كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

فلما قارب السلطان قبة النصر خارج القاهرة وقف حتى قبل الأمراء يده على مراتبهم، ورجعوا عنه. فنزل عن فرسه، ولبس ثياب العربان، وهي كاملية مفرجة وعمامة بلثامين، وساير الكركيين، وترك الأمراء الذين معه وهم قماري والحجازي وأبو بكر بن أرغون النائب مع المماليك السلطانية والطلب. وتوجه السلطان على البرية إلى الكرك، ولبس معه إلا الكركيين ومملوكين، وهم في أثره، فقاسوا مشقة كبيرة من العطش وغيره، حتى وصلوا ظاهر الكرك، وقد سبقهم السلطان إليها، وقدمها في يوم الثلاثاء ثامنه، فكتب السلطان إلى الأمراء بمصر يعرفهم ذلك، ويسلم عليهم، فقدم كتابه يوم الخميس سابع عشره.
ولما دخل الملك الناصر أحمد إلى الكرك لم يمكن أحداً من العسكر أن يدخل المدينة سوى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر، وجمال الكفاة ناظر الخاص والجيش، فقط. ورسم السلطان أن يسير الأمير المقدم عنبر السحرتي بالمماليك إلى قرية الخليل عليه السلام، وأن يسير قماري وعمر ابن النائب أرغون والخليفة إلى القدس. ثم رسم السلطان أن ينتقل المقدم بالمماليك إلى غزة، لغلاء السعر بالخليل.
وفي أثناء ذلك وصل أمير علي بن أيدغمش بالأمير قطلوبغا الفخري مقيداً إلى غزة، وبها العسكر المجهز من مصر، ومضى به إلى الكرك. فبعث السلطان إليه من تسلم الفخري منه، وأعاده إلى أبيه، ولم يجتمع به فسجن قطلوبغا الفخري وطشتمر حمص أخضر بقلعة الكرك، بعد ما أهين الفخري من العامة إهانة بالغة ونكل به نكالاً فاحشاً. وفيه كتب السلطان لآقسنقر نائب غزة بإرسال حريم قطلوبغا الفخري إلى الكرك، وكانوا قد ساروا من القاهرة بعد مسيره بيوم، فجهزهن آقسنقر إليه، فأخذ أهل الكرك جميع ما معهن حتى ثيابهن، وبالغوا في الفحش والإساءة.
وفيه كتب السلطان لآقسنقر السلاري نائب الغيبة بمصر أن يوقع الحوطة على موجود طشتمر حمص أخضر، وقطلوبغا الفخري، ويحمل ذلك إليه بالكرك.
وكان السلطان إذا رسم بشيء جاء كاتب كركي لكاتب السر وعرفه عن السلطان بما يريد، فيكتب ذلك ويناوله للكاتب، فيأخذ عليه علامة السلطان. ويبعثه حيث رسم وأما العسكر المتوجه من القاهرة إلى غزة، فإن ابن أيدغمش لما قدم عليهم غزة ومعه قطلوبغا الفخري، أراد الأمير ألطنبغا المارداني أن يؤخره عنده بغزة، حتى يراجع فيه السلطان. فلم يوافقه ابن أيدغمش، وتوجه إلى الكرك، فرحل المارداني وبقية العسكر عائدين إلى القاهرة، فقدموها يوم السبت خامس ذي الحجة.
وفيه أخذ السلطان في تحصين الكرك وشحنها بالغلال والأقوات وأخرج بكتمر العلائي منها إلى طرابلس ومحمد أبوه إلى صفد.
وفي هده السنة: أخرج حسام الدين حسن الغوري من مصر بعد عزله من قضاء القضاة الحنفية، فتوجه إلى العراق. وسبب ذلك أنه كان قد توحش ما بينه وبين القضاة الثلاثة، لقبح أفعاله. وكان إذا جلس مع السلطان احتوى عليه وخاطبه باللسان التركي، ونكب على القضاة. وكان يتجرأ على الناس ويضع منهم، ولا يزال ينصر المرأة على زوجها إذا شكته إليه حتى يخرج في ذلك عن الحد. فادعت امرأة عنده على زوجها بما استحق من صداقها وكسوتها، وأظهرت صداقها عليه فإذا فيه أن المنجم في كل سنة دينار. فاستدناها منه، وأمرها فكشف عن وجهها وأعجبته، وقال لأبيها وكان قد حضر معها: يا مدمغ! مثل هذه تزوحها بدينار كل سنة؟ والله يا مدمغ يساوي مبيتها كل ليلة مائة درهم! والتفت القاضي إلى زوجها: وقال. يا تيس! تستغلي هذه بهذا القدر؟ والله أنت أدمغ من أبيها، هذه يساوي مبيتها كل ليلة مائة درهم.
وحكى القاضي الغوري عن نفسه في مجلس الأمير قوصون بحضرة الأمراء، أنه لما كان محتسباً ببغداد وقف على حانوت حلواني قد حل صاحبه تمرا وقصره حتى أبيض فسأل عنه، فقال هذه قسب وقصرته بالبيض، فقال له: ويلك! مجنون أنت؟ أنا عندي جارية سوداء، لي عشر سنين أقصرها بالبيض، وما ابيضت. وادعت امرأة على زوجها عنده بحق وجب عليه، فكتب بحبسه، فقال له الزوج: " والمرأة أيضاً تكون برواق البغدادية حتى أحصل لها حقها، فقال له الغوري ويلك! أنت مجنون؟ أنا أكون أحق من البغدادية بهذي، وتكون عندي أحفظها، وأشار لنقيبه فأخذ المرأة إلى طبقته، وأقامت عنده مدة حتى أصلح أمرها مع زوجها.

وكان القاضي الغوري إذا تداعى عنده اثنان يأمر موقعه فيكتب ما يقول أحدهما في غيبة الآخر، فإذا انتهى كلامه أخرجه، وأحضر خصمه فيكتب أيضاً ما يقول. وكذلك إذا شهد عنده جماعة فرق بينهم، وكتب ما يقول كل واحد على انفراد، فكانت المحاكمة لا تنتهي عنده إلا بعد مدة. وكان من الغي على جانب كبير. ودعى مرة إلى عقد نكاح أولاد الأمراء هو والقضاة الثلاثة، فلما دخل معهم وقد فرش البيت بالحرير والزركش تجنب القضاة الجلوس على ذلك، وتنجوا عنه. فجلس هو على مقعد حرير مزركش، وقال: يا جماعة الجند أتبصروا كذا فعل هؤلاء يدعوا كذا الجلوس على هذا الحرير، وأقسم با لله لو قدروا عليه باعوه في الأسواق، وأكلوا ثمنه فضحك من في المجلس، ونزل بالقضاة من الخجل ما لا يعبر عنه، وتقدم إليه مرة مديون وضامنه في الدين ضمان إحضار، فادعى عليه غريمه، فاعترف بما عليه، وأقر الضامن له بضمانه. وكان المديون رث الهيئة زري الحال، فصاح القاضي: أخرجوا هذا المعثر من قدامي، ونظر إلى ضامنه وقال. أعط هذا ماله. فقال: يا مولانا هذا غريمه أحضرته إليه، فقال: هاتوا الجحش - يعني الفلقة - ، واقتلوا هدا حتى يعطي المال وأنت تلبس المسنجب والفرجيات واللباس الرفيع حتى أحوج هذا أن يعطي ماله لمعثر " ، فلم يجد الضامن بداً من التزامه بالمال خوفاً من الإخراق.
ورأى القاضي الغوري مرة رجلاً بيده فروجين، قد مسك أرجلهما بيده، وصارت رأسهما إلى أسفل، فأمر به أن يصلب، فمازال به الناس حتى ضربه ضرباً مؤلماً، وتركه. وألزم القاضي الغوري الشهود أن يكون في كل مسطور شهادة أربعة، وأن يكتبوا سكن المديون، ومجونه وجنونه كثير، له فيه نوادر مستقبحة وقبائح شنيعة. فلما رسم بعزله أثبتت عليه محاضر توجب إراقة دمه، فقام بعض الأمراء معه، ومازال ببعض قضاة الشافعية حتى حكم بحقن دمه وتسفيره من مصر.
وفي هده السنة: اتفقت واقعة غريبة، وهي أن رجلاً بواردياً يقال له محمد بن خلف - بخط السيوفيين من القاهرة - قبض عليه في يوم السبت سادس عشر رمضان، وأحضر إلى المحتسب، فوجد بخزنه من فراخ الحمام والزرازير المملوحة عدة أربعة وثلاثين ألف ومائة وسته وتسعين، من دلك فراخ حمام عدة ألف ومائة وستة وتسعين فرخاً، وزرازير عدة ثلاثة وثلاثين ألف زرزور، وجميعها قد نتنت وتغيرات ألوانها. فأدب وشهر، وأتلفت كلها.
وفيها قدم الأمير بيبرس الأحمدي نائب صفد بمن معه إلى دمشق، وليس بها نائب. فجاء مرسوم السلطان من الكرك بمكة، فقبض عليه أمراؤها، وأنزلوه بقصر تنكز.
ومات في هذه السنة من الأعيانجمال الدين إبراهيم بن أيبك الصفدي، أخو الصلاح الصفدي، في رابع جمادى الآخرة بدمشق. وكان يتقن عدة صنائع، وسمع بالقاهرة والشام، وشد أطرافاً من الحساب والفرائض، وغير ذلك.
ومات السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، مقتولاً بقوص، وحمل رأسه إلى قوصون.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحي نائب دمشق، وهو أحد المماليك المنصورية قلاوون، وربي عند السلطان الناصر محمد، وتوجه معه إلى الكرك.
فلما عاد الناصر إلى السلطنة أنعم عليه بإمرة، وعمله جاشنكيره، ثم ولاه حاجباً، ونقله من الحجوبية إلى نيابة حلب، بعد موت أرغون النائب، فسار سيرة مشكورة. ثم عزله السلطان الناصر في سبيل رضى الأمير تنكز، وأقدمه إلى مصر، ثم ولاه غزة. ثم ولاه قوصون نيابة الشام، وآل أمره إلى أن مات مسجوناً بالإسكندرية.
ومات القان أزبك بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان، ملك الططر بالمملكة الشمالية، بعدما حكم بها مدة ثمان وعشرين سنة، وقام بعده ابنه جاني بك خان. وكان أزبك قد أسلم وحسن إسلامه.
وتوفي قاضي القضاة الشافعية بحلب برهان الدين إبراهيم بن الفخر خليل بن إبراهيم الرسعني.
ومات الأمير بشتاك الناصري مقتولاً بالإسكندرية، في ربيع الآخر. وكان إقطاعه سبع عشرة إمرة طبلخاناة، تعمل مائتي ألف دينار كل سنة. وأنعم عليه الناصر محمد في يوم بألف ألف درهم، وكان راتب سماطه كل يوم خمسين رأس غنم وفرساً، لابد من ذلك، وكان كثير التيه، لا يحدث مباشريه إلا بترجمان، ويعرف بالعربي ولا يتكلم به.
ومات الأمير طاجار الدوادار، قتلاً.

ومات الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة، قتلاً.
ومات أمير علي ابن الأمير سلار، يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الآخر.
ومات الأمير سيف الدين قوصون مقتولاً بسجن الإسكندرية. رقاه السلطان الناصر محمد حتى صار أكبر الأمراء، يركب في ثلاثمائة فارس صفين، قدام كل صف رجل يضرب بالقبز كما يركب ملوك المغل، وكان يفرق كل سنة ثلاثين حياصة ذهب ومائة قباء بسنجاب، ويفرق في عيد الأضحى ألف رأس غنم وثلاثمائة رأس بقر.
وتوفي خطيب الجامع الأموي بدمشق بدر الدين محمد ابن قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني.
ومات وكيل بيت المال بدمشق نجم الدين محمد بن عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن أبي الطيب الدمشقي.
وتوفي الملك الأفضل محمد بن المؤيد إسماعيل بن الأفصل علي ابن المظفر محمود ابن المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان صاحب حماة، وكان باشرها عشر سنين، ثم نقل إلى إمرة مائة بدمشق، فمات بها في ليلة الثلاثاء حادي عشر ربيع الآخر عن ثلاثين سنة.
ومات الأمير موسى بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصية بن فضل ابن ربيعة أمير آل فضل، بتدمر.
ومات الأمير بيبرس السلاح دار الناصري نائب الفتوحات، بأياس.
ومات شرف الدين ابن الملك المغيث صاحب الكرك، بالقاهرة.
ومات عز الدين أيبك، يوم الإثنين تاسع المحرم.
ومات الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف القضاعي المزي الدمشقي بها، عن ثمان وثلاثين سنة.
ومات الأمير عز الدين الكبكي، يوم الأربعاء، ثامن عشر المحرم.
ومات الأمير تمر الساقي، يوم الأحد ثامن عشرى ذي العقدة.
وتوفي تاج الدين بن الفكهاني المالكي، يوم الإثنين سابع ذي الحجة.
ومات مسمراً والي الدولة أبو الفتوح بن الخطير، وكان قد تزوج وهو نصراني بابنة شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص، قبل اتصاله بالسلطان الناصر محمد، فلما تولى النشو نظر الخاص عظم والي الدولة، وتقدم على أخوة النشو، وباشر عند عدة من الأمراء، فلما أمسك النشو أمسك معه، وصودر هو وأخوه الشيخ الأكرم، ومازالا في الحبس حتى أفرج عنهما في مرض السلطان الناصر محمد الذي مات فيه، وفي جملة من أفرج عنه. وخدم أبو الفتوح عند ملكتمر الحجازي إلى أن نكب، وسمر في يوم السبت سادس عشرى صفر. وكان جميل الوجه حسن الخلق، يذوق الأدب، ويحفظ الأشعار والوقائع، ويعرف الأحاجي والتصحيف.
ومات الأمير بدر الدين لؤلؤ الحلبي. وكان ضامن حلب، وقدم القاهرة غير مرة ورافع أهلها إلى أن سلمهم السلطان له، فعاقبهم وأخذ أموالهم. ثم ولي شد الدواوين بحلب، فكثر شاكوه، فتسلمه الأكز مشد الجهات بديار مصر، ثم نقل إلى شد الدواوين بالقاهرة، وعزل وأخرج بعد محنة إلى حلب شاد الدواوين. ثم ضرب بالمقارع حتى مات، قال ابن الوردي:
أشكو إلى الرحمن لؤلؤاً الذي ... أضحى يصادر سادةً وصدورا
نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤاً منثورا
سنة ثلاث وأربعين وسبعمائةأهلت والناس في أمر مريج لغيبة السلطان بالكرك، وعند الأمراء تشوش كبير، لما بلغهم من مصاب قطلوبغا الفخري. وصار الأمير أقسنقر نائب الغيبة في تخوف، فإنه بلغه أن جماعة من مماليك الأمراء الذين قبض عليهم قد باطنوا بعض الأمراء على الركوب عليه، فترك الركوب للموكب أياماً حتى اجتمعوا عنده، وحلفوا له. ثم اتفق رأيهم على أن كتبوا للسلطان كتاباً في خامس المحرم، بأن الأمور ضائعة لغيبة السلطان، وقد نافق عربان الصعيد، وطمع الناس، وفسدت الأحوال كلها، وسألوه الحضور. وبعثوا به الأمير طقتمر الصلاحي، فعاد جوابه في حادي عشره: " بأنني قاعد في موضع أشتهي، وأي وقت أردت أحضر إليكم. وذكر طقتمر أن السلطان لم يمكنه من الاجتماع به، وأنه بعث من أخذ منه الكتاب، ثم أرسل إليه الجواب.

وفيه قدم الخبر بأن السلطان قتل الأمير طشتمر حمص أخضر والأمير قطلوبغا الفخري، وذلك أنه قصد أن يقتلهما بالجوع، فأقام يومين بلياليهما لا يطعمان طعاماً. فكسرا قيدهما، وقد ركب السلطان للصيد، وخلعا باب السجن ليلاً، وخرجا إلى الحارس وأخذ سيفه وهو نائم، فأحس بهما وقام يصيح حتى لحقه أصحابه، فأخذوهما. وبعثوا إلى السلطان بخبرهما، فقدم في زي العربان، ووقف على الخندق وبيده حربة، وأحضرهما وقد كثرت بهما الجراحات. فأمر السلطان يوسف بن البصارة ورفيقه بضرب أعناقهما، وأخذ يسبهما ويلعنهما، فردا عليه رداً قبيحاً، وضرب رقابهما، فاشتد قلق الأمراء.
وفيه قدم كتاب السلطان إلى الأمراء يطيب خواطرهم، ويعرفهم أن مصر والشام والكرك له، وأنه حيث شاء أقام، ورسم أن تجهز له الأغنام من بلاد الصعيد، وأكد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون متفقاً مع الأمراء على ما يكون من المصالح.
فتنكرت قلوب الأمراء ونفرت خواطرهم، واتفقوا على خلع السلطان وإقامة أخيه إسماعيل، في يوم الأربعاء حادي عشريه، فكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً، منها مدة إقامته بالكرك ومراسيمه نافذة بمصر أحد وخمسون، وإقامته بمصر مدة شهرين وأيام.
وكانت سيرته سيئة، نقم الأمراء عليه فيها أموراً، منها أن رسله التي كانت ترد من قبله إلى الأمراء برسائله وأسراره أوباش أهل الكرك، فلما قدموا معه إلى مصر أكثروا من أخذ البراطيل وولاية المناصب غير أهلها، ومنها تحكمهم على الوزير وغيره، وحجبهم السلطان حتى عن الأمراء والمماليك وأرباب الدولة، فلا يمكن أحداً من رؤيته سوى يومي الخميس والإثنين نحو ساعة. ومع ذلك فإنه جمع الأغنام التي كانت لأبيه، والأغنام التي كانت لفوصون، وعدتها أربعة ألاف رأس وأربعماية من البقر التي استحسنها أبوه. وأخذ الطيور التي كانت بالأحواش على اختلاف أنواعها، وحملها على رءوس الحمالين إلى الكرك. وساق الأغنام والأبقار إليها، ومعهم عدة سقائين وسائر ما يحتاج إليه.وعرض الخيول والهجن، وأخذ ما اختاره منها، ومن البخاتي وحمر الوحش والزراف والسباع، وسيرها إلى الكرك. وفتح الذخيرة، وأخذ ما فيها من الذهب والفضة، وهو ستمائة ألف دينار وصندوق فيه الجواهر التي جمعها أبوه في مدة سلطنته. وتتبع جواري أبيه حتى عرف المتمولات منهن، فكان يبعث إلى الواحدة منهن يعرفها أنه يدخل عليها الليلة، فإذا تجملت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إليه، فإذا خرجت من موضعها ندب من يأخذ جميع ما عندها، ثم يأخذ جميع ما عليها حتى سلب أكثرهن ما بأيديهن، وعرض الركاب خاناه، وأخذ جميع ما فيها من السروج واللجم والسلاسل الذهب والفضة، ونزع ما عليها من الذهب والفضة. وأخذ الطائر الذهب الذي على القبة، وأخذ الغاشيه الذهب وطلعات الصناجق، وما ترك بالقلعة مالاً حتى أخده. وشنع في قتل أمراء أبيه، وأتلف موجودهم، وأحضر حريم طشتمر حمص أخضر من حلب وقد تجهزن للمسير، فأخذ سائر ما معهن، حتى لم يترك عليهن سوى قميص وسروال لكل واحدة. وأخذ أيضاً جميع ما مع حريم قطلوبغا الفخري، حتى لم تجد زوجته سرية تنكز ما تتقوت به، إلى أن بعث لهم جمال الكفاة شيئاً تجملوا به إلى القاهرة.
السلطان عماد الدين أبو إسماعيلالسلطان الملك الصالح عماد الدين أبو إسماعيل ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي.
جلس على تخت الملك يوم الخميس ثاني عشرى المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، بعد خلع أخيه باتفاق الأمراء على ذلك، لأنه بلغهم عنه أنه لما أخرجه الأمير قوصون فيمن أخرج إلى قوص أنه كان يصوم يومي الإثنين والخميس، ويشغل أوقاته بالصلاة وقراءة القرآن، مع العفة والصيانة عما يرمي به الشباب من اللهو واللعب. وحلف له الأمراء والعساكر، وحلف لهم السلطان ألا يؤذي أحداً، ولا يقبض عليه بغير ذنب يجمع على صحته. ودقت البشائر، ولقب بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزينة.
وفيه فرق السلطان أخباز الأمراء البطالين ورسم بالإفراج عن المسجونين، وكتب بذلك إلى الوجه القبلي والوجه البحري، وألا يترك بالسجون إلا من وجب عليه القتل. وفيه أخرج السلطان عدداً كبيراً من سجون القاهرة ومصر، وتوجه القصاد للإفراج عن الأمراء من الإسكندرية.

وفيه استقر الأمير أرغون العلائي زوج أم السلطان الصالح رأس نوبة ويكون رأس المشورة ومدبر الدولة وكافل السلطان. واستقر الأمير آقسنقر السلاري نائب السلطنة. وفي يوم الجمعة ثالث عشريه: دعي للسلطان على منابر مصر والقاهرة، وكتب إلى الأمراء ببلاد الشام بالأمان والاطمئنان، وتوجه بذلك طقتمر الصلاحي.
وفيه كتب تقليد الأمير أيدغمش نيابة الشام، واستقر عوضه في نيابة حلب الأمير طقزدمر الحموي نائب حماة. واستقر في نيابة حماه الأمير علم الدين سنجر الجمولي.
وفيه كتب السلطان بحضور الحاج آل ملك، وحضور الأمير بيبرس الأحمدي إلى القاهرة.
وفيه كتب السلطان الملك الصالح إلى أخيه الناصر أحمد بالسلام، وإعلامه بأن الأمراء أقاموه في السلطنة، لأنهم علموا أن الملك الناصر أحمد ليس له رغبة في ملك مصر، وأنه يحب بلاد الكرك والشوبك، فهي بحكمك وملكك ورغب إليه في أن يبعث القبة والطير والغاشية والنمجاة، وتوجه بكتاب السلطان الأمير قبلاي.
وفيه خرج الأمير بيغرا ومعه عدة أمراء وأوجاقية، لجر الخيول السلطانية من الكرك.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشريه: قدم الأمراء والمسجونون بالإسكندرية، وعدتهم ستة وعشرون أميراً، منهم قياقر، والمرقبي، وطيبغا المحمدي، وابن طوغان جق، ودقماق وأسنبغا بن البوبكري، وابن سوسون، وناصر الدين محمد بن المحسني والي القاهرة، وأمير علي بن بهادر، والحاج أرقطاي نائب طرابلس.
في يوم الخميس تاسع عشريه: وقفوا بين يدي السلطان، فرسم أن يجلس أرقطاي مكان الجاولي وأن يتوجه البقية على أمريات ببلاد الشام.
وفي يوم السبت أول صفر: قدم من غزة الأمير قماري، والأمير أبو بكر بن أرغون النائب، والأمير ملكتمر الحجازي، وصحبتهم الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد والمقدم عنبر السحرتي، والمماليك السلطانية، مفارقين للناصر أحمد.
وفيه توجه الأمير طقزدمر الحموي لنيابة حلب.
وفي يوم الإثنين ثالثه: خلع على الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب حماة خلعة السفر، وخلع على أمير مسعود بن خطير خلعة السفر لنيابة غزة.
وفيه خلع على بدر الدين محمد بن محيي الدين بن يحيى بن فضل الله، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أخيه شهاب الدين أحمد.
وفيه رسم بسفر مماليك قوصون ومماليك بشتاك إلى البلاد الشامية متفرقين، وكتب للنواب بإقطاعهم الأخباز شيئاً فشيئاً.
وفيه استقر الأمير جنكلي بن البابا في نظر المارستان، عوضاً عن الجاولي.
وفيه جلس الأمير آقسنقر السلاري النائب بدار النيابة، بعد ما عمرها وفتح بها شباكاً، ورسم له أن يعطي الأخباز من ثلاثمائة إلى أربعمائة دينار، ويشاور فيما فوق ذلك.
وفيه استقر المكين إبراهيم بن قروينة في نظر الجيش، وعين ابن التاج إسحاق لنظر الخاص، عوضاً عن جمال الكفاة، ناظر الجيش والخاص، لغيبته بالكرك، فقام الأمير جنكلي في ابقاء الخاص علي جمال الكفاة حتى يحضر.
وفي يوم الخميس سادسه: توجه الأمير سنجر الجاولي وأمير مسعود بن خطير، إلى محل ولايتهما.
وفيه أنعم السلطان على أخيه شعبان بإمرة طبلخاناة، وعلى خليل بن خاص ترك بإمرة طبلخاناة، ونودي بأن أجناد الحلقة، ومماليك السلطان وأجناد الأمراء، لا يركب أحد منهم فرساً بعد عشاء الآخرة، ولا يقعدوا جماعة يتحدثون.
وفي يوم الإثنين رابع عشريه: خلع على جميع الأمراء، كبيرهم وصغيرهم.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشريه: قدم علاء الدين علي بن فصل الله كاتب السر، ومعه جمال الكفاة والشريف شهاب الدين بن أبي الركب، ومن الكرك، مفارقين للناصر أحمد. بحيلة دبرها جمال الكفاة. وكان قد بلغه عن الناصر أنه يريد قتلهم خوفاً من حضورهم إلى مصر، ونقلهم ما هو عليه من سوء السيرة، فبذل جمال الكفاة مالاً جزيلاً ليوسف بن البصارة حتى مكنهم من الخروج من المدينة. وأسر إليه السلطان الناصر أنه يبعث من يقتلهم ويأخذ ما معهم، فعرجوا في مسيرهم عن الطريق صحبة بدوي من عربان شطي إلى أن قدموا غزة، فخلصوا ممن خرج في طلبهم. فأقبل عليهم الأمراء والسلطان، وخلع عليهم بالاستمرار على وظائفهم.

وفي يوم الخميس سابع عشريه: نهب سوق خزانة البنود بالقاهرة، حتى عم النهب حوانيته كلها من النهب في الجانبين، وكسرت عدة جرار خمر من خزانة البنود، وهتكت نساء الفرنج. وبلغ ذلك الوالي، فركب نائبه لرد العامة عن الفرنج، فرجموه وردوه رداً قبيحاً إلى أن احتمى بالمدرسة الجمالية المجاورة لخزانة البنود، وأساءوا الأدب على الفقهاء المجاورين بها، فخرجوا يحملون المصاحف، ووقفوا للسلطان. فرسم السلطان بضرب الوالي على باب الجمالية، ونودي من الغد ألا يتعرض أحد لأسير من الفرنج وهدد من أخذ لهم شيئاً بالشنق.
وفيه قدم الخبر من حلب بأنه قد وقع في بلاد الموصل وبغداد وأصفهان وعامة بلاد الشرق غلاء شديد، حتى بلغ الرطل الخبز بالمصري إلى ثمانية دراهم نقرة، وأكلت الجيف. وصار من مات يلقى في العراء عجزاً عن مواراته، وفنيت الدواب عندهم.
ثم عقب هذا الغلاء جراد عظيم سد الأفق، ومنع الناس من كثرته رؤية السماء وأكل جميع الأشجار حتى خشبها. وانتشر الجراد إلى حلب ودمشق والقدس وغزة، فاض بما هناك ضرراً شديداً بالغاً، وأفسد الثمار كلها. فلما دخل الجراد الرمل هلك بأجمعه حتى ملأ الطرقات، وتحسنت أسعار بلاد الشام.
وفي هذا الشهر: عقد السلطان على بنت الأمير أحمد ابن الأمير بكتمر الساقي من بنت تنكز، وأصدقها عشرة ألاف دينار. وخلع السلطان على الأمير قماري وجميع أقاربها، وعمل مهماً عظيماً، ورسم أن يعمل لها بشخاناه وداير بيت زركش بثمانين ألف دينار.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرقطاي بتقدمة ألف، فطلب ناظر طرابلس بسبب تقرير ما نهب لأرقطاي أيام نيابته، فذكر أنه نهب له شيء كثير، من ذلك زردخاناه ضمن ثلاثين صندوقاً، وفيها نحو اثني عشر جوشنا، وفيها بركصطوانات حرير قيمة الواحدة منها زيادة على عشرين ألف درهم، ومن السروج والخيول والخيام والجمال وغيرها شيء كثير. فكتب إلى نواب الشام يتتبع من معه شيء من ذلك، وحمله إليه. وفيه أخرج الأمير قرمجي الحاجب إلى صفد حاجباً، بسؤاله.
وفيه خلع علي قراجا وأخيه أولاجا، واستقرا حاجبين.
وفيه سأل الأمير آقسنقر السلاري الإعفاء من النيابة، فلم يعف.
وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأول: قدم الأمير الحاج آل ملك، من حماة.
وفيه قبض على فياض بن مهنا، لشكوى الأمير الحاج آل ملك منه، وسجن بالقلعة.
وفيه رسم للأمير طقتمر الأحمدي بنيابة طرابلس، بحكم وفاة الأمير طينال.
وفيه وقعت منازعة بين الأمير جنكلي بن البابا وبين الضياء المحتسب، بسبب وقف الملك المنصور أبي بكر على القبة المنصورية، فإنه أراد إضافته إلى المارستان وصرف متحصله في مصرف المارستان. فلم يوافقه الضياء، واحتج بأن لهذا مصرفاً عينه واقفه لقراء وخدام، ووافقه القضاة على ذلك. فاستقر وقف المنصور أبي بكر على ما شرطه لطلبة العلم والفقراء والأيتام، وقرر فيه نحو ستين نفر بمعاليم ما بين خبز ودراهم، فعم النفع به ويعرف اليوم هذا الوقف بالسيفي.
وفيه وشى الخدام للسلطان بقاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، بأنه قد استولى على الأوقاف هو وأقاربه، ولم يوصلوا أربابها استحقاقهم. فرسم للطواشي محسن الشهابي والطواشي كافور الهندي بأن يتحدثا في المدرسة الأشرفية المجاورة للمشهد النفيسي، وكتب لهما توقيع بذلك، ورسم لعلم دار بنظر المدرسة الناصرية بين القصرين، وبنظر جامع القلعة. فشق ذلك على ابن جماعة، وسعى عند الأمير أرغون العلائي، فلم ينجح سعيه.
وفيه استقر سيمف الدين وأخوه، من آل فضل على أخباز آل مهنا، لسليمان بن مهنا وأخوته، بعد ما توفر منها جملة أقطعت للأجناد وأمراء الشام.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشريه: رسم للأمير ألطنبغا المارداني بنيابة حماة، عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وخلع عليه وركب البريد من يومه، وسار في خمسة من مماليكه، وسبب ذلك ترفعه على الأمير أرغون العلائي.
وفيه كتب بحضور الأمير سنجر الجاولي إلى نيابة غزة، عوضاً عن أمير مسعود بن خطير، ونقل أمير مسعود إلى إمرة طبلخاناة بدمشق.
وفيه قدم خبر من شطي بأن الناصر أحمد قرر مع بعض الكركيين أن يدخل إلى مصر ويقتل السلطان، فتشوش الأمراء من ذلك، ووقع الاتفاق على تجريد العسكر لقتاله.

وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: خلع علي شجاع الدين عزلوا والي الأشمون، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين، واستمر نجم الدين على إمرته.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع الآخر: توجهت التجريدة إلى الكرك صحبة بيغرا، وهي أول، التجاريد. وعقيب ذلك حدث بالسلطان رعاف مستمر، فاتهمت أمه أردو أم الأشرف كجك بأنها سحرته، وهجمت عليها، وأوقعت الحوطة على جميع موجودها، وضربت عدة من جواريها ليعترفوا عليها. فلم يكن غير قليل حتى عوفي السلطان، فرسم بزينة القاهرة ومصر، وحملت أم السلطان إلى مشهد السيدة نفيسة قنديل ذهب زنته رطلان وسبع أواق ونصف أوقية.
وفي يوم الجمعة خامس عشريه وهو آخر توت: انتهت زيادة النيل إلى ثمانية ذراعاً وتسعة أصابع.
وفيه قامت الزينة لعافية السلطان، ثم انتكس السلطان وعوفي.
وفي يوم الثلاثاء سادس جمادى الأولى: قدم الأمير بيبرس الأحمدي نائب صفد. وكان من خبره أن الناصر أحمد لما كان بالكرك قبل خلعه كتب لآقسنقر نائب غزة أن يركب إلى صفد ويقبض عليه، وأنه كتب لأمراء صفد بالاحتفاظ عليه. فبلغ ذلك الأحمدي من عيونه، فركب ليلاً بمن معه وهو مستعد، وخرج من صفد. فتبعه عسكرها، فمال عليهم وقتل منهم خمسة، وجرح جماعة وهو منهم. فبلغ ذلك آقسنقر نائب غزة، وقد قرب من صفد، فكر راجعاً إلى غزة، وكتب بالخبر إلى السلطان الناصر أحمد. ومر الأحمدي سائراً إلى دمشق، وفيها الأمير بيبرس الحاجب وطرنطاي الحاجب. فنزل الأحمدي ميدان الحصا، وخرج الأميران المذكوران في عدة من العسكر إليه فسلموا عليه وتوجعوا له، ثم عادوا. فقدم في ثاني يوم قدومه كتاب السلطان الناصر أحمد على نائب دمشق بإكرامه واحترامه، ثم قدم من الغد يوسف بن البصارة بكتاب السلطان الناصر أحمد إلى أمراء دمشق، بأنه قد طلب بيبرس الأحمدي إلى الكرك فعصى، وخرج من صفد بعد ما قتل جماعة منها، وأمرهم بأخذ الطرقات عليه ومسكه وحمله إلى الكرك. فأخدوا في أهبة الحرب، وركبوا لقتاله في يوم الخميس ثامن المحرم، وبعثوا إليه سراً يعرفونه بما ورد عليهم. فركب الأحمدي إلى لقائهم حتى تراءى الفريقان، فبعث إليه الأمراء بعض الحجاب يعلمه بمرسوم السلطان فيه، فأعاد الجواب باني طالع للسلطان إذا كان على كرسي ملكه بمصر، وأسير إليه وفي عنقي منديل، ليعاقبني أو يعفو عني. وأما سلطان يقيم بالكرك، ويضرب رقاب الأمراء، ويهتك حريمهم ويخرجهم بحيث يتصدق الناس عليهم، ثم يطلبني إليه، فلا سمع ولا طاعة. وهأنا لا أسلم نفسي حتى أموت على فرسي، ومن كان في نفسه مني فليأت إلى قتالي.
فلما سمعوا جوابه أمرهم ابن البصارة بأن يهجموا عليه ويمسكوه، فاحتجوا عليه بأن المرسوم لا يتضمن قتاله، وهذا الذي قلته يحتاج إلى قتال شديد. ولكنا نكتب إلى السلطان بما اتفق، ونستأذنه في قتاله، ونمتثل ما يرسم به، وتكفلوا له بحفظه حتى يعود بالجواب، فمشى ذلك عليه، وسار بكتبهم. واجتمع الأمراء بالأحمدي، وكتبوا إلى أمراء مصر بما اتفق، وكتبوا لأيدغمش نائب حلب وللحاج آل ملك بحماة، وعرفوا الجميع أن هذا الأمر إن تمادى بهم ركبوا جميعهم وعبروا لبلاد العدو، فكان هذا أكبر الأسباب في خلع الناصر أحمد. و لم يزل بيبرس الأحمدي بدمشق حتى كتب إليه الملك الصالح أن يقدم إلى مصر، فقدمها واستقر على إقطاعه.
وفي هذا الشهر: عزل أقبغا عبد الواحد من نيابة حمص، وأنعم عليه بإمرة مائة بدمشق.
وفي يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة: خرج أروم بغا السلاح دار لنيابة طرابلس، غضباً عليه لمكاتبته الناصر أحمد له.
وفيه كتب بقدوم طقتمر الأحمدي إلى القاهرة.
وفيه قبض على جمال الكفاة ناظر الجيش والخاص، والموفق ناظر الدولة، والصفي ناظر البيوت، وزجماعة من الكتاب، وسلموا لشاد الدواوين.
وفيه قبض على ابن رخيمة مقدم الوالي وسبب القبض على جمال الكفاة كراهة آقسنقر السلاري النائب له، لنقله للسلطان أخباره، مع توقف الدولة على الوزير، وكثرة شكوى المماليك والخدام.

وكان السلطان قد كثر إنعامه على الخدام وحواشيهم، وعلى جواريه، ورتب لهم رواتب كبيرة، وأنعم عليهم بعدة رزق. وصار كثير من الناس يحملون إلى الخدام الهدايا، لتستقر لهم الرواتب والمباشرات وغيرها. فكثرت كلف الوزير وطلب الإعفاء، فرسم له ألا يمضي إلى بما كان بمرسوم الشهيد الملك الناصر محمد، فوفر ألفاص وأربعمائة دينار في كل شهر. وأخذ النائب يغري الأمير أرغون العلائي بجمال الكفاة، فتعين موسى بن التاج إسحاق لنظر الخاص بسعي الخدام، وتعين أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر لنظر الجيش. وإبراهيم بن يوسف هذا كان من سامرة دمشق، كتب عند الأمير بكتمر الحاجب فأسلم، ثم كتب بعد مسك بكتمر عند بهاء الدين أرسلان الدوادار، ثم بعد موته عند الأمير طشتمر حمص أخضر، ومن بعد موته كتب عند الأمير قماري أستادار. ثم طلب هو وموسى بن التاج في يوم الإثنين حادي عشرة ليخلع عليهما، فقام الأمير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وأرقطاي في مساعدة جمال الكفاة، وتلطفوا بالنائب حتى كف عنه، على أن يحمل مالاً هو ورفيقه. فالتزم جمال الكفاة. بمائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى بقية الممسوكين، فحمل المال شيئاً بعد شيء، ثم أعفى عما بقي منه.
وفيه قدم أياز الساقي على البريد بموت أيدغمش نائب الشام فجأة، فوقع الاختيار على استقرار الأمير طقزدمر الحموي في نيابة الشام، ويستقر عوضه في نيابة حلب ألطنبغا المارداني، ويستقر يلبغا اليحياوي عوضه في نيابة حماة. فكتب بذلك في يوم الخميس رابع عشره، وخرج يلبغا اليحياوي إلى نيابته بحماة، ومعه كل من يلوذ به.
وفيه قدم كتاب سليمان بن مهنا يسأل في الإفراج عن أخيه فياض، ورد ما أخرج عن آل مهنا من الإقطاعات، وإلا سار بعربه إلى الشرق. فأعيدت الإقطاعات إلى مهنا وأولاده، وأوقف إفراج فياض على ضمانه إياه.
وفيه أنعم على الأمير أرغون العلائي بعشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم.
وفيه أنعم على الأمير بهادر الدمرداشي بثلاثة بلاد، زيادة على ما بيده.
وفيه قدم الخبر بأن قاضي القضاة الشافعي بدمشق تقي الدين السبكي لما أراد أن يخطب بالجامع الأموي لم يرض به أهل دمشق خطيباً، وكرهوا خطته، ولم يؤمنوا على دعائه، وصاحوا عليه صياحاً منكراً، وترك جماعة الصلاة، وقالوا ما نصلي خلفك، فثارت عليه العامة. فلما كانت الجمعة الثانية جرى أفحش ما جرى في الأولى، فآل الأمر إلى أن أشهد على نفسه أنه ترك الخطابة.
وفيه قدم الخبر بأن شطي وثب عليه رجل وهو مع العسكر على الكرك، فضربه بحربة أرداه عن فرسه فحمل إلى بيوته، وأن العسكر في شدة من الأمطار وقلة الواصل إليهم، وأن الناصر أحمد رد جواب كتاب السلطان إليه بما لا يليق. فكتب السلطان لأحمد بتعداد مساوئه، وتهديده بتخريب الكرك حجراً حجراً، وكتب بمسير عسكر غزة وصفد إلى نجدة الأمير بيغرا، وحمل الغلال والإقامات، وحشد العربان معهم، ومحاصرة الكرك.
وفيه أفرج عن فياض بن مهنا بمساعدة الأمير الحاج آل ملك، وسلم إلى الأمير أقسنقر السلاري النائب حتى يحضر كتاب أخيه سليمان بن مهنا.
وفيه أنعم على أرغون العلائي بإقطاع قماري بعد موته، واستقر تمر الموساوي أمير شكار عوضاً عن قماري.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة، فقدم عليه التقي السبكي قاضي دمشق، فأقبل عليه السلطان والأمراء. فلما عاد السلطان من سرحة سرياقوس مرض أياماً حتى استرخت أعضاؤه، وصار العلائي وآقسنقر النائب يدبران أمور الدولة.
وفيه ورد الخبر بعافية شطي، وأنه ركب مع العسكر على الكرك، وقاتلوا أهلها وهزموهم إلى القلعة. فأذعن الناصر أحمد، وسأل أن يمهل حتى يكاتب السلطان، ليرسل من يتسلم منه القلعة، فرجعوا عنه. فلم يكن غير قليل حتى استعد، وقاتل بمن معه، فخرج جركتمر المارداني ليجهز ألفي راجل من غزة وصفد.
وفيه أنعم على فياض بالعود إلى بلاده، فتوجه إليها بعدما حلف على التزام الطاعة، وألا يتعرض لأمور التجار.
وفي رابع عشره: أخرج جماعة من الأمراء إلى الشام، منهم ملكتمر السرجواني وبكا الخضري، وقطلقتمر، وأباجي، ويحيى بن ظهير الدين بغا وأخيه، ثم أعيد ملكتمر من يومه.

وفيه قدمت رسل متملك الخطا، وقد خرجوا من بلادهم سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، ومعهم كتاب للسلطان الملك الناصر محمد، يتضمن أن بعض الفقراء قدم عليهم وأقام عندهم مدة، وهم يسجدون للشمس عند طلوعها، فمازال ينكر عليهم ذلك ويدعوهم إلى الإسلام حتى عرف به الملك، فأحضره إليه وسمع كلامه، ودعاه إلى الإسلام وهداه الله إليه وأسلم، فبعث رسله إلى مصر في طلب كتب العلم وإرسال رجل عارف يعلمهم شرائع الإسلام، فإن الرجل الذي هداهم به مات. فأقبل السلطان الملك الصالح إسماعيل عليهم، وخلع عليهم، ورسم بتجهيز الكتب العلمية لهم.
وفي يوم الإثنين ثاني رجب: أنعم على أربعة بإمريات طبلخاناة، منهم أمير حاجي ابن الناصر محمد.
وفيه أنعم على خمسة بإمريات عشرة، ونزلوا إلى المدرسة المنصورية على العادة بالقاهرة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في الوزارة عوضاً عن نجم الدين محمود بن علي بن شروان وزير بغداد، لتوقف أحوال الدولة وشكوى المماليك السلطانية من تأخر جوامكهم.
وفي يوم الأربعاء رابعه: كانت فتنة رمضان أخى السلطان، وذلك أنه كان قد أنعم عليه بتقدمة ألف، فلما خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس تأخر عنه بالقلعة، وتحدث مع جماعة من المماليك في إقامته سلطاناً. فلما مرض السلطان بالاسترخاء قوي أمره، وأشاع ذلك، وراسل بكا الخضري ومن خرج معه من الأمراء، وواعد من وافقه على الركوب بقبة النصر. فبلغ ذلك السلطان ومدبر دولته الأمير أرغون العلائي، فلم يعبأ به إلى أن أهل رجب جهز الأمير رمضان خيله وهجنه بناحية بركة الحبش، وواعد أصحابه على يوم الأربعاء. فبلغ الأمير أقسنقر أمير أخور عند الغروب من ليلة الأربعاء ما هم فيه من الحركة، فركب بمن معه، وندب عدة من العربان ليأتوه بخبر القوم إذا ركبوا. فلما أتاه خبرهم ركب وسار إليهم، وأخذهم عن أخرهم من خلف القلعة ليلاً، وساقهم إلى الإصطبل. وعرف أقسنقر أمير أخور السلطان وأرغون العلائي من باب السر بما فعله إليهما، فصعد بما ظفر به من أسلحة القوم. واتفقوا على طلب إخوة السلطان إلى عنده، والاحتفاظ بهم. فلما طلع الفجر خرج أرغون العلائي من بين يدي السلطان، وطلب الإخوة، ووكل ببيت رمضان حتى طلعت الشمس وصعد الأمراء الأكابر باستدعاء، وأعلمو بما وقع، فطلبوا رمضان إليهم فامتنع من الحضور، وهم يلحون في طلبه إلى أن خرجت أمه وصاحت عليهم، فعادوا عنه إلى أرغون العلائي.
فبعث أرغون عدة من الخدام والمماليك لإحضاره. فخرج رمضان في عشرين مملوكاً إلى خارج باب القلة، وسأل عن النائب أقسنقر السلاري، فقيل له أنه عند السلطان مع الأمراء، فمضى إلى باب القلعة، وسيوف أصحابه مصلتة، وركب من خيول الأمراء، ومر بمن معه إلى سوق الخيل تحت القلعة، فلم يجد أحداً من الأمراء، فتوجه جهة قبة النصر. ثم وقف رمضان ومعه بكا الخضري، وقد اجتمع الناس عليه.
وبلغ السلطان والأمراء خبره، فأخرج بالسلطان محمولاً بين أربعة لما به من الاسترخاء، وركب النائب وآقسنقر أمير أخور وقماري أخو بكتمر. وأقام أكابر الأمراء عند السلطان، ووقفت أطلابهم تحت القلعة، وضربت الكوسات حربيا، ونزل النقباء في طلب الأجناد. فوقف النائب بمن معه تجاه رمضان وقد كثر جمعه من أجناد الحسينية ومن مماليك بكا ومن العامة، وبعث يخبر السلطان بذلك، فمن شدة انزعاحه نهضت قوته، وقام على قدميه يريد الركوب بنفسه، فقام الأمراء وهنؤه بالعافية، وقبلوا له الأرض، وهونوا عليه أمر أخيه. فأقام السلطان إلى بعد الظهر، والنائب يراسل رمضان ويعده الجميل، ويخوفه العاقبة، وهو لا يلتفت إلى قوله. فعزم النائب على الحملة عليه بمن معه، وسار فلم يثبت العامه والمتجمعه من الأجناد مع رمضان، وانفلوا عنه، فانهزم رمضان هو وبكا الخضري في عدة من المماليك، وتوجهوا نحو البرية، والأمراء في طلبه، ثم عاد النائب إلى السلطان فلما كان بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس أحضر برمضان وبكا، وقد أدركوهما بعد المغرب عند البويب، ورموا بكا بالنشاب حتى ألقوه عن فرسه، وقد وقف فرس رمضان من شدة السوق، فوكل برمضان من يحفظه، وأذن للأمراء بنزولهم بيوتهم، فنزلوا وطلعوا بكرة يوم الخميس إلى الخدمة على العادة.

وجلس السلطان وطلب مماليك رمصان، فأحضروا. وأمر السلطان بحبسهم، وحبسوا أياماً، ثم فرقوا على الأمراء.
وفيه رسم لجمال الكفاة بتجهيز التشاريف للأمراء الأكابر، فحمل إلى كل من الأمير جنكلي بن البابا، والأمير بيبرس الأحمدي والأمير بيبرس الحاج آل ملك، والأمير قماري، والأمير أرقطاي، تشريف كامل وألف دينار، وللنائب أقسنقر السلاري تشريف وألفا دينار وفرسان، ولمقدمي الحلقة تشاريف بأقبية ساذجة مروزي، لأجل إعادتهم، فإنها كانت بغاليطق ملونة.
وفي يوم الخميس ثاني عشر: أمر السلطان ستة أمراء.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: قدم الأمير بيغرا ومن معه من العسكر المجرد لقتال الناصر أحمد، بعد ما حاربوه. وكان قد جرح منهم جماعة، وقلت أزوادهم، فكتب السلطان بإحضارهم إلى الديار المصرية، ولما مثلوا بالخدمة خلع عليهم.
وفيه كتب السلطان باستقرار طرنطاي البشممقدار في نيابة غزة، عوضاً عن الجاولي، وقدم الجاولي إلى مصر.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشريه: وسط الأمير بكا الخضري، ومعه مملوكان من المماليك السلطانية، بسوق الخيل تحت القلعة.
وفي هذا الشهر: استجد السلطان بالقلعة عمارة جليلة، وأقام أقجبا الحموي شاد العمائر، وقرر على أرباب الدواوين رخاماً يحملونه إليها. وقصد بذلك محاكاة عمارة الملك المؤيد بحماة المعروفة بالدهشية. فتوجه أقجبا وأبجيج المهندس إلى حماة حتى عرفا ترتيبها. وكتب السلطان إلى حلب بطلب ألفي حجر أبيض، وألفي حجر أحمر من دمشق فحملت وسخر لها الجمال. فبلغت أجرة الحجر منها ثمانية دراهم من دمشق واثني عشر درهماً من حلب. ووقع الاهتمام في العمل، فكان المصروف في العمارة كل يوم عشرة ألاف درهم.
وفي هذا الشهر: أيضاً وقف السلطان الملك الصالح ثلثي ناحية سندبيس، من القليوبية، على ستة عشر خادماً لخدمة الضريح الشريف النبوي، فتمت عدة خدام الضريح الشريف أربعون خادماً.
وفي يوم الخميس رابع شعبان: قدم الأمير علم الدين سنجر الجاولي من غزة.
وفيه قدم البريد بموت الأمير أرنبغا نائب طرابلس، فعملت عليه أوراق بحقوق سلطانية مبلغها ألفا ألف درهم.
وفيه قدمت أولاد الأمير أيدغمش من دمشق، فألزموا بتفاوت الإقطاعات التي انتقلت إلى أبيهم من مصر وحلب ودمشق، فبلغت جملة كثيرة باعوا فيها خيولاً وعصابة مرصعة لأمهم بلغت مائة ألف درهم. وباعوا حمام أيدغمش أبيهم خارج باب زويلة إلى خوند طغاي، وعدة أملاك أيضاً.
وفي يوم السبت ثالث شوال: توفي الأمير بهادر الجوباني.
وفي عاشره: توجه الأمير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي في ألفي فارس تجريدة لقتال الناصر أحمد بالكرك، وهي ثاني تجريدة. وكتب بخروج تجريدة من دمشق، وحمل المنجنيق ونصبه على الكرك.
وفي يوم الإثنين ثاني عشريه: صار نقل الأير يلبغا اليحياوي إلى حماة مع طلبه، فركب الأمير أرغون العلائي في عدة من الأمراء حتى زين خيله زينة عظيمة، ورتبها بنفسه، وشقوا القاهرة، وكتب لهم بالإقامات في الطرقات.
وفيه أيضاً أعيد نجم الدين محمود وزير بغداد إلى الوزارة، وأعفي ملكتمر السرجواني منها لتوقف أحوال الدولة. وخلع علي جمال الكفاة، واستقر مشير الدولة، بسؤال وزير بغداد في ذلك، فنزلا معاً بتشاريفهما. وصار جمال الكفاة يطلع بكرة النهار إلى باب القلعة ومعه الوزير، فيصرفان الأشغال. وطلب جمال الكفاة ضمان جميع الجهات وزاد في كل جهة نحو العشرين ألف درهم ومنع أن يحمل شيء من مال الجيزة، ولا يصرف منها إلا بمرسوم السلطان، فمشمت أحوال الدولة.
وفي يوم الأربعاء خامس ذي القعدة: استقر لاجين أمير أخور، عوضاً عن الأمير آقسنقر الناصري. وسبب ذلك أنه سأل أن يتزوج بخوند أردو أم الأشرف كجك، فأجيب إلى ذلك وتزوج بها، وكانت جميلة الصورة. ثم بعد زواجها بأيام سأل الأمير أقسنقر أن يمشي صرغتمش الناصري في خدمته، وكان قد اشتراه السلطان الناصر محمد بنحو مائة ألف درهم، دفع عنها السلطان قريباً من نحو خمسة ألاف دينار مصرية، لجماله، وبسببه كانت فتنة الأمير قوصون مع المماليك السلطانية، لما طلبه بالليل. وكان آقسنقر يهواه وهو يترفع عليه، فاستشار السلطان الأمير أرغون العلائي

في إرسال صرغتمش إلى آقسنقر، فأنكر ذلك. ثم طلب السلطان صرغتمش، وعرفه بطلب أقسنقر له، فامتنع أشد امتناع، وقال: أقتل نفسي، ولا أمضي إليه وأمشي في خدمته فبعث السلطان إلى قماري والحجازي والنائب آقسنقر السلاري وعرفهم بذلك كله، فكلهم أنكر على آقسنقر الناصري طلبه صرغتمش وصابه، وأخذ الحجازي يتلطف بآقسنقر الناصري حتى كف عن طلبه على كره.
ثم رسم السلطان لآقسنقر الناصري أن يتوجه مع التجريدة إلى الكرك، وحمل إليه عشرة ألاف دينار وخسمائة جمل. وأخذ الأمراء في حمل التقادم إليه على حسب هممهم حتى لم يبق إلا سفره. ثم تخيل الأمير أرغون العلائي من سفره أن يخامر مع الناصر أحمد، فبعث إليه يمنعه من السفر، فشق عليه ذلك ولم يوافق، فأرسل إليه السلطان الأمير قماري أستادار، فتلطف به حتى وافق بشرط الإعفاء من الأمير أخورية فأعفي، وسكن الحجازي بالأشرفية من القلعة، وتحول آقسنقر إلى دار الحجازي.
وفي هذه السنة: بعث أرتنا صاحب الروم بهدية جليلة صحبة قاضي الروم، وسأل أن تجري على ما كان عليه الأمر في أيام الشهيد السلطان الناصر محمد من تجهيز التقليد بنيابة الروم.
وفيها رتب السلطان دروساً للمذاهب الأربعة بالقبة المنصورية، ووقف عليها وعلى قراء وخدام وغير ذلك ناحية دهمشا من الشرقية، فاستقر ذلك، وعرف بوقف الصالح. وفيها استقر علاء الدين علي بن عثمان بن أحمد بن عمرو بن محمد الزرعي في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن البرهان إبراهيم الرسعني. ثم صرف الزرعي ببدر الدين إبراهيم بن الصد، أحمد بن عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المصري.
وفيها ولدت امرأة بدمشق مولوداً، برأسين وأربعة أيدي.
وفيها كان بعرفة يوم عرفة فتنة بين العرب والحجاج من قبل الظهر إلى غروب الشمس قتل فيها جماعة. وسببها أن الشريف رميثة بن أبي نمى أمير مكة شكا من بني حسن إلى أمير الحاج. فركب أمير الحاج في يوم عرفة بعرفة لحربهم، وقاتلهم وقتل من الترك ستة عشر فارساً، وقتل من جماعة بني حسن عدة، وانهزم بقيتهم، فنفر الناس من عرفة على تخوف، ولم ينهب لأحد شيء، ولا تزال بنو حسن بمنى. ثم رحل الحاج بأجمعهم يوم النفر الأول، ونزلوا الزاهر خارج مكة، وساروا منه ليلاً إلى بطن مرو. وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة: رسم بتجريد الأمير أبي بكر بن أرغون النائب والأمير أصلم، والأمير أرنبغا.
وبلغت زيادة النيل في هذه السنة ثمانية عشر ذراعاً وتسعة أصابع.
ومات فيها من الأعيانبرهان الدين إبراهيم بن محمد السفاقسي المالكي في ذي الحجة، وله إعراب القرأن، وشرح ابن الحاجب في الفقه.
ومات الأمير أرنبغا الناصري، نائب طرابلس.
ومات الأمير أيدغمش الناصري، نائب الشام.
ومات الأمير بيبرس الأحمدي الحاجب وهو بدمشق، في رجب. وهو أحد المماليك الناصرية، ترقى في الخدم حتى صار أمير أخور، ثم عزل بأيدغمش، واستقر حاجباً. وتجرد إلى اليمن، ثم لما عاد سجن في العشرين من ذي القعدة سنة خمس وعشرين، وأقام معتقلاً تسع سنين وثمانية أشهر إلى أن أفرج عنه في ثاني عشرى رجب سنة خمس وثلاثين. وأخرج إلى حلب أميراً بها، ثم نقل إلى إمرة بدمشق، في سنة تسع وثلاثين، فمازال بها حتى مات. وله دار بالقاهرة داخل باب الزهومة بحارة العدوية، وحفيده أمير علي بن أمير أحمد بن الحاجب المقرئ.
ومات الأمير بكا الخطيري مقتولاً، في رابع عشرى رجب.
ومات الأمير بهادر الجوباني رأس نوبة.
ومات الأمير قماري أمير شكار، يوم الإثنين خامس جمادى الأولى.
ومات الأمير طشتمر حمص أخضر نائب صفد وحلب، مقتولاً بالكرك.
ومات الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل أمير آل فضل، بظاهر سلمية.
ومات الأمير طينال نائب صفد ونائب غزة ونائب طرابلس، وهو بصفد، في يوم الجمعة رابع ربيع الأول.
وتوفي تاج الدين أبو المحاسن عبد القادر بن عبد المجيد بن عبد الله بن متى اليماني المخزومي الشافعي الأديب الكاتب، بالقدس عن ثلاث وستين سنة. قدم القاهرة وأقام بها، وله شعر جيد.
ومات الحاجب صلاح الدين محمد بن إبراهيم، المعروف بابن البرهان.
وتوفي فخر الدين محمد بن يحيى بن عبد الله بن شكر المالكي، بمصر عن سبعين سنة.

وتوفي المقرئ بدر الدين محمد بن أحمد بن نصحان الدمشقي، شيخ القراء بها، عن خمس وسبعين سنة.
ومات الأمير قطلوبغا الفخري نائب الشام، مقتولاً بالكرك.
ومات سعد الملك مطرف، في حادي عشرين جمادى الأولى.
سنة أربع وأربعين وسبعمائةيوم الإثنين مستهل المحرم: قدم مبشر الحاج، وأخبر بكثرة ما كان في هذه الحجة من المشقات. وذلك أنه لما كان يوم عرفة تنافر أشراف مكة مع الأجناد من مصر، فركبوا لحرابهم بكرة النهار، ووقفوا للحرب صفين. فمشى الشريف عجلان بينهم، فلم تطعه الأشراف، وحملوا على الأجناد وقاتلوهم، فقتل منهم ومن العامة جماعة. وأبلى الشريف عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأمير أيدمر بلاء عظيماً، فعاتبه بعض مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسهم في صدره ألقاه عن فرسه، وقتل معه أيضاً جماعة، وآل الأمر. إلى نهب شيء كثير، ثم تراجع عنهم الأشراف.
وفيه قدم عيسى بن فضل بقود أخيه سيف بن فضل على عادته. وكان سليمان بن مهنا قد سافر إلى بلاده فأكرمه السلطان وأنعم عليه، وأنزله منزلة حسنة.
وفي يوم السبت سادسه: قدم من الكرك الطواشي صفي الدين جوهر ورفيقه مختار، فارين من الناصر أحمد.
وفي يوم الأحد سابعه: خرج المجردين إلى الكرك من القاهرة، صحبة الأمير أصلم والأمير بيبغا حارس الطير.
وفي يوم الأربعاء عاشره: قبض السلطان على أربعة أمراء، وهم الأمير أقسنقر السلاري نائب السلطنة، والأمير بيغرا أمير جاندار صهره، والأمير قراجا الحاجب، وأخيه أولاجا، وقيدوا ورسم بسجنهم في الإسكندرية.
وفيه خرج الأمير بلك على البريد إلى المجردين إلى الكرك، فأدركهم على السعيدية، فطيب خواطرهم، وأعلمهم بالقبض على الأمراء، وعاد سريعاً، فقدم قلعة الجبل طلوع الشمس من يوم الخميس حادي عشره، وبعد وصوله قبض السلطان على الأمير طيبغا الدوادار الصغير. وسبب قبض السلطان على هؤلاء الأمراء أن الأمير أقسنقر السلاري كان في نيابته لا يرد قصة ترفع إليه فقصده الناس من الأقطار، وسألوه الرزق والأراضي التي أنهوا أنها لم تكن بيد أحد، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمال والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرد أحد سأله شيئاً من ذلك، سواء كان ما أنهاه صحيحاً أم باطلاً. فإذا قيل له هذا الذي أنهاه يحتاج إلى كشف تغير وجهه، وقال: " ليش تقطع رزق الناس؟. فإذا كتب بالإقطاع لأحد، وحضر صاحبه من سفره أو تعافى من مرضه وسأله في إعادته، قال له: رح خذ إقطاعك، أو يقول له: نحن نعوضك. ففسدت الأحوال، ولاسيما بالمملكة الشامية، فكتب النواب بذلك للسلطان، فكلمه السلطان فلم يرجع، وقال: " أنا أي من طلب مني شيئاً أعطيته، وما أرد قلمي عن أحد. بحيث أنه كانت تقدم له القصة وهو يأكل فيترك أكله ويكتب عليها من غير أن يعرف ما فيها، فأغلظ له بسبب ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتفق مع ذلك أنه وشى به أنه يباطن للناصر أحمد، ويواصل كتبه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطان مسكه، فمسك هو وحاشيته.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: خلع السلطان علي الأمير الحاج آل ملك، واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن آقسنقر السلاري. وكان العلائي قد قرر مع السلطان أن يعرض على الأمراء نيابة السلطنة، فأول من عرضت عليه الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأمير الحاج آل ملك، فأظهر البشر وأجاب لها إن قبلت شروطه. فلما طلع الأمير الحاج آل ملك لصلاة الجمعة على العادة، اشترط على السلطان ألا يفعل شيئاً في المملكة إلا برأيه، وأنه يمنع الخمر من البيع، ويقيم منار الشرع، وأنه لا يعارض فيما يفعله. فقبل السلطان شروطه، ولبس الأمير الحاج آل ملك تشريف النيابة بجامع القلعة، بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطان زيادة على إقطاع النيابة بناحيتي المطرية والخصوص، ومتحصلهما اربعمائة ألف وخمسين ألف درهم.
وفي يوم السبت ثالث عشره: خلع السلطان علي منكلي بغا الفخري، واستقر أمير جندار، عوضاً عن بيغرا.

وفيه فتح شباك النيابة، وجلس فيه الأمير الحاج آل ملك للمحاكمات. فأول ما بدأ به أن أمر والي القاهرة بأن ينزل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويحتاط على ما بها من الخمر والبغايا، ويخرج من فيها من النصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخمور، ويخربها حتى يجعلها دكاً وسبب ذلك أن خزانة البنود كانت يومئذ حانة، بعد ما كانت سجناً يسجن فيه الأمراء والجند والمماليك، كما أن خزانة شمائل سجن لآرباب الجرائم من اللصوص وقطاع الطريق. فلما كانت دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد عوده من الكرك، وشغف بكثرة العمارات، اتخذ الأسرى وجلبهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزل عدة كثيرة منهم بقلعة الجبل، وجماعة كثيرة بخزانة البنود. فملأ أولئك الأرمن خزانة البنود حتى بطل السجن بها، وعمرها السلطان الناصر مساكنا له، وتوالدوا بها، وعصروا الخمور بحيث أنهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جرة، باعوها جهاراً وكان لحم الخنزير يعلق عندهم على الوضم، ويباع من غير احتشام. واتخذوا عندهم أماكن لاجتماع الناس على المحرمات، فيأتيهم الفساق ويظلون عندهم الأيام على شرب الخمور ومعاشرة الفواجر والأحداث ففسدت حرم كثيرة من الناس وكثير من أولادهم وجماعة من مماليك الأمراء فساداً شنيعاً، حتى إن المرأة إذا تركت أهلها أو زوجها، أو الجارية إذا تركت مواليها، أو الشاب إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانه البنود لا يقدر أن يأخده منهم، ولو كان من كان.
فقام الأمير الحاج آل ملك في أمرهم، وفاوض السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في فسادهم غير مرة، فلم يجبه إلى أن أكثر عليه فغضب السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي من هؤلاء، إن كان ما يعجبك مجاورتهم انتقل عنهم فشق ذلك عليه، وركب إلى ظاهر الحسينية واختار مكاناً، وعمره داراً، وأنشأ بجانبها جامعاً، وحماماً وربعاً وحوانيت. وبقيت في نفسه حزازات حتى أمكنته القدرة منهم، وانبسطت يده فيهم بكونه نائب السلطان، فنزل والي القاهرة ومعه الحاجب وعدة من أصحاب النائب وهجموا خزانة البنود، وأخرجوا جميع سكانها، وكسروا أواني الخمر، فكانت شيئاً يجل وصفه كثرة، وهدموها واشترى أرضها الأمير قماري من بيت المال، وتقدم إلى الضياء المحتسب أن ينادي بتحكيرها، فرغب الناس في أرضها واحتكروها، وبنوها دوراً وطواحين وغيرها.
وقد ذكرنا أخبار خزانة البنود في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ذكراً شافياً، فكان يوم هدم خزانة البنود يوماً مشهوداً من الأيام المشهورة المذكورة، عدل هدمها فتح طرابلس وعكا، لكثرة ما كان يعمل فيه بمعاصي الله.
ثم طلب النائب والي القلعة، وألزمه أن يفعل ذلك ببيوت الأسرى من القلعة، فمضى إليها وكسر جرار الخمر التي بها، وأنزلهم من القلعة، وجعلهم مع نصارى خزانة البنود في موضع بجوار الكوم. فيما بين جامع ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخذوا به مساكنهم، واستمروا بها إلى اليوم.
وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواص الأسرى، وعليهم كان يعتمد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائره، وكانوا في فساد كبير مع المماليك وحرم القلعة فأراح الله منهم.
ثم رسم الأمير الحاج آل ملك النائب بتتبع أهل الفساد، فمنع الناس من ضرب الخيم على شاطئ النيل بالجزيرة وغيرها للنزهة، وكانت محل فساد كبير لاختلاط الرجال فيها بالنساء، وتعاطيهم المنكرات.
واقترح الأمير الحاج آل ملك في نيابة اقتراحات كثرة، منها أنه منع من مكاتبة ولاة الأعمال إلا بعد أن يبعث الوالي أن كان للشاكي حق شرعي، وجعل عوض المكاتبة له كتابة الشكوى خلف قصة المشتكي، وكثيراً ما كان يرد الشكاة إلى الولاة والكشاف، وصار يكنب لجميع الولاة يعتمد.
ورسم الأمير الحاج آل ملك لأولي نيابته بإبطال جميع الملعوب، وهي جهة سلطانية كان يتحصل منها مال كثير، ولها ضامن يقال له كمجتي. له ضرائب مقررة على أرباب الملعوب، من المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك، وعلى المعالجين والمصارعين والمثاقفين والملاكمين والمشابكين، وعلى المقامرين على اختلاف أنواع القمار، وعلى القرادة والدبابة الذين يلعبون بالقرود والدب وغير ذلك من أنواع اللعب، فبطل ذلك كله.

وأبطل الأمير الحاج آل ملك أيضاً جهة ابن البطوني، وهي جهة سلطانية لها ضامن عليه مال مقرر يأخذه من كل من رد عليه عبده أو أمته، إذا أبقوا فكان يتعدى حتى يأخذ من يجده من العبيد والإماء قد مضى لمولاه في حاحة، ويحبسه عنده حتى يصالحه مولاه على مال يدفعه إليه، فبطل ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النزول عن الإقطاعات والمقايضات بهذه بعد أن فشى ذلك بين الأجناد، حتى إن جندياً قايض أخر بإقطاعه ومبلغ ألفين وخمسمائة درهم أقبضه منها ألفين، فألزمه الأمير الحاج آل ملك بحمل الألفين لبيت المال، فانكف الأجناد عن المقايضات.
ومقت الأمير الحاج آل ملك من يرفع إليه قصة بطلب زيادة، فرفع له علاء الدين بن القلنجقي أحد الأمراء العشرات قصة يسأل فيها زيادة على إقطاعه، فوقع له عليه بمائتي فدان من الجبل الأحمر، زيادة على ما بيده.
ومنع الأمير الحاج آل ملك من مكاتبة نواب الشام وكتابة التواقيع السلطانية لأهل الشام، وكتب مرسوم السلطان إلى الممالك الشامية بإبطال العمل بما كتب به من بعد وفاة السلطان الملك الناصر محمد، ولا يعتمد إلا على المراسيم المستقرة إلى حين وفاته، ليبطل بذلك ما كان في نيابة أقسنقر السلاري فبطلت جماعة كثيرة بأيديهم مراسيم سلطانية منصورية وأشرفية وصالحية تجددت بعد السلطان الناصر محمد، وأخذت منهم.
وفي يوم الخميس ثامن عشره: قدم محمل الحاج.
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: نودي بتحكير خزانة البنود، فشرع الناس في تحكيرها.
وفي يوم الخميس خامس عشريه: رسم السلطان أن يعاد على ناصر الدين المعروف بفأر السقوف ما أخذ له في نيابة الأمير طشتمر حمص أخضر، وخلع عليه بحسبة مصر، عوضاً عن ابن بنت الأعز، بشفاعة الأمير ملكتمر الحجازي، فأعيد له مبلغ أربعين ألف درهم من بيت المال.
وفيه قدم شهاب الدين أحمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق بطلب، لكثرة شعاته فقام أخوه علاء الدين علي بن فضل الله في أمره حتى أعيد إلى دمشق معزولاً، من غير مصادرة، ورتب له ما يكفيه.
وفيه أنعم على عدة من المماليك السلطانية بإمريات، منهم شيخو العمري، وألطنبغا برناق.
وفي هذا الشهر: كثر تخوف الناس من منسر انعقد بالقاهرة، وذلك أن رجال هذا المنسر كبسوا عدة بيوت، وكتبوا أوراقاً يطلبون فيها مالاً من الأغنياء، ومتى لم يبعث لنا ذلك كنا ضيوفك وأعيا الوالي أمرهم فاتفق أنهم كبسوا بيتاً ببولاق، وكان أهله قد أنذروا بهم، فاستعدوا لهم وتركوا أبوابهم مفتوحة، فدخلوا نصف الليل، وإذا بالنشاب قد وقع في صدورهم، فأصاب منهم ثلاثة، ورجع باقيهم منهزمين. فخرج منهم أيضاً اثنان والطلب في أثرهما، فقتل منهما واحد وقبضوا منهم على ثلاثة، وأتوا بهم الوالي، فأقروا على جماعة بالجزيرة وغيرها، فتتبعوا إلى أن ظفر بجماعة سمروا وشهروا.
وفيه قدم الرجل الصالح أحمد الزرعي، فأكرمه الأمير جنكلي بن البابا، وجمع بينه وبين السلطان. فسأل الزرعي أن تعفى بلده زرع من المغارم والسحر، وأقام أياماً ثم عاد إلى الشام.
وفيه قدم الأمير سيف بن فضل، فأكرمه السلطان، وكتب له ببلدة زرع حسب سؤاله، وسافر فمات قبل أن يستغلها.
وفيه قدم أيضاً أحمد بن مهنا وسيف بن فضل، بقود.
وفيه وصلت رسل متملك الهند بهدية فيها فصان ياقوت، ومعهم كتاب يتضمن السلام والمودة، وأنهم لم يكونوا يعرفون الإسلام حتى أتاهم رجل عرفهم ذلك، وذكر لهم أن ولاية الملك لابد أن تكون من الخليفة. وسأل متملك الهند أن يكتب له تقليد من جهة الخليفة بولاية مملكة الهند ليكون نائباً عن السلطان بتلك البلاد، وأن يبعث السلطان إليهم رجلاً يعلمهم شرائع الإسلام من الصلاة والصيام ونحو ذلك. فأكرمت الرسل، وطلب من الخليفة أن يكتب تقليداً لمرسلهم بسلطنة الهند، فكتب له تقليد جليل، ورسم بسفر ركن الدين الملطي شيخ الخانكاه الناصرية بسرياقوس مع الرسل. وفيه قدم البريد من حلب بطلب ناصر الدين محمد بن صغير الطبيب، ليعاج الأمير ألطنبغا المارداني، فأخرج على البريد، وقدم حلب يوم الثلاثاء سلخه، وقد احتضر الأمير ألطنبغا، فمات من الغد، فعاد ابن صغير بعد يومين من حلب.
وفي تاسع عشريه: رسم بتجريد الأمير جنكلي بن البابا، والأمير آقسنقر الناصري، والأمير أبي بكر بن أرغون النائب، والأمير طيبغا المجدي إلى الكرك.

وفي ثاني عشر صفر: قدم الخبر بوفاة الأمير ألطنبغا المارداني نائب حلب، فصلي عليه صلاة الغائب بجامعه، وقرئت له ختمة شريفة.
وفيه عقد مشور عند السلطان فيمن يلي حلب، فأشار الأمير أرغون العلائي باستقرار الأمير يلبغا اليحياوي في نيابة حلب، وأن يستقر عوضه في نيابة حماة الأمير طقتمر الأحمدي، وأن يستقر بلك الجمدار في نيابة صفد، عوضاً عن طقتمر الأحمدي. وعين أرغون شاه للسفر بتقليد الأمير يلبغا، وأن يتوجه الأمير أحمد لإحضار حريم المارداني وأمواله من حلب.
وفي رابع عشريه: توجه الأمير ألطنبغا برناق، بتقليد طقتمر نائب حماة.
وفي يوم السبت خامس عشريه: قدم الأمير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي ومن معهما من المجردين التجريدة الثانية إلى الكرك، فركب الأمراء إلى لقائهم. وكان قبل ذلك بيومين ورد كتاب الأمير أصلم بأنه قدم إلى الكرك بمن معه، وخرج الأمير بيبرس الأحمد بمن معه، وطلب أن يقوى بعسكر. فكتب إلى ولاة الأقاليم للخروج إلى الكرك بطلبهم، ونزل النقباء إلى الأمراء المعينين للسفر بخروجهم.
وفي يوم الخميس سلخه: خرج الأمير بلك الجمدر من القاهرة، لنيابة صفد.
وفي يوم الإثنين رابع ربيع الأول: خرج الأمير جنكلي بن البابا والأمير أقسنقر الناصري وملكتمر السرجواني وأمير عمر بن أرغون النائب، في أربعة ألاف فارس، تقوية للأمير أصلم، وهي التجريدة الرابعة للكرك. وتوجه صحبتهم عدة حجارين ونقابين ونفطية، وتوجه السلطان بعد سفرهم إلى سرياقوس على العادة.
وفيه اشتد الأمير الحاج آل ملك النائب على والي القاهرة ومصر في منع الخمر وغيره من المحرمات، وتتبع أهل الفساد وإحضارهم إليه. ونودي بالقاهرة ومصر من أحضر سكراناً أو أحداً معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لشربة الخمر بكل طريق، وأتوه مرة بجندي قد سكر، فضربه وقطع خبزه، وخلع على من أحضره. وقبض العامة أيضاً على بعض مماليك الأمراء، وقد أحضر جرة خمر في مركب، فضربه وقطع خبزه. وأخذ النائب كثيرا من شربة الخمر وباعته بناحية شبرا الخيم ومنية السيرج، ومن المراكب، ومن البيوت، فضربهم عرايا، وكشف رءوسهم، وصب عليهم الخمر وشهرهم. ونادى من اشترى عنباً بالقنطار قبض عليه، ويؤتي به إليه. فعرفه شاد الدواوين أن متحصل الديوان من معاملة العنب مائة ألف درهم، وقد بطلت، فلم يلتفت إليه، وتنجز مرسوم السلطان بالمساجة بذلك. وبعث النائب في خفية من اشترى له عنباً بدرهمين، فجاءه عشرة أرطال فطلب المحتسب، وأنكر عليه كيف يكون العنب بهذا السعر وقد منعنا من اعتصاره.
ومنع الأمير الحاج ملك النائب أن يحمل الفرنج إلى الإسكندرية خمراً، فقام في ذلك جمال الكفاة، وذكر أنه يتحصل من ذلك في السنة نحو الأربعين ألف دينار، ومتى منع الفرنج من حمل الخمر فسد حال الإسكندرية، ومازال بالسلطان حتى منع النائب من ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النوايح من القاهرة ومصر، فقامت الضامنة عند الأمير قماري الأستادار في إعادة النوايح، وخوفت أن جهته تبطل، وكان مرصده للحاشية، فمازال الأمير قماري يكلم الأمير الحاج آل ملك حتى أعادها.
وفي هذا الشهر: قام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة على إمام الجامع الأزهر، وحبسه. وسبب ذلك أنه كان يلي نظر الجامع، فأخرجه عنه قاضي القضاة وولاه للقاضي الحنبلي، فتعصب جماعة للإمام حتى أعاده آقسنقر السلاري النائب إلى نظر الجامع. فشق ذلك على القضاة، وتنكروا له، فقام رجل وأنهى إليهم أن الإمام من خمس وعشرين سنة وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم بأن زعم أنه صلى الله عليه وسلم انهزم في بعض غزواته، وكتب بذلك محضراً وأثبته. وشنعوا بذلك عليه، وأخذوه من الجامع إلى الحبس، فقام الشيخ خليل المالكي والقوام الكرماني قياماً زايداً حتى وصل إلى السلطان والأمراء أن بين القضاة وبينه عداوة، بسبب نظر الجمع، من قديم. فطلب القضاة إلى القلعة بحضرة السلطان، وحدثهم السلطان في أمره، فوقعوا فيه وقيعة قبيحة، وأنه قد وجب قتله، وقد حكم بعزله من الإمامة. فمازال السلطان بهم حتى حكم الحنفي بتعزيره، فعزر واستمر على وظيفته. وكثرت القالة في ابن جماعة بسببه، فإنه كانت له سمعة عند الخدام، وتتردد إليه أم السلطان.

وفيه خلع علي نجم الدين أيوب، وأعيد لولاية القاهرة، عوضاً عن شجاع الدين غرلو، وأخرج غرلو إلى الشوبك، عوضاً عن ألطنقش.
وفي يوم الخميس عشر: قدم الخبر بوصول المنجنيق من صفد إلى الكرك، وأنه هرب من خدام أحمد ومماليكه نحو ستة وأربعين نفراً، ثم قدموا في حادي عشريه، فخلع عليهم.
وفي رابع عشر ربيع الآخر: قدم الخبر بوصول جنكلي بن البابا وأقسنقر الناصري إلى الكرك بمن معهما، في يوم السبت سابعه، فزحفوا من غدهم، وقاتلوا قتالاً شديداً جرح فيه بالغ وجماعة، وعدة قتلوا، وجرح كثير. فانكسر أهل الكرك كسرة قبيحة، فسر السلطان بذلك، وبعث إلى الأمراء المجردين خمسين حجاراً.
وفيه قدم رسول حسن بن دمرداش بن جوبان بهدية، وسأل أن يبعث إليه برمة أبيه، فاعتذر السلطان عن ذلك بأنه لم يعرف له قبراً.
واتفق في زيادة النيل أنه كان وفاؤه يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول وهو سابع عشر مسرى فزاد زيادة كبيرة بعد الوفاء حتى فاض من جهة قرموط من الخليج، وطلع من الأسربة. فركب الوالي إلى بولاق، وركب النائب إلى جسر بركة الحبش في عدة من الأمراء، وأقام ثلاثة أيام حتى أتقن بعض الجسور.
وفاض النيل من جهة قناطر الأوز، فكتب لوالي الشرقية على أجنحة الحمام أن يقطع اللؤلؤة فكثر تقطع الجسور، وتعبت الولاة في سدها حتى تقطعت جميعها بالوجه القبلي والوجه البحري. وفسدت الأقصاب، والنيلة والقلقاس، وسائر الزراعات الصيفية، والمخا زن.
وفيه قدم الخبر بكثرة الفساد والمجاهرة بالخمور وأنواع الفسوق بدمشق، وقلة حرمة نائبها الأمير طقزدمر الحموي، وتغلب مماليكه وتهكمهم عليه وسوء سيرتهم، فكتب بالإنكار عليه. واتفق بظاهر القاهرة أمر اعتني بضبطه، وهو أنه كان بناحية اللوق كوم يعرف بكوم الزل يأوي إليه أهل الفسوق من أوباش العامة، فأخذ بعضهم منه موضعاً ليبني له فيه بيتاً، فشرع في نقل التراب منه، فبينا هو يحفر إذ ظهر له إناء فخار فيه مكاتيب دار كانت في هذا البقعة، وتدل على أنه كان به أيضاً مسجد، ورأى أثار البنيان. فأشاع بعض شياطين العامة - وكان يقال له شعيب، أنه رأى في نومه أن هذا البنيان على قبر بعض الصحابة رضي الله عنهم، وأن من كراماته أنه يقيم المقعد ويرد بصر الأعمى، وصار يصيح ويهلل ويظهر اختلال عقله. فاجتمعت عليه الغوغاء، وأكثروا من الصياح، وتناولوا تلك الأرض بالحفر حتى نزلوا فيها نحو قامتين، فإذا مسجد له محراب. فزاد نشاطهم، وفرحوا فرحاً كبيراً، وباتوا في ذكر وتسبيح. وأصبحوا وجمعهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعدهم النساء، حتى إن المرأة كانت تشيل التراب في مقنعها، وأتاهم الناس من كل أوب، ورفعوا معهم التراب في أقبيتهم وعمائمهم، وألقوه في الكيمان، بحيث تهيأ لهم في يوم واحد ما لا تفي مدة شهر بنقله.
وحفر شعيب حفرة كبيرة، وزعم أنها موضع الصحابي، فخرج إليه أهل القاهرة ومصر أفواجاً، وركب إليه نساء الأمراء والأعيان، فيأخذهن شعيب وينزلهن تلك الحفرة لزيارتها، وما منهن إلا من تدفع الدنانير والدراهم.
وأشاع شعيب أنه أقام الزمنى، وعافى المرضى، ورد أبصار العميان، في هذه الحفرة، وصار يأخذ جماعة ممن يظهر أنه من أهل هذه العاهات، وينزل بهم إلى الحفرة، ثم يخرجهم وهم يسبحون الله أكبر الله أكبر، ويزعمون أنهم قد زال ما كان بهم.
فافتتن الناس لتلك الحفرة، ونزلت أم السلطان لزيارتها، و لم تبق أمرأة مشهورة حتى أتتها وصار للناس هناك مجتمع عظيم، بحيث يسرج به كل ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشموع الموكبية شيء كثير. فقامت القضاة في ذلك مع الأمير أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك النائب، وقبحوا هذا الفعل، وخوفوا عاقبته، حتى رسم لوالي القاهرة أن يتوجه إلى مكان الحفره ويكشف أمرها، فإن كان فيها مقبور يحمل إلى مقابر المسلمين ويدفن به سراً، ثم يعفى الموضع. فلما مضى إليه ثارت به العامة تريد رجمه، وصاحوا عليه بالإنكار الشنيع حتى رماهم الجند بالنشاب، فتفرفوا، وهرب شعيب ورفيقه العجوي، ومازال الحفارون يعملون في ذلك المكان إلى أن انتهوا فيه إلى سراب حمام، و لم يجدوا هناك قبراً ولا مقبوراً، فطموه بالتراب، وانصرفوا. وفد انحلت عزائم الناس عنه، بعدما فتنوا به، وضلوا ضلالاً بعيداً، وجمع شعيب ورفيقه كثيراً من المال والثياب شيئاً طائلاً.

وفيه توجه أيدمر الشمسي لكشف أحوال الكرك.
وفي يوم الأحد سابع عشرى جمادى الأولى: قدم الأمير أصلم، وأبو بكر بن أرغون النائب، وأروم بغا، من تجريدة الكرك بغير إذن، واعتذروا بضعف أبدانهم وكثرة الجراحات في أصحابهم وقلة الزاد عندهم. فقبل السلطان عذرهم، ورسم الأمير طقتمر الصلاحي وتمر الموساوي، في عشرين مقدماً من الحلقة وألفي فارس، فساروا خلقه، وهي التجريدة الخامسة.
وفيه قدم البريد من حلب أنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة سنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس لحرب أهلها من الأرمن، لمنعهم الخراج.
تركمان الطاعة، وأغاروا معهم، وأثروا في أهل سيس آثار قبيحة.
وفيه نودي من قبل الأمير الحاج آل ملك نائب السلطان بأن أهل الأسواق كلها إذ أذن الصلاة يصلون قدام دكاكينهم بإمام يصلي بهم، فعملوا أنخاخاً وحصروا برسم فرشها للصلاة في الأسواق.
وتوجه السلطان في هذه الأيام إلى سرياقوس على العادة، ورسم بلعب الرمح بين يديه. فاجتمع غواة لعب الرمح، وحضر طيدمر الملكي وابن الطرابلسي الرماح وقطز الشمسي، ومن ضاهاهم، وتكافحوا. فظهر ابن الطرابلسي يومئذ على سائرهم، وأنعم عليه.
وفيها ترك الأمير طقبغا الناصري إمريته، وتزيا بزي الفقراء، فلزمه بحكم الديوان أربعمائة ألف درهم، حمل منها مباشروه ثلاثمائة ألف.
وفيها رسم باستقرار الأمير سيف الدين بن فضل أمير الأمراء في الإمرية، عوضاً عن سليمان بن مهنا، بعد موته.
وفيها كتب بمنع أحمد بن مهنا من القدوم إلى مصر، فرده نائب الشام من دمشق وعاد إلى أهله. فاتفق أحمد بن مهنا مع فياض على إقامة فتنة.
وفيها تزوج السلطان ابنة الأمير طقزدمر الحموي نائب الشام، بعد ما جهز الأمير ملكتمر الحجازي بالمهر إلى دمشق، فقدمها في سادس عشر جمادى الآخرة، وقد تلقاه الأمير طقزدمر، فدفع إليه المهر وهو مائة ألف درهم. وعاد الأمير ملكتمر الحجازي من دمشق من غير أن يأخذ لأحد شيئاً هدية، فبعث له الأمير طقزدمر الحموي ألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل. وأنعم عليه السلطان بألفي دينار، وخيول وغيرها. وفيه قدم الخبر بخروج فياض وآل مهنا عن الطاعة، وإغارتهم على عرب سيف بن فضل، وأخذهم قفلاً من بغداد إلى نواحي الرحبة، كان فيه لرجل واحد ما قيمته نحو مائتي ألف دينار، سوى ما لغيره من التجار.
وفيه قدم الخبر بأن سليمان شاه حاكم الأردو جرت بينه وبين أرتنا ملك الروم حرب انتصر فيها أرتنا، وقتل عدة من أصحاب سليمان شاه، وغنم ما معهم، وهزم باقيهم. وفي مستهل رجب: عاد الأمير جنكلي بن البابا والأمير آقسنقر الناصري من تجريدة الكرك إلى القاهرة، فأكرمهما السلطان لكثرة بلائهما في الكرك، وخلع عليهما.
وفيه قدم البري بمحضر ثابت على قضاة حلب يتضمن أنه لما كان يوم السبت سادس شعبان إذا برعد وبرق أعقبته زلزلة عظيمة، سمع حسها من نصف ميل عن حلب، وهو حس مزعج يرجف القلوب. فهدم من القلعة اثنا وثلاثون برجاً سوى البيوت، وهدم من قلعة البيرة أكثر من نصفها، وكذلك من قلعة عين تاب وقلعة الراوند وبهسنا وبلاد منبج وقلعة المسلمين. فخرج أهل حلب إلى ظاهرها، وضربوا الخيم، وغلقت سائر أسواقها، وفي كل ساعة يسمع دوي جديد. ثم إنهم تجمعوا عن أخرهم، وكشفوا رءوسهم ومعهم أطفالهم والمصاحف مرفوعة، وهم يضجون بالدعاء والابتهال إلى الله برفع هدا المقت. فأفاموا على ذلك أياماً إلى خامس عشريه حتى رفع الله ذلك عنهم، بعدما هلكت بتلك البلاد تحت الردم خلائق لا يحصيها إلا خالقها، فكتب بتجديد عمارة ما هدم من القلاع من الأموال الديوانية. وقدم الخبر من الكرك بأن العساكر أخذت على طرقها كلها بالاحتفاظ وأخدت أغناماً كثيرة لأهلها، وقتلت جماعة من الكركيين. فرسم بتجهيز الأمير علم الدين سنجر الجاولي، والأمير أرقطاي، والأمير قماري أستادار، وعشرين أمير طبلخاناه وعشرات، وثلاثين مقدم حلقة، وأنفق السلطان فيهم. فساروا يوم الثلاثاء خامس عشر شوال في ألفي فارس، وهي التجريدة السادسة، وتوجه معهم عدة حجارين ونفطية.
وفيه خلع على الأمير طرغاي الطباخي، واستقر في نيابة طرابلس بعد موت رسغاي السلاح دار، وكتبت أوراق ديوانية بما يلزم رسغاي بحكم الديوان، ويشتمل على ألفي ألف درهم.

وفيه استقر علاء الدين علي بن محمد بن الأطروش السقطي في حسبة دمشق، بعناية الأمير أرغون العلائي، فشنع الناس بسبب ولايته، لجهله بالأمور الشرعية.
وفي أول شعبان: ورد كتاب الناصر أحمد من الكرك وهو يترفق ويعتذر عن قتل الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أخضر، وأنه إن رسم بحضوره حضر، وإن رسم بإقامته بالكرك أقام تحت الطاعة، وأنه لا رغبة له في الملك. وعقيب ذلك ورد كتاب نائب الشام وكتاب نائب حلب، وفي ضمنهما كتب الناصر أحمد إليهما بختمها، وهي تشتمل على معنى ما ذكر في كتابه. فتوجه إليه الأمير طشتمر طلليه بجواب يتضمن أنه إن أراد الإقامة بالكرك مطمئناً فليسير ما أخده من المال والخيل وغير ذلك، ويبعث يوسف بن البصارة أيضاً، وإلا هدمت عليه الكرك حجراً حجراً، وأسر إلى طلليه أن يتحيل في القبض على أحمد.
وفي مستهل رمضان: فرغت عمارة القاعة المعروفة بالدهيشة من القلعة، وفرشت بأنواع البسط والمقاعد الزركش، وجلس فيها السلطان وبين يديه جواريه. فأكثر من الإنعام والعطاء، وكان قد اختص بالمملوك بيبغا الصالحي، وأمره وخوله في نعم جليلة، وزوجه بابنة الأمير أرغون العلائي، وهي أخت السلطان لأمه، وعمر له حوانيت خارج باب القرافة. وكثر استيلاء الجواري والخدام على الدولة وعارضوا النائب، وأبطلوا ما أحبوا إبطاله مما يرسم به، حتى صار يقول لمن يطلب شيئاً: رح إلى الطواشية ينقضي شغلك، فإذا بلغهم ذلك أهدروا مكانته وردوا أفعاله.
وفي سابعه: توجه الأمير آقسنقر الناصري لنيابة طرابلس، بعد موت الأمير طوغاي الطباخي، وقد تنكر السلطان له وتغير عليه.
وفي عشريه: رحل محمل الحاج من البركة، وقد قدم من حجاج المغاربة زيادة على عشره ألاف إنسان، ومن حجاج بلاد التكرور نحو خمسة ألاف نفر، وحج الطواشي عنبر السحرتي لالا السلطان، في تجمل كثير.
وفيه أعاد الناصر أحمد الأمير طشتمر طلليه بجواب غير طائل، ومن غير أن يجتمع به. وقدم معه وبعده من الكركيين عدة أشخاص، فمرروا مع السلطان مخامرتهم على الناصر أحمد، وطلبوا إقطاعات عديدة لهم ولأصحابهم. فكتب لهم السلطان بها، وأعيدوا بإنعامات جليلة. فقدم الخبر بأن يوسف بن البصارة بعثه الناصر أحمد من الكرك ليحضر إلى مصر، فوجد قتيلاً في أثناء طريقه، واتهم الناصر أحمد أنه بعث من قتله خوفاً منه أن ينم عليه لأخيه، وأحاط الناصر أحمد بموجوده، فوجد له أربعة وعشرين ألف دينار، وثلاثين حياصة ذهب، وثلاثين كلفتاه زركش، سوى لؤلؤ وقماش وغير ذلك. فوقع الاتفاق على أن يجرد السلطان إلى الكرك عدة عساكر من مصر والشام.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدم بالغ ومشايخ الكرك طائعين، فأنعم السلطان عليهم وعادوا في حادي عشره، ومعهم عدة من المماليك السلطانية ليسلموهم قلعة الكرك.
وفيه رسم بتجريدة سابعة فيها الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناة، وسته عشر أميراً. وكتب بخروج عسكر من دمشق، ومعهم منجنيق وزحافات. وحمل السلطان إلى الأمير بيبرس الأحمدي ألفي دينار، وإلى كوكاي ألف دينار، ولكل أمير طبلخاناة أربعمائة دينار، ولكل أمير عشره مائتا دينار. وأرسل السلطان أيضاً مع الآمير بيبرس الأحمدي أربعة ألاف دينار لأجل من عساه ينزل من الكرك، وجهزت تشاريف كثيرة. وأقام الأمراء في طريقهم نحو شهرين، وخرج معهم ستة ألاف رأس من البقر والغنم، ومائتا رأس جاموس ونحو ألفي راجل. فاستعد لهم الناصر أحمد، وجمع الرجال، وأنفق فيهم مالاً كثيراً وجمع الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك، وركب المنجنيق الذي كان بها.
وفيه قدم سليمان ابن مهنا بقوده، فخلع عليه.
وفي مستهل ذي الحجة: عرض السلطان الخيل ليختار فرساً يركبه يوم العيد، وأحضر عشرة من النقاراتية، فدقوا كوساتهم عند العرض. فظن العسكر أنها حربية، فركبوا تحت القلعة، وتجمعت العامة على عادتهم، وغلقت الأسواق. فركب إليهم نقيب الجيش ولامهم على ركوبهم، وردهم.

وأخذت القالة تكثر حتى تنكرت قلوب الأمراء، وادخروا الأقوات خوفاً من الفتنة. ولهجت العامة بقولهم: يا ولد خرا للعيد وغنوا به في الأسواق. فتوهم السلطان من فتنة تكون يوم العيد، وهم ألا يصلي يوم العيد خوفاً من طائفة تهجم عليه في الصلاة من جهة أخيه رمضان واستعد لذلك. ثم بعث السلطان إلى أخيه رمضان، فقتله ليلة العيد، وصلى العيد وهو متحرز.
وفي هذه الأيام: أعيد ضمان الملعوب من العلاج والصراع واللكلم والسعاة، ونحو ذلك. وأعيد ضمان ابن البطوني، وضمن بزيادة عشرة ألاف درهم.
وفيها قبض بدمشق على الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء وسجنوا، لميلهم إلى الناصر أحمد.
وفيها اختلت مراكز البريد، فجمع لها ثمانمائة فرس، بعث السلطان منها مائتي فرس، وأخذ من كل أمير مائة أربعة أرؤس، ومن كل أمير طبلخاناة فرسين، ومن كل أمير عشرة فرساً واحداً، وأخذ من الموقعين عدة أفراس.
وفيها نهبت منية السيرج، وذلك أن جماعة من الفقراء المتعبدين بها أنكروا على النصارى بيعهم الخمر، وهم معظم أهل المنية، وبالغوا في الإنكار حتى ضرب أحد الفقراء نصرانياً أسال دمه، ودخل إلى صلاة الجمعة بالجامع. فتجمع النصارى، وأتوا الفقراء بالجامع بعد الصلاة، وضربوهم، فثار المسلمون بهم، فأثخنهم ضرباً، ومالوا على بيوتهم فنهبوها. وتعدى النهب إلى بيوت المسلمين حتى بلغ الخبر إلى الأمير الحاج آل ملك النائب، فبعث الحجاب والوالي، فقبضوا على جماعة كثيرة، وردوا كثيراً مما نهب، وحملوا الذين قبض عليهم، وفيهم عدة من الأجناد، فضربوا وسجنوا وقطعت أخبازهم. وأقامت المنية خراباً وبيوتها مهدمة نحو الشهرين، حتى عاد أهلها إليها.
وفي هذه السنة: نافق عربان الصعيد، واقتتلوا وقطعوا الطريق، فقتل بينهم نحو الألفي رجل. فركب الأمير علاء الدين علي بن الكوراني، وقد استمال معه طائفة من أعدائهم يريد حربهم، فلم يثبتوا له وفروا منه، فأخذ لهم عدة جمال وخيول وسلاح. وفيها احتربت الدعاجية والسعديون، فقتل بينهم خلق كثير جداً، فركب إليهم الأمير أزدمر كاشف الوجه البحري، وقتل منهم أعداداً كثيرة.
وفيها كثر فساد فياض وقطعه الطرقات، فلم يطق الأمير سيف بن فضل رده ومنعه، لعجزه عن آل مهنا.
وفيها اشتد الحصار على الكرك، وضاقت على الناصر أحمد ومن معه لقلة القوت عندهم وتخلى عنه أهل الكرك، ووعدوا الأمراء بالمساعدة عليه، فحملت إليهم الخلع ومبلغ ثمانين ألف درهم.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد وعامة بلاد العراق، وبلغ الرغيف ببغداد ديناراً عراقياً، عنه ستة دراهم، والرطل اللحم بدينار ونصف.
وفيها استقر بيبغا ططر في نيابة غزة، عوضاً عن طرنطاي البشمقدار.
وفيها استقر طرنطاي حاجباً بالقاهرة.
وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكره لقتال ابن دلغادر، فلقيهم ابن دلغادر وكسرهم كسرة قبيحة. فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه، ففر منه ابن دلغادر إلى جبل، وترك أثقاله فنهبها العسكر، وقتلوا كثيراً من تركمانه، وظفروا ببعض حرمه، وتبعوه إلى الجبل، وصعدوه. فقاتلهم ابن دلغادر، وجرح أكثرهم. وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله، وتقنطر عنه يلبغا وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريم ابن دلغادر وما نهبوه له، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب، وتعنيفه على ما فعله.
وفيها استقر المكين إبراهيم بن مزونية في نظر دمشق، عوضاً عن التاج ابن الصاحب أمين الملك. واستقر موسى بن التاج إسحاق في نظر حلب، وأستقر زين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلة بن جابر المعروف بابن الصائغ الأنصاري الدمشقي، في قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن بدر الدين بن الخشاب، وعاد ابن الخشاب إلى القاهرة.
وكانت هذه السنة من أنكد السنين وأشدها، لكثرة الفتن وسفك الدماء ببلاد الصعيد ونواحي الشرقية وبلاد عرب الشام وبلاد الروم والكرك، وغلاء الأسعار بالعراق وكثرة الموتى عندهم، وزيادة النيل التي فسد بها الأقصاب والزراعات الصيفية. فلما أدرك الشعير هاف من السموم، وهاف كثير من الفول أيضاً وبعض القمح، وتحسن السعر حتى بلغ الأردب درهماً، بعد ما كان بعشرة دراهم.
وفيها بلغت زيادة النيل عشرين ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيان

زين الدين إبراهيم بن عرفات بن صالح بن أبي المنا القناوي الشافعي، وقاضي قنا، وكان يتصدق في السنة بألف دينار في يوم واحد.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن عبد الحق، قاضي القضاة الحنفية بديار مصر، وهو مقيم بدمشق.
ومات إبراهيم بن صابر المقدم.
وتوفي المحدث شهاب الدين أحمد بن علي بن أيوب بن علوي المستولي، وقد جاوز الثمانين، حدث عن الأبرقوهي، وكان ورعاً خيراً.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن أبي الفرج الحلبي، بالقاهرة، حدث عن النجيب، والأبرقوهي، والرشيد بن علان وغيره، ومولده في رمضان سنة خمس وستين وستمائة. وتوفي المسند شهاب الدين أحمد بن كشتغدي المعزي.
ومات الأمير أقسنقر السلاري قتلاً بحبس الإسكندرية، تنقل في الخدم إلى أن ولي نيابة صفد ونيابة غزة، ثم نيابة السلطنة بديار مصر.
ومات الأمير ألطنبغا المارداني وهو في نيابة حلب، وهو الذي أنشأ جامع المارداني خارج باب زويلة.
ومات الأمير ألطنبغا العلمي الجاولي، الفقيه الشافعي، الأديب الشاعر، أصله مملوك ابن باخل، ثم صار إلى الأمير علم الدين سنجر الجاولي، فعرف به، وعمله دواداره وهو نائب غزة، ثم تقلبت به الأحوال حتى مات بدمشق في ربيع الأول، وشعره جيد.
وتوفي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق ومصر، في ربيع الأول.
وتوفي علم الدين سليمان بن إبراهيم بن سليمان المعروف بابن المستوفي المصري ناظر الخاص بدمشق، سابع عشرى جمادى الآخرة، عن سبعين سنة بها، وكان كاتب قراسنقر، وله شعر.
ومات الأمير طوغاي الطباخي نائب حلب وطرابلس، في شهر رمضان.
وتوفي شهاب الدين عبد اللطيف بن عز الدين عبد العزيز بن يوسف بن أبي العز، المعروف بابن المرحل، الحراني الأصل، النحوي، بالقاهرة، وقد جاوز الستين.
وتوفي الشيخ المعتقد عبد الكريم في ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
وتوفي المسند المحدث علاء الدين علي بن قيران السكري، ومولده في سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ومات الأمير عيسى بن فضل الله بن أخي مهنا، ولي إمرة العرب بعد موسى بن مهنا، ثم عزل بسليمان بن مهنا، ومات بالقريتين، ودفن بحمص.
وتوفي تقي الدين محمد بن القطب عبد اللطيف بن الصدر يحيى بن أبي الحسن علي ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي، وهو أحد الفقهاء النحاة للقراء.
وتوفي الإمام شمس الدين محمد بن العماد أحمد بن عبد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، في جمادى الأولى بدمشق، عن تسع وثلاثين سنة.
ومات طغاي بن سوناي بالمشرق، قتلاً.
ومات الأمير أقبغا عبد الواحد الأستادار، في محبسه بالإسكندرية، وإليه تنسب المدرسة الآقبغاوية بجوار الجامع الأزهر.
وقتل الشيخ حسن بن دمرداش بن جوبان بن بلك، بتوريز في رجب، وكان داهية صاحب حيل ومكر، وأفتى عدة كثيرة من المغل.
ومات طغاي بن سوناي. ومن أخباره أنه لما مات أبوه، ووثب بعده علي باشا خان بوسعيد، حاربه طغاي حتى قتله، فقتله إبراهيم شاه بن بارنباي، يوم عاشوراء.
سنة خمس وأربعين وسبعمائةأهلت والعسكر في حركة اهتمام بالسفر إلى الكرك، وقد تعين الأمير بغا الفخري، والأمير قماري، والأمير طشتمر طلليه، للتوجه بهم. وألزم السلطان كل أمير مائة مقدم ألف بإخراج عشرة مماليك، ولم يوجد في بيت المال ولا الخزانة ما ينفق عليهم منه، فأخذ مالاً من تجار العجم ومن بيت الأمير بكتمر وجماعة أخرين على سبيل القرض، وأنفق فيهم.
وفي يوم السبت مستهل المحرم: قدم مبشر الحاج.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: خرج المجردون إلى الكرك.
وفي رابع عشريه: قدم محمل الحاج، وقد قاسى الحاج في سفرهم مشقات كبيرة من قلة الماء وغلاء الأسعار، بحيث أبيعت الويبة من الشعير بأربعين درهماً عنها ديناران، والويبة الدقيق بخمسون درهماً، والرطل البشماط بثلاثة دراهم. وأبيع الأردب القمح في مكة بمائتي درهم، وبلغ الجمل بمنى إلى أربعمائة وخمسين درهماً، لقلة الجمال. وكان من أسباب ذلك أن الشريف عجلان بن رميثة خرج إلى جدة، ومنع تجار اليمن من عبور مكة، فعز بها صنف المتجر، وهلك كثير من مشاة الحاج.

وفيه أقامت العساكر على محاصرة الكرك وقطع الميرة عنها، وكانت أموال الناصر أحمد قد نفذت من كثرة نفقاته، فوقع الطمع فيه. وأخذ بالغ - وهو أجل ثقاته من الكركيين - في العمل عليه، وكاتب الأمراء ووعدهم أنه يسلم إليهم الكرك، وسأل الأمان. فكتب إليه عن السلطان أمان، وقدم إلى القاهرة كما تقدم في السنة الخالية، ومعه مسعود وابن آبي الليث، وهؤلاء أعيان مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشير بجميع ما طلبوه من الإقطاعات والأراضي، وكانت جملة ما طلبه بالغ بمفرده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابه، ثم أعيدوا بعد ما حلفوا، وقد بلغ الناصر أحمد خبرهم، فتحصن بالقلعة، ورفع جسرها، وصاروا هم بالمدينة ومكاتباتهم ترد على العسكر. فلما ركب العسكر للحرب وخرج الكركيون، لم يكن غير ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخل المدينة، فدخلها العسكر أفواجاً واستوطنوها، وجدوا في قتال أهل القلعة عدة أيام، والناس تنزل منها شيئاً بعد شيء، حتى لم يبق مع الناصر أحمد عشرة أنفس، فأقام يرمي بهم على العسكر. وكان الناصر أحمد قوي الرمي شجاعاً، إلى أن جرح في ثلاثة مواضع. وتمكنت النقابة من البرج، وعلقوه وأضرموا النار تحته حتى وقع. وكان الأمير سنجر الجاولي قد بالغ أشد مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالاً كثيراً، فلما هجم العسكر على الناصر أحمد، في يوم الإثنين ثاني عشرى صفر، وجدوه قد خرج من موضع وعليه زردية، وقد تنكب قوسه وشهر سيفه. فوقفوا وسلموا عليه، فرد عليهم السلام وهو متجهم، وفي وجهه جرح وكتفه يسيل دماً. فتقدم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، فأخذوه ومضوا به إلى دهليز الموضع الذي كان به، وأجلسوه وطيبوا خاطره، وهو ساكت لا يجيبهم، فقيدوه ووكلوا بحفظه جماعة، ورتبوا له طعاماً، فأقام يومه وليلته، ومن باكر الغد تقدم إليه الطعام فلا يتناول منه شيئاً إلى أن سألوه في أن يأكل، فأبى أن يأكل حتى يأتوه بشاب كان يهواه يقال له عثمان، فأتوه به فأكل عند ذلك.
وخرج ابن الأمير بيبغا الشمسي حارس الطير بالبشارة، وعلى يده كتب الأمراء فقدم قلعة الجبل يوم السبت ثامن عشريه، فدقت البشائر سبعة أيام. ثم قدم أيضاً ابن الأمير قماري، ثم بعده أرلان ومعه النمجاه.
ثم أخرج الأمير منجك السلاح دار ليلاً من القاهرة على النجب، لقتل الناصر أحمد من غير مشاورة الأمراء، فوصل إلى الكرك. وأدخل منجك إليه من أخرج الشاب من عنده، وخنقه في ليلة رابع ربيع الأول، وقطع رأسه. وسار منجك من ليلته و لم يعلم الأمراء ولا العسكر بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدة فقدم منجك بعد ثلاث إلى القلعة ليلاً، وقدم الرأس بين يدي السلطان، وكان ضخماً مهولاً له شعر طويل، فاقشعر السلطان عند رؤيته، وبات مرجوفاً.
وفيه طلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم بتوجهه لحفظ الكرك إلى أن ياتيه نائب لها، وكتب بعود الأمراء والعساكر، وكانت مدة حصار الناصر أحمد بالكرك سنتين وشهراً وثمانية أيام.
وكان جمال الكفاة قد تقدم في الدولة تقدماً زائداً، فإنه ولي الخاص ثم نظر الجيش، فباشرهما جميعاً. وتمكن في أيام السلطان الملك الصالح تمكناً عظيماً، سببه أن السلطان اشتد شغفه بجارية مولدة يقال لها اتفاق، كانت تجيد ضرب العود، وأخذته عن عبد علي العواد العجمي، فرتبه جمال الكفاة عند السلطان حتى صار يجلس معها عند السلطان.

وكان السلطان يخشى من الأمير أرغون العلائي، ولا يتجاسر أن يبسط يده بالعطا لاتفاق، فأسر ذلك لجمال الكفاة، فصار يأتيه بكل نفيس من الجواهر وغيرها سراً، فينعم به على اتفاق. وكذلك كان السلطان قد أسر للوزير نجم الدين هواه في اتفاق، فكان أيضاً يحمل إليه في الباطن الأشياء النفيسة، ولا كما يحمله جمال الكفاة. فعلت رتبة جمال الكفاة، بحيث أن الوزير نجم الدين امتنع عن مباشرة الوزارة ما لم يكن جمال الكفاة يلاحظه. ثم رسم السلطان لجمال الكفاة أن يكون مشير الدولة، وكتب له في توقيعه الجناب العالي، بعدما امتنع علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر من ذلك، وتوحش ما بينهما بسببه. فرسم السلطان أن يكتب له ذلك، فعظمت رتبته، وارتفعت مكانته إلى أن تعدى طوره، وأراد أن ينخلع من زي الكتاب إلى هيئة الأمراء، وأن يكون أمير مائة مقدم ألف، ولم يبق إلا ذلك فشق على الأمراء هذا الأمر.
وكان جمال الكفاة قد تنكر عليه الأمير أرغون العلائي، بسبب إقطاع عينه لبعض أصحابه، فأجاب بأن السلطان قد أخرجه، فغضب العلائي وبعث إليه دواداره ومعه حياصة من ذهب، وأمره أن يقول له عنه: أنت ما بقيت تعطي شيئاً إلا ببرطيل، وهذه الحياطة برطيلك، خذها واقض شغل هذا الرجل فلم يسمح جمال الكفاة له بالإقطاع، وقام مع السلطان حتى عرف العلائي مشافهة بأنه هو الذي أخرج الإقطاع فأسرها العلائي في نفسه، وأخذ يغري به النائب الحاج آل ملك والأمراء، فمال معهم الوزير، وصاروا جميعهم واحداً عليه ورتبوا له مهالك ليقتلوه بها، منها أنه يباطن الناصر أحمد ويكاتبه، ويتصرف في أموال الدولة باختياره، وقد ضيعها كلها، فإنه كان ناظر الجيش ومشير الدولة، وأنه يتحدث مع السلطان في الأمراء، ويقع فيهم ويثلب أعراضهم عنده. وأخذ الوزير يعلم السلطان والعلائي بأن سائر ما يخبره السلطان به من محبته لاتفاق يخبر به الوزير، ونقل عنه من ذلك أشياء تبين للسلطان صحته. فانحطت بذلك مكانته عند السلطان، ورسم بقتله بعد أخذ ماله، فقبض عليه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وعلى أولاده وزوجته. وقبض معه على الصفي الحلي موسى كاتب قوصون وناظر البيوت، وعلى الموفق عبد الله بن إبراهيم ناظر الدولة.
ونزل المجدي إلى بيت جمال الكفاة، وأوقع الحوطة عليه بما فيه، ونزل تمر الموساوي فأوقع الحوطة على بيت الصفي، وعني الوزير بالموفق فلم يعاقب. ونوعت العقوبات لجمال الكفاة والصفي، وضربت أولاد جمال الكفاة وهو يراهم ضرباً مبرحاً بالمقارع، وعصرت نساؤه ونساء الصفي وأخذت أموالهم. فرفع خالد المقدم قصة للسلطان ذكر فيها أنه إن شد وسطه، وأقيم في التقدمة، أظهر لهم مالاً كثيراً من مال جمال الكفاة.. فطلب ورسم بشد وسطه، ونزل إليهم، فأظهر لجمال الكفاة بتهديده إياه صندوقاً فيه ما قيمته نحو عشرين ألف دينار خالد، وكان مودعاً بعض جيرانه بالمنشية، ولم يظهر له بعد ذلك شيء.
وفيه خلع على الضياء المحتسب، واستقر في نظر الدولة عوضاً عن الموافق، على كره منه لذلك.
وفيه قدم الأمراء من تجريدة الكرك، فاشتدت العقوبة على جمال الكفاة خشية من الشفاعة فيه، وضرب مائة وعشرين شيباً، وسلم لخالد المقدم فخنقه في ليلة الأحد سادس ربيع الأول، ودفن في يوم الأحد بجوار تربة ابن عبود. فكانت مدة مصادرته أحداً وعشرين يوماً، ومدة مباشرته خمس سنين وشهراً وأيام. وعوقب الصفي موسى عقوبة عظيمة، وعصر في أصداغه، وضرب بالمقارع حتى أنتن بدنه كله، فلم يمت. وأفرج عن الموفق بواسطة الوزير، وخلع عليه في اليوم المذكور، واستقر في نظر الخاص، بعد ما عين العلائي علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم بن زنبور مستوفي الصحبة لنظر الخاص، فلم يتهيأ له لسفره ببلاد الشام.
وفيه خلع على أمين الدين إبراهيم بن يوسف السامري كاتب طشتمر، واستقر في نظرالجيش.
وفيه خلع على علم الدين بن مهلول، واستقر في نظر الدولة عوضاً عن الضياء المحتسب، لاستعفائه وعدم تناوله معلوم النظر، وأعيد الضياء المحتسب إلى نظر المارستان.
وفي يوم الخميس سابع عشره: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً.

وفيه قدم البريد من حلب باتفاق فياض وابن دلغادر أمير الأبلستين بمحاصرة قلعة طرنده، وأخذها من أرتنا وبها أمواله، ثم سيرهما إلى حلب. وطلب نائب حلب تجريد العسكر إليه، فرسم بتوجه الأمير مكتمر الحجازي، والوزير نجم الدين محمود، والأمير طرنطاي الحاجب، وخمسين مقدماً من مقدمي الحلقة، بألف فارس من أجناد الحلقة، وجهزت نفقاتهم، ثم بطلت التجريدة.
وتوقفت أحوال الدولة من كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدام والجواري، ومن يلوذ بهم ومن يعنون به، فكثرت شكاية الوزير من ذلك. وكتب أوراق بكلف الدولة ومتحصلها، فكانت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم في السنة، والمتحصل خمسة عشر ألف ألف درهم. وقرئت الأوراق على السلطان والأمراء، فرسم أن يستقر الحال على ما كان عليه إلى حين وفاة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبطل ما استجد بعده، وأن تقطع توابل الأمراء والكتاب حتى الكماج السميذ. فعمل بدلك شهر واحد، وعادت الرواتب على ما كانت عليه حتى بلغ مصروف الحوائج خاناه في كل يوم إثنين وعشرين ألف درهم، بعد ما كانت في الأيام الناصرية ثلاثة عشر ألف درهم.
وبينا النائب جالس يوماً إذ قدم له مرسوم عليه علامة السلطان، براتب لحم وتوابل وكماجتين عيد، باسم ابن علم الدين. فقال النائب لصاحب المرسوم: ويلك، أنا نائب السلطان قد قطعت الكماجة التي لي، فعسى بجاهك تخلص لي كماجة، وتزايد الأمر في ذلك، فلم يمكن أحد رفعه وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في نيابة الكرك، وجهز معه عدة صناع لعمارة ما انهدم من قلعتها، وإعادة البرج إلى ما كان عليه. ورسم أن يخرج معه مائة من مماليك قوصون وبشتاك الذين كان الناصر أحمد أسكنهم بالقلعة بالقاهرة، ورتب لهم الرواتب، وأن يخرج منهم مائتان إلى دمشق وحمص وحماة وطرابلس وصفد وحلب. فأخرجوا جميعاً في يوم واحد، ونساؤهم وأولادهم في بكاء وعويل، وسخروا لهم خيول الطواحين ليركبوا عليها، فكان يوماً شنيعاً.
وقدم الخبر من ماردين بأن فياض بن مهنا فارق ابن دلغادر، وقصد بلاد الشرق ليقوي عزم المغل على أخذ بلاد الشام. فمنعه صاحب ماردين من ذلك، وشفع إلى السلطان فيه أن يرد إليه إقطاعه الذي كان بيده قبل الإمرية، فقبلت شفاعته، وكتب برد إقطاعه المذكور.
وفيه كتب بطلب الأمير سيف بن فضل على البريد.
وفيه قام الأمير ملكتمر الحجازي في خلاص الصفي موسى كتاب قوصون حتى أفرج عنه، وخلع عليه واستقر في ديوانه، بعدما أشرف على الهلاك.
وفيه أفرج أيضاً عن أهل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري واستقر في الوزارة عوضاً عن جمال الكفاة.
وفي خامس عشر ربيع الآخر: خلع على الأمير نجم الدين محمود وزير بغداد، بطلبه الإعفاء لتوقف الحال.
وفيه قدم الخبر بوفاة حديثة بن مهنا، وأن أخاه فياض بن مهنا سار عن ماردين وكبس سيف بن فضل أمير الملا، فقتل جماعة من أصحابه، ونهب أمواله، وأسر أخاه.
وفيه تنكر الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي على الأمير آل ملك النائب، بسبب أنه كان إذا قدم إليه منشور أو مرسوم بمرتب ليكتب عليه بالاعتماد ينكره من ذلك، وإذا سأله أحد إقطاعاً أو مرتباً قال له: يا ولدي رح إلى باب الستارة أبصر طواشي، أو توصل لبعض المغاني تقضي حاجتك ودله بعض العامة على موضع تباع فيه الخمر والحشيش، فأحضر أولئك الذين يبيعونهما، وضربهم في دار النيابة بالقلعة بالمقارع، وشهرهم، وخلع على ذلك العامي، وأقامه عنه في إزالة المنكر، فصار يهجم البيوت لأخذ الخمور منها.
فلما كان يوم الإثنين ثامن عشرى ربيع الآخر. خلع على شجاع الدين غرلو، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين. فمنع شجاع الدين ذلك الرجل العامي من التعرض للناس، وأدبه. فطلبه الأمير الحاج آل الملك النائب، وأنكر عليه منعه له فأحضر ذلك الرجل من الغد رجلاً معه جرة خمر، فكشف النائب رأسه وصبها عليه، وحلق لحيته على باب القلعة بحضرة الأمراء، فعابوا عليه ذلك. وأخذ الأمير أرقطاي يلوم الأمير الحاج آل ملك النائب، وينكر عليه، فتفاوضا في الكلام، وافترقا على غير رضى.

واتفق أن الأمير ملكتمر الحجازي كان مولعاً بالخمر، ويحمل إليه الخمر على الجمال إلى القلعة. فمرت الجمال بالنائب وهو بشباك النيابة، فبعث نقيباً لينظر أين تدخل، ويأتيه بالجمال. فلما دخلت الجمال بيت الحجازي، وتسلم الشربدار ما عليها، وقد فطن الجمال بالنقيب، تغيب في داخل البيت، وعرف الأمير ملكتمر الحجازي الخبر فأحضر الأمير ملكتمر النقيب، وضربه ضرباً مؤلماً، فقامت قيامة الأمير الحاج آل ملك النائب، وتحدث مع الأمير أرغون العلائي في الخدمة، وأنكر على الحجازي تعاطيه الخمر. فأتاه الحجازي وفاوضه مفاوضة كثيرة، وقام مغضباً، والأمير أرغون العلائي ساكت، فلم يعجب النائب من العلائي سكوته، وانفضوا على غير رضى، فطلب النائب الإذن في سفره إلى الحجاز، فرسم له بذلك ثم منع منه، وترضاه السلطان حتى رضي وأبطل حركته للحج.
واتفق أن حسن بن الرديني الهجان قتل ليلاً في بيته بسوق الخيل من منسر كبس عليه، وقد خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس، فاتهم ولده بذلك عيسى بن حسن الهجان وبالغاً الأعرج، لعداوة بينهما وبين أبيه، فقبض عليهما إلى النائب، فعراهما وأ!راد أن يضربهما بالمقارع فمازالا به حتى أمهلهما أياماً عينها، ليكشفوا عن القاتل، فسعيا بالأمراء حتى أفرج عنهما معارضة للنائب، ومنع من طلبهما. وأنعم على ولد حسن بإقطاع أبيه ووظيفته، فاشتد حنق النائب، وأطلق لسانه بالكلام.
وفيه قدم سيف بن فضل، فأكرمه السلطان، وكتب إلى نائب الشام بالقبض على أحمد بن مهنا إذا قدم عليه. وكان فياض قد بعثه ليأخذ له الأمان من السلطان، فيوم قدم دمشق أمسك هو وابن أخيه، وحبسا بالقلعة ترضية للأمير سيف. فجمع فياض عربه يريد أخذ دمشق، فجرد النائب له عشرة أمراء، فرجع عن مقصده. وبلغ ذلك الأمير أقسنفر الناصري نائب طرابلس، فشق عليه سجن أحمد بن مهنا، فإنه كتب فيه للسلطان، وأنه ضمن دركه ودرك فياض. فأجيب أقسنقر بقبول شفاعته، ورسم بحضورهما إلى مصر، فاتفق من مكة ما اتفق.
وقدم الخبر بنفاق عربان الوجه القبلي، وقطعهم الطرقات على الناس، وامتداد الفتن بينهم نحو شهرين قتل فيها خلق عظيم، وأن عرب الفيوم أغار بعضهم على بعض، وذبحوا الأطفال على صدور أمهاتهم، فقتل بينهم قتلى كثيره. وأخربوا ذات الصفا، ومنعوا الخراج في الجبال، وقطعوا المياه حتى شرق أكثر بلاد الفيوم، فلم يلتفت أمراء الدولة لذلك، لشغلهم بالصيد ونحوه.
وفيه نقل غرلو من ولاية القاهرة إلى سد الدواوين، والدولة في غاية التوقف. فاستجد غرلوا من الحوادث أن من طلب ولاية، أو شد جهة، يحمل مالاً بحسب وظيفته إلى بيت المال. وعرف غرلو السلطان أن هذا المال كان يحمل للناظر والمباشرين، وأنه تنزه عن ذلك، وأظهر نهضة وأمانة.
وفيه قدم الخبر بكثرة فساد العشير ببلاد الشام، وقطعهم الطرقات، لقلة حرمة الأمير طقزدمر نائب الشام. فانقطعت طرقات طرابلس وبعلبك، ونهبت بلادهما. وامتدت الفتنة بين العشير زياده على شهر، قتل فيها خلق كثير. ونحروا الأطفال على صدور أمهاتهم، وأضرموا النار على موضع احترق فيه زيادة على عشرين امرأة.

وفيه توقفت أحوال القاهرة من جهة الفلوس، وتحسن سعر أكثر المبيعات. وذلك أن المعاملة بالفلوس كانت بالعدد، فكثر فيها الفلوس الخفاق وانتدب جماعة لشراء النحاس الخلق بدرهمين الرطل، وقصه فلوسا خفافاً، فبلغ الرطل منها عشرين درهماً. وصار الرصاص يقطع على هيئة الفلوس، ويخلط بها. وجلب كثير من فلوس الشام وهي واسعة، فكانت تقطع ست قطع كل منها فلس، إلى أن أفحش ذلك، وكثر التعنت فيها. فطلب السلطان المحتسب والوالي وأنكر عليهما، فقبضا على كثير من الباعة، وضربوا عدة منهم بالمقارع وشهروهم، فتحسنت الأسعار كلها. فألزم المحتسب سماسرة الغلال ألا يزيدوا في سعر الغلة شيئاً، فلم يتجاسر أحد منهم أن يزيد شيئاً في السعر. ثم نودي ألا يؤخذ من الفلوس إلا ما عليه سكة السلطان، وما عدا ذلك يؤخذ بحساب كل رطل درهمين، ولا يقبل فيه نحاس ولا رصاص. فشريت الفلوس، وأخذ منها ما عليه السكة السلطانية، وتعامل الناس بها عدداً، ووزنوا في المعاملة الفلوس الخفاف بالرطل على حساب درهمين كل رطل، ففقدت بعد قليل. ثم ألزم الناس بحمل ما عندهم من الفلوس إلى دار الضرب، فضربت فلوساً جدداً. و لم يكن في الدولة حاصل يحمل لدار الضرب، كما هي العادة، لتوقف أمرها.
وفيه قدم الأمير جركتمر الحاجب من كشف الغلال، وقد حصل من متوفر غلال العربان ببلاد الشام أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم.
وفيه توجه السلطان إلى سرياقوس على العادة.
وفيه قبض على المقدم خالد، ووقعت الحوطة على موجوده، وأخذ لسوء سيرته.
وفيه قدم رسول ابن دلغادر، وأخوه وابن عمه، بكتابه، وأنعم عليه بزيادة من أراضي حلب.
وفي نصف شعبان: قدمت الحرة، أخت صاحب الغرب في جماعة كثيرة، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام، وأن يدعوا لها الخطباء في يوم الجمعة في خطبهم، ومشايخ الصلاح وأهل الخير، بالنصر على عدوهم، وأن يكتسب لأهل الحرمين بذلك. وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة، قتل فيها ولده، ونصره الله بمنه على العدو، وقتل كثيراً منهم، وملك منهم الجزيرة الخضراء. فعمر الفرنج مائتي شيني، وجمعوا طوائفهم وقصدوا المسلمين بالجزيرة، وأوقعوا بهم عي حين غفلة. فاستشهد عالم كبير، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد. وملك الفرنج الجزيرة، وأسروا وسبوا وغنموا شيئاً يجل وصفه، ثم مضوا إلى جهة غرناطة، ونصبوا عليها مائة منجنيق، حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها، وتهادنوا مدة عشر سنين.
وقدمت رسل البنادقة من الفرنج بهدية، وسألوا الرفق بهم والمنع من ظلمهم، وألا يؤخذ منهم إلا ما جرت به عادتهم، وأن يمكنوا من بيع بضائعهم على من يختارونه.
فرسم لناظر الخاص ألا يتعرض لبضائعهم ولا يأخذ منها شيئاً إلا بقيمته ولا يلزمهم بشراء ما لا يختارون شراءه وأن يأخذ منهم على كل مائة دينار ديناران وكانوا يؤدون عن المائة أربعة دنانير ونصف دينار ليكثر الفرنج من بلادهم جلب البضائع.
وفي مستهل شهر رمضان: توقفت أحوال الدولة في كل شيء، وعجز الوزير عن لحم المعاملين وجوامك المماليك وسكرهم الجاري به العادة في شهر رمضان. وكان السكر الجاري في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون ألف قنطار فبلغ في هذا الشهر ثلاثة آلاف قنطار ونيف، ولم يوجد في بيت المال شيء لكثرة الزيادات في الرواتب. وعز وجود السكر لتلاف القصب فيما مضى فرسم بقطع راتب الأمراء والمماليك وأرباب الوظائف كلهم ولم يصرف سكر إلا لنساء السلطان فقط وكتبت أوراق بكلف الدولة فمنع جميع ما استجد بعد السلطان الناصر محمد وكتب بذلك مرسوم سلطاني، فتوفر في كل يوم أربعة آلاف رطل لحم، وستمائة كماج سميذ، وثلاثمائة أردب شعير، وفي كل شهر مبلغ ألف درهم، وفي السنة عدة كساوى. وأضيف سوق الخيل والجمال والحمير إلى الدولة، وعوض مقطوعها بأرض سيلا من أعمال الفيوم، وبناحية سمنديون من القليوبية، وبناحية فيشة من الغربية خلا ماهو فيها لقضاة القضاة، عوضاً عما كان لهم على الجوالي.
وفي هذا الشهر: خلع علي تقي الدين سليمان بن علي بن عبد الرحيم بن سالم بن مراحل، واستقر في نظر دمشق وكان قد طلب إلى مصر عوضاً، عن المكين إبراهيم ابن قروينة باستعفائه.

وفيه كتب بنقل ناصر الدين محمد بن المحسني من طرابلس إلى دمشق، واستقراره في وظيفة الشد رفيقاً لابن مراحل. فضبطا الجهات ضبطاً كبيراً، وقطعا من موقعي دمشق نحو العشرين قد استجدوا ومنهم ابن الزملكاني وابن غانم وابن الشهاب محمود وأولاده وجمال الدين بن نباتة المصري وقطعا كثيراً من البريدية، وحملا كسوة المماليك على العادة، وهي ألفا ثوب بعلبكي سوى البطائن وغيرها.
وفيه مات بدوه الططري، ففرق إقطاعه على ثمانين من المماليك السلطانية ووفرت جوامكهم ورواتبهم، وأخرج عدة منهم إلى الكرك.
وفيه رسم بعرض أجناد الحلقة على النائب، ليوفر منهم إقطاع الشيخ العاجز والجندي المستجد. فطلب الأجناد من الأقاليم، ونودي من تأخر عن العرض قطع خبزه، فقام الأمراء في ذلك حتى بطل.
وفي يوم الخميس تاسع عشريه: أفرج عن الأمير بيغرا، وعن الأمير قراجا والأمير أولاجا، من سجن الإسكندرية، وتوجهوا إلى دمشق. ثم رسم لبيغرا بالإقامة بالقاهرة، وأنعم عليه بتقدمة ألف.
وفيه رسم أن تكون نفقة المماليك والأوجاقية والأيتام بين يدي الطواشي المقدم فوفر منهم عدة.
وفيه أنعم على الأمير طرنطاي البشمقدار بإقطاع الأمير علم الدين سنجر الجاولي، بعد موته.
وفيه أنعم بإقطاع طرنطاي على الأمير بيبغا ططر نائب غزة، ورسم بحضوره.
وفيه خلع على الأمير علم الدين أيدمر الزراق، واستقر في نيابة غزة، وأنعم بإقطاعه على ابن بكتمر الساقي.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير ألطنقش، بعد موته، على أرغون الصغير صهر أرغون العلائي.
وفيه توجه ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير طيبغا المجدي.
وفي مستهل ذي القعدة: قدمت خوند بنت الأمير طقزدمر نائب الشام، وزوجة السلطان الصالح إسماعيل، فدخل عليها.
وفي يوم الإثنين حادي عشريه: عزل الضياء أبو المحاسن يوسف بن أبي بكر بن محمد ابن خطيب بيت الآبار الشامي، من نظر المارستان المنصوري، واستقر عوضه علاء الدين بن الأطروش.
وفي يوم السابع من ذي الحجة: انفرد العلم بن سهلول بوظيفة نظر الدولة، بعد ما التزم بحمل ألف دينار لبيت المال.
وفيه عزل موسي بن التاج إسحاق، لتوقف حال الدولة، وكثرة تقلقه وكراهة الناس له، لظلمه وتغييره قواعد كثيرة.
وفيه قدم كتاب التاج محمد بن محمد بن عبد المنعم البارنباي موقع طرابلس بحدوث سيل عظيم، لم يعهد مثله فيما تقدم.
وفيها كثر سقوط الثلج بدمشق حتى خرج عن العادة، وأنفقوا على شيله من الأسطحة ما ينيف على ثمانين ألف درهم، فإنه أقام يسقط أسبوعين.
وفيها زاد عاصفة حتى خرب عدة بيوت وفيها تواتر سقوط البرد بأرض مصر، مع ريح سوداء، وشعث عظيم، وبرق ورعد سهول. ثم أعقب ذلك عالم شديدة الحر، بحيث تطاير منها شرر أحرق رءوس الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتان، حتى اشتد خوف الناس، وضجوا إلى الله تعالى. وجاء مطر غزير، ثم برد فيه يبس لم يعهد مثله، فكانت أراضي النواحي تصبح بيضاء من كثرة الجليد، وهلك من شدة البرد جماعة من بلاد الصعيد وغيرها. وأمطرت السماء خمسة أيام متوالية حتى ارتفع الماء في مزارع القصب قدر ذراع، وعم ذلك أرض مصر قبليها وبحريها، ففسدت بالريح والمطر مواضع كثيرة، وقلت أسماك بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها، لموتها من البرد.
فتلفت في هذه السنة بعامة أرض مصر وجميع بلاد الشام بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد، من الزروع والأشجار، والبائهم والأنعام والدور، ما لا يدخل تحت حصر، مع ما ابتلي به أهل الشام من تجريد عساكرها وتسخير أهل الضياع وتسلط العربان والعشير، وقلة حرمة السلطنة مصراً وشاماً، وقطع الأرزاق وظلم الرعية. وبلغت زيادة النيل في هذه السنة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
وفيه قدم سيف الدين بلطوا مبشراً بسلامة الحجاج، في خامس عشرى ذي الحجة.
ومات فيها من الأعيانإبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي في شعبان، ببرشانة من الأندلس، قدم القاهرة، وأخذ عن جماعة، وولي ببلده قضاء عدة مواضع.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق جلال الدين أحمد بن الحمام أبي الفضائل الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان الرازي، عن بضع وسبعين سنة بدمشق.

ومات الأمير بدر الدين بكتاش نقيب الجيش، في يوم الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة، وكان مشكوراً.
ومات الأمير علم الدين سنجر الجاولي الفقيه الشافعي، في يوم الخميس ثامن رمضان، ودفن بمدرسته فوق جبل الكبش، أصله من مماليك جاول أحد أمراء السلطان الظاهر بيبرس، ثم انتقل بعده إلى بيت السلطان المنصور قلاوون. وأخرج في أيام الأشرف خليل إلى الكرك، فاستقر في بحريتها. وقدم في أيام السلطان العادل كتبغا إلى مصر بحال زري، فسلمه كتبغا إلى مملوكه بتخاص، ليكون نائبه بالحوائج خاناه، وتنقل حتى قدمه الأمير سلار وقربه، ثم ولي نيابة غزة، وصار من أكبر أمراء مصر. وله مدرسة على جبل الكبش بجوار جامع ابن طولون، وجامع بقرية الخليل عليه السلام، وجامع بغزة، ومارستان وخان ببيان، وخان بقاقون، وله مصنفات وفضائل كثيرة.
ومات الأمير طقصبا الظاهري، وقد أناف على مائة وعشرين سنة.
ومات الأمير ألطنقش أستادار السلطان الناصر محمد، وهو من مماليك الأفرم. فلما توجه الأفرم إلى بلاد التتار قدم هو إلى القاهرة، فقبض عليه وسجن، ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرية طبلخاناه. ثم عمل أستاداراً صغيراً، مع أستادارية آنوك ابن السلطان الناصر محمد.
ومات الأمير أرغون عبد الله.
ومات الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد الدوادار الناصري، بطرابلس، ولي نيابة الإسكندريه، وكشفت الجيزة، ثم دوادارية السلطان الناصر محمد، وكان كاتباً شاعراً ضابطاً.
ومات الأمير سنجر الجقدار أحد المماليك المنصورية، وقد أسن.
ومات محمد شرف الدين الرديني الهجان، قتلاً.
ومات الأمير طرنطاي المحمدي بدمشق، وهو أحد المماليك المنصورية قلاوون، ومن جملة من وافق على قتل الأشرف خليل. وسجن سبعاً وعشرين سنة، ثم أخرج إلى طرابلس أمير عشرة، ثم نقل إلى دمشق.
ومات الأمير بكتمر العلائي أحد المنصورية أيضاً، بعدما ولي أستاداراً ونائب حمص، ونائب غزة، ثم نائب حمص، وبها مات.
ومات الأمير كندغدي الزراق المنصوري بحلب، وهو رأس الميسرة، ومقدم العساكر المجردة إلى سيس.
ومات الأمير بلبان الشمسي أحد المنصورية، بحلب.
ومات فتح الدين صدقة الشرابيني، عن مال ومعروف كثير، في يوم الأحد ثاني شوال.
ومات جمال الكفاة إبراهيم مشير الدولة وناظر الخاص والجيش، تحت العقوبة في ليلة الأحد سادس ربيع الأول. وكان أولاً يباشر في بعض البساتين على بيع ثمرته، وتنقل في خدمة ابن هلال الدولة. ثم خدم بيدمر البدري وهو خاصكي خبزه في محلة منوف يكتب على باب إلى أن تأمر، فباشر عنده ثم قرره السلطان الملك الناصر محمد في الاستيفاء، ثم أقامه في ديوان الأمير بشتاك بعد موت المهذب إلى أن قتل النشو، فولاه نظر الخاص بعده. ثم أضاف إليه السلطان الناصر محمد نظر الجيش، عوضاً عن المكين إبراهيم، فنهض بهما. ولاحظته السعود حتى انتقضت أيامه، فزال سعده، وعوقب حتى هلك. وكان يتحدث بالتركي والنوبي والتكروري وله مكارم كثيرة.
ومات خالد بن الزراد المقدم، في يوم الجمعة ثامن عشرى جمادى الآخرة، تحت العقوبة، وكان ظالماً.
وتوفي شمس الدين محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن نجدة بن حمدان المعروف بابن النقيب الشافعي، قاضي القضاة بحلب، وهو معزول بدمشق، عن نيف وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ أثر الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي، إمام وقته في النحو والقراءات والآداب في ثامن عشرى صفر.
وفيه توجه طلب الأمير أرغون الكاملي إلى حلب.
وفيه قدم طلب الأمير أرقطاي مع ولده.
وفي يوم الخميس مستهل شعبان: خرج الأمير قبلاي الحاجب بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إلى غزة، لأحد شيوخ العشير.
وفي هذا الشهر: غير الوزير ولاة الوجه القبلي، وكتب بطلبهم، وعزل مازان من الغربية بابن الدواداري.
وفيه أضيف كشف الجسور إلى ولاة الأقاليم.

وفيه أعيد فأر السقوف إلى ضماد جهات القاهرة ومصر بأجمعها، وكان قد سجن في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، وكتب على قيده مخلد، بعد ما صودر وضرب بالمقارع لقبح سيرته. فلم يزل مسجوناً إلى أن أفرج عن المحابيس في أيام الصالح إسماعيل، فأفرج عنه في جملتهم، وانقطع إلى أن اتصل بالوزير منجك واستماله، فسلمه الجهات بأسرها، وخلع عليه، ومنع مقدمي الدولة من مشاركته في التكلم في الجهات، ونودي له في القاهرة ومصر، فزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم في السنة.
وفيه قدم الأمير قبلاي غزة، فاحتال على أدي حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم رده بزوادة إلى أهله فاطمأنت العشرات والعربان لذلك، وبقوا على ذلك إلى أن أهل رمضان. حضر أدي في بني عمه لتهنئة قبلاي بشهر الصوم فساعة وصوله إليه قبض عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقيدهم وسجنهم، وكتب إلى علي بن سنجر. بأني قد قبضت على عدوك ليكون لي عندك يد بيضاء فسر سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقاه وأكرمه، فضمن له سنجر درك البلاد. ورحل قبلاي من غده ومعه أدي وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الإثنين حادي عشره، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضرباً مبرحاً وألزم أدي بألف جمل ومائتي ألف درهم، فبعث إلى قومه بإحضارها، فلما أخذت سمر هو وبنو عمه في يوم الإثنين خامس عشريه وقت العصر، وسيروا إلى غزة صحبة جماعة من أجناد الحلقة، فوسطوا بها. فثار أخو أدي، وقصد كبس غزة، فخرج إليه الأمير دلنجي ولقيه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتله في اليوم الرابع بسهم أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى الفاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
وفي مستهل شوال: توجه السلطان إلى الأهرام على العادة.
وفيه كثر الإنكار على الوزير منجك، فإنه أبطل سماط العيد، واحتج بأنه يقوم بجملة كبيرة تبلغ خمسين ألف درهم، وتنهبه الغلمان، وكان أيضاً قد أبطل سماط شهر رمضان.
وفي هذا الشهر: فرغت القيسارية التي أنشأها تاج الدين المناوي، بجوار الجامع الطولوني، من مال وقفه، وتشتمل على ثلاثين حانوتاً.
وفيه خرج ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير فارس الدين، ومعه عدة من مماليك الأمراء. وحمل الأمير فارس الدين معه مالاً من بيت المال، ومن مودع الحكم، لعمارة عين جوبا بمكة، ومبلغ عشرة ألاف درهم للعرب بسبب العين المذكورة، ورسم أن تكون مقررة لهم في كل سنة. وخرج معه حاج كثير جداً، وحمل الأمراء من الغلال في البحر إلى مكة عدة ألاف أردب.
وفي مستهل ذي القعدة: قدم كتاب الأمير دلنجي نائب غزة بتفرق العربان، ونزول أكثرهم بالشرقية والغربية من أرض مصر، لربط إبلهم على البرسيم. فكبست البلاد عليهم، وقبض على ثلاثمائة رجل، وأخذ لهم ثلاثة ألاف جمل. ووجد عندهم كثير من ثياب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم، فاستعمل الرجال في العمائر حتى هلك أكثرهم.
وفي نصفه: خرج الأمراء لكشف الجسور، فتوجه الأمير أرنان للوجه القبلي، وتوجه أمير أحمد قريب السلطان للغربية، وتوجه الأمير أقجبا للمنوفية، وتوجه أراي أمير أخور للشرقية، وتوجه أحد أمراء العشرات لأشمون.
وفيه توقف حال الدولة، فكثر الكلام من الأمراء والمماليك السلطانية والمعاملين والخوشكاشية وفيه طلب الأمير مغلطاي أمير أخور زيادة على إقطاعه، فكشف عن بلاد الخاص، فدل ديوان الجيش على أنه لم يتأخر منها سوى الإسكندرية ودمياط وقوة وفارس كور، وخرج باقيها للأمراء، وخرج أيضاً من الجيزة ما كان لديوان الخاص للأمراء. وشكا الوزير من كثرة الكلف والإنعامات، وأن الحوائج خاناه في الأيام الناصرية محمد ابن قلاوون مرتبها في كل يوم ثلاثة عشر ألف درهم، وهو اليوم اثنان وعشرون ألف درهم. فرسم بكتابة أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها، فبلغ المتحصل في السنة عشرة ألاف ألف درهم، والمصروف بديوان الوزارة وديوان الخاص أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، وأن الذي خرج من بلاد الجيزة على سبيل الإنعام زيادة على إقطاعات الأمراء نحو ستين ألف دينار. فتغاضى الأمراء عند سماع ذلك إلا مغلطاي أمير آخور، فإنه غضب وقال: من يحاقق الدواوين على قولهم؟.
وفيه قدم طلب الأمير قطليجا الحموي من حلب، فوضع الوزير منجك يده عليه، وتصرف بحكم أنه وصي.

وفيه قدم الأمير عز الدين أزدمر الزراق من حلب، باستدعائه، بعد ما أقام بها مدة سنة من جملة أمراء الألوف، فأجلس مع الأمراء الكبار في الخدمة.
وفيه أخرج ابن طقزدمر إلى حلب، لكثرة فساده وسوء تصرفه.
وفيه خرج الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه من مال الإسكندرية بألفي دينار.
وخرج الأمير صرغتمش أيضاً، فأنعم عليه منها بألف دينار.
ثم توجه الأمير بيبغا روس النائب للسرحة، وأنعم عليه بثلاثة ألاف دينار. وتوجه الأمير شيخو أيضاً، ورسم له بثلاثة ألاف دينار.
وفيه أنعم على الأمير مغلطاي أمير أخور إرضاء لخاطره بناحية صهرجت زيادة على إقطاعه، وعبرتها عشرون ألف دينار في السنة.
فدخل الأمير شيخو في سرحته إلى الإسكندرية، فتلقته الغزاة بآلات السلاح، ورموا بالجرخ بين يديه، ونصبوا المنجنيق ورموا به. ثم شكوا له ما عندهم من المظلمة، وهي أن التاج إسحاق ضمن دكاكين العطر، وأفرد دكاناً لبيع النشا فلا تباع بغيرها، وأفرد دكاناً لبيع الأشربة فلا تباع بغيرها، وجعل ذلك وقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بإبطال ذلك، وأطلق للناس البيع حيث أحبوا، وكتب مرسوم بإبطال ذلك.
وفي مستهل ذي الحجة: عوفي علم الدين عبد الله بن زنبور، وخلع عليه، بعد ما أقام أربعين يوماً مريضاً، تصدق فيها بثلاثين ألف درهم، وأفرج عن جماعة من المسجونين.
وفيه كتب الموفق ناظر الدولة أوراق بما استجد على الدولة، من وفاة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى المحرم سنة خمسين وسبعمائة، فكانت جملة ما أنعم به وأقطع من بلاد الصعيد وبلاد الوجه البحري وبلاد الفيوم، وبلاد الملك، وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سبعمائة ألف ألف أردب، وألف ألف وستمائة ألف درهم، معينة بأسماء أربابها من الأمراء والخدام والنساء، وعبرة البلد ومتحصلها، وجملة عملها وقرئت على الأمراء، ومعظم ذلك بأسمائهم، فلم ينطق أحد منهم بشيء.
وفيه أبطل الوزير منجك سماط عيد النحر أيضاً.
وفيها أبطل ما أحدثه النساء من ملابسهن. وذلك أن الخواتين نساء السلطان وجواريهن أحدثن قمصاناً طوالاً تخب أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطى رجلها، وعرف القميص منها فيما بينهن بالبهطلة، ومبلغ مصروفه ألف درهم مما فوقها. وتشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم يبق امرأة إلا وقميصها كذلك. فقام الوزير منجك في إبطالها، وطلب والي القاهرة ورسم له بقطع أكمام النساء، وأخذ ما عليهن.
ثم تحدث منجك مع قضاة القضاة بدار العدل يوم الخدمة بحضرة السلطان والأمراء فيما أحدثه النساء من القمصان المذكورة، وأن القميص منها مبلغ مصروفه ألف درهم، وأنهن أبطلن لبس الإزار البغدادي، وأحدثن الإزار الحرير بألف درهم، وأن خف المرأة وسرموزتها بخمسمائة درهم. فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التي يجب منعها، فقوي بفتواهم، ونزل إلى بيته، وبعث أعوانه إلى بيوت أرباب الملهى، حيث كان كثير من النساء، فهجموا عليهن، وأخذوا ما عندهن من ذلك.
وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية، وأخذوا ما فيها من قمصان النساء، وقطعها الوزير منجك. ووكل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر بمنع النساء من لبس ما تقدم ذكره، وأنه متى وجدت امرأة عليها شيء مما منع أخرق بها وأخذ ما عليها.
واشتد الأمر على النساء، وقبض على عدة منهن، وأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعلق عليها تماثيل معمولة على سور النساء، وعليهن القمصان الطوال، إرهاباً لهن وتخويفاً.
وطلبت الأساكفة، ومنعوا من بيع الأخفاف والسراميز المذكورة، وأن تعمل كما كانت أولاً تعمل، ونودي من باع أزاراً حريراً أخذ جميع ماله للسلطان. فانقطع خروج النساء إلى الأسواق، وركوبهن حمير المكارية، وإذا وجدت امرأة كشف عن ثيابها. وامتنع الأساكفة من عمل أخفاف النساء وسراميزهن المحدثة، وأنكف التجار عن بيع الأزر الحرير وشرائها، حتى أنه نودي على إزار حرير بثمانين درهماً فلم يلتفت له أحد، فكان هذا من خير ما عمل.
وفيه استقر جمال الدين يوسف المرداوي في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد وفاة علاء الدين علي بن أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا.

وفيه استقر نجم الدين محمد الزرعي في قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح.
وفيه توقف النيل، ثم زاد حتى كان الوفاء في جمادى الآخرة. ثم نقص نحو ثلثي ذراع، وبقي على النقص إلى النوروز، وهو ستة عشر ذراعاً وإحدى وعشرين أصبعاً. ثم رد النقص وزاد إصبعين، فبلغ ستة عشر ذراعاً وثلاثة وعشرين إصبعاً في يوم عيد الصليب.
وفيه أضاع الولاة عمل الجسور، وباعوا الجراريف حتى غرق كثير من البلاد.
ومع ذلك امتدت أيديهم إلى الفلاحين، وغرموهم ما لم تجر به عادة، فشكي من الولاة للوزير، فلم يلتفت لمن شكاهم.
ومات فيها من الأعيان شيخ الإقراء شهاب الدين أحمد بن موسى بن موسك بن جكو الهكاري بالقاهرة، عن ست وسبعين سنة، في ثاني عشر جمادى الأولى. وكتب بخطه كثيراً، ودرس القراءات والحديث ومات النحوي شهاب الدين أحمد بن سعد بن محمد بن أحمد النسائي الأندرشي بدمشق، وله شرح سيبويه في أربعة أسفار.
ومات مكين الدين إبراهيم بن قروينة بعدما ولي استيفاء الصحبة ونظر البيوت، ثم ولي نظر الجيش مرتين، وصودر ثلاث مرات، وأقام بطالاً حتى مات.
ومات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام، مذبوحاً، في ليلة الخميس رابع عشرى ربيع الأول رباه السلطان الناصر محمد بن قلاوون حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية، ثم استمر بعد وفاته أستاداراً أمير مائة مقدم ألف، فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب، ثم نيابة الشام. وكان جفيفاً قوي النفس شرس الأخلاق، مهاباً جائراً في أحكامه، سفاكاً للدماء غليظاً فحاشاً كثير المال. وأصله من بلاد الصين، حمل إلى أبو سعيد بن خربندا، فأخذه دمشق خواجا بن جوبان، ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتل جربان، وبعث به إلى مصر هدية، ومعه ملكتمر السعيدي.
ومات الأمير أرقطاي المنصوري، بظاهر حلب، وهو متوجه إلى دمشق، عن نحو ثمانين سنة، في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى. وأصله من مماليك المنصور قلاوون، رباه الطواشي فاخر أحسن تربية، إلى أن توجه الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك كان معه. فلما عاد إليه ملكه جعله من جملة الأمراء، ثم سيره صحبة الأمير تنكز نائب الشام، وأوصاه ألا يخرج عن رأيه، وأقام عنده مدة. ثم تنكر عليه السلطان الناصر محمد، فولاه نيابة حمص مدة سنتين ونصف، ثم نقله لنيابة صفد، فأقام بها ثماني عشر سنة. وقدم مصر، فأقام بها عدة سنين، وجرد إلى أياس. ثم ولي نيابة طرابلس، ومات الناصر محمد وهو بها. ثم قدم مصر، وقبض عليه، ثم أفرج عنه، وأقام مدة. ثم ولي نيابة حلب، ثم طلب إلى مصر، فصار رأس الميمنة. ثم ولي نيابة السلطنة نحو سنتين، ثم أخرج لنيابة حلب، فأقام بها مدة. ثم نقل لنيابة الشام، فمات في طريقه لدمشق، فدفن بحلب، وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، موسطاً بدمشق، في يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر.
وقتل معه أيضاً الأمير أياس، وأصله من الأرمن، أسلم على يد الناصر محمد ابن قلاون، فرقاه حتى عمله شاد العمائر، ثم أخرجه إلى الشام، ثم أحضره غرلو، وتنقل إلى أن صار شاد الدواوين. ثم صار حاجباً بدمشق، ثم نائباً بصفد، ثم نائباً بحلب، ثم أميراً بدمشق، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره.
ومات بدمشق الأمير طقتمر الشريفي، بعد ما عمي.
ومات قاضي الشافعية بحلب نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح.
وتوفي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن علي القرشي الأصفوني الشافعي، بمنى في ثالث عشر ذي الحجة. ودفن بالعلاء، وله مختصر الروضة وغيره .
وتوفي قاضي القضاة علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، في يوم الثلاثاء عاشر المحرم بالقاهرة.
وله كتاب الرد النقي في الرد على البيهقي وغيره، وله شعر، وكان الناصر محمد بن قلاوون يكره منه اجتماعه بالأمراء، وكان يغلو في مذهبه غلواً زائداً.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق، علاء الدين علي بن الزين أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، عن ثلاث وسبعين سنة.

ومات الأمير قطليجا الحموي أصله المملوك المؤيد صاحب حماة، فبعثه إلى الناصر محمد بن قلاوون، وترقى صار من جملة الأمراء. ثم ولي نيابة حماة، ونقل إلى نيابة حلب، فأقام بها أياماً ومات، وكان سيء السيرة.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الأخنائي المالكي، في ليلة الثالث من صفر.
ومات الأمير نوغيه البدري والي الفيوم.
وماتت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي زوجة الأمير طاز. وتركت مالاً عظيماً، أبيع موجودها بباب القلة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملته قبقاب مرصع بأربعين ألف درهم، ثمنها ألف دينار مصرية.
ومات علم الدين بن سهلول. كان أبوه كاتباً عند بعض الأمراء، فخدم بعده أمير حسين بن جندر، ثم ولي الاستيفاء ونظر الدولة، شركة للموفق. ثم صودر ولزم بيته، وعمر داراً جليلة بحارة زويلة من القاهرة.
وفيها قام بتونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن أبي حفص في ذي القعدة، وكان قد قدم إلى تونس السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ملك بني مرين صاحب فاس، وملك تونس وإفريقية، ثم سار منها للنصف من شوال، واستخلف ابنه أبا العباس الفضل، فقام أبو العباس المذكور وملك تونس ملك أبيه.
//سنة ست وأربعين وسبعمائة في المحرم: قدم كتاب أرتنا يتضمن اتضاع أمر أولاد دمرادش، ويغض من نائب حلب على ما فعله مع ابن دلغادر.
وفي عشريه: قدم محمل الحاج، فتحرك عزم السلطان للحج، وكتب إلى بلاد الشامية بابتياع ستة آلاف جمل وألفي رأس غنم، وجميع ما يحتاج إليه من العبي والأقتاب ونحو ذلك. وتوجه الأمير طقتمر الصلاحي بسبب ذلك، وكتب إلى الكرك والبلقاء بحضور العربان بجمالهم، وأن يحمل إلى عقبة أيلة ألفا غرارة شعير، وما يناسب ذلك من الأصناف.
فقدمت طائفة من العربان، وقبضوا مالاً ليجهزوا جمالهم، إلى أن أهل ربيع الآخر تغير مزاج السلطان، ولزم الفراش؛ فلم يخرج للخدمة أياما. وكثرت القالة، وتعنت العامة في الفلوس، وتحسن السعر.
وأرجف بالسلطان، فغلقت الأسواق، حتى ركب الوالي والمحتسب وضربوا جماعة وشهروهم. فاجتمع الأمراء، ودخلوا على السلطان، وتلطفوا به حتى أبطل الحركة للحج؛ وكتب بعود طقتمر من الشام، واستعادة المال من العربان. وما زال السلطان يتعلل إلى أن تحرك أخوه شعبان، واتفق مع عدة من المماليك، وقد أنقطع خبر السلطان عن الأمراء. فكتب بالإفراج عن المسجونين بالأعمال، وفرقت صدقات كثيرة ورتب جماعة لقراءة صحيح البخارى، فقوى أمر شعبان، وعزم أن يقبض على الأمير الحاج آل ملك النائب، فتحرز منه.
وأخذ الأمراء والأكابر في توزيع أموالهم وحرمهم في عدة مواضع، ودخلوا على السلطان، وسألوه أن يعهد إلى أحد من إخوته. فطلب الأمير الحاج آل ملك النائب وبقية الأمراء، فلم يحضر إليه أحد منهم.
وقد اتفق الأمير أرغون العلائي مع جماعة على إقامة شعبان، فرق فيهم مالاً كثيراً، فأنه كان ربيبه، أي ابن زوجته، وشقيق السلطان الصالح إسماعيل. وقام مع الأمير أرغون من الأمراء غرلو، وتمر الموساوى؛ وامتنع الأمير الحاج آل ملك النائب من إقامة شعبان. وصار الأمراء حزبين، فقام النائب في الإنكار على الكلام في هذا، وقد اجتمع مع الأمراء بباب القلعة، وقبض على غرلو وسجنه، وتحالف هو والأمير أرغون العلائي وبقية الأمراء على عمل مصالح المسلمين.
وتوفي السلطان في ليلة الخميس رابع ربيع الآخر، فكتم موته. وقام شعبان إلى أمه، ومنع من إشاعة موت أخيه، وخرج إلى أصحابه وقرر معهم أمره. فخرج طشتمر ورسلان بصل إلى منكلى بغا، ليسعوا عند الأمير أرقطاى والأمير أصلم.
وكان الأمير الحاج آل ملك النائب والأمراء قد علموا من بعد العصر أن السلطان في النزع، فاتفقوا على النزول من القلعة إلى بيوتهم بالمدينة. فدخل الجماعة على أرقطاى ليستميلوه لشعبان، فوعدهم بذلك، ثم دخلوا على أصلم أجابهم، وعادوا إلى شعبان وقد ظنوا أن أمرهم قد تم.

فلما أصبح يوم الخميس خرج الأمير أرغون العلائي، والأمير ملكتمر الحجازي، والأمير تمر الموساوي، والأمير طشتمر طلليه، والأمير منكلى بغا الفخري، والأمير أسندمر. وجلسوا بباب القلة، فأتاهم الأميران أرقطاى وأصلم، والوزير نجم الدين محمود، والأمير قمارى استادر؛ وطلبوا الأمير الحاج آل ملك النائب، فلم يحضر إليهم، فمضوا كلهم إلى عنده، واستدعوا الأمير جنكلى بن البابا، واشتوروا فيمن يولونه السلطة فأشار جنكلى بأن يرسل إلى المماليك السلطانية، ويسألهم من يختارونه، " فأن من اختاروه رضيناه " فعاد جوابهم مع الحاجب أنهم رضوا بشعبان سلطانا، فقاموا جميعاً ومعهم الأمير الحاج آل ملك النائب إلى داخل باب القلة.
وكان شعبان قد تخيل من في دخولهم عليه، وجمع المماليك، وقال: " من دخل قتلته بسيفي هذا، وأنا أجلس على الكرسي حتى أبصر من يقيمني عنه " فسير الأمير أرغون العلائي إليه، وبشره وطيب خاطره. ودخل الأمراء عليه، وسلطنوه انقضت أيام الصالح.
وكان السلطان الصالح في ابتداء دولته على دين وعفاف، إلا أنه كان في أيامه ما ذكر من قطع الأرزاق، وكثرة حركة عساكر مصر والشام في التجاريد. وشغف السلطان الصالح مع ذلك بالجواري السود، وأفرط في حب اتفاق، وأسرف في العطاء لها وقرب أرباب الملاهي، وأعرض عن تدبير الملك بإقباله على النساء والمطربين،. حتى أنه إذا ركب إلى سرحة سرياقوس أو سرحة الأهرام ركبت أمه في مائتي امرأة الأكاديش، بثياب الأطلس الملون، وعلى رءوسهن الطراطير الجلد البلغاري المرصع بالجواهر واللآلى، وبن أيديهن الخدام الطواشية، من القلعة إلى السرحة. ثم يركب حظاياه الخيول العربية، ويتسابقن؛ ويركبن تارة بالكامليات الحرير، ويلعبن بالكرة، وكانت لهن في المواسم والأعياد وأوقات النزه والفرح أعمال يمكن حكايتها، وأكثرن من النزول إلى بيوت الكتاب ونحوهم.
واستولى الخدام الطواشية في أيامه على أحوال الدولة، وعظم قدرهم بتحكم كبيرهم عنبر السحرتي اللالا في السلطان، وركبوا الخيول الرائعة، ولبسوا الثياب الفاخرة، وأخذوا من الأراضي عدة رزق. واقتنى السحرتي البزاة والسناقر ونحوها من الطيور والجوارح، وصار يركب إلى المطعم، ويتصيد بثياب الحرير المزركشة، واتخذ له كفاً مرصعاً بالجوهر، وعمل له خاصكية وخداما ومماليك تركب في خدمته، حتى ثقل أمره، فأنه أكثر من شراء الأملاك، والتجارة في البضائع، وأفرد له ميداناً يلعب فيه بالكرة، وتصدى لقضاء الأشغال. فصارت الإقطاعات والرزق لا تقضى إلا بالخدام والنساء، ولا يزال الأمير الحاج آل ملك النائب يشنع بذلك، وإذا أتاه أحد يطلب منه خبزاً أو رزقة يقول له: " النائب ما له حكم، رح إلى باب الستارة، واسأل عن الطواشي فلأن الدين والطواشي فلأن الدين يقضوا لك حاجتك " .
وكان متحصل الدولة مع هذا كله في أيام السلطان الصالح إسماعيل قليلا، ومصروف العمارة لا يزآل جملة مستكثرة في كل يوم فأنفق السلطان على الدهيشة بالقلعة خمسمائة ألف درهم، سوى ما حمل إليه من بلاد الشام وغيرها، ثم عمل فيها من أوأني الذهب وألفضة ومن ألفرش ما يجل وصفه؛ ومنذ فرغت عمارتها لم ينتفع بها أحد، لشغفه بالغناء والجواري، سيما اتفاق. ولما ولدت منه اتفاق ولدا ذكرا عمل لها مهما تناهى فيه، حتى بلغ الغاية التي لا توصف عظمة.
وكانت حياته منغصة وعيشته نكدة، لم يتم سروره بالدهيشة سوى ساعة واحدة.ثم قدم عليه منجك برأس أخيه أحمد من الكرك بعد قتله بها، فلما قدم بين يديه ورآه بعد غسله، اهتز وتغير لونه وذعر، حتى أنه بات ليلته يراه في نومه، ويفرغ فزعاً شديداً.
وتعلل السلطان الصالح إسماعيل من رؤية رأس أحمد، وما برح يعتريه الأرق ورؤية الأحلام المفزعة، وتمادى مرضه وكثر إرجافه، وكثرت أفزاعه حتى اعتراه القولنج، ومات كما تقدم ذكره يوم الخميس، ودفن عند أبيه وجده بالقبة المنصورية، في ليلة الجمعة.
وكان السلطان الصالح إسماعيل رقيق القلب، زائد الرأفة والشفقة، كريماً جواداً، مائلاً إلى الخير. وبلغ من العمر نحو العشرين سنة، منها مدة سلطته ثلاث سنين وشهرأن وأحد عشر يوماً.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي

لما اشتد مرض أخيه شقيقه السلطاد الملك الصالح عماد الدين، ودخل، عليه الأمير أرغون العلائي في عدة من الأمراء، ليعهد بالسلطنة من بعده إلى أحد، كان الأمير أرغون العلائي غرضه في أن يعهد لشعبان، من أجل أن أمه كانت زوجته. فلم يحب الأمير آل ملك النائب وجماعة من الأمراء إلى الدخول على السلطان الصالح إسماعيل كراهة منهم في شعبان، لما كان قد اشتهر عنه من المظالم. فقآل الصالح إسماعيل بعدما بكى وأبكى الأمراء: " سلموا على النائب والأمراء، وعرفوهم أنى أن مت يولوا أخي شعبان " فلما مات الصالح، واقتضى رأى الأمراء أن يعرفوا رأى المماليك السلطانية، وكان جوابهم إقامة شعبان، حضر الأمراء إلى باب القلة، واستدعوا شعبان، وأركبوه بشعار السلطنة، ومشوا في ركابه، والجاويشية تصيح على العادة، حتى إذا قرب من الإيوأن لعب ألفرس تحته وجفل من تصايح الناس، فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع الإيوأن، فتفاءل الناس عن فرسه أنه لا يقيم في السلطة الا يسيرا.
ولما طلع السلطان شعبان الإيوأن والأمراء بين يديه، جلس على كرسى السلطنة وباس الأمراء له الأرض، وأحضروا المصحف ليحلفوا، فحلف لهم أولاً أنه لا يؤذيهم، ثم حلفوا بعده، وذلك في يوم الخميس رابع ربيع الآخر، سنة ست وأربعين وسبعمائة.
ولقب بالملك الكامل، ودقت البشائر، ونودى بسلطنته في القاهرة ومصر، وخطب له في الغد على منابر ديار مصر، وكتب بذلك إلى الأقطار مصرا وشاما.
وفي يوم الإثنين ثامنه: جلس السلطان شعبان بدار العدل من القلعة، وجدد له العهد من الخليفة، بحضرة القضاة والأمراء، وخلع على الخليفة والأمراء والقضاة.
وفيه كتب بطلب الأمير آقسنقر الناصرى من طرابلس، فسآل الأمير قمارى الأستادار أن يستقر عوضه في نيابة طرابلس، وتشفع بالأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي. فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه في يوم الخميس حادي عشرة، وخرج من فوره على البريد.
وفيه خلع على الأمير أرقطاى، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن يلبغا اليحياوي، وخرج على البريد.
وفيه طلب الأمير الحاج آل ملك النائب الإعفاء من نيابة السلطنة، وقبل الأرض، وسآل نيابة الشام، عوضاً عن الأمير طقزدمر، وأن ينقل طقزدمر إلى مصر فأجيب ذلك، وكتب بإحضار طقزدمر.
وفي يوم السبت ثالث عشره: خلع على الأمير الحاج آل ملك النائب، واستقر في نيابة الشام عوضاً عن طقزدمر. وأخرج من يومه على البريد، فلم يدخل غزة حتى لحقه البريد بتقليده نيابة صفد، وأن يكون ولده وابن أخيه ألفارس بحلب. وسبب ذلك أن الأمير أرغون العلائي لما قام في سلطنة شعبان هذا، قآل له الأمير الحاج آل ملك: " بشرط ألا يلعب بالحمام " ، فلما بلغ السلطان شعبان ذلك نقم عليه.
وفيه رسم بطلب شجاع الدين غرلو من دمياط، فقدم في يومه. وخلع عليه شاد الدواوين. فنزل غرلو إلى دار الولاية، وقبض بيده على أطواق الأمير جمآل الدين يوسف وإلى القاهرة، وأقامه من مجلس حكمه، وأخرجه من داره، وأركبه حمارا إلى القلعة. وسبب ذلك أنه لما قبض على غرلو تقدم يوسف هذا وأمسك سيفه، وقطعه من وسطه، فكافأه غرلو على ذلك. وقبض غرلو معه على ابن أخيه وإلى الجيزة، فما زالا يحملأن المآل حتى بلغ حملها خمسين ألف درهم، سوى عدد سلاح وغير ذلك، فأفرج عنهما بعد أيام، وبعد شفاعة جماعة من الأمراء.
وفيه كتب بنقل الأمير يلبغا اليحياوي من نيابة حلب إلى ليابة دمشق، فدخلها يوم السبت ثأني عشر جمادى الأولى، وباشر نيابتها.
وفيه رسم السلطان الكامل شعبان بعرض أحوآل الدولة للنظر في تدبيرها فترك ما استجد من المصروف في العمائر بالقلعة والقاهرة، ورسم أن تسلم الأغنام التي استجدها أخوه الملك الصالح لجماعة المتعاملين في اللحم وبتثمينها عليهم، فكانت عدتها تسعة عشر ألف رأس ونيف؛ وضبط السلطان أحوال المملكة.
وفيه رسم بسفر الأمير طرنطاى البشمقدار نائباً بحمص، وأنعم بتقدمته على بيبغا ططر.وفيه أنعم بإقطاع الأمير أرقطاى المستقر في نيابة حلب على أرغون شاه، وخلع عليه، واستقر أستادار عوضاً عن قمارى المستقر في نيابة طرابلس.
وفيه أخرج أحمد شاد الشراب خأناه هو وإخوته إلى صفد، من أجل أنهم كانوا ممن نام مع الأمير الحاج آل ملك النائب وقمارى الأستادار في منع شعبان من السلطنة.

وفيه خلع على علم الدين عبد الله بن أحمد بن ابراهيم بن زنبور، واستقر في نظر الخاص عوضاً عن الموفق عبد الله بن إبراهيم وخلع على كاتبه فخر الدين بن السعيد، واستقر عوضه في استيفاء الصحبة؛ وعنى الأمير أرغون العلائى بالموفق حتى ترك بغير مصادرة وفيه قدم الأمير طقتمر الصلاحي من الشام بالمال الذي فرق على العرب، وبسبب حمل الغلال إلى مكة، وهو مبلغ مائتى ألف درهم.
وفيه رسم بعزل تقى الدين سليمان بن على بن عبد الرحيم بن سالم بن مراجل من نظر درهم، واستقر عوضه بهاء الدين بن أبو بكر بن شكر.
وفيه قدم الأمير آقسنقر الناصري من طرابلس، وخلع عليه؛ وسئل نيابة السلطنة بديار مصر،فامتنع أشد الإمتناع، وحلف أيمأناً مغلظة ألا يليها.
وفيه خطب السلطان الكامل شعبان ابنة الأمر بكتمر الساقى، فامتنعت أمها من إجابته، واحتجت عليه بأن أختها تحته، ولا يجمع بين أختين، وأنه بتقدير أن يفارقها، فأنه شغف باتفاق حظية أخيه الصالح إسماعيل شغفاً زائداً. ثم قالت أمها: " ومع ذلك فقد تغير حال المخطوبة من شدة الحزن، فأن أول من أعرس عليها أنوك بن السلطان الناصر محمد، فمات عنها وهى بكر لم يمسها؛ فتزوجها بعده أخوه السلطان المنصور أبو بكر، وقتل؛ ثم تزوجها بعد المنصور أبو بكر أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل، ومات عنها أيضاً، فحصل لها حزن شديد من كونه تغير عليها عدة أزوج في مدة يسيرة. " فلم يلتفت السلطان الكامل شعبان إلى هذه الكلام، وطلق أختها، وأخرج جميع ما كان لها في ليلته، ثم عقد عليها ودخل بها.
وفيه كتب بالإفراج عن أحمد بن مهنا، وعن أبن أخيه سليمان من قلعة دمشق.
وفيه أنعم السلطان على ابن طشتمر حمص أخضر بتقدمة ألف، وعلى ابن أصلم بإمرية طبلخأناه.
وفي مستهل جمادى الأولى: خلع السلطان الكامل شعبان على الأمراء المقدمين والطبلخأناه، وأنعم على ستين مملوك بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب، وفرق الخيول على الأمراء برسم الميدأن.
وفيه قدم أحمد بن مهنا وابن أخيه، مخلع عليهما، وأعيد أحمد إلى إمرية العرب فقدم حاجب سيف بن فضل يخبر بأنه وصل إلى غزة بقوده؛ فكتب بقدومه سريعا، فقدم ومعه مائة فرس مثمنة سوى الهجن وغيرها. فخلع عليه، و لم ينعم له بالإمرية، ولا أنصف في أثمأن خيوله.
وفيه رسم السلطان الكامل شعبان أن يتوفر إقطاع النيابة للخاص.
وفيه خلع السلطان على الأمير بيغرا، واستقر حاجباً كبيراً ليحكم بين الناس. ورسم له السلطان أن يجلس بين يديه موقعين لكتابة الكتب للولاة، وهما رضى الدين بن الموصلى وابن عبد الظاهر.
وفيه قبض على جمال الدين يوسف وإلى القاهرة، وعلى أبن أخيه ونائبه حمود، بسعاية غرلو شاد الدواوين. وكشف غرلو رءوسهم، وضرب حمودا بالمقارع ضربا مبرحا، فوعد بأن يحضر له مالًا قد دفنه بالجيزة، فسيره صحبة أعوأنه ليأتيه بالمال فلما ركب حمود النيل وتوسطه، والقى بنفسه فيه، فغرق. فرسم بالإفراج عن جمال الدين وابن أخيه، بعناية الأمراء به.
وفي يوم السبت: نزل السلطان إلى الميدأن على العادة في كل سنة، فكان يوما مشهودا.وفيه خلع السلطان على الشريف عجلأن بن رميثة بن أبي نفي الحسني، واستقر أمير مكه.
وفيه عاد السلطان من آخر النهار على العادة إلى القلعة.
واستدعى السلطان في يوم الإثنين غرلو شاد الدواوين، بحضرة الأمراء والوزير، ورسم له أن يرتب بلاد الخاص، ويخرج من إقطاع النيابة وغيره بلاد المماليك السلطانية أرباب الجوامك الكبار، لتتوافر جوامكهم. فأفردت خمس نواح أقطعت لمائة مملوك، وطلبوا حتى فرقت عليهم المثالات، فردوها من الغد على السلطان، وقد وقفوا جميعاً فاشتد غضبه، وطلب الطواشي المقدم وأهأنه، ورسم له بضربهم وطردهم؛ فما زال به الأمراء حتى رسم أن الطواشي يضرب منهم جماعة، وأن يفرق النواحى على ثمأنين منهم، وأنعم على العشرين بإقطاعات أخر. فأقاموا مدة على الإمتناع حتى ضرب منهم جماعة كثيرة، وأنزلوا من القلعة إلى القاهرة، وقطع جميع راتبهم من لحم وغيره.

ورفع غرلو على الحاج على الطباخ المعروف بإخوأن سلار أنه يأكل كثيراً مما في المطبخ السلطانى، وأن له في كل يوم على المسلمين خمسمائة درهم، ولولده أحمد ثلاثمائة درهم، سوى الأطعمة وغيرها. فرسم السلطان للأمير أرغون شاه أستادار بمصادرته، فأوقع الحوطة على موجوده، وأهأنه. وكان المذكور قد خدم السلطان الناصر محمد في الكرك، فلما عاد إلى السلطنة أقامه إخوأن سلار، وسلم له المطبخ، فنال سعادة جليلة، لاسيما في المهمات والأفراح التي كان السلطان الناصر محمد يعملها لأولاده ومماليكه وحواشيه، طول تلك المدة. فكان أقل ما يحصل له في كل مهم ما ينيف على عشرة آلاف درهم، مع كثرت تلك المهمات. ولما عمل مهم ابن بكتمر الساقى على بنت تنكز نائب الشام، طلب السلطان الناصر محمد الحاج على هذا في آخر المهم، وقال له: " يا حاج على رح الساعة اعمل لى خروف رميس في لون كذا " ، فولى عنه وهو متنكر قد عبس وجهه. فصاح به السلطان ليرجع، وقال له: " مالك معبس الوجه؛ " فقال: " كيف ما أعبس وقد أحرمتنى الساعة عشرين ألف درهم؛ " قال: " كيف أحرمتك؛ " قال: " عندي رءوس وأكارع وكروش وأعضاد، وكل ما سرقته من هذا المهم، أريد أن أقعد أبيعه. فقلت لي: رح اطبخ، فيتلفوا الجميع " . فتبسم له السلطان، وقال. " لا رح اطبخ، وضمأنهم على " . فلما ذهب الحاج على طلب السلطان وإلى مصر ووالي القاهرة، وأمرهما بطلب الزفورية إلى القلعة، وتفرقة تلك الأسقاط فيهم، فبلغ ثمنها ثلاثة وعشرين ألف درهم. فهذا أعزك الله متحصل مهم واحد من آلاف، سوى ما له في كل يوم من جهة المطبخ، وهو خمسمائة درهم، في مدة بضع وثلاثين سنة، كم أراد النشو أن يتمكن منه، والسلطان الناصر محمد يمنعه.
ولما قبض عليه وجد له خمسة وعشرون ملكا؛ فاخذت أم السلطان داره التي على البحر، وكانت من الدور العظيمة، وأخذت اتفاق داره التي بالمحمودية من القاهرة وإليه ينسب جامع الطباخ، على بركة السقاف بخط باب اللوق؛ فتعطل الجامع أياماً مدة القبض عليه، فأنه كان يقوم به من غير أن يفرد له وقفاً وأخذت أملاكه كلها، وضرب ابنه أحمد، وألزم ببيع موجوده، وحمل وهو وأبوه مالهم إلى بيت المال، ثم شفع فيه الأمير ملكتمر الحجازي، فأفرج عنه ولزم بيته بطالا.
وفي هذا الشهر صودر جماعة من أهل قوص اتهموا بأنهم وجدوا خبية مال، وأخذت أملاكهم وغيرها وصودر الجماعة الذين كتبوا في محضر وفاة السلطان المنصور أبي بكر أنه مات بقضاء الله وقدره، وأخذ جميع موجودهم، فأقروا أن المحضر زور، وأنهم أكرهوا حتى كتبوا ما لم يعاينوه.
وفيه وشى بابنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير أن في دارها بالقاهرة خبية مال، فحفر فيها نحو قامة، فلم يوجد شيء.
وفي يوم السبت خامس عشريه: قدم الأمير طقزدمر من دمشق في محفة وهو مريض، بعدما خرج الأمير أرغون العلائي إلى القائه، فوجده غير واع، ودخل عليه الأمراء وهو قد أشفي على الموت. ولما دخل طقزدمر القاهرة على تلك الحال أخذ أولاده في تجهيز تقدمة جليلة للسلطان، تشتمل على خيول وتحف وجواهر؛ فقبلها السلطان، ووعدهم بخير.
وفيه أنعم السلطان الكامل شعبان على الأمير أرغون الصالحي بتقدمة ألف، ورسم أن يقال له أرغون الكاملي، ووهب له في أسبوع واحد ثلاثمائة ألف درهم وعشرة آلاف أردب من الأهراء. ورسم له بدر شاد الشرابخأناه، وأن يعمر له من مال السلطان بجواره قصر على بركة ألفيل، ويطل على الشارع، وأقام السلطان الأمير آقجبا شاد العمائر على عمارته وفي هذا الشهر: شرع الأمير غرلو شاد الدواوين يستخدم الولاة والكتاب على مال يحمل لبيت المال، فلم يل أحد بعد ذلك الا.بمال. واستجد غرلو أيضاً مالا في المقأيضاًت والنزولات عن الإقطاعات، يحمل لبيت المال. وجعل على عبرة الدينار دينارا، فاذا كان الإقطاع عبرة مائة دينار حمل عنه لبيت المال مائة دينار، ولم يلتفت السلطان لقول الأمراء، وأجابهم بأن هذا كان يأخذه ديوأن الجيش.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الآ؟خر: ركب السلطان إلى السرحة بسرياقوس، ومعه حريمه. فنصبت لهن الخيم في البساتين، وأخليت المناظر التي للأمراء حتى نزل أكثرهن بها.

وفي يوم الجمعة: قدم أولاد الأمير طقزدمر إلى سرياقوس بخبر وفاة أبيهم، فلم يمكن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه، فدفن بخأنكاته بالقرافة. وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإصطبل السلطاني، وقيدت إلى سرياقوس على العادة. ورسم السلطان أن تعمل أوراق بمتوفر إقطاع طقزدمر وما عليه من حقوق القنود، وسائر ما سومح به مما عليه للديوأن في حياته من جميع الأصناف، فلم تزل أولاده تقدم التقادم الجليلة حتى وعدوا بتقدمة سلطانية.
وفيه خلع على الأمير رسلأن بصل، واستقر حاجباً ثأنياً مع بيغرا، ورسم له أن يحكم بين الناس.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجوأني، واستقر في نيابة الكرك؛ وأنعم بإقطاعه على الأمير طشتمر طلليه، وأنعم بإقطاع طشتمر على الأمير قبلاي.
وفيه طلب السلطان العربأن الذين اتهموا بقتل ابن الرديني، وأخذ منهم مائة ألف درهم مصادرة.
وفيه مات الأشرف كجك، عن اثنتي عشرة سنة. واتهم السلطان أنه بعث من سرياقوس من قتله في مضجعه، على يد أربعة خدام طواشية.
وفيه قدم طلب الأمير آقسنقر طرابلس، فسار السلطان من سرياقوس حتى لقيه على بلبيس، ومنع الخدام أن تعرف زوجته أم كجك بوفاته. واختار الأمير آقسنقر من طلبه عدة خيول وجمال بخاتى وهجن، وقدمها للسلطان مع جواهر سنية وتحف بديعة، فخلع عليه السلطان، وأنعم على ولد ابن اخيه بطبلخأناه أبيه، وعمره أربع سنين.
وفيه عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة، بعدما تهتكت المماليك السلطانية بشرب الخمر والإعلأن بألفواحش، وركبوا في الليل وقطعوا الطريق على المسافرين، واغتصبوا حريم الناس، وصارت سرياقوس حأنة.
وفيه عزل تاج الدين ابن الصاحب أمين الدين بن الغنام، من نظر البيوت. وذلك أنه علم باجتهاد السلطان في تحصيل المال فضبط البيوت، ووفر فيها عشرين ألف درهم، وأعلم السلطان بها من غير علم أرغون شاه الأستادار. فتنكر عليه أرغون شاه فضربه، فسعى عليه أفلاطون كاتب سنجر الجمقدار عند غرلو بألفي دينار، فولاه عوضه، وولى أيضاً ابن وجه الطوبة نظر الأوقاف الصالحية إسماعيل، بعدما حمل لبيت المال خمسمائة دينار، وفيه طولب الموفق عبد الله بن إبراهيم بحمل مائة ألف درهم. وسبب ذلك أنه عثر على أنه باع من أراضي الخاص إلى طغيتمر الدوادار.بمائة ألف درهم، فباعها طغيتمر لابن زعازع بالبهنساوية، وألزم كل من طغيتمر وابن زعازم أيضاً بحمل مائة ألف درهم. وفيه عقد لابنة بكتمر مطلقة السلطان شعبان على أرغون شاه أستادار، وعقد لزوجة أرغون شاه ابنة آقبغا - وقد بأنت منه من مدة - على بيبغا روس.
وفيه رسم بإبطال المقأيضاًت والنزولات عن الإقطاعات، بقيام الأمراء في ذلك مع السلطان، لكرة ما فيه من المفاسد. وكتب إلى البلاد الشامية أن من مات من الأجناد أو أرباب المراتب يطالع بوفاته، ليخرج السلطان إقطاعه أو مرتبه، فامتثل ذلك.
وفيه ألزم من بيده رزقه من أرض مصر، أو أرض استأجرها، أن يقوم عن كل فدان.بمائة وخمسين درهماً.فأخذ من ذلك مال كثير، قام غرلو باستخراجه. فازدادت مكانته عند السلطان، وعظم قدره بين الناس، وأنتمى إليه جماعة، وصاروا يغرونه بأرباب الأموال، ويفتحون له أبواب المظالم. واستدعى غرلو طغيتمر متولى البهنسي، وألزمه بحمل أربعمالة ألف درهم، وأخرق به.
وقدم جمال الدين سليمان بن ريان من حلب، وبذل في نظر الجيش بها ألف دينار حملت إلى بيت المال، ووعد بمائتي إكديش. فخلع عليه، وتوجه معه بريد لإحضار الخيل.
وفيه رسم بقطع جميع ما هو مرتب على الحوائج خاناه من التوابل للأمراء والكتاب وغيرهم. وطلب عدة من مباشري الوجه القبلي والوجه البحري، سلموا إلى غرلو فصادرهم.
وفيه قدم البريد من حلب بوقوع الحرب بين الشيخ حسن صاحب بغداد وبين سلطان شاه وأولاد دمرداش، انتصر فيها الشيخ حسن. والتجأ سلطان شاه إلى ماردين، فحصره الشيخ حسن بها أياما، وأفسد ضياعها، ثم سار عنها بغير طائل.
وفيه هم السلطان أن ينعم على غرلو بإمرة مائة، وتولية الوزارة ونيابة دار العدل فلم يوافقه الأمير أرغون العلائي على ذلك، وأبطل أمره.
وفيه عمل السلطان داير بيت حرير مزركش، عمل فيه مبلغ أربعين ألف دينار وعمل أيضاً لحريمه عشرين بغلوطاق صدر، في كل بغلوطاق ألف دينار زركش.

وفي عشري رجب: خلع على فخر الدين بن السعيد، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن علم الدين بن زنبور. وخلع على ابن زنبور، واستقر كما كان في استيفاء الصحبة فكانت مدة مباشرة ابن زنبور نظر الخاص نيفاً وثمانين يوماً.
وفيه عزم على إنشاء مدرسة موضع خان الزكاة، ونزل الأمير أرغون العلائي والوزير لنظره. وكان الناصر محمد قد وقفه، فلم يوافق القضاة على حله.
وفي مستهل شعبان: استقر تاج الدين محمد بن المزين خضر بن عبد الرحمن في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن بدر الدين محمد بن فضل الله.
وفيه كان عرس السلطان على بنت طقزدمر، وعمل لها مهماً مدة سبعة أيام بليإليها، اجتمع فيه نساء الأمراء جميعاً. وكانت فيه عدة جوق مغانى، حصل لهن من الذهب والفضة وتفاصيل الحرير شىء يجل وصفه؛ وبلغ نصيب ضامنة المغاني. بمفردها ثمانين ألف درهم، سوى بقية المغاني.
وفيه استقر تقي الدين سليمان بن مراجل ناظر دمشق، عوضاً عن بهاء الدين أبي بكر ابن سكرة، بعد موته. وكان ذلك بعناية الأمير أرغون العلائي، فأنه كان بعد عزله من نظر الدولة ولاه نظر الخاص بدمشق، ثم انتقض أمره.
وفي مستهل شهر رمضان: خلع على قشتمر وإلى الجيزة، واستقر شاد الدواوين رفيقا للأمير غرلو.
وفيه خلع على نجم الدين داود بن أبي بكر بن محمد بن الزيبق، بولاية الجيزة.وفيه استقر الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان في تدريس المدرسة الناصرية، بجوار قبة الشافعي بالقرافة، عوضاً عن ضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوى، بعد وفاته. وكان ذلك بعناية الأمير جنكلى بن البابا، والأمير آقسنقر، بعدما استقر فيه تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي بسفارة قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة فنزل ابن اللبان ودرس، ومعه الأمير أرغون الكاملي وعدة أمراء، وجماعة القضاة والفقهاء. وكان ناصر الدين فاز السقوف محتسب مصر مقيماً بقاعة التدريس، فأخرجه ابن اللبان منها، وطالبه باجرتها مدة سكنه. فرتب ناصر الدين على ابن اللبان فتيا نسبه فيها إلى قوادح، وأراد الدعوى عليه، فلم يتمكن من ذلك.
وفيه قدم الشريف من مكة يريد أن يستقر شريكا لأخيه عجلان في إمرة مكة. وأحضر ثقبة قودا فيه عدة خيول، فوعد بخير.
وفيه قدمت رسل خليل بن دلغادر بتقدمته وكتابه، وقد عاد إلى الطاعة بحسن سياسة الأمير أرقطاى نائب حلب؛ فخلع على رسله، وجهز له تشريف.
وفيه أخذت أم السلطان من أولاد الأمير طقزدمر خمسمائة فدان بناحية بوتيج ودولابها.
وفيه قدمت الحرة من بلاد الغرب بهدية سنية تريد الحج، فرسم بتجهيزها.
وفيه أخذ السلطان من وزير بغداد دولابين، جعلهما باسم اتفاق، وعوضه عنهما ما ابتاعهما به، وهو مبلغ ثمانية وعشرين ألف درهم. وتبرع وزير بغداد للسلطان.مما أنفقه عليهما، وهو مائة ألف درهم.
وفيه قدم الخبر من حلب بوقعة كانت بين ابن دلغادر وبين أمير يقال له طرفوش، أقامه الأمير يلبغا اليحياوي ضدا لابن دلغادر، وأغراه به ووعده بإمرته على التركمان واقتتل طرفوش وابن دلغادر، فانتصر ابن دلغادر بعد عدة وقائع قتل فيها من الفريقين. خلائق. فلما قدم الأمير أرقطاى إلى حلب تلطف بابن دلغادر حتى أعاده إلى الطاعة، وما زال يجهد حتى أصلح بينه وبين طرفوش.
ثم التفت الأمير أرقطاي إلى جهة الأمير فياض بن مهنا، وقد كثر عبثه وفساده وأخذه قفول التجار. وبذل الأمير أرقطاى جهده حتى قدم عليه فياض بن مهنا بظاهر حلب فتلقاه وأنزله، وبالغ في إكرامه، وأخذ عليه العهود والمواثيق بالإقامة على الطاعة، ثم جهزه إلى بلاده. وكتب الأمير أرقطاي بذلك إلى السلطان، فسر به سروراً زائداً، فأنه كان في قلق من أخبار فياض، وعلى عزم أن يجرد العسكر إليه ويورى بقصد سيس. وأخذ فياض في تجهيز القود إلى السلطان، وسيره، فقدم وفيه سبعون فرسا قامت عليه بألف ألف درهم، وخمسون هجينا وعشر مهريات، وعبي وغير ذلك. ثم قدم فياض عقيب قوده، فأكرمه السلطان وأحسن إليه، وأنزله.
وفي هذا الشهر: أمسكت امرأة حرامية من حمام الأيدمرى، في يوم السبت سابع عشريه. فضربها الأمير نجم الدين أيوب أستادار الأكر ووالي القاهرة بالمقارع على ساقيها، ثم قطع يدها في باب زويلة.

وفي مستهل شوال: رسم للأمير أرغون الكاملي بزيارة القدس، وأنعم عليه.بمائة ألف درهم. وكتب إلى نواب الشام بالركوب إلى خدمته، وحمل التقادم له، وتجهيز الإقامات في المنازل إلى حين عوده. ورسم أن ينادي.بمدينة بلبيس وأعمالها أنه من قال عنه أرغون الصغير شنق، وألا يقال إلا أرغون الكاملي. فشهر النداء بذلك في الأعمال الشرقية، فامتثل الناس ذلك؛ وتوجه الأمير علاء الدين علي بن ملغريل في خدمته.
وفيه ركب حريم السلطان إلى ناحية الجيزة للنزهة، وصحبتهم الأمير آقسنقر فأقام بهم حتى خرج محمل الحاج صحبة مغلطاي أمير شكار، ثم عادوا.
وحج في هذه السنة عدة من نساء الأمراء، وبالغن في زينة محفاتهن ومحايرهن وألبسوا جمالهن الحرير والقلائد المرصعة والمقاود الحرير المزركشه، وفي أيدهن خلاخل الذهب، وعليهن العبي الحرير والأجلة الزركش، حتى خرجن في ذلك عن الحد. وتفاخرن فيما أبدعن، وتناظرن، وصارت كل واحدة تريد أن تفوق على صاحبتها، وتشبه بهن غيرهن من النساء. ولم يعهد أن عمل مثل هذا ولا قريب منه فيما تقدم، فأنهن خلعن على الهجانة والسقائين الأقبية الطرد وحش، فأنكر فعلهن الناس، وذكره قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة في خطبة العيد بالقلعة وصرح بالإنكار، وصدع بالوعظ.
وفيه قدم تقي الدين سليمان بن مراجل من دمشق، وابن قرناص من حلب فبذل ابن قرناص في نظر حلب نحو ألفي دينار حتى رسم له به، عوضاً عن ابن الموصلي. فبعث ابن الموصلي ابنه بهديه سنية فيها جوارى حسان، وزوج بسط حرير، فقام غرلو معه وأوصله بالسلطان، فقبل هديته، وبسط الحرير بالدهيشة، وأقر ابن الموصلي على حاله؛ فكانت مدة ابن قرناص عشرين يوما بألفي دينار.
وقام الأمير أرغون العلائي في حق ابن مراجل حتى خلع عليه، واستقر في نظر الدولة، وأجلسه السلطان بين يديه، وغرلو قائم على يديه. فتفاوضا في الكلام، بحيث قال الأمير أرغون العلائي لغرلو: " أنت شاد بعصاتك، إذا عينت لك سالا للسلطان تستخرجه " وانصرفا من المجلس، وكل منهما يترفع على الآخر.
فاشتد ابن مراجل على الكتاب، وألزمهم بعمل الحساب، ورسم عليهم؛ وكتب بطلب مباشر الشام. فلما كان بعد ثلاثة أيام تكاشف هو غرلو، وترافعا إلى السلطان؛ فأخرق السلطان بغرلو، وألزمه أن يمتثل ما يرسم له به ابن مراجل، ولا يتعداه.
وفيه قدم من دمشق علاء الدين الفرع وتوصل إلى السلطان، وقدم له تقديمة جليلة، وسأله في قضاء دمشق، عوضاً عن تقي الدين السبكي، فرسم له به، ففام الأمير جنكلى ابن البابا مع السلطان في استقرار السبكي على عادته حتى أجابه، وعوق توقيع الفرع، وعوض عن تقدمته الأوقاف بدمشق.
وفيه قدم الخبر بأن قاصد نائب حلب توجه إلى سيس بطلب الحمل، وقد كان تكفور كتب في الأيام الصالحية بأن بلاده خربت، فسومح بنصف الخراج. فلما وصل إليه قاصد نائب حلب جهز الحمل، وحضر كبير دولته ليحلفوه أنه ما بقى أسير من المسلمين في مملكته، كما جرت العادة في كل سنة بتحليفه على ذلك. وكان في أيديهم عدة من المسلمين أسرى، فبيت مع أصحابه قتلهم في الليلة التي تكون خلفه في صحبيتها، فقتل كل أحد أسيره في أول الليل. فما هو إلا أن مضى ثلثا الليل خرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريح سوادء، معها رعد وبرق أرعب القلوب. وكان من جملة الأسرى عجوز من أهل حلب في أسر المنجنيقي، ذبحها عند المنجنيق، وهي تقول: " اللهم خذ الحق منهم " فقام المنجنيقي يشرب الخمر مع أهله بعد ذبحها، حتى غلبهم السكر وغابوا عن حسهم. فسقطت الشمعة وأحرقت ما حولها، حتى هبت الريح تطاير شرر ما احترق من البيت حتى اشتعل.بما فيه، وتعلقت النيران مما حوله حتى بلغت موضع تكفور، ففر بنفسه. واستمرت النار مدة اثني عشر يوماً، فاحترق أكثر القلعة؛ وتلف المنجنيق كله بالنار، وكان هو حصن سيس، ولم يعمل مثله واحترق المنجنيقي وأولاده الستة وزوجته، واثني عشر رجلاً من أقاربه. وخربت سيس، وهدم سورها ومساكنها، وهلك كثير من أهلها، وعجز تكفور عن بنائها.
وفيه نافقت العربان بالوجه القبلي والفيوم، وكثرت حروبهم وقطعهم الطرقات، فلم يمكن خروج العسكر إليهم، فأنه كان اوأن المغل، خوفاً عليه.

وفي مستهل ذي القعدة: قدم علاء الدين الحراني من دمشق باستدعاء، وخلع عليه بنظر الشام. وفيه قدم الخبر بأنه ثارث ريح زرقاء شديدة في بلاد برقة، وأعقبها مطر عظيم جداً يوماً كاملاً. ثم نزل برد قدر بيص الحمام مجوف وبعضه مثقوب من وسطه. وتمادى حتى وصل إلى الإسكندرية والبحيرة والغربية والمنوفية والشرقية، وأفسد من الدور والزروع شيئاً كثيراً سيما الفول، فأنه تلف عن آخره؛ ونزلت صاعقة فأحرقت نخلة في دار.
وقدم الخبر أن الأمير أرغون الكاملي لعب بالكرة في ميدان غزة وتوجه بعد أيام إلى القدس. فقدم عليه نائب الشام بتقدمته، ثم تواردت تقادم النواب من حلب إلى عزة ثم خرج الأمير أرغون الكاملي من القدس، فكتب بسرعة قدومه، فلما وصل قطيا خرج السلطان إلى لقائه بسرياقوس، ولعب معه في الميدان بالكرة، وقد سر بقدومه؛ ثم سار به السلطان إلى القلعة.
وفيه خلع على الأمير قبلاي، واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن ملكتمر السرجواني لشدة مرضه، وكتب بإحضاره.
وفيه كثر لعب الناس بالحمام، وكثر جري السعاة، وتظاهر أرباب الملعوب بفنون لعبهم. وتزايد شلاق الزعر، وسلط عبيد الخدام الطواشية وغلمأنهم وعبيد الكتاب على الناس، وصاروا كل يوم يقفون للضراب، فتسفك بينهم دماء كثيرة، وتنهب الحوانيت بالصليبة خارج القاهرة وإذا ركب إليهم وإلى القاهرة لا يعبئون به، فإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعاً؛ فاشتد قلق الناس من ذلك، ولم يجسر أحد ينكر شيئاً من هذا.
وفيه أعرس بعض الطواشية ببعص سرارى السلطان بعد عقده عليها، فعمل له السلطان مهما حضره جميع جواري بيت السلطان. وجلبت العروس على الطواشي، ونثر السلطان عليها وقت الجلا الذهب بيده، فكان أمراً شنيعاً.
وفي مستهل ذي الحجة: قدم البريد من دمشق بوفاة الأمير ألماس الحاجب، وعلاء الدين بن سعيد فكتب باستقرار الأمير بدر الدين الأمير مسعود بن خطير حاجبا عوضاً عن ألماس، وأنعم على مملوك ابن سعيد بطبلخاناه، بعد بذل نحو ستة آلاف دينار.
وفيه اشتهر أخذ البراطيل للسلطان، فقصده كل أحد لطلب الإقطاعات والرزق والرواتب.
وفيه قدم ابن سالم قاضي القدس، وقد عزله السبكي وأثبت عليه محصرا أنه باع أيتاما من يتامى المسلمين الأحرار للنصارى. وما زال ابن سالم يسعى بالخدام حتى كتب له توقيع بقضاء القدس، على ألف وخمسمائة دينار حملها للسلطان، ومثلها لمن سعى له. وفيه كثرت الإشاعة باتفاق الحاج الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير يلبغا نائب الشام على المخامرة، فجهز الأمير الحاج آل ملك محضراً ثابتاً على قاضي صفد بالبراءة مما رمى به، فأنكر السلطان عليه هذا. وجهز منجك السلاح دار للكشف عما ذكره فاتفق قدوم بعض مماليك الأمير الحاج آل ملك فاراً منه، خوفاً أن يضربه على شربه الخمر، وذكر عنه للسلطان أنه يريد التوجه إلى بلاد العدو. فزاد هذا السلطان كراهة فيه، وأخرج منجك على البريد إليه. فلما قدم عليه حلف أنه برىء مما قيل عنه وأنعم على منجك بألفي دينار سوى الخيل والقماش.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر الا يعارض أحد من لعاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة، فتزايد الفساد وشنع الحال.
وفيه ركب الأمير طقتمر الصلاحي البريد، ليوقع الحوطة على جميع أرباب المعاملات وأصحاب الرزق والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزة، وألا يصرف لأحد منهم شيئا، وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم، برسم سفر السلطان للحجاز، ويشتري بذلك الجمال ونحوها، مما يحتاج إليه السلطان في سفره فمنعت الرواتب من الفقراء وغيرهم لم يصرف لأحد منهم الدرهم الفرد، فكثر ابتهالهم وتضرعهم إلى الله تعالى في الدعاء على من قطع أرزاقهم.
وفيه كتب بعد موت الأمير جنكلى بن البابا بقدوم الأمير آل ملك إلى القاهرة من صفد، ليستقر على إقطاع جنكلى، وتوجه إليه منجك لإحضاره.
وفي يوم السبت تاسع عشريه: أمسك الأمير أينبك أخو قمارى، ثم أفرج عنه من يومه.
وفيه استقر نجم الدين إبراهيم بن العماد علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسى في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه.
وفيه كتب باستقرار الأمير سيف الدين أراق الفتاح نائب غزة في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير الحاج آل ملك.
ومات فيها من الأعيان فخر الدين أحمد بن الحسن بن الجار بردى، شارح البيضاوى.

ومات الأمير ألماس الناصري الحاجب، بدمشق.
ومات بهاء الدين أبو بكر بن موسى بن سكرة ناظر الدواوين بدمشق، في عاشر شعبان بها، عن ستين سنة.
وتوفي الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاوون.
ومات الأمير طقزدمر الحموى، وأصله من مماليك المؤيد إسماعيل بن علي صاحب حماة، بعثه للناصر محمد وهو شاب، فخطى عنه ورقاه حتى صار أمير مجلس، وزوجه بابنته. ثم ولي نيابة السلطنة في أيام المنصور أبي بكر، وولي نيابة حلب ودمشق، ثم قدم إلى القاهرة، ومات بها مستهل جمادى الآخرة؛ وله تنسب خانكاه طقزدمر بالقرافة وتوفي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله العمري الدمشقي كاتب السر، بدمشق في سادس عشري رجب.
وتوفي تاج الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي بكر الأردبيلي الشافعي، مدرس المدرسة الحسامية طرنطاي بالقرافة. وكان إماما في الفقه والعربية والأصول، والجدول والحساب والمنطق؛ وقد اشتد صمه، وأنتفع بالقراة عليه جماعة.
وتوفي القاضى ضياء الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن المناوي الشافعي؟؟؟، أحد نواب الحكم عند قاضي القضاة الشافعية، بالقاهرة في يوم السبت سادس رمضان، وتجاوز تسعين سنة.
ومات الأمير بيبرس الأحمدي أحد المماليك المنصورية البرجيه، في يوم الثلاثاء ثالث عشري المحرم، وهو في عشر الثمانين. وكان جركسي الجنس، تنقل حتى صار من أمراء الألوف في وظيفة أمير جاندار، ثم ولى نيابة صفد وطرابلس؛ وكان كريماً شجاعاً قوي النفس دينا، لم يركب قط فرسا إلا فحلاً ولم يركب حجرة قط.
ومات الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا العجلى، أتابك العساكر، في يوم الإثنين سابع عشري ذي الحجة. قدم القاهرة سنة ثلاث وسبعمائة، وتنقل حتى صار رأس الميمنة. وله حفدة كبيرة، و لم ير أعف منه في الأمراء، مع الصدق في الديانة والحلم، والوقار وكثرة الصدقات فكان يخرج كل سنة ثمانية آلاف أردب من القمح، ومبلغ ثمانين ألف درهم، في وجوه البر، سوى زكاة ماله.
وتوفي تقي الدين محمد بن همام بن راجي الشافعي، إمام جامع الصالح خارج باب زويلة، وهو مصنف كتاب سلاح المؤمن وغيره.
وفيه ضربت عنق ششملم وعنق رفيقه، وفي يوم الإثنين عاشر رجب.
ومات الشريف رميثة بن أبي نمى بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة أمير مكة، يوم الجمعة ثامن ذي القعدة.بمكه
سنة سبع وأربعين وسبعمائةيوم الإثنين أول المحرم: قدم منجك مدينة صفد، بكتاب السلطان يستدعي الأمير الحاج آل ملك، فسار معه إلى غزة، فقبض عليه بها وقيد. وقيل كان القبض عليه يوم الخميس عشري ذي الحجة، بغزة.
وفي أوله أيضاً قدم الأمير ملكتمر السرجواني من الكرك وهو مريض، فمات عند مسجد تبر ظاهر القاهرة؛ ودخل إليها ميتاً، فدفن بتربته.
وفيه أيضاً قدم الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الحاج آل ملك من صفد؛ فأمسك من ساعته، وسجن.
وفيه أيضاً خلع على الأمير أسندمر العمري، واستقر في نيابة طرابلس.
وفي يوم السبت سادسه: قدم الأمير الحاج آل ملك نائب صفد، والأمير قمارة نائب طرابلس، مقيدين إلى قليوب. وركبا النيل إلى الإسكندرية، واعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصلاح قد قبض على قمارى بطرابلس، وقيده وبعثه على البريد، وأوقع الحوطة على موجوده وفيه قبض على آينبك أخي قمارى، وعلى نصرات وغلبك وحواشيهم، وأحيط بموجودهم.
وفيه ركب مغلطاي الأستادار إلى صفد لإيقاع الحوطة على موجود الأمير الحاج آل ملك، وركب الطواشي مقبل التقوى لإحضار موجود قمارى من طرابلس وألزم مباشروهما بحمل جميع أمولهما، فوجد لآل ملك قريب ثلاثين ألف أردب غلة وألزم ولده.بمائة ألف درهم، وأخذ لزوجته خبية غمز عليها فيها أشياء جليلة وأخذ لزوجة قمارى صندوق فيه مال جزيل.
وفيه استقر الأمير رسلان بصل في نيابة حماة عوضاً عن طقتمر الصلاحي، ونقل طقتمر من نيابة حماة إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاي. وكتب بقدوم أرقطاى، وتوجه في ذلك الأمير قطلوبغا الكركي، ومعه التقليد فأنعم عليه أرقطاى بمائة ألف درهم، وأنعم عليه طقتمر بألف وخسمائة دينار، وعشرة آلاف درهم، ومائتي قطعة قماش، وعشرة أرؤس من الخيل، وخلعة السلطان، وخمسمائة أردب غلة من مصر، قيمتها مائة ألف درهم

وفي عشريه: قدم الأمير ارقطاي من حلب، فخلع عليه، واستقر عوضًا عن الأمير جنكلى بن البابا رأس الميمنة.
وفيه خلع السلطان على أرغون العلائي زوج أمه، واستقر في نظر المارستان المنصوري، عوضاً عن الأمير جنكلى بن البابا. فنزل إليه أرغون، وأعاد جماعة ممن قطعهم ابن الأطروش بعد موت الأمير جنكلى. وأنشأ أرغون بجوار باب المارستان سبيل ماء ومكتب سبيل لقراءة أيتام المسلمين القرآن الكريم، ووقف عليه وقفا بناحية من الضواحي وفيه أنعم السلطان على طغريل بتقدمة ألف، وعزل تقي الدين سليمان بن مراجل من نظر الدولة، وقد كرهه الناس.
وفيه خلع على الأمير نجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد، وأعيد إلى الوزارة، وكانت شاغرة.
وفيه خلع على علم الدين عبد الله بن زنبور، واستقر في نظر الدولة، عوضاً عن ابن مراجل. وعزل جميع من ولاه ابن مراجل من الشاميين وغيرهم، وأهينوا، وألزموا بحمل ما أخذوا من المعاليم، ونزعت أخفافهم. وألزم ابن مراجل بحمل جميع ما استأده من المعلوم، وبثمن الخلعة والبغلة والدواة، وقومت عليه بأزيد قيمة، وأرادوا أهانته بكل طريق وفيه استقر ابن سهلول في الاستيفاء، كما كان أولاً. واستقر النشو بن ريشة مستوفيا.
وفيه قدم الأمير مغلطاى.مما وجد للأمير الحاج آل ملك، وهو مبلغ خمسة وسبعون ألف درهم، وأربعة آلاف دينار. ووجد له أيضاً ثمن غلة مبتاعة. بمكة نحو مائة ألف وثلاثين ألف أردب، ونحو عشرين ألف جلد حبشي. ووجد له عشرون فرسا، سوى ما أرصده للتقدمة، وعدتها سبعون فرساً، سوى الهجن والبخاتى، ونحو عشرين بقجة قماش. ووجد له أربعة عشر قطار بخاتى، أنعم بها على أربعة عشر خادماً فشق ذلك على الأمراء.
وفيه قدم مقبل من طرابلس بجميع قماش نساء الأمير قمارى، وما وجده له، وفيه زنة سبعين مثقال من الجواهر، فرقه السلطان على اتفاق وغيرها، وفيه مبلغ أربعين ألف درهم وثلاثة آلاف دينار، وزركش بنحو مائتي ألف درهم.
وفي مستهل صفر: قدم ابن زعازع من البهنسا، وسعى ببعض الكتاب حتى سلم إليه على مائة ألف درهم، فعاقبه حتى مات. فاتهم ابن زعازع بأنه أخذ له مالاً كبيراً، وخرج الأمير مغلطاي إلى البهنسا وقبض عليه، وأخذ منه ألفي ألف ومائة وستين ألف درهم، ومائتي جارية، وستين عبداً وستين فرساً، وألفا وثمانمائة فدان على سبيل الرزق، سوى القنود والأعمال والمعاصر؛ ثم سمره مغلطاي وشهره في النواحي.
وفيه قدم طلب الأمير الحاج آل ملك؛ ففرقت مماليكه على الأمراء، ونزل بعصهم في البحرية.
وفيه أخرج مماليك قمارى من الحلقة.
وفيه انتهت عمارة قصر الأمير أرغون الكاملي وإصطبله الأعظم، وأنفق فيه مال عظيم، وأخد فيه من بركة النيل نحو العشرين ذراعا. فلما عزم أرغون الكاملي على النزول إليه مرض، فقلق السلطان لمرضه، فبعث له فرساً وثلاثين ألف درهم تصدق بها عنه. وأخرج الأمير أرغون العلائي أيضاً عشرة آلاف درهم تصدق بها عنه، وأفرج عن أهل السجون، وركب السلطان لعيادته بالميدان.
وفيه اهتم السلطان بالسفر إلى الحجاز، ورسم بحمل مائة ألف وخمسين ألف أردب شعير وندب لها الأمير عز الدين أزدمر الكاشف فألزم الأمير عز الدين أزدمر الفلاحين بالوجه البحري عن آخرهم بحمل شعير على حساب كل أردب بسبعة دراهم، وكتب لآل مهنا بالشام أن يسيروا الهجن المخبورة، فقدم حيار بن مهنا ومعه قود جليل، فقبل منه، وقومت خيوله بمائتي ألف درهم. ثم قدم أحمد بن مهنا أيضاً، بقود غير طائل.
وفي يوم الجمعة رابع عشريه: ولد للسلطان ولد ذكر من ابنة الأمير بكتمر الساقى.
وفي يوم السبت خامس عشريه: أفرج عن الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الحاج آل ملك، وعن أخيه قمارى، وألزما بيوتهما.
وفي مستهل ربيع الأول: قدم البريد بانتشار الجراد بأعمل دمشق والبلقاء، ورعيه زروعهم وقد أدرك الشجر، وأنه عم البلد حتى وصل إلى الرمل وقرب من الصالحية؛ فهلك الشعر عن آخره.
وفيه تحسن سعر الغلة، حتى أبيع الأردب القمح بثلاثين درهما.

وفيه توجه السلطان إلى سرياقوس، وأحضر عنده، الأوباش، فلعبوا باللبخة، وهي عصى كبار حدث اللعب في هذه الدولة، وقتل في اللعب بها جماعة. فلعبوا بها بين يديه، وقتل رجل رفيقه، فخلع على بعضهم، وأنعم على كبيرهم بخبز في الحلقة واستمر السلطان بلعب الكرة في كل يوم، وأعرض عن تدبير الأمور. فتمردت المماليك، وأخذوا حرم الناس، وقطعوا الطريق، وفسدت عدة من الجواري. وكثرت الفتن بسبب ذلك حتى بلغ السلطان، فلم يعبأ بهذا، وقال: " خلوا كل أحد يعمل ما يريد " .
فلما فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائي فيه مع السلطان، حتى عاد إلى القلعه وقد تظاهر الناس بكل قبيح، ونصبوا أخصاصا في جزيرة بولاق والجزيرة الوسطانية التي سوها حليمة، بلغ مصروف كل خص فيها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم. وعمل كل خص بالرخام والدهان البديع، وزرع حوله المقائي والرياحين، وأقام بها معظم الناس من الباعة والتجارة وغيرهم، وكشفوا ستر الحياء، وبالغوا في التهتك.مما تهوى أنفسهم في حليمة، وفي الطمية وتنافسوا في أرضها حتى كانت كل قصبة قياس تؤجر بعشرين درهماً، فيبلغ الفدان الواحد منها بثمانية آلاف درهم، ويعمل فيها ضامن يستأجر منها الأخصاص. فأقاموا على ذلك ستة أشهر حتى زاد الماء، وغرقت الجزيرة فاجتمع فيها من البغايا والأحدا وأنواع المسكرات ما لا يمكن حكايته، وأنفق الناس بها أموالا تخرج عن الحد في الكثرة. وكانت الأمراء والأعيان تسير إليها ليلا، إلى أن قام الأمير أرغون العلائي في أمرها قياماً عظيماً، وأحرق الأخصاص على حين غفلة، وضرب جماعة وشهرهم، فتلف بها مال عظيم جداً وفي هده الأيام: قل ماء النيل حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى منشاة المهراني ومن جزيرة الفيل إلى بولاق ومنها إلى المنية طريقاً واحداً. وبعد على السقائين طريق الماء، فأنهم صاروا يأخذون الماء من قريب ناحية منبابة وبلغت الراوية الماء إلى درهمين، بعد نصف وربع درهم؛ فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرغون العلائي. فبلغ السلطان غلاء الماء بالمدينة، وانكشاف ما تحت بيوت البحر من الماء، فركب ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة حتى كشف ذلك، فوجد الوقت فيه قد فات بزيادة النيل واقتضى الرأى أن ينقل التراب والشقف من مطابخ السكر بمدينة مصر، ويرمي من بر الجيزة إلى المقياس، حتى يصير جسرا يعمل عليه، ويدفع الماء إلى الجهة التي أنحسر عنها. فنقلت الأتربة في المراكب، والقيت هناك إلى أن بقي جسراً ظاهراً، وتراجع الماء قليلا إلى بر مصر؛ فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر.
وفيه لعب السلطان مع الأمراء بالكرة في الميدان من القلعة، فاصطدم الأمير بيبغا الصلاحي مع آخر سقطا معاً عن فرسيهما إلى الأرض. ووقع فرس بيبغا على صدره، فانقطع نخاعه، ومات لوقته، فأنعم بإقطاعه على قطلوبغا الكركى.
وفيه قدم الشريف عجلان بن رميثة من مكة وصحبته القود، فمنع من الأنعام عليه بعادته عند قدومه بقوده، وهى أربعة آلاف درهم. وكتب إلى أخيه ثقبة ألا يعارض وأن يحضر إلى القاهرة.
وفيه كتب إلى نائب حماة بإيقاع الحوطة على الأملاك والأراضي التي تقدم بيعها من الملك المؤيد إسماعيل ومن ولده، فأنها أبيعت بدون القيمة، فقام أربابها بقيمة المثل وحصل منهم ثلاثمائة ألف درهم.
وفيه قدم علاء الدين بن الحراني ناظر دمشق، وشكا من قطع طقتمر الصلاحي مرتبات الناس ببلاد الشام. فلم تسمع شكواه، ورسم له ألا يصرف لأحد مرتبا ولا حوالة يحال بها على مال الشام، بل يوفر الجميع لمهم السفر للحجاز. ثم عاد علاء الدين بن الحراني إلى دمشق، وتوجه صحبته تقي الدين سليمان بن مراجل، بشفاعته له في السفر.
وفيه قدمت رسل ابن دلغادر بكتاب يتضمن أنه أخذ قلعة كانت بيد الأرمن، إحتوى على ما فيها وقتل أهلها، فأنعم عليه بها.
وفيه أخرج الأمير ايتمش عبد الغني أحد الطلبخاناه على البريد، منفيا إلى الشام.

وفيه ولد السلطان ولد ذكر من ابنة الأمير تنكز، فدقت البشائر. ونزل الأمير قطلوبغا الكركي إلى الأمراء يبشرهم، فلبس من أربعة وعشرين أميراً مقدماً أربعة وعشرين تشريفاً أطلس بحوائصها، سوى الذهب والفضة والخيل والتفاصيل. وأعفى قطلوبغا مقدمين من الأخذ منهما، وهما علاء الدين علي بن طغريل وبهادر العقيلي، من أجل أنهما أخذا الإمرة عن قريب. وأنعم عليه السلطان مع ذلك من الأهراء بخمسة عشر ألف أردب غلة، فاشتد حد المماليك له على ما ناله من السعادة فلم يطل عمر هذا المولود، ومات.
وفيه اشتدت المطالبة على أهل النواحي بالجمال والشعير والأعدال والأخراج والعبي، بسبب سفر السلطان للحجاز. وكثرت مغارم أهل النواحي للولاة والرقاصين، وشكا أرباب الإقطاعات ضرر بلادهم للسلطان، فلم يلتفت لهم. وقام في ذلك الأمير أرغون شاه أستادار مع الأمير أرغون العلائي، في التحدث مع السلطان في إبطال حركة السفر، حتى تفاوضا بسببه وتنافرا. فحدث الأمير أرغون العلائي السلطان في تركه السفر، فلم يصغ لقوله، وكتب باستعجال العرب بالجمال، واستحثاث طقتمر الصلاحي فيما هو بصدده من ذلك.
وفيه أوقع السلطان الحوطة.على أموال الطواشي عرفات، وأخرج إلى الشام. وقصد السلطان أخذ أموال الطواشي كافور الهندي، فشفعت فيه خوند طغاى، فأخرج إلى القدس. وكان عرفات وكافور من خواص السلطان الملك الناصر محمد ونالا سعادة عظيمة؛ وبنى كافور تربة عظيمة بالقرافة.
وفيه نفي أيضاً ياقوت الكبير، وكافور المحرم، وسرور الدمامينى.
وفي ثامن عشره: نفي أيضاً من الطواشية دينار الصواف، ومختص الخطائي.
وأهل ربيع الآخر: ففيه قدم الخبر.بموت تاج الدين محمد بن الزين خضر بن محمد ابن عبد الرحمن كاتب السر بدمشق، فرسم أن يستقر عوضه في كتابة السر بدمشق ناصر الدين محمد بن يعقوب عبد الكريم بن أبي المعالي، وأن يستقر جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود كاتب السر بحلب، على عادته.
وفيه اشتد فساد العربان بالصعيد والفيوم والإطفيحية، فأخرج الأمير غرلو إلى إطفيح فأمن غرلو شيخ العربان مغنى، وأخذ في التحيل على نمي حتى قبض عليه، وسلمه لمغنى، فعذبه عذاباً شديداً. فثارت أصحابه، وكبسوا الحي وتلك النواحي، وكسروا عرب المغنى، قتلوا منهم ثلاثمائة رجل وستين امرأة، وذبحوا الأطفال، ونهبوا الأجران وهدموا البيوت، ولحقوا بعربان الصعيد والفيوم فكانت عدة من قتل منهم في هذه السنة نحو الألفي انسان، لم يفكر أحد في أمرهم، ولا فيما أفسدوه.
وفيه مات ولد السلطان من ابنة الأمير تنكز، فولد له في يومه ولد ذكر من حظيته اتفاق سماه شاهنشاه، وسر به سروراً زائداً، وقصد أن يعمل له مهما وتدق البشائر فمنعه الأمير أرغون العلائي من ذلك، فعمل فرحا مدة سبعة أيام. وكان السلطان قد عمل لاتفاق على ولادتها بشخاناه وداير بيت، وغشاء مهد الولد وقماطه، عمل فيهم مبلغ ستة وثمانين ألف دينار. وحصل لآرباب الملهى أيام ألفرح من خلع الخوانين عليهم البغالطيق بداير زركش، وباولى وطرازات زركش وغير ذلك، ما يعظم قدره. ومع ذلك مات الولد يوم سابعه.
وفيه مات يوسف بن السلطان الناصر محمد، واتهم السلطان بقتله.
وفيه قدم الأمير طقتمر الصلاحي من الشام، ومعه مبلغ ألف ألف درهم، لتتمة جملة ما حمل من الشام ألف ألف وستمائة ألف درهم، مما توفر من المرتبات التي اقتطعت وجيء من الأعمال بالصنف، وذلك سوى الأصناف المستعملة برسم السفر.
وفيه ورد كتاب الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام يتضمن خراب بلاد الشام، مما اتفق بها من أخذ الأموال وانقطاع الجالب إليها، وأن الرأي تأخير السفر إلى الحجاز في هذه السنة فقام الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازة في تصويب رأي نائب الشام، وذكرا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان، وضرر الزرع، وكثرة مغارم البلاد. وما زالا حتى رجع السلطان عن السفر، وكتب لنائب الشام بقبول رأيه في ذلك، وكتب إلى الأعمال باسترجاع ما قبضه العرب من كرى الجمال ورمى البشماط الذي عمل على الباعة.

فلم يوافق هذا غرض نساء الساطان ووالدته؛ وأخذت والدته في تقوية عزمه على السفر حتى قوي، وكتب لنائب الشام وحلب وغيرهما أنه لابد من السفر للحجاز، وأمرهم بحمل ما يحتاج إليه. واشترى السلطان الجمال، وطلب الكاشف، ورسم له عربان مصر وتفرقة المال عليهم، لكرى أحمال الشعير والدقيق والبشماط.
فتجدد الطلب على الناس، وحملت الغلال إلى الطحانين لعمل البشماط والدقيق، واستعيد ما رمي من دلك. فتحسن سعر الغلة، واختلت النواحي من العنف في الطلب، ورفعت أجرة الجمل إلى العقبة عشرة دراهم وإلى ينبع ثلاثين درهما، وإلى مكة خمسين درهماً واشتغل الناس بهذا المهم، وتوقفت أحوال أرباب المعايش، وقل الواصل من كل شىء.
وأخذ الأمراء في أهبة السفر، وقلقوا لذك، وسألوا الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي في الكلام مع السلطان في إبطال سفره، وتعريفه رقة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك في نوبة الناصر أإحمد، ومن خراب بلادهم لطلب الكشاف والولاة فلاحيها بالشعير وغيره فكلما السلطان بذلك، فاشتد غضبه وأطلق لسانه؛ فما زالا به حتى سكن غضبه؛ فرسم من الغد الحج لجميع الأمراء بالتأهب للسفر، ومن عجز عن السفر يقيم بالقاهرة. فاشتد الأمر على الناس بديار مصر وبلاد الشام، وكثر دعاؤهم لماهم فيه من السخر والمغارم. وتنكرت قلوب الأمراء، وكثرت الإشاعة بتنكر السلطان على الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، وأنه يريد مسكه حتى بلغه ذلك فاحترز على نفسه وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قتل يوسف أخي السلطان، وقوة عزم السلطان على سفر الحجاز موافق لأغراض نسائه، فجمع أمراء دمشق، وحلفهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهر دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحضر إليه الأمير طرنطاي البشمقدار نائب حمص، والأمير أراق الفتاح نائب صفد، والأمير أستدمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس. فاجتمعوا جميعاً ظاهر دمشق مع عسكرها، وكتبوا بخلع الملك الكامل، وظاهروا بالخروج عن طاعته. وكتب الامير يلبغا اليحياوي نائب الشام إلى السلطان: " إني أحد الأوصياء عليك، وإن مما قاله الشهيد رحمه الله لي وللأمراء في وصيته، إذا أقمتم أحداً من أولادي و لم ترتضوا سيرته جروه برجله، وأخرجوه، وأقيموا غيره. وأنت أفسدت المملكة، وأفقرت الأمراء والأجناد، وقتلت أخاك، وقبضت على أكابر أمراء السلطان الشهيد. واشتغلت عن الملك، والتهيت بالنساء وشرب الخمر: وصرت تبيع أخبار الأجناد بالفضة " وذكر الأمير يلبغا اليحياوي له أموراً فاحشة عملها، فقدم كتابه في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى. فلما قرأه السلطان الكامل تغير تغيراً زائداً، وأوقف عليه الأمير أرغون العلائي. بمفرده، فقال له: " والله لقد كنت أحسب هذا، وقلت لك فلم تسمع قولى " ، وأشار عليه بكتمان هذا. وكتب الكامل الجواب يتضمن التلطف في القول، وأخرج الأمير منجك على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في ثاني عشريه، ليرجعه عما عزم عليه، ويكشف أحوال الأمراء؛ وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإطال السفر.
فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة حتى بلغ الأمراء، والمماليك، فأشار الأمير أرغون العلائي على السلطان بإعلام الأمراء الخبر. فطلبوا إلى القلعة، وأخذ رأيهم، فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاي، ومعه من الأمراء منكلى بغا الفخري أمير جاندار، وآقسنقر الناصري، وطيبغا المجدي، وأرغون الكاملي، وأمير علي بن طغريل النوغاي، وابن طقزدمر، وابن طشتمر، وأربعين أمير طبلخاناه، وعشرين أمير عشرة، وأربعين مقدم حلقة. وحملت النفقة إليهم: لكل مقدم ألف دينار، ماعدا ثلاثة مقدمين لكل مقدم ثلاثة آلاف دينار؛ وكتب بإحضار الأجناد من البلاد فقدم كتب منجك من الغور.بموافقة النواب لنائب الشام، وأن التجريدة إليه لا تفيد فأنه يقول أن أمراء مصر معه. وقدم كتاب نائب الشام أيضاً - وفيه خط أمير مسعود بن خطير، وأمير علي بن قراسنقر، وقلاوون، وحسام الدين البقشمدار - يتضمن: " أنك لا تصلح للملك، وأنك أنما أخذته بالغلبة من غير رضى الأمراء " ، وعدد ما فعله.
ثم قال: " ونحن ما بقينا نصلح لك، وأنت فما تصلح لنا. والمصلحة أن تعزل نفسك " .

فاستدعى السلطان الكامل الأمراء، وحلفهم على طاعته، ثم أمرهم بالسفر إلى ، فخرجوا من الغد، وخرج طلب منكلى بغا الفخري، وبعده أرغون الكاملي.
وعندما وصل أرغون الكاملي تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليشه إلى الأرض، فصاحت العامة: " راحت عليكم ياكاملية " ، وتطيروا بأنهم غير منصورين. وأخذ المجردون في الخروج شيئاً بعد شيء، وتقدم حلاوة الأوجاقي يوم الخميس عشريه، وأخبر بأن منجك ساعة وصوله دمشق قبض عليه يلبغا اليحياوي نائب الشام، وسجنه بالقلعة. فبعث السلطان الطواشي سرور الزينى لإحضار أخويه أمير حاجي وأمير حسين؛ فاعتذر بوعكهما، وبعثت أمهاتهما إلى الأمير أرغون العلائي والأمير الحجازي يسالأنهما في التلطف مع السلطان في أمرهما.
فبلغت الأمير أرغون بعض جواري زوجته، أم السلطان الكامل، أنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وقال: " إلهي أعطيتني الملك، ومكنتني من آل ملك وقمارى، وبقي العلائي والحجازي، فمكنى منهما حتى أبلغ غرضى فيهما " ؛ فأقلقه ذلك. ثم دخل الأمير أرغون العلائي على السلطان في خلوة، فإذا هو متغير الوجه مفكر. فبدره السلطان بأن قال له: " من جاءك من جهة إخوتي أنت والحجازي " ؛ فعرفه أن النساء دخلن عليهما، وطلبت أن يكون السلطان طيب الخاطر على أخويه ويؤمنهما فأنهما خائفان. فرد عليه السلطان جواباً جافياً، ووضع يده في السيف ليضربه به، فقام عنه لينجو بنفسه.
وعرف الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي بما جرى له، وشكا من فساد السلطنة. فتوحش خاطر كل منهما، وأنقطع العلائي عن الخدمة وتعلل. وأخذت المماليك أيضاً في التنكر على السلطان، وكاتب بعضهم الأمير يبلغا اليحياوي نائب الشام، واتفقوا بأجمعهم حتى اشتهر أمرهم وتحدثت به العامة؛ ووافقهم الأمير قراسنقر.
فألح السلطان في طلب أخويه، وبعث قطلوبغا الكركي في جماعة حتى هجموا عليهما ليلاً؛ فقامت النساء ومنعوهما منهم. فهم السلطان أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما، فجيء بهما إليه وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشريه، فأدخل بهما إلى موضع، ووكل بهما، وقام العزاء في الدور عليهما. وهمت المماليك بالثورة والركوب للحرب.
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخر: خرج الأمير أرقطاى بطلبه، حتى وصل طلبه إلى باب زويله، ووقف مع الأمراء في الموكب تحت القلعة، وإذا بالناس قد اضطربوا. ونزل الأمير ملكتمر الحجازي سائقاً يريد إصطبله، وتبعه الأمير أرغون شاه أيضاً إلى جهة إصطبله. وسبب ذلك أن السلطان جلس بالإيوان على العادة، وقد بيت مع ثقاته القبض على الأمير ملكتمر الحجازي والأمير أرغون شاه إذا دخلا، وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة. فخرج طغيتمر الدوادار ليأذن لهما، فأشار لهما بعينه أن يذهبا وكان قد بلغهما التنكر عليهما، فقاما من فورهما ونزلا إلى خيولهما، فلبسا وسارا إلى قبة النصر، وبعث الأمير ملكتمر الحجازي يستدعي آقسنقر من سرياقوس، فما تضحى النهار حتى اجتمعت أطلاب الأمراء بقبة النصر.
وطلب السلطان الأمير أرغون العلائي واستشاره، فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم، فركب ومعه الأمير أرغون العلائي وقطلوبغا الكركي وتمر الموساوي، وعدة من المماليك. وأمر السلطان فدقت الكوسات حربيا، ودارت النقباء على أجناد الحلقه والمماليك ليركبوا، فركب بعضهم.
هذا وقد قدم آقسنقر إلى قبة النصر، وصار السلطان في جميع كبير من العامة، وهو يسألهم الدعاء، فنظروا إليه وأسمعوه ما لا يليق. وسار السلطان في ألف فارس حتى قابل الأمراء، فأنسل عنه أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس. فبز له آقسنقر ووقف معه، وأشار عليه أن ينخلع من السلطنة، فاجابه إلى ذلك وبكى. فتركه آقسنقر وعاد إلى الأمراء، وعرفهم ذلك. فلم يرض أرغون شاه، وبدر ومعه قرابغا وصمغار وبزلار وغرلو في أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان، وسيروا إلى الأمير أرغون العلائي أن. يأتيهم، ليأخذوه إلى عند الأمراء. فلم يوافق الأمير أرغون العلائي على ذلك، فهجموا عليه، وفرقوا من معه، وضربوه بدبوس حتى سقط إلى الأرص؛ فضربه يلبغا أروس بسيف قطع خده، وأخذ أسيراً، فسجن في خزانة شمايل وفر السلطان الكامل شعبان إلى القلعة، واختفى عند أمه زوجة الأمير أرغون العلائي.

وسار الأمراء إلى القلعة، وأخرجوا أمير حاجي وأمير حسين من سجنهما، وقبلوا يد أمير حاجي، وخاطبوه بالسلطة. وطلبوا الكامل شعبان وسجنوه، حيث كان أخويه مسجونين؛ ووكل به قرابغا القاسمي وصمغار.
ومن غرائب الاتفاق أنه كان قد عمل طعام لأمير حاجي وأمير حسين حتى كان غداءهما، وعمل سماط السلطان على العادة. فوقعت الضجة، وقد مد السماط فركب السلطان شعبان من غير أكل. فلما انهزم شعبان وقبض عليه، وأقيم أخوه أمير حاجي بدله، مد السماط بعينه له فأكل معه حاجي؛ وأدخل بطعامه وطعام أمير حسين إلى شعبان الكامل، فأكله في السجن ثم قتل شعبان في يوم الأربعاء ثالثه وقت الظهر، ودفن عند أخيه يوسف، ليلة الخميس فكانت مدته سنة وثمانية وخمسين يوماً، وكثر التظاهر فيها بالمنكرات، لشغفه باللهو، وعكوفه على معاقرة الخمر، وسماع الأغاني واللعب، وبيعه الإقطاعات والولايات حتى إن الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حي.بمال الآخر، فإذا وقف من أخرج إقطاعه قيل له: " نعوض عليك " وأخذ الأمراء على شعبان تمكينه الخدام والنساء من التصرف في المملكة، والتهتك في النزه والصيد، واللعب بالكرة بالهيئات الجميلة، وركوب الخيل المسومة، وعدم الاحتشام من فعل المنكرات، حتى أن حريمه إذا نزلن إلى نزهة تبلغ عندهن الجرة الخمر إلى ثلاثين درهماً وشره حريم شعبان فيما في أيدي الناس من الدواليب والأحجار، والبساتين والدور، ونحوها. فأخذت أمه معصرة وزير بغداد، وأخذت إتفاق أربعة أحجار وأخدت أمه أيضاً من وزير بغداد منظرة على بركة الفيل.
وحدث في أيامه أخذ خراج الرزق، وزيادة القانون، ونقص الأجاير؛ وأعيد ضمان أرباب الملاعيب. و لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار، وخمسمائة ألف درهم. وكان مع ذلك مهاباً سيوساً، متفقداً لأحوال المملكة، لا يشغله لهوه عن الجلوس للخدمة؛ وكان حازماً ذا رأي واحتياط ومحبة لجمع المال، وفيه قيل:
بيت قلاوون سعاداته ... في عاجل كانت بلا آجل
حل على أملاكه للردى ... دين قد استوفاه بالكامل
السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون الصالحي الألفي سجنه أخوه شعبان الكامل كما تقدم، ومعه أخوه حسين. فلما انهزم شعبان من الأمراء مر وهو سائق في أربعة مماليك إلى باب السر، فوجده مغلقا والمماليك بأعلاه، فتلطف بهم حتى فتح له أحدهم، ودخل ليقتل أخويه، فلم يفتح الخدام له الباب، فمضى إلى أمه.
وصعد الأمراء إلى القلعة، وقد قبضوا على الأمير أرغون العلائي، وعلى الطواشي جوهر السحرتى اللالا، وأسندمر الكاملي، وقطلوبغا الكركى، وجماعة ودخل بزلار وصمغار راكبين إلى باب الستارة، وطلبا أمير حاجي، فادخلهما الخدام إلى الدهيشة حتى أخرجوه وأخاه من سجنهما. وبشرا حاجي بالظفر. ثم دخل الأمير أرغون شاه إلى حاجي، وقبل له الأرض، وقال له: " باسم الله، اخرج أنت سلطاننا " ، وسار به وبحسين إلى الرحبة، وأجلسه على باب الستارة.
ثم طلب الأمير أرغون شاه شعبان الكامل حتى وحده قائما بين الأزيار، وقد اتسخت ثيابه؛ فأخرجه إلى الرحبة، وأدخله إلى الدهيشة حتى سجنه بها، حيث كان حاجي.
وطلب الأمير أرغون شاه الخليفة والقضاة، وأركب حاجي من باب الستارة إلى الإيوان وحمل المماليك أمير حسين على أكتافهم حتى جلس حاجي على سرير الملك، في يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة. ولقب حاجي بالملك المظفر، له من العمر خمس عشرة سنة. وقبل الأمراء الأرض بين يديه، وحلف لهم أولا أنه لا يؤذي أحداً منهم، ولا يخرب بيت أحد، وحلفوا له على طاعته. وركب الأمير بيغرا البريد ليبشر الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، ويحلفه وأمراء الشام.
وفيه كتب إلى ولاة الأعمال بإعفاء النواحي من المغارم، ورماية الشعير والبرسيم.
وفيه حمل الأمير أرغون العلائي إلى الإسكندرية.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: قبض على الشيخ علي الدوادار، وعلى عشرة من الخدام الكاملية، وسلموا إلى شاد الدواوين. وسلم له أيضاً الطواشي جوهر السحرتى وقطلوبغا الكركي ومقبل الرومي، وألزموا بحمل الأموال التي أخذوها من الناس على قضاء الأشغال، فعذبوا بأنواع العذاب، ووقعت الحوطة على موجودهم.
وفيه قبض على الأمير تمر الموساوي، وأخرج إلى الشام

وفيه أمر بأم الكامل وزوجاته، فأنزلن من القلعة إلى القاهرة وعرضت جواري دار السلطان، فبلغت عدتهن خمسمائة جارية، فرقن على الأمراء.
وفيه أحيط بموجود إتفاق، وأنزلت من القلعة. وكانت سوداء حالكة السواد اشترتها ضامنة المغالي بدون الأربعمائة درهم من ضامنة المغاني.بمدينة بلبيس، وعلمتها الضرب بالعود على عبد علي العواد، فمهرت فيه. وكات إتفاق حسنة الصوت جيدة الغناء، قدمتها ضامنة المغاني لبيت السلطان، فاشتهرت فيه، حتى شغف بها الصالح إسماعيل وتزوج بها. ثم لما تسلطن شعبان الكامل باتت عنده من ليلته، لما كان في نفسه منها أيام أخيه، ونالت من الحظوة والسعادة ما لا عرف في زمانها لامرأة غيرها، حتى أنه عمل لها داير بيت طوله اثنان وأربعون ذراعا، وعرضه ستة أذرع، فيه خمسة وتسعون ألف دينار مصرية سوى البشخاناه والمخاد والمساند. وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصعة بالجوهر، وست عشرة بدلة بداير زركش وثمانون مقنعة فيها ما قيمته عشرون ألف درهم، وأقلها بخمسة آلاف درهم، إلى غير ذلك مما يجل وصفه.
وفيه وفر من مصروف الحوائج خاناه في كل يوم أربعة آلاف درهم.
وفيه رسم بإعادة الأملاك التي أخذها حريم الكامل لأربابها؛ فاستعاد الوزير نجم الدين معصرته، وأخذ من اتفاق وغيرها ما أخذته من الناس.
وفيه نودي في القاهرة ومصر برفع الظلامات، ومنع أرباب الملاعيب جميعهم.
وفي عاشره: وجد صندوق مفتاحه تحت يد الشيخ علي الدوادار،. فيه براني فضة مختومة، وأحقاق فتحت بحضرة الأطباء، فإذا هي سموم قاتلة. فعرض العذاب على الشيخ علي حتى اعترف أن المزين المغربي الذي أقامه الكامل رئيس الجرائحية ركب ذلك. فاحترق بالنار قدام الايوان وكان هذا المغربى تعرف بأولاد السلطان وهم بقوص، وقدم معهم؛ فلما تسلطن شعبان الكامل تقرب إليه بعمل السموم وصناعة الكيمياء.
وكان قد قدم في الأيام الناصيرية محمد بن قلاوون تاجر فرنجى بهدية إلى ملكتمر، الحجازي فأعجبته مصر وأسلم، وعرف بآقسنقر الرومي. وأنعم عليه السلطان الناصر محمد بن قلاوون بإمرة عشرة، وما زال.بمصر إلى أيام شعبان الكامل فتقرب إليه آقسنقر الرومي بعمل الفلك والشعبذة، واختص به، وقام مع المغربي في عمل السموم؛ وخرج على البريد مرارا لإحضار الحشائش القاتلة من بلاد الشام، حتى ركبت بين يدى الكامل وفيه نقل علم الدين عبد الله بن زنبور من نظر الدولة إلى نظر الخاص، عوضاً عن فخر الدين بن السعيد.
وفيه قبض على ابن السعيد، وألزم بحمل مال.
وفيه خلع على موفق الدين عبد الله بن إبراهيم، واستقر في نظر الدولة وخلع على سعد الدين بن جرباش، واستقر في الاستيفاء، عوضاً عن ابن ريشة.
وفيه قبض على أقطوان متولي الأهراء، والصناعة، وشد الأوقاف الصلاحية، ونظر الحرمين، وسلم لشاد الدواوين، فأنه كان تجاه أستاذه الطواشي شجاع الدين اللالا، واجتمع له خمس عشرة وظيفة، وبعد صيته واشتدت حرمته.
وفيه قدم بيغرا من الشام، وقد لقى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، وقد برز خارج دمشق يريد المسير إلى مصر بالعساكر فسر الأمير يلبغا اليحياوي سروراً زائداً بإزالة الكامل وإقامة أخيه المظفر حاجي، وعاد إلى دمشق، وحلف الأمراء على العادة.
وأقام يلبغا اليحياوي الخطبة، وضرب السكة باسم السلطان حاجي وسير دنانير ودراهم منها وكتب يهنئ السلطان حاجي بجلوسه على تخت الملك.
وشكا الأمير يلبغا اليحياوي من نائب حلب، ونائب غزة ونائب قلعة دمشق مغلطاي المرتيني، ومن نائب قلعه صفد قرمجي، من أجل أنهم لم يوافقوه على خروجه في طاعة شعبان الكامل. فرسم بعزل طقتمر الأحمدي نائب حلب، وقدومه إلى مصر، واستقرار الأمير بيدمر البدرى نائب طرابلس عوضه في نيابة حلب، واستقرار الأمير أسندمر العمري نائب حماة في نيابة طرابلس، والقبض على مغلطاي المرتيني نائب قلعة دمشق، وعلى قرمجي نائب قلعة صفد، وعزل نائب غزة، وأن يحضر الأمير أيتمش عبد الغني وقطليجا الحموي إلى مصر، واستقرار أمير مسعود بن خطير في نيابة غزة، واستقرار طقتمر الصلاحي في نيابة حمص.
وكان الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام لما عاد إلى دمشق، عمر قبة عند مسجد القدم حيث كان قد برز، وسماها قبة النصر؛ وهي التي تعرف بقبة يلبغا.

وفي رابع عشره: خلع علي بمنبر السحرتى، واستقر مقدم المماليك، عوضاً عن محسن الشهابي.
خلع على مختص الرسولى، واستقر زمام الدور، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيه قبض على ممدود بن الكوراني أمير طبر، وعلى أخيه علاء الدين علي بن الكوراني واستقر جمال الدين يوسف وإلى الجيزة عوضه أمير طبر، وعزل علاء الدين الكوراني من كشف الوجه القبلي.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير أرغون العلائي على الأمير أرغون شاه.
وفيه أنعم على كل من الأمير أصلم والأمير أرقطاي بزيادة اقطاعه.
وفيه استقر علاء الدين بن الأطروش في حسبة دمشق، وتدريس الخاتونية.
وفيه أنعم على ابن الأمير تنكز بإمرة طبلخاناه، وعلى أخيه بإمرة عشرة.
وفيه أنعم على ابن الأمير ألطنبغا نائب حلب، بإمرة عشرة في دمشق.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: أمر السلطان ثمانية عشر أميراً، فكان يوماً مشهوداً كثر فيه جميع الناس عند نزولهم إلى القبة المنصورية على العادة.
وفي سابع عشرة: أخرج آقجباي إلى حماة.
وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب: خلع على الأمير أرقطاى، واستقر نائب السلطان باتفاق الأمراء عليه، بعدما تمنع من ذلك تمنعاً كثيراً، حتى قام الحجازي بنفسه وأخذ السيف، وأخذ أرغون شاه الخلعة، ودارت الأمراء حوله وألبسوه على كره منه. فخرج الأمير أرقطاى في موكب عظيم حتى جلس في شباك دار النيابة، وحكم بين الناس فرسم له بزيادة ناحيتي المطرية والخصوص لأجل سماط النيابة.
وفيه توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة.
وفيه خرج الأمير بيدمر البدرى إلى نيابة حلب.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه. خلع على الأمير قطليجا، واستقر في ولاية القاهرة، وفيه نقل من تسليم شاد الدواوين إلى تسليم والي القاهره ستة خدام، وهم نصر الهندي، وأنس، وفاتن الصالحي، وسرور الزيني، وعنبر سيغا، وجوهر السحرتى اللالا، ومعهم المزين المغربي، ونصراني راهب. ورسم بتسميرهم جميعاً، فأخرجوا من الغد ليسمروا بسوق الخيل تحت القلعة، وأقعدوا على الجمل وربطوا. فشفع فيهم الأمراء فأنزلوا ومضوا بهم ماشين إلى خزانة شمايل؛ ثم أفرج عنهم في يقية يومهم، ونفوا من مصر وكان القمح قد تحسن في الدولة الكاملية من أول السنة، هو وجميع الغلال، وبلغ خمسة وخمسين درهماً الأردب، وبلغ الشعير اثنين وعشرين درهماً الأردب، والفول عشرين درهما. فانحط سعر القمح في الأيام المظفرية إلى خمسة وثلاثين درهماً، ونقص من بقية الغلال ثلث سعرها، فتيامن الناس به.
وفيه أخذت الباعة تتعنت في الفلوس، وترد الصالحية والكاملية حتى توقفت الأحوال، وعاد سعر الغلال إلى ما كان عليه، فنودي برد القصوص من الفلوس، ورد الرصاص والنحاس الأصفر منها، وألا يؤخذ إلا ما عليه سكة. وترافقوا بالناس، و يضرب أحد منهم بسبب ذلك، فمشت الأحوال.
وفيه قدم الأمير أيتمش عبد الغني، والأمير قطليجا الحموي. فرسم لأرغون الكاملي بلزوم بيته، وأخرجت تقدمته، وعوض عنها بطبلخاناه يأكلها وهو في بيته.
وفي مستهل شعبان: ابتدأ مرض الأمير بهاء الدين أصلم، فأقام أياماً ومات؛ فأنعم بإمرته على طغيتمر النجمي الدوادار. وأخذ إقطاعه - وهو عبرة مائة ألف وأربعين ألف دينار فسلخ منه مبلغ أربعين ألف دينار، وأضيفت لديوان الخاص.
وفيه قدم الأمير سيف بن فضل، فخلع عليه، ووعد بإمرة العرب، وقبلت خيوله التي صار للسلطان به أنس.
وفيه خلع على الأمير تمربغا العقيلي، واستقر في نيابة الكرك عوضاً عن الأمير قبلاي باستعفائه.
وفيه قدم نغيه مملوك المحسني، من برقة فاراً. وكان قد ورد في الأيام الكاملية أن قايد شيخ برقة مات، بعدما خالف عليه أقاربه. فسمي نغيه في إقطاعه وأن يكون أمير برقة ويأخذ العداد على العادة، ويقوم بخمسين فرساً. فأنعم عليه بذلك، وتوجه إلى عداد الأغنام بالعسف، حتى جمع منها شيئاً كثيراً، واقتنى الجمال والخيل.فلما بلغ أهل برقة قتل الملك الكامل شعبان ثاروا به، وقتلوا من أجناده ثلاثين رجلاً، وفر بنفسه إلى القاهرة.
وفيه رسم بإزالة ما أحدثه غرلو والي القاهرة على باب زويلة. وذلك أنه نصب خشبتين وعمل فيهما بكرتين، وأرخى فيهما سلباً، ليرتفع فيهما المجرمين حتى يهلكا، فأزيلتا. ورسم أن يكون توسيط من يوسط أو شنقه على كيمان البرقية خارج سور القاهرة.

وفيه أخرج الأمير بيغرا لكشف الجسور بالوجه القبلي، والأمير أرلان لكشف الجسور بالوجه البحري.
وفي يوم الإثنين خامس عشري: خرج الأمير أرغون شاه أستادار على البريد، لنيابة صفد وسبب ذلك تكبره وتعاظمه في نفسه، وتحكمه على السلطان فيما يرسم به، ومعارضته، وفحشه في مخاطبة السلطان والأمراء، حتى كرهته النفوس وعزم السلطان على مسكة، فتلطف به النائب الأمير أرقطاى حتى تركه، وخلع عليه بنيابة صفد وأخرجه من وقته خشية من فتنة يثيرها، فإنه كان قد اتفق مع عدة من المماليك على المقامرة وأنعم بإقطاعه على الأمير ملكتمر الحجازي، وأعطى ناحية بوتيج زيادة عليه.
وفيه استقر الصاحب تقي الدين أحمد بن الجمال سليمان بن محمد بن هلال في الشام عن ابن الحراني، وكان بمصر من الأيام الكاملية شعبان.
وفيه قدم أحمد بن مهنا في طلب إمرة العرب، فلم يقبل السلطان عليه.
وفي يوم الأحد أول شوال:.تزوج السلطان بابنة الأمير تنكز زوجة أخيه.
وفي آخره طلبت إتفاق إلى القلعة، فطلعت بجواريها مع الخدام، وتزوج بها السلطان خفية، وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجري شاهد الخزانة. وبنى السلطان عليها من ليلته، بعدما جليت عليه، وفرش تحت رجليها ستون شقة أطلس، ونثر عليها الذهب. ثم ضربت بعودها وغنت، فأنعم عليها السلطان بأربعة فصوص وست لؤلؤات، ثمنها أربعمائة ألف درهم.
وفي ثامنه: أنعم السلطان على طنيرق أحد مماليك أخيه يوسف بتقدمة ألف، ونقله من الجندية إلى التقدمة لجماله وحسنه؛ فكثر كلام المماليك بسبب ذلك وفيه رسم بإعادة ما خرج عن إتفاق وخدامها وجواريها من الرواتب، وطلب عبد على العواد معلم إتفاق إلى القلعة، فغنى للسلطان، فأنعم عليه بإقطاع في الحلقة زيادة على ما بيده، وأعطاه مائتي دينار وكاملية حرير بفرو سمور.
وأنهمك السلطان في اللهو، وشغف باتفاق حتى أشغلة عن غيرها، وملكت قلبه بفرط حبه لها. فشق ذلك على الأمراء والمماليك، وأكثروا من الكلام حتى بلغ السلطان، وعزم على مسك جماعة منهم، فمازال به الأمير أرقطاى النائب حتى رجع عن دلك ورسم السلطان في يوم الجمعة سادسه بعد الصلاة أن يخلع على قطليجا الحموي، واستقراره في نيابة حماة، عوضاً عن طيبغا المجدي، وخلع أيضاً على أيتمش عبد الغني، فاستقر في نيابة غزة؛ وخرجا من وقتها على البريد.
وفيها جلس السلطان والأمير أرقطاي النائب لعرض المماليك، وانتقى من كل عشرة اثنين وزاد إقطاعاتهم وأكرمهم، وقدم منهم جماعة. وقصد السلطان عرض أجناد الحلقة، فتلطف به الأمير أرقطاى النائب حتى كف عن عرضهم.
وفيه قدم الخبر بغلاء الأسعار بدمشق، حتى أبيع الخبز كل رطلين بدرهم، والقمح كل غرارة.بمائة وسبعين، وفيه تأخر المطر بعامة بلاد الشام.
وتوقفت أحوال الدولة، من كثرة رواتب الخدام والقهرمانات والعبيد والغلمان، وزيادتها عما كانت عليه في الأيام الكاملية. فأشار غرلو بأن توزع على المباشرين جامكية شهرين يقبضها المعاملون، فوزعت عليهم، واحتال بها المعاملون فمشت الأحوال قليلاً. وكان غرلو قد تمكن من السلطان، وصار يدخل مع الخاصكية، فإذا أشار بشيء قبل قوله.
وفيه قدم رسول ابن دلغادر بهديته، فخلع عليه؛ وجهزت له خلعة مع بريدي فأخذها نائب الشام، ومنع من حملها إليه، فأنه كان يكرهه، ويريد إقامة غيره والقبض عليه.
وفي ذي القعدة: توجه أحمد بن مهنا عائدا إلى بلاده، من غير طائل وفيه دخل السلطان على زوجته بنت تنكز، وعمل المهم سبعة أيام جمعت سائر أرباب الملهى، فخص كل جوقة خمسة آلاف درهم. ونثر السلطان على العروس عند جلائها الذهب، وصبحها من الغد بألفي دينار، بعدما زاد لها في جهازها.بمبلغ ستين ألف دينار.
وفيه خلع على سيف بن فضل بإمرة العرب، وأنعم عليه بزيادة ثلاثمائة ألف درهم في السنة من إقطاع أحمد بن مهنا، وأعيد إلى بلاده، فسار إليها.
وفي مستهل ذي الحجة: توجه الأمير ملكتمر الحجازي للصيد، وصحبته خمسة عشر أميرا.
وفيه تقدم الأمير طقتمر الصلاحي من حلب، فلم تطل إقامته حتى مات.
وفيه قتل قرمجي بن أقطوان نائب قلعة صفد، بدمشق في شعبان؛ وأخذ ماله.
وفيه قدم حمل سيس، بحق النصف.

وخرجت هذه السنة وقد مر بالناس فيها شدائد من غلاء الأسعار لغلال مصر والشام ونفاق العربان، وتوقف النيل، واختلاف الدولة.
ومات فيها من الأعيان الأمير بهاء الدين بن أصلم، أحد المماليك المنصورية قلاوون، في يوم السبت عاشر شعبان؛ وإليه ينسب جامع أصلم خارج القاهرة.
ومات الأمير بيدمر الأشرفي، أحد أمراء دمشق.
ومات الأمير الحاج آل ملك الجوكندار، مقتولاً بالاسكندرية في الأيام الكاملية؛ وأحضر ميتا إلى القاهرة، في يوم الجمعة تاسع عشرى جمادى الآخر. وأصله من كسب الأبلستين في الأيام الظاهرية بيبرس، سنة ست وسبعين وستمائة، فاشتراه قلاوون وهو أمير، ومعه سلار. وأهدى قلاوون سلاراً لولده علي، وآل ملك للسعيد بركة بن الظاهر زوج ابنته. فأعطاه الملك السعيد لكوندك، ثم سار بعده لعلي بن قلاوون، وترقى حتى صار نائب السلطنة زمن السلطان عماد الدين إسماعيل بن الناصر محمد. وله تنسب مدرسة آل ملك بالقاهرة، وجامع آل ملك بالحسينية؛ وكان خيراً ديناً.
وتوفي تاج الدين محمد بن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان بن أحمد بن علي المصري كاتب السر بدمشق، في ليلة الجمعة تاسع ربيع الآخر، وقد أناف على الستين.
ومات الأمير قمارى أخو بكتمر الساقي مقتولاً، وقد ولى أستادارا، وعمل نائب طرابلس، وذكر أنه كان في بلاده راعي غنم.
ومات الأمير ملكتمر السرجواني نائب الكرك، في يوم الإثنين مستهل المحرم خارج القاهرة، وقد قدم مريضاً.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نمير بن السراج المقرئ الكاتب، في يوم الخميس نصف شعبان.
ومات الشيخ ركن الدين عمر بن الشيخ إبراهيم الجعبري، يوم الخميس سلخ ذي الحجة ومات الشيخ عبد الله بن علي بن سليمان بن فلاح عفيف الدين بن عبد الرحمن اليافعي اليمني الشافعي، في ليلة الأحد العشرين من جمادى الآخرة بمكة.
ومات ملك تونس أبو بكر بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، في ليلة الأربعاء ثاني رجب، بعد ما ملك ثلاثين سنة تنقص شهراً وسبعة أيام، وأقيم بعده ابنه أبو حفص عمر.
ومات الأمير طقتمر الصلاحي أحد خواص شعبان الكاملي؛ وكان من أعين أمراء مصر، ثم أخرج لنيابة حمص، فمات بها.
سنة ثمان وأربعين وسبعمائةيوم الثلاثاء أول المحرم: ركب السلطان في أمرائه الخاصكية، ولعب بالكرة في الميدان تحت القلعة، فغلب الأمير ملكتمر الحجازي، فلزم بعمل وليمة في سرياقوس للسلطان، ذبح فيها خمسمائة رأس غنم، وعشرة أفراس، وعمل أحواضاً مملوءة بالسكر المذاب، وجمع سائر أرباب الملهى؛ وحضر إليه السلطان والأمراء.
وفيه قدم كتاب أسندمر العمرى نائب طرابلس يسأل الإعفاء، فأجيب إلى ذلك. وخلع على الأمير منكلى بغا الفخري أمير جاندار، واستقر في نيابة طرابلس، وسار في يوم الإثنين حادي عشريه.
وفي هذا الشهر: وقف جماعة للسلطان، وشكوا من بعد الماء وانحساره عن بر مصر والقاهرة حتى غلت روايا الماء. فرسم بنزول المهندسين لكشف ذلك، فكتب تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة ألف وعشرين ألف درهم، جبيت من أرباب الأملاك المطلة على النيل، حسابا عن كل دراع خمسة عشر درهماً، فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع. وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين يوسف ابن.خطيب بيت الآبار.
وفيه توقفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدام والعجائز والجواري، وأخذهم بأرض بهيتت من الضواحي، وبأرض الجيزة وغيرها، بحيث أخذ مقبل الرومي عشرة آلاف فدان من شاسع البحيرة، قام السلطان والأجناد بكلفة جسورها.
وفيه فرق السلطان نصف إقطاع منكلى بغا الفخري، وتأخر نصفه.
وفيه قدم الأمير بيغرا من كشف الجسور؛ فخلع عليه، واستقر أمير جاندار عوضاً عن منكلى بغا الفخري.
وفيه قدم الأمير أسندمر العمري من طرابلس، فأنعم عليه ببقية إقطاع مكلى بغا الفخري وفي خامس عشريه: قدم الحاج، وأخبروا برخاء أسعار مكة، وحسن سيرة الشريف عجلان.
وفيه قدم تجار اليمن والهند، وكان الفلفل قد عز وجوده بالقاهرة حتى بلغ الرطل ستة وأربعين درهما، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف، فأبيع عند قدوم الحاج بخمسة دراهم الرطل.

ووقع اختلاف في أمر الوقوف بعرفة، فإن الوقفة كانت عند أهل مكة يوم الجمعة، على ما ثبت.بمكة على قاضيها، بحضور قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وغيره من حجاج مصر والشام والعراق. وكان يوم عرفة.بمصر والإسكندرية يوم الخميس، فقام الشيخ علاء الدين علي بن عثمان التركماني الحنفي في الإنكار على ابن جماعة، وأفتى أن حج الناس فاسد، ويلزم من وقف بالناس يوم الجمعة بعرفة جميع ما أنفقه الحجاج من الأموال، وأنه يجب على الحجاج كلهم أن يقيموا محرمين لا يطئوا نسائهم ولا يمسوا طيبا حتى يقفوا بعرفة مرة أخرى. وشنع بذلك عند الأمراء، وأظهر الحزن على الناس، والأسف على ما أنفقوه من أموالهم. فشق ذلك على الأمير طغيتمر الدوادار، من أجل أن زوجته حجت فيمن حج، وأخذ خط ابن التركمان.بما تقدم ذكره. فغضب الشافعية، وأنكروا مقالته وردوها. وقصد ابن جماعة أن يعقد مجلساً في ذلك، ويطلب ابن التركماني ويدعى عليه.بما أفتى به، مما لا يوجد في كتب الحنفية، فراجعه الناس عن ذلك مخافة الشناعة.
وفيه رسم لمقبل الرومي أن يخرج إتفاقا وسلمى والكركية حظايا السلطان من القلعة،.بما عليهن من الثياب، من غير أن يحملن شيئاً من الجوهر والزركش، وأن يقلع عصابة اتفاق عن رأسها ويدعها عنده. وكانت هذه العصابة قد اشتهرت عند الأمراء وشنعت قالتها، فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك: الصالح إسماعيل، والكامل شعبان والمظفر حاجي، وتنافسوا فيها، واعتنوا بجواهرها، حتى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصرية وسبب ذلك أن الأمراء الخاصكية قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهم إنكار الأمراء الكبار والمماليك على السلطان شدة شغفه بالنسوة الثلاث المذكورات، وأنهماكه على اللهو بهن، وانقطاعه إليهن بالدهيشة عن الأمراء، وإتلافه الأموال العظيمة في العطاء لهن ولأمثالهن، فعرفا السلطان إنكار الأمراء عليه إعراضه عن تدبير الملك، وخوفوه عاقبة ذلك؛ فتلطف به، وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء وأخرجهن وفي نفسه حزازات لفراقهن، تمنعه من الهدوء والصبر عنهم؛ فأحب أن يتعوض عنهن. بما يلهيه ويسليه واختار صنف الحمام، وأنشأ حضيراً بأعلى الدهيشة، ركبه على صوار وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام؛ فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعين ألف درهم.
وقدم البريد من حلب بأن صاحب سيس جهز مائتي أرمني إلى ناحية أياس، فلما قربوا من كوار ليهجموا على قلعتها قاتلهم أربعون من المسلمين؛ فنصرهم الله على الأرمن، وقتلوا منهم خمسين، وأسروا ثلاثين، وهزموا باقيهم. فقتل بكوار عدة ممن أسر، وحمل بقيتهم إلى حلب؛ فكتب بالإحسان إلى أهل كوار والإنعام عليهم.
واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء، وعزل الولاة والمباشرين، بعدما أخذ تقادمهم، واستبدل بهم غيرهم.بمال قاموا له به؛ واشتدت وطأة حاشيته.
على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلاً من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا، وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها. فرغب بعض الناس في زواجها، وبذل لأوليائها مالا كثيراً حتى زوجوها منه بغير رضاها فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة، حتى قالت لأهلها: " أن لم تطلقوني منه وإلا كفرت " ؛ فأحضروها إلى بعض القضاة، وجددوا إسلامها. فطلب الأمير بيدمر ابن عمها، وضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً، وضرب المرأة أيضاً ضربا شنيعاً، وقطع أنفها وأذنيها، وشهرها بحلب؛ فتألم الناس لها ألماً كبيراً، ووصل خبرها إلى أمراء مصر، فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كبيراً في الإنكار على بيدمر.

وصادف مع ذلك ورود كتاب الأمير أرغون شاه نائب صفد، يتضمن أن ابن طشتمر كاتب أرتنا نائب الروم بأن يتوجه إليه، وأن يقيم عنده.فظفر الأمير أرغون شاه بقاصده، وأخذ منه الكتاب، وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة، فأجيب بالشكر والثناء وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر. بمائة ألف درهم، وغير ذلك من الأصناف؛ فأعجبت السلطان، وشكره. فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له، وما فعله بالمرأة وابن عمها، وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه؛ فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة، ولم يقبل لأحد تقدمة، وجلس للحكم بين الناس، وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد. فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب، وحضور الأمير بيدمر من حلب فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق، فأكرمه السلطان، وخلع عليه يوم الإثنين تاسع عشرى صفر بنيابة حلب، عوضاً عن بيدمر البدري؛ ورسم ألا يكون لنائب الشام عليه حكم، وأن تكون مكاتباته للسلطان، وكنب لنائب الشام بذلك.
وتوجه الأمير أرغون شاه إلى حلب في يوم الخميس ثالث ربيع الأول، فقدم دمشق على البريد في سادس عشره، ونزل مصر معين الدين حتى قدم طلبه من صفد في أبهة زائدة، وخيوله بسروج ذهب مرصعة وكنابيش ذهب، وقلائد مرصعة.
وكان بيدمر قد رأى في منامه المرأة التي فعل بها ما فعل، وهى تقوله له: " أخرج عنا " ، وكررت ذلك ثلاث مرات، وقالت له: " قد شكوتك إلى الله تعالى، فعزلك " فأنتبه مرعوباً، وبعث إليها لتحالله، وبذل لها مالا فلم تقبله، وامتنعت من محاللته. فقدم خبر عزله بعد ثلاثة أيام من رؤياه، وقدم إلى القاهرة صحبة طنيرق؛ وقد أوصل طنيرق الأمير أرغون شاه إلى حلب، وسر به أهل حلب سروراً كبيراً.
وفيه ارتفعت الأسعار بالشام، فبلغت الغرارة بدمشق مائتين وخمسين درهماً؛ وذلك أن الجراد انتشر من بعلبك إلى البلقاء، ورعى الزروع.
وفيه كثر عبث العربان بأرض مصر، وكثر سفكهم للدماء، ونهب الغلال من الأجران، مع هيف الغلة.
وفيه اشتد احتراق النيل، وقل ماؤه حتى تأخر حمل الغلال في المراكب فارتفع السعر من ثلاثين درهماً الأردب من القمح إلى خمسة وخمسين، وبلغ الشعير خمسة وعشرين درهماً الأردب، والفول عشرين درهماً.
وفيه استقر أمير علي بن طغربل حاجبا بدمشق عوضاً عن أياس؛ واستقر أياس في نيابة صفد.
وفيه ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام، فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس، ومن كل أمير طبلخاناه فرسان، ومن كل أمير عشرة فرس واحد وكشف عن البلاد المرصدة برسم البريد، فوجدت ثلاث بلاد منها وقف إسماعيل بعضها، وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلداً تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم، وثلاثة آلاف أردب غلة، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
وفيه قدم الخبر بأن أرتنا نائب الروم بعث يستدعي أحمد بن مهنا، وأرسل إليه هدية، فأبى أن يجيب.
واتفق أن أخا سيف بن فضل قصد فياض بن مهنا، وقد سار إليه من دمشق بمبلغ ثمانين ألف درهم ثمن خيول قدمها للسلطان، فأخذه منه وقصد قتله. فركب فياض لما بلغه ذلك وأغار على جمال سيف وآل فضل وساقها، وهي نحو خمسة عشر ألف بعير.فبعث سيف يطلب من نائبي دمشق وحلب عسكراً يقاتل آل مهنا فلم ينجداه.
وفيه كتب الأمير أرغون شاه نائب حلب في حق سيف، فإنه لا طاقة له بآل مهنا.فرسم بقدوم سيف وآل مرا، وقدوم أحمد بن مهنا؛ ووعد أحمد بالإمرة، وخرج الأمير قطلوبغا الذهبي لذلك.
وفيه قدم ابن الأطروش من دمشق، وقد عزل من الحسبة، وكتب نائب الشام يذم فيه وفي عصر يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر: قتل الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي؛ وأمسك الأمير، بزلار، والأمير صغار، والأمير أيتمش عبد الغني.

وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج إتفاق وغيرها من عنده، وتشاغل عنهن بالحمام، صار يحضر إلى الدهيشة والأوباش، وتلعب بالعصا لعب صباح، ويحضر الشيخ علي بن الكسيح مع حظاياه، فيسخر له، وينقل إليه أخبار الناس. فشق ذلك على الأمراء، حدثوا ألجيبغا وطينرق، وكانا عمدة السلطان وخاصكيته فيما يفعله السلطان، وأن الحال قد فسد فعرفا السلطان ذلك، فاشتد حنقه وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بحضرتهما، وقال: " والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور " ، وأغلق باب الدهيشة؛ وأقام غضبانا يومه وليلته. وكان الأمير غرلو قد تمكن منه، فأعلمه.بما وقع، فوقع في الأمراء وهونهم عليه، وجسره على الفتك بهم، والقبض على الأمير آقسنقر الناصري النائب. فأخذ السلطان في تدبير ما يفعله، وقرر ذلك مع غرلو. ثم بعث السلطان بعد أيام طنيرق إلى الأمير آقسنقر الناصري النائب، في يوم الأربعاء خامس ربيع الآخر، ويعرفه أن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغني قد اتفقوا على الفتنة، " وعزمي أن أقبض عليهم " ، فوعد برد الجواب غداً على السلطان في الخدمة وأشار عليه من الغد بالتثبت في أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم فعرفه السلطان من الغد يوم الجمعة بأنه صح له بإخبار بيبغاروس، وبين له أنهم تحالفوا على قتله فأشار عليه أن يجمع بينهم وبين بيبغاروس، حتى يحاققهم بحضرة الأمراء يوم الأحد.
وكان الأمر على خلاف هذا، فإنه اتفق مع غرلو، وعنبر السحرتى مقدم المماليك، على مسك الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي يوم الأحد، وأظهر للنائب أنه يريد القبض على قرابغا وصمغار، وبزلار وأيتمش.
فلما كان يوم الأحد تاسع عشره: حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة بعد العصر، ومد السماط، وإذا بالقصر قد ملئ بسيوف مسللة من خلف آقسنقر والحجازي، وأحيط بهما وبقرابغا، وأخذوا إلى قاعة هناك فضرب الحجازي بالسيوف، وبضع هو وآقسنقر وفر صمغار وأيتمش عبد الغنى، فركب صمغار فرسه من باب القلعة ومر، واختفى أيتمش عند زوجته. فخرجت الخيل وراء صمغار، حتى أدركوه خارج القاهرة وأخذ أيتمش من داره فارتجت القاهرة، وغلقت الأسواق وأبواب القلعة. وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب أرقطاى والوزير نجم الدين محمود بن شروين قريب المغرب، فاشتهر ما جرى.
وفيه رسم بالقبض على مرزه علي، وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه، وأولاد أيدغمش، وأولاد قمارى. وأخرجوا إلى الإسكندرية، وهم وبزلار وأيتمش وصمغار، لأنهم من ألزام الحجازي ومعاشريه، فسجنوا بها.
وفيه أخرج آقسنقر والحجازي في ليلة الإثنينعشريه على جنويات، فدفنا بالقرافة وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس في دست عظيم، ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وأموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإصطبل السلطاني، ونزل ومعه ناظر الخاص حتى أخرج حواصلهم. وضرب غرلو عبد العزيز الجوهري صاحب آقسنقر، وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالاً جزيلا. فخلع عليه السلطان قباء من ملابسي آقسنقر بطراز زركش عريض، وأركبه حصان الججازي بسرج ذهب وخلا به يأخذ رأيه فيما. يفعله. فأشار عليه بأن يكتب إلى نوابي، الشام.بما جرى، ويعدد لهم ذنوبا كثيرة على الأمراء الذين قبض عليهم. فكتب السلطان إلى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، على يد الأمير آقسنقر المظفري أمير جاندار. وقدم آقسنقر المظفر على الأمير يلبغا اليحياوي في ثامن عشريه، فكتب يلبغا بتصويب رأي السلطان فيما فعله، وهو في الباطن غير ذلك. وعظم على الأمير يلبغا قتل ملكتمر الحجازي وآقسنقر الناصري، وتوحش خاطره، وجمع الأمراء بعد يومين بدار السعادة، وأعلمهم.بما ورد عليه. وكتب يلبغا إلى النواب بذلك، فبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحلب، وبعث الأمير طيبغا القاسمي إلى طرابلس؛ فجاءه ليلة الجمعة مستهل جمادى الأولى من زاده وحشه، فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه. وانتقل يلبغا يوم الجمعة إلى القصر، فنزل به، وشرع في الاستعداد للخروج عن طاعة السلطان، ونزل إلزامه حوله بالميدان.
وأخذ السلطان المظفر حاجي يستميل المماليك بتفرقة المال فيهم، وأمر جماعة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغني وتقدمته، وأصبح هو المشار إليه في الدولة، وعظمت نفسه إلى الغاية.

وفيه أخرج ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب، لكثرة لعبه؛ وأنعم بتقدمته على الأمير طاز.
وفيه تولى غرلو مبيع قمش الأمراء وسائر موجودهم.
وفيه قدم الخير بكثرة حشود العربان بالصعيد وبلاد الفيوم، وشدة فسادهم، وتعذر السفر من قطعهم الطرقات على المسافرين. فلم يعبأ السلطان بذلك، لاشتغاله بلهوه، وتلفته إلى أخبار نواب الشام، لتخوفه من خروجهم عن طاعته للقبض على الأمراء وقتلهم فقدمت أجوبتهم. بما يظهر منه تصويب رأي السلطان فيما فعله، فلم يطمئن ورسم بخروج العسكر إليه.
وفيه رسم السلطان بخروج العسكر إلى البلاد الشامية ورسم في عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء مقدمين، وهم طيبغا المجدي، وملك الجمدار، والوزير نجم محمود بن شروين، وطنغرا، وأيتمش الناصري الحاجب، وكوكاي، والزراق، ومعهم مضافوهم من الأجناد. وكتب بطلب الأجناد من النواحي، وكان وقت إدراك المغل؛ فصعب ذلك على الأمراء، وارتجت القاهرة بأهلها لطلب السلاح وآلات للسفر.
وكتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطفات على أيدي النجابة بالتيقظ لحركات الأمير يلبغا اليحياوي، فأشار الأمير أرقطاى؛ النائب بطلب يلبغا ليكون. بمصر، فإن أجاب وإلا أعلم بأنه قد عزل من نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب. فكتب بطلبه على يد الأمير سيف الدين أراى أمير آخور؛ وعند سفر أراي قدمت كتب نائب حماة ونائب طرابلس ونائب صفد بأن يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتله الأمراء، وبعثوا للسلطان بكتبه إليهم. فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا، وأعلمه أنه ولاه نيابة الشام؛ فقام أرغون شاه في ذلك أتم قيام، وأظهر ليلبغا أنه معه.
ولما وصل الأمير سيف الدين أراى إلى الأمير يلبغا اليحياوي، في يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى، إذا في كتاب السلطان طلب يلبغا ليكون رأس أمراء المشورة، وأن نيابة الشام أنعم بها على أرغون شاه نائب حلب وظن الأمير يلبغا اليحياوي أن استدعاءه حقيقة، وقرأ كتاب السلطان، فأجاب بالسمع والطاعة، وأنه إذا وصل الأمير أرغون شاه إلى دمشق توجه منها إلى مصر، وكتب الجواب بذلك، وأعاد الأمير سيف الدين أراى سريعا. فأتت قصاد أمراء دمشق إلى الأمير سيف الدين أراى في عوده، لتعرف فيما جاء به عليهم، فأعلمهم بعزل يلبغا بأرغون شاه، فتحللت عزائم الأمراء عن يلبغا. وتجهز يلبغا وبزر إلى الجسورة ظاهر دمشق، في خامس عشره وكانت ملطفات السلطان وردت إلى الأمراء في عشية يوم الخميس بإمساكه فركبوا وقصدوه، ففر منهم بمماليكه وأهله، وهم في أثره إلى خلف ضمير.
وأما الأمير سيف الدين أراى فأنه قدم إلى السلطان، فقدم الخبر في غد قدومه بأن يلبغا جمع ثقاته من أمراء الشام وأغراهم بالسلطان، وأنه إن مضى إليه قتله كما قتل الأمراء، وأنه جمع أمره على التوجه إلى أولاد دمرداش ببلاد الشرق.
وركب الأمير يلبغا في يوم الجمعة خامس عشره، ومعه الأمير قلاوون، والأمير سيفه، والأمير محمد بن بك بن جمق، في مماليكهم؛ وخرجوا بآلة الحرب، فاضطرب الناس بدمشق. وركب العسكر في طلبه، وقد سار نحو القريتين ودخل البرية حتى وصل حماة، بعد أربعة أيام وخمس ليالي. فركب الأمير قطليجا نائب حماة بعسكره، وتلقاه ودخل به إلى المدينة، وقبض عليه وعلى من معه؛ وكتب بذلك إلى السلطان فسر به سروراً كبيراً وأمر بإبطال التجريدة؛ وكتب بحمله إلى مصر.
ثم خرج الأمير منجك السلاح دار لقتله، فلقى آقجبا الحموي وصحبته يلبغا اليحياوي وأبوه، وقد نزل بقاقون. فصعد منجك مع يلبغا إلى قلعتها، وقتله في يوم الجمعة عشريه وجهز رأسه إلى السلطان. وتوجه منجك إلى حماة، وجهز الأمير قراكر والأمير أسندمر أخوى يلبغا اليحياوي، والأمير طقطاى دواداره، والأمير جوبان مملوكه، إلى السلطان مقيدين؛ وكان أبوه الأمير طابطا حمل مقيداً من فاقون إلى السلطان.

وفيه قدم الخبر بأن أحمد بن مهنا وفياضاً وفوازاً وقمارى كانوا بحلب لما قبض على يلبغا بحماة، فركبوا بجمعهم يريدون آل مرا، وقد نزلوا قريباً من سيف بن فضل فركب سيف بآل مرا وآل علي إلى لقائهم، فلم يطقهم وفر، فنهبوا أبياته، وأخذوا منها خمسمائة حمل دقيق، وساقوا خمسة عشر ألف بعير. ومر سيف على وجهه إلى القاهرة، فطلع إلى السلطان وبكى بين يديه بكاء كثيراً، فتنكر السلطان على أولاد مهنا. فقدم كتاب الأمير أرغون بالثناء عليهم، لخدمتهم السلطان في أمر يلبغا أتم الخدمة، وقدم أحمد بن مهنا عقيب ذلك، فلم ير من السلطان إقبالاً.
وفي يوم الأحد خامس عشريه: أخرج بالوزير نجم الدين محمود، والأمير بيدمر البدري نائب حلب كان، والأمير طغيتمر الفخري الدوادار، إلى الشام وسببه أن غرلو لما كان شاد الدواوين حقد على الوزير نجم الدين وعلى طغيتمر الدوادار، فحسن للسلطان أخذ أموالهما. فذكر السلطان للنائب أرقطاى عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا اليحياوي، فأشار عليه بإبعادهم عنه، وأن يكون الوزير نائب غزة، وبيدمر نائب حمص، وطغيتمر بطرابلس؛ فأخرجهم أرقطاى على البريد. فلم يعجب غرلو ذلك، وأكثر من الوقيعة في الأمير أرقطاى النائب حتى غير السلطان عليه، ومازال به حتى بعث أرغون الإسماعيلي نائب غزة بقتلهم. فدخل أرغون الإسماعيلي معهم إليها وقت العصر، فقتلوا ليلاً؛ وتمكن غرلو من أموالهم.
وتزايد أمر غرلو، واشتدت وطأته؛ وكتر إنعام السلطان عليه حتى لم يكن يوم إلا وينعم عليه وأخذ غرلو في العمل على علم الدين بن زنبور ناظر الخاص وعلى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر، وحسن للسلطان القبض عليهما وأخذ أموالهما؛ فتلطف الأمير أرقطاى النائب في أمرهما حتى كف عنهما. فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى خاف غرلو، ورجع يصانعه بالمال.
وفيه توجه مقبل الرومي لقتل المسجونين بالإسكندرية بإشارة غرلو، فقتل أرغون العلائي وقرابغا القاسمي، وتمر الموساوى، وصمغار، وأيتمش عبد الغني.
وفيه أفرج عن أولاد قمارى وأولاد أيدغمش؛ وأخرجوا إلى الشام.
وفيه قدم الأمير منكلى بغا الفخري من طرابلس، وأنعم عليه بتقدمة ألف واستمر السلطان على الأنهماك في لهوه، وصار يلعب في الميدان تحت القلعة بالكرة في يومي الأحد والثلاثاء، ويركب إلى الميدان على النيل في يوم السبت. فلما كان آخر ركوبه الميدان رسم بركوب الأمرء المقدمين. بمضافيهم، ووقوفهم صفين من الصليبة إلى فوق الإصطبل، ليرى العسكر. فضاق الموضع عنهم، فوقف كل مقدم بخمسة من مضافيه وجمعت أرباب الملهى ورتبوا في عدة أماكن بالميدان؛ ونزلت أم السلطان في جمعها، وأقبل الناس من كل جهة. فبلغ كراء كل طبقة في ذلك اليوم مائة درهم، وكل بيت كبير لنساء الأمراء مائتي درهم وكل حانوت خمسين درهما، وكل موضع إنسان بدرهمين، فكان يوماً لم يعهد في ركوب الميدان.
وفيه أخرج سيف بن فضل من القاهرة مرسماً عليه، لكلام نقله عن الأمير أرقطاى النائب وفي يوم الخميس سابع جمادى الآخر: وصل رأس يلبغا اليحياوي.

وفي يوم الجمعة خامس عشره: قبض على غرلو، وقتل. وسبب ذلك شدة كراهة الأمراء أرباب الدولة لسوء أثره فيهم، فأنه كان يخلو بالسلطان ويشر عليه بما يمضيه، فلا يخالفه في شيء وعمله السلطان أمير سلاح، فخرج عن الحد في التعاظم، وجسر السلطان على قتل الأمراء، وقام في حق الأمير أرقطاى النائب يريد القبض عليه وقتله، وأخذ المماليك الناصرية والصالحية والكاملية بكمالهم، واستمالهم لتجديد دولة مظفرية. وقرر مع السلطان أن يفوض إليه أمور المملكة، ليقوم عنه بتديرها، ويتوفر السلطان على لذاته. وأغراه أيضاً بالجيبغا وطنيرق، وهما أخص الناس بالسلطان، حتى تغير عليهما. وبلغ ذلك ألجيبغا، وتناقله المماليك، فتعصبوا عليه، وراسلوا الأمراء الكبار حتى حدثوا السلطان في أمره، وخوفوه عاقبته، فلم يعبا السلطان بقولهم، فتنكروا بأجمعهم على السلطان، وصاروا إلباً عليه بسبب غرلو، إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته. فاستشار الأمير أرقطاى النائب في أمر غرلو، وعرفه ما يخاف من غائلته، فلم يشر عليه بشيء، وقال له: " لعل الرجل قد كثرت حساده على تقريب السلطان له، والمصلحة التثبت في أمره " كان الأمير أرقطاي النائب عاقلا سيوسا، يخشى من معارضة غرض السلطان فيه. فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية في التدبير على غرلو، وتخويف السلطان منه ومن عواقبه، حتى أثر قولهم في نفسه. وأقاموا أحمد شاد الشرابخاناه - وكان مزاحا - للوقيعة فيه فأخذ في خلوته مع السلطان بذكر كراهة الأمراء لغرلو وموافقة المماليك لهم وأنه يريد أن يدبر الدولة ويكون نائب السلطان، وليتوثب بذلك على المملكة ويصير سلطاناً، ويخرج قوله هذا في صورة السخرية والضحك. وبالغ في ذلك على عدة فنون من الهزؤ إلى أن قال: " وإن خلاه السلطان رحنا كلنا الحبوسات من بعده " فانفعل السلطان لكلامه، وقال: " أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور " ثم مضى أحمد إلى الأمير أرقطاى النائب، وعرفه ما كان منه، وما قاله السلطان، وجسره على الوقيعة في غرلو. فاستشار السلطان الأمير أرقطاى النائب في غرلو ثانيا، فأثنى عليه وشكره، فعرفه وقوع الخاصكية فيه، وأنه قصد أن يعمله أمير آخور، فقال أرقطاي " غرلو شجاع جسور، لا يليق أن يكون أمير آخور " فكأنه أيقظ السلطان من رقدته، وأخذ معه فيما يوليه، فأشار بولايته غزة، فقبل السلطان ذلك وقام عنه فاصبح السلطان بكرة يوم الجمعة، وقد بعث طنيرق إلى الأمير أرقطاى النائب بأن يخرج غرلو إلى غزة. فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة، وجلس على باب القلة، فبعث الأمير أرقطاي النائب بطلبه فقال: " مالي عند النائب شغل وما لأحد معي حديث غير أستاذي السلطان " وأرسل النائب يعرف السلطان جواب غرلو له بطلبه، فغضب السلطان، وقال لمغلطاى أمير شكار والأمراء أن يعرفوه عن السلطان بتوجهه إلى غزة، وإن امتنع يمسكوه. فلما صار غرلو داخل القصر لم يحدثوه بشيء، وقبضوا عليه وقيدوه، وسلموه لألجيبغا، فأدخله إلى بيته بالأشرفية فلما خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو، وهو في الصلاة واخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه، فقالوا عنه أنه قال: " ما أروح مكاناً " فأراد سل سيفه وضرب الأمراء به، وأنهم تكاثروا عليه فلما سلم نفسه حتى قتل. فعز قتله على السلطان، وحقد عليهم قتله، ولم يظهره لهم وتقدم السلطان بإيقاع الحوطة على حواصله، فكان يوما عظيماً بالقلعة والمدينة، معظم الناس إلى تحت القلعة، فشوهد يومئذ من اجتماعهم أمر مهول. وأخرج غرلو حتى دفن بباب القرافة، فأصبح وقد خرجت يده من الأرض، فأتاه الناس أفواجاً ليروه ونبشوا عليه، وجروه بحبل في رجله إلى تحت القلعة. وأتوا بنار ليحرقوه، وصار لهم ضجيج عظيم. فبعث السلطان عدة من الأوجاقية قبضوا على كثير منهم، فضربهم الوالي بالمقارع، وأخذ منهم غرلو ودفن؛ و لم يظهر له كبير مال.

وفيه قدم الخبر بدخول الأمير أرغون شاه إلى دمشق، في يوم الثلاثاء سابع عشره صحبة متسفرة الأمير آقسنقر جاندار فعرض يوم دخوله أهل السجون، ووسط وسمر منهم عدة من أرباب الجرائم، وألزم جميع من له إقطاع بحلب أو حماة أو طرابلس أو غيرها من البلاد الشامية أن يتوجه إلى محل خدمته، ولا يقيم بغيره، وأنعم الأمير أرغون شاه على متسفره بخمسة عشر فرساً، منها خمس عربيات مسرجات ملجمات، وأحد عشر إكديش، وجارية بخمسة آلاف درهم وأربعين ألف درهم، ومائة قطعة قماش وتشريف النيابة بكماله وسيفه المحلى، وكتب له بألف أردب غلة من مصر، وكان الأمير أرغون شاه أعطاء بحلب ألف وخمسمائة دينار. فأقام آقسنقر بدمشق نحو ثلاثة أشهر ولم يسأله في ولاية ولا عزل إلا أجابه، فرجع بمال عظيم.
وفيه أفرج عن ابن طشتمر من صفد، وأنعم عليه بإمرة في دمشق.
وفيه نقل أمير مسعود بن خطير من نيابة غزة إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير منكلى بغا الفخري.
وفيه استقر الأمير فخر الدين أياس حاجب دمشق في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون شاه.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة، فأقام أياما وعاد.
وفي يوم الإثنين سادس عشر رجب: أخرج لاجين أمير آخور إلى دمشق، على إقطاع قلاوون.
وفيه أخرج منجك السلاح دار واستقر حاجباً بدمشق، عوضاً عن أمير علي بن طغربل وفيه أنعم على اثني عشر من المماليك بإمرات، ما بين طبلخاناه وعشرات بمصر والشام.
وفيه أعيد الأطروش إلى الحسبة، عوضاً عن الضياء، ورتب للضياء ما يقوم به.
وفيه عمل الإستيمار بما على الدولة من الكلف، وما يتحصل. فوجدت الكلف ثلاثة أمثال ما كانت في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، ومرتب الحوائج خاناه في كل يوم مقدار اثنين وعشرين ألف رطل لحم، ونفقات المماليك مبلغ مائتين وعشرين ألف درهم، بعدما كانت تسعين ألف درهم. فرسم السلطان بقطع ما استجد من الرواتب بعد موت السلطان الناصر محمد، فمازال به الأمير أرقطاى النائب يخوفه سوء عاقبة قطع الأرزاق، ويعرفه أن أحداً من الملوك ما قرئ عليه الإستيمار وقطع شيئاً إلا وأصابه ما يكره في دولته، حتى رسم باستمرار الرواتب على حالها.
وفيه وزع على مباشري الجهات مبلغ ستمائة ألف درهم، خص مقدمي الدولة منها مائة ألف درهم.
وفيه رسم أن يكون في كل معاملة شاهد وكاتب؛ واستقر قطلوابغا شاد الجهات بالقاهرة، وابن المزوالي شادا بجهات مصر.
وفيه قدم على بن طغربل من دمشق.
وفيه أنعم على الأمير بيبغا روس عند قدومه من سرحة العباسة بألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل بسروج ذهب.
وفي مستهل شعبان: خرج الأمير طيبغا المجدي، والأمير أسندمر العمري، والأمير أرغون الكاملي، والأمير بيبغا روس، والأمير بيبغا ططر، إلى الصيد، ثم خرج الأمير أرقطاى النائب بعدهم إلى الوجه القبلي بطور السلطان. ورسم السلطان لهم ألا يحضروا إلى العشر الأخير من رمضان.
فخلا الجو للسلطان، وأعاد حضير الحمام، وأحضر إليه عدة من عبيده، وأعاد أرباب الملاعيب من الصراع، والثقاف، والشباك وجرى السعاة، والنطاح بالكباش، ومناقرة الديوك والقمارى وغير ذلك من أنواع الفساد، ونودي بإطلاق اللعب بذلك في القاهرة ومصر. فصار للسلطان اجتماعات بالأوباش وأراذل الطوائف، من الفراشين والبابية، ومطيري الحمام؛ فكان يقف معهم ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية.
وبينا هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام وقد سيبها، إذ أذن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام على مقاصرها وتطايرت. فجرد السلطان، وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم.
وكان السلطان أيضاً يلعب مع العوام، ويلبس تبان جلد، ويتعرى من ثيابه كلها ثم يلعب معهم بالعصى، ويلعب بالرمح وبالكرة. فيظل نهاره مع الغلمان والعبيد الدهيشة، ويحضر في الليل على العواد، ويأخذ عنه الضرب بالعود، ويتجاهر بما لا يحمد.

وشغف السلطان بكيدا حتى كان لا يكاد يفارقها، واشترى لها أملاك النشو وأخيه رزق الله وصهره المخلص بخط الزربية، فاشتراها لها بمائة ألف درهم. وكانت هذه الزريبة في غاية الحسن، قد أنفق عليها النشو أموالاً عظيمة، وصارت بعد النشو إلى إمرأة الأمير بكتمر الساقي، اشتراها لها الأمير بشتاك بنحو الألف درهم، إلى أن طلبتها كيدا فأرسل السلطان إليها يستوهبها منها، فتركتها له، فرسم لها بمائة ألف درهم، وكاتبها على الأملاك باسم كيدا فلم يهن بها، ووقعت نار في دار رزق الله جعلتها دكاً.
وفيها ارتفع سعر القمح من أربعين درهماً للأردب إلى خمسين، وغلا اللحم وعامة الأصناف المأكولة حتى بلغت مثلى ثمنها. وتوقفت الأحوال، وقلت الغلال، وكثر ة قدوم أهل النواحي إلى القاهرة حتى ضاقت بهم فكانوا كذلك مدة سنة، مع كثرة المناسر في البلاد والقاهرة، وقوة المفسدين وقطاع الطريق بأرض مصر وبلاد القدس ونابلس، وفتنة العشير بعضهم مع بعض.
وفي نصفه: توجه ألجيبغا وأحمد شاد الشرابخاناه إلى الصيد، فأخذ السلطان في التدبير على أخيه حسين ليقتله، وأرصد له عدة خدام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه، فتمارض واحترس على نفسه، فلم يجدوا منه غفلة.
وفي سابع عشره: استقر في الخلافة أبو بكر بن أبي الربيع سليمان، ونعت بالمتعصم بالله أبي الفتح، بعد موت أبيه.
وفي أخريات شعبان: قدم الأمراء والأمير أرقطاى النائب قبل أوانهم من الصيد شيئاً بعد شيء، وقد بلغهم ما كان من أفعال السلطان في غيبتهم.
وفي يوم السبت رابع رمضان: زلزلت القاهرة مرتين في ساعة واحدة.
وفيه قدم ابن الحراني من دمشق بمال يلبغا اليحياوي، فتسلمه الخدام وأنعم السلطان من ليلته على كيدا حظته بعشرين ألف منه سوى الجواهر واللآلى، ونثر الذهب على الخدام والجواري، فاختطفوه، وهو يضحك منهم، وفرق السلطان على لعاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ، وصار يحذفه لهم، وهم يترامون عليه ويأخذونه، بحيث لم يدع منه شيئاً سوى القماش والتفاصيل والآنية والعدد، فإنها صارت إلى الخزانة. فكانت جملة ما فرقه السلطان ثلاثين ألف دينار وثلاثمائة ألف درهم، وجواهر وحلياً، وزركشاً ومصاغاً، قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار.
فعظم ذلك على الأمراء، وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من اللعب بالحمام وتقريب الأوباش، وخوفاه فساد الأمر. فغضب السلطان، وأمر آقجبا شاد العمائر بخراب حضير الحمام، وأحضر الحمام وذبحها واحداً واحداً بيده، وقال لألجيبغا وطنيرق: والله لأذبحنكم كلكم كما ذبحت هذا الحمام، وتركهم وقام. فبات ليلته وأصبح ففرق جماعة من خشداشية ألجيبغا وطنيرق في البلاد الشامية واستمر على إعراضه عن الجميع وقال لحظاياه وعنده معهن الشيخ على الكسيح: والله ما بقى هنا لي عيش وهذان الكذا وكذا بالحياة، يعنى ألجيبغا وطنيرق، فقد أفسدا على ما كان فيه سرور، واتفقا على، ولابد من ذبحهما. فنقل ذلك الشيخ على الكسيح لألجيبغا، فإنه الذي كان أوصله بالسلطان، وقال له مع ذلك: خذ لنفسك، فوالله لايرجع عنك ولاعن طنيرق. فطلب ألجيبغا صاحبه طنيرق حتى عرفه ذلك، فأخذا في التدبير على السلطان، وأخذ السلطان في التدبير عليهما.
وفيه أخرج السلطان الأمير بيبغا روس للصيد بالعباسة، فإنه كان صديقاً لألجيبغا وتنمر السلطان على طنيرق واشتد عليه، وبالغ في تهديده. فبعث طنيرق وألجيبغا إلى طشتمر طلليه، وما زالا به حتى وافقهما. ودار طنيرق على الأمراء، وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان، وتوقع منه أن يفتك به. وأغراهم طنيرق بالسلطان، فصاروا معه يداً واحدة، وكلموا الأمير أرقطاى النائب في موافقتهم، وأعلموه أنه يريد القبض عليه، وأكثروا من تشجيعه إلى أن أجابهم وتواكدوا جميعاً في يوم الخميس تاسع رمضان على الركوب في يوم الأحد ثاني عشره.

فبعث السلطان في يوم السبت يطلب الأمير بيبغا روس من العباسة، وقرر مع الطواشي عنبر مقدم المماليك أن يعرف المماليك السلاح دارية أن يقفوا متأهبين، فإذا دخل بيبغا روس وقبل الأرض ضربوه بسيوفهم، وقطعوه قطعاً. فعلم بذلك ألجيبغا، فبعث إلى بيبغا يعلمه بما دبره السلطان من قتله، ويعرفه بما وقع من اتفاق الأمراء عليه، بكرة يوم الأحد على قبة النصر. واستعدوا ليلتهم، ونزل ألجيبغا أولهم من القلعة وتلاه بقية الأمراء فكان آخرهم ركوباً الأمير أرقطاى النائب. وتوافوا بأجمهم عند مطعم الطير، وإذا بيبغا قد وصل إليهم، فأحضروا مماليكهم وأطلابهم، وبعثوا في طلب بقية الأمراء، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم لابسين آلة الحرب، عند قبة النصر.
فأمر السلطان بدق الكوسات، وبعث الأوجاقية في طلب الأمراء، وجمع عليه طنيرق وشيخو وأرغون الكاملي وطاز، ونحوهم من الخاصكية فحضر إليه أجناد الحلقة ومقدموها، وعدة من الأمراء. وأرسل السلطان يعتب الأمير أرقطاي النائب على ركوبه، فرد جوابه بأن مملوكك الذي ربيته ركب عليك، وأعلمنا فساد نيتك، وقد قتلت مماليك أبيك، وأخذت أموالهم، وهتكت حريمهم بغير موجب، وعزمت على الفتك بمن بقي، وأنت أول من حلف ألا تخون الأمراء، ولا تخرب بيت أحد فرد السلطان الرسول إليه يستخبره عما يريدونه منه حتى يفعله لهم، فأعادوا جوابه أنهم لابد أن يسلطنوا غيره، فقال: ما أموت إلا على ظهر فرسي، فقبضوا على رسوله، وهموا بالزحف إليه، فمنعهم الأمير أرقطاي النائب.
فبادر السلطان بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عدة أمراء في الميمنة، وسار بمماليكه حتى وصل إلى قريب قبة النصر. فكان أول من تركه الأمير أرغون الكاملي و الأمير ملكتمر السعيدي، ثم الأمير شيخو. وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وتلاهم بقيتهم، حتى جاء الأمير طنيرق، والأمير لاجين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم.
وبقي السلطان في نحو عشرين فارساً، فبرز له الأمير بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرسه وأنهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به. فتقدم إليه بيبغا روس، فضربه السلطان بطير، فأخذ الضربة بترسه، وحمل عليه بالرمح. وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضربه طنيرق جرح وجهه وأصابعه. وساروا به على فرس إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبحوه من ساعته قبل العصر. ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه توسل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجلوا على قتلي، وخلوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجلت على قتل الناس، لو صبرت عليهم صبرنا عليك.
وصعد الأمراء إلى القلعة في يومهم، ونادوا في القاهرة بالأمان والاطمئنان، وباتوا بها ليلة الإثنين، وقد اتفقوا على مكاتبة الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيمونه سلطاناً. فأصبحوا وقد اجتمع المماليك على إقامة حسين بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مراسلات. فقبض الأمراء على عدة من المماليك، ووكلوا الأمير طاز بباب حسين، حتى لا يجتمع به أحد، وغلقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء. وقصد المماليك إقامة الفتنة فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك ما لا يدرك فارطه، فوقع اتفاقهم عند ذلك على حسن بن الناصر محد بن قلاوون، فتم أمره.
فكانت مدة المظفر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، وعمره نحو عشرين سنة وكان شجاعاً جريئاً على الدنيا، منهمكاً في الفساد، كثير الإتلاف للمال.
السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاوون الألفي أمه أمة تدعى كدا، ماتت وهو صغير، فربته خوند أردو، ودعوه قماري حتى كان من أمر أخيه حاجي ما كان. وطلب المماليك إقامة حسين في السلطة، وبات ليلة أكثرهم بالمدينة ليخرجوا إلى قبة النصر فقام الأمراء بسلطة حسن هذا وأركبوه بشعار السلطنة، في يوم الثلاثاء، رابع عشرى رمضان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، لقبوه بالملك الناصر سيف الدين قمارى.

فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند! والله إن هذا اسم حسن على خيرة الله فاستقرت سلطنته وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: اجتمع الأمراء، وأخرج لهم دينار الشبلي المال، فنقل إلى الخزانة.
وفيه طلب خدام المظفر وعبيده، ومن كان يعاشره من الفراشين ومطيري الحمام، وسلموا لشاد الدواوين على حمل ما أخذوه من المال. فأقر الخدام أن الذي خص كيدا في مدة شهرين نحو خمسة وثلاثين ألف دينار، ومائتين وعشرين ألف درهم وخص، العواد نحو ستين ألف درهم، وخفي الإسكندر بن كتيلة الجنكي نحو الأربعين ألف درهم، وخص العبيد والفراشين ومطيري الحمام نحو مائة ألف درهم. وأظهر بعض الخدام حاصلاً تحت يده، فيه لؤلؤ وجوهر قيمته زيادة على مائة ألف دينار، وفيه تحف وتفاصيل وزركش وبدلات ثياب بنحو مائة ألف دينار.
وفي يوم الخميس سادس عشره: قبض على الأمير أيدمر الرزاق، والأمير قطز أمير آخور، والأمير ملك، وأخرج قطز لنيابة صفد، وفيه قطعت أخباز عشرين خادماً، وخبز عبد على العواد، وإسكندر بن كتيلة الجنكي.
وفيه طلبت دبيقة مغنية عرب الجيزة، وكانت تخايل بالقلعة، وطلبت ضامنة المغاني أيضاً، وألزمتا بمال في نظير ما حصل لهما من بيت المال.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: عرضت جميع الجواري اللاتي بالقلعة، ورسم بتزوج من أعتق منهن، وفرق باقيهن.
وفيه قبض على الطواشي عنبر السحرتي، وعلى الأمير آقسنقر أمير جاندار زوج أم المظفر. وفيه عرضت المماليك أرباب الوظائف، وأخرج منهم جماعة.
وفيه أحيط بأموال كيدا، وأموال بقية الحظايا، وأنزلن من القلعة.
وفيه كتبت أوراق. بمرتبات الخدام والعبيد والجواري، وقطعت كلها.
وكان أمراء المشورة والتدبير تسعة، وهم بيبغا روس القاسمي، بألجيبغا المظفري، ومنكلى بغا الفخري، وطشتمر طلليه، وأرقطاى النائب، وطاز، وأحمد شاد الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيلي فاستقر شيخو العمري رأس نوبة كبير وشارك الأمراء في تدبير أمور المملكة.
وفيه استقر مغلطاي أمير آخور، عوضاً عن قطز.
وفيه أفرج عن بزلار.
وفيه أنعم على فارس الدين قريب آل ملك بإمرة طبلخاناه.
وفيه جهزت التشاريف لنواب الشام، وكتب إليهم بما وقع.
وفيه وقع الاتفاق على تخفيف الكلف السلطانية، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق. بما على الدولة من الكلف.
وفيه أخذ الأمراء في تتبع طائفة الجراكسية من المماليك، وقد كان المظفر قربهم إليه بسفارة غرلو، فأنه كان جركسي الجنس. وجلبهم المظفر من كل مكان حتى عرفوا بين الأمراء، وقوى أمرهم، وصار منهم أمراء وأصحاب أخباز وتميزوا بكبر عمائمهم، وعملوا كلفتاه خارجة عن الحد. فطلبوا الجميع، وأخرجوهم منفيين خروجاً فاحشاً. وفي يوم الإثنين ثاني شوال: ركب الأمراء وأهل الدولة إلى الخدمة، وكتبت أوراق من ديوان الجيش بأسماء الذين اشتروا الإقطاعات في الحلقة من أرباب الصنائع، ورسم بقطع أخبازهم فشفع الأمراء في كثير منهم، ولم يقطع غير عشرين جندياً.
وفيه قدم جواب الأمير أرغون شاه نائب الشام بموافقته، ورضاه بما وقع، وغض من فخر الدين أياس نائب حلب. وكان الأمير أرقطاى نائب السلطة قد أراد من الأمراء أن يعفوه من النيابة، ويولوه بلداً من البلاد، فلم يوافقوا على ذلك. فلما ورد كتاب الأمير أرغون شاه نائب الشام يذكر فيه أن أياس يصغر عن نيابة حلب، فأنه لا يصلح لها إلا رجل شيخ كبير القدر له ذكر وشهرة، وطلب الأمير أرقطاى نيابة حلب فأجال الأمراء الرأي في ذلك إلى أن اتفقوا عليه. فلما كان يوم الخميس خامسه واجتمعوا لخدمة، خلع الأمير بيبغا روس القاسمي واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن أرقطاي.وخلع على أمير أرقطاي، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن فخر الدين أياس ، وخرج بتشريفهما.فجلس بيبغا روس في دست النيابة، وبيبغا جالس دونه.
وفي يوم السبت سابعه: قدم أمير منجك اليوسفي السلحدار أخو النائب بيبغا روس من الشام فرسم له بتقدمة ألف، وخلع عليه، واستقر وزيراً وأستادارا. وخرج في موكب عظيم والأمراء في خدمته، فصار حكم مصر للأخوين بيبغا روس ومنجك السلاح دار.

وفي يوم الثلاثاء عاشره: سار أرقطاى متوجها إلى حلب، وصحبته الأمير كشلي الأدريسي متسفرا.
وكان قد رسم بنقل الأمراء المقتولين بالإسكندرية، فنقلوا إلى القاهرة. ودفن الأمير قمار أخيه الأمير بكتمر الساقى، قبلى القرافة. ودفن الأمير أرغون العلائي بخانكاته من القرافة. ودفن الأمير قوصون بخانكاته داخل باب القرافة. ودفن الأمير بشتاك الجاولي، فوق جبل الكبش. ودفن الأمير ملكتمر الحجازي في يوم الإثنين سابع عشري رمضان،.بموضع من قصر الزمرد عند رحبة باب العيد من القاهرة، أنشأته له زوجته ثم عملته مدرسة تعرف اليوم بالحجازية ودفن الملك الأشرف كجك بجماع آقسنقر من التبانة قريباً من القلعة، بجوار قبر زوج أمه آقسنقر. وأخرج يوسف وشعبان ورمضان الناصر محمد، ودفنوا.بمواضع أخرى. وسلم الأمير تمر الموساوى لأهله، فدفنوه بتربتهم. ونقل جماعة كثير سواهم، و لم يعهد مثل ذلك في الدولة التركية.
وفيه خلع على الشيخ علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، واستقر في قضاء القضاة الحنفية.بمصر، عوضاً عن زين الدين عمر بن عبد الرحمن البسطائي.
وفيه رسم بكتابة أوراق بكلف الدولة، وفر منها مبلغ ستين ألف درهم في كل شهر من جامكية المماليك. وقطعت جوامك الخدم والجواري والبيوتات، ووفر كثير من رواتب لزوجات السلطان وكيدا واتفاق، وقطعت رواتب المغاني. وقطع من الإصطبل السلطاني جماعة،ما بين أمير آخورية وسر آخورية وسياس وغلمان، ووفر من رواتب عليق الخيول نحو خمسين أردبا في اليوم. وقطعت الكلابزية، وكانوا خمسين جوقة كلاب، فاستقروا جوقتين. وقطعت رواتب كثير من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر، وأبطلوا العمائر من بيت السلطان.، واستقر مصروف الحوائج خاناه في كل يوم ثمانية عشر ألف درهم، بعدما كان أحداً وعشرين ألف درهم فتوفر منه ثلاثة آلاف درهم.
وفيه رسم ألا يستقر في كل جهة إلا شاد وعامل وشاهد واحد.
واشتد الوزير منجك على أرباب الدواوين، وتكلم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم تليق به؛ فلم يمضى شهر حتى أنس بهم، واعتمد عليهم في أموره كلها.
واستدعى الوزير منجك أيضاً ولاة الأقاليم، والزم آقبغا والي المحلة.بمائة ألف درهم، وولى أسندمر القلنجيقى الغربية، ثم عزله وولى قطليجا مملوك بكتمر؛ وولي أسندمر القاهرة، وأضاف له الجهات يتحدث فيها.
وفيه أنعم على أمير أرغون الكاملي بتقدمة ألف، وأنعم بإقطاعه على يلجك ابن أخت قوصون.
وفيه قدم سيف فخر الدين أياس نائب حلب على يد عمر شاه. وقد قبض عمر شاه على أياس، وأحضره إلى القاهرة، فحمل إلى الإسكندرية.
وفيه قدم الخبر بكثرة فساد العربان بالصعيد والفيوم، فخرج ابن طقزدمر ومعه خمسة أمراء طبلخاناه إلى الوجه القبلي، وخرج بكلمش أمير شكار في عده أمراء إلى الفيوم.
وفيه استقر طغيه في ولاية قوص، عوضاً عن إسماعيل الوافدي وقد فر بأمواله من قوص. ثم نقل طغيه إلى كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن علاء الدين على بن الكوارنى؛ واستقر ابن المزوق في ولاية قوص. واستقر مجد الدين موسى الهذباني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن ابن الزركشي. واستقر قطلومش في ولاية الجيزة.
فتسامع الناس بولاية الوزير منجك الأعمال بالمال، وأنه قد انفتح باب الأخذ والعطاء، فهرعوا إليه من حلب ودمشق وسائر النواحي، ورتب الوزير ببابه جماعة لاستقضاء الناس وقضاء أشغالهم - وفي أول ذي القعدة: قدم الخبر بأن الأمراء المجردين أوقعوا بالعرب، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا ما وجدوه، فانهزم باقيهم إلى جهة الواحات.
وفيه توقفت أحوال الدولة وتحسن السعر، فاتفق الأمراء ورتبوا لنفقة السلطان في كل يوم مائة درهم تكون بيده. فكان خادمه يحضر في كل يوم إلى علم الدين بن زنبور ناظر الخزانة، وهو جالس بخزانة الخاص من القلعة، يطالبه. بمائة درهم، فيكتب لمباشري الخزانة بصرف جامكية السلطان وصلا يأخذه صيرفي الخزانة عنده، ويزن للخادم المائة درهم، فيدخل بها إلى السلطان ليتوسع بها فيما يعن له. وكان هذا راتبه كل يوم ولم يسمع.بمثل ذلك أن يكون ملك يجلس على تخت الملك، ويصرف الأمور بالعزل والولاية، وتحمل إليه أموال مصر والشام، ولا يتصرف منها في شيء.

وذلك أن الأمراء تحالفوا - بعد خروج الأمير أرقطاى النائب إلى حلب - أن يكونوا يدا واحدة وكلمتهم واحدة، ولا يدخل بينهم غريب، وأن يكون الأمير شيخو إليه أمر خزانة الخاص، ويراجعه علي الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص ويتصرف بأمره، وأن يكون الأمير بيبغا روس يتحدث في المملكة، فيخرج الإقطاعات للأجناد والإمرات للأمراء.بمصر والشام، وإليه يرجع أمر نواب الشام أيضاً، وأنهم يجتمعون للمشورة بين يدي السلطان فيما يتجدد، وألا يدعوا السلطان يتصرف في المال، ولا ينعم على أحد، ولا يمكن من شيء يطلبه، فمشت الأمور على هذا.
وفيه وقف نحو المائتين ممن كان بخدمة الأمراء للنائب بيبغا روس يشكون البطالة ففرقوا على كل أمير مائة ثلاثة نفر، وعلى كل أمير طبلخاناه اثنين، وعلى كل أمير عشرة واحدا، ومن لم يكن من الأمراء عنده إقطاع محلول يرتب للواحد منهم مائة درهم وأردبين غلة في الشهر. فمن الأمراء من قبل، ومنهم من أبى أن يقبل منهم أحداً وفيه تراسل المماليك الجراكسة والأمير حسين بن الناصر محمد على أن يقيموه سلطانا، فقبض على أربعين من الجراكسة، وأخرجوا على الهجن مفرقين إلى البلاد الشامية ثم قبض على ستة، وضربوا قدام الإيوان بالقلعة ضرباً مبرحاً، وقيدوا وحبسوا بخزانة شمايل.
ثم عملت الخدمة بالإيوان، وتم الاتفاق على أن الأمراء إذا أنفضوا من خدمة الإيوان دخل أمراء المشورة المقدمين إلى القصر، دون من عداهم من بقية الأمراء، ونفذوا الأمور على اختيارهم، من غير أن يشاركهم أحد من الأمراء في ذلك. وكانوا إذا حضروا الخدمة بالإيوان خرج الأمير منكلى بغا الفخري، والأمير بيغرا، والأمير بيبغا ططر، والأمير طيبغا المجدى، والأمير أرلان، وسائر الأمراء، فيمضون لحالهم إلا أمراء المشورة والتدبير، وهم الأمير بيبغا النائب والأمير شيخو العمري، والوزير منجك، والأمير ألجيبغا المظفري، والأمير طاز، والأمير طنيرق، فإنهم يدخلون إلى القصر وينفذون أحوال الدولة بين يدي السلطان، بمقتضى علمهم وحسب اختيارهم، فتمضي الأمور على ذلك، ولا يشاركهم أحد في شيء من أحوال الدولة.
وفيه قدم الأمير كشلى الإدريسي من حلب، في تاسع عشره، بكتاب الأمير أرقطاى نائب حلب أنه قدمها في ثانيه؛ فكانت جملة ما أنعم به عليه من ذهب وخيل وقماش نحو مائة ألف درهم.
وفيه كتب لنائب الشام أرغون شاه أن يعمل برأيه في نيابة دمشق، ويتحكم في جميع الأحوال من غير مشاورة.
وفي مستهل ذي الحجة: قدم الأمراء المجردون الوجه القبلي، وقد أثروا آثارا قبيحة من سفك الدماء ونهب الأموال بغير حق، فإن أرباب الجرائم فروا في البرية فأوقعوا بأصحاب الزروع.
وفيه كتب لطغيه كاشف الوجه القبلي برمي الشعير على بلاد الأمراء والأجناد، وجباية عشرة آلاف أردب منها بسعر عشرة دراهم الأردب؛ فطلب طغيه مقطعي البلاد، وفرق فيهم المال، و لم يعف أحدا.
واتفق في هذه السنة حدوث حر شديد لم يعهد مثل بأرض مصر مدة أيام، ثم أعقب الحر ريح من جهة برقه مرت ببلاد البحيرة والغربية تحمل ترابا أصفر بلون الزعفران لبس الزرع لبساً حتى أيس الناس منه. فبعث الله مطراً مدة يوم وليلة غسلت ذلك التراب كله فأصبح من غد يوم المطر وقد جاء تراب أصفر أشد من الأول والزرع مبتل، فلصق بالزروع واستمر عليها. وقد خامر اليأس من الزروع قلوب الناس، وتيقنوا الهلاك، فتدارك الله الناس بلطفه، وبعث نداً كثيراً في الأسحار، فأنحل التراب عن أخره، ولما أدركت الغلال لحقها بعض الهيف.
وفيه قدم كثير من أهل دمشق للسعي من باب الوزير منجك في المباشرات، منهم ابن السلعوس، وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل، وابن عبد الحق، فولى ابن الأجل نظر الشام وتوجه إلى دمشق، فضربه الأمير أرغون شاه نائب الشام ضرباً مؤلماً، وأخذ خلعته، وكتب بسببه إلى مصر يغض منه؛ فرسم أن من طلب وظيفة بغير كتاب نائب الشام شنق وأخذ ماله.
وفيه استقر جمال الدين محمد بن زين الدين عبد الرحيم المسلاتي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر بعد وفاته.

وفي هذه السنة: استجد.بمدينة حلب قاض مالكي وقاض حنبلي، فولى قضاء المالكية بها شهاب الدين أحمد بن ياسين الرباحي، وولي قضاء الحنابلة بها شرف الدين أبو البركات موسى بن فياض ولم يكن بها قبل ذلك مالكي ولا حنبلي، فاكتمل بها أربعة قضاة.
وفيها كان الغلاء بأرض مصر والشام، حتى بيعت غرارة القمح في دمشق بثلاثمائة درهم؛ ثم أنحط السعر.
وفيها توقف النيل في أوائل أيام الزيادة، فارتفع سعر الغلال. ثم توالت الزيادة حتى كان الوفاء في رابع جمادى الأولى، وهو تاسع مسرى، وانتهت الزيادة إلى ستة عشر ذراعاً واثنين وعشرين إصبعاً. ثم تناقص النيل نحو سبع أصابع إلى عيد الصليب، فرد نقصه وزاد حتى بلغ سبعة عشر وخمس أصابع. هذا وسعر الغلة يتزايد إلى أن بلغ الأردب ستين درهم، ثم تناقص حتى بيع بعشرين درهما.
ومات فيها من الأعيان تقي الدين أحمد بن الجمال سليمان بن محمد بن هلال الدمشقي، بها في ليلة الجمعة سادس رجب. وقد ولي بدمشق وكالة بيت المال والحسبة وتوقيع الدست، ثم نظر النظار؛ وقدم القاهرة غير مرة.
ومات الأمير آقسنقر الناصرى مقتولا، في يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر وكان السلطان الناصر محمد قد اختص به، وزوجه ابنته، وجعله أمير شكار، ثم نائب غزة.وأعيد بعده في أيام الصالح إسماعيل في مصر، وعمل أمير آخور. ثم استقر في نيابة طرابلس مدة، وأحضر إلى مصر في أيام شعبان الكاملي، وعظم قدره ودبر الدولة في أيام المظفر حاجي حتى قتله. وكان كريماً شجاعاً، وإليه ينسب جامع آقسنقر بخط التبانة قريباً مكن القلعة.
ومات الأمير بيدمر البدري مقتولا بغزة، في أوائل جمادى الآخر. وهو أحد المماليك الناصرية، وولي نيابة حلب، واليه تنسب المدرسة الأيدمرية بالقاهرة قريباً من المشهد الحسيني.
وتوفي قاضى الحنفية بدمشق عماد الدين على بن محيى الدين أحمد بن عبد الواحد ابن عبد المنعم بن عبد الصمد الطرسوسي، عن تسع وسبعين سنة، بعدما ترك القضاء لولده وانقطع بداره.
ومات أمير علي بن الأمير قراسنقر.
وتوفي قاضى المالكية وشيخ الشيوخ بدمشق شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر عبد الوهاب الهمداني، في ثالث الحرم عن ثلاث وسبعين سنة.
وتوفي الحافظ شمس الدين بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي صاحب التصانيف الكثيرة في الحديث والتاريخ وغير ذلك، في ثالث ذي القعدة ومولده في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ومات الأمير الوزير نجم الدين بن علي بن شروين، المعروف بوزير بغداد، مقتولا بغزة في أوائل جمادى الآخر. قدم من بغداد إلى القاهرة، وولي الوزارة ثلاث مرات فشكرت سيرته، وعرف بالمكارم. وله خانكاه بالقرافة، بجوار تربة كافور الهندي.
ومات قوام الدين مسعود بن محمد بن سهل، الكرماني الحنفي بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة؛ وكان بارعاً في الفقه والنحو والأصول، وله شعر.
ومات الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر بن محمد بن الزيبق، بدمشق في سادس رجب؛ وتنقل في ولايات مصر والشام.
ومات أمير بني عقبة بدر الدين شطي بن عبية، ليلة عيد الأضحى؛ وأنعم على ولديه أحمد ونصير بإمرته.
ومات الأمير طرنطاى البشمقدار، في شعبان.
ومات الأمير ملكتمر الحجازي مقتولا، في تاسع عشر ربيع الآخر. وكان من مماليك شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد بن عمر الشهرزوري، فبذل له فيه السلطان الناصر محمد زيادة على مائة ألف درهم، حتى ابتاعه له منه المجد السلامي.بمكة، لما حج ابن الشهرزورى. وقدم به المجد السلامي إلى السلطان الناصر محمد فلم ير.بمصر أحسن منه ولا أظرف، فعرف بالحجازي، وحظى عند السلطان حتى زوجه بابنته، وكان مدمن الخمر مرتبه منه في كل يوم زنة خمسين رطلاً. لم تسمع منه كلمة فحش قط،، ولا توسط بسوء أبدا، مع سخاء النفس وعدم الشر.
ومات الأمير طغيتمر النجمي الدوادار، صاحب الخانكاه النجمية خارج باب المحروق.
ومات الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام قتلا، بقاقون وهو من المماليك الناصرية الذين شغف بهم السلطان الناصر محمد، وعمر له الدار العظيمة التي موضعها الآن مدرسة السلطان حسن، وولي نيابة حلب، ثم نيابة دمشق، وعمر بها الجامع المعروف بجامع يلبغا بسوق الخيل، و لم يكمله، فكمل بعد موته. وكان كريما، يبلغ إنعامه في كل سنة على مماليكه مائة وعشرين فرسا وثمانين حياصة ذهب

ومات إسماعيل وأولاده قتلا بالإسكندرية.
ومات الأمير أرغون العلائي أحد المماليك الناصرية. رقاه السلطان الملك الناصر محمد، وزوجه أم ابنيه شعبان وإسماعيل، وعمله لالا أولاده فدبر الدولة في أيام ربيبه الصالح إسماعيل، وشكرت سيرته، ثم قام بدولة شعبان الكامل حتى قتل، وإليه تنسب خانكاه العلائي بالقرافة. وكان كريما، ينعم في السنة. بمائتين وثلاثين فرسا، ومبلغ أربعين ألف دينار، على الأمراء، وغيرهم.
وقتل أيتمش عبد الغني، وتمر وقراجا، وصمغار.
وقتل بقلعة الجبل الأمير شجاع الدين غرلو، في خامس عشر جمادى الآخرة. وكان من أرمن قلعة الروم، ويدعى أنه جركسي الجنس. وقدم مصر، وخدم في جملة أوجاقية الأمير بهادر المغربي، وصار بعده أوجاقيا عند الأمير بكتمر الساقي، ثم عمله أمير آخور حتى مات بكتمر ثم خدم الأمير بشتاك، ثم تنكر عليه بشتاك، وضربه لتحامقه، وأخرجه فولى ولاية أشمون، ثم استقر في ولاية القاهرة، وانتقل إلى وظيفة شاد الدواوين، وأحدث مظالم كثيرة. وجمع الجراكسة على المظفر حاجي، لأنهم من جنسة وعظم في الدولة المظفرية حتى قتل كما تقدم.
وقتل السلطان المظفر حاجي في مدة أربعين يوماً أحداً وثلاثين أمير، منهم أحد عشر أمراء ألوف.
وقتل متملك تونس أبو حفص عمر بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حقص، في جمادى الآخرة؛ فكانت مدته نحواً من أحد عشر شهراً.وكان قد بويع أخوه العباس أحمد، في تاسع رمضان سنة سبع وأربعين، ثم قتل بعد سبعة أيام.
ومات الشيخ حسن بن النوين أرتنا ملك الروم، في شوال.
سنة تسع وأربعين وسبعمائةأهلت بيوم الثلاثاء، وهو الخامس من برمودة، والشمس في الدرجة التاسعة عشر من برج الحمل، أول برج فصل الربيع.
في يوم الثلاثاء أول المحرم: قدم الخبر بقتل إسماعيل الوافدي والي قوص، بعد فراره منها وقد جمع عليه عدة من الوافدية يريد تملك بلاد السوادن، فحاربوه وقتلوه ومن معه بأسرهم، وأخذوا منهم مالا كبيراً.
وفيه خلع على الأمير علاء الدين على بن الكوراني، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن أسندمر القلنجقى بعد موته - وأخرج ابن الكوراني من السجن أربعين مسجوناً وفعل بهم من القتل والقطع ما توجبه جرائمهم شرعاً.
وفيه قبض على الشيخ علي الكسيح نديم المظفر حاجي، وضرب بالمقارع والكسارات ضربا عظيما، وقلعت أضراسه وأسنانه شيئاً بعد شيء في عدة أيام، ونوع له العذاب أنواعاً حتى هلك. وكان شنع المنظر، له حدبة في ظهره وحدبة في صدره، كسيحاً لا يستطع القيام، إنما يحمل على ظهر غلامه. وكان يلوذ بألجيبغا المظفري وهو مملوك، فعرف به ألجيبغا الملك المظفر حاجي، فصار يضحكه. وصار المظفر يخرج عليه، ويعاقره الشراب، فتهبه الحظايا شيئاً كثيراً. ثم زوجه المظفر حاجي بإحدى حظاياه، وصار يسأله عن الناس، فينقل له أخبارهم على ما يريد، وداخله في قضاء الأشغال فخافه الأمراء وغيرهم خشية لستانه، وصانعوه بالمال حتى كثرت أمواله، بحيث أنه إذا دخل خزانة الخاص لابد أن يعطيه ناظر الخزانة منها شيئاً له قدر، ويدخل عليه الخاص حتى يقبله منه. وإذا دخل إلى النائب أرقطاى استعاذ من شره، ثم قام له وترحب به وسقاه مشروبا، وقضى شغله الذي جاء بسببه، وأعطاه ألف درهم من يده، واعتذر إليه فيقول للنائب: " ها أنا أدخل على ابني السلطان، فأعرفه أحسانك " . فلما زالت دولة المظفر حاجي عنى به ألجيبغا، إلى أن شكاه عبد العزيز العجمي - أحد أصحاب الأمير قراسنقر - على مال أخذه منه لما قبض عليه غرلو بعد قتل قراسنقر حتى خلصه منه فتذكره أهل الدولة، وسلموه إلى الوالي فعاقبه، واشتد عليه الوزير منجك حتى أهلكه.
وفيه رجمت العامة ابن الأطروش المحتسب. وسببه أن السعر لما تحسن بلغ الخبز ستة أرطال وسبعة أرطال بدرهم؛ عمل بعض الخبازين خبزا، ونادى عليه ثمانية أرطال بدرهم، فطلبه المحتسب وضربه، فثارت العامة به، ورجموا بابه حتى ركب الوالي وضرب منهم جماعة.

وفيه توحش ما بين الأمير شيخو والأمير بيبغا روس نائب السلطان. وسببه أن نفقة السلطان المائة درهم دخلت إليه على العادة، فطلب منه أحد المماليك ثلاثمائة درهم، فبعث إلى الأمير شيخو يطلب منه ذلك، فقال لقاصده: " أيش تعمل بالدراهم؛ وأيش له حاجة بها؛ وما ثم هذا الوقت شيء " . فعز عليه ذلك لما بلغه، وأرسل يطلب هذا المبلغ من النائب بيبغا روس، فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم. فقامت قيامة شيخو وأقام أياما لا يحدث النائب بيبغا روس، حتى دخل بينهما الوزير منجك، وسأل عن سبب الغضب على النائب. فقال له شيخو: " أنا ما كان عندي دراهم أسيرها للسلطان لكن حفظت ما اتفقنا عليه، فعمل النائب وجهه أبيض عند السلطان، وسود وجهي " ؛ فما زال به الوزير منجك حتى رضى.
وفيه قدم الخبر بوقوع الحرب بين سيف بن فضل وعمر بن موسى بن مهنا أسر فيها سيف، وقتل أخوه وجماعة من أصحابه.
وفيه توقف أمر الدولة على الوزير منجك فقطع ستين من السواقين ووفر لحمهم ومعلومهم وكسوتهم وعليقهم وقطع كثيراً من الركابين والنجابة، وقطع كثيراً من المباشرين، حتى وفر في كل يوم أحد عشر ألف درهم. وفتح ابن منجك باب المفايضات بالأخباز والنزولات عنها، وأخذ من ذلك مالا كثيراً وحكم على أخيه الأمير بيبغا روس النائب بتمشية هذا، فاشترى الإقطاعات كثير من العامة.
وفيه قدم خبر من طرابلس بأن قبرص وقع بها فناء عظيم، هلك فيه خلق كثير.
وفيه مات ثلاثة ملوك في شهر واحد، وأن جماعة منهم ركبوا البحر إلى بعض الجزائر، فهلكوا عن آخرهم.
وفي رابع عشريه: قدم الحاج.
وفي خامس عشريه: قبض على الطواشي عنبر السحرتي مقدم المماليك في الدولة المظفرية؛ وكان قد أخرج إلى المقدس، وحج منه بغير إذن، وقدم القاهرة. فأنكر عليه حجه بغير إذن، وأخذت أمواله؛ ثم أخرج إلى القدس.
وفي يوم الإثنين ثالث ربيع الأول: عزل الأمير منجك من الوزارة. وسبب ذلك أن علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص قدم من الاسكندرية بالحمل على العادة، فوقع الاتفاق على تفرقته في الأمراء، فحمل إلى الأمير بيبغا روس النائب منه ثلاثة آلاف دينار، وإلى الأمير شيخو ثلاثة آلاف دينار، ولجماعة من الأمراء كل واحد ألف دينار ولجماعة أخرى منهم كل أمير ألف دينار فامتنع شيخو من الأخذ، وقال: " أنا ما يحل لي أن أخذ من هذا شيئاً وقدم أيضاً حمل قطيا وهو مبلغ سبعين ألف درهم، وكانت قطيا قد أرصدت لنفقة المماليك فأخذ الوزير منجك من الحمل أربعين ألف، وزعم أنها كانت قرضاً في نفقة المماليك. فوقف المماليك إلى الأمير شيخو، وشكوا الوزير بسببها فحدث الأمير شيخو الوزير في الخدمة ليردها، فلم يفعل، وأخذ في الحط على ابن زنبور ناظر الخاص، وأنه يأكل المال جميعه، وطلب إضافة نظر الخاص له مع الوزارة والأستادرية. وألح منجك في ذلك عدة أيام، فمنعه شيخو من ذلك، وشد من أزر ابن زنبور، وقام بالمحاققة عنه، حتى غضب منجك بحضرة الأمراء في الخدمة. فمنع الأمير بيبغا روس النائب الوزير منجك من التحدث في الخاص، وانفض الجمع، وقد تنكر كل منهما على الآخر. فكثرت القالة بالركوب على النائب ومنجك حتى بلغهما ذلك، فطلب النائب الاعفاء من النيابة، وإخراج أخيه منجك من الوزارة، وأبدأ وأعاد حتى طال الكلام. ووقع الاتفاق على عزل منجك من الوزارة واستقراره أستادارا وشادا على عمل الجسور في النيل.
وفيه طلب الأمير أسندمر العمري المعروف برسلان بصل من كشف الجسور، ليتولى الوزارة. فخلع عليه في يوم الإثنين رابع عشريه خلعة الوزارة، و خرج إلى قاعة الصاحب، وجلس والموفق ناظر الدولة والمستوفون، وطلب جميع المشدين وأرباب الوظائف.
وفيه أخرج الأمير أحمد شاد الشربخاناه إلى نيابة صفد وسبب ذلك أنه كان قد كبر في نفسه، وقام مع المماليك على المظفر حتى قتل. ثم أخذ في تحريك الفتنة، واتفق مع ألجيبغا وطنبرق على الركوب. فبلغ الأمير بيبغا روس النائب الخبر، فطلب الإعفاء من النيابة وذكر ما بلغه. ورمى أحمد شاد الشرابخاناه بأنه صاحب فتن، ولابد من إخراجهم من بينهم؛ فطلب أحمد وخلع عليه، وأخرج من يومه.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشريه: اجتمع القضاة الأربعة والفقهاء وكثير من الأمراء بالجامع الحاكمي، وقرأوا القرآن ودعوا الله. ثم اجتمعوا ثانياً في عصر النهار، فبعث الله مطراً كثيراً.

وفي يوم الأربعاء سادس عشريه: أنعم على الأمير منجك بتقدمة أحمد شاد الشرابخلناه.
وفي يوم الخميس سابع عشريه: امتنع النائب من الركوب في الموكب، وأجاب بأنه ترك النيابة. فطلب إلى الخدمة، وسئل عن سبب تغيره، فذكر أن الأمراء المظفرية تريد إثارة الفتنة، وتبيت خيولهم في كل ليلة مشدودة، وقد اتفقوا على مسكه، وأشار لألجيبغا وطنيرق. فأنكرا ما ذكر عنهما، فحاققهما الأمير أرغون الكاملي أن ألجيبغا واعده بالأمس على الركوب في الغد إلى الموكب، ومسك بيبغا روس النائب والوزير منجك فعوتب ألجيبغا على هذا، فاعتذر بعذر لم يقبل منه، وظهر صدق ما رمي به؛ فخلع عليه بنيابة طرابلس، وعلى طينرق بإمرة في دمشق، وأخرجا من يومهما. فقام في حق طينرق صهره الأمير طشتمر طلليه حتى أعفي من السفر، وتوجه ألجيبغا لطرابلس، في ثاني ربيع الآخر بعدما أمهل أياما؛ فأقام الأمراء على حذر وقلق مدة أيام.
وكان ماء النيل قد نشف فيما بين مدينة مصر ومنشأة المهراني إلى زربية قوصون وفم الخور، وفيما بين الروضة والجزيرة الوسطى؛ وصار في أيام احتراق النيل رمالاً وكان قد ركب في الأيام الماضية جماعة من الأمراء والمهندسين ورؤساء المراكب للكشف عن ذلك، وقاسوا ما بين الجيزة والمقياس ليعملوه جسرا. فقال الريس يوسف: " ما يستد هذا البحر أبدا، ومتى ما سديتوه مال على الجيزة وأخربها " ورأى الأمير طقزدمر النائب أن عمل هذا الجسر يدفع قوة الماء إلى بر مصر وبولاق، ويخرب ما هناك من الأملاك. فقام الأمير ملكتمر الحجازي في شكر رجل عنده قد تكفل بسد ذلك، وقام الأمير طغيتمر النجمي بشكر رجل آخر. فرسم بإحضار الرجلين، ونزل النائب والوزير لعمل ذلك، وهما معهما فاستدعى صاحب الحجازي بالخشاب والصواري الكبار والحلفاء، وطلب مراكب لتملأ بالحجارة حتى يغرقها من جهة المقياس ويعمله سداً، ثم يرجع إلى السد الثاني فيسده بالتراب، وطلب الأبقار والجراريف فخالفه الآخر صاحب طغيتمر، وقال بل يسد من بستان الذهبي إلى رأس الجزيرة والتزم أنه لا يصرف عليه سوى أربعة آلاف درهم فسخر منه جميع من حضر، النائب كيف يكون هذا، فذكر أنه يسده بالحلفاء والخوص فعادوا إلى السلطان المظفر حاجي، فالتزم له أن يسد الجسر.مما تقدم ذكره، على أن يعطيه إقطاعاً، ويرتب له لحماً وعليقاً، وأن لم يسده شنقه السلطان.
فرسم للأمير أسندمر الكاشف ولشاد العمائر بالوقوف معه في العمل، فاستدعى الرجل بأخشاب وحلفاء وخوازيق، وطلب الرجال، وابتدأ العمل من موضع قليل الماء تجاه بستان الذهبي، ورمى فيه التراب والحلفاء ودكه بالرمال مدة أسبوع. وكلما سد موضعاً بالنهار قطعه الماء بالليل وعاد كما كان؛ فظهر جهله، وقصد السلطان تأديبه حتى شفع فيه النائب.
فقام صاحب الحجازي بالعمل، وكتب تقدير ما يحتاج إليه من صواري وأخشاب وغيرها مائة وخمسين ألف درهم، وذلك عن ثمن خمسمائة صاري، وألف حسنية وألف حجر عرض ذراعين في مثلها، وخمسة آلاف شنف وغير ذلك فرسم بجباية ذلك من الأملاك التي على شاطئ النيل من رأس الخليج إلى آخر بولاق، فاستخرج منها هو سبعين ألف درهم؛ وكان من انتقاض الدولة المظفرية ما كان.

فلما كان في سنة تسع وأربعين هذه وقع الكلام في ذلك، فأراد الأمير شيخو أن يكون عمله على الأمراء والأجناد وفلاحي البلاد، فلم يوافقه الأمير منجك، واحتج بقرب زيادة النيل، وأن الغلات قد تعطل حملها في النيل من النواحي لقلة الماء في مواضع الحمل، والتزم بعمله من غير أن يسخر فيه أحدا. فيكب الأمير بيبغا روس النائب والأمير شيخو والأمير منجك وعامة الأمراء إلى الجزيرة، وقاسوا منها إلى المقياس، ليعمل هناك جسر. فذكرت البحارة أن هذا الموضع لا يمكن سده لكثرة كلفه، وأنهم إن سدوه أضر ببلاد الجيزة، وقوى الماء على جهة مصر، وأضر وأتلف ما على النيل من الدور فسفه الأمير منجك رأيهم، ورد قولهم، والتزم للأمراء بسده. فعادوا وقدروا مصروفه على الأمراء والأجناد والكتاب وأصحاب الأملاك، وسائر الناس وكتب أوراق من ديوان الجيش بأسماء الأجناد والأمراء وعبر إقطاعاتهم. وفرض على كل مائة دينار درهم واحد، وفرض على كل أمير من أمراء الألوف ما بين أربعة آلاف درهم إلى خمسة آلاف درهم، وفرض على بقية الأمراء الطبلخاناه والعشرات بحسبهم. ورسم أن يؤخذ من كل كاتب أمير مقدم مبلغ مائتي درهم، ومن كل كاتب أمير طبلخاناه مائة درهم. وفرض على كل حانوت من حوانيت التجار والباعة درهم، وعلى كل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما درهمان، وعلى كل بستان عشرة دراهم الفدان، وبعضها أخذ منه عن كل فدان عشرون درهماً، وعلى كل حجر من حجارة الطواحين خمسة دراهم. وجبى من كل صهريج ماء بتربة أو مدرسة ما بين عشر دراهم إلى خمسة دراهم، ومن كل تربة ما بين ثلاثة دراهم إلى درهمين وضقعت الأملاك التي استجدت من الدور والبساتين وغيرها، فيما بين بولاق إلى كوم الريش ومنية السيرج، والأحكار التي عمزت على الخليج الناصري، وبركة الطوابين المعروفة ببركة الرطلى، وقنطرة الحاجب وأرض الطبالة، وجامع حكر أخي صاروحا وقيست كلها وأخذ عن كل ذراع خمسة عشر درهماً، وأخذ من أقمنة الطوابين والفواخير. وطلب مباشرو أوقاف الشافعي وأوقاف المدارس الصالحية والظاهرية والمارستان وسائر الأوقاف، وألزموا بمال. وكتب بطلب الرهبان من الديارات بالأعمال، وقرر على كل منهم ما بين المائتي درهم إلى المائة درهم، وأن يؤخذ عن كل نخلة ببلاد الصعيد درهم. وجبى من المتعيشين في القاهرة ومصر ما بين درهم كل واحد إلى عشرة دراهم، ومن كل قاعة ثلاثة دراهم، ومن كل طبقة درهمان، ومن كل مخزن أو اسطبل درهم، ومن كل فندق وخان بحسبه. وقرر على ضامنة المغاني خمسة آلاف درهم.
وعمل موضع المستخرج من الناس خان مسرور بالقاهرة، وشاد المستخرج الأمير تلك. وعمل لكل جهة من هذا الجهات شاد وكاتب، وعدة أعوان من الرسل وصيرفي.
فارتجت أحوال المدينتين وأعمالهما وبطلت الأسباب لسعى الناس فيما عليهم وتسلطت العرفاء والضمان وأصحاب الرباع والرسل على كل أحد، فلم يبق رجل ولا امرأة حتى جبوا منه، وكان الواحد منهم يغرم للرقاص والصيرفي والشاد، ويعطي أجرة الشهود الذين يشهدون عليه أنه قام.مما عليه.
وشرع منحك في جميع الأصناف المحتاج إليها، وضرب له خياماً على جانب النيل بالروضة. ونودي في الناس من أراد العمل فله درهم ونصف، وثلاثة أرغفة خبز؛ فاجتمع له خلائق، وعمل لهم موضعاً يستظلون فيه حر الشمس؛ ورفق منجك بهم في العمل. وأقام منجك عدة من الحجارين لقطع الحجارة من الجبل، ونقلها إلى الساحل، وحملها في المراكب لبر الجيزة، لعمل جسر من الجيزة إلى المقياس. ورتب منجك عمل جسر آخر من الروضة إلى الجزيرة الوسطى، وأقام الأخشاب بجانبي كل جسر منهما، وردم التراب والحجارة في وسطه مع الحلفاء، ورتب جمال السلطان لقطع الطين من بر الروضة ورميه بوسط الجسر؛ وأقام على كل جهة شادين ومستحثين. وأقام منجك الصارم شاد العمائر على العمل، ورسم ألا يتاخر عنه صانع، والزم تجار مصر وغيرهم بنقل التراب إلى الجسر؛ فكان الرجل منهم يغرم في نقل التراب ما بين الخمسمائة إلى آلاف درهم؛ ورميت عشر مراكب مملوءة حجارة في وسط جسر المقياس. ولم يزل العمل مدة أربعة أشهر، أولها مستهل المحرم وآخرها سلخ ربيع الآخر.

وكان منجك قد حفر أيضاً خليجاً تحت الدور من موردة الحلفاء إلى بولاق فلما زاد النيل جرى الماء فيه، ودخلته المراكب الصغار. ففرح الناس به، وسروا سرورا زائدا، ونسوا ما نزل بهم من الغرامة والمشقة.
غير أن الشناعة قامت على منجك، لكثرة ما جبى من الأموال العظيمة، حتى أراد بيبغا روس النائب منعه من ذلك، فلم يقبل منه، ولم يتم من العمل سوى ثلثيه وقويت الزيادة، فبطل العمل.
وكان القاع في هذه السنة أربعة أذرع، ونودي في أول الزيادة بإصبعين، ثم بعشر أصابع، ثم بخمسة عشر إصبعا، ثم بثمان، ثم بعشرين. ولم تزل الزيادة تقوى حتى غرقت المقاتي، والتقى البحر برأس الخليج الذي استجد فيه الماء. ثم علا الماء على الجسر، وكاد يقطعه.
فركب منجك ومعه والي الجيزة وخلائق من العامة والأمراء، وردمه بالتراب، فاندفع الماء إلى جهة الميدان وزربية قوصن. فكان قياس جسر الجزيرة الوسطى مائتي قصبة في عرض ثماني قصبات، وارتفاع أربع قصبات، وطول جسر المقياس مائتين وثلاثين قصبة، وعدة ما رمى فيه من المراكب الحجر اثنا عشر ألف مركب، سوى التراب والطين؛ وغرم عليه ما لا يمكن حصره. ويقال إنه جبى من الناس بسببه زيادة على ثلاثمائة ألف دينار، فإن الرجل كان يفرض عليه درهمان، فيغرم فيما تقدم ذكره عشرة دراهم.
وفي يوم الإثنين خامس عشر ربيع الآخر: أعيد الأمير منجك اٍ لى الوزارة، باستعفاء أسندمر العمرى، لتوقف أحوال الدولة.
وفيه أخرج من الأمراء المظفرية لاجين العلائى، وطيبغا المظفرى، ومنكلى بغا المظفرى وفُرقوا ببلاد الشام.
وفيه قدم من جهة أَولاد جوبان قاصد.بمال لعمارة عين جوبان بمكة، وإجراء الماء إليها وقد انقطع. فلم توافق الأمراء على ذلك، وعينوا فارس الدين قريب ال ملك لعمارتها، صحبة الرجبية. ورُسم لقاضى القضاة عز الدين بن جماعة بالإنفاق عليها من مال الحرمين فاًخذ فى الاهتمام للسفر.
وفيه خلع على أيتمش الناصرى الحاجب، واستقر أمير جاندار.
وفيه خلع على الأمير جركتمر، واستقر نائب الكرك، بعد وفاة تمربغا العقيلى وفيه قدمت هدية الأمير شاه نائب الشام وقوده، بزيادة عما جرت به العادة، وهى مائة وأربعون فرسًا بعبى تدممرية، فوقها أجلة أطلس، ومقاود سلاسلها فضة، ولواوين بحلق فضة، وأربعة قطر هجن سلاسل مقاردها الحرير من فضة وذهب، وأكوارها مغشاة بذهب، وأربعة كنافيش ذهب عليها ألقاب السلطان، وتعابى قماش مفتخر. و لم يدع الأمير أرغون شاه نائب الشام أحدَا من الأمراء المقدمين، ولا من أرباب الوظائف حتى الفراش ومقدم الاسطبل، ومقدم الطبلخاناه والطباخ، حتى بعث إليهم هدية. فخلع على مملوكه عدة خلع، وكُتب إليه بزيادة على اٍقطاعه، ورسم له بتفويض حكم الشام اٍليه، يعزل ويولى بحسب اختياره.
وفيه خلع على صدر الدين الكازاتى بمشيخة الشيوخ بخانكاه سرياقرس عرضاعن الركن الملطى. وكان هذا الرجل قد ورد اٍلى مصر، وأقام بها لا يؤبه له حتى نيابة بيبغا روس ووزارة منجك، فتردد إليهما، وأظهر التزهد ومعرفة العلم، وصنف كتابًا على مذهب الحنفية بالتركى، وقدمه لهما، فراج به عندهما، وكان قد تحرك للحنفية حظ مندْ أعوام. ثم سألهما صدر الدين هذا فى مشيخة الشيوخ، جْمع بيبغا روس النائب الشيخ شمس الدين محمد الأصفهانى وعامة صوفية الخوانك وشمايخها بجامع القلعة وعرفهما الأمير قبلاى الحاجب عن الأمير بيبغا روس النائب أن الركن الملطى له منذ غاب سبع سنين، وقد ثبتت عنده وفاته، وعين عوضه الكازاتى ة فأنكروا بأجمعهم ولايته، ووضعوا منه فشق ذلك على الأمير بيبغا روس النائب ورسم بحضورهم بعد العصر في الخدمة. فلما حضروا خلع بيبغا روس على الكازاتي، فلم يتكلم أحد منهم فنزل وهم معه.
وفيه أنعم على خليل بن قوصون بإمرة طبلخاناه، وعلى ابن المجدي بإمرة طبلخاناه أيضا.
وفي جمادى الأولى: ركب السلطان إلى الميدان على العادة، ثم خرج إلى ناحية سرياقوس في أول جماد الأولى، وأقام بها أياما. فكثر تسلط السراق على الناس، فوكل بهم الوزير منجك عرب بني صبرة بإقطاعات، وندبهم للركوب في الليل، ودركهم تلك الأراضي.
وفي مستهل رجب: جهز لعمارة عين جوبان من مال الحرمين مبلغ مائتي ألف درهم.

وفيه قدم الخبر بوقعة كانت بين الشيخ حسن وأولاد دمرداش، وانتصر فيها أولاد دمرادش، وقتلوا كثيراً من عسكر الشيخ حسن.
وفيه قدم أحمد بن مهنا، فخلع عليه، واستقر في إمرة العرب، وتوجه إلى بلاده وهو مريض وفيه أنعم على الأمير أسندمر العمري بإمرة كوكاى المنصوري، بعد موته؛ وأنعم بإمرة أسندمر على الأمير نوروز.
وفيه أخرجت ناحية بوصير عن الوزير منجك، وعوض عنها ناحية برما، وهي مثلا بوصير.
وفيه أوقعت الحوطة على بقية موجود عنبر السحرتي، بعد موته.
وفيه ولي الوزير مازان الغربيه، وولي ابن سلمان منوف عوضا عن مازان وولي صلاح الدين بن العنتابي البهنساوية، وكان جملة ما أخذ من المذكورين ستة آلاف دينار.
وفيه سار ركب الحجاج الرجبية على العادة.
وفيه أنعم على ابن الوزير منجك بإمرة مائة.
وفيه وفر إقطاع الأمير قشتمر شاد الدواوين، وأقطع المماليك، وأنعم عليه باقطاع الأمير جركتمر.
وفيه وفرت جوامك جماعة ورواتبهم.
وفيه قصد عدة من أطراف الناس باب الوزير للسعي في الوظائف.بمال، فلم يرد أحداً؛ وكثر طعن الأمراء فيه بسبب ذلك.
وفيه توجه الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه بألف عليقة.
وفيه توجه ببيغا روس النائب إلى العباسة، ثم توجه إلى الإسكندرية؛ فأنعم عليه من مالها بستة آلاف دينار، وأتته تقادم جليلة.
وفي هذا الأيام: كثر سقوط الدور التي على النيل، وذلك أن ماء النيل كثرت زيادته في ابتداء أوانها حتى غرقت المقاتى كما تقدم ذكره، إلى أن كان الوفاء في يوم الجمعة أول جمادى الأولى، وهو ثامن مسرى. ثم ولت زيادته، وتوقف أياماً؛ ثم نقص إلى يوم عيد الصليب حمس أصابع، فقلق الناس قلقا زائداً. فمن الله بزيادته حتى رد ما نقصه؛ وثبت على سبعة عشر ذراعا وثمان عشرة إصبعا. فشمل الري البلاد وانحط سعر الغلال. فلما أخذ ماء النيل في الهبوط تساقطت الدور المجاورة للماء شيئاً بعد شيء، ثم سقط أحد عشر بيتا بناحية بولاق دفعة واحدة من شدة القلقيلة، فإن الماء لما عمل الجسر الذي تقدم ذكره اندفع على ناحية بولاق، وقوى هناك حتى سقطت الدور المذكورة وسقط ما خلفها، وذهب فيها مال كبير للناس في الغرق ونهب الأوباش. ثم خرب ربع السنافي، وقطعة من ربع الخطيرى، وعدة دور.
وفيه كثرت الأخبار بوقوع الوباء في عامة أرض مصر، وتحسين جميع الأسعار، وكثرة أمراض الناس بالقاهرة ومصر؛ فخرج السلطان والأمراء إلى سرياقوس. فكثر الوباء حتى بلغ في شعبان عدد من يموت في كل يوم مائتي إنسان، فوقع الاتفاق على صوم السلطان شهر رمضان بسرياقوس.
وفيه قدم محضر ثابت على قاضى حلب بجماعة من القادمين إليها أنهم شاهدوا بواد في ناحية توريز أفاعي ذات خلق عظيم من الطول والضخامة، وقد اجتمع منها عدد كثير جداً. وصارت فرقتين، واقتتلت يوما كاملا حتى دخل الليل فافترقوا، ثم عادوا من الغد بكزة النهار إلى القتال، وأقاموا كذلك ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع قويت إحدى الفرقتين على الأخرى، وقتلت منها مقتلة عظيمة، وانهزم باقيها، فلم تدع في هزيمتها حجراً إلا قصمته، ولا شجراً إلا قلعته من أصله، ولا حيوانا إلا أتلفته؛ فكان منظراً مهولا.
وفيه قدم فياض بن مهنا بقوده، وفيه اثنان وسبعون فرسا، أقلها بعشرة آلاف درهم، وأوسطها بعشرين ألفا، وأغلاها بثلاثين ألفا، سوى الهجن وغيرها. وقدم صحبته أحمد ططر أمير بني كلاب، وندا أمير آل مرا؛ فأكرم ندا وأحمد ططر، وأعيدا إلى بلادهما؛ وقبض على فياض، وأخذت خيوله وما معه، وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه قدم الخبر بقتل الأمير صعبه كاشف الوجه القبلي، فيما بين عرك وبني هلال، وقتل كثير من أصحابه، وأخذ ما معهم. وشن العرب بعد قتله الغارات على البلاد، وأمعنوا في نهب الغلال وقطع الطرقات، وذلك بعد دخولهم سيوط ونهبها. فعين عشرة أمراء للتجريدة، ثم تأخر سفرهم خوفاً على الزرع وفي ثالث ذي الحجة: أخرج الأمير طشبغا الدوادار إلى الشام. وسببه مفاوضة جرت له مع علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر؛ أفضت به إلى أن أخذ بأطواق كاتب السر، ودخلا على الأمير شيخو كذلك. فأنكر شيخو عليه ذلك، وبقى بطالا، وعمل قطليجا الأرغوني دواداراً عوضه.
وفيه أنعم على جاورجي مملوك قوصون بإمرة عشرة، وعلى عرب بن ناصر الدين الشيخي بإمرة طبلخاناه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21