كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه تحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما بلغك ماقال صاحبكم ! قال: وأي صاحب يا رسول الله ! قال: عبد الله بن أبي، قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز ! ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه؛ فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
ثم متن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس.
ثم نزل بالناس؛ فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما؛ وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي.
ثم راح بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له نقعاء، فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع - وكان من عظماء يهود، وكهفاً للمنافقين - قد مات في ذلك اليوم.
ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه على مثل أمره، فقال: " إذا جاءك المنافقون " ، فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم فقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: خرجت مع عمي في غزاةٍ، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: " لا تنفقوا على من عند رسول الله " والله، " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ؛ فذكرت ذلك لعمى، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فحدثته، فأرسل إلى عبد الله وأصحابه، فحلفوا ما قالوا؛ قال: فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه، فأصابني همٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله ومقتك ! قال: حتى أنزل الله عز وجل: " إذا جاءك المنافقون " ، قال فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها، ثم قال: إن الله صدقك يا زيد.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه . فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي - فيما بلغك عنه - فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه؛ فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله؛ فأقتل مؤمناً بكافر أدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: كيف ترى يا عمر ! أما والله لو قتلته يوم ما أمرتني بقتله، لأرعدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
قال: وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلماً فيما ظهر، فقال: يا رسول الله، جئتك مسلماً وجئت أطلب دية أخي قتل خطأ. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ديه أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتداً، فقال في شعر:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم، فتحميني وطاء المضاجع

حللت به وترى، وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
تأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارغ
وقال مقيس بن صبابة أيضاً:
جللته ضربة باءت، لها وشلٌ ... من ناقع الجوف يعلوه وينصرم
فقلت والموت تغشاه أسرته ... لا تأمنن بني بكرٍ إذا ظلموا
وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكاً وابنه، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبياً كثيراً، ففشا قسمة في المسلمين؛ ومنهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس ابن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسها - وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحدٌ إلا أخذت بنفسه - فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها، وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك؛ فوقعت بالسهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جورية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
حديث الإفكحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك - كما حدثني أبي إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - حتى إذا كان قريباً من المدينة - وكانت معه عائشة في سفره ذلك - قال أهل الإفك فيها ما قالوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال الزهري: كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي حدثني القوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قال: وكل قد اجتمع حديثه في خبر قصة عائشة عن نفسها حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا :، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً، ويحدث بعضهم ما يحدث بعضٌ، وكل كان عنها ثقة، وكل قد حدث عنها بما سمع.

قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه كما كان يصنع؛ فخرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يبهجن اللحم فيثقلن. قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم اذن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري؛ فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل. قالت: فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه؛ وعرفت أن لو قد افتقدوني قد رجعوا إلي. قالت: فوالله إني لمضجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر؛ فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! أظعينة رسول الله ! وأنا متلففه في ثيابي. قال: ما خلفك رحمك الله ؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبي رحمك الله ! واستأخر عني. قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعير، فانطلق بي سريعاً يطلب الناس؛ فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس؛ فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك في ما قالوا. فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيء من ذلك؛ وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي؛ كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي؛ فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علي وأمي تمرضني، قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني ! قال: لا عليك ! قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة؛ وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن؛ فخرجت ليلةً لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر. قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح ! قالت: قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً ! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ! قالت: قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قالت: قلت: وقد كان هذا ! قالت: نعم والله لقد كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك ! تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك؛ ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ! قالت: أي بنية خفضي الشأن؛ فوالله قلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.

قالت: وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك. ثم قال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهن غير الحق ! والله ما علمت منهن إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً ! وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي. قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج؛ مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش - وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله، وأما حمنة بنت جحش، فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها زينب بنت جحش - فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيد بن حضير أخو بني عبد الأشهل: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك؛ فوالله إنهم لأهلٌ أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً - فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم ! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ! قال أسيد: كذبت لعمر الله ! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ! قالت: وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل علي، قالت: فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد؛ فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيرا؛ وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله؛ إن النساء لكثيرٌ؛ وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها. قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا؛ وهو يقول: اصدقي رسول الله؛ قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة؛ إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله.
ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار؛ وأنا أبكي وهي تبكي معي؛ فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة؛ إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله؛ وان كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده؛ قالت: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، تقلص دمعي؛ حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما. قالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في المساجد، ويصلى به، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا؛ فأما قرآن ينزل في، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان. قالت: قلت ألا تجيبان رسول الله ! قالت: فقالا لي : والله ما ندري بماذا نجيبه ! قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ! قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا؛ والله لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني؛ لأقولن ما لم يكن؛ ولئن أنا أنكرت ما تقولون لاتصدقونني. قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره؛ ولكني أقول كما قال أبو يوسف: " فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون " .

قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت؛ فوالله ما فزعت كثيرا ولا باليت؛ قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي؛ فوالذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه، ويقول: أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك، قالت: فقلت: بحمد الله وذمكم. ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في. ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى؛ وذلك الكذب؛ أكنت يا أم أيوب فاعلةً ذلك ! قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خيرٌ منك. قال: فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. " . الآية؛ وذلك حسان بن ثابت في أصحابه الذين قالوا ما قالوا.
ثم قال الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. " الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. ثم قال: " إذ تلقونه بألسنتكم ... " الآية. فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة، وأدخل علينا ما أدخل ! قالت: فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... " الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف حين بلغه ما يقول فيه؛ وقد كان حسان قال شعرا مع ذلك يعرض بابن المعطل فيه وبمن أسلم من العرب من مضر، فقال:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه ... أو كان منتشباً في برثن الأسد
ما لقتيلي الذي أغدو فآخذه ... من ديةٍ فيه يعطاها ولا قود
ما البحر حين تهب الريح شامية ... فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
يوما بأغلب مني حين تبصرني ... ملغيظ أفري كفري العارض البرد
فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه ثم قال - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق:
تلق ذباب السيف عني فإني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج، وثب على صفوان بن المعطل في ضربه حسان، فجمع يديه إلى عنقه، فانطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا ؟ قال: ألا أعجبك ضرب حسان بن ثابت بالسيف ! والله ما أراه إلا قد قتله. قال: فقال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت ؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت ! أطلق الرجل، فأطلقه. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك؛ فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام ! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي قد أصابك، قال: هي لك يا رسول الله.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحا - وهي قصر بني حديلة اليوم بالمدينة؛ كانت مالا لأبي طلحة بن سهل، تصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسان في ضربته - وأعطاه سيرين؛ أمةً قبطيةً، فولدت له عبد الرحمن بن حسان. قال: وكانت عائشة تقول: لقد سئل عن صفوان بن المعطل فوجدوه رجلا حصوراً ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الواحد ابن حمزة، أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء.
قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة من سنة ست معتمراً.
ذكر الخبر عن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم التي صده المشركون فيها عن البيت، وهي:
قصة الحديبيةحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر ابن ذر الهمداني، عن مجاهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمرٍ، كلها في ذي القعدة؛ يرجع في كلها إلى المدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا في ذي القعدة لا يريد حرباً، وقد استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب أن يخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا به أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثيرٌ من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا لهذا البيت، معظماً له.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم؛ أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل؛ كانت كل بدنة عن عشرة نفر.
وأما حديث ابن عبد الأعلى؛ فحدثنا عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة.
وحدثني يعقوب، قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن مبارك، قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في بضعة عشر ومائة من أصحابه ... ثم ذكر الحديث.
حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ونحن أربعة عشر ومائة.
حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري، قالا: حدثنا الليث بن سعد المصري، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، يقول: كنا يوم الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا أصحاب الحديبية أربعة عشر ومائة.
قال الزهري: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا؛ وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم.
قال أبو جعفر: وقد كان بعضهم يقول: إن خالد بن الوليد كان يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً.
ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى، وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا رسول الله، تدخل على قوم هم لك حربٌ بغير سلاح ولا كراع ! قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: يا خالد، هذا ابن عمك، قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - : يا رسول الله ارم بي حيث شئت. فبعثه على خيل، فلقى عكرمة في الشعب، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله تعالى فيه: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " - إلى قوله: " عذاباً أليماً " قال: وكف الله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؛ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين؛ وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش ! فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رجلاً من أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما أن خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس : قولوا : نستغفر الله ونتوب إليه . ففعلوا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار؛ على مهبط الحديبية من أسفل مكة. قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك في ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت ! فقال: ما خلأت، وما هو لها بخلقٍ؛ ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة؛ لا تدعوني قريش اليوم إلى خطةٍ يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا، فقيل: يا رسول الله ما بالوادي ما ننزل عليه ! فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عليه بعطن.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن رجلاً من أسلم حدثه، أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير ابن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال وأنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية ، قد ظننا أنه هو الذي نزل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعمت أسلم أن جاريةً من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية في القليب يميح على الناس، فقالت:
يأيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
وقال ناجية، وهو في القليب يميح الناس:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أني أنا المائح واسمى ناجيه
وطعنةٍ ذات رشاش واهيه ... طعنتها تحت صدور العاديه

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء؛ إنما يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه؛ فبيناهم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية؛ معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك لؤي وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا؛ وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره. فقال بديل: سنبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً؛ فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذو الراي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقام عروة بن مسعود الثقفي: فقال: أي قوم؛ ألستم بالوالد ! قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد ! قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني ؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ؛ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ! قالوا: بلى.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، في حديثه، قال: كان عروة بن مسعود لسبيعة بنت عبد شمس.
رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي نحواً من مقالته لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ! وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهاً وأوشاباً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال أبو بكر: امصص بظر اللات - واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون - أنحن نفر وندعه ! فقال: من هذا ؟ فقالوا:أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك؛ وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلكا كلمه أخذ بلحيته - والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا ؟ قالوا: المغيرة ابن شعبة، قال: أي غدر؛ ألست أسعى في غدرتك ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر، لا حاجة لنا فيه.
وإن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه. قال: فوالله إن يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده؛ وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه؛ وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي؛ والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على مضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم؛ وما يحدون النظر إليه تعظيماً له؛ وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته؛ فلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله قومٌ يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ! وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري؛ قال في حديثه: ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة - أو ابن زبان - وكان يومئذ سيد الأحابيش؛ وهو أحد بلحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض، الوادي في قلائده، قد أكل أو باره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت مالا يحل صده: الهدى في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله؛ قالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابيٌ لا علم لك.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم؛ أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له؛ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ماجاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ! قال: فقالوا له: مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال لهم: دعوني آته، قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا مكرز بن حفص؛ وهو رجل فاجر؛ فجاء فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
وقال أيوب عن عكرمة: إنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم.
فحدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن منصور - واللفظ لابن عمارة - قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس ابم سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفص بن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رآهم رسول الله فيهم سهيل بن عمرو، قال: سهل الله لكم من أمركم؛ القوم ماتون إليكم بأرحامكم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى، وأظهروا التلبية؛ لعل ذلك يلين قلوبهم.
فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية.
قال: فجاءوا فسألوه الصلح، قال: فبينما الناس قد توادعوا، وفي المسلمين ناس من المشركين، وفي المشركين ناس من المسلمين، قال: ففتك به أبو سفيان، قال: فإذا الوادي يسيل بالرجال والسلاح. قال إياس: قال سلمة: فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم، ما يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؛ فأتيت بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسلب ولم يقتل، وعفا.
وأما الحسن بن يحيى فإنه حدثنا قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أنه قال: لما اصطلحنا نحن وأهل مكة، أتيت الشجرة فكسحت شوكها؛ ثم اضطجعت في ظلها، فأتاني أربعة نفر من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبغضتهم. قال: فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم، ثم اضطجعوا؛ فبيناهم كذلك؛ إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين ! قتل ابن زنيم ! فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود؛ فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: فجئت بهم أقودهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له مكرز؛ يقوده مجففاً، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور، فعفا عنهم. قال: فأنزل الله عز وجل: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " .

رجع الحديث إلى حديث محمد بن عمارة ومحمد بن منصور، عن عبيد الله. قال سلمة: فشددنا على من في أيدي المشركين منا، فما تركنا في أيديهم منا رجلاً إلا استنقذناه. قال: وغلبنا على من في أيدينا منهم.
ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطباً فولوهم صلحهم، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام في صلحه.
حدثنا بشر بن معاذ؛ قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية، فرماه المشركون فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً، فأتوه باثنى عشر رجلاً فارساً من الكفار، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟ قالوا: لا، قال: فأرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله في ذلك القرآن: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " - إلى قوله: " بما تعملون بصيراً " .
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن قريشاً إنما بعثت سهيل بن عمرو بعد رسالة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلها إليهم مع عثمان بن عفان.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له الثعلب؛ ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله؛ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال حدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، أن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم - أو خمسين رجلاً - وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم - وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل - ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريشٍ ما جاء له؛ فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي؛ وليس بمكة من بنى عدي بن كعب أحد يمنعني؛ وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب؛ وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته .
فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة - أو قبل أن يدخلها - فنزل عن دابته، فحمله بين يديه، ثم ردفه وأجاره؛ حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به؛ قال: ماكنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل، قال: لا نبرح حتى نناجز القوم؛ ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.
حدثني ابن عمارة الأسدي، قال: حدثني عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، قال: قال سلمة بن الأكوع: بينما نحن قافلون من الحديبية، نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس؛ البيعة البيعة ! نزل روح القدس. قال: فسرنا إلى رسول الله وهو تحت الشجرة سمرة، قال: فبايعناه، قال: وذلك قول الله تعالى: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " .
حدثنا ابن حميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان رجلاً من بني أسد، يقال له:أبو سنان بن وهب.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أنهم كانوا يوم الحديبية أربعة عشر ومائة. قال: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير الجد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره.
قال جابر: بايعنا رسول الله على ألا نفر؛ ولم نبايعه على الموت.
وقد قيل في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرأبو عامر، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس للبيعة في أصل الشجرة، فبايعته في أول الناس، ثم بايع وبايع؛ حتى إذا كان في وسطٍ من الناس، قال: بايع يا سلمة، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس ! قال: وأيضاً؛ ورآني النبي صلى الله عليه وسلم أعزل، فأعطاني جحفة أو درقةً. قال: ثم إن رسول الله بايع الناس؛ حتى إذا كان في آخرهم، قال: ألا تبايع يا سلمة ! قلت: يا رسول الله؛ قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم ! قال: وأيضاً. قال: فبايعته الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الدرقة، والجحفة التي أعطيتك ؟ قلت: لقيني عمي عامر أعزل فأعطيته إياها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك كالذي قال الأول: اللهم ابغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد ابن قيس، أخو بني سلمة، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل.
قال إبن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقالوا: له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة أبداً.
قال: فأقبل سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبقى إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، اليس برسول الله ! قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين ! قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين ! قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ! قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا اشهد أنه رسول الله. قال: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله ! قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين ! قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين ! قال: بلى قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ! فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني. قال: فكان عمر يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به؛ حتى رجوت أن يكون خيراً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن علقمة ابن قيس النخعي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ثم دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: " باسمك اللهم " ، فقال رسول الله: اكتب " باسمك اللهم " ، فكتبتها. ثم قال: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم ترده عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال؛ وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه " - فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدها - " وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك؛ فأقمت بها ثلاثاً، وأن معك سلاح الراكب، السيوف في القرب لا تدخلها بغير هذا " .
فبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا أن يهلكوا - فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بلببه، فقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ! قال: صدقت، قال: فجعل ينتره بلببه، ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ! فزاد الناس ذلك شراً إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً؛ إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً، وأعطيناهم على ذلك عهداً، وأعطونا عهداً، وإنا لا نغدر بهم.
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل؛ فإنما هم المشركون؛ وإنما دم أحدهم دم كلب ! قال: ويدنى قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه.
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين، ورجالاً من المشركين: أبا بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بنى عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف - وهو مشرك - أخا بني عامر بن لؤي، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة.

حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، قالا جميعاً: حدثنا إسرائيل، قال: حدثناأبو إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة. فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى يقاضيهم على أن يقيم بها ثلاثة ايام. فلما كتب الكتاب كتب: " هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله " ، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك؛ ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، قال لعلي عليه السلام: امح " رسول الله " ، قال: لا والله لا أمحاك أبداً، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس يحسن يكتب - فكتب مكان رسول الله محمد فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد، ولا يدخل مكة بالسلاح إلا السيوف في القراب، ولا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ، ولا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها " . فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا علياً عليه السلام، فقالوا: له: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في قصة الحديبية: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضيته قال لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك ! اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك؛ وتدعو حالقك فيحلقك؛ فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم كلمة حتى فعل ذلك؛ نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا؛ وجعل بعضهم يلحق بعضاً؛ حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.
قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان الذي حلقه - فيما بلغني ذلك اليوم - خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجالٌ يوم الحديبية، وقصر آخرون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: يرحم الله المحلقين؛ قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟قال يرحم الله المحلقين ، قالوا : يا رسول الله : والمقصرين ؟ قال: والمقصرين؛ قالوا: يا رسول الله؛ فلم ظاهرت الترحم لمحلقين دون المقصرين ؟ قال: لأنهم لم يشكوا.
حدثنا ابن حميد: قال حدثنا سلمة، عن أبان بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل؛ في رأسه برة من فضة، ليغيظ المشركين بذلك.
رجع الحديث إلى حديث الزهري الذي ذكرنا قبل، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - زاد ابن حميد عن سلمة في حديثه، عن ابن إسحاق عن الزهري؛ قال: يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه؛ إنما كان القتال حيث التقى الناس - فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً فالتقوا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
وقالوا: جميعاً في حديثهم عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومروان: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، جاءه أبو بصير؛ - رجل من قريش - قال ابن إسحاق في حديثه :أبو بصير عتبة بن أسيد ابن جارية - وهو مسلمٌ، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم على رسول الله كتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم.

فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت؛ ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.
قال: فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة، جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ قال: نعم، قال: انظر إليه ؟ قال: إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، وخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله طالعاً، قال: إن هذا رجل قد رأى فزعاً؛ فلما انتهى إلى رسول الله قال: ويلك! أما لك! قال: قتل صاحبكم صاحبي؛ فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً السيف، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك، وأدي عنك، أسلمتني ورددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل امه مسعر حرب ! - وقال ابن إسحاق في حديثه: محش حرب - لو كان معه رجالٌ ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم.
قال :فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش الذي كانوا يأخذون إلى الشام.
وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: " ويل امه محش حرب لو كان معه رجال " ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص؛ وينفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير؛ فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم؛ فكانوا قد ضيقوا على قريش؛ فوالله ما يسمعون بعيرٍ خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم لما أرسل إليهم ! فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة: زاد ابن إسحاق في حديثه: فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري أسند ظهره إلى الكعبة، وقال: لا أؤخر ظهري عن الكعبة؛ حتى يودوا هذا الرجل؛ فقال أبو سفيان بن حرب: والله إن هذا لهو السفه ! والله لا يودى ! ثلاثاً.
وقال ابن عبد الأعلى ويعقوب في حديثهما: ثم جاءه - يعني رسول الله - نسوةٌ مؤمناتٌ، فأنزل الله عز وجل عليه: " يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ " - حتى بلغ: " بعصم الكوافر " .
قال: فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. قال: فنهاهم أن يردوهن، وأمرهم أن يردوا الصداق حينئذ.
قال رجل للزهري: أمن أجل الفروج ؟ قال: نعم، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
زاد ابن إسحاق في حديثه: وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة؛ فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة؛ حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية؛ فلم يفعل ،أبى الله عز وجل ذلك.
وقال أيضاً في حديثه: كان ممن طلق عمر بن الخطاب، طلق امرأتيه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ؛ وهما على شركهما بمكة، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبيد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، رجلٌ من قومها؛ وهما على شركهما بمكة.
وقال الواقدي: في هذه السنة - في شهر ربيع الآخر منها - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمر؛ فيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب؛ فأغذ السير، ونذر القوم به فهربوا، فنزل على مياههم وبعث الطلائع؛ فأصابوا عيناً فدلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فحدروها إلى المدينة.
قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة نفر في ربيع الأول منها، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه؛ فما شعروا إلا بالقوم؛ فقتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت محمد جريحاً.

قال الواقدي: وفيها أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر في أربعين رجلاً، فساروا ليلتهم مشاةً، ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا نعماً ورثة ورجلاً واحداً، فأسلم، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم، فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها حليمة؛ فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا بها نعماً وشاء وأسراء، وكان في أولئك الأسراء زوج حليمة، فلما قفل بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية زوجها ونفسها.
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلىالعيص في جمادى الأولى منها.
وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع؛ فاستجار بزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأجارته.
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف، في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً. قال: وغاب أربع ليال.
قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى حسمي في جمادى الآخرة.
قال: وكان أول ذلك - فيما حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر؛ وقد أجاز دحية بمال، وكساه كسى؛ فأقبل حتى كان بحسمي، فلقيه ناسٌ من جذام، فقطعوا عليه الطريق، فلم يترك معه شيء، فجاء إلى رسول الله قبل أن يدخل بيته فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي.
قال: وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح؛ أخت عاصم بن ثابت، فولدت له عاصم بن عمر؛ فطلقها عمر فتزوجها بعده يزيد بن جارية، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد؛ فهو أخو عاصم لأمه.
قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب.
قال: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان؛ وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم؛ فأسلم القوم، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ؛ وهي أم أبي سلمة؛ وكان أبوها رأسهم وملكهم.
قال: وفيها أجدب الناس جدباً شديداً، فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بالناس.
قال: وفيها سرية علي بن أبي طالب عليه السلام إلى فدك في شعبان.
قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عقبة، قال: خرج علي بن أبي طالب في مائة رجل إلى فدك، إلى حي من بني سعد بن بكر؛ وذلك أنه بلغ رسول الله أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر؛ فسار إليهم الليل وكمن النهار؛ وأصاب عيناً، فأقر لهم أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم ثمر خيبر.
قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة في شهر رمضان.
وفيها قتلت أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، قتلها قتلاً عنيفاً؛ ربط برجليها حبلاً ثم ربطها بين بعيرين حتى شقاها شقاً، وكانت عجوزاً كبيرةً.
وكان من قصتها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى وادي القرى؛ فلقى به بني فزارة؛ فأصيب به أناسٌ من أصحابه؛ وارتث زيد من بين القتلى، وأصيب فيها ورد ابن عمرو أحد بني سعد بن هذيم، أصابه أحد بني بدر؛ فلما قدم زيد نذر ألا يمس رأسه غسلٌ من جنابة حتى يغزو فزارة؛ فلما استبل من جراحه، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش إلى بني فزارة، فلقيهم بوادي القرى، فأصاب فيهم؛ وقتل قيس بن المسحر اليعمري مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، وأسر أم قرفة - وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، عجوزاً كبيرة - وبنتاً لها، وعبد الله بن مسعدة.
فأمر زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة؛ فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها.
ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة وبعبد الله بن مسعدة؛ وكانت ابنة أم قرفة لسلمة بن عمرو بن الأكوع؛ كان هو الذي أصابها، وكانت في بيت شرف من قومها، كانت العرب تقول: لو كنت أعز من أم قرفة ما زدت.
فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة، فوهبها له، فأهداها لخاله حزن بن أبي وهب، فولدت عبد الرحمن بن حزن.

وأما الرواية الأخرى عن سلمة بن الأكوع في هذه السرية، أن أميرها كان أبا بكر بن أبي قحافة؛ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أبا بكر؛ فغزونا ناساً من بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح، أمرنا أبو بكر فشننا الغارة عليهم.
قال: فوردنا الماء فقتلنا به من قتلنا. قال: فأبصرت عنقاً من الناس؛ وفيهم النساء والذراري قد كادوا يسبقون إلى الجبل، فطرحت سهماً بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر؛ وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب.
قال: فنفلني أبو بكر ابنتها، قال: فقدمت المدينة، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك ! هب لي المرأة ! فقلت: يا رسول الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً.
قال: فسكت عني حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك ! هب لي المرأة، فقلت: يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوباً، وهي لك يا رسول الله. قال: فبعث بها رسول الله إلى مكة؛ ففادى بها أسارى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. فهذه رواية عن سلمة.
قال محمد بن عمر: وفيها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل في شوال من سنة ست؛ وبعثه رسول الله في عشرين فارساً.
ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوكقال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل؛ فبعث ذي الحجة ستة نفر: ثلاثة مصطحبين، حاطب بن أبي بلتعة من لخم حليف بني أسد بن عبد العزى إلى المقوقس، وشجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة - حليفاً لحرب بن أمية شهد بدراً - إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ودحية ابن خليفة الكلبي إلى قيصر.
وبعث سليط بن عمرو العامري عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي. وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى.وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي .
وأما ابن أسحاق، فإنه - فيما زعم، وحدثنا به ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق رجالاً من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم، دعاةً إلى الله عز وجل فيما بين الحديبية ووفاته.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب المصري، أنه وجد كتاباً فيه تسمية من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الخائبين، وما قال لأصحابه حين بعثهم، فبعث به إلى ابن شهاب الزهري، مع ثقة من أهل بلدة فعرفه.
وفي الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات غداة، فقال لهم: إني بعثت رحمةً وكافة؛ فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي كاختلاف الحواريين على عيسى بن مريم، قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم ؟ قال: دعا إلى مثل ما دعوتكم إليه، فأما من قرب به فأحب وسلم، وأما من بعد به فكره وأبى؛ فشكا ذلك منهم عيسى إلى الله عز وجل، فأصبحوا من ليلتهم تلك؛ وكل رجل منهم يتلكم بلغة القوم الذين بعث إليهم. فقال عيسى: هذا أمرٌ قد عزم الله لكم عليه؛ فامضوا.
قال ابن إسحاق: ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه؛ فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي، صاحب اليمامة.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي وعباد بن جلندي الأزديين صاحبي عمان.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فأدى إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبي ثم الخزجي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم؛ فلما أتاه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر فيه ثم جعله بين فخذيه وخاصرته.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله ابن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: كنا قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا؛ فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله، لم نأمن ألا نجد أمناً؛ فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشأم؛ وكان وجه متجرنا منها غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس، وأخرجهم منها، وانتزع له منهم صليبه الأعظم؛ وكانوا قد استلبوه إياه، فلما بلغ ذلك منهم، وبلغه أن صليبه قد استنقذ له - وكانت حمص منزله - خرج منها يمشي على قدميه متشكراً لله حين رد عليه مارد، ليصلي في بيت المقدس، تبسط له البسط، وتلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إبلياء وقضى فيها صلاته، ومعه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غداة مهموماً يقلب طرفه إلى السماء، فقال له بطارقته: والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهموماً. قال: أجل، أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهرٌ ! قالوا له :أيها الملك، ما نعلم أمةً تختتن إلا يهود، وهم في سلطانك وتحت يدك؛ فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك، فمره فليضرب أعناق كل من تحت يديه من يهود، واسترح من هذا الهم، فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه؛ إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب، يقوده - وكانت الملوك تهادى الأخبار بينها - فقال: أيها الملك، إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر حدث ببلاده عجب، فسله عنه.
فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لترجمانه: سله، ما كان هذا الحدث الذي ببلاده ؟ فسأله فقال: خرج بين أظهرنا رجلٌ يزعم أنه نبي، قد اتبعه ناسٌ وصدقوه، وخالفه ناس؛ وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، فتركتهم على ذلك.
قال: فلما أخبره الخبر قال: جردوه، فجردوه، فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا والله الذي رأيت؛ لا ما تقولون، أعطوه ثوبه، انطلق عنا.
ثم دعا صاحب شرطته، فقال له: قلب لي الشأم ظهراً وبطناً؛ حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سفيان : فوالله إنا لبغزة. إذ هجم علينا صاحب شرطته؛ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز ؟ قلنا: نعم، قال: انطلقوا بنا إلى الملك؛ فانطلقنا؛ فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل ؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمس به رحماً ؟ قلت: أنا.
قال أبو سفيان: وايم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الأغلف - يعني هرقل - فقال: ادنه فأقعدني بين يديه، وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إني سأسأله؛ فإن كذب فردوا عليه؛ فوالله لو كذبت ما رودوا علي، ولكني كنت أمراً سيداً أتكرم عن الكذب؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك علي؛ ثم يحدثوا به عني؛ فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي ! فقال: فجعلت أزهد له شأنه، وأصغر له أمره؛ وأقول له: أيها الملك، ما يهمك من أمره! إن شأنه دون ما يبلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه.
قلت: سل عما بدا لك؛ قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت: محضٌ؛ أوسطنا نسباً.
قال: فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبه به ؟ قلت: لا، قال: فهل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟ قلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه منكم، من هم ؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من العلمان والنساء، وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه، فلم يتبعه منهم أحدٌ.

قال: فأخبرني عمن تبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه ؟ قال: قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال: قلت: سجالٌ يدال علينا وندال عليه؛ قال: فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئاً مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها: قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فوالله ما التفت إليها مني، ثم كر على الحديث. قال: سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ، من أوسطكم نسباً؛ وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه؛ لا يأخذ إلا من أوسط قومه نسباً. وسألتك: هل كان أحدٌ من أهل بيته يقول بقوله؛ فهو يتشبه به؛ فزعمت أن لا؛ وسألتك: هل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه؛ فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء؛ وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه ؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحدٌ فيفارقه؛ وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك: هل يغدر ؟ فزعمت أن لا؛ فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين؛ ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك.
قال: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى؛ وأقول: أي عباد الله؛ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام ! قال: وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ وإن تتول فإن إثم الأكارين عليك - يعني تحماله .
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: أخبرني أبو سفيان ابن حرب، قال: لما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، خرجت تاجراً إلى الشام. ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، إلا أنه زاد في آخره: قال: فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: قال ابن شهاب الزهري: حدثني أسقفٌ للنصارى أدركته في زمان عبد الملك بن مروان، أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر هرقل وعقله، قال: فلما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة، أخذه هرقل، فجعله بين فخذيه وخاصرته.
ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرءونه؛ يذكر له أمره، ويصف له شأنه، ويخبره بما جاء منه؛ فكتب إليه صاحب رومية: إنه للنبي الذي كنا ننتظره؛ لا شك فيه؛ فاتبعه وصدقه.
فأمر هرقل ببطارقة الروم؛ فجمعوا له في دسكرة، وأمر بها فأشرجت أبوابها عليهم؛ ثم اطلع عليهم من علية له؛ وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم؛ إنني قد جمعتكم لخير؛ إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا؛ فهلموا فلنتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
قال: فنخروا نخرة رجل واحد؛ ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قد أغلقت، فقال: كروهم علي - وخافهم على نفسه - فقال: يا معشر الروم؛ إني قد قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث؛ وقد رأيت منكم الذي أسر به؛ فوقعوا له سجداً؛ وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم؛ فانطلقوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن هرقل قال لدحية بن خليفة حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ! والله إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل؛ وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا؛ ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم؛ فهو والله أعظم في الروم منى، وأجوز قولا عندهم منى؛ فانظر ما يقول لك.
قال: فجاءه دحية؛ فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبي مرسل؛ نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه.

ثم دخل فألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثيابا بيضا، ثم أخذ عصاه؛ فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم؛ إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد؛ يدعونا فيه إلى الله عز وجل؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه. فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا؛ فصغاطر - والله - كان أعظم عندهم وأجوز قولاً مني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام ، قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشأم إلى القسطنطينة ، لما بلغه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع الروم، فقال: يا معشر الروم؛ إني عارضٌ عليكم أموراً، فانظروا فيهم قد أردتها ! قالوا: ما هي ؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسلٌ؛ إنا نجده في كتابنا نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فقالوا: نحن نكون تحت يدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكاً، وأكثرهم رجالاً، وأفضلهم بلداً ! قال: فهلم فأعطيه الجزية في كل سنة، اكسروا عني شوكته وأستريح من حربه بمال أعطيه إياه، قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار، بخرجٍ يأخذونه منا؛ ونحن أكثر الناس عدداً، وأعظمهم ملكاً، وأمنعهم بلداً؛ لا والله لا نفعل هذا أبداً.
قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام - قال: وكانت أرض سورية أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص ومادون الدرب من أرض سورية؛ وكان ما وراء الدرب عندهم الشام - فقالو له: نحن نعطيه أرض سورية؛ وقد عرفت أنها سرة الشام؛ والله لا نفعل هذا أبداً.
فلما أبوا عليه، قال: أما والله لترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم. ثم جلس على بغل له؛ فأنطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام، ثم قال: السلام عليكم أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني؛ صاحب دمشق .
وقال محمد بن عمر الواقدي: وكتب إليه معه: سلام على من اتبع الهدى وآمن به. إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك.
فقدم به شجاع بن وهب، فقرأه عليهم، فقال: من ينزع منى ملكي ! أنا سائر إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: باد ملكه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شان جعفر بن أبي طالب وأصحابه؛ وكتب معه كتاباً.
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلمٌ أنت؛ فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن؛ وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى؛فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له؛ والموالاة على طاعته؛ وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ونفراً معه من المسلمين؛ فإذا جاءك فأقرهم، ودع التجبر؛ فإني أدعوك وجنودك إلى الله؛ فقد بلغت ونصحت؛ فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد؛ فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً؛ إنه كما قلت؛ وقد عرفت ما بعثت به إلينا؛ وقد قرينا ابن عمك وأصحابه؛ فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقا؛ وقد بايعتك وبايعت ابن عمك؛ وأسلمت على يديه لله رب العالمين؛ وقد بعثت إليك با بني أرها بن الأصحم ابن أبجر؛ فإني لا أملك إلا نفسي؛ وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله؛ فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله.

قال ابن إسحاق: وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة؛ فإذ كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم، فهلكوا.
وحدثت عن محمد بن عمر، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة ليخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها جارية له يقال لها أبرهة؛ فأعطتها أوضاحاً لها وفتخاً؛ سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشي بأربعمائة دينار صداقها؛ فدفعها إلى خالد بن سعيد؛ فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك؛ وليس بيدي شىء، وقد جاء الله عز وجل بهذا.
فقالت أبرهة: قد أمرني الملك ألا آخذ منك شيئا؛ وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمداً رسول الله وآمنت به؛ وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام.
قالت: نعم؛ وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكره.
قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين؛ وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة؛ فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله؛ فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي؛ وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها؛ ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.
وفيها كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وبعث الكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي؛ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله؛ وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا؛ أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس.
فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: مزق ملكه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب، قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس؛ سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمدا عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله؛ فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت؛ فإن إثم المجوس عليك.
فلما قرأه مزقه، وقال: يكتب إلى هذا وهو عبدي ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عبد الله بن حذافة قدم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كسرى، فلما قرأه شقه، فقال رسول الله: مزق ملكه ! حين بلغه أنه شق كتابه.
ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبي حبيب. قال: ثم كتب كسرى إلى باذان؛ وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به؛ فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه - وكان كاتباً حاسباً بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خر خسره، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل، وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا؛ وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل !

فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى اللعه عليه وسلم، فكلمه بابويه، فقال: إن شاهانشاه ملك الملوك كسرى؛ قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك؛ وقد بعثني إليك لتنطلق معي؛ فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ينفعك ويكفه عنك؛ وإن أبيت فهو من قد علمت ! فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك؛ ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما؛ فكره النظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما ! من أمركما بهذا ؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله: لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غداً، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه؛ فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا من الليل؛ بعد ما مضى من الليل؛ سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
- قال الواقدي: قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها - رجع الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب. فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول ! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا؛ أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك ! قال: نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر؛ وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك؛ وملكتك على قومك من الأبناء؛ ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول؛ ولننظرن ما قد قال؛ فلئن كان هذا حقا ما فيه كلامٌ؛ إنه لنبي مرسلٌ؛ وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه؛ أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضباً لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم؛ فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك؛ وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسولٌ. فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن؛ فكانت حمير تقول لخرخسره: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم - والمنطقة بلسان حمير المعجزة - فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسره ذو المعجزة.
وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلاً قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرطٌ ؟ قال: لا.
قال الواقدي: وفيها كتب إلى المقوقس عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
قال أبو جعفر: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
قال: و ولى الحج في تلك السنة المشركون.
الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الأحداث الكائنة في سنة سبع من الهجرة
غزوة خيبر
ثم دخلت سنة سبع؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم إلى خبير وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، فمضى حتى نزل بجيشه بواد يقال له الرجيع؛ فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان - فيما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر؛ وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، جمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه؛ حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهاليهم حساً؛ ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم؛ فأقاموا في أهاليهم وأموالهم؛ وخلوا بين رسول الله وبين خيبر، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأموال يأخذها مالاً مالا، ويفتتحها حصناً حصناً؛ فكان أول حصونهم أفتتح حصن ناعم؛ وعنده قتل محمود بن مسلمة؛ ألقيت عليه رحاً منه فقتلته؛ ثم القموص؛ حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا؛ منهم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ وابنتي عم لها. فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية الكلبي قد سأل رسول الله صفية؛ فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها؛ وفشت السبايا من خيبر في المسلمين .
قال: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أنه حدثه بعض أسلم؛ أن بني سهم من أسلم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله؛ والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء؛ فلم يجدوا عند رسول الله شيئاً يعطيهم إياه، فقال النبي: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة؛ وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه؛ فافتح عليهم أعظم حصونها ؛ وأكثرها طعاماً وودكاً. فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ؛ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه.
قال: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما أفتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم - وكان آخر حصون خيبر أفتتح - حاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة .
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل أخي بني حارثة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج مرحب اليهودي من حصنهم؛ قد جمع سلاحه وهو يرتجز؛ ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب
كان حماي، للحمى لا يقرب
وهو يقول: هل من مبارز! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا؟ فقام محمد بن مسلمة؛ فقال: أنا له يا رسول الله؛ أنا والله الموتور الثائر؛ قتلوا أخي بالأمس! قال: فقم إليه؛ اللهم أعنه عليه.
فلما أن دنا كل واحد منهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر ؛ فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه؛ فكلما لاذ بها أقتطع بسيفه منها ما دونه منها؛ حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما بينهما فنن؛ ثم حمل مرحب على محمد فضربه؛ فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها؛ فعضت به فأمسكته، وضربه محمد أبن مسلمة حتى قتله .
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني ياسر ... شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر ... وأحجمت عن صولتي المغاور
إن حماي فيه موت حاضر
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد أبن إسحاق، عن هشام بن عروة؛ أن الزبير بن العوام خرج إلى ياسر، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل أبني يا رسول الله؟ قال: بل أبنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير وهو يقول:
قد علمت خيبر أني زبار ... قرم لقوم غير نكس فرار
ابن حماة المجد وأبن الأخيار ... ياسر لا يغررك جمع الكفار
فجمعهم مثل السراب الجرار
ثم ألتقيا فقتله الزبير.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، أن عبد الله بن بريدة حدث عن بريدة الأسلمي، قال: لما كان حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصن أهل خيبر، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس؛ فلقوا أهل خيبر؛ فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يجبنه أصحابه ويجبنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فلما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر؛ فدعا علياً عليه السلام وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللواء؛ ونهض معه من الناس من نهض. قال: فلقي أهل خيبر؛ فإذا مرحب يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب
فأختلف هو وعلى ضربتين، فضربه على على هامته؛ حتى عض السيف منها بأضراسه ؛ وسمع أهل العسكر صوت ضربته ؛ فما تتام آخر الناس مع على عليه السلام حتى فتح الله له ولهم.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا المسيب بن مسلم الأودي، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة ، فيلبث اليوم واليومين لا يخرج. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس. وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله؛ ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً؛ ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول؛ ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله، فقال: أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة - قال: وليس ثم على عليه السلام - فتطاولت لها قريش، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك؛ فأصبح فجاء علي عليه السلام على بعير له، حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أرمد، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: رمدت بعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدن منى، فدنا فتفل في عينيه، فما وجعهما حتى مضى لسبيله. ثم أعطاه الراية؛ فنهض بها معه وعليه حلة أرجوان حمراء قد أخرج خملها . فأتى مدينة خيبر؛ وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر يمان، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي عليه السلام:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السندره
ليث بغابات شديد قسوره
فأختلفا ضربتين؛ فبدره علي فضربه، فقد الحجر والمفغر ورأسه؛ حتى وقع في الأضراس. وأخذ المدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الحسن؛ عن بعض أهله، عن أبي رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته؛ فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله؛ فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده؛ فتناول علي رضي الله عنه باباً كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل؛ حتى فتح الله عليه؛ ثم ألقاه من يده حين فرغ؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص، حصن ابن أبي الحقيق، أتى رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها؛ فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلي من قتلي يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله قال: أغربوا عني هذه الشيطانة؛ وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقي عليها رداؤه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - فيما بلغني - حين رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال؛ حيث تمر بامرأتين على قتلي رجالهما! وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ أن قمراً وقع في حجرها؛ فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمداً، فلطم وجهها لطمة أخضرت عينها منها؛ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها، فسألها: ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق - وكان عنده كنز بني النضير - فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من يهود؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت؛ فأخرج منها بعض كنزهم؛ ثم سأله ما بقي. فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده؛ فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه؛ ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم، الوطيح والسلالم؛ حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم؛ ففعل. وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتبية؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم لهم، ويخلوا له الأموال أففعل، وكان فيمن مشى بينهم وبين رسول الله في ذلك محيصة بن مسعود؛ أخوبني حارثة؛ فلما نزل أهل خيبر على ذلك؛ سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم؛ وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف؛ على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم؛ وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية ؛ وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله؟ فقيل لها: الذراع؛ فأكثرت فيها السم، فسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع؛ فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها؛ ومعه بشر بن البراء أبن معرور؛ وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله، فأما بشر فأساغها؛ وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم؛ ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبياً فسيخبر؛ وإن كان ملكاً استرحت منه؛ فتجاوز عنها النبي صلى الله عليه وسلم. ومات بشر بن البراء من إكلته التي أكل .
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق؛ عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلي، قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر؛ إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أبنك بخيبر.
قال: وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أنصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي، ثم أنصرف راجعاً إلى المدينة.

ذكر غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ثور ابن زيد، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة، قال: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، نزلنا أصلاً مع مغارب الشمس، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام له ؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبيبي ؛ فو الله إنا لنضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب ؛ فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئاً له الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن شملته الآن لتحرق عليه في النار. قال: وكان غلها من فئ المسلمين يوم خيبر.
قال: فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لي، قال: فقال: يقد لك مثلهما من النار .
وفي هذه السفرة نام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: لما أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ وكان ببعض الطريق، قال من آخر الليل: من رجل يحفظ علينا الفجر، لعلنا ننام؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله أحفظ لك؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الناس فناموا؛ وقام بلال يصلي، فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم أستند إلى بعيره؛ وأستقبل الفجر يرمقه؛ فغلبته عينه، فنام فلم يوقظهم إلا مس الشمس ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أصحابه هب من نومه، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال! فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قا : صدقت. ثم أقتاد رسول الله غير كثير، ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بالناس، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: " وأقم الصلاة لذكري " .
قال ابن إسحاق: وكان فتح خيبر في صفر.
قال: وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمين، فرضخ لهن رسول الله من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.
أمر الحجاج بن علاط السلمي قال : ولما فتحت خيبر قال الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ؛ إن لي مالاً بمكة عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج - ومال متفرق في تجار أهل مكة، فأذن لي يا رسول الله. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنه لا بد لي من أن أقول، قال: قل، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، فوجدت بثينة البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفاً ومنعه ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار؛ فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر! أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر؛ وهي بلدة يهود وريف الحجاز. قال: قلت: قد بلغني ذلك، وعندي من الخبر ما يسركم. قال: فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط؛ وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسراً، وقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي؛ فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.

قال: فقاموا فجمعوا مالي كأحث جمع سمعت به. فجئت صاحبتي فقلت: مالي - وقد كان لي عندها مال موصوع - لعلي ألحق بخيبر؛ فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني إليه التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي؛ وأنا في خيمة من خيام التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم، قلت: فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى؛ فأنصرف عني حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج، لقيت العباس، فقلت: أحفظ على حديثي يا أبا الفضل؛ فإني أخشى الطلب ثلاثاً، ثم قل ما شئت. قال: أفعل، قال: قلت فإني والله لقد تركت أبن أخيك عروساً على ابنة ملكهم - يعني صفية بنت حي أبن أخطب ولقد أفتتح خيبر، وأنتثل ما فيها؛ وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟؟؟؟؟؟! قال: قلت: إي والله؛ فأكتم على؛ ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقاً من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك؛ فهو والله على ما تحب. قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها؛ فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل؛ هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والذي حلفتم به! لقد أفتتح محمد خيبر، وترك عروساً على ابنة ملكهم، وأحرز أموالها وما فيها؛ فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم به؛ لقد دخل عليكم مسلماً، وأخذ ماله وأنطلق ليلحق برسول الله وأصحابه فيكون معه، قالوا: يال عباد الله! أفلت عدو الله! أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك ذكر مقاسم خيبر وأموالها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: كانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة؛ فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله عز وجل وخمس النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل، وطعم أزواج النبي، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك بالصلح؛ منهم محيصة أبن مسعود، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثين وسق شعير، وثلاثين وسق تمر. وقسمت خيبر على أهل الحديبية؛ من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها.
قال: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر؛ فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف ، وإما بعد ما قدم المدينة. فقبل ذلك منهم؛ فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهود، فيخرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم؛ وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض.
وإنما خرص عليهم عبد الله بن رواحة؛ ثم أصيب بمؤتة، فكان جبار بن صخر بن خنساء، أخو بني سلمة؛ هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأساً في معاملتهم؛ حتى عدوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن سهل، أخي بني حارثة؛ فقتلوه، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سألت أبن شهاب الزهري: كيف كان إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخيلهم حين أعطاهم النخل على خرجها؟ أبت ذلك لهم حتى فبض، أم أعطاهم إياها لضرورة من غير ذلك؟

فأخبرني أبن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتتح خيبر عنوة بعد القتال؛ وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله؛ خمسها رسول الله وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الإجلاء بعد القتال؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن شئتم دفعنا إليكم هذه الأموال على أن تعلموها؛ وتكون ثمارها بيننا وبينكم؛ وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا ، فكانوا على ذلك يعملونها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الحرص؛ فلما توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أقرها أبو بكر بعد النبي في أيديهم على المعاملة التي كان عاملهم عليها رسول الله حتى توفى، ثم أقرها عمر صدراً من إمارته؛ ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبض فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود أن الله قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له؛ ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء؛ فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .
قال أبو جعفر: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال الواقدي: في هذه السنة رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أبنته على أبي العاص بن الربيع؛ وذلك في المحرم.
قال: وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس بمارية وأختها سيرين وبغلته دلدل وحماره يعفور وكساً؛ وبعث معهما بخصي فكان معهما، وكان حاطب قد دعاهما إلى الإسلام قبل أن يقدم بهما ؛ فأسلمت هي وأختها، فأنزلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سليم بنت ملحان - وكانت مارية وضيئة - قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأختها سيرين إلى حسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
قال: وفي هذه السنة أتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبره الذي كان يخطب الناس عليه، وأتخذ درجتين ومقعده.
قال: ويقال إنه عمل في سنة ثمان. قال: وهو الثبت عندنا.
قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة، فخرج بدليل له من بني هلال؛ وكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا؛ فلم يلق كيداً، ورجع.
قال: وفيها سرية أبي بكر بن أبي قحافة في شعبان إلى نجد؛ قال سلمة أبن الأكوع: غزونا مع أبي بكر في تلك السنة.
قال أبو جعفر: قد مضى خبرها قبل.
قال الواقدي: وفيها سرية بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك في شعبان في ثلاثين رجلاً، فأصيب أصحابه وأرتث في القتلي، ثم رجع إلى المدينة.
قال أبو جعفر: وفيها سرية غالب بن عبد الله في شهر رمضان إلى الميفعة؛ فحدثنا أبن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب ابن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفاً لهم من الحرقة من جهينة؛ قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار.
قال أسامة: لما غشيناه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فلم ننزع عنه حتى قتلناه؛ فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه الخبر؛ فقال: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله! قال الواقدي: وفيها سرية غالب بن عبد الله إلى بني عبد بن ثعلبة؛ ذكر أن عبد الله بن جعفر حدثه عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: قال يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ إني أعلم غرة من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معه غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلاً؛ حتى أغاروا على بني عبد، فأستاقوا النعم والشاء، وحدروها إلى المدينة.

قال: وفيها سرية بشير بن سعد إلى يمن وجناب، في شوال من سنة سبع، ذكر أن يحيى بن عبد العزيز بن سعيد حدثه عن سعد بن عبادة، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: الذي أهاج هذه السرية أن حسيل بن نويرة الأشجعي - وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر - قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما وراءك؟ قال: تركت جمعاً من غطفان بالجناب قد بعث إليهم عيينة بن حصن ليسيروا إليكم، فدعا رسول الله بشير بن سعد، وخرج معه الدليل حسيل بن نويرة، فأصابوا نعماً وشاءً؛ ولقيهم عبد لعيينة بن حصن فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة؛ فأنهزم، فلقيه الحارث بن عوف منهزماً، فقال: قد آن لك يا عيينة أن تقصر عما ترى.
عمرة القضاء حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوالا؛ يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمراً عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها؛ وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع؛ فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه؛ وتحدثت قريش بينها أن محمداً وأصحابه في عسر وجهد وحاجة .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: اصطفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه؛ فلما دخل رسول الله المسجد، أضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوةً! ثم أستلم الركن. وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم؛ وأستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف؛ ومشى سائرها.
وكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم؛ وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم؛ حتى حج حجة الوداع، فرملها، فمضت السنة بها .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته؛ وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله ... يا رب إني مؤمن بقيله
أعرف حق الله في قبوله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن رباح ومجاهد، عن أبن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك؛ وهو حرام؛ وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فأتاه حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، في نفر من قريش في اليوم الثالث، وكانت قريش وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فأخرج عنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه! قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة؛ حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها رسول الله هنالك، وأمر رسول الله أن يبدلوا الهدى وأبدل معهم، فعزت عليهم الإبل فرخص لهم في البقر؛ ثم أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة، فأقام بها بقية ذي الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمروا في قابل قضاء لعمرة الحديبية، وأن يهدوا.

قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العمرة قضاءً، ولكن كان شرط على المسلمين أن يعتمروا قابلاً في الشهر الذي صدهم المشركون فيه.
قال الواقدي: قول ابن أبي ذئب أحب إلينا، لأنهم أحصروا ولم يصلوا إلى البيت.
وقال الواقدي: وحدثني عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد أبن إبراهيم، قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ستين بدنة.
قال: وحدثني معاذ بن محمد الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حمل السلاح والبيض والرماح، وقاد مائة فرس، وأستعمل على السلاح بشير بن سعد، وعلى الخيل محمد بن مسلمة، فبلغ ذلك قريشاً فراعهم؛ فأرسلوا مكرز بن حفص بن الأخيف، فلقيه بمر الظهران، فقال له: ما عرفت صغيراً ولا كبيراً إلا بالوفاء؛ وما أريد إدخال السلاح عليهم؛ ولكن يكون قريباً إلى. فرجع إلى قريش فأخبرهم.
قال الواقدي: وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة؛ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ما رجع من مكة في خمسين رجلاً، فخرج إليهم.
قال أبو جعفر: فلقيه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، بنو سليم، فأصيب بها هو وأصحابه جميعاً.
قال أبو جعفر: أما الواقدي فإنه زعم أنه نجا ورجع إلى المدينة، وأصيب أصحابه.
ثم دخلت سنة ثمان من الهجرةففيها توفيت - فيما زعم الواقدي - زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر.
خبر غزوة غالب بن عبد الله الليثي بني الملوح قال: وفيها أغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي في صفر إلى الكديد إلى بني الملوح.
قال أبو جعفر: وكان من خبر هذه السرية وغالب بن عبد الله؛ ما حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري وسعيد بن يحيى بن سعيد - قال إبراهيم: حدثني يحيى بن سعيد، وقال سعيد بن يحيى: حدثني أبي - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعاً عن ابن إسحاق، قال: حدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب أبن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي؛ كلب ليث، إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، فخرج - وكنت في سريته - فمضينا؛ حتى إذا كنا بقديد لقينا بها الحارث أبن مالك - وهو أبن البرصاء الليثي - فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم؛ فقال غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت مسلماً، فلن يضرك رباط يوم وليلة؛ وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه رباطاً ثم خلف عليه رويجلاً أسود كان معنا، فقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فأحتز رأسه. قال: ثم مضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشيشية بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر ، فأنبطحت عليه - وذلك قبيل المغرب - فخرج منهم رجل، فنظر فرآني منبطحاً على التل، فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما كنت رأيته أول النهار؛ فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئاً. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي

فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي. قال: فنزعته فوضعته، ولم أتحرك. ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أنحرك. فقال: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ربيئة لتحرك؛ فإذا أصبحت فأتبعني سهمي فخذيهما لا تمضغهما على الكلاب، قال: فأمهلناهم حتى راحت رائحتهم، حتى إذا أحتلبوا وعطنوا سكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا وأستقنا النعم؛ فوجهنا قافلين؛ وخرج صريخ القوم إلى القوم مغوثاً . قال: وخرجنا سراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك؛ أبن البرصاء، وصاحبه؛ فأنطلقنا به معناً، وأتانا صريخ الناس، فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله عز وجل من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً ولا خالاً، فجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه؛ فلقد رأيناهم ينظرون إلينا، ما يقدر أحد منهم أن يقدم ولا يتقدم؛ ونحن نحدوها سراعاً؛ حتى أسندناها في المشلل؛ ثم حدرناها عنها، فأعجزنا القوم بما في أيدينا، فما أنسى قول راجز من المسلمين؛ وهو يحدوها في أعقابها، ويقول:
أبي القاسم أن تعزبي ... في خضل نباته مغلولب
صفر أعاليه كلون المذهب حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من أسلم، عن شيخ منهم، أن شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة كان: أمت أمت .
قال الواقدي: كانت سرية غالب بن عبد الله بضعة عشر رجلاً.
قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضري إلى المنذر بن ساوي العبدي؛ وكتب إليه كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوي. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإن كتابك جاءني ورسلك. وإنه من صلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، وأستقبل قبلتنا فإنه مسلم؛ له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية. قال: فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن على المجوس الجزية، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد أبني جلندي بعمان، فصدقا النبي، وأقرا بما جاء به، وصدق أموالهما، وأخذ الجزية من المجوس.
قال: وفيها سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر، في شهر ربيع الأول في أربعة وعشرين رجلاً، فشن الغارة عليهم، فأصابوا نعماً وشاءً، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ لكل رجل.
قال: وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات أطلاح، خرج في خمسة عشر رجلاً؛ حتى أنتهى إلى ذات أطلاح، فوجد جمعاً كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا، فقتلوا أصحاب عمرو جميعاً، وتحامل حتى بلغ المدينة.
قال الواقدي: وذات أطلاح من ناحية الشأم، وكانوا من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس.
قال: وفيها قدم عمرو بن العاص مسلماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أسلم عند النجاشي، وقدم معه عثمان بن طلحة العبدري، وخالد أبن الوليد بن المغيرة، قدموا المدينة في أول صفر.

قال أبو جعفر: وكان سبب إسلام عمرو بن العاص، ما حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولي أبن أبي أوس، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني، قال: لما أنصرفنا مع الأحزاب عن الخندق ، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً. وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا؛ فلا يأتينا منهم إلا خير. فقالوا: إن هذا لرأي. قلت: فأجمعوا له ما نهدي إليه - وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم - فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه؛ فو الله إنا لعنده؛ إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه - قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه؛ فأعطانيه فضربت عنقه! فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي شيئاً من بلادك؟ قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قربته إليه، فأعجبه وأشتهاه؛ ثم قلت له: أيها الملك؛ إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك؛ وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره - يعني النجاشي - فلو أنشقت الأرض لي لدخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، لتقتله ! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني وأتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قال: قلت: فتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي؛ وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله لأسلم؛ فلقيت خالد أبن الوليد - وذلك قبل الفتح - وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد أستقام المنسم؛ وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم؛ فحتى متى! فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها. فبايعته ثم أنصرفت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا أتهم؛ أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، كان معهما، أسلم حين أسلما.
ذكر ما في الخبر عن الكائن كان من الأحداث المذكورة في سنة ثمان من سني الهجرة فمما كان فيها من ذلك توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جمادى الآخرة إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلثمائة ؛ وذلك أن أم العاص بن وائل - فيما ذكر - كانت قضاعية ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفهم بذلك، فوجهه في أهل الشرف من المهاجرين والأنصار، ثم أستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر في مائتين، فكان جميعهم خمسمائة.
غزوة ذات السلاسل

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى أرض بلى وعذرة، يستنفر الناس إلى الشأم؛ وذلك أن أم العاص بن وائل كانت أمرأة من بلى، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم بذلك؛ حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلاسل - وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - فلما كان عليه خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أبن الجراح في المهاجرين الأولين؛ فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا ؛ فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو بن العاص: إنما جئت مدداً لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو؛ إن رسول الله قد قال لي: لا تختلفا؛ وأنت إن عصيتني أطعتك، قال: فأنا أمير عليك؛ وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك! فصلي عمرو أبن العاص بالناس.
غزوة الخبط قال الواقدي: وفيها كانت غزوة الخبط ؛ وكان الأمير فيها أبو عبيدة أبن الجراح، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب منها، في ثلثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة، فأصابهم فيها أزل شديد وجهد، حتى أقتسموا التمر عدداً.
وحدثنا بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار حدثه أنه سمع جابر أبن عبد الله يقول: خرجنا في بعث ونحن ثلثمائة، وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فأصابنا جوع، فكنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر؛ فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر، نأكل منها، ونحر رجل من الأنصار جزائر، ثم نحر من الغد كذلك؛ فنهاه أبو عبيدة، فأنتهى.
قال عمرو بن دينار - وسمعت ذكوان أبا صالح قال: إنه قيس بن سعد.
قال عمرو: وحدثني بكر بن سوادة الجذامي، عن أبي جمرة، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك ، إلا أنه قال: جهدوا؛ وقد كان عليهم قيس أبن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال: بعثهم في بعث من وراء البحر؛ وإن البحر ألقي إليهم دابة؛ فمكثوا عليها ثلاثة أيام يأكلون منها ويقددون ويغرفون شحمها؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك من أمر قيس بن سعد، فقال رسول الله: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، وقال في الحوت: لو نعلم أنا نبلغه قبل أن يروح لأحببنا أن لو كان عندنا منه شيء؛ ولم يذكر الخبط ولا شيئاً سوى ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن أبن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يخبر، قال: زودنا النبي صلى الله عليه وسلم جراباً من تمر، فكان يقبض لنا أبو عبيدة قبضة قبضة، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل؛ حتى نفد ما في الجراب، فكنا نجني الخبط، فجعنا جوعاً شديداً. قال: فألقي لنا البحر حوتاً ميتاً، فقال أبو عبيدة: جياع كلوا، فأكلنا - وكان أبو عبيدة ينصب الضلع من أضلاعه فيمر الراكب على بعيره تحته، ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه - فأكلنا واد هنا حتى صلحت أجسامنا، وحسنت شحماتنا؛ فلما قدمنا المدينة قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله عز وجل لكم معكم منه شيء؟ - وكان معنا منه شيء - فأرسل إليه بعض القوم فأكل منه.
قال الواقدي: وإنما سميت غزوة الخبط ، لأنهم أكلوا الخبط حتى كأن أشداقهم أشداق الإبل العضهة.
قال: وفيها كانت سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، أميرها أبو قتادة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال: تزوجت أمرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم يا رسول الله، قال: سبحان الله! لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم! والله ما عندي ما أعينك به. قال: فلبثت أياماً؛ وأفبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم؛ حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيساً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وكان ذا أسم وشرف في جشم. قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين، من المسلمين فقال: أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به؛ أو تأتونا منه بخبر وعلم. قال: وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليها أحدنا؛ فو الله ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى أستقلت وما كادت. ثم قال: تبلغوا على هذه وأعتقبوها.
قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف؛ حتى جئنا قريباً من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس، فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي.
قال: فو الله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئاً، غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه.
قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه، فجعله في عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا؛ ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك! فقال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا: فنحن معك، قال: والله لا يتبعني منكم أحد.
قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت إليه فأحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت؛ وشد صاحباي وكبرا؛ فو الله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم؛ وما خف معهم من أموالهم.
قال: فأستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، قال: فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيراً، فجمعت إلى أهلي.
وأما الواقدي، فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبن أبي حدرد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلاً، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت أثنى عشر بعيراً يعدل البعير بعشر من الغنم، وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة؛ فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة عنها، فقال: أشتريتها من المغنم، فقال: هبها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محمية بن جزء الزبيدي.
قال: وفيها أغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية أبا قتادة إلى بطن إضم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وقال بعضهم عن أبن القعقاع - عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم - وكانت قبل الفتح - مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن . فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه؛ فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقال الواقدي: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هذه السرية حين خرج لفتح مكة في شهر رمضان، وكانوا ثمانية نفر.
ذكر الخبر عن غزوة مؤتة قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر؛ أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان؛ وأستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.

فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم وودعوهم؛ فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم؛ ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " . فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً ... بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا!
ثم إن القوم تهيئوا للخروج فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله يشيعهم؛ حتى إذا ودعهم وأنصرف عنهم، قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على أمرئ ودعته ... في النخل خير مشيع وخليل
ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشأم؛ فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وأنضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف منهم؛ عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن رافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فأنطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور؛ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق أبن رواحة. فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:
جلبنا الخيل من آجام قرح ... تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من من الصوان سبتاً ... أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات ... تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي، مآب لنأتينها ... ولو كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتنا فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يتمثل أبياته هذه:
إذا أديتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشؤم مشتهي التواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل! ثم قال عبد الله في بعض شعره وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فأنزل

قال: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف. ثم دنا العدو، وأنحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة؛ فألتقى الناس عندها، فتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك، ثم ألتقى الناس؛ فأقتتلوا؛ فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم؛ ثم أخذها جعفر بن أبي طالب؛ فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال أقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وأبو تميملة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة - قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين أقتحم عن فرس له شقراء؛ فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة؛ ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعةً أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنه!
قد طالما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه!
وقال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
قال: ثم نزل؛ فلما نزل أتاه أبن عم له بعظم من لحم؛ فقال: شد بها صلبك؛ فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت؛ فأخذه من يده؛ فأنتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية ثابت بن أقرم؛ أخو بلعجلان؛ فقال: يا معشر المسلمين أصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل؛ فأصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم؛ وحاشى بهم، ثم أنحاز وتحيز عنه حتى أنصرف بالناس .
فحدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري - وكانت الأنصار تفقهه - فغشيه الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث رسول الله جيش الأمراء، فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإن أصيب فجعفر أبن أبي طالب؛ فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة؛ فوثب جعفر فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أذهب أن تستعمل زيداً علي! قال: أمض؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير! فأنطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، وأمر فنودى: الصلاة جامعة! فأجتمع الناس إلى رسول الله، فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم أنطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً - وأستغفر له - ثم أخذ اللواء جعفر، فشد على القوم حتى قتل شهيداً - فشهد له بالشهادة وأستغفر له - ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة؛ فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً - فأستغفر له - ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد - ولم يكن من الأمراء؛ هو أمر نفسه - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره - فمنذ يومئذ سمى خالد سيف الله - ثم قال رسول الله: أبكروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن منكم أحد. فنفروا مشاة وركباناً، وذلك في حر شديد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: لما أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان، مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة؛ أرضاً باليمن.

قال. وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة قائد المستعربة فقتله. قال: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قد قال لقومها من حدس - وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قوماً خزراً ، ينظرون شزراً ، ويقودون الخيل بتراً ، ويهريقون دماً عكراً . فأخذوا بقولها؛ فأعتزلوا من بين لخم؛ فلم يزالوا بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة ؛ بطن من حدس؛ فلم يزالوا قليلاً بعد؛ ولما أنصرف خالد بن الوليد بالناس أقبل بهم قافلاً .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خوا الصبيان فأحملوهم وأعطوني أبن جعفر؛ فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه، فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار في سبيل الله، فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار؛ ولكنهم الكرار؛ إن شاء الله ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن بعض آل الحارث بن هشام - وهم أخواله - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لا مرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين! قال: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح الناس: أفررتم في سبيل الله! حتى قعد في بيته فما يخرج .
وفيها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة.
ذكر الخبر عن فتح مكة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد بعثه إلى مؤتة، جمادى الآخرة ورجب.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة؛ يقال له الوتير . وكان الذي هاج ما بين بني بكر وبني خزاعة رجل من بل حضرمي، يقال له مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدواً عليه فقتلوه؛ وأخذوا ماله؛ فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي؛ وهم منخر بني بكر وأشرلفهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب؛ فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم .
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من بني الديل ، قال: كان بنو الأسود يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى ديةً ديةً لفضلهم فينا.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط لهم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيره من علمائنا - أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه؛ فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كانت تلك الهدنة أغتنمتها بنو الدين، من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل - وهو يومئذ قائدهم؛ ليس كل بني بكر تابعه - حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير؛ ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتحاوزوا وأقتتلوا؛ ورفدت قريش بني بكر بالسلاح؛ وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً؛ حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. - قال الواقدي: كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو؛ مع غيرهم وعبيدهم

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: فلما أنتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك؛ فقال: كلمة عظيمة إنه لا إله له اليوم! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؛ أفلا تصيبون ثأركم فيه! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً يقال له منبه، وكان منبه رجلاً مفئوداً خرج هو ورجل من قومه، يقال له تميم بن أسد - فقال له منبه: يا تميم، أنج بنفسك؛ فأما أنا فو الله إني لميت قتلوني أو تركوني؛ لقد أنبت فؤادي. فأنطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه - فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما أستحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده وعهده - خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب؛ حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وكان ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس، فقال:
لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالداً كنا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فأنصر رسول الله نصراً أعتدا ... وأدع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
فقتلونا ركعاً وسجدا يقول: قد قتلونا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم؛ ثم أنصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، فلقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة؛ وقد رهبوا الذي صنعوا؛ فلما لقي أبو سفيان بديلاً، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمداً؟ قال: لا. قال: راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى؛ فعمد إلى مبرك ناقته ، فأخذ من بعرها ففته؛ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فدخل على أبنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية؛ والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني! قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فلم يردد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وعنده فاطمة أبنة رسول الله، وعندها الحسن بن علي؛ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي؛ إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة؛ فلا أرجعن كما جئت خائباً، أشفع لنا إلى رسول الله! قال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فألتفت إلى فاطمة، فقال: يا أبنة محمد هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر! قالت: والله ما بلغ بنيى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد أشتدت علي فأنصحني. فقال له : والله ما أعلم شيئاً يغنى عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً! قال: لا والله ما أظن؛ ولكن لا أجد لك غير ذلك؛ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس؛ ثم ركب بعيرة فأنطلق.
فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فو الله ما رد على شيئاً، ثم جئت أبن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً، ثم جئت أبن الخطاب؛ فوجدته أعدى القوم، ثم جئت على بن أبي طالب، فوجدته ألين القوم؛ وقد أشار علي بشيء صنعته؛ فو الله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا! قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد على أن لعب بك، فما يغنى عنا ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز؛ وأمر أهله أن يجهزوه؛ فدخل أبو بكر على أبنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة؛ وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت الأنصاري يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:
أتاني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلي كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها وعقابها !
وصفوان عوداً حز من شفراسته ... فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد ... إذا أحتلبت صرفاً وأعصل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها
وقول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعني قريشاً. وأبن أم مجالد، يعني عكرمة بن أبي جهل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم؛ ثم أعطاه أمرأة - يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة؛ وزعم غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب - وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً. فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب؛ فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: أدركا أمرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم؛ فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة أبن أبي أحمد؛ فأستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا؛ ولتخرجن إلى هذا الكتاب أو لنكشفنك؛ فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض عني فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، فأستخرجت الكتاب منه ، فدفعته إليه، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله حاطباً؛ فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: أعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم! فأنزل الله عز وجل في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " إلى قوله: " وإليك أنبنا " إلى آخر القصة .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمى، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره؛ وأستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد ما بين عسفان وأمج، أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم؛ وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام؛ وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله؛ ولا يدرون ما هو فاعل؛ فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار؛ هل يجدون خبراً أو يسمعون به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وقد كان فيما حدثني محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب؛ عن أبن عباس: وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ؛ وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب؛ فيما بين مكة والمدينة، فألتمس الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، أبن عمك وأبن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما أبن عمتي فهتك عرضي؛ وأما أبن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك؛ ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا؛ ثم أتذهبن في الأرض؛ حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما؛ ثم أذن لهما، فدخلا عليه؛ فأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:
لعمري إني يوم أحمل رايةً ... لتغلب خيل الات خيل محمد
لكا لمدلج الخيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدى
وهاد هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كل مطرد
أصدو أنأي جاهداً عن محمد ... وأدعى ولو لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك غيري أو عدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامراً ... وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سهام وسردد
قال: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ونالني مع الله من طردت كل مطرد؛ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، ثم قال: أنت طردتني كل مطرد ! وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فقائل يقول: يريد قريشاً، وقائل يقول: يريد هوازن، وقائل يقول: يريد ثقيفاً؛ وبعث إلى القبائل فتخلفت عنه؛ ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى قدم قديداً، فلقيته بنو سليم على الخيل والسلاح التام؛ وقد كان عيينة لحق رسول الله بالعرج في نفر من أصحابه، ولحقه الأقرع بن حابس بالسقيا، فقال عيينة: يا رسول الله؛ والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث شاء الله. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعمي عليهم الأخبار؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، ولقيه العباس بالسقيا، ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العقاب.
فلما نزل مر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام.

فحدثنا أبو كريب، قال: أخبرنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة عن أبن عباس، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: يا صباح قريش ! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها؛ فدخل مكة عنوة؛ إنه لهلاك قريش آخر الدهر! فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن؛ أو داخلاً يدخل مكة؛ فيخبرهم بمكان رسول الله؛ فيأتونه فيستأمنونه. فخرجت؛ فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم قط نيراناً! فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة، حمشها الحرب! فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل! فعرفت صوته، فقلت يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل! فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله؛ فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلى، قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم أشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، وقد أردفت أبا سفيان؛ حتى أقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ؛ فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله؛ قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه؛ فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته! ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني! فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلاً يا عمر! فو الله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف؛ ولو كان من بني عدي أبن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلاً يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم! وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذهب فقد آمناه حتى تغدو به على بالغداة . فرجع به إلى منزله؛ فلما أصبح غداً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً، فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله! فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء! فقال العباس: فقلت له ويلك! تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك؛ قال: فتشهد.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس حين تشهد أبو سفيان: أنصرف يا عباس فأحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فأجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي؛ فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول : سليم، فيقول: مالي ولسليم! فتمر به قبيلة، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء ؛ كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد؛ لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك أبن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة! فقال: نعم إذاً، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم؛ فخرج سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! قالوا: فمه! فقال: من دخل داري فهو آمن، فقالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك! فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا، أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى تسألني عن خالد بن الوليد: هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب النبي بطن مر عامداً إلى مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله صلى الله عليه وسلم! إليهم أو إلى الطائف! وذاك أيام الفتح؛ وأستتبع أبو سفيان وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحبا أن يصحبهما، ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل؛ وقالوا لهم حين بعثوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد! إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفاً! وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش صلح يوم الحديبية وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فأقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر؛ وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في ذلك الصلح الذي أصطلحوا عليه: لا إغلال ولا إسلال، فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فأتهمت بنو كعب قريشاً ، فمنها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة؛ وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيماً وبديلاً بمر الظهران؛ ولم يشعروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل مر، حتى طلعوا عليه، فلما رأوه بمر، دخل عليه أبو سفيان وبديل وحكيم بمنزله بمر الظهران فبايعوه ، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وهي بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم - وهي بأسفل مكة - فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة، بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون؛ وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك؛ ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر خالد بن الوليد - فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأناس، إنما أسلموا قبيل ذلك - أن يدخل من أسفل مكة، وبها بنو بكر قد أستنفرتهم قريش. وبنو الحارث بن عبد مناة ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة.

وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما؛ فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة. قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك؛ غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهو وأبن الأشعر - رجلاً من بني كعب - كانا في خيل الزبير فسلكا كداء، ولم يسلكا طريق الزبير الذي سلك، الذي أمر به . فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا؛ ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال؛ ومن ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس إليه يبايعونه؛ فأسلم أهل مكة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوزان وثقيف فنزلوا بحنين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كدى؛ وكان الزبير على المجنبة اليسري، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء. فزعم بعض أهل العلم أن سعداً قال حين وجه داخلاً: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمه. فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، أسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط أسفل مكة، في بعض الناس؛ وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب؛ وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول صلى الله عليه وسلم من أذاخر؛ حتى نزل بأعلى مكة، وضربت هنالك قبته .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر، أن صفوان بن أمية، وعكرمة أبن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخندمة ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ويصلح منها، فقالت له أمرأته: لماذا تعد ما رأى؟ قال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فقال:
إن تقبلوا اليوم فمالي عله ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل بن عمرو وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز أبن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وحبيس بن خالد، وهو الأشر بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس أبن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو؛ حليف بني منقذ - وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، وسلكا طريقاً غير طريقه، فقتلا جميعاً - قتل خنيس قبل كرز بن جابر؛ فجعله كرز بين رجليه؛ ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز، ويقول:
قد علمت صفراء من بني فهر ... نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر وكان خنيس يكني بأبي صخر؛ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين أناس قريب من أثنى عشر أو ثلاثة عشر. ثم أنهزموا، فخرج حماس منهزماً؛ حتى دخل بيته، ثم قال لأمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... وأستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة؛ ألا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم؛ أمر بقتلهم وإن وجودا تحت أستار الكعبة؛ منهم عبد الله بن سعد أبن أبي سرج بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر أبن لؤي - وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، لأنه كان قد أسلم فأرتد مشركاً، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أطمأن أهل مكة فأستأمن له رسول الله، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلاً، ثم قال: نعم؛ فلما أنصرف به عثمان، قال رسول الله لمن حوله من أصحابه: أما والله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ؟ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله ؟؟؟؟! قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة - وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب - وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار؛ وكان معه مولي له يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيساً، ويصنع له طعاماً، ونام فأستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم أرتد مشركاً؛ وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه - والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة، ومقيس بن صبابة - وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتداً - وعكرمة بن أبي جهل، وسارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب؛ وكانت ممن يؤذيه بمكة. فأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن؛ وأسلمت أمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستأمنت له رسول الله فأمه؛ فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عكرمة يحدث - فيما يذكرون - أن الذي رده إلى الإسلام بعد خروجه إلى اليمن أنه كان يقول: أردت ركوب البحر لألحق بالحبشة، فلما أتيت السفينة لأركبها قال صاحبها: يا عبد الله، لا تركب سفينتي حتى توحد الله، وتخلع ما دونه من الأنداد، فإني أخشى إن لم تفعل أن نهلك فيها، فقلت: وما يركبه أحد حتى يوحد الله ويخلع ما دونه! قال: نعم؛ لا يركبه أحد إلا أخلص. قال: فقلت: ففيم أفارق محمداً! فهذا الذي جاءنا به، فو الله إن إلهنا في البحر لألهنا في البر؛ فعرفت الإسلام عند ذلك، ودخل في قلبي. وأما عبد الله أبن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، أشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه، فقالت أخت مقيس:
لعمري لقد أخزي نميلة رهطه ... وفجع أضياف الشتاء بمقيس
فلله عيناً من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس !
وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة، فأستؤمن لها فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقال الواقدي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ستة نفر وأربع نسوة، فذكر من الرجال من سماه أبن إسحاق، ومن النساء هند بنت عتبة أبن ربيعة، فأسلمت وبايعت، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب أبن عبد مناف، قتلت يومئذ، وقريبة؛ قتلت يومئذ، وفرتني عاشت إلى خلافة عثمان.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى أبن الوجيه، عن قتادة السدوسي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة ، أو دم، أو مال يدعي؛ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطإ مثل العمد؛ السوط والعصا، فيهما الدية مغلظة مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها.

يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم؛ وآدم خلق من تراب. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الآية.
يا معشر قريش، ويا أهل مكة؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وأبن أخ كريم. ثم قال: أذهبوا فأنتم الطلقاء .
فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. ثم أجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ولرسوله - فيما أستطاعوا - وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وأجتمع إليه نساء من نساء قريش؛ فيهن هند بنت عتبة، متنقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة ، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنون منه ليبايعنه قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - : تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً! فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن، قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالي أم لا! فقال أبو سفيان - وكان شاهداً لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنك لهند بنت عتبة! فقالت: أنا هند بنت عتبة، فأعف عما سلف عفا الله عنك! قال: ولا تزنين، قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة! قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغاراً، وقتلتهم يوم بدر كباراً، فأنت وهم أعلم! فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أستغرب . قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح؛ ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف، قال: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن وأستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء، ولا يمس أمرأة ولا تمسه إلا أمرأة أحلها الله له، أو ذات محرم منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان أبن صالح، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين - فيما أخبره بعض أهل العلم - كان يوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: أذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك.
قال الواقدي: فيها قتل خراش بن أمية الكعبي جنيدب بن الأدلع الهذلي - وقال أبن إسحاق: أبن الأثوع الهذلي - وإنما قتله بذحل، وكان في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خراشاً قتال؛ إن خراشاً قتال! يعيبه بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة أن يدوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير - قال محمد بن إسحاق: ولا أعلمه إلا وقد حدثني عن عروة بن الزبير - قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة، ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب، يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر؛ فأمنه صلى الله عليك! قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، أعطني شيئاً يعرف به أمانك؛ فأعطاه عمامته التي دخل فيها مكة؛ فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به، قال: ويلك! أغرب عني فلا تكلمني! قال: أي صفوان! فداك أبي وأمي! أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، أبن عمتك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك! قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم؛ فرجع به معه، حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صفوان: إن هذا زعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال: فأجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وفاختة بنت الوليد - وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا، فأما أم حكيم فأستأمنت رسول الله لعكرمة بن أبي جهل، فآمنه، فلحقت به باليمن، فجاءت به؛ فلما أسلم عكرمة وصفوان، أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهما على النكاح الأول .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري السهمي إلى نجران. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري؛ قال: رمى حسان عبد الله بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد، ما زاده عليه:
لتعد من رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيش أحذ لئيم
فلما بلغ ذلك أبن الزبعري، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الري ... ح ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي ... ثم نفسي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حي ... من لؤي فكلهم مغرور
وأما هبيرة بن أبي وهب، فأقام بها كافراً، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ بنت أبي طالب وكانت تحته، وأسمها هند:
أشاقتك هند أم نآك سؤالها ... كذلك النوى أسبابها وأنفتالها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف؛ من بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل؛ وسائرهم من من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد .
قال الواقدي: في هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مليكة بنت داود الليثية، فجاء إليها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلاً قتل أباك! فأستعاذت منه؛ وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رسول الله؛ وكان قتل أباها يوم فتح مكة.
قال: وفيها هدم خالد بن الوليد العزي ببطن نخلة، لخمس ليال بقين من رمضان؛ وهو صنم لبني شيبان؛ بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزي، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فقال: قد هدمته، قال: أرأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فأرجع فأهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزي أغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه أمرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزي، ولا تعبد العزي أبداً.

حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزي - وكانت بنخلة، وكانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها؛ وكانت سدنتها من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم - فلما سمع صاحبها بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه، وأسند في الجبل الذي هي إليه فأصعد فيه، وهو يقول:
أيا عز شدي شدة لا شمى لها ... على خالد ألقي القناع وشمري
ويا عز إن لم تقتلي اليوم خالداً ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فلما أنتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي: وفيها هدم سواع؛ وكان برهاط لهذيل، وكان حجراً؛ وكان الذي هدمه عمرو بن العاص لما أنتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت في الباطل بعد! فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئاً، ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت والله.
وفيها هدم مناة بالمشلل، هدمه سعد بن زيد الأشهلي، وكان للأوس والخزرج.
مسير خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن مالكوفيها كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان من أمره وأمرهم ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل؛ ولم يأمرهم بقتال؛ وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً؛ فوطئ بني جذيمة، فأصاب منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفتتح مكة خالد بن الوليد داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب: سليم ومدلج، وقبائل من غيرهم؛ فلما نزلوا على الغميصاء - وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة أبن كنانة - على جماعتهم، وكانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة - وكانا أقبلا تاجرين من اليمن - حتى إذا نزلا بهم قتلوهما؛ وأخذوا أموالهما، فلما كان الإسلام، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، سار حتى نزل ذلك الماء؛ فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم، عن رجل من بني جذيمة، قال: لما أمرنا خالد بوضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق؛ والله لا أضع سلاحي أبداً. قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم؛ أتريد أن تسفك دماءنا! إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد؛ فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم. فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم؛ فأنظر في أمرهم، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال؛ حتى إنه ليدي ميلغة الكلب؛ حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال أحتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه؛ حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه؛ وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات!

قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالداً: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك بقتلهم لأمتناعهم من الإسلام، وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا سلاحهم ، ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة: يا بني جذيمة، ضاع الضرب، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن أبن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام! فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت! قد قتلت قاتل أبي، ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة؛ حتى كان بينهما شيء ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مهلاً يا خالد! دع عنك أصحابي؛ فو الله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله؛ ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبي. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعاً عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد، قال: كنت يومئ في خيل خالد، فقال لي فتى منهم - وهو في السبي؛ وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى! قلت: نعم؛ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي بها إلى هؤلاء النسوة، حتى أقضى إليهن حاجة، ثم تردني بعد، فتصنعوا بي ما بدا لكم؟ قال: قلت: والله ليسير ما سألت، فأخذت برمته فقدته بها حتى أوقفته عليهن، فقال: أسلمي حبيش ، على نفد العيش :
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق!
ألم يك حقاً أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السري والودائق !
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معاً ... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق!
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... وينأي الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا سراً لدي أضعته ... ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ... ولا ذكر إلا أن يكون لوامق
قالت: وأنت فحييت عشراً، وسبعاً وتراً، وثمانياً تترى ! ثم أنصرفت به، فقدم فضربت عنقه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي فراس بن أبي سنبلة الأسلمي؛ عن أشياخ منهم، عمن كان حضرها، قالوا: قامت إليه حين ضربت عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان.
ذكر الخبر عن غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن بحنين

وكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين وأمر هوزان ما حدثنا على بن نصر بن علي الجهضمي وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد، وقال عبد الوارث: حدثنا أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح نصف شهر، لم يزد على ذلك؛ حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بحنين - وحنين واد إلى جنب ذي المجاز - وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم حيث خرج من المدينة، فلما أتاهم أنه قد نزل مكة، أقبلت هوازن عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا معهم بالنساء والصبيان والأموال - ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف أحد بني نصر - وأقبلت معهم ثقيف؛ حتى نزلوا حنيناً يريدون النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما حدث النبي وهو بمكة أن قد نزلت هوازن وثقيف بحنين، يسوقهم مالك بن عوف أحد بني نصر - وهو رئيسهم يومئذ - عمد النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدم عليهم، فوافاهم بحنين، فهزمهم الله عز وجل، وكان فيها ما ذكر الله عز وجل في الكتاب؛ وكان الذي ساقوا من النساء والصبيان والماشية غنيمة غنمها الله عز وجل رسوله، فقسم أموالهم فيمن كان أسلم معه من قريش.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة؛ جمعها مالك بن عوف النصري؛ وأجتمعت إليه مع هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال؛ وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب؛ ولم يشهدها منهم أحد له إسم، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير؛ ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً كبيراً مجرباً؛ وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود أبن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع مالك المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؛ فلما نزل بأوطاس، إجتمع إليه الناس؛ وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به ؛ فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء ، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعى له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك؛ وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم؛ قال: فأنقض به ثم قال: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قال: غاب الجد والحد؛ لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب؛ ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب؛ فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة؛ بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئاً، أرفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم؛ ثم ألق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك؛ والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأى. قال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده؛ ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع

وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم؛ ولكن السن أدركته حتى فنى - وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة بن جداعة بن غزية أبن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن - ثم قال مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فأكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عليهم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أمية أبن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله لينظروا له، ويأتوه بخبر الناس؛ فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق؛ فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! فلم ينهه ذلك عن وجهه؛ أن مصى على ما يريد .
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الإسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبر منهم؛ ويعلم من علمهم. فأنطلق أبن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام معهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أمر مالك وأمر هوازن وما هم عليه. ثم أتى رسول الله، فأخبره الخبر؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فأخبره خبر أبن أبي حدرد، فقال: عمر: كذب! فقال أبن أبي حدرد: إن تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر! فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله إلى ما يقول أبن أبي حدرد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت ضالاً فهداك الله يا عمر .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، فقال: يا أبا أمية - وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيه حملها ففعل .
قال أبو جعفر محمد بن علي: فمضت السنة أن العارية مضمونة مؤداة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومعه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا أثنى عشر ألفاً، وأستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد أبن العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة أميراً على من غاب عنه من الناس، ثم مضى على وجهه يريد لقاء هوازن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما أستقبلنا وادي حنين، أنحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه أنحداراً - قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا - فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد؛ وأنهزم الناس أجمعوا، فأنشمروا لا يلوي أحد على أحد؛ وأنحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس! هلم إلى! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شيء، أحتملت الإبل بعضها بعضاً، فأنطلق الناس؛ إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر، عمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وأبنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن - وأسامة بن زيد بن حارثة. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، أمام الناس وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه؛ فأتبعوه. ولما أنهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ والأزلام معه في منانته؛ وصرخ كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية بن خلف وكان أخاه لأمه، وصفوان يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: أسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخوبني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمداً. قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت أمرأً جسيماً شديد الصوت، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى من الناس ما رأى : أين أيها الناس ! فلما رأى الناس لا يلوون على شيء قال: يا عباس، أصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! قال: فأجابوا: أن لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل منهم يريد ليثني بعيره؛ فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ، ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ثم يؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إذا أجتمع إليه منهم مائة رجل أستقبلوا الناس، فأقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار! ثم جعلت أخيراً: يا للخزرج! وكانوا صبراً عند الحرب؛ فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركابه، فنظر مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمى الوطيس ! حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كان أبو سفيان بن الحارث يقود بالنبي صلى الله عليه وسلم بغلته يوم حنين، فلما غشى النبي صلى الله عليه وسلم المشركون، نزل فجعل يرتجز، ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا أبن عبد المطلب
فما رئى من الناس أشد منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم أبن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع؛ إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار؛ يريدانه، فيأتيه على من خلفه، فيضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فأنجعف عن رحله. قال: وأجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين؛ وقد ألتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان أبن الحارث بن عبد المطلب - وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلته - فقال: من هذا؟ قال: أبن أمك يا رسول الله ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألتفت، فرأى أم سليم بنت ملحان - وكانت مع زوجها أبي طلحة - حازمة وسطها ببرد لها؛ وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم! قالت: نعم؛ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم! ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته معي؛ إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به . قال : يقول أبو طلحة: ألا تسمع ما تقول أم سليم يا رسول الله ! .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس أبن مالك، قال: لقد أستلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلاً وحده هو قتلهم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أبيه، أنه حدث عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم؛ فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي؛ فلم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فلما أنهزمت هوازن أستحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب؛ جد أبن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، فال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عامر بن وهب بن الأسود بن مسعود، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عثمان، قال: أبعده الله! فإنه كان يبغض قريشاً .
حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين على بغلة بيضاء، يقال لها دلدل، فلما أنهزم المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبغلته: البدي دلدل! فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: " حم لا ينصرون ! " . فولى المشركون مدبرين، ما ضرب بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أغرل . قال: فبينا رجل من الأنصار يستلب قتلي من ثقيف، إذ كشف العبد ليستلبه، فوجده أغرل، فصرخ بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفاً غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: فأخذت بيده، وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي! إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له قتلانا فأقول: ألا تراهم مخنين! قال: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما هزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف، فلم يقتل منهم إلا رجلان؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، وآخر من بني كنة يقال له: الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح: قتل اليوم سيد شباب ثقيف؛ إلا ما كان من أبن هنيدة - وأبن هنيدة الحارث بن أوس .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما أنهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة - ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف - فتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن أمرئ القيس - وكان يقال له أبن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبة - دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله؛ وهو يظن أنه أمرأة؛ وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير؛ وإذا هو دريد بن الصمة، لا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً، فقال: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل في الشجار، ثم أضرب به وأرفع عن العظام، وأخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة؛ فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء ، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً .
قال أبو جعفر: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس؛ فحدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريداً، وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: فبعثني مع أبي عامر، قال: فرمى أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فأنتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أبو عامر لأبي موسى، فقال: إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني! قال أبو موسى: فقصدت له فأعتمدته، فلحقته، فلما رآني ولي عني ذاهباً، فأتبعه، وجعلت أقول له: ألا تستحي! ألست عربياً! ألا تثبت! فكر، فالتقيت أنا وهو، فأختلفنا ضربتين، فضربته بالسيف، ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فأنزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، فقال: يا بن أخي، أنطلق إلى رسول الله، فأفرئه منى السلام، وقل له إنه يقول لك: أستغفر لي.
قال: وأستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيراً. ثم إنه مات.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن سلمة بن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فقال سلمة بن دريد في قتله أبا عامر:
إن تسألوا عني فإني سلمه ... أبن سمادير لمن توسعه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه وسمادير أم سلمة، فأنتهى إليها.
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم؛ فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض بني سعد بن بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ لخيله التي بعث: إن قدرتم على يجاد - رجل من بني سعد أبن بكر - فلا يفلتنكم؛ وكان بجاد قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا أخته الشيماء بنت الحارث بن عبد الله بن عبد العزي، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق معهم، فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي، قال: لما أنتهى بالشيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، ثم قال: ها هنا، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعك وترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها؛ فزعمت بنو سعد بن بكر أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول، وجارية؛ فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية .
قال ابن إسحاق: أستشهد يوم حنين من قريش، ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد - وهو أبن أم أيمن، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل - ومن الأنصار سراقة بن الحارث أبن عدي بن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري. ثم جمعت إلى رسول الله سبايا حنين وأموالها؛ وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال؛ ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة؛ كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق .
غزوة الطائف فحدثنا علي بن نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين من فوره ذلك - يعني منصرفه من حنين - حتى نزل الطائف، فأقام نصف شهر يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلتهم ثقيف من وراء الحصن؛ لم يخرج إليه في ذلك أحد منهم؛ وأسلم من حولهم من الناس كلهم؛ وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودهم؛ ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاصرهم إلا نصف شهر حتى نزل الجعرانة؛ وبها السبي الذي سبي رسول الله من حنين من نسائهم وأبنائهم - ويزعمون أن ذلك السبي الذي أصاب يومئذ من هوازن كانت عدته ستة آلاف من نسائهم وأبنائهم - فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فأعتق أبناءهم ونساءهم كلهم، وأهل بعمرة من الجعرانة؛ وذلك في ذي القعدة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة، وأستخلف أبا بكر رضي الله تعالى عنه على أهل مكة، وأمره أن يقيم للناس الحج، ويعلم الناس الإسلام، وأمره أن يؤمن من حج من الناس؛ ورجع إلى المدينة؛ فلما قدمها قدم عليه وفود ثقيف، فقاضوه على القضية التي ذكرت؛ فبايعوه، وهو الكتاب الذي عندهم كاتبوه عليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك إلى الطائف من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فأبتني بها مسجداً، فصلى فيه، فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم - وهو أول دم أقيد به في الإسلام - رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأمره رسول الله وهو بلبية بحصن مالك بن عوف فهدم؛ ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها، سأل على أسمها، فقال: ما أسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيفة، فقال: بل هي اليسرى. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخب؛ حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج؛ وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخرابه .
ثم مضى رسول الله حتى نزل قريباً من الطائف؛ فضرب عسكره، فقتل أناس من أصحابه بالنبل؛ وذلك أن العسكر أقترب من حائط الطائف فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، غلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل، أرتفع، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم؛ فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ؛ ومعه أمرأتان من نسائه؛ إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية وأخرى معها - قال الواقدي: الأخرى زينب بنت جحش - فضرب لهما قبتين، فصلى بين القبتين ما أقام.
فلما أسلمت ثقيف ، بني علي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبو أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك مسجداً، وكانت في ذلك المسجد سارية - فيما يزعمون - لا تطلع عليها الشمس يوماً من الدهر؛ إلا سمع لها نقيض ؛ فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم قتالاً شديداً، وتراموا بالنبل حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة؛ ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالاً؛ فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف، فوقع فيها الناس يقطعون.
وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف. فناديا ثقيفاً: أن أمنونا حتى نكلمكم! فأمنوهما؛ فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما - وهما يخافان عليهن السباء - فأبين؛ منهن آمنة بنت أبي سفيان، كانت عند عروة بن مسعود له منها داود بن عروة وغيرها .
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف، أستشار رسول الله نوفل بن معاوية الديلي، وقال: يا نوفل، ما ترى في المقام عليهم؟ قال: يا رسول الله؛ ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر بن أبي قحافة، وهو محاصر ثقيفاً بالطائف: يا أبا بكر، إني رأيت أنه أهديت لي قعبة مملوءة زبداً، فنقرها ديك فأهراق ما فيها؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أرى ذلك.

ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية - وهي أمرأة عثمان بن مظعون - قالت: يا رسول الله، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان بن سلمة، أو حلى الفارغة بنت عقيل - وكانتا من أحلى نساء ثقيف - قال: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة! فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما حديث حد ثتنيه خويلة أنك قلته! قال: قد قلته، قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله! قال: لا، قال: أفلا أؤذن بالرحيل في الناس! قال: بلى؛ فأذن عمر بالرحيل؛ فلما أستقل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج الثقفي: ألا إن الحي مقيم! قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله مجدة كراماً! فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة! أتمدح قوماً من المشركين بالأمتناع من رسول الله، وقد جئت تنصره ! قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفاً؛ ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتبطنها لعلها أن تلد لي رجلاً؛ فإن ثقيفاً قوم مناكير .
وأستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أثنا عشر رجلاً؛ سبعة من قريش ورجل من بني ليث، وأربعة من الأنصار .
أمر أموال هوازن وعطايا المؤلفة قلوبهم منها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنصرف من الطائف على دحنا؛ حتى نزل الجعرانة بمن معه من المسلمين؛ وكان قدم سبي هوازن حين سار إلى الطائف إلى الجعرانة، فحبس بها؛ ثم أتته وفود هوازن بالجعرانة؛ وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي هوازن من النساء والذراري عدد كثير، ومن الإبل ستة آلاف بعير، ومن الشاء ما لا يحصي .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد ابن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أتى وفد هوازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة؛ وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة؛ وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، فأمنن علينا من الله عليك! فقام رجل من هوازن - أحد بني سعد بن بكر، وكان بنو سعدهم الذين أرضعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقال له زهير بن صرد، وكان يكني بأبي صرد - فقال: يا رسول الله؛ إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك! ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل ما نزلت به، رجونا عطفه وعائدته، وأنت خير المكفولين! ثم قال:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزق شملها، في دهرها غير
في أبيات قالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله؛ خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا ، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم؛ فإذا أنا صليت بالناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك؛ وأسأل لكم؛ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله.
قال: يقول العباس لبني سليم: وهنتموني ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن عبيد السعدي أبو وجزة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعطي علي بن أبي طالب جارية من سبي حنين يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة بن هلال بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر، وأعطي عثمان جارية يقال لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطي عمر بن الخطاب جارية، فوهبها لعبد الله بن عمر .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب جارية من سبي هوازن، فوهبها لي، فبعث بها إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم؛ وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال: فخرجت من المسجد حين فرغت؛ فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله نساءنا وأبناءنا، قال: قلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح؛ أذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها؛ وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزاً من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزاً وأرى لها في الحي نسباً؛ وعسى أن يعظم فداؤها! فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبي أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك؛ فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا درها بماكد، ولا زوجها بواجد . فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال؛ فزعموا أن عيينة لقي الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك، فقال: والله إنك ما أخذتها بكراً غريرة ، ولا نصفاً وثيرة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن، وسألهم عن مالك بن عوف: ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال رسول الله : أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فأتى مالك بذلك؛ فخرج من الطائف إليه؛ وقد كان مالك خاف ثقيفاً على نفسه أن يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ما قال، فيحبسوه، فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له فأتى به الطائف؛ فخرج ليلاً، فجلس على فرسه فركضه؛ حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس له، فركبها، فلحق برسول الله فأدركه بالجعرانة - أو بمكة - فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه .
وأستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل حول الطائف: ثمالة وسلمة وفهم؛ فكان يقاتل بهم ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، فقال أبو محجن أبن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم ... ناقضاً للعهد والحرمه
وأتونا في منازلنا ... ولقد كنا أولى نقمه
وهذا آخر حديث أبي وجزة .
ثم رجع الحديث إلى حديث عمرو بن شعيب، قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها، ركب وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، أقسم علينا فيئنا الإبل والغنم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فأختطفت الشجرة عنه رداءه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس؛ فو الله لو كان لي عدد شجر تهامة نعماً لقسمتها عليكم، ثم ما لقيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم قام إلى جنب بعير، فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها فقال: أيها الناس، إنه والله ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط ؛ فإن الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة. فجاءه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر، قال: أما نصيبي منها فلك، فقال: إنه إذا بلغت هذه فلا حاجة لي بها، ثم طرحها من يده .
إلى ها هنا حديث عمرو بن شعيب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم - وكانوا أشرافاً من أشراف الناس يتألفهم ويتألف به قلوبهم - فأعطي أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطي أبنه معاوية مائة بعير، وأعطي حكيم أبن حزام مائة بعير، وأعطي النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير، وأعطي العلاء بن جارية الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطي الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطي صفوان بن أمية مائة بعير، وأعطي سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطي حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس مائة بعير، وأعطي عيينة بن حصن مائة بعير، وأعطي الأقرع أبن حابس التميمي مائة بعير، وأعطي مالك بن عوف النصري مائة بعير، فهؤلاء أصحاب المئين؛ وأعطي دون المائة رجالاً من قريش؛ منهم مخرمة أبن نوفل بن أهيب الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وقد عرف فيما زعم أنها دون المائة - وأعطي سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل، وأعطي السهمي خمسين من الإبل، وأعطي عباس بن مرداس السلمي أبا عر فنسخطها ، وعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولاحابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون أمرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذهبوا فأقطعوا عني لسانه؛ فزادوه حتى رضي؛ فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبراهيم بن الحارث، أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس؛ ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبيدة بن محمد، عن مقسم أبي القاسم مولي عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله أبن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقاً نعليه بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، أفبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم! فقال رسول الله: أجل؛ فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا نقتله ! فقال: لا، دعوه ؛ فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء؛ ثم في الفوق فلا يوجد شيء؛ سبق الفرث والدم .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي مثل ذلك؛ وسماه ذا الخويصرة التميمي .
قال أبو جعفر: وقد روى عن أبي سعيد الخدري أن الذي كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؛ إنما كلمه به في مال كان علي عليه السلام بعثه من اليمن إلى رسول الله، فقسمه بين جماعة؛ منهم عيينة بن حصن، والأقرع، وزيد الخيل؛ فقال حينئذ ما ذكر عن ذي الخويصرة أنه قاله رجل حضره.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه حنيناً، قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله فأوجعه، قال: فقرع قدمي بالسوط، قال: أوجعتني فتأخر عني، فأنصرفت؛ فلما كان من الغد إذا رسول الله يلتمسني، قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله بالأمس. قال: فجئته وأنا أتوقع، فقال لي: إنك قد أصبت رجلي بالأمسي فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعونك لأعوضك منها؛ فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم أبن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة ؛ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد! قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي! قال: فأجمع لي قومك في الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاءه رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما أجتمعوا إليه أناه سعد فقال: قد أجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم! قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل! فقال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار! قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم، ولصدقتم؛ أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك؛ وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار؛ أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فو الذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار! اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وجظاً، ثم أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .
عمرة رسول الله من الجعرانة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقايا الفئ، فحبس بمجنة، وهي بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله من عمرته وأنصرف راجعاً إلى المدينة؛ أستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقايا الفئ.
وكانت عمرة رسول الله في ذي القعدة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي القعدة أو في ذي الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج تلك السنة بالمسلمين عتاب بن أسيد؛ وهي سنة ثمان؛ وأقام أهل الطائف على شركهم وأمتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة، إذ أنصرف رسول الله عنهم إلى شهر رمضان من سنة تسع .
قال الواقدي: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين المسلمين بالجعرانة، أصاب كل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة؛ فمن كان منهم فارساً أخذ سهم فرسه أيضاً. وقال أيضاً: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لليال يقين من ذي الحجة من سفرته هذه.

قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو أبني الجلندي من الأزد مصدقاً، فخليا بينه وبين الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس الذين بها، وهم كانوا أهل البلد، والعرب كانوا يكونون حولها.
قال: وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلابية التي يقال لها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فأختارت الدنيا حين خيرت. وقيل: إنها أستعاذت من رسول الله، ففارقها. وذكر أن إبراهيم بن وثيمة بن مالك بن أوس بن الحدثان؛ حدثه عن أبي وجزة السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في ذي القعدة.
قال: وفيها ولدت مارية إبراهيم في ذي الحجة، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر أبن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد أبن عوف بن مبذول بن عمر بن غنم بن عدي بن النجار؛ فكانت ترضعه.
قال: وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته أنها ولدت غلاماً؛ فبشر به أبو رافع رسول الله، فوهب له مملوكاً.
قال: وغارت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشتد عليهن حين رزقت منه الولد.
ثم دخلت سنة تسع وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر - فقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن ترسل إلينا رسولاً، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم " .
وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشرة.
أمر ثقيف ولإسلامها وفيها قدم - في قول الواقدي - عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، وكان من خبره - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنصرف عن أهل الطائف أتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم؛ وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يتحدث قومهم : إنهم قاتلوك؛ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالإمتناع الذي كان منهم - فقال له عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم - وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً - فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا ألا يخالفوه لمنزله فيهم؛ فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله؛ فتزعم بنو مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه .
وفيها قدم وفد أهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إنهم قدموا عليه في شهر رمضان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم أئتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، أن عمرو بن أمية أخا بني علاج كان مهاجراً لعبد ياليل بن عمرو، الذي بينهما سييء - وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب - فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو وحتى دخل عليه داره، ثم أرسل إليه: إن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، فقال عبد ياليل للرسول: ويحك! أعمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو ذا واقف في دارك.

فقال: إن هذا لشيء ما كنت أظنه! لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك. فلما رآه رحب به، وقال عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فأنظروا في أمركم. فعند ذلك أئتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به! فأئتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل أبن عمرو بن عمير - وكان في سن عروة بن مسعود - وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما يصنع بعروة، فقال: لست فاعلاً حتى تبعثوا معي رجالاً، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخو بني يسار، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخو بلحارث؛ وبعثوا من الأخلاف مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب؛ فخرج بهم عبد ياليل - وهو ناب القوم وصاحب أمرهم؛ ولم يخرج إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، ليشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه - فلما دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله، وكانت رعيتها نوباً على أصحابه، فلما رآهم المغيرة ترك الركاب وضبر يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله ، فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم شروطاً، ويكتتبوا من رسول الله كتاباً في قومهم وبلادهم وأموالهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما أن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده - كما يزعمون - وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أكتتبوا كتابهم؛ وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد؛ حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم - وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية؛ وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين؛ فأبى رسول الله ذلك عليهم؛ فما برحوا يسألونه سنة سنة، فأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً بعد مقدمهم؛ فأبى أن يدعها شيئاً يسمى؛ وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام - فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن يبعث آبا سفيان بن حرب والمغيرة أبن شعبة فيهدماها؛ وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه؛ وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه؛ فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم؛ أمر عليهم عثمان بن أبي العاص - وكان من أحدثهم سناً - وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب أبن عتبة، قال: فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم؛ حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: أدخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بما له بذي الهرم ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه - بنو معتب - خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، ويقلن:
ألا أبكين دفاع ... أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع قال: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهاً لك ! واهاً لك! فلما هدمها المغيرة أخذ مالها وحليها وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود أبني مسعود، فقضى منه دينهما .
وفي هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك.
ذكر الخبر عن غزوة تبوك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف، ما بين ذي الحجة إلى رجب.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم؛ كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد أجتمع حديثه في هذا الحديث. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم؛ وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد؛ وحين طابت الثمار وأحبت الظلال؛ فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلماً يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له؛ ألا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشفة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه؛ مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك ياجد العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني! فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء منى؛ وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك؛ ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: " ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني " الآية؛ أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر - وليس ذلك به - فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم؛ وإن جهنم لمن ورائه. وقال قائل من المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً بالرسول، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " إلى قوله: " جزاء بما كانوا يكسبون " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، فأمر الناس بالجهاز والأنكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، ورغبهم في ذلك، فحمل رجال من أهل الغنى فأحتسبوا ، وأنفق عثمان أبن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته .

ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله؛ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فأستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون " . قال: فبلغني أن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحاً فأرتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وجاء المعذرون من الأعراب، فأعتذروا إليه فلم يعذرهم الله عز وجل؛ وذكر لي أنهم كانوا من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.
ثم أستتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير؛ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا أرتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف؛ وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على حدة أسفل منه بحذاء ذباب؛ جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع. وكان - فيما يزعمون - ليس بأقل العسكرين؛ فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب - وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع؛ وكانوا من عظماء المنافقين؛ وكانوا ممن يكيد الإسلام وأهله .
قال: وفيهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري - أنزل الله عز وجل: " لقد أتبغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " ، الآية.
قال أبن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه إلا أستثقالا له، وتخففاً منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ على سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجرف فقال: يا نبي الله؛ زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ أنك أستثقلتني وتخففت مني! فقال: كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي، فأرجع فأخلفني في أهلي وأهلك؛ أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى المدينة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره .
ثم إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع - بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً - إلى أهله في يوم حار، فوجد أمرأتين له في عريشين لهما في حائط ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً؛ فلما دخل فقام على باب العريشين؛ فنظر إلى أمرأتيه وما صنعتا له، قال: رسول الله في الضح والريح، وأبو خيثمة في ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وأمرأة حسناء، في ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله؛ فهيئا لي زاداً؛ ففعلتا. ثم قدم ناضحه فأرتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل، ثم سار حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: يا رسول الله، هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله: كن أبا خيثمة! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: أولى لك يا أبا خيثمة! ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها وأستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له؛ ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فأحتملته الريح حتى طرحته في جبلي طيئ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب له! ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ؛ فإن طيئاً هدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة .
قال أبو جعفر: والحديث عن الرجلين .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي: فلما أصبح الناس - ولا ماء معهم - شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى أرتوي الناس، وأحتملوا حاجتهم من الماء .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم؛ والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه ومن عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضاً على ذلك؛ ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى أرتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء! قال: سحابة مارة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبياً بدرياً، وهو عم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن لصيب القينقاعي، وكان منافقاً، فقال زيد بن لصيب وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يزعم محمد أنه نبي يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعمارة عنده: إن رجلاً قال: إن محمداً هذا يخبركم أنه نبي، وهو يزعم أنه يخبركم بخير السماء وهو لا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي من شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها، فأنطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى أهله ، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً عن مقالة قائل أخبره الله عنه عنه كذا وكذا - للذي قال زيد بن اللصيب - فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ، ويقول: يا عباد الله، والله إن في رحلي لداهية وما أدري! أخرج يا عدو الله من رحلي فلا تصحبني! قال: فزعم بعض الناس أن زيداً تاب بعد ذلك، وقال بعض: لم يزل متهماً بشر حتى هلك. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً؛ فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه؛ حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره؛ فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
قال: وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه، فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظره ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر! فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو أبو ذر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما نفي عثمان أبا ذر نزل أبو ذر الربذة، فأصابه بها قدره، ولم يكن معه أحد إلا أمرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلاً ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، فأقبل عبد الله بن مسعود ورهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بجنازة على الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه. قال: فأستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله! تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه.
ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك.
قال: وقد كان رهط من المنافقين، منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو ابن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة، يقال له مخشى ابن حمير، يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم! والله لكأني بكم غداً مقرنين في الحبال؛ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مخشي ابن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل الله فينا قرآنا لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد أحترقوا، فسلهم عما قالوا؛ فإن أنكروا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك؛ فأتوا رسول الله يعتذرون إليه، فقام وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله، كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " . وقال مخشي بن حمير: يا رسول الله، قعد بي إسمي وإسم أبي؛ فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشي بن حمير؛ فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيداً لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. فلما أنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه يحنه بن رؤبة، صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأهل جرباء وأذرح أعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل كتاباً؛ فهو عندهم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة - وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من كندة، كان ملكاً عليها وكان نصرانياً - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه أمرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت أمرأته: هل رأيت مثل هذا قط! قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسان، فركب، وخرجوا معه بمطاردهم؛ فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوه أخاه حسان، وقد كان عليه قباء له من ديباج مخوص بالذهب، فأستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك؛ قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله: أتعجبون من هذا! فو الذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.

رجع الحديث إلى حديث يزيد بن رومان الذي في أول غزوة تبوك. قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ، ثم أنصرف قافلا إلى المدينة، فكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه. قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فأستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً؛ فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله ، فلان وفلان، فقال: أو لم ننههم أن يستقوا منه شيئاً حتى نأتيه! ثم لعنهم رسول الله، ودعا عليهم. ثم نزل صلى الله عليه وسلم، فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو، فأنخرق من الماء - كما يقول من سمعه: إن له حساً كحس الصواعق؛ فشرب الناس وأستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي؛ وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان؛ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار؛ وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله؛ إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية؛ وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه. فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل - أو كما قال رسول الله - ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه؛ فلما نزل بذي أو أن أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان - فقال: أنطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه؛ فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف؛ وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: " والذين أتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين " ، إلى آخر القصة.
وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد؛ أحد بني عمرو بن عوف - ومن داره أخرج مسجد الشقاق - وثعلبة بن حاطب من بني عبيد - وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد ابن حنيف؛ أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، من بني ضبيعة، وبحزج - وهو إلى بني ضبيعة - وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة - ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.
قال: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط من المسلمين من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكلمن أحد أحداً من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ن فصفح عنهم رسول الله ولم يعذرهم الله ولا رسوله، وأعتزل المسلمون كلام هؤلاء الثلاثة النفر، حتى أنزل الله عز وجل قوله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " - إلى قوله - " وكونوا مع الصادقين " ، فتاب الله عليهم.
قال: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في شهر رمضان. وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، وقد مضى ذكر خبرهم قبل.
أمر طيئ وعدي بن حاتم قال: وفي هذه السنة - أعني ستة تسع - وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سرية إلى بلاد طيئ في ربيع الآخر، فأغار عليهم، فسبى وأخذ سيفين كانا في بيت الصنم؛ يقال لأحدهما: رسوب، وللآخر المخذم؛ وكان لهما ذكر، كان الحارث بن أبي شمر نذرهما له، وسبى أخت عدي بن حاتم.
قال أبو جعفر: فأما الأخبار الواردة عن عدي بن حاتم عندنا بذلك فبغير بيان وقت، وبغير ما قال الواقدي في سبي على أخت عدي بن حاتم.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا سماك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال: رسل رسول الله - فأخذوا عمتي وناساً، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فصفوا له. قالت: قلت: يا رسول الله، نأى الوافد، وأنقطع الوالد؛ وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة؛ فمن على من الله عليك يا رسول الله! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم؛ قال: الذي فر من الله ورسوله! قالت فمن علي - ورجل إلى جنبه ترى أنه على عليه السلام، قال: سليه حملاناً - قال: فسألته، فأمر بها فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها! قالت: ائته راغباً وراهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال: فأتيته فإذا عنده أمرأة وصبيان - أو صبي - فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم - فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال لي: يا عدي بن حاتم، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله! فهل من إله إلا الله! وما أفرك أن يقال الله أكبر! فهل من شيء هو أكبر من الله! فأسلمت فرأيت وجهه أستبشر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شيبان بن سعد الطائي، قال: كان عدي بن حاتم طيئ يقول فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله حين سمع به مني؛ أما أنا فكنت أمرأ شريفاً، وكنت نصرانياً أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي، لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعياً لإبلي: لا أبالك! أعدد لي من إبلي أجمالاً ذللا سمانا مسان ، فأحبسها قريباً مني؛ فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل. ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي؛ ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: فقلت: قرب لي جمالي، فقربها، فأحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصاري بالشأم، فسلكت الحوشية وخلفت ابنة حاتم في الحاضر، فلما قدمت الشأم أقمت بها، وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصيب. فقدم بها على رسول الله في سبايا طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشأم. قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه - وكانت أمرأة جزلة - فقالت: يا رسول الله؛ هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن على من الله عليك! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله! قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني؛ حتى إذا كان الغد مر بي وقد أيست، فأشار إلى رجل من خلفه: أن قومي إليه فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن علي من الله عليك! قال: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني. قالت: فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه فقيل: علي بن أبي طالب. قالت: وأقمت حتى قدم ركب من بلى - أو من قضاعة - قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشأم، قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشأم.

قال عدي: فو الله، إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا. قال: فقلت: ابنة حاتم! قال: فإذا هي هي؛ فلما وقفت على أنسحلت تقول: القاطع الظالم! أحتملت بأهلك وولدك، وتركت بنية والدك وعورته! قال: قلت: يا أخية، لا تقولي إلا خيراً، فو الله مالي عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها - وكانت أمرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فالسابق إليه له فضيلة، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت ! قلت: والله إن هذا للرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إذ لقيته أمرأة ضعيفة كبيرة فأستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلى، فقال لي: أجلس على هذه، قال: قلت: لا بل أنت، فأجلس عليها. قال: لا بل أنت، فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا ! قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع! قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله - وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل - قال: ثم قال: لعله يا عدي بن حاتم؛ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم! فو الله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم؛ فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف إلا الله؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت. قال: فأسلمت، فكان عدي بن حاتم يقول: مضت الثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً حتى تحج هذا البيت. وايم الله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات قال الواقدي: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشرفها من تميم منهم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر التمتمي ثم أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن فلان، ونعيم بن زيد، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم، معهم عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري - وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بني تميم كانا معهم، فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: أن أخرج إلينا يا محمد. فآذي ذلك من صياحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل . فقام إليه عطارد بن حاجب، فقال : الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس! ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم! فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا؛ وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام؛ ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا؛ وإنا نعرف. أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بلحارث بن الخزرج: قم فأجب الرجل في خطبته.

فقام ثابت، فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً وأصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه؛ أكرم الناس أنساباً، وأحسن الناس وجوهاً؛ وخير الناس فعالاً؛ ثم كان أول الخلق إجابة - وأستجاب لله حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحن؛ فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات؛ والسلام عليكم.
قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال :
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
ثم ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا أستقادوا وكاد الرأس يقتطع
إنا أبينا ولن يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع
وكان حسان بن ثابت غائباً، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حسان: فلما جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، خرجت إلى رسول الله، وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على كل باغ من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل عاد وظالم
ببيت حريد عزه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك وأحتمال العظائم!
قال: فلما أنتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام شاعر القوم، فقال ما قال، عرضت في قوله وقلت على نحو مما قال؛ فلما فرغ الزبرقان بن بدر من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال، قال: فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فأعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوماً فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتوا عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهمشراً يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتى قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له،! لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم - وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم - فقال قيس بن عاصم - وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله؛ إنه قد كان منا رجل في رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطي القوم؛ فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه ذلك من قول قيس بن عاصم، وهو يهجوه:
ظللت مفترشاً هلباك تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
سدنا فسوددنا عود وسوددكم ... مؤخر عند أصل العجب والذنب
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قال: فأنزل الله فيهم القرآن: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " - من بني تميم - " أكثرهم لا يعقلون " ؛ قال: وهي القراءة الأولى .
قال الواقدي: وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول، مرض في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة.
قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم قال: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير في شهر رمضان مقرين بالإسلام؛ مع رسولهم الحارث بن عبد كلال ونعيم ابن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ورسولهم إليه بإسلامهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر؛ أما بعد ذلكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين؛ وإن الله قد هداكم بهدايته ، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة؛ وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم نبيه وصفيه ؛ وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وما سقت السماء، وكل ما سقى بالغرب نصف العشر، وفي الإبل في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع؛ جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة؛ فمن زاد خيراً فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين؛ فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وله ذمة الله وذمة رسوله. وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإن له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية؛ على كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد؛ دينار واف أو قيمته من المعافر أو عرضه ثياباً؛ فمن أدى ذلك إلى رسول الله؛ فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد؛ فإن رسول الله محمداً النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتتكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم؛ وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل؛ فلا ينقلبن إلا راضياً.

أما بعد؛ فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله؛ ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخذلوا فإن رسول الله مولي غنيكم وفقيركم؛ وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهله؛ إنما هي زكاة يتزكى بها على فقراء المؤمنين وأبناء السبيل؛ وإن مالكاً قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيراً، وإني قد بعثت إليكم من صالحي أهلي وأولى ديني ، وأولى علمهم؛ فآمركم بهم خيراً فإنه منظور إليهم؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قال الواقدي: وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، ونزلوا على المقداد بن عمرو.
قال: وفيها قدم وفد بني البكاء.
وفيها قدم وفد بني فزارة؛ وهم بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجة بن حصن.
قال: وفيها نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين النجاشي، وأنه مات في رجب سنة تسع.
قال: وفيها حج أبو بكر بالناس ثم خرج أبو بكر من المدينة في ثلثمائة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، وساق أبو بكر خمس بدنات. وحج فيها عبد الرحمن بن عوف وأهدي.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام على أثر أبي بكر رضي الله عنه، فأدركه بالعرج، فقرأ علي عليه براءة يوم النحر عند العقبة. فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط؛ عن السدي، قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين - يعني من سورة براءة - فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر، وأمره على الحج، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعلي، فأخذها منه؛ فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! أنزل في شأني شيء؟ قال: لا؛ ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض! قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحج، وسار على يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى فآذن فقال: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب.
فرجع المشركون فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش! فأسلموا .
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة، أجل المشركين عشرين يوماً من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، ولا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان .
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرضت الصدقات، وفرق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عماله على الصدقات.
وفيها نزل قوله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم " ؛ وكان السبب الذي نزل ذلك به قصة أمر ثعلبة بن حاطب، ذكر ذلك أبو أمامة الباهلي .
قال الواقدي: وفي هذه السنة ماتت أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب. قال: وقيل غسلتها نسوة من الأنصار، فيهن أمرأة يقال لها أم عطية، ونزل في حفرتها أبو طلحة.
قال: وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ.
قدوم ضمام بن ثعلبة وافداً عن بني سعد

وفيها قدم وفد سعد هذيم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولي ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه؛ فأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام بن ثعلبة رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال: قال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب، قال: محمد ؟ قال: نعم، قال: يا بن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ لك في المسألة، فلا تجدن في نفسك! قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك، قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولاً؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا تعبد من دونه ؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم. قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة؛ الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع اإسلام كلها، يناشده عن كل فريضة كما ناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أنقص ولا أزيد. ثم أنصرف إلى بعيره راجعاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولي: إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة. قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فأجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: باست اللات والعزي! قالوا: مه يا ضمام! أتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويحكم ، إنهما والله لا ينفعان ولا يضران؛ إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتاباً، استنقذكم به مما كنتم فيه؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.
قال: فو الله ما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ثم دخلت سنة عشر سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب وإسلامهم قال أبو جعفر: فبعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر - وقيل في شهر ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى - سرية في أربعمائة إلى بني الحارث بن كعب.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد في شهر ربيع الآخر - أو في جمادى الأولى - من سنة عشر، إلى بلحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثاً، فإن استجابوا لك فاقبل منهم، وأقم فيهم، وعلمهم كتاب الله وسنة نبيه، ومعالم الإسلام، فإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون الناس إلى الإسلام، ويقولون: يأيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعاهم إليه، فأقام خالد فيهم؛ يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه.

ثم كتب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك؛ بعثني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام؛ فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركباناً قالوا : يا بني الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم وآمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه؛ وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إلى رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد. سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فإن كتابك جاءني مع رسلك بخبر أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن يقاتلوا ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه؛ فبشرهم وأنذرهم، وأقبل وليقبل معك وفدهم؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه وفد بلحارث بن كعب؛ فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قريظ الزيادى؛ وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآهم قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب؛ فلما وقفوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، فقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأن لا إله إلا الله، فقال رسول الله: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا! فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها رسول الله الثالثة فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها رسول الله الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجرنا استقدمنا، فقالها أربع مرات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن خالد بن الوليد لم يكتب إلى فيكم أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم. فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله يا رسول الله، ما حمدناك ولا حمدنا خالداً، فقال رسول الله: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله ؛ قال: صدقتم؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحداً، فقال رسول الله: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: يا رسول الله، كنا نغلب من قاتلنا، أنا كنا بني عبيد، وكنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: صدقتم. ثم أمر رسول الله علي بلحارث بن كعب قيس بن الحصين. فرجع وفد بلحارث ابن كعب إلى قومهم في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن قدموا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني الحارث بن كعب بعد أن ولي وفدهم عمرو بن حزم الأنصاري، ثم أحد بني النجار، ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتاباً عهد إلي فيه، وأمره فيه بأمره: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا بيان من الله ورسوله: " يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ؛ عقد من محمد النبي لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، وينهى الناس ولا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم؛ وبالذي عليهم ؛ ويلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم؛ فإن الله عز وجل كره الظلم ونهى عنه وقال: " ألا لعنة الله على الظالمين " ، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر بالنار وبعملها، ويستألف الناس حتى ينفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته، وما أمر الله به في الحج الأكبر والحج الأصغر؛ وهو العمرة، وينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير؛ إلا أن يكون ثوباً واحداً يثني طرفه على عاتقه، وينهي أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء، وينهي ألا يعقص أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر؛ وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له؛ فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوهم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله عز وجل، وأمره بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، ويغلس بالفجر، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل؛ لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل. ويأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وما سقت السماء ومما سقى الغرب نصف العشر، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة شاة؛ فإنها فريضة الله التي افترض الله عز وجل على المؤمنين في الصدقة؛ فمن زاد خيراً فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه، ودان دين الإسلام فإنه من المؤمنين؛ له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم؛ ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها، وعلى كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف أو عرضه ثياباً؛ فمن أدى ذلك؛ فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله و للمؤمنين جميعاً .
قال الواقدي: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن حزم عامله بنجران.
قال الواقدي: وفي هذه السنة قدم وفد سلامان في شوال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم سبعة نفر؛ رأسهم حبيب السلاماني.
وفيها قدم وفد غسان في رمضان.
وفيها قدم وفد غامد في رمضان.
قدوم وفد الأزد

وفيها قدم وفد الأزد، رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد ابن عبد الله الأزدي فأسلم فحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمره رسول الله على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله في جيش حتى نزل بجرش؛ وهي يومئذ مدينة مغلقة، وفيها قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين، فحاصروهم بها قريباً من شهر، وامتنعوا منهم فيها. ثم إنه رجع عنهم قافلاً؛ حتى إذا كان إلى جبل يقال له كشر ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزماً؛ فخرجوا في طلبه؛ حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلاً؛ وقد كان أهل جرش قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة يرتادان وينظران؛ فبيناهما عند رسول الله عشية بعد العصر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأي بلاد الله شكر؟ فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله؛ ببلادنا جبل يقال له جبل كثر؛ وكذلك تسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر؛ ولكنه شكر قالا: فما له يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن. قال فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان، فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله الآن لينعي لكما قومكما ، فقوما إلى رسول الله فاسألاه أن يدعو الله فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم؛ فخرجا من عند رسول الله راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد الله في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر؛ فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث؛ فمن رعاها من الناس سوى ذلك فما له سحت، فقال رجل من الأزد في تلك الغزوة - وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية وكانوا يغزون في الشهر الحرام:
يا غزوة ما غزونا غير خائبة ... فيها البغال وفيها الخيل والحمر
حتى أتينا حميراً في مصانعها ... وجمع خثعم قد ساغت لها النذر
إذا وضعت غليلا كنت أحمله ... فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا!
سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن قال: وفيها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في سرية إلى اليمن في رمضان. فحدثنا أبو كريب ومحمد بن عمرو بن هياج، قالا: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الأزجي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فكنت فيمن سار معه؛ فأقام عليه ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه تركه.
قال البراء: فكنت فيمن عقب معه؛ فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، بلغ الفوم الخبر، فجمعوا له، فصلى بنا على الفجر، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خر ساجداً، ثم جلس، فقال: السلام على همدان، السلام على همدان! ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام.
قدوم وفد زبيد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35