاة ينوبون عنه في الأحكام، وأن قاضي القضاة معز الدين الحنفي، وقاضي القضاة المالكي، وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي، يحكمون بالقاهرة ومصر خاصة، بغير نواب في الأعمال، فاستمر الأمر على ذلك إلى اليوم.
وأمر السلطان بإحضار الأمير عز الدين أيدمر الظاهري من دمشق تحت الحوطة، فلما وصل اعتقل بقلعة الجبل.
وفي ثاني ذي القعدة: ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة، وهو أول ما ركب إليه. وفرق السلطان فيه مائة وبضعاً وثلاثين فرسا بسروج مخلاة، وخلع على الأمراء خلعاً سنية.
وفي خامسه: حمل إلى المنصور صاحب حماة تقليد باستقراره بحماة، وسير السلطان له السناجق، وأربعة صناديق ذهبا وفضة، وأربعة صناديق ثياباً من الإسكندرية والعتابي، وعدة من الخيل، وخلع عليه وعلى من يلوذ به، وأذن له في العود فسافر في تاسعه. وخرج السلطان معه لوداعه، وأقام نهاره بناحية بهتيت، ثم عاد إلى القلعة.
وفي حادي عشره: مات الملك السعيد بركة قان بن الظاهر بيبرس بالكرك، وكان قد ركب في الميدان فتقنطر عن فرسه وهو يلعب بالكرة، فصدع وحم أياماً، ومات وعمره نيف وعشرون سنة، فاتهم أنه سم.
وورد الخبر بوفاته في العشرين منه، فعمل له السلطان عزاء بالإيوان من قلعة الجبل، وجلس كئيباً ببياض، وقد حصر العلماء والقضاة والأمراء والوعاظ والأعياد، فكان يوماً مشهوداً.
وأقام القراء شهراً يقرأون القرآن، وكتب إلى أعمال مصر والشام بأن يصلي عليه صلاة الغائب. وعندما ماد السعيد أقام الأمير علاء الدين أيدغدي الحراني نائب الكرك نجم الدين خضر بن الظاهر ملكا مكان أخيه بالكرك، ولقبه الملك المسعود فتحكم عليه مماليكه وأساءوا التدبير، وفوقوا الأموال ليستجلبوا الناس، فصار إليهم من قطع رزقه، وحضر إليهم طائفة من البطالين فساروا إلى الصلت واستولوا عليها، وبعثوا إلى صرخد فلم يتمكنوا منها، وأتتهم العربان وتقربوا إليهم بالنصيحة، وأخذوا مالا كثيرا من المسعود ثم تسللوا عنه.
ولم يزل المسعود في إنفاق المال حتى فنيت ذخائر الكرك التي كان الملك الظاهر قد أعدها لوقت الشدة، وبعث المسعود إلى الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق يستدعيه، فجرد السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك.
وفيه استقر شهاب الدين غازي بن الواسطي في نظر حلب، وقرر له في الشهر أربعمائه درهم وستة مكاكي قمح ومكوكان شعير، وأضيف معه جلال الدين بن الخطير في الاستيفاء.
واستقر الطواشي افتخار الدين في خزندارية حلب، وبدر الدين بكتوت القطزي شاد الدواوين بها، واستقر جمال الدين إبراهيم بن صصرى في نظر دمشق، بعد وفاة علم الدين محمد بن العادلي. واستقر الأمير سيف الدين بلبان الطباخي في نيابة حصن الأكراد.
وفي رابع ذي الحجة: استقر الأمير عماد الدين داود بن أبي القاسم في ولاية نابلس.
وفي سابعه: سار الأمير عز الدين أيبك الأفرم بالعساكر من القاهرة إلى جهة الكرك.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير غرس بن شاور من الاعتقال، واستقر في ولاية الرملة.

وثامن عشره: تسلم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري قلعة الشوبك من نواب الملك السعيد بالأمان، ووردت كتبه بذلك في ثالث عشريه، فسيرت الخلع لمن بها، ودقت البشائر بقلعة الجبل، وكتب بالبشارة إلى الأقطار.
وفيه استقر مجد الدين عيسي بن الخشاب محتسباً بالقاهرة.
وفيه استقر الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار المنصوري، المعروف بلاجين الصغير، في نيابة قلعة دمشق. فلما وصل إليها كما تقدم، وحلف سنقر الأشقر وخلع عليه، تحيل منه الأمير سنقر الأشقر نائب الشام، وجمع الأمراء وأوهمهم أن السلطان قد قتل وهو يشرب القمز، ودعاهم إلى طاعته وحلفهم على موافقته. وتلقب بالملك الكامل، وركب بشعار السلطنة في يوم الجمعة رابع عشريه.
وقبض على الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق المنصوري لامتناعه من الحلف، وقبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب القلعة، وعلى الصاحب تقي الدين توبة التكريتي. وبعث الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي إلى المماليك، ليحلف أهلها ويقيم في القلاع من يختاره. وكتب إلى مهنا وإلى أحمد بن حجي يعلمهما، فقدما عليه واستوزر مجد الدين إسماعيل بن كسيرات الموصلي، وأقر في وزارة الصحبة عز الدين أحمد بن ميسر المصري.
وانتقل بأهله من دار السعادة التي يسكنها النواب إلى القلعة، وأمر بغلق باب النصر، وفتح باب سر القلعة المقابل لدار السعادة بجوار باب النصر. فتطير الناس من ذلك، وقالوا: أغلق باب النصر، وانتقل من دار السعادة، واستوزر ابن كسيرات؟، فهذا أمر لا يتم، وكان كذلك.
وكان وفاء النيل بمصر ستة عشر ذراعاً، في ثالث ربيع الآخر. وحج بالناس من مصر الأمير جمال الدين أقش الباخلي، وسار الركب في سابع عشر شوال، وقاضيه فخر الدين عثمان ابن بنت أبي سعيد.
وفيها ولي نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن يحيي بن هبة الله بن الحسن بن يحيي ابن سني الدولة قضاء حلب، عوضاً عن شهاب الدين محمد بن أحمد الخوي.
وفيها أنعم السلطان على أربعين من مماليكه بإمريات: منهم كتبغا، وسنجر الشجاعي، وأيبك الخازندار، وقبجق، ولاجين، وبلبان الطباخي، وكراي، وسنفر جركس، وأقوش الموصلي، وطقصوا، وأزدمر العلائي، وبهادر أص رأس نوبة، وبكتوت بكجا، وتغريل السلحدار، وسنقر السلحدار. وأنعم على جماعة من عدته أيضاً بإمريات: منهم كشكل، وأيدمر الجناحي، وقيران الشهابي، ومحمد الكوراني، وإبراهيم الجاكي وإخواته. وأنعم على عدة من المماليك الظاهرية بإمريات: منهم الحاج بهادر، وسنجر المسروري.
وفيها ترك السلطان ركوبه مدة، وسبب ذلك تغير قلوب الصالحية والظاهرية ومكاتبتهم سنقر الأشقر. فلما بلغ السلطان هذا عنهم خشي من اغتيالهم إياه، وأخذ في التدبير عليهم، فكثرت قالة العامة، وجهروا بقولهم في الليل تحت القلعة بأصوات عالية يا بو عيشه اركب وكن طيب، يا بو عيشه وصاروا يلطخون رنك السلطان في الليل بالقذر، فيتغافل عنهم، وهو يسمع صياحهم في الليل ويبلغه فعلهم برنكه. وزادوا حتى شافهوا أمراءه بالسب، وهم يعرضون عنهم.
وفيها ظهر بالقاهرة ومصر رجلان من بزدارية الأمير جمال الدين أقوش الملقب بهيطلية، عرف أحدهما بالجاموس لسواد لونه، وعرف الآخر بالمحوجب. وأفسدا فسادا كثيرا، وشغفا بشرب الخمر، وصارا يكتبان الأوراق للأعيان بطلب شيء من إحسانهم ويوصلونها إليهم، فإن لم يبعث لهم المكتوب إليه بشيء، وإلا أتوه ليلا. وشنع أمرهما، حتى إنهما ليمشيان في مواضع النزه وسيوفهما على أكتافهما فلا يجسر أحد عليهما. ورتب لهما الأمير علم الدين سنجر الخياط وإلى القاهرة جماعة لتقبض عليهما، فكانا يحملان في مائة رجل، ويحوط عنهم. وهجما القاهرة في الليل، وأخذا وإلى الطوف وعلقاه بذراعه، وقطعا أنف المقدم وأذنيه، وتتبعا كل من أرصدة الوالي لأخذهما.

فذعر الناس منهما، إلى أن كانا ليلة ببستان في المطرية وخرجا منه يريدان القاهرة، فصدفهما مملوك الوالي وهو سائر إلى بلبيس ومعه غلامه، وقد عرفهما. فضرب بسهمه وأصاب رجلي أحدهما فسقط، وهم الآخر بصعود حائط البساتين فوقع و انكسرت رجله، ووقع الصوت في البستان. فنزل غلام المملوك وكتف الجاموس، وأخرج الناس المحوجب من البستان، وساروا بهما مربوطين إلى القاهرة. فطلع بهما الوالي إلى السلطان ومعه مملوكه، وكان زريا قصيراً لا يؤبه إليه، فعجب السلطان من ذلك، وسألهما على لسان الحاجب: " كيف مسككما هذا. بمفرده وأنتما لا تهابان رجالا كثيرة؟ أ فقالا: " إذا نزل القضاء قلت الحيلة، والله لقد كنا إذا رأينا عشرين فارساً، ومائة راجل خرجنا عنهم سالمين بعدما ننال منهم، فلما فرغ الأجل عندما وقع نظرنا على هذا ارتعدت فرائصنا حتى ما قدرنا على الحركة فرسم بتسميرهما فسمرا عند باب زويلة، وشهرا عدة أيام، وخلع على المملوك وأنعم عليه بألف درهم وإقطاع في الحلقة، وهو أول من أخذ من مماليك الأمراء إقطاعا في الحلقة.
وفيها خلع متملك تونس الأمير أبو زكريا يحيي الواثق بن أبي عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص في غرة ربيع الآخر، فكانت مدته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وقام بعده عمه أبو إسحاق إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد.
ومات في هذه السنةالأمير أقش الشهابي أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير الطنبا فخر الدين الحمصي، في سادس عشر رمضان.
ومات علم الدين إسحاق بن العادلي ناظر دمشق، في خامس عشري شوال. ومات الأمير عز الدين أيبك الشيخ، في ذي الحجة.
ومات الأمير ناصر الدين بلبان النوفلي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير علم الدين بلبان المشرفي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير سيف الدين جمق أحد الطلخاناه.
ومات شرف الدين أبو بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد عبد السلام ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن على بن محمد بن حمويه الحموي الجويني، شيخ الشيوخ بدمشق، في ثامن شوال، دفن بقاسيون.
ومات الأمير بدر الدين محمد بن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمي، خال الملك السعيد بن الظاهر، في تاسع ربيع الأول بدمشق.
ومات الأمير نور الدين على ابن الأمير عز الدين مجلي الهكاري نائب حلب بها، عن سبع وتسعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة محيي الدين أبو الصلاح عبد الله بن شرف الدين أبي المكارم محمد بن عين الدولة الشافعي، في خامس رجب وهو مصروف، وقد أناف على ثمانين سنة.
سنة تسع وسبعين وستمائةفي يوم الخميس أول المحرم: ركب الملك الكامل سنقر الأشقر بشعار السلطنة من قلعة دمشق إلى الميدان الأخضر، وبين يديه الأمراء مشاة بالخلع، ثم عاد.
وفي يوم الجمعة ثانيه: خطب له على منبر الجامع بدمشق، وكتب إلى الأمير عز الدين الأفرم وهو بالكرك يعتذر عن قيامه، وأتبع الكتاب بعسكر. فلما ورد كتابه جهزه الأفرم إلى السلطان بمصر، فكتب السلطان عند وروده إلى الأشقر يقبح فعله، وكتب أمراء مصر إليه بذلك، ويحثونه على الإذغان وترك الفتنة. وسار بالكتب بلبان الكريمي، فوصل دمشق في ثامنه، وخرج سنقر الأشقر إلى لقائه وأكرمه، و لم يرجع عما هو فيه.
واستقر الأفرم بغزة، فوافاه عسكر سنقر الأشقر بها، فاندفع من قدامهم إلى الرمل، وملك العسكر غزة واطمأنوا، فطرقهم الأفرم وأوقع بهم فانهزموا إلى الرملة، وأسر منهم الأمير بدر الدين كنجك الخوارزمي، الأمير بدر الدين بيليك الحلبي، وبهاء الدين يمك الناصري، وناصر الدين باشقرد الناصري، وعلم الدين سنجر التكريتي، وسنجر البدري، وسابق الدين سليمان صاحب صهيون، وغنم منهم مالا وخيولا وأثقالا كثيرة. وبعث الأفرم بالبشارة على يد ناصر الدين محمد ولد الأمير بكتاش الفخري، فقدم في خامس عشره بالأمراء المأسورين، فعفا السلطان عنهم وأحسن إليهم، وأعادهم على أخبازهم وجعلهم في العسكر.
وفي رابع عشره: مات الأمير علاء الدين كندغدي الحبيشي من ضربة بسكين، ضربه بها سنقر الغتمي الأشقر الأستادار، وقبض عليه وسمر على باب زويلة.

ولما بلغ سنقر الأشقر كسرة عسكره، جمع وحشد وبعث إلى الأمراء بغزة يعدهم ويستميلهم، فقدم عليه شهاب الدين أحمد بن حجي أمير العربان بالبلاد القبلية، والأمير شرف الدين عيسي بن مهنا أمير العربان بالبلاد الشرقية والشمالية، وأتته النجدات من حلب وحماة ومن جبال بعلبك، واستخدم عدة كبيرة وبذل فيهم المال، وكثرت عنده بدمشق الأرجاف أن عسكر مصر قد سار إليه، فاشتد استعداده. وجرد السلطان من القاهرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، ومعه الأمير بدر الدين الأيدمري والأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في أربعة آلاف فارس. فسار إلى غزه، واجتمعوا مع الأمير عز الدين الأفرم والأمير بدر الدين الأيدمري، وساروا جميعا والمقدم عليهم علم الدين سنجر الحلبي، فرحل عسكر سنقر الأشقر من الرملة إلى دمشق. فخرج سنقر الأشقر في ثاني عشر صفر بعساكره وخيم بالجسورة خارج دمشق، ونزل عسكر مصر الكسوة والعقوة في يوم الإثنين سابع عشره بالجسورة. فوقعت الحرب في تاسع عشره، وثبت سنقر الأشقر وأبلي بلاء عظيما، ثم خامر من عسكره طائفة كبيرة إلى عسكر مصر، وانهزم كثير منهم، ورجع عسكر حلب وحماة عنه إلى بلادهم، وتخاذل عنه عسكر دمشق، وحمل عليه الأمير سنجر الحلبي فانهزم منه. وهرب سنقر الأشقر وتبعه من خواصه الأمير عز الدين أزدمر الحاج، والأمير علاء الدين السبكي، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزي، والأمير سيف الدين بلبان الحبيشي، وساروا معه هم والأمير عيسي بن مهنا إلى برية الرحبة وأقاموا بها أياما، وتوجهوا إلى الرحبة، وكان سنقر قبل ذلك قد بعث حرمه وأمواله إلى صهيون. وأسر يومئذ أحد عشر أميرا: منهم بدر الدين سنجق البغدادي، وبدر الدين بيليك الحلبي، وعلم الدين سنجر التكريتي، وبهاء الدين تملك الناصري، وباشقرد الناصري، ونوديه الناصري.
ولما انهزم سنقر الأشقر تفرق عسكره في سائر الجهات، وغلقت أبواب دمشق، وزحف عسكر مصر إليها وأحاطوا بها، ونزلوا في الخيام و لم يتعرضوا لشيء. وأقام الأمير سنجر الحلبي بالقصر الأبلق في الميدان الأخضر خارج دمشق، فلما أصبح أمر فنودي بالأمان. وكان بقلعة دمشق الأمير سيف الدين الجكندار، وهو متولها من جهة سنقر الأشقر، فأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري، والصاحب تقي الدين توبه، وحلفهم ألا يؤذوه إذا أطلقهم. ثم فتح باب القلعة، ونزل لاجين إلى باب الفرج فوقف عليه، ومنع العسكر من دخول المدينة.
ونودي بإطابة قلوب الناس وزينة البلد، فوقف البشائر بالقلعة. وقدم كثير ممن كان مع سنقر الأشقر فأمنهم الأمير سنجر الحلبي، وحضر أحمد بن حجي بأمان. وقتل في هذه الوقعة الأمير ناصر الدين محمد بن الأتابك وكان شجاعا، ونور الدين على بن الطوري، وكان شجاعاً، وثمانية من جند دمشق، واثنان من عسكر مصر، وجرح الأمير بكتاش الفخري، وكتب إلى السلطان بذلك على يد ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح، فلما قدم على السلطان في أول ربيع الأول أنعم عليه بإمرة عشرة، وهو أول من تأمر من أولاد الأمراء في الدولة المنصورية.
واستقر في نيابة الأمير بدر الدين بكتوت العلائي، واستقر الوزير تقي الدين توبه على حاله، واستقر الأمير علم الدين سنجر الباشقردي في نيابة حلب، بعد الأمير جمال الدين أقش الشمسي نائب حلب.
وفي خامس عشري أبيب وهو في صفر: أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع وعشرين إصبعا.

وفي رابع عشري صفر: سار الأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في عدة من الأمراء ومعه ثلاثة آلاف فارس من دمشق، في طلب شمس الدين سنقر الأشقر، وتبعهم في أول ربيع الأول الأمير عز الدين الأفرم على عسكر آخر. وكان سنقر الأشقر قد أقام عند الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، ثم فارقه وسار إلى الرحبة، وقد تركه كثير ممن كان معه، فامتنع الأمير موفق الدين خضر الرحبي نائب القلعة بالرحبة من تسليمها إلى سنقر الأشقر. فلما أيس منه سنقر كتب إلى الملك أبغا بن هولاكو يحثه على الحضور لأخذ البلاد. الشامية، وكتب معه أيضاً الأمير عيسي بمثل ذلك. فبلغهما خبر توجه العساكر من دمشق، فسار سنقر في البرية إلى صهيون فتحصن بها، ولحق به الأمير عز الدين الحاج أزدمر في طائفة، فبعثه إلى قلعة شيزر فأقام بها، وبلغ ذلك العساكر المتوجهة من دمشق فنازلت شيزر.
وفي هذه المدة أوقعت الحوطة بدمشق على الصاحب مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وزير سنقر الأشقر، وعلى جمال الدين بن صصرى ناظر دواوين دمشق، واعتقلا على مال ألزما به.
وضرب الزين وكيل بيت المال، ورسم على قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان، واتهم بأنه أفتي سنقر الأشقر بجواز قتال السلطان، وورد كتاب السلطان من مصر بشنقه.
ثم ورد بريد من مصر إلى الشام بأمان أهل دمشق، فقام في حق قاضي القضاة شمس الدين الأمير علم الدين الحلبي، وقال: قد ورد كتاب السلطان بأمان من سمعه من أهل دمشق، وقد سمعه ابن خلكان فهو أمن من القتل.
وصرف ابن خلكان عن قضاة دمشق في حادي عشري من صفر، وعرض القضاء على قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن الصائغ، فامتنع من ذلك، ففوض لنجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن أحمد بن يحيي ابن سني الدولة.
واعتقل ابن خلكان في رابع عشريه بالخانقاه النجيبية، ثم أفرج عنه في تاسع ربيع الأولى بكتاب السلطان. فثار عليه ابن سني الدولة، وألزمه أن يخرج من المدرسة العادلية، ورسم عليه في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول حتى ينتقل عنها، وشدد عليه بسبب ذلك ولم يمهل، فشرع ابن خلكان في نقل كتبه وأمتعته في الرابعة من النهار، وإذا بالطلب قد أتاه فظن أنه من جهة الاستحثاث في النقلة، فأراهم الاهتمام بذلك، فقيل له قد حضر البريد من مصر، فخاف من حلول البلاء به، وتوجه إلى نائب دمشق، فإذا بكتاب السلطان يتضمن إنكار ولاية ابن سني لما به من الصمم، ويقول: إنا قد عفونا عن الخاص والعام، وما يليق أن نخص بالسخط أحدا على انفراده، وغير حاف ما يتعلق بحقوق القاضي شمس الدين بن خلكان وقديم صحبته، وأنه من بقايا الدولة الصالحية، وقد رسمنا بإعادته إلى ما كان عليه من القضاء، فخلع عليه الأمير علم الدين الحلبي، وركب ابن خلكان من ساعته إلى المدرسة العادلية، ونزلها وقت الظهر وباشر الحكم، فعد ذلك من الفرج بعد الشدة، وكانت مدة ابن سني الدولة عشرين يوماً.
وفي حادي عشر شهر ربيع الأول: فوضت نيابة دمشق إلى الأمير حسام الدين لاجين الصغير المنصوري، وقد كتب تقليده وتوجه به بكتوت العلائي، وولي الأمير بدر الدين بكتوت العلائي شد الدواوين بدمشق، والصاحب تقي الدين توبة التكريتي وزارة الشام، وأقطع الأمير فخر الدين عثمان بن مانعن بن هبة، والأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر، إقطاع الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، واستقرا في إمرة آل الفضل وآل علي على أن ينزل فخر الدين من الرستن إلى الملوحة، وتكون منزلة شمس الدين من الملوحة إلى الفرات، وأعطي أيضاً الأمير حسام الدين دراج إمرة آل عامر، وتكون منزلته من الرستن إلى العقابيات.
وتوجه شمس الدين سنقر الغتمي وسيف الدين بلبان الخاص تركي من القاهرة إلى الملك منكوتمر في البحر، ومعهما كتاب السلطان إلى الملك غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي. وتوجه الأمير ناصر الدين بن المحسني الجزري والبطرك أنباسيوس، في الرسالة إلى الملك الأشكري.
وفي ثالث ربيع الآخر: ورد رسول صاحب تونس بكتابه.
وفي سابعه: قدم الأمير عز الدين أزدمر العلائي إلى قلعة الجبل، فأنعم عليه بخبز الأمير قيران البندقداري، المنتقل إليه عن علم الدين سنجر الدواداري.
وفي النصف منه: قدم الأمير بدر الدين بكتوت ابن الأتابك.

وفي ثامن عشريه: كسر الخليج الذي بظاهر المقس، وورد المفرد في ثالث عشريه.
وفي سادس عشريه وهو أول أيام النسيء: وفي النيل ستة عشر ذراعا، فركب السلطان إلى القياس وخلق العمود، ثم ركب في الحراقة وكسر الخليج الكبير، فكان يوما مشهوداً.
ونودي في نهاره إصبعان من ستة عشر ذراعا، وكتبت البشائر بالوفاء على العادة.
وفيه صرف الأمير علم الدين أقش البدري وإلى قلعة الشوبك، وقرر عرضه الأمير علم الدين سنجر الإيغاني.
وفي سابع عشريه: مات الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسباسلار وإلى مصر، وأحيط بتركته، وقرر عوضه الأمير عز الدين أيبك الفخري.
وفي أول جمادى الأولى: كان يوم النوروز بمصر.
وفي تاسعه: وصل الأمير سيف الدين الحبيشي إلى قلعة الجبل.
وفي خامس عشريه: انتهت زيادة ماء النيل إلى ثلاثة وعشرين إصبعاً من سبعة عشر ذراعا، وأعطي الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري تكملة مائة فارس، ورسم بإيقاع الحوطة على تقي الدين توبة وزير الشام: فقبض على موجوده وسجن.
وفي ثالث جمادى الآخرة: وصل الأمير علم الدين سنجر الحلبي من بلاد الشام، فركب السلطان إلى لقائه وخلع عليه وعلى من كان معه من الأمراء، وأنعم على كل منهم بألف دينار.
وفي سادسه: خلع على الأمير سيف الدين بلبان الرومي، وجعل دوادار العلامة لا غير، مع القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر.
وورد الخبر بمسير التتار إلى البلاد الشامية، وأنهم قد افترقوا ثلاث فرق: فرقة سارت من جهة بلاد الروم ومقدمهم صمغار وتنجي وطرنجي، وفرقة من جهة الشرق ومقدمهم بيدو بن طوغاي بن هولاكو وصحبته صاحب ماردين، وفرقة فيها معظم العسكر وشرار المغل منكوتمر بن هولاكو. فخرج من دمشق الأمير ركن الدين إياجي على عسكر، وانضم مع العسكر المحاصر لشيزر، وخرج من القاهرة الأمير بدر الدين بكتاش النجمي على عسكر. واجتمع الجميع على حماة، وراسلوا الأمير سنقر الأشقر في إخماد الفتنة والاجتماع على قتال التتر، فبعث إليهم عسكرا من صهيون أقام حول صهيون، ونزل الحاج أذدمر من شيزر وخيم تحت قلعتها.
ووقعت الجفلة في البلاد الحلبية، فسار منها خلق كثير إلى دمشق في النصف من جمادى الآخرة، وكثر الاضطراب في دمشق وأعمالها، وعزم الناس على تركها والمسير إلى ديار مصر.
فلما كان في حادي عشريه: هجمت طوائف التتار على أعمال حلب، وملكوا عين تاب وبغراص ودربساك، ودخلوا حلب وقد خلت من العسكر، فقتلوا ونهبوا وسبوا، وأحرقوا الجامع والمدارس ودار السلطنة ودور الأمراء. وأقاموا بها يومين يكثرون الفساد بحيث لم يسلم منهم إلا من اختفي في المغائر والأسرية، ثم رحلوا عنها في يوم الأحد ثالث عشريه عائدين إلى بلادهم بما أخذوه، وتفرقوا في مشاتيهم.
وفي يوم الإثنين سابع عشريه: أركب السلطان ولده علاء الدين أبا الفتح عليا بشعار السلطنة، ولقبه بالملك الصالح وجعله ولي عهده، فشق القاهرة من باب النصر إلى قلعة الجبل. وكتب له تقليد بخط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر من إنشائه، أجاد فيه وأبلغ، وخطب للملك الصالح بعد ذلك على منابر مصر كلها بعد والده، وكتب إلى البلاد الشامية بذلك.
وفي آخره: عزل السلطان الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان عن وزارة الديار المصرية، فعاد إلى ديوان الإنشاء، وكتب مع كتاب الإنشاء، وتصرف بأمر صاحب ديوان الإنشاء، وفوضت الوزارة بعده إلى الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري.
وتوجه السلطان من مصر بالعساكر إلى البلاد الشامية يريد لقاء التتار، بعد ما أنفق في كل أمير ألف دينار، وفي كل جندي خمسمائة درهم، واستخلف على مصر بقلعة الجبل ابنه الملك الصالح عليا. فسار السلطان إلى غزة، وقدم عليه بغزة من كان في البلاد الشامية من عساكر مصر، وقدم عليه أيضاً طائفة من أمراء سنقر الأشقر فأكرمهم. و لم ينزل السلطان بغزة إلى عاشر شعبان، فرحل منها عائداً إلى مصر، بعد أن بلغه رجوع التتر، وكانت غبيته خمسين يوماً. وولي الأمير بدر الدين درباس ولاية جينين ومرج بني عامر.
وفيها ولي الأمير نجم الدين إبراهيم بن نور الدين على بن السديد ولاية مصر، عوضاً عن الأمير عز الدين أيبك الفخري. وسفر الأمير سيف الدين باسطي نائبا بقلعة صرخد، والأمير عز الدين أيبك الفخري والياً بالقلعة المذكورة.

وفي يوم السبت سادس عشري شهر رمضان: صرف قاضي القضاة صدر الدين عمر بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز عن قضاء القضاة بديار مصر، وكان قد سلك في ولايته طريق الخير والصلاح، وتحري الحق والعدل وتصلب في الأحكام، واستقر عوضاً عنه قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الحموي.
وفيه خرج الأمير بدر الدين بكتاش النجمي إلى حمص مجردا، وخرج الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري الصالحي لحفظ الساحل من الفرنج. وكتب السلطان إلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب حصن الأكراد بغزو الفرنج بالمرقب، لمساعدتهم التتار عند وصولهم حلب، فجمع التركمان وغيرهم، وحمل المجانيق والآلات، ونازل المرقب، فانهزم المسلمون ونهبهم الفرنج، وعدم من المسلمين مقدار مائتي فارس وراجل. فكبر ذلك على السلطان، وتحرك للسفر وخرج في أول ذي الحجة، واستخلف ابنه الملك الصالح، وخيم بمسجد تبر. ورتب السلطان الأمير علم الدين سنجر الشجاعي. في استخراج الأموال وتدبير أمور المملكة، وجعله في خدمة الملك الصالح مع الوزير برهان الدين السنجاري. وأقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بالقاهرة لقراءة البريد وتنفيذ الأشغال، وأقر في نيابة السلطنة بديار مصر الأمير زين الدين كتبغا المنصوري.
وقدم الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا من العراق، وترامي على السلطان، فعفا عنه وأكرمه، وركب إلى لقائه وأحسن إليه.
ومات في هذه السنةالشيخ الصالح المعمر طير الجنة، ودفن بقرافة مصر.
ومات الأديب الشاعر جمال الدين أبو الحسن يحيي بن عبد العظيم بن يحيي بن محمد ابن على الجزار، في ثاني عشر شوال.
ومات الأمير الكبير جمال الدين أقوش الشمسي نائب حلب بها، في خامس المحرم، وهو الذي قتل كتبغا نوين مقدم التتار يوم عين جالوت، وهر الذي أمسك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، وولي نيابة حلب بعده علم الدين سنجر الباشقردي.
ومات الأمير على بن عمر الطوري، وقد أناف على تسعين سنة، وكان أحد أبطال المسلمين، وله شهرة عند الفرنج، وتنقل في ولايات عديدة.
ومات الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسباسلار وإلى مصر في ربيع الأول، بعد ما ولي مصر عدة سنين، وكان خبيراً عظيم السمن.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النن البغدادي الشافعي بالإسكندرية، عن ثمانين سنة.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن بركة خان خال الملك السعيد، وهو بدمشق.
سنة ثمانين وستمائةفيها سار السلطان قلاوون من ظاهر القاهرة، فأتته رسل الفرنج وهو بمنزلة الروحا في تقرير الهدنة، فتقررت بين مقدم بيت الإسبتار وسائر الإسبتارية بعكا، وبين السلطان وولده الملك الصالح لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، أولها يوم السبت ثاني عشري المحرم.
وتقررت الهدنة أيضاً مع متملك طرابلس الشام بيتند بن بيمند لمدة عشر سنين، أولها سابع عشري شهر ربيع الأولى. وعادت الرسل، وتوجه الأمير فخر الدين أياز المقري الحاجب لتحليف الفرنج ومقدم الإسبتار على ذلك، فخلفهم.
وفيه بلغ الأمير بدر الدين بيسري الشمسي أن الأمير سيف الدين كوندك الظاهري السعيدي قد وافق عدة من الظاهرية والسعيدية على الفتك بالسلطان عند المخاضة بنهر الشريعة، بعد الرحيل من بيسان، فأعلم السلطان بذلك. واتفق ورود كتب من عكا تتضمن أن السلطان يحترز على نفسه، فإن عنده جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتله، وكاتبوا الفرنج بأنهم لا يصالحون، فإن الأمر لا يبطئ، فاحترز السلطان على نفسه.
وهم كوندك بأن يغتال السلطان وهو بمنزلة الروحا، فوجده قد تحفظ واستعد ثم إن السلطان رحل من الروحا، ولاطف الأمر حتى اجتمع الأمراء عنده في حمراء بيسان، فونج كوندك ومن معه وذكر لهم ما اعتمدوه من مكاتبة الفرنج، فلم ينكروا وسألوا العفو.

فأمر السلطان بهم فقبض عليهم وهم: كوندك، وأيدغمش الحكيمي، وبيبرس الرشيدي، وساطلمش السلاح دار الظاهري، وعلى ثلاثة وثلاثين من الأمراء البرانية والمماليك الجوانية، وفر عشرة أمراء ومائتا فارس فأخذوا من بعلبك وصرخد، وأخذ كوندك الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة، ومضى به إلى بحيرة طبرية، وضرب عنقه ثم غرقه بها هو والبقية. فركب الأمير سيف الدين أيتامش السعيدي والأمير سيف الدين بلبان الهاروني، في نحو ثلاثمائة من البحرية الظاهرية والتتار الوافدية، وتوجهوا إلى سنقر الأشقر بصهيون. فخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري والأمير ركن الدين طقصوا الناصري في أثرهم، فلم يدركهم، وأوقعت الحوطة على موجود من قتل ومن هرب.
وسار السلطان إلى دمشق فدخلها في تاسع عشر المحرم، وهو أول قدومه إليها في سلطنته، فكان يوماً مشهوداً، وقد اجتمع له عسكر عدته خمسون ألفاً.
وفي ثاني عشري المحرم: صرف ابن خلجان عن قضاء دمشق، وأعيد عز الدين محمد بن الصائغ. واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق نجم الدين أحمد بن شمس الدين عبد الرحمن الحنبلي، وكان قضاء الحنابلة قد شغر من دمشق منذ عزل نفسه قاضي القضاة شمس الدين، فاستقر ابنه نجم الدين بتعيين والده.
وفي عاشر المحرم: مات قاضي القضاة صدر الدين عمر بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي بمصر، فاستقر عوضه في نظر التربة الصالحية بخط بين القصرين الطواشي حسام الدين بلال المغيثي اللالا.
واستقر في نظر المشهد الحسيني بالقاهرة القاضي برهان الدين بن الطرائفي كاتب الإنشاء، فورد مرسوم السلطان من دمشق بولاية الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي الأستادار نظر المشهد الحسيني، وولاية القاضي تقي الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز المدرسة الصالحية والتربة الصالحية عوضاً عن أخيه، مضافاً لما بيده من نظر الخزائن المعمورة، وأن يكتفي بمعلوم المدرسة والتربة والمناصب التي كانت بيد أخيه، وبتوفر معلومه عن نظر الخزائن.
وفي ربيع الأول: صرف الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري عن الوزارة بمصر، وقبض عليه وعلى ولده واعتقلا بقلعة الجبل.
وفي صفر: جرد السلطان من دمشق الأمير عز الدين أيبك الأفرم والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي في عدة من الأجناد، فساروا إلى شيزر، فبعث سنقر الأشقر يطلب الصلح على أن يسلم شيزر، ويعوض عنها الشغر وبكاس وكانتا قد أخدتا منه ومعهما فامية وكفر طلب وأنطاكية وعدة ضياع، مع ما بيده من صهيون وبلاطنس ونرزية واللاذقية، وشرط أيضاً أن يكون أميراً بستمائة فارس، ويؤمر من عنده من الأمراء، فأجيب إلى ذلك.
وحضر في رابع ربيع الأول الأمير علم الدين سنجر الدواداري، ومعه رسول سنقر الأشقر بنسخة يمينه على ما تقرر، فحلف له السلطان وكتب له تقليدا بالبلاد المذكورة، ونعت فيه بالأمير وخوطب في مكاتباته بالمقر العالي المولوي السيدي العالي العادلي الشمسي، ونودي في دمشق باجتماع الكلمة. وجهزت رسل سنقر الأشقر، ومعهم الأمير فخر الدين أياز المقري الحاجب والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، فحلفاه وعادا في ثاني عشره، فضربت البشائر.
وبعث السلطان إلى سنقر الأشقر من الأقمشة والأواني وغيرها شيئاً كثيراً، وعادت العساكر من شيزر إلى دمشق.
وفي يوم الخميس أول شهر ربيع الأول وهو خامس عشري بؤونة: كان قاع النيل بمصر ستة أذرع وثمانية عشر إصبعاً.
وقدمت رسل الملك المسعود حضر بن الظاهر صاحب الكرك في طلب الصلح والزيادة على الكرك، ليكون له ما كاد للناصر صلاح الدين داود فلم يجب السلطان إلى ذلك، فترددت الرسل بينهما إلى أن تقرر أن يكود له من حد الموجب إلى الحسا، وأن تجهز إليه إخوته الذكور والإناث، وترد عليهم الأملاك الظاهرية.
وتوجه الأمير بدر الدين بيليك المحسني السلاح دار والقاضي عماد الدين بن الأثير ليحلفاه، فانبرم الصلح في أوائل شهر ربيع الأول، وشهر النداء بذلك في دمشق.
وفي هذا الشهر: دارت الجهة المفردة بدمشق وأعمالها وضمنت بألفي ألف درهم في كل سنة.
فلما كان يوم الأحد خامس عشريه: خرج مرسوم بإراقة الخمور وإبطال هذه الجهة الخبيثة، فبطل ذلك.
وفيه عزل برهان الدين الخضر السنجاري عن الوزارة وصودر وأهين.

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: وصلت أم الملك السعيد ناصر الدين محمد بن بركة قان ابن الملك الظاهر بيبرس وهو معها في تابوت إلى ظاهر دمشق، فرفع في ليلة الخميس العشرين منه بحبال إلى أعلى السور، وأرخي وحمل إلى تربة والده الملك الظاهر، وألحده مع أبيه قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ.
فلما كمان بكرة يوم الخميس: حضر السلطان والأمراء وسائر الأعيان وكثير من القراء والوعاظ إلى القبر، فكان وقتاً مشهوداً.
وفي هذا اليوم: أوفي النيل بمصر ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع، ووافقه رابع عشر مسري، فكتب إلى السلطان بذلك.
وفي شهر ربيع الآخر، ولي نظر الإسكندرية كمال الدين بن سلامة، بعد وفاة رشيد الدين بن بصاقة.
وفي جمادى الأولى. شنق بالقاهرة رجلان. أحدهما مر به سقاء فزحمه بحمله حتى أتلف ثيابه فضربه بسكين قتله، فشنق، والآخر جندي طالب خياطا بمتاع له عنده، فلما مطله ضربه فمات، فشنق أيضاً.
وفيه مات رسول ملك الفرنج، فأحيط بموجوده. وفيه قبض على شخص يعرف بالكريدي في طريق مصر كان يقطع الطريق على الناس، فسمر على جمل وأقام أياماً يطاف به أسواق مصر والقاهرة، فقطع عنه الموكل به الأكل والشرب، فلما طالب بذلك قال له الموكل به: إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً، حتى تستريح مما أنت فيه، فقال له: لا تقل كذا، فإن شر الحياة خير من الموت، فناوله ما أكله وسقاه. فاتفق إنه وقعت فيه شفاعة فأطلق وسجن، فعاش أياما ثم مات في السجن.
وفي عاشر جمادى الآخرة وهو تاسع عشري توت: انتهت زيادة ماء النيل إلى ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.
وفي هذا الشهر: ثار العشير ونهبوا مدينة غزة، وقتلوا خلقا كثيرا وأفسدوا، فبعث السلطان الأمير علاء الدين أيدكين الفخري على عسكر من دمشق، وخرج من القاهرة الأمير شمس الدين سنقر البدوي على عسكر.
وفيه ورد الخبر بدخول منكوتمر أخي ابغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان إلى بلاد الروم بعساكر المغل، وأنه نزل بين قيسارية والأبلستين. فبعث السلطان الكشافة، فلقوا طائفة من التتر أسروا منهم شخصا وبعثوا به إلى السلطان، فقدم إلى دمشق في العشرين من جمادى الأولى، فآتاه السلطان و لم ينزل به حتى أعلمه أن التتر في نحو ثمانين ألفا، وإنهم يريدون بلاد الشام في أول رجب.
فشرع السلطان في عرض العساكر، واستدعى الناس، فحضر الأمير أحمد بن حجي من العراق في جماعة كبيرة من آل مراتكون زهاء أربعة آلاف فارس، شاركين في السلاح على الخيول المسومة، وعليهم القزغندات الحمر من الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض مقلدين سيوفهم وبأيديهم الرماح، وأمامهم العبيد تميل على الركائب وترقص بتراقص المهاري وبأيديهم الجناب ووراءهم الظعائن والحمول ومعهم مغنية تعرف بالحضرمية سافرة في الهودج، وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا
ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضمرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تنكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

فقال رجل: هكذا يكون ورب الكعبة. فكان كما قال، فإن الكسرة كانت أولا على المسلمين، ثم كانت النصرة لهم، واستحر القتل بالتتار كما ستراه. وقدمت نجدة من الملك المسعود خضر، وقدمت عساكر مصر وسائر العربان والتركمان وغيرهم. فوردت الأخبار. بمسير التتر، وأنهم انقسموا فسارت فرقة مع الملك أبغا بن هولاكو إلى الرحبة ومعه صاحب ماردين، وفرقة أخرى من جانب آخر، فخرج بجكا العلائي في طائفة من الكشافة إلى جهة الرحبة. وجفل الناس من حلف إلى حماة وحمص حتى خلت من أهلها، وعظم الإرجاف. وتتابع خروج العساكر من دمشق إلى يوم الأحد سادس عشري جمادى الآخرة، فخرج السلطان إلى المرج. بمن بقي من العساكر وأقام به إلى سلخ الشهر، ثم رحل يريد حمص فنزل عليها في حادي عشر رجب ومعه سائر العساكر، وحضر الأمير سنقر الأشقر من صهيون ومعه أيتمش السعدي، وأزدمر الحاج، وسنجر الدواداري، وبيجق البغدادي، وكراي، وشمس الدين الطنطاش، ومن معهم من الظاهرية، فسر السلطان بذلك وأكرمهم وأنعم عليهم، وكان ذلك في ثاني عشره فنزل سنقر الأشقر على الميسرة، وقويت الأراجيف بقرب العدو.
وفي ثالث عشره: اجتمع الناس بأسرهم في جامع دمشق، وتضرعوا إلى الله وضجوا وبكوا، وحملوا المصحف العثماني على الرءوس، وخرجوا من الجامع إلى المصلى خارج البلد وهم يسألون الله النصر على الأعداء.
ووصل التتار إلى أطراف بلاد حلب، وقدم منكوتمر إلى عين تاب، ونازل الملك أبغا قلعة الرحبة في سادس عشرى جمادى الآخرة، ومعه نحو ثلاثة آلاف فارس. وتقدم منكوتمر قليلاً قليلا حتى وصل حماة، وأفسد نواحيها وخرب جواسق الملك المنصور صاحب حماة وبستانه فورد الخبر إلى السلطان بذلك وهو على حمص، وأن منكوتمر في خمسين ألفا من المغل وثلاثين ألفا من الكرج والروم والأرمن والفرنجة، وأنه قد قفز إليه مملوك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق ودله على عورات المسلمين.
ثم ورد الخبر بأن منكوتمر قد عزم أن يرحل عن حماة، ويكون اللقاء في يوم الخميس رابع عشر رجب. واتفق عند رحيله أن يدخل رجل منهم إلى حماة وقال للنائب: اكتب الساعة إلى السلطان على جناح الطائر بأن القوم ثمانون ألف مقاتل، في القلب منهم أربعة وأربعون ألفا من المغل وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدا، فيقوي ميسرة المسلمين، ويحترز على السناجق. فسقط الطائر بذلك وعلم بمقتضاه، وبات المسلمون على ظهور خيولهم.
وعند إسفار الصباح من يوم الخميس رابع عشر شهر وجب: ركب السلطان ورتب العساكر: فجعل في الميمنة الملك المنصور صاحب حماة، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، والأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي، ومضافيهم، وجعل في رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، وآل فضل وآل مرا وعربان الشام، ومن انضم إليهم، وجعل في الميسرة الأمير سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بجكا العلائي، والأمير بدر الدين بكتوت العلائي، والأمير سيف الدين حيرك التتري، ومضافيهم، وجعل في رأس الميسرة التركمان بجموعهم، وعسكر حصن الأكراد، وجعل في الجاليش وهو مقدمة القلب الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بديار مصر، ومن معه من مضافيه والأمير ركن الدين أياجي الحاجب والأمير بدر الدين بكتاش بن كرمون، والمماليك السلطانية ووقف السلطان تحت الصناجق، ومعه خاصته وألزامه وأرباب الوظائف، فكانت عمدة حلقته أربعة آلاف فارس وهي أقوي وأشد، وعدة مماليك السلطان ثمانمائة مملوك. وكان في العسكر حشو كثير من الأمراء الأكراد والتركمان سوي أمراء مصر والشام. ثم اختار السلطان من مماليكه مائتي فارس، وانفرد عن العصائب ووقف على تل، فكان إذا رأي طلبا قد اختل أردفه بثلاثمائة من مماليكه.

فأشرفت كراديس التتار وهم مثلا عساكر المسلمين، و لم يعتدوا منذ عشرين سنة مثل هذه العدة، ولا جمعوا مثل جمعهم هذا، فإن أبغا عرض من سيره صحبة أخيه منكوتمر فكانوا خمسة وعشرين ألف فارس منتخبة. فالتحم القتال بين الفريقين بوطاة حمص، قريبا من مشهد خالد بن الوليد، ويوم الخميس رابع عشر رجب، من ضحوة النهار إلى آخره، وقيل من الساعة الرابعة. فصدمت ميسرة التتار ميمنة المسلمين صدمة شديدة ثبتوا لها ثباتا عظيما، وحملوا على ميسرة التتار فانكسرت وانتهت إلى القلب وبه منكوتمر. وصدمت ميمنة التتر ميسرة المسلمين، فانكسرت الميسرة وانهزم من كان فيها، وانكسر جناح القلب الأيسر. وساق التتر خلف المسلمين حتى انتهو إلى تحت حمص وقد غلقت أبوابها، ووقعوا في السوقة والعامة والرجالة والمجاهدين والغلمان بظاهر حمص، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأشرف الناس على التلاف.
ولم يعلم المسلمون من أهل الميسرة. بما جري للمسلمين أهل الميمنة من النصر ولا علم التتار الذين ساقوا خلف المسلمون ما نزل. بميسرتهم من الكسوة، ووصل إلى بعض المنهزمين إلى صفد، وكثير منهم دخل دمشق، ومر بعضهم إلى غزة، فاضطرب الناس بهذه البلاد وانزعجوا انزعاجاً عظيما.
وأما التتر الذين ساقوا خلف المنهزمين من المسلمين أصحاب الميسرة، فإنهم نزلوا عن خيولهم وأيقنوا بالنصر، وأرسلوا خيولهم توعي في مرج حمص، وأكلوا ونهبوا الأثقال والوطاقات والخزانة وهم يحسبون أن أصحابهم ستدركهم، فلما أبطأوا عليهم بعثوا من يكشف الخبر، فعادت كشافتهم وأخبرتهم أن منكوتمر هرب، فركبوا وردوا راجعين. هذا ما كان من أمر ميمنة التتار وميسرة المسلمين.
وأما ميمنة المسلمين فإنها ثبتت وهزمت ميسرة التتار حتى انتهت إلى القلب، إلا الملك المنصور قلاوون فإنه ثبت تحت الصناجق، ولم يبق معه غير ثلاثمائة فارس، والكوسات تضرب. وتقدم سنقر الأشقر، وبيسري، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، ولاجين نائب دمشق، وطرنطاي نائب مصر، والدواداري، وأمثالهم من أعيان الأمراء، إلى التتار، وأتاهم عيسي بن مهنا فيمن معه، فقتلوا من التتار مقتلة عظيمة.
وكان منكوتمر مقدم التتار قائماً في جيشه، فلما أراده الله من هزيمته نزل عن فرسه ونظر من تحت أرجل الخيل، فرأي الأثقال والدواب فاعتقد أنها عساكر، و لم يكن الأمر كذلك، بل كان السلطان قد تفرقت عنه عساكره ما بين منهزم ومن تقدم القتال، حتى بقي معه نحو الثلاثمائة فارس لا غير. فنهض منكوتمر من الأرض ليركب فتقنطر عن فرسه، فنزل التتر كلهم لأجله وأخذوه. فعندما رآهم المسلمون قد ترجلوا حملوا عليهم واحدة كان الله معهم فيها، فانتصروا على التتار.
وقيل إن الأمير عز الدين أزدمر الحاج حمل في عسكر التتار وأظهر أنه من المنهزمين، فقدمهم وسال أن يوصل إلى منكوتمر، فلما قرب منه حمل عليه وألقاه عن فرسه إلى الأرض، فلما سقط نزل التتار إليه من أجل إنه وقع، فحمل المسلمون عليهم عند ذلك، فلم يثبت منكوتمر وانهزم وهو مجروح، فتبعه جيشه وقد افترقوا فرقتين: فرقة أخذت نحو سلمية والبرية، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات.
وأما ميمنة التتار التي كسرت ميسرة المسلمين، فإنها لما رجعت من تحت حمص كان السلطان قد أمر أن تلف الصناجق ويبطل ضرب الكوسات، فإنه لم يبق معه إلا نحو الألف، فمرت به التتار و لم تعرض له، فلما تقدموه قليلا ساق عليهم، فانهزموا هزيمة قبيحة لا يلوون على شيء. وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروب الشمس من يوم الخميس. ومر هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل يريدون منكوتمر، فكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين، وإلا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين لما وجدوا فيهم قوة، ولكن الله نصر دينه، وهزم عدوه مع قوتهم وكثرتهم. وانجلت هذه الواقعة عن قتلي كثيرة من التتر لا يحصى عددهم.
وعاد السلطان في بقية يومه إلى منزلته بعد انقضاء الحرب، وكتب البطائق بالنصرة ولم يفقد كثير شيء من ماله، فإنه كان قد فرق ما في الخزائن على مماليكه أكياسا في كل كيس ألف دينار ليحملوه على أوساطهم فسلم له المال. وبات ليلة الجمعة إلى السحر في منزلته، فثار صياح لم يشك الناس في عود التتار، فبادر السلطان وركب وسائر العساكر، فإذا العسكر الذي تبع التتار وقت الهزيمة قد عاد.

وقتل من التتار في الهزيمة أكثر ممن قتل في المصاف، واختفي كثير منهم يجانب الفرات. فأمر السلطان أن تضرم النيران بالأزوار التي على الفرات، فاحترق منهم طائفة عظيمة، وهلك كثير منهم في الطريق التي سلكوها من سلمية.
وفي يوم الجمعة: خرج من العسكر طائفة في تتبع التتار، مقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، ورحل السلطان من ظاهر حمص إلى البحيرة ليبعد عن الجيف. وقتل من التتار صمغار، وهو من أكبر مقدميهم وعظمائهم، وكانت له إلى الشام غارات عديدة.
واستشهد من المسلمين زيادة على مائتي رجل: منهم الأمير عز الدين أزدمر الحاج وهو الذي جرح منكوتمر مقدم التتار وألقاه عن فرسه وكان سبب هزيمتهم، وكان من أعيان الأمراء، وتحدثه نفسه أنه يملك فعوضه الله الشهادة، والأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار الظاهري، وعلم الدين سنجر الإربلي، وبدر الدين بكتوت الخازندار، وشمس الدين سنقر العرسي، وشهاب الدين توتل الشهرزوري، وسيف الدين بلبان الحمصي، وناصر الدين محمد بن جمال الدين صبرم الكاملي، وعلاء الدين على ابن الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزي، وناصر الدين محمد بن أيبك الفخري، وبدر الدين بيليك الشرفي، وشرف الدين بن علكان، وصاحب الموصل، والقاضي شمس الدين بن قريش كاتب الدرج وقد عدم فلم يعرف له خبر، وهو آخر من مات من كتاب الملك الكامل محمد بن العادل، وكان قد كتب له ولابنيه العادل والصالح ولمن بعدهما من المملوك.
وأما أهل دمشق فإنه لما كان بعد صلاة الجمعة، في اليوم الثاني من الوقعة، سقط الطائر بالنصرة، ودقت البشائر بقلعة دمشق وسر الناس سروراً كبيراً، وزينت القلعة والمدينة. فلما كان بعد نصف الليل من ليلة السبت وصل جماعة كثيرة من المنهزمين وأخبروا. بما شاهدوا من الكسرة، و لم يكن عندهم علم. بما تجدد بعدهم من النصرة، فارتجت دمشق واضطرب الناس، وأخذوا في أسباب الرحيل، وفتحت أبواب دمشق، ولم يبق إلا خروج الناس منها على وجوههم هاربين فورد بعد ساعة البريد يخبر النصر، وكانت موافاته عند أذان الفجر، فقرئ كتابه بالجامع فاطمأن الناس.
وورد الخبر إلى مصر في يوم الخميس حادي عشري شهر رجب، على جناح الطائر في بطاقة من قاقون، بأن جماعة من ميسرة العساكر المنصورة وصلوا منهزمين من العدو المخذول، ووصل بعض الأمراء إلى قطيا منهم ابن الأيدمري.
وقد كان أهل مصر صاروا يقنتون في صلواتهم، وكثرت قراءة صحيح البخاري، وأقبل الناس على تلاوة القرآن، وتجمعوا في المشهد الحسيني وفي الجوامع والمساجد، وكثر ضجيجهم ودعاؤهم. فاشتد القلق عند ورود هذا الخبر، وجرد الملك الصالح في الحال عسكراً عليه الأمير صارم الدين أربك الفخري في كثير من العربان إلى قطيا، لرد المنهزمين وإعادتهم إلى السلطان، ومنع أحد منهم أن يعبر إلى القاهرة، فاعتمد ذلك.
ولم يستمر قلق الناس غير ساعات من النهار، وإذا بالطيور قد وقعت محلقة تحمل البطائق المخلقة، وتخبر فيها بالبشائر العظمي من كسر التتار.
وقدمت البريدية بكتب البشائر أيضاً، فدقت البشائر وزينت القاهرة ومصر وقلعة الجبل، وكتب إلى أعمال مصر بالزينة. وكتب الملك الصالح إلى السلطان والده يشفع في المنهزمين ويسأل العفو عنهم، وكتب أيضاً إلى الأمير بدر الدين بيسري يؤكد عليه في الشفاعة فيهم.
واتفق أن الأمير طرنطاي النائب وقع على جماعة من أصحاب منكوتمر، فأسرهم وفيهم حامل حرمدانة، فوجد في الحرمدار كتبا من الأمراء مثل سنقر الأشقر، وأيتمش السعدي، وغيرهم ممن كان مع سنقر الأشقر إلى التتار، يحرضونهم على دخول الشام، ويعدونهم بالمساعدة على أخذها فشاور طرنطاي السلطان عليها، فأمر بغسلها فغسلت، ولم يطلع عليها أحد.
وأما السلطان فإنه وادع الأمير سنقر الأشقر، ورده ومن حمص إلى عمله بصهيون على عادته، ورد معه من كان عنده من الأمراء. وهم أيتمش السعدي، وسنجر الدواداري، وكراي التتري، وغيرهم.
ورحل السلطان إلى دمشق، فقدمها يوم الجمعة ثاني عشري رجب، فكان يوما عظيما إلى الغاية عظم فيه سرور الناس وكثر فرحهم، وقال فيه الشعراء عدة قصائد.
وفي سابع: ورد الخبر إلى القاهرة. يعود السلطان إلى دمشق، وأنه عندما استقر بها جرد العسكر مع الأمير بدر الدين الأيدمري إلى الرحبة، ليدفع من عليها من التتار.

وأما أبغا بن هولاكو ملك التتار فإنه لم يشعر وهو على الرحبة إلا وقد وقعت بطاقة من السلطان إلى نائب الرحبة،. بما من الله به من النصر وكسرة التتار فعندما بلغه ذلك بدق بشائر القلعة رحل إلى بغداد.
ووصل الأمير بدر الدين الأيدمري إلى حلب، وبعث في طلب التتار إلى الفرات، ففروا من الطلب وغرق منهم خلق كثير. وعبرت طائفة منهم على قلعة البيرة، فأتلهم أهلها وقتلوا منهم خمسمائة، وأسروا مائة وخمسين. وتوجه منهم ألف وخمسمائة فارس إلى بغراس، وفيهم أكابر أصحاب سيس وأقاربهم فخرج عليهم الأمير شجاع الدين السيناني بمن معه، فقتلهم وأسرهم عن آخرهم بحيث لم يفلت منهم إلا دون العشرين. وتوجه منهم على سلمية نحو أربعة آلاف، فأخذ عليهم نواب الرحبة الطرقات والمعابر، فساروا في البرية فماتوا عطشا وجوعا، و لم يسلم منهم إلا نحو ستمائة فارس.
فخرج إليهم أهل الرحبة فقتلوا أكثرهم، وأحضروا عدة منهم إلى الرحبة ضربت أعناقهم بها. وأدرك بقية التتر الملك أبغا، وفيهم أخوه منكوتمر وهو مجروح، فغضب عليه وقال: " لم لا مت أنت والجيش ولا انهزمت " وغضب أيضاً على المقدمين. فلما دخل أبغا بغداد سار منها إلى جهة همذان وتوجه منكوتمر إلى بلاد الجزيرة فنزل بجزيرة ابن عمر، وكانت الجزيرة لأمه قد أعطاها إياها أبوه هولاكو لما أخذها.
وفي يوم الإثنين حادي عشريه: قدم الأمير بدر الدين الأيدمري بمن معه من العسكر، بعدما أنكي في التتار. ورسم السلطان أن تكون البشائر إنعاماً على من ذكر. وهي القاهرة ومصر على يد الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار الرومي، وقوض والوجه القبلي خلا الفيوم على يد الأمير بدر الدين بيدر المنصوري أمير مجلس، والفيوم على يد الأمير علم الدين سنجر أمير خور، والإسكندرية على يد الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار، ودمياط على يد الأمير بدر الدين بيليك أبو شامة المحسني، والغربية على يد الأمير أيبك السلاح دار المنصوري، وأشموم على يد الأمير شمس محمد بن الجمقدار نائب أمير جاندار.
وورد كتاب السلطان إلى قلعة الجبل ليجهز إلى الملك المظفر شمس الدين بن رسول باليمن. بما من الله به من النصر على التتار، فكتب قريبه الملك الصالح كتابا من إنشاء محيي الدين بن عبد الظاهر، خوطب فيه: أعز الله أنصار المقام العالي المظفري الشمسي.
وفي شهر رجب: رتب السلطان غرس الدين بن شاور في ولاية لد والرملة، عوضاً عن سعد الدين بن قلج، بحكم انتقاله منها إلى ولاية بلد الخليل عليه السلام. ورتب تقي الدين توبة في نظر النظار بالشام، شريكا للقاضي تاج الدين عبد الرحيم بن تقي الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيي السنهوري. ورتب الأمير علم الدين سنجر الدواداري شاداً ومدبراً من غزة إلى الفرات.
وفيه ثارت العشران ونهبوا نابلسي، وقتلوا مقتلة عظيمة، مركب الأمير علاء الدين أيدكين الفخري من غزة وقبض على جماعة منهم، وشنق اثنين وثلاثين من أكابرهم، وسجن كثيراً منهم بصفد، ورتب الأمير علاء الدين أيدغدي الصرخدي نائبا بالبلاد الغزاوية والساحلية لردع العشرين.
وفيه قرر الشيخ تفي الدين محمد بن دقيق العيد في تدريس المدرسة بجوار قبة الشافعي من قرافة مصر، على عادة القاضي تقي الدين بن رزين بعد وفاته.
واستقر الشيخ علم الدين ابن بنت العراقي في تدريس المشهد الحسيني بالقاهرة.
وفيه وصل الأمير شهاب الدين أحمد ابن وإلى القلعة أمير شكار من دمشق لتحريج الجوارح وإصلاحها.
وفيه استقر الأمير سيف الدين بازي المنصوري نائباً بحمص، ومعه الأمير صارم الدين الحمصي، مساعداً له.
واستقر الأمير جمال الدين أقش الحمصي نائبا في مدينة نابلس، عوضاً عن زين الدين قراجا البدري.
وفيه افرج عن الأمير سيف الدين قطز المنصوري، والأمير سنجر الحموي أبو خرص.
وفيه كانت وقعة في صحراء عيذاب بين عرب جهينة ورفاعة قتل فيها جماعة، فكتب إلى الشريف علم الدين صاحب سواكن بأن يوفق بينهم ولا يعين طائفة على أخرى، خوفا على فساد الطريق.
وفيه ولي زين الدين بن القماح نظر البحيرة، عوضاً عن موفق الدين بن الشماع. واستقر شمس الدين محمد بن القاضي علم الدين بن القماح في الإعادة. بمدرسة الشافعي من القرافة، بتوقيع شريف.

وفي شعبان: افترق بنو صورة بناحية المنوفية من أعمال مصر فرقتين، وحشدوا وركبوا بآلات الحرب، فخرج إليهم عدة من أجناد الحلقة، ورسم بأخذ خيلهم وسلاحهم، فسكن ما كان بينهم.
وفي يوم الأحد ثاني شعبان: سار السلطان من دمشق، وكتب إلى مصر بتجهيز الزينة ونصب القلاع، وأن يتقدم إلى نواب الأمراء بالشروع في تقسيم المواضع لقلاعهم والاهتمام بالزينة. فرتبت الإقامات في عاشره على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وجعل في كل منزلة من الدقيق ستين قطعة، وشعيرا أربعمائة أردب، وأغناما مائة رأس، ودجاجا مائتي طائر، وحماما خمسين طائرا، وأثبانا مائة حمل، وحطب سنطٍ مائة قنطار.
وخرج السلطان من غزة بكرة يوم الخميس ثالث عشره، ووصل قطيا يوم الإثنين سابع عشره، وقد تأخرت العساكر وراءه، ونزل غيفة يوم الخميس العشرين منه وخيم بها.
ودخل الأمير شرف الدين الجاكي المهمندار من الدهليز السلطاني لترتيب رسل الملوك الذين بالقاهرة، وخروجهم إلى لقاء السلطان.
وخرج الملك الصالح والأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة إلى الملتقي، واستمر الأمير علم الدين سنجر المنصوري بقلعة الجبل.
فصعد السلطان إلى قلعته في يوم السبت ثاني عشريه تحت صناجقه، وأسري التتار بين يديه، وقد حمل بعضهم الصناجق التترية وهي مكسورة. فبعث السلطان بالأسري وطبول التتار وحتر منكوتمر من جهة باب النصر حتى شقوا القاهرة إلى باب زويلة، وساروا إلى القلعة، و لم يشق السلطان القاهرة، وكان يوما مشهوداً اجتمع الناس فيه من الأقطار، وكثر فرحهم وسرورهم.
وفي يوم الأحد ثالث عشري شعبان: أفرج السلطان عن الأمير ركن الدين منكورس الناصر الفارقاني.
وفيه دخل السلطان إلى الخزانة الشريفة، ورتب الخلع لسائر الأمراء والخواص والكتاب بالدرد الذين كانوا في الخدمة.
وفي يوم الخميس سابع عشريه: جلس السلطان، وأحضرت هدية الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن على بن رسول صاحب اليمن على يد رسله: وهم مجد الدين بن أبي القاسم، والقاضي محيي الدين يحيي بن البيلقاني. فقبل السلطان هديته، وكانت من طرائف اليمن، من العود والعنبر والصيني ورماح القنا وغير ذلك.
وفي تاسع عشريه: أعيد إقطاع الأمير سيف الدين أيتمش السعدي إليه، وهوناي وطنان وإمرة مائة فارس، وكان قد أخذه عند توجهه إلى سنقر الأشقر الأمير عز الدين أيبك الأفرم، وأعيد على الأفرم إقطاعه القديم ممن أخذه.
وفيه أقر الأمير سيف الدين قطز.
وفيه فوض قضاء الشافعية إلى وجيه الدين عبد الوهاب بن حسين المهلبي الهنسي في سابع شعبان، عوضاً عن تقي الدين محمد بن رزين بحكم وفاته.
وفيه قبض على الأمير ركن الدين بيبرس الحلبي المعروف بأياجي الحاجبي، من أجل أنه انهزم على حمص.
وفي يوم السبت سادس رمضان: حضرت رسل الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن عمر بن على بن رسول متملك اليمن، وسألوا أن يكتب لمرسلهم أمان على قميص، وتعلم عليه العلامة السلطانية، فأجيبوا إلى ذلك. وجهزت إليه هدايا وتحف فيها قطعة زمرد، وعدة من أكاديش التتار وشيء من عددهم.
وفيه عملت نسخة حلف السلطان للملك الأشكري صاحب القسطنطنية، وكانت رسله قد وصلت بنسخة يمينه في تاريخ موافق آخر المحرم سنة ثمانين وستمائة.
وفيه ولي الأمير بهاء الدين قراقوش قوص وأخميم، عوضاً عن الأمير بيبرس مملوك علاء الدين حرب دار.
وفي شوال: سار المحمل إلى الحجاز على العادة.
وفي يوم الخميس أول ذي القعدة: استقر عز الدين أيبك الفخري والياً بقوص وأخميم، عوضاً عن قراقوش.
وفي خامسه: قبض على الأمير أيتمش السعدي وعلى عدة من الأمراء واعتقلوا، وقبض أيضاً بدمشق على الأمير سيف الدين بلبان الهاروني وسيقران الكردي وغيرهما، وذلك لأنهم كانوا ممن كان مع سنقر الأشقر.
وفيه سافر الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني الجزري الحاجب والقاضي شرف الدين إبراهيم بن فرج كاتب الدرج، إلى اليمن من جهة عيذاب، في الرسالة عن السلطان.
وفي ذي القعدة: أخرج السلطان جميع نساء الملك الظاهر بيبرس وخدامه من القاهرة، وبعثهم إلى الكرك.

وفي أول ذي الحجة: فوض قضاء المالكية بديار مصر إلى تقي الدين أبي على الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه الإمام مفتي الفرق جلال الدين أبي محمد بن عبد الله بن شاس الجذامي السعدي المالكي، عوضاً عن قاضي القضاة نفيس الدين محمد بن سكر، بحكم وفاته.
ومات في هذه السنة من الأعيانالقان أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان بنواحي همذان عن نحو خمسين سنة، منها مدة ملكه سبع عشرة سنة، وقام في الملك بعده أخوه تكدار بن هولاكو.
ومات الأمير عز الدين أيبك الشجاعي بدمشق عن خمس وثمانين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنقر الألفي نائب السلطنة بديار مصر، في السجن بالإسكندرية عن نحو أربعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى ابن عيسي بن موسى بن نصر الله العامري الحموي الشافعي، عن سبع وسبعين سنة: وتوفي قاضي دمشق نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن يحيي بن هبة الله بن الحسن بن يحيي بن سني الدولة الشافعي، عن أربع وستين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة صدر الدين أبو حفص عمر بن تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز العلامي الشافعي، عن خمس وخمسين سنة.
وتوفي موفق الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع الشيباني الموصلي الكواشي، عن تسعين سنة بالموصل.
وتوفي الحافظ شمس الدين أبو حامد محمد بن على بن محمود بن أحمد بن على بن الصابوني المحمودي، بدمشق عن ست وسبعين سنة.
وتوفي المسند شمس الدين أبو الغنائم مسلم بن محمد بن مسلم بن مكي بن خلف بن علان القيسي الدمشقي ناظر الدواوين بدمشق، عن ست وثمانين سنة بها.
وتوفي الشريف شهاب الدين أبو جعفر أحمد بن على بن محمد بن على بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن أبي إبراهيم محمد الممدوح الحسني، كاتب الإنشاء بحلب، عن خمس وثلاثين سنة بها.
وتوفي الأديب الكاتب الحاسب علاء الدين أبو الحسن على بن محمود بن الحسن بن نبهان اليشكري، عن خمس وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مكتوم البعلبكي، في وقعة حمص شهيدا.
وتوفي الأديب بدر الدين أبو المحاسن بن يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله الذهبي الدمشقي، عن ثلاث وسبعين سنة بدمشق.
ومات منكوتمر بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، بجزيرة ابن عمر مكموداً عقب كسرته على حمص.
ومات علاء الدين عطا ملك بن محمد الجويني صاحب الديوان ببغداد، بعدما نقم عليه الملك أبغا ونسبه إلى مواطأة المسلمين، فقبض عليه وأخذ أمواله. وكان صدراً كبيراً فاضلا، وله شعر حسن، وولي بعده بغداد ابن أخيه هارون بن محمد الجويني.
سنة إحدى وثمانين وستمائةفي مستهل صفر: قبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي، والأمير كشتغدي الشمسي. فأغلق باب زويلة وعامة الأسواق، وارتجت القاهرة حتى نودي: من أغلق دكانه شنق، ففتحت الأسواق.
وفي ربيع الأول: وصلت رسل الأشكري ورسل ألفونس بهدية.
وفي حادي عشر ربيع الآخر: استقر في الوزارة نجم الدين حمزة بن محمد الأصفوني.
وفي آخر جمادى الآخرة: استعفي قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب بن حسن البهنسي من قضاء القاهرة والوجه البحري، وذكر أنه يضعف عن الجمع بين قضاء المدينتين مصر والقاهرة والوجهين القبلي والبحري، فأعفي من قضاء القاهرة والوجه البحري. وفوض السلطان ذلك في أول رجب لشهاب الدين محمد الخوي، وكان يلي أولا قضاء الغربية من أعمال مصر، فنقل منها إلى قضاء القاهرة، وانفرد للبهنسي قضاء مصر والوجه القبلي.
وفي شعبان: حلف الشريف أبو نمي أمير مكة للسلطان وولده بالطاعة لهما، وأنه التزم تعليق الكسوة الواصلة من مصر على الكعبة في كل موسم، وأنه لا يعلق عليها كسوة غيرها، وأن يقدم علم الملك المنصور على كل علم في كل موسم، وألا يتقدمه علم غيره، وأن يسبل زيارة البيت الحرام أيام مواسم الحج وغيرها للزائرين والطائفين والبادين والعاكفين والآمين، وأن يحرس الحاج ويؤمنهم في سربهم، وأن يستمر بإفراد الخطبة والسكة بالاسم الشريف المنصوري، وأن يفعل الخدمة في فعل المخلص الولي للسلطان، ويمتثل مراسمه امتثال النائب للمستنيب.

وفيه وصلت رسل الملك أحمد أغا سلطان بن هولاكو، وهم الشيخ مطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي قاضي سيواس، والأمير بهاء الدين أتابك السلطان مسعود صاحب الروم، والصاحب شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين بن التيتي، وزير ماردين. وكانوا عند قدومهم إلى البيرة قد سار إليهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي والأمير سيف الدين كبك الحاجبان، وقد أمرا أن يبالغا في الاحتراز على الرسل وإخفائهم عن كل أحد. واحترزا عليهم حتى لم يشاهدهم أحد، وسارا بهم في الليل حتى قدموا قلعة الجبل بكتاب الملك أحمد: وفيه أنه مسلم، وأنه أمر ببناء المساجد والمدارس والأوقاف، وأمر بتجهيز الحجاج.
وسال اجتماع الكلمة وإخماد الفتنة والحرب، وأنه ظفر بجاسوس وعادة مثله أن يقتل فجهزه إلى الأبواب السلطانية، وقال إنه لا حاجة إلى الجواسيس ولا غيرهم بعد الاتفاق واجتماع الكلمة، وبالغ في استجلاب خاطر السلطان. وتاريخ الكتاب في جمادى الأولى، وأنه كتب بواسط.
فأجيب بتهنئته بالإسلام، والرضي بالصلح، وأعيدت الرسل وقد أكرموا من غير أن يعلم الناس بدخولهم ولا خروجهم. وساروا سراً كما قدموا سراً ليلة السبت ثاني رمضان صحبة الحاجبين، فوصلوا إلى حلب في سادس شوال وعبروا إلى بلادهم.
وفي رمضان: وصل الأمير شمس الدين سنقر الغتمي ورفقته، الذين خرجوا إلى بيت بركة في الرسالة.
وفيه قبض على الأمير بدر الدين بكتوت الشمسي وعلاء الدين أقطوان الساقي، وشهاب الدين قرطاي، واعتقلوا.
وفيه استقر الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطة بحلب، عوضاً عن علم الدين سنجر الباشقردي، وعمر جامعها وقلعتها وكانا قد خربهما التتار. وفيه قدم الشيخ على الإوبراني، وكان قد أسلم وخدم الفقراء، وسلك طريق الله وظهرت على يده كرامات، وتبعه جماعة من أولاد المغل، فسار بهم إلى الشام ومصر، ومثل بحضرة السلطان من قلعة الجبل في ثامن عشر ذي القعدة، ومعه إخوته الأقوش وعمر وطوخي وجوبان، وجماعة غيرهم. فأحسن السلطان إليه وإلى من معه، ورتب بعضهم في حملة الخاصكية، ثم نقل إلى الإمرايات منهم الأقوش وتمر وعمر وهم إخوة.
ثم ظهر من الشيخ على ما أوجب أن يسجن، فسجن هو والأقوش، ومات تمر وعمر في الخدمة.
وفي حادي عشريه: وقعت نار بدمشق أقامت ثلاثة أيام، فاحترق فيها شيء كثير، منها سوق الكتبيين، واحترق لشمس الدين إبراهيم الجزري الكتبي خمسة عشر ألف مجلد سوي الكراريس.
وفي يوم عرفة: قبض بدمشق على الأمير عز الدين أيبك كرجي أمير علم، والأمير ناصر الدين محمد بن عز الدين أيدمر النائب بدمشق، وعلى زين الدين بن الشيخ على، واعتقلوا، وفيه تزوج السلطان الملك المنصور قلاوون بخوند أشلون ابنة الأمير سكناي ابن قراجين بن جنغان نوبن القادم إلى القاهرة في الدولة الظاهرية، وهي أم الملك الناصر محمد.
وتزوج الملك الصالح على ابن السلطان بخوند منكبك ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وكانت تحت الأمير زين الدين كتبغا المنصوري، فرآها الملك الصالح يوم حضرت مع نساء الأمراء مهم أشلون يوم زفت إلى السلطان، ففتنه حسنها حتى كاد يهلك، فمازال السلطان بطرنطاي النائب حتى ألزم كتبغا بطلاقها فطلقها.
وأفرج السلطان عن أبيها نوكيه من سجن الإسكندرية، وأحضر إلى القاهرة وأنعم عليه بإمرة، وعقد العقد على خمسة آلاف عينا عجل منها ألف دينار.
وفيها بلغ السلطان أن ملك الكرج توماسوطا بن كلياري خرج من بلاده، ومعه رفيق له اسمه طيبغا بن انكواد يريد زيارة القدس سرا، فحفظت عليه الطرقات من كل جهة، فلم يصل إلى موضع منذ خرج من بلده إلى أن قدم القدس إلا ويصل خبره وهيئة حاله إلى السلطان. فقبض عليه بالقدس، وأحضر إلى قلعة الجبل هو ورفيقه واعتقلا.
وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. وخرج من القاهرة بالمحمل الأمير ناصر الدين ألطنبغا الخوارزمي، ومعه كسوة الكعبة، وسار بالسبيل حسام الدين مظفر أستادار الفارقاني. وحج الأمير علاء الدين البندقداري في ركب كبير.
وفيها ولي نجم الدين أبو حفص عمر بن العفيف أبي المظفر خصر بن منصور الشيباني قضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن تاج الدين أبي المعالي عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن بن علوي السنجاري.

وفيها في آخر شوال خلع متملك تونس أبو إسحاق إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص، وكانت مدته ثلاث سنين وسبعة أشهر. وقام من بعده الدعي أحمد بن مرزوق بن عمار المسبلي الخياط، وزعم أنه الواثق أبو زكريا يحيي بن المستنصر.
وفيها أقيم في الملك تكدار بن هولاكو، بعد موت أخيه أبغا بن هولاكو في المحرم، فاظهر أنه أسلم وتسمي أحمد سلطان. ترك أبغا ولدين هما أرغون وكيختو.
ومات في هذه السنة من الأعيانشمس الدين أبو العباس أحمد بن بهاء الدين أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي الشافعي، المؤرخ قاضي دمشق في رجب.
وتوفي قاضي المالكية بدمشق زين الدين أبو محمد عبد الكريم بن على بن عمر الزواوي المالكي، بعد ما عزل نفسه، عن اثنتين وتسعين سنة بدمشق.
وتوفي برهان الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر بن عيسي المراغي الفقيه الشافعي، وقد أناف على خمس وسبعين سنة بدمشق.
ومات الصاحب علاء الدين عطا ملك ابن الصاحب بهاء الدين محمد بن محمد الجويني مدبر دول العراق، بناحية أران. وله فضل وشعر جيد.
وتوفي المسند برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن يحيي بن علوي بن الدرجي القرشي الدمشقي الحنفي، عن اثنتين وثمانين سنة.
ومات الأمير حسام الدين بشار الرومي وهو أحد من قدم في الأيام الظاهرية بيبرس من بلاد الروم بعد ما بلغ مائة وعشرين سنة، وناب وحج وترك الإمرة وعوض عنها براتب أجري عليه.
وتوفي زين الدين إدريس خطب الجامع الأزهر.
وتوفي السديد عبد الله الماعز. وقد باشر ديوان المرتجع في الأيام الظاهرية، فنقله المنصور قلاوون إلى ديوانه.
ومات أيضاً منكوتمر بن طوغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر ببلاد الشمال. وملك بعده أخوه تدان منكو، وجلس على كرسي الملك. بمدينة صراي.
سنة اثنين وثمانين وستمائةفي المحرم: وصل الملك المنصور صاحب حماة، فركب السلطان إلى لقائه، وأنزله بمناظر الكبش وأقيم بواجبه.
وفيه استخرجت الجوالي من الذمة، وكانت العادة أن تستخرج في شهر رمضان، فأخر استخراجها إلى المحرم رفقا بهم، وحضر الصاحب نجم الدين الأصفوني بدار العدل تحت القلعة لاستخراجها.
وفيه رسم أن تكون جوالي الذمة بالقدس وبلد الخليل، وبيت لحم وبيت جمالا، مرصدة لعمارة بركة في بلد الخليل.
وفي سادسه: توجه السلطان، إلى بر الجيزة، وسار إلى البحيرة لحفر الخليج المعروف بالطبرية، ومعه صاحب حماة.
وأقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بالقلعة، ومعه الأمير قراسنقر الجركندار، وعلاء الدين أيدغدي السلاح دار، وعز الدين أيبك الخازندار، ورتب مع الأمير علم الدين الخياط وإلى القاهرة عدة من أصحاب الأمراء، يطوفون كل ليلة من بعد العصر حول القلعة وفي ظواهر القاهرة. ونودي على الأجناد في القاهرة بالخروج لحفر الخليج، ووقع العمل فيه فكان طوله ستة آلاف وخمسمائة قصبة في عرض ثلاث قصبات وعمق أربع قصبات بالقصبة الحاكمية، وفرغ من عمله في عشرة أيام. فحصل بسببه نفع كبير، وروي منه ما لم يكن قبل ذلك يروي. وفيه وصل من الشروق تسعة عشر وافدا بأولادهم.
وفي رابع عشره: وصلت رسل صاحب بلاد سيلان من أرض الهند واسمه أبو أنكيه بكتابه. وهو صحيفة ذهب عرض ثلاثة أصابع في طول نصف ذراع بداخلها شيء أخضر يشبه الخوص، مكتوب فيه بقلم لم يوجد في القاهرة من يحسن قراءته، فسئل الرسل عنه فقالوا " إنه يتضمن السلام والمحبة وإنه ترك صحبة صاحب اليمن وتعلق بمحبة السلطان، ويريد أن يتوجه إليه رسول، وذكر أن عنده أشياء عدها من الجواهر والفيلة والتحف ونحوها، وأنه عبأ تقدمة إلى أبواب السلطان، وأن في مملكة سيلان سبعا وعشرين قلعة، وبها معادن الجواهر والياقوت، وأن خزائنه ملآنة من الجواهر " .
وفي رابع صفر: عاد المنصور صاحب حماة بلده، وخرج السلطان معه لوداعه.
وفي خامس ربيع الأول: جرت الهدنة بين السلطان وبين الفرنج بعكا مدة عشر سنين، أولها خامس المحرم من هذه السنة.
وفي عاشره: ولي الصاحب برهان الدين السنجاري تدريس المدرسة بجوار الشافعي من القرافة.

وفي مات الصاحب نجم الدين حمزة الأصفوني، وولي شرف الدين أبو طالب بن النابلسي نظر الوجه القبلي، ونقل القاضي عز الدين بن شكر من نظر ديوان الجيش إلى نظر الوجه البحري، وخلع عليهما. وبقي الأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدير المماليك، وهما بين يديه يصرفان المهمات.
وفيها خرجت تجريدة من قلعة كركر إلى حصار قلعة قطيبا إحدى قلاع أمد، فأخذوها من أيدي التتار، وأقيم فيها الرجال وعملت بها الأسلحة والغلال، فصارت من حصون الإسلام المنيعة.
وأخذت أيضاً قلعة كختا من النصارى بسؤال أهلها، فتسلمها أمراء السلطان. بمدينة حلب، وشحنت بالأسلحة وغيرها، وصارت مسلطة على الأرمن.
وفي جمادى الأولى: خرج أرغون بن أبغا على عمه تكدار المسمى أحمد سلطان بخراسان، فسار إليه وقتله وهزمه ثم أسره، فقامت الخواتين مع أرغون، وسألن الملك تكدار أحمد في الإفراج عنه وتوليته خراسان، فلم يرض بذلك.
وكانت المغل قد تغيرت على تكدار، لكونه دخل في دين الإسلام وإلزامه لهم بالإسلام، فثاروا وأخرجوا أرغون من الاعتقال، وطرقوا ألناق نائب تكدار ليقتلوه ففر منهم فأدركوه وقتلوا تكدار أيضاً، و أقاموا أرغون بن أبغا ملكا. فولي أرغون وزارته سعد الدولة اليهودي، وولي ولديه خرابندا وقازان خراسان، وعمل أتبكهما الأمير نوروز.
ومات الأشكري متملك قسطنطنية واسمه ميخائيل، وملك بعده ابنه الدوقش.
وفي النصف من جمادى الأولى: توجه السلطان من قلعة الجبل إلى بلاد الشام، فنزل غزة في سابع جمادى الآخرة، وقبض على غرس الدين بن شاور متولي رملة ولد، وولي عوضه الأمير علم الدين سنجر الصالحي، وعزل عماد الدين بن أبي القاسم عن القدس، بنجم الدين السونجي.
ودخل السلطان دمشق يوم الجمعة ثامن شهر رجب، فرسم أن كل من استخدم ترد جامكيته على ما كانت عليه في الدولة الظاهرية وتستعاد منه الزيادة، فاستخرج من ذلك مال كبير.
وفي يوم الجمعة حادي عشري رجب: عوق قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل الأنصاري المعروف بابن الصائغ، ثم صرف عن القضاء بدمشق، وطولب بثمانية آلاف دينار أودعها عنده الطواشي ريحان الخليفتي وأوصاه عيلها، وطولب بعدة ودائع أخرى، فقام في حقه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام والأمير حسام الدين طرنطاي نائب مصر، ومازالا حتى أفرج عنه في ثامن عشري شعبان، ولزم داره.
واستقر عوضه في قضاء دمشق بهاء الدين يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على بن محمد بن على الزكي.
وفيه استقر شرف الدين بن مزهر في نظر الشام ثالثاً للناظرين.
واستقر قراسنقر نائباً بحلب، عوضاً عن سنجر الباشقردي وقيل بل كان ذلك في سنة إحدى وثمانين كما تقدم، وأنعم على الباشقردي بإقطاع بدر الدين الأزدمر. بمصر. واستقر بدر الدين بكتوت السعدي نائبا بحمص.
وفي ثاني رمضان: خرج السلطان من دمشق، ودخل قلعة الجبل يوم الخميس رابع عشريه، وخرج المحمل على العادة.
وفي هذه السنة: غارت العساكر على بلاد الأرمن، ووصلوا إلى مدينة أياس وقتلوا ونهبوا وحرقوا، واقتتلوا مع الأرمن عند باب إسكندرونة وهزموهم إلى تل حمدون، وعادوا سالمين ظافرين بالغنائم.
وفيها كانت وقعة ببلاد بيروت مع فرج قبرس حين قصدهم بلاد الساحل، قتل فيها عدة من الفرنج، وأسر منهم زيادة على ثمانين رجلا، وأخذت منهم غنائم كثيرة.
وفيها وصلت رسل تدان منكو بن طوغان بن باطو بن دوشي بن جنكزخان ملك القبجاق، بكتاب خطه بالقلم المغلي: يتضمن أنه أسلم، ويريد أن ينعت نعتا من نعوت أهل الإسلام، ويجهز له علم خليفتي وعلم سلطاني يقاتل بهما. أعداء الدين. فجهزت الرسل إلى الحجاز، ثم عادوا وساروا إلى بلادهم. بما سألوا فيه.
وفيها اشتريت الدار القطية بخط بين القصرين من القاهرة، من خالص مال السلطان، وعوض سكانها عنها قصر الزمرد برحبة باب العيد، في ثامن عشري شهر ربيع الأول.

وقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في عمارتها مارستاناً وقبة ومدرسة باسم السلطان الملك المنصور قلاوون، فأظهر من الاهتمام في العمارة ما لم يسمع. بمثله. وفيها قدم الشيخ عبد الرحمن في الرسالة من الملك أحمد أغا سلطان إلى البيرة، وعلى رأسه الجتر كما هي عادته في بلاد التتر، فتلقاه الأمير جمال الدين أقش الفارسي أحد أمراء حلب، ومنعه من حمل الجتر والسلاح، وعدل به عن الطريق المسلوك إلى أن أدخله حلب ثم إلى دمشق، فوصلها ليلة الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة، من غير أن يمكن أحداً من الاجتماع به ولا من رؤيته. ولما وصل إلى دمشق أنزل بقلعتها، فأقام بقاعة رضوان من القلعة إلى أن وصل السلطان إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانين. وأجري عليه في كل يوم ألف درهم، ومأكل وحلوي وفاكهة بألف أخرى.
وفيها استدعى تاج الدين السنهوري من دمشق، واستقر في نظر الدواوين بديار مصر، عوضاً عن عز الدين إبراهيم بن مقلد بن أحمد بن شكر، رفيقاً لشرف الدين بن النابلسي.
وتزوج الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان باردكين ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، أخت زوجة أخيه الملك الصالح على.
وفيها ولي مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن نجم الدين أبي حفص عمر بن نصر بن منصور الأنصاري البيساني، مدة يسيرة ثم عزل.
وفي أوائل هذه السنة: تحرك سعر الغلة حتى بلغ الأردب القمح خمسة وثلاثين درهما، فكرة السلطان ذلك وتوجه بالعسكر إلى الشام تخفيفاً عن الناس، فلم ينحط السعر، فجمع الأمراء وأراد أن يكتب بفتح أهراء مصر أدخله حلب ثم إلى دمشق، فوصلها ليلة الثلاثاء وبيع الغلة منها بسعر خمسة وعشرين درهما الأردب، فقال له الأيدمري: قلوب الناس متعلقة. بما في الأهراء، فإنها خزانة المسلمين، كلما نظروا إليها ملآنة شبعت نفوسهم، وما يؤمن ارتفاع السعر أيضاً. والرأي أن الأمراء بأسرهم يكتبون بفتح شونهم وبيع القمح بخمسة وعشرين درهما الأردب، فإذا وقع البيع منها دفعة واحدة مع بقاء الأهراء ملآنة رجي انحطاط السعر، والأمراء لا يضرهم إذا نقصت شونهم نصف ما فيها " . فأعجب السلطان ذلك، وكتب الأمراء بفتح شونهم ففتحت، وبيع القمح منها بخمسة وعشرين درهما الأردب، فانحط السعر إلى عشرين ثم إلى ثمانية عشر، واستمر كذلك حتى قدم الجديد من المغل.
وفيها قتل متملك الروم غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباد، وأقيم بعده مسعود بن عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بيغو بن سلجوق، وهو آخر من سمي بالسلطان من السلجوقية ببلاد الروم، وقد افتقر وانكشف حاله ومات قريب سنة ثمان عشرة وسبعمائة.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام عماد الدين بن الفضل محمد ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله الشيرازي، ببستانه بالمزة في يوم الإثنين سابع عشر صفر، وصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع الجبل، ودفن بتربة فيها قبر أخيه علاء الدين، رحمهما الله تعالي. وكان شيخ الكتابة أتقن الخط المنسوب، وبلغ فيه مبلغا عظيما حتى أتقن قلم المحقق، وكتبه أجود من شيخ الصناعة ابن البواب.

وفيها توفي الصاحب مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم بن أبي القاسم بن أبي طالب بن كسيرات الموصلي، وكانت وفاته في سابع عشري رمضان بداره بجبل الصالحية، وكان رحمه الله تعالى كثير المروءة واسع الصدر، كثير الهيبة والوقار جميل الصورة حسن المنظر والشكل، كثير التعصب لمن يقصده محافظا على مودة أصدقائه وقضاء حوائجهم، كثير التفقد لهم. وأصله من الموصل من بيت الوزارة، كان والده وزير الملك المنصور عماد الدين زنكي ابن الملك العادل نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، ثم باشر نظر الخزانة للملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ، ثم نقله إلى نظر الجزيرة العمرية لما فتحها، ووصل إلى الشام صحبة الملك المجاهد سيف الدين إسحاق لما وصل في الدولة الظاهرية، وسكن دمشق وولي نظر البر بها، ثم نقل إلى نظر نابلس، ثم أعيد إلى دمشق فباشر نظر الزكاة بها، ثم انتقل إلى صحابة الديوان بالشام إلى أن ملك سنقر الأشقر دمشق، فاستوزره كما تقدم، وبطل بعد ذلك عن المباشرة، وسكن داره التي أنشأها بجبل قاسيون جوار البيمارستان، فكان بها إلى أن مات.
قال شمس الدين الجزري: قلت له يوما وقد أضرت به البطالة: " يا مولانا لو ذكرت أحدا من أصحابك الأمراء حتى يذكر بك السلطان أو نائب السلطنة، فكاتب في أمرك، فإن لك خدما وتفضلاً على الناس، فنظر إلي وأنشد:
لذ خمولي وحلا مره ... وصانني عن كل مخلوق
نفسي معشوقي ولي غيرة ... تمنعني عن بذل معشوقي
وفيها في يوم الخميس عاشر شهر رمضان: توفي الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر صلاح الدين دواد ابن الملك المعظم شرف الدين عيسي ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب، وكانت وفاته بدمشق، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة، ودفن بالتربة المعظمية. وكان رحمه الله تعالى قد جمع بين الرياسة والفضيلة والعقل الوافر والخصال الجميلة، وكان مجانبا الناس محبوب الصورة، رحمه الله تعالي.
وفيها في سادس عشري شعبان: توفي القاضي عز الدين إبراهيم بن الصاحب الوزير الأعز فخر الدين أبي الفوارس مقدام ابن القاضي كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر. وكان قد ولي نظر الجيوش بالديار المصرية في شهر رمضان سنة خمس وسبعين وستمائة، كما تقدم. رحمه الله تعالي.
وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة العابد الزاهد شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام أبي عمر عمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر القدسي شيخ الحنابلة بالشام. وكان قد ولي قضاء القضاة على كره منه سنة أربع وستين وستمائة كما تقدم، ثم ترك الحكم وتوفر على العبادة والتدريس وأشغال الطلبة والتصنيف. ويقال إنه قطب بالشام، واستدل على ذلك. يمراء توافقت عليها جماعة تعرفه في سنة. سبع وسبعين وستمائة أنه قطب، وكان أوحد زمانه. وكانت وفاته في يوم الإثنين سلخ ربيع الآخر منها، ودفن بقاسيون بتربة والده قدس الله روحه. ومولده في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ولما مات رثاه المولي الفاضل شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء بقصيدة أولها:
ما للوجوه ومد علاه ظلام ... أعراه خطب أم عداه مرام؟
أم قد أصيب بشمسه فغدا وقد ... لبست عليه حدادها الأيام
وجاء منها.
لكم الكرامات الجليلات التي ... لا تستطيع جحودها الأقوام
وهي قصيدة تزيد على ستين بيتا. ورثاه جماعة رحمه الله تعالي.
وفيها توفي الأمير علاء الدين كندغدي المشرقي الظاهري المعروف بأمير مجلس، كان من أعيان الأمير بالديار المصرية، وظهر قبل وفاته. بمدة يسيرة أنه باق على الرق، فاشتراه السلطان الملك المنصور بجملة وأعتقه وقربه لديه، وكان شجاعا بطلا مقداما. وكانت وفاته بالقاهرة في يوم الجمعة مستهل صفر، ودفن. بمقابر بباب النصر، رحمه الله تعالي.

وفيها توفي الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد البرمكي أمير آل مرا، وكانت وفاته ببصري. وكانت غراته تنتهي إلى أقصي نجد والحجاز، وأكثرهم يؤدون إليه أتاوة في كل سنة، فمن قطعها منهم أغار عليه، وكان يدعي إنه من نسل جعفر البرمكي من العباسة أخت الرشيد، ويقول إنه تزوجها ورزق منها أولاداً، ولما جري على البرامكة ما جري هرب أولاده منها إلى البادية، فأخذهم جده، والله أعلم. وكان يقول للقاضي شمس الدين ابن خلكان " أنت ابن عمي " وكان بينهما مهاداة، وانتفع ابن خلكان به وباعتنائه عند السلطان.
وفيها في سابع عشري المحرم: كانت وفاة شمس الدين عيسي بن الصاحب برهان الخضري السنجاري، كان ينوب عن والده في الوزارة الأولى في سنة ثمان وسبعين وستمائة، وولي نظر الأحباس ونظر خانقاه سعيد السعداء، ثم ولي بعد ذلك تدريس المدرسة الصلاحية المعروفة بزين التجار، ثم قبض عليه مع والده بعد انفصاله من الوزارة الثانية كما تقدم. فلما أفرج عنه سكن المدرسة المعزية. بمصر، وكان بها إلى أن توفي، وكان حسن الصورة والشكل، رحمه الله تعالي.
وفيها في سادس شوال. توفيت زوجة السلطان الملك المنصور والدة ولده الملك الصالح علاء الدين على، رحمهما الله تعالي.
وفيها في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى: توفي الشيخ ظهير الدين جعفر بن يحيي بت جعفر القرشي التزمنتي الشافعي، مدرس المدرسة القطبية بالقاهرة، وأحد المعيدين. بمدرسة الشافعي. رحمه الله تعالي.
وفيها في يوم السبت ثاني عشري رجب: توفي الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار أغاي أحد الأمراء بالديار المصرية، وكانت وفاته بدمشق لما كان السلطان بها، ودفن بظاهرها عند قباب التركمان. بميدان الحصا، رحمه الله تعالى.
سنة ثلاث وثمانين وستمائةفي المحرم: توجه عسكر إلى الكرك، وعليه الأمير بدر الدين بكتاش الفخري والأمير طقصوا، فضايقوا الكرك ورعت خيولهم مزارعها.
وفي ثاني عشره: ولي الشيخ معز الدين النعمان الحنفي تدريس المدرسة الصالحية بين القصرين، بعد موت عز الدين المارديني.
واستقر سيف الدين في ولاية قوص، عوضاً عن بهاء الدين قراقوش.
واستقر مجد الدين عمر بن عيسي الحرامي في ولاية سميوط، عوضاً عن سيف الدين.
استقر عز الدين أيدمري الكوجي في ولاية أخميم، عوضاً عن بلبان الفارسي.
واستقر شهاب الدين قرطاي الجاكي في ولاية قليوب، عوضاً عن حسان الدين لؤلؤ الكهاري.
وفي ثاني عشريه: استقر الأمير شمس الدين إبراهيم بن خليل الطوري في ولاية الروحا والطرق السالكة إلى الفرنج وإلى عثليث وحيفا وعكا، عوضاً عن الأمير نور الدين، وأقطع إمرة عشرة.
وفي أول صفر: توجه الأمير سيف الدين المهراني إلى ولاية البهنسا والأشمونين، عوضاً عن كيكلدي وإلى البهنسا، وعن فخر الدين بن التركماني وإلى الأشمونين.
وورد الخبر بقتل القان ثكدار ويدعي أحمد أغا سلالان بن هولاكو، وتملك أرغون ابن أبغا بن هولاكو من بعده.
وفي أول ربيع الآخر: ورد الخبر بحركة الفرنج لأخذ الشام، فتجهز السلطان للسفر وركب بعساكره في يوم الأحد ثامن جمادى الأولى، وتوجه من قلعة الجبل إلى دمشق.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: حضر الموفق أحمد بن الرشيد أبي حليقة إلى الدهليز السلكاني، وأسلم وتسمي بأحمد.
فخلع السلطان عليه، ورسم له بمساواة أخويه في العلوم لما أسلما، وكتب له بذلك.
وفي رابع عشره: كتب بولاية الأمير عماد الدين أحمد بن قباخل البحيرة.
وفي يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة: دخل السلطان إلى دمشق، فقدم القصاد من بلاد التتار بقتل أحمد أغا وولاية أرغون.

وفي تلك الليلة: ألبس السلطان ألفاً وخمسمائة من مماليكة أقبيه أطلس أحمر بطرز وكلفتات زركش وحوائص ذهب، وأشعل بين يديه ألفا وخمسمائة شمعة مع كل مملوك شمعة. واستدعى عبد الرحمن الموصلي في السنة الماضية من بلاد التتار، فحضر ومعه رفقته الأمير صمداغو التتري والصاحب شمس الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين التبتي المعروف بابن الصاحب وزير ماردين. فقدموا للسلطان تحفاً منها نحو ستين حبل لؤلؤ كبارا، وحجر ياقوت أصفر زنته ما ينيف على مائتي مثقال، وحجر ياقوت أحمر، وقطعة بلخش زنتها اثنان وعشرون درهما، وأدوا رسالة الملك أحمد أغا، فلما فرغوا ردهم السلطان إلى مكانهم، ثم استدعاهم واستعادهم كلامهم، ثم ردهم إلى مكانهم، وأحضرهم مرة ثالثة وسألهم، عن أشياء، فلما علم ما عندهم أخبرهم أن مرسلهم الذي بعثهم قد قتل، وتملك بعده أرغون بن أبغا. ثم ردهم إلى قاعة بقلعة دمشق، ونقلهم من قاعة رضوان التي كانوا بها منذ وصلوا إلى دمشق، واقتصر من راتبهم على قدر الكفاية، وطولبوا. بما معهم من المال لأحمد أغا، فأنكروا أن يكون معهم مال فتوجه إليهم الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الأستادار، وقال: " قد رسم السلطان بانتقالكم إلى غير هذا المكان، فليجمع كل أحد قماشه " فقاموا يحملون أمتعتهم وخرجوا فأوقفهم في دهليز الدار وفتشهم، وأخذ منهم جملة كبيرة من الذهب واللؤلؤ ونحوه، منها سبحة لؤلؤ كانت للشيخ عبد الرحمن قومت. بمائة ألف درهم، واعتقلوا فمات عبد الرحمن في ثامن عشري رمضان بالسجن، وضيق على البقية ثم أطلقوا، ما خلا الأمير شمسي الدين محمد ابن الصاحب فإنه نقل إلى قلعة الجبل. بمصر واعتقل بها.
وفيه عزل الأمير علم الدين سنجر الدويداري من شد الدواوين بدمشق، وأضيف إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الأستادار بدمشق.
ونقل ناصر الدين الحراني من ولاية مدينة دمشق إلى نيابة حمص، وأضيفت ولاية دمشق إلى الأمير طوغان وإلى البر.
وفيه خرج السلطان من دمشق يريد مصر، بظاهر دمشق.
فلما كانت ساعات من يوم الأربعاء حادي عشري شعبان: حطم سيل بعد مطر عظيم، فحمل أثقال الأمراء والأجناد وخيولهم وجمالهم، فعدم للأمير بدر الدين بكتاص ما تزيد قيمته على أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم، وانتهي السيل إلى باب الفراديس، فكسر أقفاله وما خلفه من المتاريس. ودخل الماء إلى إلى المدرسة المقدمية، وبقي كذلك حتى ارتفع النهار.
ثم حدث بعد يومين: مطر شديد هدم عدة مساكن بدمشق وظواهرها، فتلف للناس ما لا يحصي، فأنعم السلطان على الأجناد كل واحد بأربعمائة درهم.
ورحل السلطان من دمشق في رابع عشريه، فوصل قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان. فقدم الخبر من مكة بأن الشريف أبا نمي طرد جند اليمن واستبد بها، وكان من خبره أن مكة كانت بينه وبين قتادة، وكان يؤخذ من حاج اليمن على كل جمل مبلغ ثلاثين درهما، ومن حاج مصر على الجمل مبلغ خمسين درهما مع كثرة النهب والعسف في جباية ما ذكر، فمازال الظاهر بيبرس حتى صار يؤخذ من حاج مصر مبلغ ثلاثين درهما على كل جمل. فجرد المظفر صاحب اليمن إلى مكة عسكرا عليه أسد الدين جغريل، فملكها بعد حرب، فجمع قتادة وأبو نمي العرب لحربه، موقع الاتفاق بينهما أن تكون مكة بينهم نصفين ثم اختلفا بعد مدة، وانفرد أبو نمي وقوي وأخرج عسكر اليمن، واشتد على الحجاج في الجباية. فرسم السلطان بسفر ثلاثمائة فارس صحبة الأمير علاء الدين سنجر الباشقردي، وأنفق في كل فارس ثلاثمائة درهم، وكتب بخروج مائتي فارس من الشام فتوجهوا صحبة الحاج. فكانت بينهم وبين أبي نمي وقعة، وأخربوا الدرب. وكان الحاج كثيرا، فإنها كانت وقفة الجمعة.
وورد الخبر بموت الملك المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين محمود ابن المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، وكانت وفاته في حادي عشر شوال، ففوضت حماة لولده الملك المظفر تقي الدين محمود، وجهز إليه الثقليد والتشريف صحبة الأمير جمال الدين أقش الموصي الحاجب، ومعه عدة تشاريف لجماعة من أهل بيته.
وفي ذي القعدة: قبض على الأمير علم الدين سنجر الحلبي، واعتقل بقلعة الجبل.

وورد الخبر بوفاة الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عضبة بن فضل بن ربيعة، وكانت وفاته في تاسع ربيع الأول، فاستقر في إمرة العرب ابنه حسام الدين مهنا بن عيسى.
وفي هذه السنة: نجزت عمارة المارستان الكبير المنصوري والمدرسة والقبة.
وفي النصف من ذي الحجة: توجه السلطان إلى دمشق.
وفي هذه السنة: سرح الملك الصالح على ومعه أخوه خليل إلى العباسة، ومعهما الأمير بيبرس الفارقاني وإليه يومئذ أمر رماة البندق، فأقاموا أياماً في الصيد، ومعهم جماعة كثيرة من الرماة. فصرع الصالح طيراً خطته الرماة، وصرع أخوه خليل بعده طيراً آخر. فبعث الفارقاني يبشر السلطان بذلك، ويستأذنه لمن يدعي في الرمي الملك الصاع، فرسم أن يدعي للمنصور صاحب حماة.
فسفر طير الصاع إلى حماة، ومعه هدية سنية وكتاب السلطان وكتاب ابنه الصالح. فخلع المنصور على البريدي القادم بذلك، ووضع الطير على رأسه، وبعث هدية فيها عشرة أنداب بندق ذهب كل ندب خمس بندقات، زنة كل بندقة عشرة دنانير، وعشرون ندب فضة زنة البندقة مائة درهم، وبدلة حرير غيار زركش فيها ألف دينار، وحياصة مكللة، وجراوة زركش فيها البندق المذكور، وعشرون قوسا، وعدة تحف بلغت قيمة ذلك ثلاثين ألف دينار.
وفيها كانت حرب بمكة سببها أن أبا نمي بلغه توجه العسكر، فلم يخرج إلى لقاء الحاج وبعث قواده فقط، فلم يرض الباشقردي إلا بحضوره واستعد للحرب، وقد وقف أبو نمي. بمن معه ليمنع من دخول مكة، وروموا بالحجارة فرماهم الترك بالنشاب، وأحرق الباب ودخل العسكر. فقام البرهان خضر السنجاري حتى أخمد الفتنة، وحملت خلعة أبي نمي إليه، وقضي الناس حجهم.
ومات في هذه السنة من الأعيانصاحب حماة الملك المنصور محمد ابن المظفر محمود بن المنصور محمد ابن المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، عن إحدى خمسين سنة.
ومات الأمير عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عضبة بن فضل بن البيعة، بعد عشرين سنة من إمارته.
ومات القان تكدار ويدعي أحمد سلطان بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، عن سبع وثلاثين سنة بالأردو، منها مدة ملكه سنة وأشهر.
وتوفي قاضي دمشق عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر بن الصائغ الأنصاري الشافعي، وهو معزول، عن خمس وخمسين سنة.
وتوفي قاضي حلب نجم الدين أبو حمص عمر بن العفيف أبي المظفر نصر بن منصور الأنصاري البيساني الشافعي وهو معزول، عن نيف وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي حماة شمس الدين أبو الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان ابن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، قريبا من المدينة النبوية، ودفن بالبقيع، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي قاضي الإسكندرية ناصر الدين أحمد بن وجيه الدين أبي المعالي محمد بن منصور بن أبي بكر بن القاسم بن المنير الجذامي الإسكندرية المالكي بها، عن ثلاث وستين سنة.
وتوفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان التلمساني بمصر، عن سبع وسبعين سنة.
وقتل الدعي أحمد بن مرزوق بن أبي عماد المسيلي الخياط، متملك تونس، وكان قد قدم من أطرابلس، وزعم أنه الواثق أبو زكريا يحيي بن المستنصر، وقتل إبراهيم بن يحيي، فمشي أمره على الناس مدة سنة وستة أشهر.
وبويع بعده الأمير أبو حفص عمر بن يحيي بن عبد الواحد في رابع عشري ربيع الآخر.
سنة أربع وثمانين وستمائةفي يوم السبت سادس عشر المحرم: ولد الملك الناصر محمد بن قلاوون، في الساعة السابعة بطالع برج السرطان، وكان مولده بقلعة الجبل، فقدمت البشارة بذلك على أبيه وهو بمنزلة خربة اللصوص قبل قدومه إلى دمشق.
وقدم السلطان دمشق في ثاني عشريه، ثم سار منها ونازل حصن المرقب وهو حصن الإسبتار ثمانية وثلاثين يوما، حتى أخذه من الفرنج عنوة يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، وأخرج من فيه إلى طرابلس.
وبعث السلطان إلى سنقر الأشقر بتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير، يلومه على مكاتبة التتار والاستنجاد بهم ويدعوه إلى الحضور، فوبخه تاج الدين ولامه حتى أناب ووعد بإرسال ولده.

وفي ثامن ربيع الآخر: استقر الشيخ المهذب أبو الحسن بن الموفق بن النجم بن المهذب أبي الحسن بن شمويل الطيب في رئاسة اليهود، وكتب له توقيع برئاسة سائر طوائف اليهود من الربانيين والقرائين والسامرة، بالقاهرة ومصر وسائر ديار مصر.
وفي سابع جمادى الأولى: قدم السلطان إلى دمشق، وفوض وزارة دمشق للقاضي محيي محمد بن النحاس ناظر الخزانة، عوضاً عن تقي الدين توبة التكريتي.
وفي خامس عشره: عزل طوغان عن ولاية دمشق، وبقي على ولاية البر، واستقر في ولاية دمشق عز الدين محمد بن أبي الهيجاء.
وسار السلطان من دمشق يوم الإثنين ثامن عشره، فوصل قلعة الجبل يوم الثلاثاء تاسع عشري شعبان، وكان قد أقام في تل العجول مدة أيام.
وفي سابع رمضان: قدمت رسل الفرنج بتقادم من عند الأنبرور، ومن عند الجنوية، ومن عند الأشكري.
وفي حادي عشره: استقر القاضي مهذب الدين محمد بن أبي الوحش المعروف بابن أبي حليقة في رئاسة الأطباء، ومعه أخواه علم الدين إبراهيم وموفق الدين أحمد، وكتب بذلك توقيع سلطاني، واستقر مهذب الدين في تدريس الطب بالمارستان.
وفي خامس عشره: استقر القاضي تقي الدين أبي الحسن على ابن القاضي شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم ابن الشيخ جلال الدين أبي محمد عبد الله بن شاس المالكي السعدي، في تدريس المدرسة المنصورية.
وفي أول ذي القعدة: وصلت رسل صاحب اليمن بتقادمه: وهي ثلاثة عشر طواشياً، وعشرة أفراس وفيل وكركدن وثماني نعاج، وثمانية طيور ببغاء، وثلاث قطع عود تحمل كل قطعة على رجلين، وحمل رماح قنا، وبهار حمل سبعين جملا، وقماش حمل على مائة قفص، ومن تحف اليمن مائة طبق. فقبل ذلك، وأنعم على رسله وعليه كالعادة.
وفي سادس ذي الحجة: احترقت الخزانة السلطانية والقاعة الصالحية من قلعة الجبل.
وفيه استقر الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر محمد الأيكي الفارسي في مشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد العداء، بعد وفاة الشيخ صاين الدين حسن البخاري.
وفيها استقر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن بهرام الشافعي في قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن مجد الدين إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي المارديني.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحي نائب حلب، وهو من جملة أمراء مصر بالقاهرة.
وتوفي رشيد الدين أبو محمد شعبان بن على بن سعيد البصراوي الحنفي، بدمشق عن نحو ستين سنة.
وتوفي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن على بن يوسف الشاطبي الأنصاري النحوي اللغوي الأديب المؤرخ، وقد أناف على الثمانين بالقاهرة.
وتوفي الحافظ علاء الدين أبو القاسم على بن بلبان الناصري عن اثنتين وسبعين سنة بدمشق، قدم القاهرة.
وتوفي الواعظ زين الدين أبو العباس أحمد بن الأشبيلي بالقاهرة.
وتوفي الأمير مجيد الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن تميم الدمشقي بحماة.
سنة خمس وثمانين وستمائةفي ثاني المحرم: سار الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بعسكر كثيف إلى الكرك، فتلقاه عسكر دمشق صحبة الأمير بدر الدين الصوابي، فتوجه معه إليها، وضايقها وقطع الميرة عنها حتى بعث الملك المسعود خضر ابن الظاهر بيبرس يطلب الأمان. فبعث إليه السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار من قلعة الجبل بالأمان فنزل الملك المسعود وأخوه بدر الدين سلامش إلى الأمير طرنطاي في خامس صفر. واستقر الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك في نيابة الكرك.
ووردت البشارة بأخذ الكرك إلى قلعة الجبل في ثامنه. وقدم الأمير طرنطاي بأولاد الظاهر إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأول.
وأكرم السلطان الملك المسعود وسلامش، وأمر كل منهما إمرة مائة فارس، وصارا يركبان في الموكب والميادين، ورتبا يركبان مع الملك الصالح علي.
وفيه قدم راجح وزير أبي نمي يشكو من الباشقردي، ويتعذر عن تأخر حضوره فقبل السلطان عذره وطلب منه خجرة وضربا للسلطان، ووعد بإرسال ثمنها إليه.

وفي يوم الخميس رابع عشر صفر: حصل وقت العصر بناحية الغسولة من معاملة مدينة حمص أمر غريب: وهو أن سحابة سوداء أرعدت رعداً شديداً، وخرج منها دخان أسود اتصل بالأرض على هيئة ثعبان في ثخن العمود الكبير الذي لا يحضنه إلا عدة من الرجال، رأسه في عنان السماء وذنبه يلعب في الأرض، شبه الزوبعة الهائلة. وصار يحمل الأحجار الكبار ويرفعها في السماء مثل رمية سهم وأزيد، فتقع على الأرض وتصدم بعضها بعضا، فيسمع لها أصوات مرعبة وتبلغ من هو عنها ببعيد.
واتصل ذلك بأطراف العسكر المجرد بحمص، وعليه الأمير بدر الدين بكتوت العلائي وهم زيادة على ألفي فارس، فما مر بشيء إلا رفعه في الهواء كرمية سهم وأكثر: فحمل السروج والجواشن وآلات الحرب وسائر الثياب، وحمل خرجا من أدم فيه تطاببق ندال للخيل من حديد حتى علا رمية سهم، ورفع الجمال بأحمالها حتى ارتفعت قدر رمح عن الأرض، وحمل كثيرا من الجند والغلمان، فتلف شيء كثير جدا.
ثم غاب الثعبان وقد توجه في البرية نحو المشرق، ووقع بعده مطر.
وفي سلخه: عزل محيي الدين محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن النحاس عن وزارة دمشق، وأعيد تقي الدين توبة.
وفي سابع رجب: توجه السلطان إلى الكرك، فوصلها وعرض حواصلها ورجالها وشحن بها ألفي غرارة قمح، وقرر بها بحرية ورتب أمورها، ونظف البركة، وجعل في نيابة الكرك الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، ونقل عز الدين أيبك إلى نيابة غزة، ثم نقله إلى نيابة صفد.
وانتهت زيادة ماء النيل في حادي عشري شعبان إلى سبعة عشر ذراعا وإصبعين.
وسار السلطان من الكرك وأقام في غاية أرسوف حتى وقع الشتاء وأمن حركة العدو، ثم عاد إلى مصر فوصل قلعة الجبل في رابع عشر شوال، فأفرج عن الأمير بدر الدين بكتوت الشمسي والأمير جمال الدين أقش الفارسي.
وفي يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى: استقر تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز قضاء مصر والوجه القبلي بعد وفاة وجيه الدين البهنسي. واستمر شهاب الدين محمد الخولي على قضاء القاهرة واستقر في قضاء القضاة المالكية زين الدين على ابن مخلوف ناظر الخزانة، عوضاً عن تفي الدين حسين بن عبد الرحيم بن شاس.
وفي ذي الحجة: استقر الأمير علم الدين أبو خرص الحموي نائباً بحماة. وفيها كانت وقعة بين الأمير بلبان الطباخي نائب حصن الأكراد وبين أهل حصن المرقب، بسبب أخذهم قافلة تجارة قتلة فيها عدة من مماليكه وجرح هو في كتفه، فكتب بمنازلة، فخرج إليه عاكز الشام، و لم تزل عليه حتى أخذته بعد حروب شديدة في يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، واستقر الطباخي نائباً به.
وفيها شنع موت الأبقار بأرض مصر، حتى إن شخصاً كان له ثلاثمائة وأربعين رأساً ماتوا بأجمعهم في نحو شهر، وارتفع سعر البقر بزيادة ثلث أثمانها.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي دمشق بهاء الدين أبو الفضل يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على ابن محمد بن على بن عبد العزيز بن الزكي الأموي الشافعي، عن ست وأربعين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة وجيه الدين أبو محمد عبد الوهاب بن سديد الدين أبي عبد الله الحسيني المهلبي البهنسي الشافعي، في مستهل جمادى الآخرة.
وتوفي جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الوائلي الشريشي المالكي بدمشق، عن أربع وثمانين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي ناصر الدين أبو محمد عبد الله ابن إمام الدين أبي حفص عمر بن على الشيرازي البيضاوي الشافعي قاضي شيراز، بمدينة تبريز.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين أبو على الحسين بن شوف الدين أبي الفصل عبد الرحيم بن عبد الله شاس السعدي المالكي، عن ثمانين سنة.
وتوفي المسند بدر الدين أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب بن حيدرة الشيباني الصالحي، عن ثمان وثمانين سنة بدمشق، قدم القاهرة.
وتوفي الأديب معين الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن أحمد القهري، عن ثمانين سنة بالقاهرة.
وتوفي الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد بن الخيمي الأنصاري، وقد أناف على الثمانين بالقاهرة.
وفيها مات ملك المغرب أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر حمامة المريني، في آخر المحرم. وقام من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف بن يعقوب. وكانت مدة ملكه ثمانيا وعشرين سنة.

سنة ست وثمانين وستمائة
في يوم الأحد نصف المحرم: استقر برهان الدين خضر السنجاري في قضاء القاهرة والوجه البحري، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن أحمد الخوبي.
ونقل الخوبي عن قضاة القاهرة إلى قضاة دمشق، عوضاً عن بهاء الدين يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على بن الزكي. فنزل قاضي القضاة برهان الدين السنجاري من القلعة، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز. فشق ذلك على ابن الأعز، وسعي أن يعفي من حضور دار العدل، فلم يشعر إلا وقد مات البرهان السنجاري في تاسع صفر فجأة عن سبعين سنة، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوما.
فاستقر ابن بنت الأعز في قضاء القاهرة، وجمع له بين قضاء البلدين، ونزل فصلي على السنجاري وهو بالشريف.
وفي هذه السنة: توجه الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة على عسكر كثير لقتال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بصهيون.
وسبب ذلك أن السلطان لما نازل المرقب وهي بالقرب من صهيون، لم يحضر إليه سنقر الأشقر وبعث إليه ابنه ناصر الدين صمغار، فأسرها السلطان في نفسه، و لم يمكن صمغار من العود إلى أبيه وحمله معه إلى مصر، واستمر الحال على ذلك حتى هذه السنة فسار طرنطاي ونازل صهيون حتى بعث الأشقر يطلب الأمان فأمنه، ونزل سنقر إليه ليسلم الحصن، فخرج طرنطاي إلى لقائه ماشيا، فنزل سنقر عندما رآه وتعانقا.
وسار سنقر إلى مخيم طرنطاي، وقد خلع طرنطاي قباءه وفرشه على الأرض ليمشي عليه سنقر، فرفع سنقر القباء عن الأرض وقبله ثم لبسه، فأعظم طرنطاي ذلك من فعل سنقر وشق عليه وخجل، وأخذ يعامل سنقر من الخدمة بأتم ما يكون.
وتسلم طرنطاي حصن صهيون، ورتب فيه نائبا وواليا وأقام به رجالا، بعد ما أنفق في تلك المدة أربعمائة ألف درهم في العسكر الذي معه، فعتب عليه السلطان بسبب ثم سار طرنطاي إلى مصر ومعه سنفر الأشقر حتى قرب من القاهر فنزل السلطان من قلعة الجبل، وهو وابنه الملك الصالح على، وابنه الملك الأشرف خليل، وأولاد الملك الظاهر، في جميع العساكر إلى لقاء سنقر الأشقر. وعاد به إلى القلعة، وبعث إليه الخلع والثياب والحوائص الذهب والتحف والخيول، وأنعم عليه بإمرة مائة فارس وقدمه على ألف، فلازم سنقر الخدمة مع الأمراء إلى سابع عشري شهر رجب.
وخرج السلطان من قلعة الجبل سائرا إلى الشام، فأقام بتل العجول ظاهر غزة.
وفي ثاني عشري شعبان: انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين إصبعا.
وفي هذه السنة: وصل من دمشق إلى القاهرة ناصر الدين محمد ابن الشيخ عبد الرحمن المقدسي، ليرافع قاضي القضاة بدمشق بهاء الدين بن الزكي، فوردت وفاته فعدل عنه إلى غيره.
واجتمع ناصر الدين بالأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدبر الدولة، وقرر معه أن ملكة خاتون ابنة الأشرف موسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب باعت أملاكها بدمشق، وأنه يثبت سفهها، وأن عمها الصالح عماد الدين إسماعيل كان قد حجر عليها وذلك حتى يسترجع الأملاك ممن اشتراها، ويرجع عليهم. بما أخذوه من ريعها، ثم يشتري الأملاك للخاص. فأعجب ذلك الشجاعي، وكتب يطلب سيف الدين أحمد السامري من دمشق، فإنه ابتاع قرية حرزما، فوصل إلى القاهرة في رمضان، وطولب بالقرية المذكورة فادعي أنه وقفها، فأخذ ابن الشيخ عبد الرحمن في عمل محضر بأن ابنة الأشرف حال بيع حرزما وغيرها كانت سفيهة من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا، ثم إنها صلحت واستحقت رفع الحجر عنها من مدة كذا، ولفق بينة شهدت عند بعض القضاة، وأثبت ذلك. فبطل البيع من أصله، وألزم السامري بما استأداه من ريع حرزما عن عشرين سنة، وهو مبلغ مائتي ألف وعشرة آلاف درهم من فضة، واعتد له بنظير الثمن الذي دفعه، واشتري منه أيضاً سبعة عشرة سهماً من قرية الزنبقية. بمبلغ تسعين ألف درهم، وحمل بعد ذلك مبلغ مائة ألف وأربعين ألف درهم إلى بيت المال.

واستقر ابن الشيخ عبد الرحمن وكيل السلطان، فشرع في فتح أبواب البلاء على أهل الشام، وعمل عيد الفطر يوم الأحد من رؤية. وإنما ثبت عند الملك الصالح على أن السلطان صام شهر رمضان في مدينة غزة يوم الجمعة على الرؤية، فأثبت القاضي المالكي أن أول شوال يوم الأحد، فأمسك كثير من الناس عن الفطر، وأفطروا يوم الإثنين. وأما السلطان فإنه عاد من تل العجول، ووصل قلعة الجبل في ثالث عشري شوال.
وفي سادس ذي الحجة: توجه الأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط متولي القاهرة، والأمير عز الدين الكوراني، إلى غزو بلاد النوبة. وجرد السلطان معهما طائفة من أجناد الولايات بالوجه القبلي والقراغلامية، وكتب إلى الأمير عز الدين أيدمر السيفي السلاح درا متولي قوص أن يسير معهما بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليم: وهم أولاد أبي بكر وأولاد عمر، وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبني هلال، وغيرهم. فسار الخياط في البر الغربي بنصف العسكر، وسار أيدمر بالنصف الثاني من البر الشرقي، وهو الجانب الذي فيه مدينة دمقلة.
فلما وصل العسكر أطراف بلاد النوبة أخلي ملك النوبة سمامون البلاد، وكان صاحب مكر ودهاء وعنده بأس. وأرسل سمامون إلى نائبة بجوائز ميكائيل وعمل الدو واسمه جريس ويعرف صاحب هذه الولاية عند النوبة بصاحب الجبل يأمره بإخلاء البلاد التي تحت يده أمام الجيش الزاحف، فكانوا يرحلون والعسكر وراءهم منزلة بمنزلة حتى وصلوا إلى ملك النوبة بدمقلة، مخرج سمامون وقاتل الأمير عز الدين أيدمر قتالاً شديداً، فانهزم ملك النوبة وقتل كثير ممن معه واستشهد عدة من المسلمين. فتبع العسكر ملك النوبة مسيرة خمسة عشر يوما من رواء دمقلة إلى أن أدركوا جريس وأسروه، وأسروا أيضاً ابن خالة الملك وكان من عظمائهم، فرتب الأمير عز الدين في مملكة النوبة ابن أخت الملك، وجعل جريس نائبا عنه، وجرد معهما عسكراً، وقرر عليهما قطعة يحملانها في كل سنة، ورجع بغنائم كثيرة ما بين رقيق وخيول وجمال وأبقار وأكسية.
وفي هذه السنة: أمطرت المدينة النبوية في ليلة الرابع من المحرم مطراً عظيما فوكفت سقوف المسجد النبوي والحجرة الشريفة، وخربت عدة دور وتلف نخل كثير من السيول ثم عقب ذلك جراد عظيم صار له دوي كالرعد، فأتلف التمر وجريد النخل وغيره من المزارع، وكانت الأعين قد أتلفها السيل، وخرب عين الأزرق حتى عادت ملحاً أجاجا، فكتب بذلك إلى السلطان، وأن الحجرة الشريفة عادتها أن تشمسي في زمن الخلفاء إذا ولي الخليفة، فلا تزال حتى يقوم خليفة آخر فيشمسوها، وأن المنير والروضة يبعث بكسوتها في كل سنة، وإنهما يحتاجان إلى كسوة.
وفيها جهز السلطان هدية سنية إلى بر بركة، ومبلغ ألفي دينار برسم عمارة جامع قرم، وأن تكتب عليه ألقاب السلطان، وجهز حجار لنقش ذلك وكتابتها بالأصباغ.
وفيها نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي بن جنكزخان عن مملكه التتر ببلاد الشمال. وأظهر التزهد والانقطاع إلى الصلحاء، وأشار أن يملكوا ابن أخيه تلابغا ابن منكوتمر بن طغان، فملكوه عوض تدان.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي القضاة برهان الدين أبو محمد الخضر بن الحسن بن علي السنجاري الشافعي، في تاسع صفر، عن سبعين سنة.
وتوفي قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن على بن محمد بن الحسن بن القسطلاني التوزري المالكي، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وقد أناف على السبعين.
وتوفي عز الدين أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم بن على بن نصر بن الصقلي الحراني المسند المعمر، وقد أناف على التسعين، بالقاهرة.
وتوفي الأديب ضياء الدين أبو الحسن على بن يوسف بن عفيف الأنصاري الغرناطي بالإسكندرية، وقد أناف على التسعين.
وتوفي أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي المالكي، بالإسكندرية.
وتوفي بدر الدين أبو الفضل محمد بن جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك الأنصاري الجياني النحوي بدمشق، وقد أناف على الأربعين.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الربيع سليمان بن بنيمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن سليمان الإربلي الحلبي الشاعر بدمشق، عن تسعين سنة.
وتوفي أبو الحسن فضل بن على بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي ببلبيس.

وتوفي الطيب عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس بن أحمد بن عبيد الربيعي الدنيسري بدمشق، عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ إبراهيم بن أبي المجد الدسوقي، بناحية دسوق من الغربية، ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة تخمينا، وقبره إحدى المزارات التي تحمل إليها النذور ويتبرك بها.
سنة سبع وثمانين وستمائةفي المحرم: استدعى ناصر الدين محمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن موسى أبو المكارم، المعروف بابن المقدسي، جماعة من أهل دمشق إلى القاهرة، فحضر عز الدين حمزة بن القلانسي، ونصير الدين بن سوند، وشمس الدين محمد بن يمن، والجمال بن صصرى، وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والصاحب تقي الدين توبة، وشمس الدين بن غانم، وغيره.
فألزم القلانسي بمائة وخمسين ألف درهم، وابن سويد بثلاثين ألف درهم، وابن يمن عن قيمة أملاك مائة ألف درهم وتسعين ألف درهم، وابن صصرى بثلاثمائة ألف درهم، وحسام الدين بثلاثة آلاف درهم، وابن غانم بخمسة آلاف درهم.
فاعتذروا إنهم قد حضروا على البريد، وأن أموالهم بدمشق، وسألوا أن يقرر عليهم ما يحملونه. فخافه الشجاعي إنهم إذا دخلوا دمشق تشفعوا فسومحوا بما عليهم، فطلب تجار الكارم بمصر وأمرهم أن يقرضوا الدماشقة مالا، ففعلوا ذلك.
وكتب على الدماشقة مساطير بما اقترضوه من تجار الكارم، وحملوا ما أخذوه إلى بيت المال، وأذن لهم في العود إلى دمشق، فلم يجدوا بدا من وفاء التجار.
ثم استقر ابن صصرى ناظر الدواوين بدمشق، فانتدب النجيب كاتب بكجري أحد مستوفيي الدولة لمرافعة الشجاعي، وبرز له بمرافقة القاضي تقي الدين نصر الله بن فخر الدين الجوجري، وأنهى إلى السلطان عنه أموراً وحاققه بحضرته السلطان.
ومما قاله إنه باع جملة من السلاح ما بين رماح ونحوها مما كان في الذخائر السلطانية للفرنج، فلم ينكر الشجاعي ذلك، وقال: بعته بالغبطة الوافرة والمصلحة الظاهرة، فالغبطة أنني بعتهم من الرماح والسلاح ما عتق وفسد وقل الانتفاع به، وأخذت منهم أضعاف ثمنه، والمصلحة أن تعلم الفرنج أنا نبيعهم السلاح هوانا بهم، واحتقاراً بأمرهم وعدم مبالاة بشأنهم. فمال السلطان لذلك وقبله.
فقال النحيب: يا مكثل الذي خفي عنك أعظم مما لمحت هذا الكلام أنت صورته بخاطرك لتعده جوابا، وأما الفرنج وسائر الأعداء فلا يحملون بيع السلاح لهم على ما زعمت أنت، ولكنهم يشيعون فيما بينهم، ويتناقله الأعداء إلى أمثالهم، بأن صاحب مصر والشام قد احتاج حتى باع سلاحه لأعدائه.
فلم يحتمل السلطان هذا، وغضب على الشجاعي وعزله في يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول، وأمر. بمصادرته على جملة كثيرة من الذهب، وألزمه ألا يبيع في ذلك شيئا من خيله ولا سلاحه ولا رخته، بل يحمل المطلوب ذهباً، وعصره بالمعاصير بين يديه حتى حمل ما طلب منه.
فبلغه الناس ما اعتمده الشجاعي من الظلم في مصادرة جماعة، وأن في سجنه كثيراً من المظلومين قد مرت عليهم سنون وهم في السجن، وباعوا موجودهم حتى أعطوه في التراسيم، وفيهم من استعلى وسال بالأوراق. فرسم السلطان للأمير بهاء الدين بغدي الدوداري بالكشف عن أمر المصادرين ومطالعته بحالهم، فخرج لذلك وسأل، فكثرت القالة. بما فيه أهل السجون من الفاقة والضرورة، ففوض أمرهم إلى الأمير طرنطاي، فكشف عنهم وأفرج عن سائرهم.
وفي ليلة الاثنين سادس عشره: وقع الحريق بخزائن السلاح والمشهد الحسيني بالقاهرة. فطفئ.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: استقر في الوزارة بديار مصر الأمير بدر الدين بيدرا، عوضاً عن سنجر الشجاعي، بعدما عرضت على قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز فامتنع، وشرط على الأمير بيدرا أنه يشاور ابن بنت الأعز، ويعتمد ما يشير به. وكان ابن بنت الأعز إذا دخل على السلطان، وهو يومئذ ناظر الخزانة، ويقول له: يا قاضي إيش حال ولدك بيدرا في وزارته،؟ فيقول: يا خوند ولد صالح دخلت بولايته الجنة، وأزلت الظلم، واستجلبت لك الدعاء، والذي كان يحصل بالعسف حصل باللطف.
وصار ابن بنت الأعز كل يوم أربعاء يدخل على بيدرا ويقرر معه ما يفعل، ثم استناب بيدرا ضياء الدين عبد الله النشائي وصار يجلس معه.

واستقر تقي الدين نصر الله في نظر الدواوين شريكا لثلاثة، وهم: تاج الدين بن السنهوري، وكمال الدين الحرابي، وفخر الدين بن الحلبي صاحب ديوان الصالح على، وخلع عليه.
وفي أول ربيع الآخر: استقر الجمال بن صصرى في نظر الدواوين بدمشق، وخلع عليه وسافر من القاهرة هو والقاضي تاج الدين بن النصيبني كاتب الدرج بحلب، بعدما أفرج عنه.
وفيه أيضاً استقر ركن الدين بيبرس أمير جاندار بدمشق، وسافر هو وشمس الدين، بن غانم، وقد سومح. بما كان قد قرر عليه.
واستقر تقي الدين توبة في نظر الدواوين بدمشق أيضاً. وتوجه ناصر الدين محمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي إلى دمشق، متحدثا في وكالة السلطان ونظر سائر الأوقاف الشامية، ونظر الجامع الأموي والمارستان النوري وبقية المارستانات، ونظر الأشراف والأيتام والأسري والصدقات والخوانك والربط والأسود وغير ذلك.
وسافر معه شمسي الدين القشتمري، وصارم الدين الأيدمري ليكونا مشدين.
فقدم دمشق وتتبع عوارت الناس، وتصدي لإثبات سفه من باع شيئاً من الأملاك كما فعل في أمر ابنة الأشرف، فلم يوافقه القضاة بدمشق ولا النائب، وشرع في مناكدة الناس.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، بعد ما أخذ منه خمسة وستون ألف دينار عينا، سوي ما أخذ السلطان وغيره من موجوده.
وعزل بيدرا عن الوزارة في تاسع عشره، واستدعى قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، وخلعت عليه خلع الوزارة ونزل. فتعفف عن التصرف والكتابة في أشياء، وباشر الوزارة مع قضاء القضاة ونظر الخزانة، وصار يجلس في اليوم الواحد تارة في دست الوزارة وتارة في مجلس الحكم وتارة في ديوان الحكم، و لم يوف منصب الوزاره حقه لتمسكه بظاهر الأمور الشرعية. ثم ثقلت عليه الوزارة فتوفر منها، وأعيد الأمير بدر الدين بيدرا إليها في وكان حينئذ أمير مجلس، ثم نقل إلى الأستادارية مع الوزارة، واستقر كذلك إلى آخر الدولة المنصورية.
وفيه كتب إلى الأكابر ببلاد السند والهند والصين واليمن صورة أمان لمن اختار الحضور إلى ديار مصر وبلاد الشام، من إنشاء فتح الدين بن عبد الظاهر، وسير مع التجار.
وفي أول جمادى الأولى: وردت كتب الأمير علم الدين سنجر المسروري الخياط من دمقلة، بفتحها والاستيلاء عليها وأسر ملوكها، وأخذ تيجانهم ونسائهم. وكان الكتاب على يد ركن الدين منكورس الفاقاني، فخلع عليه وكتب معه الجواب بإقامة الأمير عز الدين أيدمر وإلى قوص بدمقلة، ومعه من رسم لهم من المماليك والجند والرجال، وأن يحضر الأمير علم الدين ببقية العسكر. وجهز من قلعة الجبل سعد ابن أخت داود، ليكون مع الأمير أيدمر لخبرته بالبلاد وأهلها، فسار وقد أعطي سيفا محلى، فأقام بقوص.
وفيه استقر زين الدين، بن رشيق في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن زين الدين بن المنير.
وفي سابع عشره وهو خامس عشر بؤونة من أشهر القبط: أخذ قاع النيل بمقياس الروضة، فكان أربعة أذرع وستة وعشرين أصبعا. فيه فوضت حسبة دمشق لشرف الدين أحمد بن عيسى السيرحي.
وفي تاسع رجب: وصل الأمير علم الدين سنجر المسروري من بلاد النوبة، ببقية العسكر المخلف بدمقلة مع عز الدين أيدمر، ووصل معه ملوك النوبة ونساؤهم وتيجانهم وعدة أسري كثيرة، فكان يوما مشهودا.
وفرق السلطان الأسري على الأمراء وغيرهم، فتهاداهم الناس، وبيعوا بالثمن اليسير لكثرتهم.
وخلع على الأمير علم الدين وعمل مهمندارا عوضاً عن الأمير شرف الدين الجاكي، بحكم استقراره في ولاية الإسكندرية عوضاً عن حسام الدين بن شمس الدين ابن باخل، بحكم عزله والقبض عليه ومصادرته.
وأما النوبة فإنه عامون ملكها رجع بعد خروج العسكر إلى دمقلة، وحارب من بها وهزمهم، وفر منه الملك وجرتس والعسكر المجرد، وساروا إلى القاهرة، فغضب السلطان وأمر بتجهيز العسكر لغزو النوبة.
وفي يوم الأحد خامس عشره: خرج السلطان مبرزا بظاهر القاهرة يريد الشام، فركب معه ابنه الملك الصالح وحضر السماط، ثم عاد الصالح إلى قلعة الجبل آخر النهار، فتحرك عليه فؤاده في الليل وكثر إسهاله الدموي وأفرط، فعاد السلطان لعيادته في يوم الأربعاء ثامن عشره ولم يفد فيه العلاج، فعاد السلطان إلى الدهليز من يومه، فأتاه الخبر بشدة مرض الملك الصالح، فعاد إلى القلعة.

وصعدت الخزائن في يوم الثلاثاء أول شعبان، وطلعت السناجق والطلب في يوم الأربعاء ثانيه. فمات الصالح بكرة يوم الجمعة رابعه من دوسنطاريا كبدية، وتحدثت طائفة بأن أخاه الملك الأشرف خليلا سمه.
فحضر الناس للصلاة عليه، وصلي عليه بالقلعة قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز إماماً، والسلطان خلفه في بقيه الأمراء والملك الأشرف خليل. ثم حملت جنازته، وصلي عليه ثانيا قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي خارج القلعة، ودفن بتربة أمه قريباً من المشهد النفيسي.
وترك الصالح ابنا يقال له الأمير مظفر الدين موسى، من زوجته منكبك ابنة نوكاي. واشتد حزن السلطان عليه، وجلس للعزاء في يوم الأحد ثالث يوم وفاته بالإيوان الكبير. وأنشئت كتب العزاء إلى النواب بالمماليك، ورسم فيها ألا يقطع أحد شعرا ولا يلبس ثوب حداد ولا يغير زيه.
وفي مدة مرض الملك الصالح جاد السلطان بالمال وأكثر من الصدقات، واستدعى الفقراء والصالحين ليدعوا له، وبعث إلى الشيخ محمد المرجاني يدعوه فأبي أن يجتمع به، فحل إليه مع الطواشي مرشد خمسة آلاف درهم ليعمل بها وقتا للفقراء، حتى يطلبوا ولد السلطان من الله تعالي، فقال له: سلم على السلطان، وقل له متى رأيت فقيراً يطلب أحدا من الله؟ فإن فرغ أجله فالله ما ينفعه أحد، وإن كانت فيه بقية فهو يعيش. ورد المال فلم يقبل منه شيئا.
وطلع الشيخ عمر خليفة الشيخ أبي السعود إلى السلطان، وقد دعاه ليدعو للصالح، فقال له: أنت رجل بخيل ما يهون عليك شيء، ولو خرجت للفقراء عن شيء له صورة لعملوا وقتاً، وتوسلوا إلى الله أن يهبهم ولدك لكان يتعافى. فأعطاه السلطان خمسة آلاف درهم عمل بها سماعاً، ثم عاد إلى السلطان وقال: طيب خاطرك، الفقراء كلهم سألوا الله ولدك، وقد وهبه لهم. فلم يكن غير قليل حتى مات الصالح.
فرأي السلطان في صبيحته الشيخ عمر هذا، فقال له: يا شيخ عمر أنت قلت إن الفقراء طلبوا ولدي من الله ووهبه لهم، فقال على الفور: نعم الفقراء طلبوه، ووهبهم إياه ألا يدخل جهنم، ويدخله الجنة، فسكت السلطان.
وفي حادي عشر شعبان: فوض السلطان ولاية العهد لابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فركب بشعار السلطنة من قلعة الجبل إلى باب النصر، وعبر إلى القاهرة وخرج من باب زويلة، وصعد إلى القلعة وسائر الأمراء وغيرهم في خدمته، ودقت البشائر. وحلف القضاة له جميع العسكر، وخلع على سائر أهل الدولة، وخطب له بولاية العهد واستقر على قاعدة أخيه الصالح على، وكتب بذلك إلى سائر البلاد، وكتب له تقليد فتوقف السلطان من الكتابة عليه.
وفي ثاني شهر رمضان: استقر في حسبة دمشق شمس الدين محمد بن السلموس، عوضاً عن ابن السيرجي.
وفي رابع شوال: استقر بدر الدين محمد بن جماعة خطيباً بالقدس، عوضاً عن الشيخ قطب الدين عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم القرشي القدسي، بحكم وفاته، وكانت ذلك بعناية الأمير علم الدين سنجر الدواداري، لصحبة بينهما.
واستقر في تدريس القيمرية بدمشق عوضاً عن ابن جماعة علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز في سابع عشره.
وفي ذي الحجة: استقر علم الدين سنجر المسروري في ولاية البهنسا، وولي معه عز الدين مقدام نظرها، واستقر قاضي القضاة جمال الدين الزواوي في قضاء الملكية بدمشق.
وفي هذه السنة: ورد كتاب نائب الشام بأن الفرنج بطرابلس نقضوا الهدنة، وأخذوا جماعة من التجار وغيرهم، وصار بأيديهم عدة أسري. وكانوا لما ملك السلطان قلعة المرقب قد بعثوا إليه هدية، وصالحوه على ألا يتركوا عندهم أسيراً، و لا يتعرضوا لتاجر ولا يقطعوا الطريق على مسافر، فتجهز المسلطان لأخذ طرابلس.
وفيها قدم الشريف جماز بن شيحة من المدينة النبوية وملك مكة، فجاء الشريف أبو نمي في آخر السنة وملكها منه.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك الصالح على ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وقد أناف على الثلاثين، في رابع شعبان.
وتوفي تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري الشافعي، عن سبع وثمانين سنة بالقاهرة.
وتوفي المجد أبو المعالي محمد بن خالد بن حمدون الهذباني الحموي الزاهد المحدث، عن ثمانين سنة بحلب، قدم القاهرة.

وتوفي خطيب القدس قطب الدين أبو الذكاء عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم بن على بن جعفر القرشي الزهري، وقد أناف على الثمانين.
وتوفي البرهان أبو عبد الله محمد بن محمد النسفي الحنفي، ببغداد عن نحو تسعين سنة وتوفي أمين الدين أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشافعي المحدث، عن ثلاث وسبعين سنة بالمدينة النبوية.
وتوفي الأديب الشاعر ناصر الدين أبو محمد الحسن بن شاور بن طرخان بن النقيب الكناني وقد أناف على سبعين سنة، بالقاهرة.
وتوفي الحكم علاء الدين أبو الحسن على بن أبي الحزم ابن النفيس القرشي الدمشقي وليس الأطباء، عن نحو ثمانين سنة بالقاهرة.
سنة ثمان ثمانين وستمائةفي يوم الخميس عاشر المحرم: خيم السلطان بظاهر القاهرة، ورحل في خامس عشره. واستخلف ابنه الملك الأشرف خليلا بالقلعة، والأمير بيدرا نائباً عنه ووزيرا، وكتب عند الرحيل إلى سائر ممالك الشام بتجهيز العساكر لقتال طرابلس.
وسار إلى دمش فدخلها في ثالث عشر صفر، وخرج منها في العشرين منه إلى طرابلس فنانزلها، وقد قدم لنجدة أهلها أربعة شوان من جهة متملك قبرص.
فوالى السلطان الرمي بالمجانيق عليها والزحف والنقوب في الأسوار، حتى افتتحها عنوة في السلعة السابعة من يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، بعدما أقام عليها أربعة وثلاثين يوما، ونصب عليها تسعة عشر منجنيقاً، وعمل فيها ألف خمسمائة نفس من الحجارين والزرافين. وفر أهلها إلى جزيرة تجاه طرابلس فخاض الناس فرساناً ورجالاً وأسروهما وقتلوهم وغنموا ما معهم، وظفر الغلمان والأوشاقية بكثير منهم كانوا قد ركبوا البحر فألقاهم الريح بالساحل، وكثرت الأسري حتى صار إلى زردخاناه السلطان ألف ومائتا أسير.
واستشهد من المسلمين الأمير عز الدين معن، والأمير ركن الدين منكورس الفارقاني، وخمسة وخمسون من رجال الحلقة.
وأمر السلطان بمدينة طرابلس فهدمت، وكان عرض سورها يمر عليه ثلاثة فرسان بالخيل، ولأهلها سعادات جليلة منها أربعة آلاف نول قزازاة.
وأقر السلطان بلدة حبيل مع صاحبها على مال أخذه منه، وأخذ بيروت، وجبلة وما حولها من الحصون.
وعاد السلطان إلى دمشق في نصف جمادى الأولى، واستقر العسكر على عادته بحصن الأكراد مع نائبه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي.
ونزل البزك إلى طرابلس من حصن الأكراد وأضيف إلى الطباخي، واستقر معه خمسمائة جندي وعشرة أمراء طبلخاناه، وخمسة عشر أمراء عشرات، وأقطعوا إقطاعات. ثم عمر المسلمون مدينة بجوار النهر فصارت مدينة جليلة، وهي التي تعرف اليوم بطرابلس.
وقدم على السلطان وهو بطرابلس رسل سيس يسألون مزاحمة، فطلب منهم مرعش وبهنا والقيام بالقطيعة على العادة، وأعادهم وقد خلع عليهم.
وخرج الأمير طرنطاي نائب السلطنة إلى حلب. وأقام الأمير سنجر الشجاعي متحدثا في الأموال بدمشق، فأوقع الحوطة على تقي الدين توبة، وأخذ حواصله وباعها على الناس بأغلى الأثمان حتى جمع من ذلك خمسمائة ألف درهم، فخاف منه الناس وفر كثير. منهم وعاد طرنطاي في سابع رحب.
وورد على السلطان كتاب ولده الأشرف بأن سلامش وخضرا ابني السلطان الظاهر بيبرس قد راسلا الظاهرية، وأنه يخشى عاقبة ذلك. فكتب السلطان بأن يخرجا وأمهما إلى ثغر الإسكندرية، ويحملوا في البحر إلى بلاد الأشكري، فأخرجوا ليلا.
وكان في ذلك أعظم عبرة: فإن الظاهر بيبرس أخرج قاقان وعليا ابني المعز أيبك إلى بلاد الأشكري ومعهما أمهما، فعوقب. بمثل ذلك وأخرج ولداه وأمهما ليجزي الله كل نفس بما كسبت.
وخرج السلطان من دمشق في ثاني شعبان، ومعه تقي الدين توبة مقيدا، وقد نال أهل دمشق ضرر كبير.

فدخل السلطان قلعة الجبل في آخر شعبان، وجرد الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندرا إلى بلاد النوبة، ومعه من الأمراء قبجاق المنصوري وبكتمر الجوكندار وأيدمر وإلى قوص، وأطلاب كثير من الأمراء، وسائر أجناد المراكز بالوجه القبلي ونواب الولاة، ومن عربان الوجهين القبلي والبحري عدة أربعين ألف راجل، ومعهم متملك النوبة وجريس فساروا في ثامن شوال، وصحبتهم خمسمائة مركب ما بين حراريق ومراكب كبار وصغار تحمل الزاد والسلاح والأثقال. فلما وصلوا ثغر أسوان مات متملك النوبة، فدفن باسوان. فطالع الأمير عز الدين الأفرم السلطان بموته، فجهز إليه من أولاد أخت الملك داود رجلا كان بالقاهرة ليملكه، فأدرك العسكر على خيل البريد بأسوان وسار معه. وقد انقسموا نصفين: أحدهما الأمير عز الدين الأفرم وقبجاق في نصف العسكر من الترك والعرب في البر الغربي، وسار الأمير أيدمر وإلى قوص والأمير بكتمر بالبقية على البر الشرقي، وتقدمهم جريش نائب ملك النوبة ومعه أولاد الكنز ليؤمن أهل البلاد ويجهز الإقامات. فكان العسكر إذا قدم إلى بلد خرج إليه المشايخ والأعيان، وقبلوا الأرض وأخذوا الأمان وعادوا، وذلك من بلد الدو إلى جزائر ميكائيل، وهي ولاية جريس وأما ما عدا ذلك من البلاد التي لم يكن لجريس عليها ولاية، من جزائر ميكائيل إلى دمقلة، فإن أهلها جلوا عنها طاعة لمتملك النوبة. فنهبها العسكر وقتلوا من وجدوه بها، ورعوا الزروع وخربوا السواقي إلى أن وصلوا مدينة دمقلة، فوجدوا الملك قد أخلاها حتى لم يسبق بها سوي شيخ واحد عجوز، فأخبرا أن الملك نزل بجزيرة في بحر النيل بعدها عن دمقلة خمسة عشر يوماً. فتتبعه وإلى قوص، ولم يقدر مركب على سلوك النيل هناك لتوعر النيل بالأحجار. وقال في ذلك الأديب ناصر الدين بن النقيب، وكان ممن جرد إليها:
يا يوم دمقلة ويوم عبيدها ... من كل ناحية وكل مكان
من كل نوبي يقول لأخته ... نوحي قد سكوا قفا السودان
ومات في هذه السنة من الأعيانكاتب الإنشاء بحماة نجم الدين أبو محمد عبد الغفار بن محمد بن محمد بن نصر الله ابن المغيزل العبدي الحموي بها، عن أربع وستين سنة.
وتوفي العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن عباد الأصبهاني، عن اثنين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي الأديب شمس الدين محمد بن العفيف أبي الربيع سليمان بن على بن عبد الله ابن على بن ياسين العابدي التلمساني.
وتوفي علم الدين أبو العباس أحمد بن يوسف عبد الله بن على الشهير بابن الصاحب صفي الدين بن شكر، بعدما تغير عقله، وقد أناف على الستين.
سنة تسع وثمانين وستمائةفي المحرم: سار الأمير طرنطاي النائب إلى بلاد الصعيد ومعه عسكر كبير، فوصل إلى طوخ تجاه قوص، وقتل جماعة من العربان، وحرق كثيرا منهم بالنار، وأخذ خيولاً كثيرة وسلاحا ورهائن من أكابرهم. وعاد بمائة ألف رأس من الغنم وألف ومائتي فرس وألف جمل، وسلاح لا يقع عليه حصر.
وفيه توجه الأمير سيف الدين التقوي ومعه ستمائة فارس لينزل بطرابلس وهو أول جيش استخدم بطرابلس بعد فتحها، وكان العسكر قبل ذلك بالحصون.
وفي ربيع الأول استدعى الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق إلى القاهرة على البريد، فلما حضر أكرمه السلطان وأكد عليه في تحصيل الأموال، وأضاف إليه الحصون بسائر الممالك الشامية والساحل وديوان الجيش، وخلع عليه. فعاد إلى دمشق في العشرين من ربيع الآخر، وقد زاد تجبره وكثر تعاظمه.
وفي جمادى الأولى: قبض على الأمير سيف الدين حرمك الناصري لمطاوصة جرت بينه وبين الأمير طرنطاي النائب، أغلظ عليه فيها بحضرة الأمراء.
وفي أول جمادى الآخرة: استقر شرف الدين حسن بن أحمد بن أبي عمر بن قدامه المقدسي في قضاة الحنابلة بدمشق، بعد وفاة قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن عبد الرحمن القدسي الحنبلي، بأمر السلطان. وكتب توقيعه عن الأمير حسام الدين نائب الشام، في تاسع الشهر.
وفيه وصل وإلى قوص. ممن معه إلى تجاه الجزيرة التي بها عامون ملك النوبة، فرأوا

بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخول في الطاعة وأمنوه فلم يقبل. فأقام العسكر تجاهه ثلاثة أيام، فخاف من مجيء الحراريق والمراكب إليه، فانهزم إلى جهة الأبواب، وهي خارجة عن مملكته وبينها وبين الجزيرة التي كان فيها ثلاثة أيام. ففارقة السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقف والقسوس، ومعهم الصليب الفضة الذي كان يحمل على رأس الملك وتاج الملك، وسألوا الأمان فأمنهم وإلى قوص وخلع على أكابرهم، وعادوا إلى مدينة دمقلة وهم جمع كبير.
فعند وصولهم عدي الأمير عز الدين الأقرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكر مكانه. واجتمع الأمراء بدمقلة، ولبس العسكر آلة الحرب وطلبوا من الجانبين، وزينت الحراريق في البحر ولعب الزراقون بالنفلط. ومد الأمراء السماط في كنيسة أسوس أكبر كنائس دمقلة وأكلوا، ثم ملكوا الرجل الذي بعثه السلطان قلاوون وألبسوه التاج، وحلفوا وسائر الأكابر، وقرروا البقط المستقر أولا، وعينوا طائفة من العسكر تقيم عندهم وعليها بيبرس العزي مملوك الأمير عز الدين وإلى قوص. وعاد العسكر إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى بغنائم كثيرة. وأما سمامون فإنه عاد بعد رجوع العسكر إلى دمقلة مختفياً، وصار بطريق باب كل واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قبل له الأرض وحلف له، فما طلع الفجر حتى ركب معه سائر عسكره. وزحف عامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومن معه إلى قوص، وقبض على الذي تملك موضعه وعراه من ثيابه، وألبسه جلد ثور كما ذبح بعدما قده سيوراً ولفها عليه، ثم أقامه مع خشبة وتركه حتى مات، وقتل جريس أيضاً. وكتب عامون إلى السلطان يسأله العفو، وأنه يقوم بالبقط المقرر وزيادة، وبعث رقيقا وغيره تقدمة فقبل منه، وأقره السلطان بعد ذلك بالنوبة.
وفي ثاني عشري جمادى الآخرة: كتب بالكشف على ناصر الدين بن المقدسي وكيل السلطان بالشام، فظهرت له أفعال منكرة، وقبض عليه في تاسع رجب وضرب بالقارع وألزم بمال. ثم رسم بحمله إلى القاهرة، فوجد في يوم الجمعة ثالث شعبان وقد شنق نفسه فحضر أولياء والقضاء والشهود وشاهدوه على تلك الصورة، وكتبوا محضرا بذلك، ودفن واستراح الناس من شره.
وفي رابع رجب: استقر الأمير عز الدين أيبك الموصلي في تقدمة العسكر بغزة والساحل، عوضاً عن الأمير آقسنقر كرتيه.
وفي شعبان: خرج مرسوم السلطان ألا يستخدم أحد من أهل الذمة اليهود والنصارى في شيء من المباشرات الديوانية، فصرفوا عنها.
وفيه ثار أهل عكا بتجار المسلمين وقتلوهم، فغضب السلطان وكتب إلى البلاد الشامية بعمل مجانيق وتجهيز زردخاناة لحصار عكا. وذلك أن الظاهر بيبرس هادنهم، فحملوا إليه وإلى الملك المنصور هديتهم في كل سنة، ثم كثر طمعهم وفسادهم وقطعهم الطريق على التجار، فأخرج لهم السلطان الأمير شمس الدين سنقر المساح على عسكر، ونزلوا اللجون على العادة في كل سنة، فإذا بفرسان من الفرنج بعكا قد خرجت فحاربوهم، واستمرت الحرب بينهم وبين أهل عكا مدة أيام. وكتب إلى السلطان بذلك، فأخذ في الاستعداد لحربهم. فضرع الأمير شمس الدين سنقر الأعسر في عمل ذلك، وقرر على ضياع المرج وغوطة. دمشق مالاً على كل رجل ما بين ألفي درهم إلى خمسمائة درهم، وجبي أيضاً من ضياع بعلبك والبقاع. وسار إلى واد بين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشاب المجانيق، فسقط عليه ثلج عظيم كاد أن يهلكه، فركب وساق وترك أثقاله وخيامه لينجو بنفسه، فطمها الثلج تحته إلى زمن الصيف، فتلف أكثرها. وفي سادس شوال: أفرج عن الأمير الكبير علم الدين سنجر الحلبي، فكانت مدة اعتقاله خمس سنين وتسعة أشهر وأياما.

وفي آخر شوال: برز السلطان بظاهر القاهرة، ونزل. بمخيمه بمسجد تبر، يريد فتح عكا. فأصابه وعك في أول ليلة وأقام يومين بغير ركوب، ثم اشتد مرضه وصار الأشرف ينزل إليه كل يوم من القلعة ويقيم عنده إلى بعد العصر ويعود. فكثرت القالة وانتشرت حتى ورد الخبر بحركة العرب ببلاد الصعيد، فأخرج النائب طرنطاي قراقوش الظاهري والأمير أبا شامة لتدارك ذلك. واشتد مرض السلطان إلى أن مات بمخيمه تجاه مسجد تبر خارج القاهرة في ليلة السبت سادس ذي القعدة، فحمل إلى القلعة ليلا، وعادت الأمراء إلى بيوتها. وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما، وعمره نحو سبعين سنة. وترك ثلاثة أولاد ذكورا أشهر وأياماً: وهم الملك الأشرف خليل الذي ملك بعده، والملك الناصر محمد وملك أيضاً، والأمير أحمد وقد مات في سلطة أخيه الأشرف. وترك من البنات ابنتين: وهما ألتطمش وتعرف بدار مختار وأختها دار عنبر، وزوجة واحدة وهي أم الناصر محمد. وناب عنه بمصر الأمير عز الدين أيبك الأفرم ثم استعفي، فاستقر بعده حسام الدين طرنطاي حتى مات السلطان. وكان نائبة بدمشق بعد سنقر الأشقر الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار المعروف بالصغير، ونوابه بحلب الأمير جمال الدين أقش الشمسي، فلما مات جمال الدين استقر الأمير علم الدين سنجر الباشقردي، وصرف بالأمير قراسنقر الجوكندار. وناب عنه بحصن الأكراد بلبان الطباخي، وبصفد علاء الدين الكبكي، وبالكرك أيبك الموصلي ثم بيبرس الدودار. ووزر له الصاحب برهان الدين خضر السنجاري مرتين، وفخر الدين إبراهيم بن لقمان، ونجم الدين حمزة الأصفوني، وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، ثم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وكان يلي شد الدواوين. فإذا لم يكن في الدولة وزير تحدث في الوزارة، ثم استقل بالوزارة بعد الأصفواني، وكان جباراً عسوفاً مهيباً يجمع المال من غير وجهه، فكرهه كل أحد وتمنوا زوال دولة المنصور من أجله ثم الأمير بدر الدين بيدرا، ومات المنصور وبيدرا وزير. وبلغت عدة ممالكيه اثنا عشر ألف مملوك، وقيل سبعة آلاف وهو الصحيح. تأمر منهم كثير، وتسلطنت جماعة. وكان قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة من الآص والجركس، وجعلهم في أبراج القلعة وسماهم البرجية. وكان جميل الصورة مهيباً، عريض المنكبين قصير العنق، فصيحاً بلغة الترك والقبجاق، قليل المعرفة بالعربية.
السلطان صلاح الدين خليل ابن الملك المنصورالسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي جلس على تخت الملك بقلعة الجبل يوم الأحد سابع ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، وجدد العسكر له الحلف في يوم الاثنين ثامنه.
وطلب السلطان الملك الأشرف من القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده بولاية العهد، فأخرجه إليه مكتوبا بغير علامة الملك المنصور. وكان ابن عبد الظاهر قد قدمه إليه ليعلم عليه فلم يرض، وتكرر طلب الأشرف له، وابن عبد الظاهر يقدمه والمنصور يمتنع إلى أن قال له: يا فتح الدين أنا ما أولي خليلا على المسلمين فلما رأي الأشرف التقليد بغير علامة قال: يا فتح الدين إن السلطان امتنع أن يعطيني، وقد أعطاني الله، ورمي إليه التقليد، فما زال عند ابن عبد الظاهر.

ثم إن الأشرف خلع على سائر أرباب الدولة، وركب بشعار السلطنة في يوم الجمعة ثاني عشره بعد الصلاة، وسير إلى الميدان الأسود تحت القلعة بالقرب من سوق الخيل والأمراء والعساكر في خدمته. وعاد إلى القلعة قبل العصر مسرعا، فإنه بلغه أن الأمير حسام الدين طرنطاي يريد الفتك به إذا قرب من باب الإصطبل. فلما سير أربعة ميادين، وقد وقف طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية، وحاذي السلطان باب الإسطبل، وفي الظن إنه يعطف إلى نحو باب سارية ليكمل التيسير على العادة، حرك فرسه يريد القلعة وعبر من باب الإسطبل، فساق طرنطاي بمن معه سوقا حثيثا ليدركه ففاته. وبادر الأشرف بطلب طرناي، فمنعه الأمير زين الدين كتبغا أن يدخل إليه وحذره منه، فقال: والله لو كنت نائما ما جسر خليل ينبهني، وغره إعجابه بنفسه وكثرة أيام سلامته، ودخل ومعه الأمير زين الدين كتبغا. فعندما وصل إلى حضرة الأشرف قبض عليه وعلى كتبغا وسجنا، وقتل طرنطاي في يوم الإثنين خامس عشره وقيل يوم الخميس ثامن عشره بعد عقوبة شديدة، وترك بعد قتله في مجلسه ثمانية أيام، ثم أخرج ليلة الجمعة سادس عشريه في حصير على جنوية إلى القرافة، فغسل بزاوية أبي السعود وكفنه شيخنا صدقة عنه، ودفنه بظاهر الزاوية ليلا. فلما تسلطن كتبغا نقله إلى مدرسته بالقاهرة ودفنه بها، وهو إلى اليوم هناك.
وكان سبب قتله كراهة الأشرف له من أيام أبيه، فإن طرنطاي كان يطرح جانب الشرف، ويهين نوابه ومن ينسب إليه، ويرجح أخاه الملك الصالح عليه. و لم يتلاف ذلك بعد موت الصالح، بل جري على عادته في إهانة من ينسب إليه، وأغري الملك المنصور بشمس الدين السلعوس ناظر ديوان الملك الأشرف حتى ضربه وصرفه. ثم وشي به إلى الأشرف أنه يريد القبض عليه عند ركوبه إلى الميدان، ويقال إنه لما دخل عليه وجد لابساً عدة الحرب، وعندما قبض على طرنطاي نزل الشجاعي - وكان عدوه - إلى داره، وأوقع الحوطة على موجوده، فوجد له من الذهب العين ألف ألف وستمائة ألف دينار مصرية، ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل بالمصري، ومن العدد والقماش والخيول والمماليك والبغال والجمال والغلال، والآلات والأملاك والنحاس المكفت والمطعم والزردخاناه والسروج واللجم، وقماش الطشتخاناه والركاب خاناه والفراش خاناه، والحوائص والبضائع والمقارضات والودائع، والقنود والأعسال ما لا يحصر.
ولما حملت أموال طرنطاي إلى الأشرف قال: من عاش بعد عدوه يوما فقد بلغ المني، وبعد أيام من مقتل طرنطاي سئل ولده الحضور، فلما وقف بين يدي الأشرف إذا هو أعمي، فبكي ومد يده كهيئة السؤال وقال: شيء وذكر أن لأهله أياما ما عندهم ما يأكلون، فرق له السلطان، وأفرج عن أملاك طرنطاي، وقال: تبلغوا بريعها.
وفيه ولي شرف الدين الحسين بن قدامة في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد موت نجم الدين أحمد بن قدامة، وتحدث الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في النيابة بعد طرنطاي، من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له تقليد النيابة، ثم استقر في نيابة السلطنة الأمير بدر الدين بيدرا، وخلع عليه.
وفي تاسع عشر ذي القعدة: طلب الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بالشام، فحضر في ذي الحجة، فأمر الأشرف بضربه فعوقب مراراً. واستقر عوضه سيف الدين طوغان المنصوري، وأعيد تقي الدين توبة إلى وزارة الشام، فأوقع الحوطة على موجود سنقر الأعسر.
وفيه أحضر الأمير بدر الدين بكتوت العلائي من حمص إلى القاهرة، وتوجه الأمير حسام الدين سنقر الحسامي بتقليد الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام واستمراره على عادته، فوصل في ثامن عشره.
وفي هذه السنة: أكثر السلطان من تفرقة الأموال، وأبطل عدة حوادث، ومنها ما كان قد تجدد على الغلة ببلاد الشام، وسامح ما تأخر من البراقي بأرض مصر والشام.
ومات فيها من الأعيانقاضي الحنابلة بدمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، عن نحو أربعين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي الشافعية بحلب مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي عن أربع وستين سنة بدمشق.
وتوفي رشيد الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل ابن مسعود الفارقاني الشافعي، عن تسعين سنة، خارج دمشق مخنوقا.
وتوفي عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري الديريني الشافعي.

وتوفي فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن على بن محمد بن عبد الواحد بن القضاة، بدمشق عن ستين سنة.
وتوفي المحدث شمس الدين محمد بن عبد الرزاق بن أبي بكر بن المحدث الرسعني الحنبلي، غريقاً بنهر الأردن، وهو عائد من مصر لدمشق، عن ثمان وستين سنة.
وفيها كانت حرب بين أمير الركب الفارقاني وبين أهل مكة عند ورود الثنية، قتل فيه رجل من بني حسن، ثم قدم أبو خرص يبشر بسلطة الأشرف خليل، فكانت وقعة أخرى بعد الحج، فبادر الحجاج إلى الرحيل وخرجوا سالمين.
سنه تسعين وستمائةفي سادس المحرم: أفرج عن الملك العزيز فخر الدين عثمان بن المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد اعتقله الملك الظاهر بيبرس في رابع عشر ربيع الأول سنة تسع وستين، فأقام في الاعتقال عشرين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ورتب الأشرف له ما يقوم بحاله، ولزم داره واشتغل بالمطالعة والنسخ، وانقطع عن السعي إلا للجمعة أو الحمام أو ضرورة لا بد منها.
وفيه كتب الأشرف إلى شمس الدين محمد بن السلعوس وهو بالحجاز كتابا، وكتب بخطه بين الأسطر: يا شقير يا وجه الخير عجل السير فقد ملكنا، فلما أتاه الكتاب وهو عائد من الحج انضم الناس إليه، وتوددوا له وبالغوا في إكرامه، حتى وصل قلعة الجبل يوم عاشوراء.
وكان الأمير سنجر الشجاعي قد تحدث في الوزارة منذ تسلطن الأشرف، من غير أن يخلع عليه ولا كتب له تقليداً، فلما كان يوم الخميس ثاني عاشره استقر ابن السلعوس في الوزارة، وخلع عليه وفوض إليه سائر أمور الدولة، وجرد معه عدة من المماليك السلطانية يركبون في خدمته ويترجلون في ركابه، ويقفون بين يديه ويمتثلون أمره فتمكن تمكنا لم يتمكنه وزير قبله في الدولة التركية، وصار إذا أراد الركوب إلى القلعة اجتمع ببابه نظار الدولة ومشد الدواوين ووالي القاهرة ومصر، ومستوفو الدولة ونظار الجهات ومشدو المعاملات، ونحوهم من الأعيان، ثم يحضر قضاة القضاة الأربعة وأتباعهم فإذا تكامل الجميع ببابه دخل إليه حاجبه وقال: أعز الله مولانا الصاحب، قد تكمل الموكب، كان علامة تكملة الموكب ببابه حضور القضاة الأربعة، فيخرج حينئذ ويركب والناس سائرون بين يديه على طبقاتهم ومقربهم إليه قاضي القضاة الشافعي وقاضي القضاة المالكي، ومسيرهما معا بين يديه أمام فرسه، وقدام المذكورين قاضي القضاة الحنفي وقاضي القضاة الحنبلي، ثم نظار الدولة ثم المستوفون بالدولة ثم نظار الجهات على قدر مراتبهم، فلا يزالون حتى يستقر بمجلسه من قلعة الجبل فينصرف القضاة، ثم يعودون عشية النهار إلى القلعة، ويركبون معه إلى أن يصل داره.
واتفق ليلة إنه تأخر في القلعة إلى عشاء الآخرة وأغلق باب القلعة، فانقلب الموكب إلى جهة باب الإسطبل، ووقف القضاة على بغلاتهم بظاهر باب الإسطبل حتى خرج وساروا في خدمته إلى داره و لم يجسر أحد أن يتأخر قط عن الركوب في موكبه، وكان مع ذلك لا ينتصب قائماً لأحد، ولما عظم موكبه وصار الأكابر يزدحمون في طول الشارع بالقاهرة، ويضيق بهم لكثرة من معه، وتزدحم الغلمان أيضاً، تحول من القاهرة وسكن بالقرافة، وتعاظم في نفسه واستخف بالناس، وتعدي طور الوزراء، فكان أكابر الأمراء يدخلون إلى مجلسه فلا يستكمل قائماً لأحد منهم، ومنهم من لا يلتفت إليه، وإذا استدعى أميراً قال: فلان أمير جاندار، أو فلان الأستادار باسمه من غير نعته، ثم ترقي حتى استخف بنائب السلطنة الأمير بيدرا، وعارضه وتحدث فيما يتحدث فيه، فلم يقدر على إظهار الغضب لما يعلم من ميل السلطان إليه.

واتفق أنه قام يوما من مجلس الوزارة بالقلعة يريد الدخول إلى الخزانة، فصادف خروج الأمراء من الخدمة مع النائب بيدرا، فبادر الأمراء الأكابر إليه وخدموه وقبل بعضهم يده، وفسحوا بأجمعهم له وهموا بالمشي قدامه، فأشار إليهم أن ينصرفوا، فلما وطئ عتبة باب القلعة برجله وافي هناك الأمير بيدرا، وسلم كل منهما على الآخر وأومأ بالخدمة، إلا أن النائب بيدرا خدم الوزير أكثر مما خدمه الوزير، فرجع بيدرا معه و لم يكن يسامته في المشي، بل كان النائب يتقدم قليلا ويميل بوجهه إليه إذا حدثه الوزير، حتى انتهيا إلى باب الخزانة، فأمسك ابن السلعوس بيد بيدرا النائب، وأشار إليه بالرجوع، وقال: بسم الله يا أمير بدر الدين ولم يزده على ذلك.
وفي هذا الشهر: قدمت رسل عكا يسألون العفو، فلم يقبل منهم ما اعتذروا به، وقدم أمراء العربان من كل جهة: فقدم الأمير مهنا بن عيسي أمير آل فضل وسابق الدين عبية أمير بني عقبة، وقدما التقادم، فأنعم عليهم جميعاً: وأعيدوا، وقدم الملك المظفر صاحب حماة، فحمل إليه ما جرت به العادة، وكتب تقليده.
وفي يوم الجمعة سابع صفر: قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير جرمك الناصري، وعد على سنقر الأشقر إنه أفشي سر طرنطاي حتى قبض عليه، بعدما أحسن إليه طرنطاي غاية الإحسان، ومنع الملك المنصور من القبض عليه مرارا، فلم يرع له ذلك.
وفيه أفرج عن الأمير كتبغا وأعيد إلى إمرته، وأنعم عليه إنعاما زائداً.
وفي هذا الشهر: شرع السلطان في الاهتمام بفتح عكا، وبعث الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار إلى الشام لتجهيز أعواد المجانيق، فقدم دمشق في سلخه وجهزت أعواد المجانيق من دمشق، وبرزت في أول ربيع الأول وتكاملت في ثاني عشره، وسار بها الأمير علم الدين سنجر الدواداري أحد أمراء الشام، ثم فرقت على الأمراء مقدمي الألوف، فتوجه كل أمير ومضافيه بما أمر بنقله منها، وتوجه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام بالجيش من دمشق في العشرين منه، وخرج من القاهرة الأمير سيف الدين طغريل الأيغاني إلى استنفار الناس من الحصون بممالك الشام: فوصل المظفر صاحب حماة إلى دمشق في ثالث عشريه، بعسكره وبمجانيق وزردخاناه، ووصل الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب الفتوحات بعساكر الحصون وطرابلس، وبالمجانيق والزردخاناه في رابع عشريه، وسار جميع النواب بالعساكر إلى عكا.
وأما السلطان الملك الأشرف، فإنه لما عزم على التوجه إلى عكا، أمر فجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بالقبة المنصورية، بين القصرين من القاهرة عند قبر أبيه، في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر، فباتوا هناك وعمل مهم عظيم، وحضر الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية، وتصدق بجملة كبيرة من المال والكساوي، وفرق على القراء والفقراء مالاً كثيراً، وفرق في أهل المدارس والزوايا والخوانك والربط مالاً وثيابا، وعاد إلى القلعة.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول: توجه السلطان بالعساكر يريد أخذ عكا، وسير حريمه إلى دمشق فوصلوا إليها في سابع ربيع الآخر، وسار السلطان فنزل عكا في يوم الخميس ثالث ربيع الآخر، ووصلت المجانيق يوم ثاني وصوله وعدتها اثنان وتسعون منجنيقاً، فتكامل نصبها في أربعة أيام، وأقيمت الستائر ووقع الحصار، وقد أتت جمائع الفرنج إلى عكا أرسالاً من البحر، صار بها عالم كبير، فاستمر الحصار إلى سادس عشر جمادى الأولى، وكثرت النقوب بأسوار عكا، فلما كان يوم الجمعة سابع عشره عزم السلطان على الزحف، فرتب كوساته على ثلاثمائة جمل، وأمر أن تضرب كلها دفعة واحدة، وركب السلطان وضربت فهال ذلك أهل عكا، وزحف بعساكره ومن اجتمع معه قبل شروق الشمس، فلم ترتفع الشمس حتى علت الصناجق الإسلامية على أسوار عكا، وهرب الفرنج في البحر وهلك منهم خلق كثير في الازدحام، والمسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون فقتلوا ما لا يحصي عده كثرة، وأخذوا من النساء والصبيان ما يتجاوز الوصف، وكان عند فتحها أن أقبل من الفرنج نحو عشرة آلاف في هيئة مستأمنين، ففرقهم السلطان على الأمراء فقتلوهم عن آخرهم.

وكانت مدة حصار عكا أربعة وأربعين يوما، واستشهد من المسلمين الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ودفن بجلجولية، وعز الدين أيبك العزي نقيب العساكر، وسيف الدين أقمش الغتمي، وبدر الدين بيليك المسعودي، وشرف الدين قيران السكزي، وأربعة من مقدمي الحلقة وجماعة من العسكر.
وفي يوم السبت ثامن عشره: وقع الهدم في مدينة عكا، فهدمت الأسوار والكنائس وغيرها وحرقت، وحمل كثير من الأسري بها إلى الحصون الإسلامية.
وفتحت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغير قتال، وفر أهلها خوفا على أنفسهم، فتسلمها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في بقيه جمادى الأولى، فقدمت البشائر بتسليم مدينة صور في تاسع عشره، وبتسليم صيدا في العشرين منه، وأن طائفة من الفرنج عصوا في برج منها، فأمر السلطان بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا، فتوجه الأمير شمس الدين نبا الجمقدار ابن الجمقدار في حادي عشريه لهدم صور، واتفق أمر عجيب. وهو أن الفرنج لما قدموا إلى صور كان بها عز الدين نبا واليا عليها من قبل المصريين، فباع صور للفرنج بمال، وصار إلى دمشق، فقدر الله خرابها على يد الأمير شمس الدين نبا بن الجمقدار واتفق أيضاً أن الشيخ شرف الدين، البوصيري رأي في منامه قبل أن يخرج الأشرف إلى عكا قائلا ينشده:
قد أخذ المسلمون عكا ... وأشبعوا الكافرين صكا
وساق سلطاننا إليهم ... خيلا تدك الجبال دكا
وأقسم الترك منذ سارت ... لا تركوا للفرنج ملكا
فأخبر بذلك جماعة، ثم سار الأشرف بعد ذلك وفتح عكا وخربها، لم يدع في بقية الساحل أحداً من الفرنج، وقال محيي الدين بن عبد الظاهر في ذلك:
يا بني الأصفر قد حل بكم ... نقمة الله التي لا تنفصل
قد نزل الأشرف في ساحلكم ... فأبشروا منه بصفع متصل
وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا الفتح، وقال الشهاب محمود الحلبي كاتب الإنشاء لما عاين في جوانب عكا، وقد تساقطت أركانها:
مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار في وسطها واري
وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد للنار
وقال ابن ضامن الضبع بعكا:
أدمي الكنائس إن تكن عبثت بكم ... شم الأنوف جحاجح أبطال
فلطالما سجدت لكن فوارض ... الليالي أو تغير حال
فعزاء عن هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال
هذا بذاك ولا نعير دهرنا ... ولكل دهر دولة ورجال
وفي هذه المدة وشي الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص إلى السلطان بالأمير حسام الدين لاجين نائب الشام، ثم أوهم لاجين بأن السلطان يريد القبض عليه، فركب لاجين من الوطاق بعكا ليلا يريد الفرار، فساق خلفه الأمير علم الدين سنجر الدواداري وأدركه، وقال له: بالله لا تكن السبب في هلاك المسلمين، فإن الناس قد أشرفوا على أخذ عكا، وإن بلغ الفرنج فرارك، وأن العسكر قد ركب خلفك قويت نفوسهم وفتر الحصار فرجع معه وظن أن الأمر لا يبلغ السلطان، وكان ذلك في ثامن جمادى الأولى، فلما كان في صبيحة هذه الليلة خلع السلطان عليه وطيب خاطره، ثم قبض عليه في ثاني يوم الخلعة، وبعثه إلى قلعة صفد ثم حمل إلى قلعة الجبل بمصر.
ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر جمادى الآخرة، وقد زينت دمشق منذ فتحت عكا فكان يوما عظيما.

وفيه استقر الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في نيابة دمشق، وزاد السلطان في إقطاعه وراتبه عما كان لنواب الشام، وأذن له أن يطلق من الخزائن ما أراد من غير مشاورة، وجعل له في كل يوم ثلاثمائة درهم على دار الطعم، واستقر أيضاً الأمير جمال الدين أقش الأشرفي في نيابة الكرك، عوضاً عن ركن الدين بيبرس، ونقل بيبرس إلى إمرة بمصر، وقبض أيضاً على الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب قلعة دمشق، وضرب بحضرة السلطان ضرباً كثيراً، وألبس عباءة واستعمل مع الأسري في العمل، وأخرق به وأهين إلى الغاية، ووقعت الحوطة على موجوده، ثم حبس بالقلعة، ثم حمل على البريد إلى مصر، ثم رد من أثناء الطريق بشفاعة بعض الأمراء وأفرج عنه، ثم أعيد لنيابة القلعة، وسبب هذا أن الأمير شرف الدين بن الخطير كان يمزح بحضرة السلطان مع الأمراء، ويومئ إليه السلطان بذلك فيحتمل منه ما يتكلم به، وكان أرجواش على النمط الأول من البعد عن المجون، فقال له ابن الخطير وهو واقف بين يدي الأشرف: يا مولانا السلطان كان عند والدك الملوك ببلاد الروم حمار أشهب أعور، أشبه شيء بهذا الأمير علم الدين أرجواش فضحك الأشرف، وغضب أرجواش وقال: هذه صبيانية فحنق منه الأشرف وعمل ما ذكر.
وفي ثامن عشره: عزل طوغان عن شد الدواوين بدمشق، وعيد إلى ولاية البر، واستقر سنقر الأعسر في شد الدواوين بدمشق.
وفي ثاني رجب: عزل تقي الدين توبة عن وزارة دمشق، واستقر فيها محيي الدين ابن النحاس، ومنع أن يقال له وزير ولكن ناظر الشام.
وفي ثامن عشره: استقر شرف الدين أحمد بن عيسي بن السيرجي في حسبة دمشق، وعزل تاج الدين بن الشيرازي.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: سار السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل إلى القاهرة من باب النصر في بكرة يوم الإثنين تاسع شعبان، وخرج من باب زويلة إلى القلعة وقد زينت قبل وصوله بأيام، فكانت زينة لم يسمع بمثلها، وكثر سرور الناس ولعبهم.
وكان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام قد سار في رابع رجب إلى صيدا، وحاصر البرج حتى فتحه في خامس عشره، وعاد إلى دمشق يوم رحيل السلطان منها، ثم توجه إلى بيروت، فتلقاه أهلها طائعين فنزل بقلعتها، وقبض على الرجال وقيدهم وألقاهم في الخندق، وافتتحها في ثالث عشري رجب، وعاد إلى دمشق في سابع عشري رمضان، و لم يبق في جميع الساحل من الفرنج أحد.
وفي شعبان: أوقف الملك الأشرف على القبة المنصورية بين القصرين من قري عكا الكابرة وتل الميشوح وكردانة، ومن ساحل صور معركة وصريفين، وأوقف أيضاً على المدرسة الأشرفية بجوار السيدة نفيسة قرية الفرح من عكا، وقرية شعر عمر وقرية الحمراء منها، ومن ساحل صور قرية طبرية.
وفي ثامن عشره: أفرج السلطان عن الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي، وكان السلطان الملك المنصور قلاوون قد اعتقله في أوائل دولته كما تقدم ذكره، فأفرج الأشرف عنه، وكتب إفراجه وجعل في كيس حرير أصفر، وختم عليه بخاتم السلطان، وتوجه به إلى الجب الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير زين الدين كتبغا وعدة من الأمراء، وأخرجوه وقرءوا عليه الإفراج، وأحضروا تشريفة وهموا بكسر قيده، فقال: لا يفك القيد من رجلي، ولا ألبس التشريف، إلا بعد أن أتمثل بين يدي السلطان وصمم على ذلك فأعلم السلطان به، فأمر بإحضاره بعد فك قيده وهو بملبوسه الذي عليه في الجب، فكسر حينئذ قيده ومشي إلى السلطان، فلما عاينه قام إليه وأكرمه وألبسه التشريف وأجلسه بجانبه، وأنعم عليه بالأموال وأنواع الثياب، وأعطاه في مجلسه إمرة مائة فارس، وعين له إقطاعا وافرا: منه منية بني خصيب دربستا بجواليها ومواريثها الحشرية ونزل إلى داره، فصار ينتسب إلى الملك الأشرف ويكتب بيسري الأشرفي، بعدما كان يكتب الشمسي.
وفي رابع رمضان: أفرج عن الأمير الدين شمس سنقر الأشقر، والأمير حسام الدين لاجين الصغير نائب الشام، والأمير ركن الدين بيبرس طقصوا، والأمير شمس الدين سنقر الطويل، وأمروا على عادتهم، وقبض على الأمير علم الدين سنجر الدواداري بدمشق، وحمل إلى قلعة الجبل مقيدا، فوصل في سابع عشره.
وفي هذا الشهر: عزم السلطان على صرف قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز عن وظيفة القضاء وسائر ما بيده من المناصب، بكثرة حط الوزير ابن السلعوس عليه.

وخرج البريد في يوم تاسع رمضان بطلب بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة خطيب القدس، ليلي القضاء بمصر وكان السبب في طلبه أن ابن بنت الأعز لما عزل استدعى السلطان أعيان الفقهاء الشافعية بمصر والقاهرة، وجعل كل واحد في مكان فلم يعلم واحد منهم بالبقية، وأحضرهم واحدا واحدا وسأله عن الجماعة من يصلح فيهم لولاية القضاء، فما منهم إلا من أساء القول في أصحابه ورماه بما لا يليق فانصرفوا وقد انكف السلطان عن ولايتهم، وأعلم وزيره ابن السلعوس بما قال بعضهم في حق بعض من الفحش، فأشار السلعوس عليه بولاية ابن جماعة خطيب القدس لصحبة تقدمت له معه، فوصل إلى القاهرة في يوم الإثنين رابع عشره، وأفطر عند الوزير وبالغ الوزير في خدمته، وسار في موكبه يوم الخميس سابع عشره إلى القلعة ودخل به على السلطان، فعزل ابن بنت الأعز، وولي ابن جماعة قضاء القضاة، وفوض إليه تدريس المدرسة الصالحية بين القصرين وخطابة الجامع الأزهر، فكتم ابن جماعة الولاية وأفطر ليلة الجمعة عند الوزير، فصار يخاطبه بقاضي القضاة، وأعلن بعزل ابن بنت الأعز فهنأ الناس ابن جماعة، وعندما خرج ابن جماعة من دار الوزير وصل إليه التقليد مع ابن عز الدين الحنبلي بالخلعة فلما أصبح يوم الجمعة ثامن، عشره لبس الخلعة، ومشي الشهود في خدمته فركب بالخلعة إلى دار الوزير وخدمه ثم سار إلى منزله وركب إلى الجامع الأزهر بالخلعة، فخطب وصلي بالناس وعاد إلى منزله، ثم تحول إلى الصالحية يوم الجمعة خامس عشريه، ودرس بالصالحية في يوم الأحد ثاني عشري شوال وكان درساً حفلا ويوماً مشهوداً.
وأما ابن الأعز فإن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي دخل به إلى السلطان وقرر معه أن يوليه قضاء الشام، فلما شعر بذلك ابن السلعوس خشي أن يبقي له حاله فيتمكن بها في الدولة فرتب له عدة من الناس ليثوروا به. فلما جلس السلطان بدار العدل رسم لابن سعلوس أن يجهز ابن بنت الأعز قاضياً في دمشق، ويعني بتشريفه ويكتب تقليده فما انفصل مجلس دار العدل حتى أحضر الشريف ابن ثعلب وادعي على ابن بنت الأعز بما قرره معه الوزير ابن السلعوس قبل ذلك، وكان قد جهز آخر إلى أن يفتي بتعزيزه وآخر ليشهد بفسقه. فانتدب السلطان لمرافعته جماعة، ورموه بعظائم بغياً منهم وعدواناً من تحت ثيابه، وأنه نصراني وما زال، حتى رسم السلطان أن يركب حماراً ويشهر. فقبض عليه الوزير ونكل به ورسم عليه وطالبه بمال كثير وشنع في إهانته وأراد ضربه فحماه الله منه.
ومازال ابن بنت الأعز في الإهانة إلى أن أخذ يوماً بالترسيم إلى القلعة وهو ماش والأعوان تحتاطه، فرأي ثلاثة من خواص الأمراء نازلين من القلعة، فقال لهم: يا أمراء أما تنظرون في حالي وما أنا فيه من الإهانة مع هؤلاء الرسل؟ فساءهم ذلك وجردوا دبابيسهم وحطموا يريدون ضرب الرسل، وقالوا: قاضي القضاة ماش، وأنتم ركاب؟ فقالوا: الصاحب أمرنا بهذا، ما لنا ذنب ولا نريد هذا الفعل فشق عليهم ما رأوا وعادوا إلى السلطان، وألقوا سيوفهم وقالوا: يا خوند قد بلغ الأمر من حال قاضي القضاة أن يمشي والرسل ركاب وذكروا ما هو فيه من الإهانة، فقال لهم السلطان: يستأهل أكثر من هذا، لأنهم قالوا عنه إنه كافر يشهد الزنار من تحت ثيابه. فقالوا: يا خوند إن كان قاضي القضاة كافراً فابن السلعوس مسلم، إما تهبه لنا، وإما تمكنا من ابن السلعوس، وإما أن تنفينا.
وكان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح له عناية به أيضاً، فتحدث مع الأمير بيدرا النائب، وكان بيدرا بينه وبين ابن بنت الأعز شحناء، فقال بيدرا لبكتاش: تحدث مع السلطان في أمر سنجر الحموي أبي خرص أن يطلقه، وأنا أشفع في ابن بنت الأعز! فاتفقا على ذلك، وشفع بيدرا في ابن بنت الأعز، وشفع بكتاش في أبي خرص، فأفرج السلطان عنهما معا.

ولزم ابن بنت الأعز في داره، و لم يترك بيده شيء من الوظائف، وكان بيده سبعة عشر منصبا وهي قضاء القضاة بديار مصر كلها وخطابة الجامع الأزهر، ونظر الخزانة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر التركة الظاهرية بيبرس وأولاده وأوقافه وأملاكه، وعدة تداريس، وكان عندما عزل قد رسم عليه في شوال، وألزم بالإقامة في زواية الشيخ نصر المنبجي خارج القاهرة حتى قام بما قرر عليه من المال، بعدما باع ورهن واقترض، ثم انتقل إلى القرافة إلى أن تحدث له الأمير بدر الدين بيدرا في تدريس المدرسة الناصرية بجوار ضريح الإمام الشافعي، فوليه وتحول إلى المدرسة المذكورة، فكان هذا سببا لمحنته الثانية، ويقال إنه حمل من جهته مبلغ ثمانية وثلاثين ألفا.
وفي خامس عشري رمضان: أفرج السلطان عن الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن الأمير أبي على الفتي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله العباسي، ورسم له أن يخطب في يوم الجمعة، فخطب يوم الجمعة رابع عشر شوال، فخرج بسواده وهو متقلد سيفا محلي، وخطب بجامع القلعة وذكر الخطبة التي خطب بها في أيام الملك الظاهر بيبرس وهي من إنشاء شرف الدين وإلا إنه ذكر فيها الملك الأشرف، وكان بين الخطتين مدة ثلاثين سنة وتسعة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، فلما فرغ من الخطبة لم يصل بالناس، وقدم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فصلي بهم صلاة الجمعة، واستمر الخليفة يخطب بجامع القلعة، واستناب عنه بالجامع الأزهر صدر الدين عبد البر بن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن رزين.
وفي تاسع شوال: قبض على الأمير سيف الدين قرا رسلان المنصوري والأمير جمال الدين أقوش الأفرم بدمشق، واعتقلا بقلعتها، وأقطع عز الدين أزدمر العلائي إقطاع قرا رسلان، وسنقر المساح إقطاع الأفرم.
وفي ليلة الاثنين رابع ذي القعدة: عمل ختم بالقبة المنصورية، حضره الأمير بيدرا النائب والوزير شمس الدين بن السلعوس، ونزل إليه السلطان والخليفة بكرة يوم الإثنين، فخطب وعليه سواده خطبة بليغة حرض فيها على أخذ العراق، وكان يوماً مشهوداً، فرقت فيه صدقات وكتب إلى نائب الشام بعمل ختم، فاجتمع الناس في ليلة الثلاثاء حادي عشره بالميدان الأخضر خارج دمشق وختموا القرآن، وحضر الوعاظ والأعيان.
وفي هذا الشهر: قبض بدمشق على الشيخ سيف الدين الرجيجي وهو من أولاد الشيخ يونس، وحمل إلى قلعة الجبل على البريد.
وفي هذه السنة: كملت عمارة قلعة حلب، وكتب عليها اسم الملك الأشرف.
وفيها أخرج بولدي الملك الظاهر بيبرس، وهما المسعود نجم الدين خضر والعادل بدر الدين سلامش من الاعتقال، ونفيا إلى ملك الفرنج فسار بهما - ومعهما والدتهما - الأمير عز الدين أيبك الموصلي الأستادار إلى الإسكندرية، وحملهم في البحر إلى القسطنطينية، فلما وصلوا أكرمهم الأشكري متملكها وأجري عليهم ما يقوم بهم، وكانت حرمهم معهم.
وفيها كملت عمارة قلعة حلب، وكان الأمير قرا سنقر نائب حلب قد شرع في عمارة حلب، فأحكم بنيانها وأدار سورها وأقام شعائر جامعها، وكان لها منذ خربها هولاكو ثلاث وثلاثين سنة خراباه ووقع الشروع في عمارة دمشق من شوال، فبنيت بها الأدر السلطانية والطارمة والقبة الزرقاء، وتوفي ذلك الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وبالغ في تحسينها، فكانت جملة ما عمل في سقوفها أربعة آلاف مثقال ذهب.
وفيها لم يحج الشريف أبو نمي خوفاً من المصريين.
وفي شهر ربيع الأول منها: مات ملك الططر بفارس، وهو أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وترك أرغون ولدين وهما قازان وخربندا، وكانا بخراسان فأفحش كيختو في الفسق بنسوان المغل واللواط بولدانهم، حتى أبغضته رعيته وفيها مات قتيلا تلابغا بن منكوتمر بن طوغان، قتله نغيه بن معل بن ططر بن دوشي خان بن جنكزخان. وقام بعده في الملك طقطغا بن منكوتمر بن طوخان، وهو ابن عم تلابغا، فرتب نغيه إخوة طقطغا معه، وهم بزلك وصراي بغا وتدان.
ومات في هذه السنة من الأعيانالسلطان الملك العادل سلامش بن الظاهر بيبرس، ببلد اسطنبول عن اثنتين وعشرين سنة ومات القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، ملك التتار بفارس في ربيع الأول، عن نحو سبع سنين من ملكه، وقام من بعده أخوه كيختو بن أبغا.

وتوفي تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري الشافعي فقيه الشام، عن ست وستين سنة بدمشق.
وتوفي المسند فخر الدين أبو الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المعروف ابن البخاري المقدسي السعدي عن أربع وتسعين سنة بدمشق، وقد انفرد بعلو الإسناد.
وتوفي خطيب حلب شمس الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الزبير بن أحمد بن سليمان الشيباني الخابوري الشافعي، عن تسعين سنة بحلب.
وتوفي خطيب حماة وفقيهها بدر الدين أبو محمد عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن نصر الله بن المغيزل العبدي الحموي بها، عن سبعين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي علاء الدين أبو الحسن على بن الكمال أبي محمد عبد الواحد بن عبد الكريم ابن خلف بن نبهان بن الزملكاني الأنصاري الشافعي، بدمشق عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي محيي الدين أبو يعلى محمد بن عمر بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن أمين الدولة الرعباني الحلبي الحنفي، عن نيف وثمانين سنة بحلب.
وتوفي العفيف أبو الربيع سليمان على بن عبد الله بن على بن ياسين التلمساني العابدي عن ثمانين سنة بدمشق.
وتوفي طبيب الشام عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نجم بن طرخان الأنصاري الدمشقي، عن تسعين سنة.
وتوفي الأديب شرف الدين عيسي بن فخر الدين أياز بن عبد الله الوالي.
سنة إحدى وتسعين وستمائةفي رابع عشر صفر: وقع حريق في بعض خزائن قلعه الجبل، تلف فيه كثير من الكتب وغيرها.
وفي جمادى عشر ربيع الأول: ختم بالقبة المنصورية. ونزل السلطان وتصدق بمال كثير.
وفي يوم الجمعة تاسع عشريه: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بجامع قلعة الجبل خطة بليغة حث فيها على الجهاد، وصلي بالناس صلاة الجمعة.
وفيه نودي بالنفير للجهاد، وخرج السلطان في الثامنة من يوم السبت ثامن ربيع الآخر بجميع عساكره فورد البريد بأن التتار أغاروا على الرحبة واستاقوا مواشي كثيرة، وخرجت إليهم تجريدة من دمشق.
وفي يوم السبت سادس جمادى الأولى: دخل السلطان إلى دمشق، وأنفق في العساكر يوم الاثنين ثامنه.
وفي نصفه: تزوج الأمير سنقر الأعسر بابنه الصاحب شمس الدين بن السلعوس، على صداق جملته ألف وخمسمائة دينار، المعجل مبلغ خمسمائة دينار.
وفيه وصل الملك المظفر صاحب حماة، وعرض السلطان عساكره، وقدم جيش الشام فسار إلى حلب.
ثم خرج السلطان من دمشق في الخامسة من يوم الإثنين سادس عشره، فدخل حلب في ثامن عشريه، وخرج منها في رابع جمادى الآخرة يريد قلعة الروم فنزل عليها يوم الثلاثاء ثامنه، ونصب عشرين منجنيقا ورمي عليها، وعملت النقوب وعمل الأمير سنجر الشجاعي نائب دمشق سلسلة وشبكها في شراريف القلعة وأوثق طرفها بالأرض، فصعد الأجناد فيها وقاتلوا قتالاً شديداً، ففتح الله القلعة يوم السبت حادي عشر رجب عنوة، وقتل من بها من المقاتلة، وسبي الحريم والصبيان، وأخذ بترك الأرمن وكان بها فأسر. وكانت مدة حصارها ثلاثة وثلاثين يوما، وقد سماها السلطان قلعة المسلمين فعرفت بذلك، وحمل إليها زردخاناه وألفا ومائتي أسير، واستشهد عليها الأمير شرف الدين بن الخطير. فلما وردت البشائر إلى دمشق بفتح قلعة الروم زينت البلد ودقت البشائر، ورتب السلطان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام لعمارة قلعة المسلمين، فعمر ما هدمته المجانيق والنقوب، وخرب ربضها.
وعاد السلطان راجعاً في يوم السبت ثامن عشره، فأقام بحلب إلى نصف شعبان، وعزل قرا سنقر عن نيابة حلب، وولي عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي المنصوري، ورتب بها الأمير عز الدين أيبك الموصلي شاد الدواوين ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في الثانية من بوم الثلاثاء عشري شعبان، وبين يديه بترك الأرمن صاحب قلعة الروم وعدة من الأسري.

وفيه خرج الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر ومعه معظم العسكر إلى جبال كسروان من جهة الساحل، فلقيهم أهل الجبال وعاد بيدرا شبه المهزوم، واضطرب العسكر اضطرابا عظيما، فطمع أهل الجبال فيهم، وتشوش الأمراء من ذلك وحقدوا على بيدرا ونسبوه أنه أخذ منهم الرشوة. فلما عاد إلى دمشق تلقاه السلطان وترحل له عند السلام عليه، وعاتبه سرا فيما كان منه، فمرض بيدرا حتى أشفي على الموت، وتحدث أنه سقي السم، ثم عوفي وتصدق في رمضان بصدقات جمة، ورد أملاكا اغتصبها لأربابها، وأطلق عدة من سجونه، وجمع الناس في عاشره بجامع بني أمية وعمل مهما لقراءة ختمة كريمة.
وفي خامس عشر شهر رمضان: توفي محيي الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء، وهو بدمشق، فأجري السلطان معلومه على ولده علاء الدين على، وجعله من جملة كتاب الإنشاء. وأقر السلطان في ديوان الإنشاء تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير التنوخي الحلبي، عوضاً عن ابن عبد الظاهر.
وفيه كثر موتان الجمال حتى حمل الأمراء أثقالهم على الخيل، فأذن السلطان لضعفاء العسكر في العود إلى القاهرة، فساروا من دمشق في ثاني عشريه. وحضر الأمير علم الدين سنجر الدواداري من قلعة الجبل بعدما أفرج عنه، فأنعم عليه بإمرة في ديار مصر.
وفي ليلة عيد الفطر: فر الأمير حسام الدين لاجين الصغير من داره بدمشق، خوفا من السلطان لما بلغه من أنه يريد القبض عليه، فنودي بدمشق من أظهر لاجين فله ألف دينار ومن أخفاه شنق، وركب السلطان في خاصته وترك سماط العيد، وساق في طلب لاجين وأخذ عليه الطريق، ثم عاد بعد العصر في أسوأ حال من التعب، ولم يجد له أثرا فقلق. واتفق أن لاحين نزل على طائفة من العرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان فاعتقله. وقبض السلطان على الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا حمي لاجين، وحمل هو ولاجين إلى قلعة الجبل بمصر.
وفي سادسه: استقر الأمير عز الدين أيبك الحموي في نيابة دمشق، عوضاً عن الشجاعي واستقر الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني نائباً بالفتوحات، عوضاً عن بلبان الطباخي بحكم انتقاله إلى نيابة حلب.
وفيه قدم الشجاعي من قلعة المسلمين بعدما عمر ما هدم منها، فشق عليه عزله عن دمشق.
وفي الثلث الآخر من ليلة الثلاثاء تاسعه: خرج السلطان من دمشق عائدا إلى مصر، بعدما رسم لجميع أهل الأسواق أن يخرج كل واحد منهم وبيده شمعة موقودة عند ركوب السلطان، فخرجوا بأجمعهم ورتبوا من باب النصر إلى مسجد القدم، فعندما ركب السلطان أشعلت تلك الشموع دفعة واحدة، فسار بينها حتى نزل مخيمه. ونقل محيي الدين بن النحاس من نظر دواوين دمشق إلى نظر الخزانة، عوضاً عن أمين الدين بن هلال، وأقيم في نظر دواوين دمشق جمال الدين بن إبراهيم بن صصرى، واستقر الأمير شمس الدين قرا سنقر الجوكندار المنصوري مقدم المماليك السلطانية.
وقدم السلطان إلى القاهرة يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، ودخل من باب النصر، وصعد إلى القلعة من باب زويلة. وقد عمل من الزينة والقلاع والتهاني شيء كثير، وأوقد من الشموع ما يجل وصفه، فإن الناس احتفلوا لذلك احتفالا عظيما فاق جميع ما تقدم في معناه. وولي صحابه ديوان الإنشاء عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد ابن محمد بن الأثير بعد وفاة والده، فإن والده لم يقم في كتابة السر إلا نحو شهر، ومات بغزة عند عوده من دمشق في تاسع عشر شوال.
وفي ذي القعدة: ندب الوزير ابن السلعوس العلم ابن بنت العراقي لمرافعة تقي الدين ابن بنت الأعز، وعقد له مجلس وادعي عليه العلم المذكور بعظائم، فاستمر في المحنة بقية السنة.
وفي آخر ذي الحجة: قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصري، والأمير سيف الدين الهاروني، والأمير بدر الدين بكتوت، واعتقلوا.
ومات فيها من الأعيانالملك المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بعدما ملك ثلاثا وثلاثين سنة.
ومات الأمير سنقر الأشقر عن سبعين سنة.
وتوفي كاتب السر فتح الدين أبو عبد الله محمد بن محيي الدين أبي الفضل عبد الله بن عبد الظاهر، عن أربع وخمسين سنة بدمشق.

وتوفي كاتب السر تاج الدين أبو العباس أحمد بن. شرف الدين أبي الفضل سعيد ابن محمد بن سعيد بن الأثير الحلبي، بغزة.
ومات مجد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي بالقدس، عن اثنين وستين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي كاتب الإنشاء بدمشق سعد الدين أبو الفضل سعد الله بن مروان أبي عبد الله الفارقي، وهو في عشر الستين.
وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن محمد بن عبد الباقي بن أمين الدولة الحلبي بالقاهرة عن سبعين سنة.
وتوفي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن خضر بن غزي عامر الأنصاري المصري المؤدب، في جمادى الآخرة وهو في عشر الثمانين، وقد حدث عن ابن باقا ومكرم الفارسي.
وفيها قبض الأمير بكتوت على الشريف راجح بن إدريس من ينبع وحمله إلى مصر وكانت الخطبة بمكة للأشرف خليل إلى آخر ربيع الأول، ثم انقطعت لانقطاع أخبار مصر، فلما قدم الحجاج وهم قليل حج أبو نمي، وقدم حاج الشام في ركبين وكانت جفلة بعرفة وعز الماء، فأبيعت الراوية بأربعة دنانير مكية.
سنة اثنين وتسعين وستمائةفي ليلة أول المحرم: أخرج من في الجب من الأمراء: وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخنقهم قدام السلطان، فخنقوا بأجمعهم حتى ماتوا. وتولي خنق لاجين الأمير قرا سنقر، فلما وضع الوتر في عنقه انقطع، فقال: " يا خوند مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطلق ابنته. وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطف به ولم يعجل عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتل الأشرف ويملك موضعه، وانتظر أن تقع به شفاعة. فشفع الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعده من حضر من الأمراء، فعفي عنه ظنا أنه لا يعيش، فحمل وكان من أمره ما سيذكره إن شاء الله.
وفي أول المحرم: استقر الأمير عز الدين أيبك الخازندار المنصوري في نيابة طرابلس والحصون، عوضاً عن طغريل الإيغاني، فسار من القاهرة.
وفي رابعه: سار السلطان من قلعة الجبل إلىالصعيد، واستخلف الأمير بيدرا النائب بقلعة الجبل وهو مريض. فانتهي السلطان إلى مدينة قوص ونادي هناك بالتجهيز لغزو اليمن. وكشف الوزير السلعوس الوجه القبلي، فوجد الجاري في ديوان الأمير بيدرا من الجهات عما هو في إقطاعاته، وما اشتراه وما حماة أكثر مما هو جار في الخاص السلطاني، ووجد الشون السلطانية بالوجه القبلي خالية من الغلال وشون بيدرا مملوءة. فأبلغ ذلك إلى السلطان وأغراه ببيدرا حتى تغير عليه، فبلغ الخبر بيدرا فخاف وأخذ يتلافي الأمر، وجهز تقدمة جليلة منها خيمة أطلس أحمر بأطناب حرير وأعمدة صندل محلاة ومفصلة بفضة مذهبة وبسطها من حرير، وضربها بناحية العدوية مع ما أعده. فلما عاد السلطان نزل بها ولم يكترث بالتقدمة، وطلع إلى القلعة، فارتجع عدة من جهات بيدرا للخاص السلطاني.
وفي صفر: وقع بغزة والرملة ولد والكرك زلازل عظيمة هدمت ثلاثة أبراج من قلعة الكرك، وتوالت الأمطار والسيول حتى خربت طواحين العوجاء وتكسرت أحجارها، ووجد في السيل أحد عشر أسداً موتي، وزلزلت أيضاً البلاد الساحلية فانهدمت عدة أماكن، فلما ورد الخبر بذلك خرج الأمير علاء الدين أيدغدي الشجاعي من في دمشق لعمارة ما تهدم بمرسوم شريف. وورد كتاب الأمير عز الدين أيبك الرومي من قلعة المسلمين بطلب ثلاثين سراقوجا، حتى إذا وجه لكشف أخبار العدو لبسها من يبعثه فلا يعرف من هم.
وفيه عبي السلطان برسم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي ملك العرب تعبئة قماش حرير بسبب زواج ابنته، وأمر بعمل تعبئة لوالدته أيضاً، وجهز ذلك على يد حاجبه من الخزانة. ورسم السلطان ببناء بئر في العريش وأخرج لها عدة من الغواصين، فلما تم بناؤها ركب عليها ساقية.
وفيه قتل علاء الدين البريدي وإلى الأشمونين نفسه، فاستقر عوضه بكتمر الموسكي. وقبض على الأمير عز الدين أزدمر العلائي أحد أمراء دمشق، وحمل إلى القاهرة فقدم أول ربيع الأول.

وفيه رسم بتجهيز العساكر إلى دمشق، فسار بها الأمير بيدرا، ثم سار الوزير بالخزائن. وركب السلطان على الهجن في أول جمادى الأولى ومعه جماعه من أمرائه وخواصه، وسار إلى الكرك من غير الدرب الذي يسلك منه إلى الشام، فرتب أحوالها. وتوجه إلى دمشق، فقدمها في تاسع جمادى الآخرة بعد وصول الأمير بيدرا والوزير بثلاثة أيام، فأمر بالتجهيز إلى بهسنا وأخذها من الأرمن أهل سيس. فقدم رسل سيس يطلبون العفو، فاتفق الحال معهم على تسليم بهسنا ومرعش وتل حمدون، فسار الأمير طوغان وإلى البر بدمشق معهم ليتسلما، وقدم البريد إلى دمشق بتسليمها في أول رجب، فدقت البشائر.
واستقر الأمير بدر الدين بكتاش في نيابة بهسنا، وعين لها قاض وخطيب، واستخدم لها رجال وحفظة. وقدم الأمير طوغان ومعه رسل سيس بالحمل والتقادم إلى دمشق في ثاني عشريه بعد توجه السلطان، فتبعوه.
وكان السلطان قد خرج في ثاني رجب إلى حمص ومعه جماعة من العسكر، وقد سير ضعفة العسكر إلى القاهرة، ثم سار من حمص إلى سلمية، وطرق مهنا بن عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل فضل، وقبض عليه وعلى إخواته محمد وفضل ووهبة، وبعثهم مع الأمير حسام الدين لاجين إلى دمشق، فقدمها لاجين في سابعه. وقدم السلطان في يومه أيضاً، فأقام في إمرة العرب الأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر بن على بن حديثه بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل على. وبعث السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار إلى الشوبك، فهدم قلعتها و لم يبق منها إلا قلتها فقط.
وفي شهر رجب: وقع ببعلبك أمطار وسيول خارجة عن الحد، ففد من كرومها ومزارعها ومساكنها ما تزيد قيمته على مائة ألف دينار.
وفي حادي عشره: سار الأمير بيدرا بالعساكر والوزير ابن السلعوس بالخزائن من دمشق، ثم ركب السلطان في خواصه يوم السبب ثالث عشره، فقدم غزة بكرة الأربعاء سابع عشره، ودخل قلعة الجبل في ثامن عشريه، وقدم الأمير بيدرا بمن معه أول شعبان. وفيه ولي طوغان وإلى البر بدمشق نيابة قلعة المسلمين، وولي أسندمر كرجي بر دمشق.
وفي شعبان: استقر شمس الدين أحمد السروجي الحنفي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة، بعد وفاة قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي الأرزنكاني.
وفي أول شهر رمضان: أفرج عن تقي الدين ابن بنت الأعز، بعدما اشتد به البلاء واعتقل في سجن الحكم وتوعد بالقتل، فعاد إلى بيته بالشافعي من القرافة، ومدح ابن السلعوس بقصدة أراد إنشادها بنفسه فحلف الوزير عليه، فأنشدها أخوه علاء الدين. ثم إنه ثبتت براءته مما رمي به، وتوجه إلى الحج مع الركب.
وفي يوم السبت ثاني شوال: قبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، وأحبط على جميع موجوده بمصر والشام.
و في ذي الحجة: رسم بعمل المهم لختان الأمير ناصر الدين محمد أخي السلطان، فنصب القبق تحت القلعة مما يلي باب النصر في العشرين منه، وفرقت الأموال والخلع على من أصاب في رميه، وكان قد رسم بعرض العساكر بحضور الأمير بيدرا، فأقامت في العرض أياماً، فرمي بيدرا بتغاضيه، وأن بعض العسكر يستعير العدة، فرسم بعرض الجميع جملة واحدة في الميدان، فكان يوماً مشهوداً. وممن أصاب في رمي القبق الأمير بيسري، فأنعم عليه بخمسة وثلاثين ألف دينار عيناً سوي الخلع وغيرها، وختن الأمير محمد وأولاد الأمراء في يوم الإثنين في ثاني عشريه، ونثر الأمراء الذهب حتى امتلأت الطشوت منه.
وفي آخر ذي الحجة: استقر في كتابة السر القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري عوضاً عن عماد الدين إسماعيل بن الأثير.
وفي هذه السنة: خطب الشريف أبو نمي بمكة للملك الأشرف، بعدما كان يخطب فيها لصاحب اليمن، ونقش السكة أيضاً باسمه، وجهز بذلك محاضر مع، ابن القسطلاني.
وفيها قدم رسل كيختو ملك التتار بكتابه يتضمن إنه يريد الإقامة بحلب، فإنها مما فتحه أبوه هولاكو، وإن لم يسمح له بذلك أخذ بلاد الشام. فأجابه السلطان بأنه قد وافق القان ما كان فح نفسي، فإني كنت على عزم من أخذ بغداد، وقتل رجاله، فإني أرجو أن أردها دار إسلام كم كانت، وسينظر أينا يسبق إلى بلاد صاحبه وكتب إلى بلاد الشام بتجهيز الإقامات وعرض العساكر.

وفيها وقف الحجاج يوم الإثنين والثلاثاء، ولم يصلوا الجمعة من خوف العطش لقلة الماء. وحلف أمير الركب الشريف أبا نمي يمينا إنه يتوجه إلى السلطان، وكان قد أعطاه ألف دينار عيناً، بعث بها إليه السلطان من مصر.
وفيها تلف في البحر ستة عشر مركباً من جلاب اليمن، أكثرها من عدن.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك الأفضل على بن المظفر محمود بن المنصور محمد بن المظفر عمر بن شاهنشاه ابن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو متوجه إلى القاهرة، عن سبع وخمسين سنة.
ومات الأمير علم الدين سنجر الحلبي الثائر بدمشق، وهو من أبناء الثمانين بالقاهرة.
وتوفي قاضي القضاة الحنفي معز الدين أبو عبد الله النعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي، بالقاهرة.
وتوفي محيي الدين أبو الفضل عبد الله بن رشيد الدين محمد عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر السعدي الكاتب، لسان ديوان الإنشاء، عن اثنتين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن الحافظ جمال الدين أبو حامد محمد بن على ابن محمود بن أحمد بن على بن الصابوني المحمودي، بالقاهرة عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو عباس أحمد بن زيد الدين أبي عبد الله محمد بن رضي الدين أبي محمد عبد القادر بن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي بها، عن ثلاث وثمانين سنة، له رحلة.
وتوفي قدوة الشام أبو إسحاق إبراهيم بن قدوة الشام يوسف المدعو عبد الله بن يونس بن إبراهيم بن سلمان الأرموي الزاهد، عن سبع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب كمال الدين أبو الحسن على بن على بن محمد بن المبارك بن سالم ابن الأعمي الدمشقي بها، عن اثنتين وثمانين سنة.
سنة ثلاث وتسعين وستمائةفي ثالث المحرم: عدي السلطان النيل إلى بر الجيزة يريد البحيرة للصيد، ومعه الأمير بيدرا والوزير ابن السلعوس. واستخلف بقلعة الجبل الأمير على الدين سنجر الشجاعي، وقد اشتدت العداوة بين الأمير بيدرا وبين ابن السلعوس. فوصل السلطان إلى تروجة ونزل بها، وتوجه الوزير إلى الاسكندرية ليعبي القماش ويحصل الأموال، بعدما خلع السلطان عليه طرد وحش. فوجد الوزير أن نواب بيدرا قد استولوا على المتاجر والاستعمالات فكتب يعرف السلطان ذلك ويغريه ببيدرا، وأنه لم يجد بالثغر ما يكفي الإطلاقات على جاري العادة. فاشتد غضب السلطان، وطلب بيدرا وسبه بحضرة الأمراء، وتوعده بأنه لابد أن يمكن ابن السلعوس من ضربه بما لا يذكر. فتلطف بيدرا حتى خرج إلى مخيمه وقد اشتد خوفه، فجمع أعيان الأمراء من خشداشيته ومنهم الأمير لاجين والأمير قرا سنقر ومن يوافقه، وقرر معهم قتل السلطان، فإنه كان قد أذن للأمراء الأكابر أن يخرجوا إلى إقطاعاتهم فساروا إليها وبقي في خواصه إلى يوم تاسوعاء. فتوصل الأمير بيدرا إلى أن أشير على السلطان بتقدم العسكر إلى القاهرة، فبعث الأمير سيف الدين أبا بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار إلى بيدرا يأمره أن يسير تحت الصناجق بالأمراء والعسكر فلما بلغه نائب أمير جاندار الرسالة نفر فيه، ثم قال له السمع والطاعة وقد تبين الغضب في وجهه، فرجع ابن أمير جاندار وحمل الزردخاناه وسار، ورحل الدهليز والعسكر.
وأصبح السلطان يوم عاشوراء، فبلغه أن بتروجة طيراً كثيراً، فساق وضرب حلقة صيد، وعاد إلى مخيمه آخر النهار. ثم لما كان الحادي عشر توجه الناس إلى القاهرة، وحضر بيدرا ومن قرر معه قتل السلطان إلى الدهليز، فلم يخرج السلطان وأعطاهم دستوراً فتوجهوا إلى خيامهم.
وركب السلطان جريدة وليس معه سوي الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار، وأراد أن يسبق الخاصكية، فرأي طيراً فصرع منه بالبندق شيئاً كثيراً ثم التفت إلى أمير شكار وقال. أنا جيعان، فهل معك ما آكل؟ " فقال: والله ما معي غير رغيف واحد فرج في صولقي ادخرته لنفسي فقال: ناولنيه فناوله ذلك فأكله كله. ثم قال له: أمسك فرسي حتى أنزل أبول وكان الأمير شهاب الدين ينبسط مع السلطان، فقال: ما فيها حيلة، السلطان ركب حصانا وأنا راكب حجر وما يتفقان. فقال له السلطان: أنزل أنت واركب خلفي حتى أنزل أنا فنزل وناول السلطان عنان فرسه وركب خلفه، فنزل السلطان وقضي حاجته، ثم قام وركب حصانه، ومسك فرس أمير شكار حتى ركب، وأخذا يتحدثان.

فلما كان وقت العصر: بعث بيدرا من كشف له خبر السلطان، فقيل له ليس معه أحد، كشف. بمن وافقه. فلم يشعر السلطان إلا بغبار عظيم قد ثار، فقال لأمير شكار: اكشف خبر هذا الغبار. فساق إليه فوجد الأمير بيدرا وجماعة من الأمراء، فسألهم فلم يجيبوه. ومروا في سوقهم حتى وصلوا إلى السلطان وهو وحده، فابتدرا بالسيف وضربه أبان يده، ثم ضربه ثانيا هد كتفه. فتقدم الأمير لاجين إليه وقال له: يا بيدرا من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته وضرب السلطان على كتفه حله، فسقط إلى الأرض، فجاءه بهادر رأس نوبة وأدخل السيف في دبره، واتكا عليه إلى أن أخرجه من حلقه. وتناوب الأمراء ضربه بالسيوف: وهم قرا سنقر، وآقسنقر الحسامي، ونوغاي، ومحمد خواجا، وطرنطاي الساقي، وألطنبغا رأس نوبة، وذلك في يوم الإثنين ثاني عشر المحرم.
فبقي الملك الأشرف ملقي في المكان الذي قتل به يومين، ثم جاء الأمير عز الدين أيدمر العجمي وإلى تروجة، فوجده في موضعه عريانا بادي العورة، فحمله على جمل إلى دار الولاية، وغسله في الحمام وكفنه، وجعله في بيت المال بدار الولاية إلى أن قدم الأمير سعد الدين كوجبا الناصري من القاهرة، وحمله في تابوته الذي كان فيه إلى تربته بالقرب من المشهد النفيسي ظاهر مصر، ودفنه بها سحر يوم الجمعة ثاني عشري صفر.
فكانت مدة سلطنتة ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام، وعمره نحو ثلاثين سنة ومات عن ابنتين، و لم يترك ولدا ذكرا. وكان ملكا كريماً شجاعاً مقداماً، سريع الحركة مظفراً في حروبه: فتح عكا وصور وبيروت وبهسنا وقلعة الروم. وكان مع ما فيه من شدة البادرة حسن النادرة، يطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط، لا يعلم على مكتوب حتى يقرأه كله، ولابد أن يستدرج على الكتاب فيه ما يتبين لهم فيه الصواب، إلا أنه تعاظم في آخر أيامه وصار لا يكتب اسمه وإنما يكتب خ إشارة إلى أول حروف اسمه، ومنع أن يكتب لأحد الزعيمي، وقال. من زعيم الجيوش غيري؟! وأبطل من دمشق مشمسا كان يؤخذ في باب الجابية على كل حمل قمح خمسة دراهم، وكتب بخطه الذي يكتب به العلامة بين أسطر المسموح الذي كتب بإبطال ذلك ما نصه: ولنكشف عن رعايانا هذه الظلامة، ونستجلب الدعاء لنا من الخاصة والعامة،.
وأما الأمراء، فإن الأمير زين الدين كتبغا المنصوري كان قد انفرد ومعه جماعة من الأمراء عن الملك الأشرف وساروا للصيد، وبقي في الدهليز السلطاني من الأمراء سيف الدين برغلي، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وحسام الدين لاحين الأستادار، وبدر الدين بكتوت العلائي، وجماعة من المماليك السلطانية. فلما قتل بيدرا السلطان عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليز وجلس في دست السلطة، وقام الأمراء فقبلوا الأرض بين يديه وحلفوا له، وتلقب بالملك الأوحد وقيل المعظم، وقيل الملك القاهر. ثم قبض بيدرا على الأمير بيسري والأمير بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتلهما ثم تركهما تحت الاحتياط لشفاعة الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها.
وقد سار الأمراء والمماليك السلطانية ومعهم الأمير برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، وركبوا في آثار بيدرا ومن معه يريدون القبض عليه. فبلغ الأمير كتبغا ومن معه مقتل السلطان وسلطنة بيدرا، فلحق بمن معه الأمير برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدوا بأجمعهم في طلب بيدرا ومن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحق بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزرد خاناه، عند المساء من يوم السبت الذي قتل فيه السلطان، فعندما أدركهم تقدم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند هذا الذي فعلته كان. بمشورة الأمراء؟، فقال: نعم أنا قتلته. بمشورتهم وحضورهم، وها هم كلهم حاضرون. ثم شرع يعدد مساوئ الأشرف ومخازيه واستهتاره بالأمراء ومماليك أبيه، إهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمسكه عز الدين الأفرم وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكه، وقلة دينه وشربه الخمر في شهر رمضان وفسقه بالمردان. ثم سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يره فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية علم؟ قال: نعم هو أول من أشار بها.

فلما كان يوم الأحد ثاني يوم قتلة الأشرف: وافي الأمير كتبغا في طلب كبير من المماليك السلطانية عدته نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين لأاستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتاله. وميز كتبغا أصحابه بعلائم حتى يعرفوا من جماعة بيدرا، وهم أنهم جعلوا مناديل من رقابهم إلى تحت آباطهم فأطلق بيدوا حينئذ الأميرين بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونا له فكانا عونا عليه. ورتب كتبغا جماعة ترمي بالنشاب، وتقدم بمن معه وحملوا على بيدرا حملة منكرة، وقصد الأمير كتبغا بيدرا وقد فوق سهمه، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسهم وتبعه البقية بسهامهم، فولي بيدرا بمن معه وكتبغا في طلبه حتى أدركه. وقتل بيدرا بعدما قطعت يده ثم كتفه كما فعل بالأشرف، وحملت رأسه علىرمح وبعث بها إلى قلعة الجبل فطيف بها القاهرة ومصر. ووجد في جيب بيدرا ورقة فيها: ما يقول السادة الفقهاء في رجل يشرب الخمر في شهر رمضان، ويفسق بالمرداد ولا يصلي فهل على قاتله ذنب أو لا؟ فكتب جوابها. يقتل ولا إثم على قاتله. وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرة فاختفيا.
وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان سيف الدين سنكو الدوادار. ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الشجاعي قتل السلطان ضم الحراريق والمعادي وسائر المراكب إلى بر مصر والقاهرة، وأمر ألا يعدي بأحد من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومن معه مت الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، ملم يجدوا مركباً يعدون به النيل. فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في بر الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأمير سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيام وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكنهم من التعدية. وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاق على إقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فبعث عند ذلك الحراريق والمراكب إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.
السلطان الناصر ناصر الدينالسلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي الصالحي أمه أشلون خاتون ابنة الأمير سكناي بن قراجين بن جنكاي نوين. ولد يوم السبت النصف من المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من مصر، فلما قتل أخوه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بالقرب من تروجة، وعدي الأمير زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمع بهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرة والقلعة من الأمراء الصالحية والمنصورية، وقرروا سلطنة الناصر محمد وأحضروه وعمره تسع سنين سوا في يوم السبت سادس عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأجلسوه على سرير السلطنة. ورتبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عوضاً عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعي وزيراً ومدبراً عوضاً عن ابن السلعوس، والأمير حسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابك العساكر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأمير ركن الدين بيبرس الدوادار دواداراً، وأعطي إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتبات والأجوبة والبريد. وأنفق في العسكر وحلفوا فصار كتبغا هو القائم بجميع أمور الدولة، وليس للملك الناصر من السلطنة إلا اسم الملك من غير زيادة على ذلك، وسكن كتبغا بدار النيابة من القلعة، وجعل الخوان يمد بين يديه.

وأما الشام فإنه كتب إلى دمشق كتاب على لسان الملك الأشرف، ومضمونه: إنا قد استنبنا أخانا الملك الناصر محمداً، وجعلناه ولي عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا ورسم فيه بتحليف الناس للملك الناصر محمد، وأن يقرن اسمه باسم الأشرف في الخطبة. وتوجه بالكتاب الأمير سيف الدين ساطلمش وسيف الدين بهادر التتري، فدخلا دمشق يوم الجمعة رابع عشريه، وجمع الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب دمشق الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان وحلفهم، وخطب باسم الملك الأشرف والملك الناصر ولي عهده، وكان ذلك من تدبير الشجاعي، فقدم من الغد البريد إلى دمشق بالحوطة على موجود بيدرا ولاجين وقرا سنقر، وطرنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبة، فظهر قتل الأشرف وإقامة أخيه الناصر بعده.
فاستمر الأمر في الخطبة بالشام على ذلك إلى حادي عشر ربيع الأول، حتى ورد مرسوم ناصري بالخطبة للملك الناصر وحده بالسلطنة، فخطب له كذلك في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول، وترحم على أبيه المنصور وأخيه الأشرف.
ثم كتب إلى ووقع الطلب على الأمراء الذين كانوا مع بيدرا في قتل الأشرف، فأول من وجد منهم الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، والأمير جمال الدين أقش الموصلي الحاجب، فضربت أعناقهما وأحرقت أبدانهما في المجاير ثامن يوم سلطنة الناصر. ثم أخذ بعدهما سبعة أمراء: وهم حسام الدين طرنطاي الساقي، ونوغاي السلاح دار، وسيف الدين الناق الساقي السلاح دار، وسيف الدين أروس الحسامي السلاح دار، وعلاء الدين ألطبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، وناصر الدين محمد بن خوجا ثم قبض على قوش قرا السلاح دار، وذلك في العشرين من المحرم فسجنوا بخزانة البنود من القاهرة، وتولي بيبرس الجاشنكير عقوبتهم ليقروا على من كان معهم، ثم أخرجوا يوم الاثنين ثامن عشره، وقطعت أيديهم بالساطور على قرم خشب بباب القلعة، وسمروا على الجمال وأيديهم معلقة، وشقوا بهم ورأس بيدرا على رمح قدامهم القاهرة ومصر. واجتمع لرؤيتهم من العالم ما لا يمكن حصره، بحيث كادت القاهرة ومصر أن تنهبا. ومروا بهم على أبواب دورهم، فلما جازوا على دار علاء الدين الطنبغا خرجت جواريه حاسرات يلطمن، ومعهن أولاده وغلمانه قد شقوا الثياب وعظم صياحهم. وكانت زوجته بأعلى الدار، فألقت نفسها لتقع عليه فأمسكنها جواريها، وهي تقول. ليتني فداك، وقطعت شعرها ورمته عليه فتهالك الناس من كثرة البكاء رحمة لهم واستمروا على ذلك أياماً: فمنهم من مات على ظهور الجمال، ومنهم من فكت مساميره وحمل إلى أهله ثم أخذ مرة ثانية وأعيد تسميره فمات.
هذا وجواري الملك الأشرف وسيال حواشيه قد لبسن الحداد وتذرعن السخام، وطفن في الشوارع بالنواحات يقمن المأتم، فلم ير بمصر أشنع من تلك الأيام. ثم أخذ بعد ذلك الأمير سيف الدين قجقار الساقي فشنق بسوق الخيل، ولم يوقف لقراسنقر ولا للاجين على خبر ألبتة.

وبلغ الوزير ابن السلعوس وهو بالإسكندرية مقتل الملك الأشرف، فخرج ليلا وسار إلى القاهرة فنزل بزاوية الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري خارج القاهرة وبات عنده. ثم ركب منها بكرة بهيئته ودسته إلى داره، فأتاه القضاة والأعيان وسلموا عليه، فجري معهم على عادته من الترفع والكبر، و لم يقم لأحد ولا احتفل بكبير. فقال له بعض أصدقائه: الرأي أن تختفي حتى تسكن الفتنة فقال: هذا لا نفعله ولا نرضاه لعامل من عمالنا، فكيف نختاره لأنفسنا واستمر في بيته والناس تتردد إليه خمسة أيام، وذلك من أجل أن حرم الملك الأشرف بعثن إلى الأمير كتبغا النائب يشفعن فبه، فإنه من أحباب السلطان وأخصائه. فشق ذلك على الشجاعي وتحدث مع كتبغا وغيره من الأمراء، وحرضهم عليه وأغراهم به، فاستدعاه كتبغا في اليوم السادس وهو ثاني عشري المحرم، فركب في دسته على عادته، فعندما دخل إليه قبض عليه وأسلمه للشجاعي فأحاط به، وأنزله من القلعة ماشياً إلى داره والأعوان محيطة به، فلم يمكن من العبور إليها. وأخذه أعدي أعاديه الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري شاد الصحبة ليطالبه بالأموال، فضربه ضرباً شديداً بلغ في مرة واحدة ألفاً ومائة ضربة بالمقارع، فأنكر عليه الشجاعي ذلك ونقل ابن السلعوس إلى الأمير بدر الدين لؤلؤ المسعودي شاد الدواوين، فعاقبه بأنواع العقوبات وعذبه أشد عذاب، واستخرج منه مالاً كثيراًً: منه مبلغ تسعة آلاف دينار تحت يد شخص بالشام، فكتب. التذاكر إلى الشام، وأخذ المبلغ المذكور.
وكانت عقوبة ابن السلعوس في المدرسة الصاحبية بسوبقة الصاحب من القاهرة، وفي كل يوم يضربه لؤلؤ بالمقارع ويخرجه من الصاحبية إلى القلعة وهو على حمار، فيقف له أراذل الناس في طول الطريق ومعهم المداسات المقطعة ويقولون له: يا صاحب علم لنا على هذه ويسمعونه كل مكروه، فينزل به من الخزي والنكال ما لا يعبر عنه. وكان لؤلؤ هذا ممن أنشأه ابن السلعوس، فإنه كان قد طلب من دمشق لما قتل مخدومه الأمير طرنطاي النائب وكان يلي ديوانه بالشام فأحسن إليه ابن السلعوس وولاه شد الدواوين بمصر، وصار يقف في خدمته كأنه بعض النقباء، فلا يسميه إلا لؤلؤ، فقدر الله أنه وقع في يده، فبالغ في إهانته وصارت العقوبة في كل يوم تتزايد عليه والشدائد تتضاعف، ويتولى عقوبته شر الظلمة وأبعدهم من الشفقة، إلى أن مات في يوم السبت عاشر صفر، وقيل خامس عشره، وقيل سابع عشره، وضرب بعد موته ثلاث عشرة مقرعة، ودفن بالقرافة.
وفي تاسع عشر صفر: عزل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة عن وظيفة القضاء، وأعيد قاضي القضاة تقي، الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز إلى سائر ما كان بيده من المناصب واستقر ابن جماعة في تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعي من القرافة، وتدريس المشهد الحسيني بالقاهرة.

وفي هذه المدة: أحكم الشجاعي أمر الوزارة، فاشتدت مهابة الناس له وقويت نفسه، وأحب أن يستبد بالأمور، فشرع في إعمال التدبير على الأمير كتبغا ليقبض عليه، واستمال الأمراء البرجية والمماليك السلطانية، وفرق فيهم نحو الثمانين ألف دينار سرا، وقرر معهم أن من أتاه برأس أمير من الأمراء الذين مع كتبغا فإنه يعطيه إقطاعه، وأن الأمير علم الدين سنجر البندقداري يقبض على كتبغا إذا جلس على السماط. وكان ممن اطلع على هذا الأمير سيف الدين قنغر التتري الوافد في الدولة الظاهرية وهو من جنس كتبغا، فأعلمه الخبر، فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم أصحابه من الأمراء وغيرهم، فلما كان يوم الخميس ثاني عشري صفر اجتمع الأمراء بمساطب باب القلة من قلعة الجبل على العادة، ينتظرون فتح باب القلعة ليركبوا في خدمة الأمير كتبغا في الموكب كما جرت به العادة، فلم يشعروا إلا برسالة قد خرجت على لسان أمير جاندار بطلب جماعة من الأمراء: وهم سيف الدين قبجق، وبدر الدين عبد الله السلاح دار حامل الجتر، وسيف الدين قبليي، وركن الدين عمر السلاح دار أخو تمر، وسيف الدين كرجي، وسيف الدين طرنجي، وقرمشي السلاح دار، وبوري السلاح دار، ولاجين جركسي، ومغلطاي المسعودي، وكرد الساقي، فدخلوا إلى الخدمة السلطانية. وقام بقية الأمراء للركوب، فبينما هم يسيرون تحت القلعة بالميدان الأسود، جاء الأمير قنغر ومعه ابنه جاورجي، فأخبرا النائب كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا اعتقلوا، وأن الشجاعي قد دبر أنك إذا طلعت قبض عليك وعلى من معك وقت الجلوس على السماط. فعرف كتبغا الأمراء الذين معه بما قال قنغر وولده، فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة.
واستعجل الأمير علم الدين البندقداري، وعمل ما لا كان ينبغي، وذلك أنه كان في الموكب سيف الدين برلغي أمير مجلس، وركن الدين بيبرس الجاشنكير الأستادار، فلم يشعر بيبرس إلا وضربة دبوس جاءته في رأسه أثرت فيه أثراً بقي فيه بعد ذلك، وقبض عليه وعلى برلغي وبعث بهما إلى الإسكندرية. وعند قبضهما قال سنجر البندقداري لكتبغا النائب في جملة كلام فاوضه به: أين لاجين؟ أحضره فقال كتبغا: ما هو عندي فقال سنجر: والله هو عندك وجرد سيفه ليضرب به كتبغا، فبادره من ورائه بكتوت الأزرق مملوك كتبغا وضربه بسيف حل كتفه، ونزل إليه بقية مماليك كتبغا وذبحوه.
وساق كتبغا ومن معه من الأمراء: وهم بيسري وبكتاش الفخري أمير سلاح وبكتوت العلائي وبهاء الدين يعقوب ونوكاي وأيبك الموصلي والحاج بهادر وأقسنقر كرتيه وبلبان إلى باب المحروق وخرجوا منه، فنزلوا بظاهر السور ولبسوا عدة الحرب. وبعث كتبغا نقباء الحلقة في طلب المقدمين وأجناد الحلقة والتتر والأكراد الشمهرزورية، فحضروا إليه. وركب الشجاعي وخرج إلى باب القلعة، وحرك الكوسات ليحضر إليه الأمراء وأجناد الحلقة، فإنه كان قد صر عدة صرر من ذهب، وراسل المقدمين وأجناد الحلقة يعدهم إذا وافقوا وقاموا معه، فصار من يحضر إليه يعطيه صرة ذهب على قدره، فلم يحضر إليه هذا اليوم إلا من لا يغني ولا يجدي مجيئه شيئا. ثم إن كتبغا بعث إلى السلطان يطلب الشجاعي، وقال له: قد انفرد هذا برأيه في القبض على الأمراء ولابد من حضوره، فإنه بلغنا عنه ما أنكرناه. فأرسل السلطان يعرف الشجاعي بذلك، فامتنع أن يحضر إليه، ورجف كتبغا وأخذ يحاصر القلعة وقطع عنها الماء وباتوا على ذلك. فلما كان يوم الجمعة نزل الأمراء البرجية من القلعة على حمية، وقاتلوا كتبغا ومن معه من العساكر، وهزموهم وساقوا خلفهم إلى البئر البيضاء، ومر كتبغا إلى ناحية بلبيس.
وكان بيسري وبكتاش في عدة من الأمراء لم يركبوا مع كتبغا في هذا اليوم، فلما سمعوا بكسرته شق عليهم ذلك وركبوا إلى البرجية وقاتلوهم، وكسروهم حتى ردوا إلى القلعة. فقدم كتبغا بعد كسرته وانضم مع بيسري وبكتاش، وتلاحق بهم الناس. فجدوا في حصار القلعة حتى طلع الملك الناصر على البرج الأحمر وتراءى لهم، فنزل الأمراء عن خيولهم إلى الأرض وقبلوا له الأرض، وقالوا: نحن مماليك السلطان، و لم تخلع يدا من طاعته، وما قصدنا إلا حفظ نظام الدولة واتفاق الكلمة وإزالة الفساد.

واستمر الحصار سبعة أيام، وفي كل يوم ينزل الشجاعي ومعه الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير سيف الدين طغجي في عدة من المماليك السلطانية، فيكون بينه وبين كتبغا وأصحابه قتال، إلا أنه يتسلل ممن معه في كل يوم عدة ويصيرون إلى كتبغا. فلما اشتد الحصار طلعت أم السلطان على سور القلعة، وسألت الأمراء عن غرضهم حتى تعمل، فقالوا: ما لنا غرض إلا القبض على الشجاعي وإخماد الفتنة، ولو بقي من بيت أستاذنا بنت عمياء كنا مماليكها، لاسيما وولده الملك الناصر حاضر وفيه كفاية. فانخدعت لقولهم، واتفقت مع الأمراء حسام الدين الأتابك وغلقوا باب القلة من القلعة، وصار الشجاعي بداره من القلعة محصورا. فعند ذلك تفرق عنه أصحابه ونزلوا إلى كتبغا، فلم يجد بدا من طلب الأمان فلم تجبه الأمراء، فتحير وقال: " إن كنت أنا الغريم فأنا أتوجه إلى الحبس طوعا مني، وأبرأ مما قيل عني وخرج إلى باب الستارة السلطانية وحل سيفه بيده، وذهب نحو البرج ومعه الأمير بهاء الدين الأقوش والأمير سيف الدين صمغار.
وقيل إن الشجاعي لما أبي الأمراء أن يؤمنوه بعثوا آخر النهار عند العصر جماعة فيهم الأقوش إلى عند أم السلطان، وطلبوا الشجاعي ليستشيروه فيما يفعل، فلما حضر تكاثرت عليه المماليك، ووثب عليه منهم أحد مماليك الأقوش وضربه من ورائه بسيف أطار يده، وثني بأخرى أسقطت رأسه عن بدنه، ورفعت في الحال على السور. وكان عمره نحو خمسين سنة.
ويقال إنه لما حضر قال له السلطان: يا عمي لأي شيء هذا الذي أنتم فيه؟ فقال: لأجلك يا خوند فقال: خلوني أعمل شيئا تبقوا مطمئنين وأنا معكم، وهو أنك تروح يا أمير علم الدين تقعد في مكان بالقلعة وترسل ورائه الأمراء ليطلعوا، وبعد أيام نوفق بينكم، ونعطيك قلعة بالشام تروح إليها ونستريح منهم. فقام الأمراء الحاضرون وقبضوا عليه، وقيدوه وأخرجوه إلى مكان يسجن فيه، فتوجه به الأقوش نحو البرج الجواني.
فلما كان في أثناء، الطريق قتله، وقطع رأسه ويده وأخذها في ذيل قرظيته ونزل إلى سوق الخيل والبرجية والمماليك السلطانية محيطة بباب القلعة، فقالوا له: ما معك فقال: خبز سخن أرسله السلطان إلى الأمراء، ليعلموا أن عندنا الشيء بكثرة يريد بذلك النجاة منهم. فظنوه صادقاً وتركوه، ولو علموا بأنه معه رأس الشجاعي لما خلص منهم. فصار إلى الأمراء وناولهم الرأس، فبعثوا في الحال من حلف السلطان والأمراء الذين عنده.
وفتح باب القلعة، وطلع كتبغا والأمراء إلى القلعة وهم راكبون إلى باب القلة، ثاني يوم، ودقت البشائر، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشريه. فنودي بعد ذلك بالأمان، ففتحت أبواب القاهرة وكانت كلها مغلقة إلا باب زويلة، وكذلك الأسواق كانت معطلة في هذه المدة.
ثم رفع رأس الشجاعي على رمح وطيف بها القاهرة ومصر، و لم يدعوا زقاقا حتى طافوا بالرأس فيه، وجبوا عليه مالاً كثيراً. وفي الناس من كان يضرب الرأس بالمداسات، ومنهم من يصفعه ويسبه، وصاروا يقولون: هذه رأس الملعون الشجاعي. وسر كثير من الناس لموته، فإنه أكثر من المصادرات، ونوع الظلم والعسف أنواعا.
وفيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، وأعيدت لهم إقطاعاتهم وأموالهم، وجددت الأيمان للسلطان ولنائبه الأمير كتبغا. وأنزل من كان ساكنا في الأبراج والطباق بقلعة الجبل من المماليك السلطانية الذين رموا بأنهم أثاروا هذه الفتنة، وأسكنت طائفة منهم في مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني، وطائفة في دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة، وطائفة في مناظر الميدان الصالحي بأرض اللوق، واعتقلت طائفة.
وفي يوم الخميس تاسع عشريه: استقر في الوزارة الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن حنا، واستقر ابن عمه عز الدين الصاحب محيي الدين بهاء الدين في وزارة الصحبة، وصارا يجلسان جميعاً في شباك الوزارة بقلعة الجبل، والصاحب تاج الدين هو الذي يوقع.
وفي سلخه: أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم.
وفي ثالث ربيع الأول: أوقعت الحوطة بدمشق على موجود الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وقبض على نوابه.
وفي العشرين من رجب: حلف نائب دمشق والأمراء بها للسلطان ونائبه وولي عهده الأمير كتبغا، ودعي له معه في الخطبة.

وفي خامس عشريه: ركب الملك الناصر في أبهة الملك، وشق القاهرة من باب النصر حتى خرج من باب زويلة عائدا إلى القلعة، وكتبغا والأمراء يمشون في ركابه، فكان يوماً مشهوداً، ودقت البشائر بالقلعة.
وفي يوم عيد الفطر: ظهر الأمير حسام الدين لاحين الصغير والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوريان من الاستتار: وكانا وقت فرارهما عند وقعة بيدرا قد أطلعا الأمير سيف الدين بتخاص الزيني مملوك الأمير كتبغا بحالهما، فتلطف مع أستاذه كتبغا في أمرهما حتى صار يتحدث مع السلطان إلى أن عفا عنهما، ثم تحدث كتبغا مع الأمير بكتاش في أمرهما، وانتدبه لإصلاح حالهما مع الأمراء، فركب ودار على الأمراء وأعيان المماليك، وأزال ما كان في نفوسهم من الوحشة. وقرر الحال على أنهما يصعدان إلى القلعة يوم العيد، فأتيا سرا إلى بيت الأمير كتبغا بقلعة الجبل، فأخذهما معه ودخل إلى السماط، فقبلا الأرض للسلطان على العادة، فأكرمهما وخلع عليهما وأمرهما كما كانا، ونزلا فحمل الأمراء إليهما من التقادم ما يجل وصفه. وكانت هذه الفعلة من كتبغا مع لاجين كعنز السوء بحثت عن حتفها بظلفها، كما ستراه قريباً من خبرهما إن شاء الله.
وفيه أفرج عن الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي وأخوته وأولاده.
وفي هذه السنة: قصر مد النيل ولم يوف، بل كانت نهايته خمسة عشر ذراعاً وثلث ذراع، فغلت الأسعار.
وفيها استقر في قضاء دمشق قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد الخويي بحكم وفاته.
وفيها سار الشريف أبو نمي أمير مكة يريد مصر حتى يلقي السلطان الملك الأشرف، لأنه حلف على ذلك، فلما نزل ينبع رد إليه الشريف راجح بن إدريس ينبع، وجاءه الخبر بقتل السلطان الملك الأشرف، فرجع من ينبغ إلى مكة.
وغلت الأسعار بمكة، فأبيع المد الملح بستة دنانير مكية، وغلت بها المياه في شعبان ورمضان. وقدم حاج اليمن في كثرة، فبلغت الراوية أربعة دنانير، وحمل الماء من عرفة إلى مكة. ثم أغاث الله بالأمطار وكانت بمني قبله في يوم الأحد، فسار الناس منها يوم الأربعاء ومضوا إلى بلادهم.
وفيها قتل الملك كيختو بن أبغا بن هولاكو. وولي بعده بيدو بن طوغاي بن هولاكو.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي قضاة الشام شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي الشهير بابن الخويي الشافعي بدمشق عن سبع وستين سنة، ولي قضاء حلب ودمشق ومصر، ولم يبرح مشكور السيرة.
وتوفي الوزير الصاحب فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشيباني الإسعردي عن إحدى وثمانين سنة، وزر مرتين.
وتوفي الوزير الصاحب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن أبي الرجا بن السلعوس التنوخي، عن خمسين سنة مقتولا.
وتوفي الزاهد المعتقد تقي الدين أبو محمد عبد الله بن على بن محمد بن منجد السروجي بالقاهرة.
وتوفي المحدث شرف الدين أبو على الحسن بن على بن عيسي بن الحسن بن على ابن الصيرفي اللخمي عن نحو سبع وستين سنة.
ومات قبلاي خانة بن طلوي بن جنكزخان ملك الصين، وهو أكبر الخانات والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان. وكانت مدته قد طالت، فقام في مملكة الصين بعده ابنه شبردون بن قبلاي.
سنة أربع وتسعين وستمائةفي المحرم: ورد الخبر بأن كيختو بن أبغا بن هولاكو، الذي تسلطن بعد أخيه أرغون في سنة تسعين، قتل في سنةثلاث وتسعين. وملك بعده ابن عمه بيدو، وهو ابن طرغاي بن هولاكو، فخرج عليه غازان بن أرغون بن أبغا نائب خراسان، وكسره وأخذ الملك منه، ويقال إنه أسلم على يد الشيخ صدر الدين بن حمويه الجويني.

وفي ليلة الأربعاء حادي عشره: اجتمع المماليك الأشرفية الذين بالكبش وخرجوا إلى الإسطبلات التي تحت القلعة، وركبوا الخيول ونهبوا ما قدروا عليه. وداروا على خوشداشيتهم فأركبوهم ومضوا إلى باب سعادة من أبواب القاهرة فأحرقوه، ودخلوا إلى دار الوزارة ليخرجوا من فيها من المماليك، فلم يوافقوهم على ذلك فتركوهم، وقصدوا سوق السلاح بالقاهرة، وفتحوا الحوانيت وأخذوا السلاح، ومضوا إلى خزانة البنود وأخرجوا من فيها من المماليك، وساروا إلى إسطبل السلطان ووقفوا تحت القلعة. فركب الأمراء الذين بالقلعة وقاتلوهم، فلم يثبتوا وانهزموا وتفرقوا. فقبض عليهم من القاهرة وضواحيها و لم يفلت منهم أحد، فضربت رقاب بعضهم بباب القلعة، وقطعت أيدي جماعة وأرجلهم، وغرق غير منهم، وفيهم من أكحل، وفيهم من قطعت ألسنتهم، ومنهم من صلب على باب زويلة، ومنهم من بقي، وفرق بعضهم على الأمراء وكانوا زيادة على ثلاثمائة مملوك.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: خلع الملك الناصر ابن قلاوون، وكانت أيامه سنة واحدة تنقص ثلاثة أيام، لم يكن لي فيها أمر ولا نهي.
السلطان زين الدين كتبغا المنصوريالسلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري كان في مدة سلطنة الملك الناصر هو القائم بجميع أمور الدولة، وليس للناصر معه تصرف ألبتة. ثم إنه أخذ في أسباب السلطة بعد قتل الشجاعي. ولما دخل المحرم انقطع في دار النيابة وأظهر أنه ضعيف البدن، وباطن أمره إنه يريد أن يقرر أموره في السلطنة فخرج إليه الناصر وعاده. فلما كانت فتنة المماليك جلس في صباح تلك الليلة بدار النيابة وجمع الأمراء وقال لهم: قد انخرق ناموس المملكة، والحرمة لا تتم بسلطنة الناصر لصغر سنه. فاتفقوا على خلعه وإقامة كتبغا مكانه، وحلفوا له على ذلك، وقدم إليه فرس النوبة بالرقبة الملوكية، وركب من دار النيابة قبلي أذان العصر من يوم أيامه سنة واحدة تنقض ثلاثة أيام الأربعاء حادي عشر المحرم، ودخل من باب القلة إلى الأدر السلطانية، والأمراء مشاة بين يديه حتى جلس على التخت بأهبة الملك، وتلقب بالملك العادل، فكانت أيامه شر أيام من الغلاء والوباء وكثرة الموتان.
ومن عجيب الاتفاق أن مشرف المطبخ السلطاني بالقلعة ضرب بعض المرقدارية فبلغه ركوب كتبغا بشعار السلطنة، فنهض المشرف وصبيان المطبخ لرؤية السلطان وفيهم المضروب وهو يقول: يا نهار الشوم! إن هذا نهار نحس فجري هذا الكلام في هذا اليوم على ألسنة جميع الناس.
وفيه نقل الملك الناصر محمد من القصر، وأسكن هو وأمه في بعض قاعات القلعة.
وفي ثاني عشره: مد العادل سماطا عظيماً وجلس عليه، فدخل إليه الأمراء وقبلوا يده، وهنئوه بالسلطنة وأكلوا معه. فلما انقضى الأكل خلع على الأمير حسام الدين لاجين الصغير، واستقر في نيابة السلطنة بديار مصر، وخلع على الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي، وجعل أمير جاندار، وخلع على الأمير سيف الدين الحاج بهادر، واستقر أمير جاجب.
وفي رابع عشره: خرج البريد بالكتب إلى البلاد الشامية بسلطنة العادل كتبغا، وخرجت كتب دمشق على يد الأمير ساطلمش المنصوري، فقدم دمشق في سابع عشره وحلف النائب والأمراء، ودقت البشائر.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على سائر الأمراء وأرباب الدولة، وأنعم على المماليك المقيمين بدار الوزراة من أجل أنهم امتنعوا من إقامة الفتنة.
وفي يوم الأربعاء أول شهر ربيع الأول: ركب السلطان على عادة الملوك واللواء الخليفتي على رأسه والتقليد بين يديه، وكتبت البشائر بذلك لسائر النواب من إنشاء القاضي جمال الدين محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري.
وشرع السلطان يؤمر مماليكه فأمر أربعة: وهم بتخاص وقد جعله أستادارا، وأغرلو وبكتوت الأزرق وقطلو بك، فركبوا بالإمرة في يوم واحد. وفوض السلطان وزارة دمشق للصاحب تقي الدين توبة التكريتي على عادته في أيام المنصور قلاوون وكتب له برد ما أخذ منه في الدولة الأشرفية، وسار من القاهرة.
وفي يرم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى: عزل الصاحب تاج الدين محمد ابن حنا من الوزارة، واستقر بالقاضي فخر الدين عمر بن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي الداري وكان ناظر ديوانه وناظر الدواوين في الوزارة.

وفي هذا الشهر: استسقى الناس بدمشق لتوقف نزول الغيث، وخرج النائب وسائر الناس مشاة. وتزايد الغلاء بديار مصر بعدما أقامت خيول السلطان يؤخذ لها العلف من دكاكين العلافين، وكانت التقاوي المخلدة قد أكلت. و لم يكن بالأهراء السلطانية غلال، فإن الأشرف كان قد فرق الغلال وأطلقها للأمراء وغيرهم حتى نفد ما في الأهراء. وقصر مد النيل كما تقدم، فصار الوزير يشتري الغلال للمئونة بدور السلطان وللعليق، فتزايد الغلاء حتى بلغ تسعين درهما الأردب.
ووقع في شهر ربيع الأول من هذه السنة: بديار مصر كلها وباء، وعظم في القاهرة ومصر، وتزايد حتى كان يموت فيهما كل يوم ألوف، ويبقي الميت مطروحا في الأزقة والشوارع ملقى في الممرات والقوارع اليوم واليومين لا يوجد من يدفنه، لاشتغال الأصحاء بأمواتهم والسقماء بأمراضهم.
وفي سادس عشري رمضان: استقر نجم الدين أحمد بن صصرى في قضاء العسكر بدمشق وسافر من القاهرة، وأنعم على الملك الأوحد شادي بن الزاهر مجير الدين دوادار بن المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الأيوبي بإمرة في دمشق، فاستقر من جملة أمراء الطبلخاناه بها، وهو أول من أمر طبلخاناه من بني أيوب في دولة التركية. فقدم الخبر بموت الملك المظفر شمس الدين أبي المظفر يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني صاحب اليمن في شهر رمضان فكانت مدته نحو خمس وأربعين سنة وكانت سيرته جيدة. وملك بعده ابنه الملك الأشرف ممهد الدين عمر ولي عهد هأيون، فنازعه أخوه الملك المؤيد هزبر الدين داود وجمع لقتاله، وحاصر عدن ثلاثة عشر يوما وملكها وأخذ الأموال بغير حق، وسار يريد تعز فبعث إليه الأشرف جيشا قاتله وأسره وحمله إليه، فاعتقله.
وفيها استقر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة من خطابة الجامع الأموي بدمشق، زيادة على ما بيده من قضائها، فخطب وصلى بالناس يوم الجمعة سادس شوال، وهو أول من جمع له بين القضاء والخطابة بدمشق.
وفيها قبض على الأمير عز الدين أيبك الخازندار المنصوري نائب البلاد الطرابلسية، وحمل إلى القاهرة، فقدمها في حادي عشر ذي القعدة واعتقل، وأقيم بدله الأمير عز الدين أيبك الموصلي المنصوري.
وفيها قصر مد النيل وبلغ ستة عشر ذراعاً وسبع عشر إصبعا، ثم هبط من ليلته ولم يعد، فتزايد الغلاء واشتد البلاء. وأجدبت بلاد برقة أيضاً، وعم الغلاء والقحط ممالك المشرق والمغرب والحجاز، وبلغ سعر الأردب القمح بمصر مائة وخمسين درهما فضة. وتزايد موت الناس حتى بلغت عدة من أطلق من الديوان في شهر ذي الحجة سبعة عشر ألفا وخمسمائة، سوى الغرباء والفقراء وهم أضعاف ذلك وأكل الناس من شدة الجوع الميتات والكلاب والقطاط والحمير، وأكل بعضهم لحم بعض. وأناف عدد من عرف بموته في كل يوم ألف نفس، سوى من لم يثبت اسمه في الديوان. فلما اشتد الأمر فرق السلطان الفقراء على أرباب الأموال بحسب حالهم.
وفيها كثرت الفلوس، فعلمت كل أوقية بسدس درهم.
وفيها مات ملك تونس الأمير أبو حفص عمر بن يحيى بن عبد الواحد لهن أبي حفص ليلة الجمعة رابع عشري ذي الحجة، فكانت مدته إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر. وبويع أبو عبد الله محمد المعروف بأبي عصيدة بن يحيى بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد.
ومات في هذه السنة من الأعيانالقان كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان ملك التتار قتيلا، فكانت مدة ملكه نحو أربع سنين.
ومات القان بيدو بن طرغاي، بن هولاكو القائم بعد كيختو مقتولا، فكانت مدة ملكه نحو ثمانية أشهر، وقام بعده عازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو. ومات الملك المظفر محمد بن المنصور عمر بن علي بن رسول ملك اليمن بقلعة تعز وقد تجاوز ثمانين سنة، منها مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة.
ومات الملك السعيد داود بن المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق ابن إيلغازي بن ألبى تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وقام بعده أخوه المنصور غازي.

وتوفي شرف الدين أبو العباس أحمد بن أحمد بن نعدة بن أحمد بن جعفر بن الحسين ابن حماد القدسي الشافعي، عن ثلاث وسبعين سنة بدمشق، وقد انتهت إليه رياسة الفتوي وولي خطابة الجامع الأموي. وتوفي عز الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر بن فرج بن أحمد بن سابور الفاروثي الواسطي الشافعي، عن ثمانين سنة بواسط، وكان قد ولي الخطابة بعد ابن المرحل، وكان إماماً في عدة فنون.
وتوفي محب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي فقيه الحجاز، بمكة عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الساكن الطوسي المشهدي، بالقاهرة.
سنة خمس وتسعين وستمائةفي المحرم: حدث بقرية جبة عسال من قرى دمشق أمر عجيب: وهو أن شابا من أهلها خرج بثور له يسقيه الماء، فلما فرغ الثور من شربه حمد الله، فتعجب الصبي من ذلك، وحكاه فلم يصدق. فلما كان في اليوم الثاني خرج صاحب الثور به ليسقيه، فشرب وحمد الله بعد فراغه، فمضى به، وكثر ذكر ذلك بالقرية. فخرج به في اليوم الثالث وقد حضر أهل القرية، فعندما فرغ الثور من شربه سمعه الجميع وهو يحمد الله. فتقدم بعضهم وسأله، فقال الثور بكلام سمعه من حضر: إن الله عز وجل كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدباً، ولكن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها الله تعال بالخصب. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ذلك إلى الناس. قال الثور فقلت: يا رسول الله ما علامة صدقي عندهم؟ قال: أن تموت عقيب الإخبار ثم مضى الثور إلى موضع مرتفع وسقط ميتاً، فتقاسم أهل القرية شعره للتبرك به، وكفنوه ودفنوه وحضر إلى قلعة الجبل محضر ثابت على قاضي الولاية بهذه الحادثة.
وفي ربيع الأول: قدم البريد بوصول طائفة الأويراتية من التتار ومقدمهم طرغاي زوج بنت هولاكو، وإنهم نحو الثمانية عشر ألف بيت، وقد فروا من غازان ملك التتار وعبروا الفرات يريدون الشام. فكتب إلى نائب الشام أن يبعث إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري إلى الرحبة ليلقاهم، فخرج من دمشق، ثم توجه بعده الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق، وخرج الأمير قراسنقر المنصوري من القاهرة أيضاً، فوصل دمشق في ثاني عشريه، ثم تبعه الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، فأقام بدمشق حتى وصلت أعيان الأويراتية صحبة سنقر الأعسر في ثالث عشريه. وكانت عدتهم مائة وثلاثة عشر رجلا، ومقدمهم طرغاي، ومن أكابرهم الوص وككباي، فتلقاهم النائب والأمراء واحتفل لقدومهم احتفالاً زائداً.
ثم سار بهم الأمير قراسنقر إلى القاهرة يوم الإثنين سابع ربيع الآخر، فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم، وأمر عدة منهم. وبقوا على كفرهم، ودخل شهر رمضان فلم يصم منهم أحد، وصاروا يأكلون الخيل من غير ذبحها، بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل. فأنف الأمراء من جلوسهم معهم بباب القلة في الخدمة، وعظم على الناس إكرامهم، وتزايد بعضهم في السلطان، وانطلقت الألسنة بذمه حتى أوجب ذلك خلع السلطان فيما بعد.
وأما بقية الأويراتية فإنه كتب إلى سنجر الدواداري أن ينزلهم ببلاد الساحل، فمر بهم على مرج دمشق، وأخرجت الأسواق إليهم فنصبت بالمرج وبمنزلة الصنمين وفي الكسوة، و لم يمكن أحد من الأويرايتة أن يدخل مدينة دمشق. وأنزلوا من أراضي عثليث ممتدين في بلاد الساحل، وأقام الأمير سنجر عندهم إلى أن حضر السلطان إلى الشام.
وقد هلك منهم عالم كبير، وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكثرت الرغبة فيهم لجمالهم، وتزوج الناس ببناتهم، وتنافس الأمراء والأجناد وغيرهم في صبيانهم وبناتهم، ثم انغمس من بقي منهم في العساكر، فتفرقوا في الممالك، ودخلوا في الإسلام واختلطوا بأهل البلاد.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى: استقر في قضاء القضاة بديار مصر تقي الدين محمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد الشافعي، بعد وفاة قاضي القضاة ذي الرياستين تقي الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة ذي الرياستين تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز.

وفي هذه السنة: اشتد الغلاء، وبلغ سعر الأردب القمح المصري إلى مائة وثمانين درهما، والشعير تعدي الأردب منه مائة درهم، والفول بنحو تسعين درهما الأردب. وبلغ الترس ستين درهما الأردب بعد خمسة دراهم، وأبيع الخبز كل رطل بدرهم نقرة، وأبيع الفروج بعشرين درهما بعد ثلاثة دراهم. وذبحت فراريج للمرضى ثم وزن لحمها فوقف كل وزن درهم منها بدرهم فضة، وأبيعت بطيخة صيفية للمرضى بمائة درهم فضة، وأبيع الرطل منه بأربعة دراهم. وأبيعت سفرجلة بثلاثين درهما، وكل رطل لحم بسبعة دراهم، وكل سبع حبات من بيض الدجاح بدرهم، و لم يزد سعر القمح في بلاد الصعيد الأعلى على خمسة وسبعين درهما الأردب.
وهلك معظم الدواب لعدم العلف حتى لم توجد دابة للكراء، وهلكت الكلاب والقطاط من الجوع. وانكشف حال كثير من الناس، وشحت الأنفسي حتى صار أكابر الأمراء يمنعون من يدخل عليهم من الأعيان عند مد أسمطتهم. وكثر تعزير محتسب القاهرة ومصر لبياعي لحوم الكلاب والميتات، ثم تفاقم الأمر فأكل الناس الميتة من الكلاب والمواشي وبني آدم، وأكل النساء أولادهن الموتى. ورأي بعض الأمراء بباب داره امرأة لها هيئة حسنة وهي تستعطي، فرق لها وأدخلها داره فإذا هي جميلة، فأحضر لها رغيفا وإناء مملوءاً طعاماً أكلته كله ولم تشبع، فقدم إلها مثله فأكلته وشكت الجوع، فما زال يقدم لها وهي تأكل حتى اكتفت، ثم استندت إلى الحائط ونامت، فلما حركوها وجدت ميتة، فاخذوا من كتفيها جرابا فلفوا فيه يد إنسان صغير ورجله، فأخذ الأمير ذلك وصعد به القلعة وأراه السلطان والأمراء.
ثم إن الأسعار انحلت في شهر رجب، حتى أبيع الأردب القمح بخمسة وثلاثين درهما، والشعير بخمسة وعشرين درهما الأردب.
وأما النيل فإنه توقف، ثم وفي ستة عشر ذراعا وكسر الخليج، فنقص في يوم عيد الفطر بعد الكسر نقصا فاحشا ثم زاد. فتزايد السعر وساءت ظنون الناس، وكثر الشح وضاقت الأرزاق ووقفت الأحوال، واشتد البكاء وعظم ضجيج الناس في الأسواق من شدة الغلاء.
وتزايد الوباء بحيث كان يخرج من كل باب من أبواب القاهرة في كل يوم ما يزيد على سبعمائة ميت، ويغسل في الميضأة من الغرباء الطرحاء في كل يوم نحو المائة والخمسين ميتا، ولا يكاد يوجد باب أحد من المستورين بالقاهرة ومصر إلا ويصبح على بابه عدة أموات قد طرحوا حتى يكفنهم، فيشتغل نهاره. ثم تزايد الأمر فصارت الأموات تدفن بغير غسل ولا كفن، فإنه يدفن الواحد في ثوب ثم ساعة ما يوضع في حفرته يؤخذ ثوبه حتى يلبس لميت آخر، فيكفن في الثوب الواحد عدة أموات.
وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتهم وقلة من يحفر لهم، فعملت حفائر كبار ألقيت فيها الأموات من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرة، ثم تطم بالتراب. وانتدب أناس لحمل الأموات ورميهم في الحفر، فكانوا يأخذون عن كل ميت نصف درهم، فيحمله الواحد منهم ويلقيه إما في حفرة أو في النيل إن كان قريباً منه. وصارت الولاة بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلقون الميت بيديه ورحليه من الجانبين، ويرمي في الحفر بالكيمان من غير غسل ولا كفن، ورمي كثير من الأموات في الآبار حتى تملأ ثم تردم.
ومات كثير من الناس بأطراف البلاد فبقي على الطرقات حتى أكلته الكلاب، وأكل كثيراً منها بنو آدم أيضاً وحصر في شهر واحد من هذه السنة عدة من مات ممن قدر على معرفته، فبلغت العدة مائة ألف وسبعة وعشرين ألف إنسان، وعظم الموتان في أعمال مصر كلها حتى خلت القرى.
وتأخر المطر ببلاد الشام حتى دخل فصل الشتاء ليلة الخميس سادس صفر وهو سادس عشر كانون الأول ولم يقع المطر، فتزايدت الأسعار في سائر بلاد الشام. وجفت المياه، فكانت الدابة تسقي بدرهم شربة واحدة، ويشرب الرجل بربع درهم شربة واحدة، و لم يبق عشب ولا مرعي. وبلغ القمح كل غرارة في دمشق بمائة وسبعين درهما، والخبز كل رطل وأوقتين بدرهم، واللحم كل رطل بأربعة دراهم ونصف ثم إن الشيخ شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري قرأ صحيح البخاري تحت قبة النسر بالجامع الأموي بدمشق في يوم الأحد تاسع صفر، فسقط المطر في تلك الليلة واستمر عدة أيام وعقبه ثلج، فسر الناس، إلا أن الأسعار تزايدت، ثم انحطت. واشتد الغلاء بالحجاز، حتى أبيعت الغرارة القمح في مكة بألف ومائتي درهم.

وفي رجب: وقعت صاعقة على قبة زمزم، فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن الحرم وهو يؤذن على سطح القبة.
وفيها قدمت أم الملك العادل سلامش بن السلطان الملك الظاهر بيبرس من بلاد القسطنطينية إلى دمشق في حادي عشر رمضان، وسارت إلى القاهرة في ثامن عشره. وفيها مات الملك السعيد إيلغازي بن المظفر فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين، فكانت أيامه قريباً من ثلاث سنين، وقام من بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين عازي.
وفي يوم السبت سابع عشر شوال: خرج السلطان من قلعة الجبل بعساكر مصر يريد الشام، واستخلف الأمير شمس الدين كرتيه في نيابة السلطنة، وولده الملك المجاهد أنص. فدخل دمشق في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وحمل الأمير بيسري الجتر على رأسه.
وفيه استقر تقي الدين سليمان في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شرف الدين حسن بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي بحكم وفاته في ثاني عشري شوال.
ولما استقر السلطان بدمشق خلع في سادس عشره على الأمراء وأهل الدولة، وشرع الصاحب فخر الدين الخليلي في مصادرات أهل دمشق من الولاة والشادين ورسم على سنقر الأعسر شاد الدواوين، وعزل أسندمر كرجي وإلى البر، وولي عوضه علاء الدين ابن الجاكي، وألزم الأعسر وسائر المباشرين بأموال جزيلة.
وفي رابع عشريه: قدم الملك المظفر صاحب حماة إلى دمشق، فتلقاه السلطان وأكرمه وخرج عسكر كبير إلى حلب.
وفي يوم الجمعة ثامن عشريه: صلى السلطان بالجامع الأموي، وخلع على خطيبه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.
وفي يوم الإثنين ثاني ذي الحجة: عزل الأمير عز الدين أيبك الحموي عن نيابة دمشق، ووقعت الحوطة على خيوله وأمواله، واستقر في نيابة دمشق الأمير سيف الدين أغرلو العادلي، وعمره نحو الثلاثين سنة، واستقر أيبك الحموي نائب دمشق على إقطاع أغرلو بديار مصر، وخلع عليه.
وفي ثامنه: استقر في وزارة دمشق عوضاً عن تقي الدين توبة وكيل السلطان شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطاء الأذرعي الحنفي محتسب دمشق.
وفي ثاني عشره: خرج السلطان إلى حمص ليتصيد، فدخلها في تاسع عشره، وحضر إليه نائب حلب وبقية النواب. وانسلخت هذه السنة والسلطان على جوسية من قرى حمص بمخيمه، وكان قد اشتراها.
وفيها ولي الشريف شمس الدين محمد بن شهاب الدين الحسين بن شمس الدين محمد قاضي العسكر نقابة الأشراف بديار مصر، بعد وفاة الشريف عز الدين أحمد بن محمد ابن عبد الرحمن الحلبي واستقر في قضاء الحنابله بدمشق تقي الدين أبو الفضل ابن عبد الرحمن الحلبي سليمان بن حمزة بعد موت شرف الدين حسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر.
وفيها استقر الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر محمد بن عمر بن على مملكة اليمن، بعد موت أخيه الأشرف ممهد الدين عمر.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك الأشرف عمر بن المظفر محمد بن المنصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، وقد قارب سبعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة ذو الرياستين تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز العلامي الشامي بالقاهرة عن.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق شرف الدين أبو الفضائل الحسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد بن الحسن بن محمد بن قدامة المقدسي بدمشق، عن سبع وخمسين سنة.
وتوفي العلامة زين الدين أبو البركات المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي، عن نحو خمس وستين سنة بدمشق.
وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن هبة الله ابن طارق بن سلامة بن النحاس الآمدي الحلبي الحنفي، بدمشق عن إحدى وثمانين سنة، وكانت قد انتهت إليه مشيخة فقه الحنفية، وولي قضاء حلب ثم وزارة دمشق.
وتوفي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي، بدمشق عن خمس وثمانين سنة.
وتوفي المقرىء الزاهد شرف الدين أبو الثناء محمد بن أحمد بن مبادر بن ضحاك التاذفي بدمشق عن إحدى وسبعين سنة.
وتوفي السراج أبو حفص عمر بن محمد بن الحسن الوراق الشاعر، عن نحو سبعين سنة.

وتوفي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود الشافعي الفقيه الأديب، بمصر.
؟

سنة ست وتسعين وستمائة
في ثاني المحرم قدم السلطان من حمص إلى دمشق.
وفي يوم الجمعة رابعه: صلى صلاة الجمعة بالجامع الأموي، وأخذ قصصاً كثيرة رفعت إليه، ورأي بيد رجل قصة فتقدم إليه بنفسه ومشي عدة خطوات حتى أخذ القصة منه بيده.
وفي سابع عشره: أنعم على الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك السعيد بن الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب بإمرة طبلخاناه بدمشق.
وفي حادي عشريه: قبض على الأمير أسندمر كرجي، واعتقل بقلعة دمشق، وعزل سنقر الأعسر عن شد الدواوين بدمشق، واستقر عوضه الأمير فتح الدين عمر بن محمد ابن صبرة.
وفي بكرة يوم الثلاثاء ثاني عشريه: رحل السلطان من دمشق بعساكره يريد القاهرة، وقد توغرت صدور الأمراء وتواعدوا على الفتك به. فسار إلى أن نزل بالعوجاء قريباً من الرملة، وحضر الأمراء عنده بالدهليز، فأمر بإحضار الأمير بيسري فطلب طلبا حثيثاً، فلما حضر لم يقم له على عادته، وأغلظ له في الكلام ونسبه إلى أنه كاتب التتار، فكانت بينهما مفاوضة، ثم نهض السلطان، وانفض الأمراء وقد حرك منهم ما كان عندهم كامناً.
فاجتمعوا عند الأمير حسام لاجين النائب وفيهم بيسري، وسألوه عما كان من السلطان في حق فقال: إن مماليك السلطان كتبوا عنك كتباً إلى التتار، وأحضروها إليه وقالوا إنك كتبتها، ونيته القبض عليك إذا وصل إلى مصر، وأن يقبض على أيضاً وعلى أكابر الأمراء، ويقدم مماليكه. فأجمعوا عند ذلك على مبادرة السلطان، فركبوا يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم وقت الظهر: وهم لاجين بيسري وقرا سنقر وقبجاق والحاج بهادر الحاجب في آخرين، واستصحبوا معهم حمل نقارات وساقوا ملبسين إلى باب الدهليز، وحركت النقارات حربياً. فركب عدة من العادلية واقتتلوا، فتقدم تكلان العادلي فضربه الأمير لاجين في وجهه ضربة أخذت منه جانباً كبيراً، وجرح تكلان فرس لاجين وقتل الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق العادلي في خيمته، وقتل الأمير سيف الدين بتخاص العادلي، وقد فر إلى الدهليز فأدركوه بباب الدهليز فقتلوه، وجرحوا عدة من المماليك العادلية. فلم يثبت العادل، وخرج من ظهر الدهليز، وركب فرس النوبة ببغلطاق صدر، وعبر على قنطرة العوجاء يريد دمشق من غير أن يفطن به أحد، و لم يدركه سوي خمسة من مماليكه. وهجم لاجين على الدهليز فلم يجد العادل وبلغه أنه فر، فساق خلفه فلم يدركه ورجع إلى الدهليز، فلما عاينه الأمراء ترجلوا له ومشوا في ركابه حتى نزل. فكانت مدة كتبغا، منذ جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة، وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجاء في يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، سنتين وسبعة عشر يوما.
السلطان حسام الدين لاجينالسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصووي المعروف بالصغير

كان أولا من جملة مماليك الملك المنصور علي بن الملك المعز أيبك، فلما خلع اشتراه الأمير سيف الدين قلاوون وهو أمير بسبعمائة وخمسين درهما، من غير مالك شرعي، فلما تبين له أنه من مماليك المنصور اشتراه مرة ثانية، بحكم بيع قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز له عن المنصور وهو غائب ببلاد الأشكري. وعرف حين بيعه بشقير، فربي عند قلاوون وقيل له لاجين الصغير، وترقى في خدمته من الأوشاقية إلى السلاح دارية. ثم أمره قلاوون واستنابه بدمشق لما ملك، وهو لا يعرف إلا بلاجين الصغير، فشكرت سيرته في النيابة، وأحبته الرعية لعفته عما في أيديهم، فلما ملك الأشرف خليل بن قلاوون قبض عليه وعزله عن نيابة دمشق، ثم أفرج عنه وولاه إمرة السلاح دار كما كان قبل استنابته على دمشق. ثم بلغه أن الأشرف يريد القبض عليه ثانياً، ففر من داره بدمشق، فقبض عليه وحمل إلى قلعة الجبل، وأمر بخنقه قدام السلطان. ثم نجا من القتل بشفاعة الأمير بدر الدين بيدرا، وأعيد إلى الخدمة على عادته، واشترك مع بيدرا في قتل الأشرف خليل، كما تقدم ذكره. ثم اختفى خبره مدة، وتنقل في المدن إلى أن تحدث الأمير زين الدين كتبغا في أمره، فعفى عنه وأعيد إلى إمرته كما كان. فلما صار زين الدين كتبغا سلطانا، استقر لاجين في نيابة السلطنة بديار مصر، إلى أن ركب على كتبغا وفر منه، فنزل بالدهليز من العوجاء وقيل من اللجون.
واجتمع الأمراء عنده، وهم بدر الدين بيسري الشمسي، وشمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قبجاق، وسيف الدين بهادر الحاج أمير حاجب، وسيف الدين كرد، وحسام الدين لاجين السلاح دار الرومي أستادار، وبدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، وعز الدين أيبك الخازندار، وجمال الدين أقوش الموصلي، ومبارز الدين أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار، وسيف الدين سلار، وسيف الدين طغي، وسيف الدين كرجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين برلطاي في آخرين، حتى حملت الخزائن على البغال ورمي الدهليز. وساروا في خدمة لاجين إلى قريب المغرب، ونزلوا قريباً من يازور وحضروا بأجمعهم بين يدي لاجين واتفقوا على سلطنته، وشرطوا عليه أن يكون معهم كأحدهم، ولا ينفرد برأي دونهم، ولا يبسط أيدي مماليك ولا يقدمهم، وحلفوه على ذلك. فلما حلف قال له الأمير قبجاق المنصوري: نخشى أنك إذا جلست في منصب السلطنة تنسى هذا الذي تقرر بيننا وبينك، وتقدم مماليك وتخول مملوكك منكوتمر علينا، فيصيبنا منه ما أصابنا من مماليك كتبغا. وكان منكوتمر مملوك لاجين، وكان يوده ويؤثره، وله عنده مكانة متمكنة من قلبه. فحلف لاجين مرة ثانية أنه لا يفعل ذلك، ولا يخرج عما التزمه وشرطوه عليه، فحلف له الأمراء وأرباب الدولة. وتلقب بالملك المنصور، وركب بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء سابع عشرى المحرم، وبات تلك الليلة ورحل إلى سكرير ومنها إلى غزة يريد الديار المصرية، فلما دخل غزة حمل الأمير بيسري الجتر على رأسه، فخطب له بغزة والقدس وصفد والكرك ونابلس، وضربت بها البشائر.
وهذا وقد ركب البريد من غزة، وساق الأمير سيف الدين سلار البريد إلى قلعة الجبل ليحلف من بها من الأمراء. ورسم السلطان لاجين في غزة بمسامحة أهل مصر والشام بالبواقي، ثم سار منها في يوم الخميس أول صفر. ونزل ظاهر بلبيس في ثامنه، وقد خرج إليه أمراء مصر وحلفوا له، ثم سار منها ضحوة وبات مسجد تبر، وركب بكرة يوم الجمعة تاسعه إلى قلعة الجبل. ثم ركب إلى الميدان السلطاني بشعار السلطة على العادة، وشق القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة، وعليه الخلعة الخليفتية وهي جبة سوداء بزيق وأكمام واسعة والتقليد محمول بين يديه، حتى عاد إلى القلعة والخليفة إلى جانبه، وذلك في يوم الخميس خامس عشره.
وفي يوم قدومه انحطت الأسعار إلى نصف ما هي عليه، فسر الناس به، فإن القمح كان أربعين درهما الأردب إلى ما دونها، فأبيع بعشرين، وكان الشعير بثلاثين درهما الأردب، فأبيع بعشرة، وكان الرطل اللحم بدرهم ونصف، فأبيع بدرهم وربع، ودرت الأرزاق وكثر الخير.

وفوض السلطان لاجين نيابة السلطة بديار مصر إلى الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، واستمر بالصاحب فخر الدين بن الخليلي في الوزارة، وجعل الأمير سيف الدين سلار أستادارا، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار أمير جاندار، والأمير سيف الدين بهادر الحاج حاجبا، والأمير سيف الدين قبجاق المنصوري نائب الشام، ومنع الوزير من الظلم وأخذ المواريث بغير حق، وألا يطرح البضائع على التجار، فكثر الدعاء له.
وأما كتبغا فإنه قدم قبله إلى دمشق أمير شكاره وهو مجروح، ليعلم الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصل في يوم الأربعاء سلخ المحرم، فكثر بدمشق القال والقيل، وألبس أغرلو العسكر السلاح ووقفوا خارج باب النصر. فوصل كتبغا في أربعة أنفس قبل الغروب وصعد القلعة، وحضر إليه الأمراء والقضاة وجددت له الأيمان، ثم أوقع الحوطة على أموال لاجين. وقدم في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفة من المماليك العادلية، وجلس شهاب الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعة، ورتب الأمور وأحوال السلطنة. فاشتهرت بدمشق سلطنة لاجين في يوم ثالث عشره، وأن البشائر دقت بصفد ونابلس والكرك. فصار كتبغا مقيماً بقلعة دمشق لا ينزل منها، وبعث الأمير سيف الدين طقصبا الناصري في جماعة لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصحة سلطنة لاجين. فأمر كتبغا جماعة من دمشق، وأبطل عدة مكوس في يوم الجمعة سادس عشره، وكتب بذلك توقيعاً قرئ بالجامع.
فبعث الملك المنصور لاجين من مصر الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمته. فوصل إلى ظاهر دمشق في رابع عشره، وأقام ثلاثة أيام، وفرق عدة كتب على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبة عنها، وحلف الأمراء. وسار إلى قارا وكان بها عدة أمراء مجردين فحلفهم وحلف عدة من الناس، وكتب بذلك كله إلى مصر. وسار إلى لد، فأقام بها في جماعة كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلم كتبغا بشيء من ذلك.
فلما كان يوم السبت رابع عشريه: وصل الأمير سيف الدين كجكن وعدة من الأمراء كانوا مجردين بالرحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريباً من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور لاجين، وراسلوا الأمراء بدمشق فخرجوا إليهم طائفة بعد طائفة. وانحل أمر كتبغا، فتدارك نفسه وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور خوشداشي، وأنا في خدمته وطاعته، وأنا أكون في بعض القاعات بالقلعة إلى أن يكاتب السلطان ويرد جوابه بما يقتضيه فيأمري فأدخله الأمير جاغان الحسامي مكاناً من القلعة. واجتمع الأمراء بباب الميدان، وحلفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعة ورتب بها من يحفظ كتبغا، وغلقت أبواب دمشق كلها إلا باب النصر، وركب العسكر بالسلاح ظاهر دمشق، وأحاط جماعة بالقلعة خوفا من خروج كتبغا وتحيزه في جهة أخرج. وكثر كلام الناس واختلفت أقوالهم، وعظم اجتماعهم بظاهر دمشق حتى أنه سقط في الخندق جماعة لشدة الزحام فيما بين باب النصر وباب القلعة، فمات نحو العشرة.
واستمر الحال على هذا يوم السبت المذكور، ثم دقت البشائر بعد العصر على القلعة وأعلن بالدعاء للملك المنصور، ودعي له على المآذن في ليلة الأحد، وضربت البشائر على أبواب الأمراء. وفتحت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراء والقضاة بدار السعادة وحلفوا الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور. وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس تاسع عشريه، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مظلمة فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
وفي يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول: خطب بدمشق للملك المنصور.
فلما كان يوج الجمعة ثامنه: وصل الأمير حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلف الأمراء، فحلفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسعه، وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور باستقراره في الملك وجلوسه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماع الكلمة عليه وركوبه بالتشاريف الخليفتية والتقليد بين يديه من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.

وفي يوم الإثنين حادي عشره: وصل الأمير جاغان الحسامي من مصر، وحلف كتبغا يميناً مستوفاة مغلظة بحضرة الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير سيف الدين كجكن، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة على أنه في طاعة الملك المنصور وموافقته، وقد أخلص النية له ورضي بالمكان الذي عينه له وهو قلعة صرخد وأنه لا يكاتب ولا يشاور ولا يستفسد أحداً.
وفيه استقر تقي الدين توبة في وزارة دمشق، واستقر أمين الدين بن هلال في نظر الخزانة، عوضاً عن تقي الدين توبه، واستقر الشيخ أمين الدين يوسف الرومي في حسبة دمشق.
وفي سادس عشره: وصل الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب دمشق من مصر، ونزل بدار السعادة على عادة النواب.
وفي ليلة الثلاثاء تاسع عشره: خرج كتبغا من قلعة دمشق إلى قلعة صرخد ومعه مماليكه، وجرد من دمشق معه نحو المائتي فارس ساروا به حتى عبر قلعة صرخد ثم رجعوا، فكانت مدة مفارقته الدهليز من العرجاء إلى أن خلع نفسه بدمشق في يوم السبت رابع عشري صفر أربعة وثلاثين يوما، وجهز إليه ابنه أنص وأهله.
ووصل إلى دمشق نحو ستمائة تشريف فرقت على الأمراء والقضاة والأعيان، ولبسوها يوم الإثنين ثاني شهر ربيع الآخر.
وأفرج الملك المنصور عن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجعله أحد الأمراء، وعن الأمير سيف الدين برلغي وبعثه إلى دمشق على إمرة بها، وعن الأمير سيف الدين اللقماني، وعن جماعة من المماليك السلطانية الذين كانوا بدمياط والإسكندرية وبخزانة البنود من القاهرة وبخزانة شمايل. فكان لهم يوم مشهود، فإنه كان فيهم خمسة وعشرون أميراً، أنعم على جميعهم وخلع عليهم.
وفيها أمر السلطان لاجين جماعة من مماليكه، فأعطى مملوكه سيف الدين منكوتمر إمرة، ومملكوه علاء الدين أيدغدي شقير إمرة، ومملوكه سيف الدين جاغان إمرة، ومملوكه سيف بهادر المعزي إمرة.
وتقدم السلطان إلى الأمير علم الدين الدواداري بعمارة الجامع الطولوني، وعين لذلك عشرين ألف دينار عينا، فعمره وعمر أوقافه، وأوقف منية أندونة من الأعمال الجيزية عليه، ورتب فيه درس تفسير ودرس حديث نبوي، وأربعة دروس فقه على المذاهب الأربعة، ودرساً للطب وشيخ ميعاد ومكتب سبيل لقراءة الأيتام القرآن.
وسبب ذلك إنه لما هرب في وقعة بيدرا من بر الجيزة واختفى بمنارة الجامع الطولوني وكان إذ ذاك مهدوراً لا يوقد به سوى سراج واحد في الليل، ولا يؤذن أحد بمنارته، وإنما يقف شخص على بابه ويؤذن فأقام به مدة لم يظهر خبره، فأراد أن يكون من شكر نعمة الله عليه عمارة هذا الجامع فعمر، وهو الآن بحمد الله عامر بعمارته له.
وفيها كتب السلطان لاجين إلى الأشكري بالقسطنطنية أن يجهز أولاد الملك الظاهر بيبرس إلى القاهرة مكرمين، فجهز الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته وحرمه، وكان الملك العادل بدر الدين سلامش قد مات بالقسطنطنية سنة تسعين وستمائة، فأحضر في تابوت مصبرا، فدفن بقرافة مصر. وقدم الملك السعيد خضر إلى السلطان، وسأل الإذن بالحج، فأذن له وسافر مع الركب.
وفيها نقل الخليفة الحاكم بأمر الله من البرج بقلعة الجبل إلى مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني، وأجرى له ما يكفيه. وبعث إليه الملك المنصور بمال سني، وصار يركب مع السلطان في الموكب.

وفيها قدم من قضاة دمشق وأعيانها جماعة، منهم قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي الرومي، فولاه السلطان قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي، وعامله من الإكرام. مما لم يعامل به أحدا، وأقر ولده جلال الدين أبا المفاخر على قضاء القضاة الحنفية بدمشق. وقدم أيضاً قاضي القضاة إمام الدين عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الكريم القزويني الشامي - أنوشروان فعرض السلطان عليه قضاء القضاة بديار مصر، فلم يقبل واختار دمشق، فولاه قضاء القضاة بدمشق في رابع جمادى الأولى، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر ابن جماعة في خطابة جامع دمشق وتدريس القيمرية بها. وقدم أيضاً قاضي القضاة جمال الدين يوسف الزواوي المالكي، فأعيد إلى ولايته بدمشق، وخلع عليه وعلى إمام الدين القزويني، فعادا إلى دمشق في ثامن شهر رجب. وقدم أيضاً عز الدين حمزة بن القلانسي، فأكرمه السلطان وخلع عليه، واستعاد له من ورثة الملك المنصور قلاوون، ما كان قد أخذ منه، وعاد إلى دمشق في خامس عشري رمضان.
وفيها ظهر بأرض مصر فأر كثير أتلف الزروع، حتى لم يؤخذ منه إلا اليسير. وعزل الأمير فتح الدين عمر بن صبرة عن شد الدواوين بدمشق، واستقر عوضه الأمير سيف الدين جاغان الحسامي في ثامن عشر رجب.
وفي هذه السنة: طلب السلطان الأمير سنقر الأعسر من دمشق في شهر رجب، فركب البريد إلى القاهرة. ولما حضر أكرمه السلطان وجعله من أمراء مصر، ثم ولاه الوزارة بديار مصر في سادس عشريه، وسلمه الصاحب فخر الدين بن الخليلي، فألزمه بمائة ألف دينار وقبض على أتباعه. واشتدت حرمته وعظمت مهابته، فلا يراجع ولا يخاطب إلا جوابا.
وفيها توقف النيل عن الزيادة قبل الوفاء، فتزايد السعر، وبلغ في ذي القعدة الأردب القمح خمسة وأربعين درهماً، ثم انحل السعر.
وفي يوم الثلاثاء النصف من ذي القعدة: قبض على الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة، وعلى جماعة من الأمراء واعتقلوا، وأحيط بموجود قراسنقر الذي بمصر والشام، وضرب كاتبه شرف الدين يعقوب حتى مات تحت الضرب، وضيق على نوابه ودواوينه. وأراد السلطان إقامة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي في نيابة السلطنة، فعارضه الأمراء وغضبوا من منكوتمر، فشق ذلك عليه وأراد تفريقهم، فبعث طغريل الإيغاني إلى الكشف بالشرقية. وسنقر المساح إلى كشف الغربية، وبيسري إلى كشف الجيزة، ثم قبض على قراسنقر النائب والحاج بهادر وعز الدين أيبك الحموي وسنقر شاه الظاهري والأقوش وعبد الله وكوري والشيخ علي، وقيدوا وولي منكوتمر النيابة من غد مسكهم في عشري ذي القعدة واستقر في نيابة السلطنة.
وفيه ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة، فتقنطر عن الفرس وانكسر أحد جانبي يده اليمني، وتهشم بعض أضلاعه وانصدعت رجله. وخيف عليه، فكسر المجبرون عظم الجانب الآخر من يده حتى يتم لهم الجبر، فإنه قصر عن الجانب الآخر، وكان قد توقف السلطان عن موافقتهم، فقال الوزير سنقر الأعسر: أنا حصل لي مثل هذا، فلما احتجت إلى كسر النصف الآخر ضربته بدقماق حديد، فانكسر ثم جبر وكلمه بجفاء وغلظة واستخفاف من غير أدب فاحتمل السلطان ذلك منه، وأجاب المجبرين لما قصدوه، وأسر لسنقر الأعسر في نفسه.
فلما كان في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة: قبض عليه، ولم يول أحدا غيره.
وفي هذه السنة: كان الأردب القمح من أربعين درهما إلى خمسين، والأردب الشعير بثلاثين، واللحم بدرهمين ونصف الرطل. فنزل القمح إلى عشرين، والشعير إلى عشرة دراهم، واللحم إلى درهم وربع.
وفيها كتب بمسامحة أهل النواحي. مما عليهم من بواقي الخراج المنكسرة.
وفي هذه السنة: منع السلطان من لبس الكلفتاه الزركش والطرز الزركش والأقبية الحرير العظيمة الثمن، واقتصد هو وخواصه في الملبس. وجلس بدار العدل يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين، وأعرض عن اللهو جملة ومقت من يعاينه، وصام شهري رجب وشعبان، وتصدق في السر.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي القضاة الحنبلي عز الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي عن خمس وستين سنة بالقاهرة في صفر.

وتوفي قاضي الحنفية بحلب تاج الدين أبو المعالي عبد القادر بن عز الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الكرم بن عبد الرحمن علوي، عن ثلاث وسبعين سنة بحلب، وهو معزول.
وتوفي ضياء الدين أبو المعالي محمد بن عمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي وزير حماه عن ثمان وسبعين سنة بحلب.
وتوفي جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الظاهري الحلبي الحنفي شيخ الحديث، عن سبعين سنة، بزاويته خارج القاهرة في ربيع الأول.
وتوفي عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن مزروع البصري الحنبلي بالمدينة النبوية عن إحدى وسبعين سنة، بعدما جاور بها خمسين سنة.
وتوفي الأديب سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر السامري بدمشق عن ست وسبعين سنة، وكان هجاء.
وتوفي الشريف الحافظ عز الدين أبو القاسم أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن محمد الحسيني، المعروف بابن الحلبي، نقيب الأشراف بديار مصر في ومولده سنة ست وثلاثين.
سنة سبع وتسعين في ستمائةفيها قدم الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس من بلاد الأشكري إلى القاهرة، بشفاعة أخته امرأة السلطان الملك المنصور لاجين، ومعه أمه وأخوه الملك العادل سلامش وقد مات وصبر، فدفن سلامش بالقرافة. وكان السلطان قد احتفل لقدومهم، وأخرج الأمراء إلى لقائهم وبالغ في إكرامهم، وأجرى على الملك المسعود الرواتب وجهزه للحج.
وفيه توجه الأمير سيف الدين سلار أستادار إلى الكرك، وأحضر ما كان بها من الأموال، وقدم معه الأمير جمال الدين أقش نائب الكرك، فخلع عليه وأعيد إلى نيابته.
وفي حادي عشري صفر: ركب السلطان، بعدما انقطع لما به من كسر يده نحو الشهرين، ونزل إلى الميدان، ودقت البشائر، وزينت القاهرة ومصر، وكتب بالبشائر إلى الأعمال بذلك. وكان يوم ركوبه من الأيام المشهودة، اجتمع الناس لرؤيته من كل مكان، وأخذ أصحاب الحوانيت من كل شخص أجرة جلوسه نصف درهم فضة، واستأجر الناس البيوت بأموال جزيلة فرحا به، فإنه كان محبباً إلى الناس. وعاد السلطان من الميدان، فألبس الأمراء، وفرق الصدقات في الفقراء، وأفرج عن المحابيس.
وفي هذا الشهر: استدعى السلطان قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي، وصي الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقال له: الملك الناصر ابن أستاذي، وأنا قائم في السلطنة كالنائب عنه إلى أن يحسن القيام بأمرها، والرأي أن يتوجه إلى الكرك وأمره بتجهيزه. ثم قال السلطان للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو علمت أنهم يخلوك سلطانا والله تركت الملك لك، لكنهم لا يخلونه لك وأنا مملوكك ومملوك والدك، احفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وترتجل وتتحرج وتجرب الأمور وتعود إلى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة فيها. فقال له الناصر: فاحلف لي أن تبقي على نفسي وأنا أروح فحلف كل منهما على ما أراده الآخر. فخرج الناصر في أواخر صفر، ومعه الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأمير جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.

وفي يوم الإثنين سادسه: قبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وعلى الأمير شمس الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، والأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري، وسبب ذلك أن منكوتمر في مدة ضعف السلطان كان هو الذي يعلم عنه على التواقيع والكتب، وصار يخشى أن يموت السلطان ولم يكن له ولد ذكر، فيجعل بعده في السلطنة بيسري، وكان يكره منكوتمر. فحسن منكوتمر لمن خيل السلطان من ذلك وأن يعهد لأحد، فاقتضى رأيه أن يجعل الأمير منكوتمر ولي عهده، ويقرن اسمه باسمه في الخطبة والسكة، واستشار في ذلك الأمير بيسري فرده رداً خشناً، وقال: منكوتمر لا يجيء منه جندي، وقد أمرته وجعلته نائب السلطة، ومشيت الأمراء والجيوش في خدمته فامتثلوه رضاء لك، مع ما تقدم من حلفك ألا تقدم مماليكك على الأمراء ولا تمكنهم منهم، فما قنعت بهذا حتى تريد أن تجعله سلطانا، وهذا لا يوافقك أحد عليه ونهاه أن يذكر هذا لغيره وخوفه العاقبة، وانصرف عنه، فلشدة محبة السلطان في منكوتمر أعلمه بما كان من بيسري، فأسرها في نفسه وعاداه وأخذ يدبر عليه وعلى الأمراء، ويغري السلطان به وبهم.
واتفق مجيء الخبر بالحلف بين المغل، وخروج التجريدة إلى سيس، فلما تفرق الأمراء ولم يبق من يخافه منكوتمر توجه إلى الأمير بيسري. واستمال أستاداره بهاء الدين أرسلان بن بيليك حتى صار من خواصه، ورتبه فيما يقوله. ثم حسن منكوتمر للسلطان أن ينتدب بيسري لكشف جسور الجيزة، فتقدم له بذلك مع أنها غض منه، إذ محله أجل من ذلك، فلم يأب وخرج إلى الجيزة بمماليكه وأتباعه، وصار يحضر الخدمة السلطانية بالقلعة في يومي الإثنين والخميس، ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل تقدمه، ويعود إلى الجيزة حتى أتقن عمل الجسور.
فلما تكامل إتقان الجسور استأذن بيسري السلطان في عمل ضيافة له، فإذن في ذلك، فاهتم لها اهتماماً زائداً ليحضر إليه السلطان بالجيزة. فأمكنت الفرصة منكوتمر ووجد سبيلا إلى بيسري، فخدع أرسلان استادار بيسري ورتبه في كلام يقوله السلطان، ووعده بإمرة طبلخاناه. فانخدع أرسلان ودخل مع منكوتمر إلى السلطان، وقال له بأن بيسري رتب أنه يقبض عليك إذا حضرت لضيافته فتخيل السلطان من قوله.
واتفق أن بيسري بعث إلى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطاني، لينصبه السلطان في مكان المهم، فبعثه إليه من غير أن يعلم السلطان. فلما مر الدهليز على الجمال من تحت القلعة ليتوجهوا به إلى الجيزة رآه السلطان، فأنكر ذلك وبعث إلى منكوتمر يسأل منه.
فأنكر أن يكون له علم به، وقال: إنما بيسري استدعى به من مقدم الفراشين، وأخذه مماليكه من الفرش خاناه بغير إذن، وشرع يحتج لصدق ما قاله أرسلان بهذا. فرد السلطان الدهليز إلى الفرش خاناه، وغلب على ظنه صدق ما نقل له عن بيسري.

ولما وقع ذلك أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر، فبعث أحدهم وهو الأمير سيف الدين طقجي الأشرفي يعلم بيسري بما جرى، ويعده بأنه معه هو جماعة من الأمراء، فلم يلتفت إلى قوله. فبعث أرغون أحد ممالك السلطان إلى بيسري بالخبر على جليته، وحذره من الحضور إلى خدمة السلطان، وأنه إن حضر أن يكون على استعداد. فلما أراده الله حضر بيسري يوم الإثنين المذكور إلى الخدمة على العادة، فقام له السلطان على عادته وأجلسه بجانبه. فلما قدم السماط لم يأكل بيسري واعتذر بأنه صائم، فأمر السلطان برفع مجمع من الطعام برسم فطوره فرفع له، وأخذ يحادثه حتى رفع السماط. وخرج الأمراء وقام الأمير بيسري معهم، فلما مشى عدة خطوات استدعاه السلطان إليه وحدثه طويلا، وكان الحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج. ثم قام بيسري من عند السلطان ومشى خطوات، فاستدعاه السلطان ثانيا فعاد، وحدثه أيضاً حتى علم أن المجلس والدهاليز لم يبق بها أحد سوى مماليك السلطان فقط، فتركه. فقام بيسري ومشى، فاعترضه سيف الدين طقجي وعلاء الدين أيدغدي شقير، وعدلا به إلى جهة أخرى، وقبض أيدغدي شقير على سيفه وأخذه من وسطه، فنظر إليه طقجي وبكى، وجبذاه إلى القاعة الصالحية فاعتقل بها. فارتجت القلعة، وطار الخبر إلى القاهرة فأغلق باب زويلة وماج الناس، ثم فتح باب زويلة. ووقعت الحوطة على جميع موجوده، وقبض على جماعة من مماليكه ثم أفرج عنهم وأقام بيسري في القاعة مكرما، وحملت إليه امرأته وهي والدة أحمد بن السلطان الملك المنصور. فما زال معتقلا حتى مات. ومن العجب أن كلا من السلطان وبيسري أتى عليه في هذه من أخص أصحابه: فإن أرسلان ابن بدر الدين بيليك أمير مجلس، وكان بدر الدين هذا مملوكا للأمير بيسري، ورباه بيسري كالولد حتى كبر، وقدمه على أكابر مماليكه وعمله أستاداره، وبالغ في الإحسان إليه حتى أنه أعطاه في يوم واحد سبعين فرسا، وكان هو السبب في سلب نعمته كما ذكر. وأرغون كان أخص مماليك السلطان وأقربهم إليه، فأفشى سره إلى بيسري من حنقه لأن غيره من المماليك أخذ إمرة طبلخاناه وأعلى هو إمرة عشرة، فبقي في نفسه لذلك إحنة.
ولما قبض على بيسري والأمراء نفرت القلوب، وأكدت الوحشة موت عشرة أمراء في خمسة أيام، فاتهم السلطان بأنه سمهم.
وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر: أقيمت الخطة بالمدرسة المعظمية، بفسخ قاسيون خارج دمشق.
وفي سابع عشره: أعيد الصاحب فخر الدين عمر بن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي إلى الوزارة بديار مصر، فتتبع ألزام الأمير سنقر الأعسر، وأحض أستاداره سيف الدين كيكلدي من دمشق وأحاط بموجوده.
وفي جمادى الأولى: قبض السلطان على جماعة من أمراء مصر. وصرف بهاء الدين الحلي عن نظر الجيش، وأخذ خطه بألف ألف درهم، واستدعى عماد الدين، بن المنذر ناظر الجيش بحلب، واستكتب إلى أن حضر أمين الدين بن الرقاقي. وسبب ذلك أن ابن الحلي كان قد استشاره السلطان في تولية منكوتمر النيابة، فقال له: إن دولة السعيد ما أخربها إلا كوندك، ودولة الأشرف أخربها بيدرا، ودولة العادل تلفت بسبب مماليكه، ومنكوتمر شاب كبير النفس لا يرجع لأحد، ويخاف من تحكمه وقوع فساد كبير. فسكت عنه السلطان وأعلم منكوتمر بذلك، فأخذ منكوتمر يعاديه حتى إنه لما ولي النيابة ودخل عليه قال له: يا قاضي! هذا ببركة وعظك للسلطان فأطرق. وأخذ منكوتمر يغري السلطان به، ويذكر سعة أمواله. بمصر والشام، وأنه كثير اللعب. وكان ابن الحلي يحب بعض المماليك الخاصكية، فترصده منكوتمر حتى علم أنه عنده فأعلم بذلك السلطان، فأرسل إليه الطواشي المقدم في عدة نقباء، فهجموا على بستانه بالقرب من الميدان وأخذوه والمملوك، فسلم إلى الأمير أقوش الرومي، وقبض على حواشيه وأحيط بموجوده مصراً وشاماً.

وفيه قدم البريد بأن رجل من قرية جينين بالساحل ماتت امرأته، فلما دفنها وعاد إلى منزله تذكر أنه نسي في القبر منديلا فيه مبلغ دراهم، فأخذ فقيه القرية ونش القبر ليأخذ المال، والفقيه على شفير القبر، فإذا بالمرأة جالسة مكتوفة بشعرها ورجلاها أيضاً قد ربطا بشعرها، فحاول حل كتفها فلم يقدر، فأخذ يجهد نفسه في ذلك، فخسف به وبالمرأة إلى حيث لم يعلم لهما خبر فغشي على فقيه القرية مدة يوم وليلة. فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة وما قد كتب به من الشام فيها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، فوقف عليه وأراه الناس ليعتبروا بذلك.
وفيه قدم البريد من حلب بوقوع الخلف بين طقطاي وطائفة نغية حتى قتل منهم كثير من المغل، وانكسر الملك طقطاي، وأن غازان قتل وزيره نيروز وعدة ممن يلوذ به. فاتفق الرأي على أخذ سيس ما دام الخلف بين المغل، وأن يخرج الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح ومعه ثلاثة أمراء وعشرة آلاف فارس وكتب لنائب الشام بتجريد الأمير بيبرس الجالق وغيره من أمراء دمشق وصفد وطرابلس، وعرض الجيش. في جمادى الأولى. فلما تجهزوا سار الأمير بدر الدين بكتاش الفخري إلى غزاة سيس، ومعه من الأمراء حسام الدين لاجين الرومي الأستادار وشمس الدين أقسنقر كرتاي ومضافيهم، فدخلوا دمشق في خامس جمادى الآخرة، وخرج معهم منها الأمير بيبرس الجالق العجمي والأمير سيف الدين كجكن والأمير بهاء الدين قرا أرسلان ومضافيهم في ثامنه، وساروا بعسكر صفد وحمص وبلاد الساحل وطرابلس والملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة. فلما بلغ مسيرهم متملك سيس بعث إلى السلطان يسأله العفو، فلم يجبه.
ووصلت هذه العساكر إلى حلب، وجهز السلطان الأمير علم الدين سنجر الدواداري بمضافيه من القاهرة ليلحق بهم، فأدرك العساكر بحلب. وخرجوا منها بعسكر حلب إلى العمق، وهو عشرة آلاف فارس، فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش في طائفة من عقبة بغراس إلى اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون، وتوجه الملك المظفر صاحب حماة والأمير علم الدين سنجر الدوادراي والأمير شمس الدين أقسنقر كرتاي في بقية الجيش إلى نهر جهان، ودخلوا جميعاً دربند سيس في يوم الخميس رابع رحب. وهناك اختلفوا، فأشار الأمير بكتاش بالحصار ومنازلة القلاع، وأشار سنجر الدواداري بالغارة فقط، وأراد أن يكون مقدم العسكر، ومنع الأمير بكتاش من الحصار ومنازلة القلاع فلم ينازعه. فوافقه بكتاش وقطعوا نهر جهان للغارة، ونزل صاحب حماة على مدينة سيس، وسار الأمير بكتاش إلى أذنة، واجتمعت العساكر جميعها عليها بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن وساقوا الأبقار والجواميس. ثم عادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الغارة، وأقاموا عليها ثلاثة أيام حتى نصبوا جسراً مرت عليه العساكر إلى بغراس، ونزلوا بمرج أنطاكية ثلاثة أيام، ثم رحلوا إلى جسر الحديد يريدون العود إلى مصر.
وكان الأمير بكتاش لما نازعه الدواداري في التقدمة على العساكر، ومنعه من الحصار، قد كتب إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بذلك ليطالع به السلطان، فكتب بالخبر إلى السلطان. فورد الجواب إلى الأمراء بالإنكار على الدواداري في تقدمه على الأمير بكتاش، وكونه اقتصر على الغارة، وإنه لم يخرج إلا على مضافيه، وأن التقدمة على سائر العساكر للأمير بكتاش وأن العساكر لا ترجع إلا بعد فتح تل حمدون، وإن عادت من غير فتحها فلا إقطاع لهم بالديار المصرية.

فعادت العساكر من الروج إلى حلب وأقاموا بها ثمانية أيام، وتوجهوا إلى سيس من عقبة بغراس. وسار كجكن وقرا أرسلان إلى أياس وعادا شبه المنهزم، فإن الأرمن أكمنوا في البساتين، فأنكر عليهما الأمير بكتاش، فاعتزرا بضيق المسلك والتفاف الأشجار وعدم التمكن من العدو. ثم رحل بكتاش بجميع العساكر إلى تل حمدون، فوجدوها خالية وقد نزح من كان فيها من الأرمن إلى قلعة نجيمة فتسلمها في سابع رمضان وأقام بها من يحفظها، وسير الأمير بلبان الطباخي نائب حلب عسكرا فملكوا قلعة مرعش في رمضان أيضاً. وجاء الخبر إلى الأمير بكتاش وهو على تل حمدون بأن واديا تحت قلعة نجيمة وحميص قد امتلأ بالأرمن، وأن أهل قلعة نجيمة تحميهم، فبعث طائفة من العسكر إليهم فلم ينالوا غرضاً، فسير طائفة ثانية فعادت بغير طائل. فسار الأمراء في عدة وافرة وقاتلوا أهل نجيمة حتى ردوهم إلى القلعة، وزحفوا على الوادي وقتلوا وأسروا من فيه، ونازلوا قلعة نجيمة ليلة واحدة، وسار العسكر إلى الوطأة، وبقي الأمير بكتاش والملك المظفر في مقابلة من بالقلعة خشية أن يخرج أهل نجيمة فينالوا من أطراف العسكر، حتى صار العسكر بالوطأة، ثم اجتمعوا بها.
فقدم البريد من السلطان بمنازلة قلعة نجيمة حتى تفتح فعادوا إلى حصارها، واختلف الأمير بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها، فقال الدواداري: متى نازلها الجيش بأسره لا يعلم من قاتل ممن عجز وتخاذل، والرأي أن يقاتل كل يوم أمير بألفه. وأخذ يدل بشجاعته، ويصغر شأن القلعة، وقال: أنا آخذها في حجري فسلموا له واتفقوا على تقديمه لقتالها قبل كل أحد. فتقدم الدواداري إليها بألفه حتى لاحف السور، فأصابه حجر المنجنيق فقطع مشط رجله، وسقط عن فرسه إلى الأرض، وكاد الأرمن يأخذونه، إلا أن الجماعة بادرت وحملته على جنوبة إلى وطاقه، ولزم الفراش، فعاد إلى حلب، وسار منها إلى القاهرة، وقتل في هذه النوبة الأمير علم الدين سنجر طقصبا الناصري. وزحف في هذا اليوم الأمير كرتاي ونقب سور القلعة وخلص منه ثلاثة أحجار، واستشهد معه ثلاثة عشر رجلا. ثم زحف الأمير بكتاش وصاحب حماة ببقيه الجيش طائفة بعد طائفة، وكل منهم يردف الآخر حتى وصلوا إلى السور وعليهم الجنويات، وأخذوا في النقب وأقاموا الستائر، وتابعوا الحصار أحدا وأربعين يوماً.
وكان قد اجتمع بها من الفلاحين ونساء القرى وأولادهم خلق كثير، فلما قل الماء عندهم أخرجوا مرة مائتي رجل وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبيا، فقتل العسكر الرجال واقتسموا النساء والصبيان. ثم أخرجوا مرة أخرى مائة وخمسين رجلا ومائتي امرأة وخمسة وسبعين صبيا، ففعلوا بهم مثل ما فعلوا بمن تقدم. ثم أخرجوا مرة ثالثة طائفة أخرى، فأتوا على جميعهم بالقتل والسبي، حتى لم يتأخر بالقلعة إلا المقاتلة. وقلت المياه عندهم حتى اقتتلوا بالسيوف على الماء، فسألوا الأمان فأمنوا، وأخذت القلعة في ذي القعدة، وسار من فيها إلى حيث أراد. وأخذ أيضاً أحد عشر حصنا من الأرمن، ومنها النقير وحجر شغلان وسرقندكار وزنجفرة وحميص، وسلم ذلك كله الأمير بكتاش إلى الأمير سيف الدين أسندمر كرجي من أمراء دمشق، وعينه نائبا بها، فلم يزل أسندمر بها حتى قدم التتار، فباع ما فيها أنا آخذ عمن الحواصل ونزح عنها، فأخذها الأرمن.
ولما تم هذا الفتح عادت العساكر إلى حلب وكان الشتاء شديداً، فأقاموا بها. وبعث السلطان إليهم الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير عز الدين طقطاي، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، في ثلاثة آلاف فارس من عساكر مصر، فدخلوا دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، وساروا منها إلى حلب في عشريه، وأقاموا بها مع العسكر. وبعث متملك سيس إلى السلطان يسأل العفو.

وفي هذه السنة: كان الروك الحسامي، وذلك أن أرض مصر قد قسمت على أربعة وعشرين قيراطا، وأفرد منها للسلطان أربعة قراريط، وجعل للأمراء وبرسم الإطلاقات والزيادات عشرة قراريط، وجعل لأجناد الحلقة عشرة قراريط، فأراد السلطان الملك المنصور تغيير ذلك، وأن يجعل للأمراء وأجناد الحلقة أحد عشر قيراطا، ويستجد عسكرا بتسعة قراريط. فندب لروك أراضي مصر الأمير بدر الدين بيليك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري المعروف بالبريدي، وانتصب لهذا العمل جماعة من الكتاب، وكان المشار إليه فيهم تاج الدين عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة، وهو من مسالمة القبط، وممن يشار إليه في معرفة صناعة الكتابة، ويعتمد على قوله ويرجع إليه. فخرج الأمراء للروك، ومعهم الكتاب وولاة الأقاليم في سادس عشر جمادى الأولى.
وتقدم الأمير منكوتمر نائب السلطنة إلى التاج الطويل بأن يفرد للأمراء والأجناد عشرة قراريط، وأن يجعل القيراط الحادي عشر برسم من يتضرر من قلة عبرة خبزه. وأفرد لخاص السلطان الأعمال الجيزية والإطفيحية والإسكندرية ودمياط ومنفلوط وكفورها، وهو والكوم الأحمر من أعمال القوصية، وغير ذلك، وأفرد للنائب منكوتمر إقطاع عظيم من جملته مرج بني هميم وكفور، وسمهود وكفورها، وحرجة قوص، ومدينة أدفو وما في هذه النواحي من الدواليب، وكان متحصلها ينيف على مائة ألف أردب وعشرة آلاف أردب من الغلة، خارجا عن المال العين والقنود والأعسال، والتمر والأغنام والأحطاب. وكان في خاصه سبعة وعشرون معصرة لقصب السكر، سوى ما له من المشتريات والمتاجر، وما له ببلاد الشام من الضياع والعقار، وما يرد إلية من التقادم.
فلما انتهي الروك في ثامن رجب فرقت مثالات الأمراء.
وفي تاسعه: فرقت مثالات مقدمي الحلقة.
وفي عاشره: فرقت مثالات أجناد الحلقة. وأقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربستا، لم يستثن منها سوى الجوالي والمواريث الحشرية فإنها من جملة الخاص السلطاني، وسوى الرزق الأحباسية، وما عدا ذلك فإنه داخل في الإقطاع وحولت سنة ست وتسعين إلى سنة سبع وتسعين على العادة.
وتولى تفرقة المثالات على الأمراء والمقدمين السلطان، فبان له في وجوههم التغير لقلة العبرة، وهم بزيادتهم. فمنعه منكوتمر من فتح هذا الباب، وحذره أنه متى فتح باب الزيادة تعب، ولكن من تضرر من إقطاعه يحيله على منكوتمر، ففعل السلطان ذلك. وتولى تفرقة مثالات الأجناد منكوتمر، فجلس بشباك دار النيابة ووقف الحجاب بين يديه، وأعلى لكل تقدمة مثالا بها، فلم يجسر أحد أن يتكلم خوفا منه، فاستمر على ذلك أياماً.
وكانت الإقطاعات قد تناقصت عما كانت عليه في الدولة المنصورية قلاوون، فإن أقلها كان يتحصل منه عشرة آلاف درهم، وأكثرها ينيف على ثلاثين ألفا، فصار أكثرها يبلغ عشرين ألفا، فعمل في هذا الروك أكثر الإقطاعات يتحصل منه عشرة آلاف، فشق ذلك على الأجناد، وتجمعت طائفة منهم ورموا مثالاتهم، وقالوا: إنا لم نعتد بمثل هذا، فإما أن تعطونا ما يقوم بكفايتنا، وإلا فخذوا أخبازكم، وإما نخدم الأمراء، أو نقيم بطالين. فحنق منهم منكوتمر وأمر الحجاب فضربوهم، وأخذ سيوفهم وسجنهم، وبالغ في الفحش، وصار ينظر إلى الأمراء ويقول: أيما قواد يجيء يشتكي من خبزه ويقول أعرف السلطان، فإني أعرف إيش يقول السلطان، فإما أن يرضى يخدم وإلا فإلى لعنة الله. فعرف الأمراء أنه يعنيهم، فسكتوا على ضغن وبلغ السلطان ذلك عن منكوتمر فأنكر عليه، وأمره الزيادة في الإقطاعات فلم يفعل، وأقام الأجناد في السجن مدة أيام ثم أفرج عنهم. فكان هذا الروك أكبر الأسباب في زوال الدولة.
وفيها أنعم بطبلخاناه الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش بعد موته على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير آخور، وكان السلطان قبل ذلك قد أعطاه إمرة عشرة. واستقر سيف الدين كرت أمير آخور في نيابة طرابلس، بعد وفاة عز الدين أيبك الموصلي.
وفيها عدم الثلج بدمشق، وغارت العيون، وهلك أكثر الزرع وحفت أشجار البساتين.

وفيها بلغ سيف الدين جاغان شاد الدواوين بدمشق أن للأمير عز الدين الجناحي نائب غزة وديعة عند رحل، فاستدعى به بعد موت الجناحي وطالبه فقال: قد أخذ الوديعة قبل موته. فلما أراد عقوبته حضر إليه فخر الدين الإعزازي أحد تجار دمشق، وقال: إن هذه الوديعة أخذها الجناحي من هذا الرجل وجعلها تحت يدي وأحضر صندوقاً، فوحد الأمير جاغان فيه اثنين وثلاثين ألف دينار ومائتي وأربعة وثلاثين دينارا عينا، وحوائص وطرزا قيمتها خمسون ألف دينار.
وفيها خرج الأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي إلى بلاد الشام في صورة أنه يستحث العساكر على أخذ سيس، وقد لقنه الأمير منكوتمر أموراً مكتومة، كان فيها زوال الدولة ومنها أنه يفرج عن الأمير كرجي من قلعة دمشق ويسفره إلى سيس، ويتفق هو وأيدغدي شقير المتوجه قبله صحبة بكتمر السلاح دار مع جماعة من خشداشيته على ما يأتي ذكره.
وفيما أنعم على صمغار بن سنقر بإمرة، وأنعم على كل من بن أيتمش السعدي وسيف الدين طقصبا الظاهري بإمرة.
وفيها قدم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب، فأكرمه السلطان وألبسه خلعة طرد وحش، وهو أول من ألبس ذلك لآل مهنا، وإنما كانت خلعهم مسمطا أو كنجيا. واستأذن مهنا السلطان في الحج فأذن له.
وفيها قوي أمر منكوتمر، وتحكم تحكمة الملوك في جميع أمور المملكة، وقصد إخراج طغجي أيضاً من مصر، ففطن طغجي لذلك، فسأل الإذن في السفر إلى الحج فأذن له، وعمل أمير الركب.
وفيها بعث منكوتمر إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخا و لم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه. فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك، وترددت الرسل بينهما، فخرج منكوتمر من ذلك، وبعث إليه الأمير كرت الحاجب، فلما دخل كرت وقف بعدما سلم، فقام له القاضي نصف قومة ورد عليه السلام وأجلسه. وأخذ كرت يتلطف به في إثبات أخوة التاجر بشهادة منكوتمر، فقال له قاضي القضاة: وماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟ قال له: يا سيدي ما هو عندكم عدل؟ فقال: سبحان الله ثم أنشد:
يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند
وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والله متى لم تقم عندي بينة شرعية ثبتت عندي، وإلا فلا حكمت له بشيء باسم الله،. فقام كرت وهو يقول: والله هذا هو الإسلام وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء إلى دار العدل.
فلما كان يوم الخدمة، ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة ومنكوتمر جالس في الشباك، تسارعت الحجاب واحدا بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون: يا سيدي الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك. فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحوا عليه قال لهم: قولوا له ما وحبت طاعتك علي والتفت إلى من معه من القضاة، وقال: أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله، قولوا له يول غيري. وعاد إلى داره وأغلق بابه، وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة يمنعهم من الحكم وعقد الأنكحة.
فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر، وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه، فأبى واعتذر عن طلوعه، فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً، فما زالا به حتى صعدا به إلى القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه، وعزم عليه أن يجلس في مرتبته، فبسط منديله وكان خرقة كتان خلقة فوق الحرير فبل أن يجلس، كراهة أن ينظر إليه، ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية ثم قال له: يا سيدي هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادعوا له وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة، وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: منكوتمر لا يجيء منه شيء وكررها ثلاث مرات، وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبركا بها، وتفرقها الأمراء قطعة قطعة ليدخروها عندهم رجاء بركتها.

وأما حمدان بن صلغاي، فإنه قدم إلى دمشق وعرف الأمير جاغان ما ندب إليه من مسك الأمير بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي نائب صفد وعز الدين طقطاي والأمير بزلار والأمير عزاز، وكان الأمير قبجق نائب الشام قد خرج بالعساكر، إلى مساعدة الأمراء على أخذ سيس، ثم سار حمدان إلى حمص، والتقي هناك بالأمير قبجق وهو عائد إلى دمشق، فتلقاه وأكرمه. ثم توجه إلى حلب، وأوقف النائب على ما جاء فيه من قبض الأمراء الذين عينهم منكوتمر، فبلغهم ذلك فاحترزوا على أنفسهم ولحقوا بحمص يريدون الأمير قبجق والاتفاق معه.
وفيها أفرج عن ابن الحلي، بعد أن بالغ أقوش الرومي في عقوبته، فاختفى.
وفيها استقر الأمير بكتمر الحسامي أمير آخور كبيراً، واستقر علاء الدين طيبرس الخازنداري نقيب الجيش، عوضاً عن بلبان الفاخري.
وفيها رسم بعمل استيمار يجمع أرباب الرواتب والرزق، ليحضروا بتواقيعه للعرض على منكوتمر، ويقطع من يختار منهم، فلما شرعوا في الكتابة اشتد قلق الناس، وبلغ السلطان ذلك فمنع منكوتمر منه.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرصدر الدين إبراهيم بن محيى الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي الدمشقي الفقيه الحنفي، ولد في سنة تسع وستمائة، وبرع في الفقه والنحو، وأفتى ودرس وولي قضاء حلب، وقدم بعد عزله إلى القاهرة وأقام بها، ثم ولي حلب ثانياً فمات بدمشق في رمضان. ومات شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقرئ الفقيه الحنبلي عابر الرؤيا، كانت له عجائب في عبارة الرؤيا وصنف فيها، ومات آخر ذي القعدة.
ومات الأمير عز الدين أيبك الموصلي أحد المماليك المنصورية، وقد تنقلت به الخدم حتى ولي نيابة طرابلس إلى أن مات في.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش، في رابع عشر ربيع الآخر.
ومات الأمير علم الدين سنجر طقصبا، استشهد في محاصرة قلعة نجيمة في.
ومات الأمير علم الدين سنجر أحد الأمراء الناصرية بدمشق في سابع عشري جمادى الأولى، وكان شجاعا مقداما، سمع الحديث وعرف بالخير وحدث.
وتوفي شيخ الشيوخ بحلب نجم الدين أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الفتوح نصر بن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر الميهني، عن ثمان وثمانين سنة.
ومات الأمير سعد الدين كوجبا نائب دار العدل، في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى.
ومات موفق الدين محمد بن الحسين بن ثعلب الأدفوي خطيب أدفو، وله نظم ونثر، وفيه كرم وعنده إغضاء وحلم، ومات في.
ومات جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل الحموي قاضي حماة، وهو أحد الأئمة الأعلام، قدم القاهرة، ومات بحماة في ثاني عشري شوال، عن ثلاث وتسعين سنة. ومات الشيخ شمس الدين أبو المعالي محمد بن بكر بن محمد الأيكي الفارسي الشافعي، شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء، مات بدمشق في رابع رمضان عن ست وستين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنفر التكريتي، أستادار الملك السعيد.
ومات الأمير علم الدين طرطج الصالحي، وهو كاتب له مكارم، وفيه غقدام وشجاعة، وله أثار حميدة.
ومات الأمير طقطاي الأشرفي أحد الأمراء والأكابر.
و مات الأمير شمس الدين سنقر التكريتي، عرف بالمساح، وكان مشهوراً بالشجاعة، يخرج كل سنة إلى عكا فتكون له وقائع مع أهلها، وكان يركب بجانب المنصور قلاوون في المواكب، وكان قلاوون يستشيره في المهمات، وكان من دون أمراء مصر يركب بالزناري، على فرسه. بمفرده، وفيه مكارم.
ومات الفقيه تقي الدين أبو العباس أحمد بن الفقيه علم الدين أبي عبد الله محمد بن رشيق، يوم الخميس رابع عشري جمادى الآخرة.
وتوفي الشيخ زين الدين أبو المحاسن يوسف بن محمد بن الحسن بن الحسن عدي بمصر وله تربة جليلة بالقرافة.
سنة ثمان وتسعين وستمائة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21