كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

وفيها قتل عبد الرحمن الأبناوي أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الشاري بباذغيس من خراسان، فوثب عيسى بن علي بن عيسى على عشرة آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابل وزايلستان والقندهار، فقال أبو العذافر في ذلك:
كاد عيسى يكون ذا القرنين ... بلغ المشرقين والمغربين
لم يدع كابلاً ولا زابلستا ... ن فما حولها إلى الرخجين
وفيها خرج أبو الخصيب ثانية بنسا، وغلب عليها وعلى أبيورد وطوس ونيسابور، وزحف إلى مرو، فأحاط بها، فهزم، ومضى نحو سرخس، وقوي أمره.
وفيها مات يزيد بن مزيد ببرذعة، فولي مكانه أسد بن يزيد.
وفيها مات يقطين بن موسى ببغداد.
وفيها مات عبد الصمد بن علي ببغداد في جمادى الآخرة، ولم يكن ثغر قط؛ فأدخل القبر بأسنان الصبي، ومانقص له سن.
و شخص فيها الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل.
واستأذنه فيها يحيى بن خالد في العمرة والجوار، فأذن له، فخرج في شعبان، واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج، ثم حج. ووقعت في المسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين.
وحج بالناس فيها منصور بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كان خروج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها، وسبى نساءه وذراريه، واستقاما خراسان.
وفيها حبس الرشيد ثمامة بن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بن عيسى بن زيد.
وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور عند هرثمة. وتوفي العباس بن محمد ببغداد.
ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لأبنائهوحج بالناس فيها هارون الرشيد؛ وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام؛ ولكنه نزل منزلاً على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمداً الأمين وعبد الله المأمون؛ وليي عهده؛ فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية؛ كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاءً ثانياً، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثاً، ثم صار إلى مكة فأعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد - فيما ذكر محمد بن يزيد عن إبراهيم بن محمد الحجبي - يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشأم والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بن عمرو الخاسر:
بايع هارون إمام الهدى ... لذي الحجى والخلق الفاضل
المخلف المتلف أمواله ... والضامن الأثقال للحامل
والعالم النافذ في علمه ... والحاكم الفاضل والعادل
والراتق الفاتق حلف الهدى ... والقائل الصادق والفاعل
لخير عباس إذا حصلوا ... والمفضل المجدي على العائل
أبرهم براً وأولاهم ... بالعرف عند الحدث النازل
لمشبه المنصور في ملكه ... إذا تدجت ظلمة الباطل
فتم بالمأمون نور الهدى ... وانكشف الجهل عن الجاهل
وذكر الحسن بن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد المأمون، كتب إليه عبد الملك بن صالح:
يأيها الملك الذي ... لو كان نجماً كان سعدا
اعقد لقاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا
الله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا
فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم. ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك:
حب الخليفة حب لا يدين به ... من كان لله عاصٍ يعمل الفتنا
الله قلد هاروناً سياستنا ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا
وقلد الأرض هارون لرأفته ... بنا أميناً ومأموناً ومؤتمنا
قال:

ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قال بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم:
أقول لغمة في النفس مني ... ودمع العين يطرد اطرادا
خذي للهول عدته بحزمٍ ... سنلقى ما سيمنعك الرقادا
فإنك إن بقيت رأيت أمراً ... يطيل لك الكآبة والسهادا
رأى الملك المهذب شر رأيٍ ... بقسمته الخلافة والبلادا
رأى ما لو تعقبه بعلمٍ ... لبيض من مفارقه السوادا
أراد به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا
فقد غرس العداوة غير آلً ... وأورث شمل ألفتهم بدادا
وألقح بينهم حرباً عواناً ... وسلس لاجتنابهم القيادا
فويل للرعية عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا
وألبسها بلاءً غير فانٍ ... وألزمها التضعضع والفسادا
ستجري من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا
فوزر بلائهم أبداً عليه ... أغياً كان ذلك أم رشادا
قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبة معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم.
وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من أراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بن محمد ومحمد بن يزيد التيمي وإبراهيم الحجبي، وأن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وأدخلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه. وكانت نسخة الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم " . هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجوازٍ من أمره، طائعاً غير مكره. إن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعاً، وولى عبد الله بن هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي، برضاً مني وتسليم، طائعاً غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده. وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين برضاً مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعاً بعدي، وتسليم ذلك له؛ وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما أقطعه أمير المؤمنين من قطعية، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير؛ فهو لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، موفراً مسلماً إليه. وقد عرفت ذلك كله شيئاً شيئاً.

فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد بن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله بن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين؛ وأن يمضي عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله ابن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري إلى أقصى عمل خراسان. فليس لمحمد بن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائداً ولا مقوداً ولا رجلاً واحداً ممن ضم إليه من أصحابه الذين ضمهم أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلي همذان إلى أقصى خراسان وثغورها وبلادها؛ وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحداً من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحداً، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بنداراً، ولا محاسباً ولا عاملاً، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضرراً، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده؛ بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا أقربائهم ولا مواليهم، ولا أحد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئاً من ذلك صغيراً ولا كبيراً،ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وإدهانٍ منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته.
وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله ابن أمير المؤمنين عاصياً له أو مخالفاً عليه؛ فعلى محمد ابن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره.
فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلاً أو كثيراً مما جعله أمير المؤمنين له بوجهٍ من الوجوه، أو بحيلة من الحيل؛ صغرت أو كبرت؛ فلعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن أمير المؤمنين، وهو ولي الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه؛ ما كانت الحياة في أبدانهم. وليس لأحدٍ منهم جميعاً منكانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئاً مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب. وعبد الله ابن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم محمد ابن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئاً مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة.

وليس لمحمد ابن أمير المؤمنين هارون ، ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحداً من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية؛ فإذا أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب وأرى.
فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين المرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم؛ فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئاً، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذراً واجباً ولا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك؛ وكل مملوك لأحد منكم - أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين - حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثاً البتة طلاق الحرج ، لا مثنوية فيها. والله عليم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا.
نسخة الشرط

الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة عقله، وجوازٍ من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكور وجميع أعمالها، وشرط على محمد بن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو أبتاع من الضياع والعقد والرباع أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبداً، ولا يدخل علي ولا على ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروهاً؛ في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير. فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتاباً، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه. فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمراً من الأمور التي شرطها أمير المؤمنين لي عليه.

فإن احتاج محمد بن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه؛ خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه؛ فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي. وإن أراد محمد أن يولي رجلاً من ولده العهد والخلافة من بعدي؛ فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلى إنفاذ ذلك والوفاء له به؛ ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحداً من ولدي، ولا قريباً ولا بعيداً من الناس أجمعين؛ إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحداً من ولده العهد من بعدي؛ فيلزمني ومحمداً الوفاء له.
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد على الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا الكتاب الذي كتبه لي، وعلى عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عند نقضها وتبديلها؛ فإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقيت الله يوم القيامة كافراً مشركاً؛ وكل امرأة هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً البتة طلاق الحرج؛ وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذراً واجباً علي في عنقي حافياً راجلاً؛ لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدى بالغ الكعبة؛ وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره.
وشهد سليمان بن أمير المؤمنين وفلان وفلان. وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة.
نسخة كتاب هارون بن محمد الرشيد إلى العمالبسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه؛ وهو المحمود على جميع آلائه، المسئول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب عليه أحسن المزيد من فضله. وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم؛ وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم؛ حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم. أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرفٍ له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه. وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة؛ ولا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد بن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابن أمير المؤمنين من بعد محمد ابن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم؛ من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما. ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما.
فعزم أمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع إلفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، والجهاد لعدو المسلمين؛ من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق ومارق، وأهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة؛ نظراً من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذباً عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده.
فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليها كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة.
فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحجاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤده إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعاً في المسجد الحرام، فانصرفوا. وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله؛ أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك.
وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه؛ هذا فأحمد الله عز وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمداً كثيراً، وأشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً.
واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول. وكتب إسماعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة.
قال: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة.

قال وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد؛ وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بن عيسى بن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريباً منه. فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه أجمع لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب،وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة؛ فقال إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة:
خير الأمور مغبةً ... وأحق أمر بالتمام
أمر قضى إحكامه الر ... حمان في البيت الحرام
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بن يحي بن خالد وإيقاعه بالبرامكة .
ذكر الخبر عن قتله إياه
وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته
أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بن جبريل، عن أبيه أنه قال: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحي بن خالد - وكان فيما مضى يدخلان بلا إذن - قلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه رداً ضعيفاً، فعلم يحي أن أمرهم قد تغير.
قال: ثم أقبل على الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقام يحي، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك؛ والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري؛ حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجرداً حينا، وحينا في بعض إزاره؛ وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب؛ وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الأذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قال: فاستحيا - قال: وكان من أرق الخلفاء وجهاً - وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره؛ ولكن الناس يقولون. قال: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.
وذكر عن أحمد بن يوسف أن ثمامة بن أشرس؛ قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله؛ فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع. فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة - فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهراً؛ فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله؛ فكيف أحبك! قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم؛ قد أنعمت علي وأحسنت إلي. قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك. قال: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغيير حالهم. قال: وحدثني محمد بن الفضل بن سفيان، مولى سليمان بن أبي جعفر، قال: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، قال: فدخل فلم يقم إليه أحد، فأربد لونه. قال: وكان الغلمان والحجاب بعد أن رأوه أعرضوا عنه. قال:

فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلم يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعوا بها مراراً.
وذكر أبو محمد اليزيدي - وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم - قال: من قال أن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه؛ وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غداً محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما أحدثت حدثاً ولا آويت محدثاً، فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقاً، وانكشف عنده؛ فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره، وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري؛ فانكسر الفضل؛ وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والضيق والأكبال. قال: بحياتي! فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهناً، وأصحهم فكراً - وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نعم ما فعلت؛ ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.
وحدث إدريس بن بدر، قال: عرض رجل شديد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة؛ فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحة هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قال: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قال: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان؛ فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه؛ فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، قال: على أن تؤمنني! قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك. قال: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له. قال: أوتعرف يحيى بن عبد الله؟ قال: أعرفه قديماً،وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قال: فصفه لي، قال: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن. قال: صدقت؛ هو ذاك. قال: فما سمعته يقول؟ قال: ما سمعته يقول شيئاً؛ غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاماً من غلمانه أعرفه قديماً جالساً على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوبٍ غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف،فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وأنا أرمقه؛ أطال في الأوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاة العصر؛ وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قال: فمنزلك بها؟ قال: نعم؛ فأطرق ملياً ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قال: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى أرجع. فطفر في حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيساً فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني ما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قال: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحواً من مائة صفعة، ثم قال: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك؛ وتحثوا بخبره؛ ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما كان ألقى إلى الرشيد؛ حتى كان من أمر البرامكة ما كان.
وذكر يعقوب بن إسحاق أن إبراهيم بن المهدي حدثه. قال:

أتيت جعفر بن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قال: سألته: هل ترى في داري عيباً؟ قال: نعم؛ ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قال إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحواً من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غداً بين يدي أمير المؤمنين، قال: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له. قال: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! ما أظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب. قال: إن سمع مني قلت: إن أمير المؤمنين نعماً على وم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها؛ وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا.
وذكر زيد بن علي بن حسين بن زيد أن إبراهيم بن المهدي حدثه أن جعفر بن يحيى، قال له يوماً - وكان جعفر بن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني استربت بأمر هذا الرجل - يعني الرشيد - وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت؛ فارمق ذلك في يومك هذا وأعلمني ما ترى منه. قال: ففعلت ذلك في يومي؛ فلما نهض الرشيد من مجاسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحداً واحداً، فأراهم ولا يروني؛ حتى إذا لم يبق منهم أحد؛ إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قال: أخرج يا حبيبي، قال: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني ها هنا؛ قال: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه؛ وعلمت أنك تكره أن ترى واقفاً في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم؛ قال: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا هزلت.
قال: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي. قال: فانصرفت. قال: وحدثني علي بن سليمان أنه سمع جعفر بن يحيى يوماً يقول: ليس لدارنا هذه عيب؛ إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء - يعني نفسه.
وذكر عن موسى بن يحيى، قال: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا؛ وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة.
قال: وحدثني أحمد بن الحسن بن حرب، قال: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل. قال: ثم ولى ليمضي؛ فلما قرب من باب المسجد كر مسرعاً، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثني عليك... اللهم والفضل. قال: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار،ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد؛ الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بن عيسى كاتبه، ومحمد بن يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قال: وخلا الرشيد بالفضل ليلاً، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لان على عيسى بن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان واعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وإنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم؛ فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه؛ وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد،وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، اختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد عليه أنه صار إلى خراسان؛ كما قيل له، فلما صار إلى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بن موسى بالكوفة؛ فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها؛ فركبت أم الفضل بن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال:

يضمنه أبوه فقد رفع إلى فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه؛ فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته؛ وكان مشغوفاً بالسماع. قال: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد؛ حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الأنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه.
وذكر عن سعيد بن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك؛ وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها. قال: وقد كان يحيى قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك؛ ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعاً بموافقتي، وآمن لك علي. قال الرشيد: يا أبت ليس بك هذا؛ ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل.
وقد حدثني أحمد بن زهير - أحسبه عن عمه زاهر بن حرب - أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرههما إذا جاس للشرب؛ وذلك بعد أن أعلم جعفراً قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي، وتقدم إليه ألا يمسها، ولايكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته؛ فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها،فحملت منه وولدت غلاماً، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستوراً عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه؛ ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه؛ فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك.
وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاماً كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصاً من مكة إلى العراق؛ فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار؛ فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الخبر عن مقتل جعفرذكر الفضل بن سليمان بن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أياماً، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم أرسل مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجفر بن يحيى ليلاً، فدخل عليه مسرور وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجاً عنيفاً يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك.
وذكر عن علي بن أبي سعيد أن مسروراً الخادم، حدثه قال: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه:
فلا تبعد فكل فتىً سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
قال: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين. قال: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قال: فمضيت إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه: ائتني برأسه، فأتيت جعفراً فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران؛ فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانية، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قال:

يا ماص بظر أمه، ائتني برأس جعفر! فعدت إلى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قال: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولاً، ثم برأسه آخراً. قال: فخرت فأتيته برأسه.
قال: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضراً، وحول الفضل بن يحيى ليلاً فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلتهرجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم؛ وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم.
فلما أصبح بعث بجثة جعفر بن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بن أعين وإبراهيم بن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته؛ منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بن يحيى، وإبراهيم بن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بن يحيى، ويحيى بن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد بن يحيى، وجعل معه هرثمة بن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل. ففعل السندي ذلك، وأضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداءفي جميع البرامكة: ألا أمان آواهمإلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه؛ فإنه استثناهم؛ لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة. وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظةً من قبل هرثمة بن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بن عثمان بن نهيك، ثم صلب. وحبس يحيى بن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم. ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.
وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفاً من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:
تلمظ السيف من شوق إلى أنسٍ ... فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر
قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام.
وذكر بعضهم أن عبد الله بن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة.
وذكر محمد بن إسحاق أن جعفر بن محمد بن حكيم الكوفي، حدثه قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: إني لجالس يوماً، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتاباً صغيراً، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " : يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعداً فقم، وإن كنت قائماً فلا تقعد حتى تصير إلي. قال السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت. وكان الرشيد بالعمر؛ فحدثني العباس بن الفضل بن الربيع، قال: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبهه أن يكون هو! قال: فطلعت. قال السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قال للعباس:

اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيما أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قال: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قال: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج - خلا باب محمد بن خالد - حتى يأتيك أمري. قال: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت. قال السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به. قال: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة بن أعين، ومعه جعفر بن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين؛ وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قال: ففعلت ما أمرني به.
قال محمد بن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوباً حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بن خازم، دعا بالوليد بن جثم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بن الجنيد الختلي - وكان سيافه - فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا - يعني جعفراً - فلما مضى، جمع السندي له شوكاً وحطباً وقال محمد بن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى،قيل ليحيى بن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفراً، قال: كذلك يقتل ابنه، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال: كذلك تخرب دورهم.
وذكر الكرماني أن بشاراً التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفراً في آخره؛ فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر بن يحيى معه، قد خلا به دون ولاة العهد؛ وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه؛ وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه؛ ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني علي الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضاً واطرب؛ لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت؛ فانصرف عنه إلى منزله؛ فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعة تأتيه بالأنفال والأبخرة والرياحين؛ حتى ذهب الليل. ثم بعث إليه مسروراً فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاماً الأبرش بباب يحيى بن خالد، ولم يعترض لمحمد بن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.
قال: فحدثني العباس بن بزيع عن سلام، قال: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت - وقد هتكت الستور وجمع المتاع - قال لي: يا أبا مسلمة؛ هكذا تقوم الساعة! قال سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه؛ فأطرق مفكراً.
قال وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي، قال: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح بن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم. قال: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد. وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.
قال: قتل جعفر بن يحيى ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة - وفي ذلك يقول الرشاقي:
أيا سبت يا شر السبوت صبحيةً ... ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما
أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ... وفي صفرٍ جاء البلاء مصمما
قال: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفراً سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم أقتله.

ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم
قال: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:
ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفداً بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفرٍ ... ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيفٍ هاشمي مهند
وفيهم يقول في شعر له طويل:
إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ... غدر الزمان بجعفرٍ ومحمد
حتى إذا وضح النهار تكشفت ... عن قتل أكرم هالك لم يلحد
والبيض لولا أنها مأمورة ... ما فل حد مهند بمهند
يا آل برمك كم لكم من نائل ... وندى، كعد الرمل غير مصرد
إن الخليفة لايشك أخوكملكنه في برمكٍ لم يولد
نازعتموه رضاع أكرم حرةٍ ... مخلوقة من جوهرٍ وزبرجد
ملك له كانت يد فياضة ... أبداً تجود بطارفٍ وبمتلد
كانت يداً للجود حتى غلها ... قدر فأضحى الجود مغلول اليد
وفيهم يقول سيف بن إبراهيم:
هوت أنجم لجدوى وشلت يد الندى ... وغاضت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمكٍ ... بها يعرف الحادي طريق المسالك
وقال بن أبي كريمة:
كل معير أعير مرتبةً ... بعد فتى برمكٍ على غرر
صالت عليه من الزمان يد ... كان بها صائلاً على البشر
وقال العطوي أبو عبد الرحمن:
أما والله لولا قول واشٍ ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
على الدنيا وساكنها جميعاً ... ودولة آل برمكٍ السلام
وفي قتل جعفر قال أبو العتاهية:
قولا لمن يرتجي الحياة أما ... في جعفرٍ عبرة ويحياه!
كانا وزيري خليفة الله ها ... رون هما ما هما خليلاه
فذاكم جعفر برمته ... في حلق رأسه ونصفاه
والشيخ يحيى الوزير أصبح قد ... نحاه عن نفسه وأقصاه
شتت بعد التجميع شملهم ... فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
كذاك من يسخط الإله بما ... يرضي به العبد قد تاهوا
سبحان من دانت الملوك له ... أشهد أن لا إله إلا هو
طوبى لمن تاب بعد غرته ... فتاب قبل الممات، طوباه!
قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.
وفيها مات يعقوب بن داود بالرقة.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قرباناً له ووسيلة، وولاه العواصم.
ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه: ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن عبد الملك بن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به؛ وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع؛ فذكر أن عبد الملك بن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفراً بالنعمة، وجحوداً لجليل المنة والتكرمة! فقال:

يا أمير المؤمنين،لقد بؤت إذاً بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم؛ وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية. إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداة النصيحة، ولها عليك العدل في حكمهاوالتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها. فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك!هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده؛ ولعله لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لم يعرفه مني. وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذلك يا قمامة! قال قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فيما تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور؛ فإن كان مأموراً فمعذور، وإن كان عاقاً ففاجر كفور؛ أخبر الله وجل بعداوتة، وحذر منه بقوله: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " . قال: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح؛ ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك؛ فإنه الحكم بيني وبينك.فقال عبد الملك : رضيت بالله حكماً، وبأمير المؤمنين حاكماً؛ فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.
قال: فلما كان بعد ذلك جلس مجلساً آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يوماً أحتج فيه، ولا أجاذب منازعاً وخصماً. قال: ولم؟ قال: لأن أوله جرى على غير السنة؛ فأنا أخاف آخره. قال: وما ذاك؟ قال: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام. قال: السلام عليكم؛ اقتداء بالسنة، وإيثاراً للعدل، واستعمالاً للتحية. ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي...البيت.
ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع؛ وكأني بالوعيد قد أروى ناراً تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم؛ فمهلاً؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك؛ ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضهه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعة القلوب في الصدور؛ فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته؛ كنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:
ومقام ضيق فرجته ... ببناني ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل قال:
فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.
وذكر زيد بن علي بن الحسين العلوي، قال: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك - وهو يومئذ على شرطه - فقال: أفي إذن انا قأتكلم، قال: تكلم، قال: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحاً، فعلام حبسته! قال: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمي والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. قال: أما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه؛ ولكن أرى أن تحبسه محبساً كرماً يشبه محبس مثلك مثله. قال: فإني أفعل. قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه، فقل له أنظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك؛ فذكر قصته وما سأل. قال: وقال الرشيد يوماً لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلمته: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا؟ قال:

لمروان الجعدي، قال: ما أبالي أي الفحلين غلب علي؛ فحبسه الرشيد عند الفضل بن ربيع؛ فلم يزل محبوساً حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشأم؛ فكان مقيماً بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطى المأمون طاعةً أبداً. فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. وكان قال لمحمد: إن خفت فالجأ إلي،فوالله لأصوننك.
وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بن خالد: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أطلعت من عبد الملك على شيء من هذا؛ ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي؛ فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك أكثر مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن؛ ولكنه كان زجلاً محتملاً يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. قال: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت؛ على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم؛ فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك؛ فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضياً عني؟ قال: بلى، فرضي الله عنك. ففرق بينهما ثلاثة أيام؛ فلما لم يجد عنده من ذلك شيئاً جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان أعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما أعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له يقتل ابنك مثله. قال مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قال: كيف قال؟ فأعدت عليه القول، قال: قد خفت والله قوله؛ لأنه قلما قال لي شيئاً إلا رأيت تأويله.
وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه؛ وإلا أفسد عليك ناحيته. فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد؛ فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، ونخلفوا وتقدمتهم؛ حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك؛ ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص. فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمداً دائماً أبداً.
وقال الرشيد لعبد الملك بن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك: هذا منزلك؟ قال: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك. قال: كيف هو؟ قال: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله.
ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد أرض الروم وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بن جعفر بن محمد الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعث إليه الروم تبذل له ثلثمائة وعشرين رجلاً من أسارى المسلمين؛ على أن يرحل عنهم؛ فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحاً.
ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم.
ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.
ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك: وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ ريني - وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها - فعادت الروم على ريني فخلعتها، وملكت عليها نقفور. والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها؛ فذكر أن نقفور لما ماك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:

من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب؛ أما بعد؛فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها؛ لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن؛ فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
قال: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحداً أن ينظر إليه دون أن يخاطبه؛ وتفرق جلساؤه خوفاً من زيادة قول أو فعل يكون منهم؛ واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم " . من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق. وكان البرد شديداً، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه؛ فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقاً عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من أهل خرة يكنى أبا محمد عبد الله بن يوسف - ويقال: هو الحجاج بن يوسف التيمي، فقال:
نقض الذي أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى ... بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة ... تشفي النفوس مكانها مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خده ... حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكأنها ... بأكفنا شعل الضرام تطير
وصرفت بالطول العساكر قافلاً ... عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت ... هبلتك أمك ما ظننت غرور!
ألقاك حينك في زواجر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس اللإمام وإن غفلنا غافلاً ... عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه ... فعدوه أبداً به مقهور
يا من يريد رضا الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغش إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور
نصح الإمام على الأنام فريضة ... ولأهلها كفارة وطهور
وفي ذلك يقول إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنياً ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك اسمان شقا من رشاد ومن هدىً ... فأنت الذي تدعى رشيداً ومهديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطاً ... وإن ترض شيئاً كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العلا ... فأوسعت شرقياً وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله يصفو أن لهارون ملكه ... وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميا
وقال التيمي:
لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ... لما رأته بغيل الليث قد عبثا
ومن يزر غيله لا يخل من فزعٍ ... إن فات أنيابه والمخلب الشبثا
خان العهود ومن ينكث بها فعلى ... حوبائه، لا على أعدائه نكثا
كان الإمام الذي ترجى فواضله ... أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا
فرد ألفته من بعد أن عطفت ... أزواجه مرهاً يبكينه شعثا
فلما فرغ من إنشاده، قال:

أوقد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعاً في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه،فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وأبشر بالغنيمة والإياب
خبر مقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك وفيها قتل - في قول الوافدي - إبراهيم بن عثمان بن ناهيك. وأما غير الواقدي؛ فإنه قال: في سنة ثمان وثمانين ومائة.
ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر عن صالح الأعمى - وكان في ناحية إبراهيم بن عثمان بن نهيك - قال: كان إبراهيم بن عثمان كثيراً ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعاً عليهم، وحباً لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قال: يا غلام، سيفي ذا المنية - وكان قد سمى سيفه ذا المنية - فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لأقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل فقال: ما الذي قال الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قال: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سراً فسأله، فقال: لقد قال ذلك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل ولياً من أوليائي بقول غلام وخصي، لعلهما تواصيا على هذه المنافسة؛ الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياماً، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه؛ فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك؛ إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلني وإياه، ففعل ذلك الفضل بن الربيع؛ وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بن الربيع للقيام، فقال الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فينحوا عنه، ثم قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قال: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك؛ قال: إن في نفسي أمراً أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قال: يا سيدي إذاً لا يرجع عني إليك أبداً، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه. قال: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامةً ما أحسن أن أصفها؛ فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي؛ فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قال: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يابن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، فقالت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قال: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنة والله؛ ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه - فضربه بسيفه حتى مات - إلا ليال قلائل.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فوردعليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم. وقتل من الروم - فيما ذكر - أربعون ألفاً وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.

وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء؛ وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر شخوص الرشيد إلى الري فمن ذلك ما كان من شخوص الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري.
ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها
وما أحدث في خرجته تلك في سفره
ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بن خالد في تولية خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالاً جليلاً، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثيلب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبهيحيى بن خالد، فقال له: يا أبا علي؛ هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة - وهو كالمازح معه إذ ذاك - فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي؛ وما أحسن هذا وأكثره وإن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء علقبته ونتائج مكروهه، قال: وما ذاك؟ فأعلمه، قال: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلماً وتعدياً؛ ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قال: وكيف ذاك؟ قال: قد ساومنا عوناً على السفط الذي جاءنا به من الجوهر،وأعطيناه به سبعة آلاف ألف، فأبى أن يبيعه، فأبعث إليه الساعة بحاجتي فآمره أن يرده إلينا؛ لنعيد فيه نظرنا؛ فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك. وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمراً من فعل علي بن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية؛ مما جمع علي في ثلاث سنين.
فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك على ذكر علي بن عيسى عنده، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده. فدعا يحيى بن خالد، فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته.
وكان قيل للرشيد:

إن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير. وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله؛ إذا أفضت الخلافة إليه. ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحواً من أربعة أشهر؛ حتى قدم عليه علي بن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه. فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهومشيع له؛ فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بن هلنئ في ذلك:
تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وفضل هاروناً على الخلفاء
نزال بخير ما انطوينا على التقى ... وما ساس دنيانا أبو الأمناء
وفي هذه السنة - حين صار الرشيد إلى الري - بعث حسيناً الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب؛ من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لونداهرمز، جد مازيار، والثالث فيه أمان لمرزيان بن جستان، صاحب الديلم. فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده. وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم ونداهرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك؛ فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة. وقدم عليه الري أيضاً خزيمة بن خازم، وكان والي إرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بن مالك طبرستان والري والرويان ودنباوند وقومس وهمذان. وقال أبو اللعتاهية في خرجة هارون هذه - وكان هارون ولد بالري:
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وولى هارون في طريقه محمد بن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصناً بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص؛ فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الإثنين، لليلتين نقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجهاً إلى الرقة، فنزل السيلحين.
وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قال لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينةً ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها؛ وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها؛ وما رأى أحد من آبائي سوءاً ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة - بني أمية - مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل؛ ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبداً.
وقال العباس ن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نف ... رق بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال
وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم مسلم إلا فودي به - فيما ذكر - فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:

وفكت بك الأسرى التي شيدت لهل ... محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا: سجون المشركين قبورها
ورابط فيها القاسم بدابق.
وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى بن موسى.
ثم دخلت سنة تسعون ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث فمن ذلكما كان من ظهور خلاف رافع بن ليث بن نصر بن سيار بسمرقند، مخالفاً لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.
ذكر الخبر عن سبب ذلكوكان سبب ذلك - فيما ذكر لنا - أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سبباً للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعاً خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها؛ إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قوماً عدولاً، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج؛ ففعلت ذلك وتزوجها رافع. وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعاً ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيداً على حمار؛ حتى يكون عظة لغيره. فدرأ سليمان بن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيداً حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند - فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنه عيسى بن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان بن حميد؛ عامل علي بن عيسى فقتله. فوجه علي بن عيسى إليه ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعاً وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب.
وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به؛ وهو خاتم الخاصة، نقشه: " الله ثقتي آمنت به " .
وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في أيديهم.
فتح الرشيد هرقلة وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم؛ وكان دخلها - فيما قيل - في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق؛ سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائحاً في أرض الروم في سبعين ألفاً، وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقوبية - وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال - وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوماً عليها، وولى حميد بن معيوف سواحل بحر الشأم إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفاً، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار.
وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب؛ واتخذ قلنسوة مكتوباً عليها " غاز حاج " ، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي:
فمن يطلب لقاءه أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور
وما حاز الثغور سواك خلق ... من المتخلفين على الأمور

ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار؛ منها عن رأسه أربعة دنانير؛ وعن رأس ابنه استبراق دينارين. وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جاريه من سبي هرقلة كتاباً نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم. سلام عليكم، أما بعد أيها الملك، فإن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة؛ أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفي بحاجتي فعلت.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. واستهداه أيضاً طيباً وسرادقاً من سرلدقته فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلاً فيه، وسلمت الجاريه والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأ خبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دارهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغهخمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازياً، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين. وكان نفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان، واشترط عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلثمائة ألف دينار. وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مز، فقتله بعين النورة. ونقض أهل قبس العهد، فغزاهم معيوف بن يحي فسبى أهلها.
وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا؛ فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحاً. وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحي بن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها وقع الثلج بمدينة السلام .
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها غلظ أمر رافع بن ليث بسمرقند.
وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجه صاحب الشاش في إتراكه قائداً من قواده، فأتوا عيسى بن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه.
وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان.
وفيها غزا يزيد ن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرطوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون.
وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفاً من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم؛ إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة. ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم بن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم بها، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة.
وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.
وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة.
ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بن عيسى وسخطه عليه قال أبو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابن علي بن عيسى وكيف قتل. ولما ابنه عيسى خرج علي عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بن الليث، فيستولي عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالاً عظيمة - قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف - ولم يعلم بها علي بن عيسى ولا اطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال:

خرج علي عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال؛ وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك ، وولى هرثمة بن أعين، واستصفى أموال علي بن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف.
وذكر عن بعض الموالي أنه قال: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد خراسان، فوردت خزائن علي بن عيسى التي أخذت له على ألف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم.
وذكر أنه دخل عليه يوماً هشام بن فرخسرو والحسين بن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد!والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه. ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واشٍ، أو سعاية باغٍ، فإني بريء مما قرفت به. قال: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب؛ ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته؛ اخرج عني غير مستور ولا مصاحب. فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة؛ يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم؛ والله ما أدع في تقريظ الأمير جهداً، وفي وصفه قولاً إلا خصصته به وقلته فيه؛ فإن كنت إذا قلت خيراً نقل إليك شراً فما حيلتي! قال: كذبت لا أم لك؛ لأنا أعلم بما تنطوي عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي. فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية - وكانت من أكبر ولده - فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت؛ وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت: وما ذاك جعلت فداك! قال: إني أخاف هذا الفاجر علي بن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالي إلى فراشي وحركيني؛ فإذا رأيت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي. وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحداً من خلق الله من قريب أو بعيد. ففعلت - وكانت عاقلة حازمة - فأقام مطروحاً على فراشه حيناً لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام؛ فإنه توهم عزله، فصح توهمه.
ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه. فرآه في الطريق رجل من قواد علي بن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحاً بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال: أتلقى أميرنا أبا حاتم، قال: ألم تكن عليلاً؟ قال: بلى؛ فوهب الله العافية؛ وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة.
وأما الحسين بن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيراً بالرشيد من علي بن عيسى، فأجاره.
ولما عزم الرشيد على عزل علي بن عيسى دعا - فيما بلغني - هرثمة بن أعين مستخلياً به فقال: إني لم أشاور فيك أحداً، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى؛ إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره؛ وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتاباً بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور؛ فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛ ليتعرف ما يكون منك ومنه؛ وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مدداً لعلي بن عيسى وعوناً له. قال: ثم كتب إلى علي بن عيسى بن ماهان كتاباً بخطه نسخته:

" بسم الله الرحمن الرحيم " . يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك؛ فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري؛ حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته؛ بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهماً، ولا حقاً لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به؛ حتى ترده إلى أهله؛ فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقاماً لله عز وجل بادئاً، ولخليفته ثانياً، وللمسلمين والمعاهدين ثالثاً؛ فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعاً أو مكرهاً.
وكتب عهد هرثمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه؛ أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماماً في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه؛ ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين؛ فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم؛ فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين؛ فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته؛ حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم؛ فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمرٍ يريبهم وظن يرعبهم. وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وكفى بالله شهيداً.
وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.
ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بن عيسى في معاونته وتقوية أمره والشد على يده؛ فكتب وظهر الأمر بها؛ وكانت كتب حمويه وردت على هارون: إن رافعاً لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم علي بن عيسى الذي قد سامهم المكروه.
خبر شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان والياً عليها ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان والياً عليها.
ذكر الخبر عما كان من أمره في شخوصه إليها

وأمر علي بن عيسى وولده
ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بن عيسى في الظاهر أموالاً وسلاحاً، وخلعاً وطيباً؛ حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولى الين والتجربة منهم؛ فدعا كل رجل منهم سراً، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده؛ فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهمإلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بن حفص بن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفاً من أن يهربوا إذا أظهر أمره. ثم وجه إلى علي بن عيسى :

إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل؛ فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه. وأيضاً فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري؛ أن يطمع فيه بعض من تسمو إليه نفسه إلى أن يقتطع بعضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة. فوجه علي بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا. وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال. ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده بأحسن لقاء وآنسه؛ فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن ، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته؛ وهرثمة يجيبه؛ حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذاً والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير؛ فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس؛ فدعا علي بالغداء فطعما، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازماً على ألا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فأنت جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن؛ فلما رفع الطعام قال له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان؛ فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها؛ ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته. فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أن حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقيه وتقييد ولده وكتابه وعماله وكان رحل ومعه وقر من قيود وأغلال - فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علي بن عيسى، وما أمره به وفي عماله وأعوانهن وأنه بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق. وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعلء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف، فدعا لعلي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مئونتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم. ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو أعماله وأخفاها ولم يظهر عليها؛ فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلاً من أهل مرو - وكان من أبناء المجوس - فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بن عيسى حتى صار إليه، فقال له سراً: لك عندي مال، فإن احتجت إليه حملته إليك أولاً فأولاً، وصبرت للقتل فيك؛ إيثاراً للوفاء وطلباً لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في في السلطان ولا الشيطان أبداً. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالاً وثياباً ومسكاً، وأنه لا يدري ما قدر ذلك؛ غير أنه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبره. وكان يضرب به المثل بوفائه؛ فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل - وكان يقال له: العلاء بن ماهان - فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم؛ فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه؛ حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قال للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها:

يا هذا، إن كنت محسناً فاصرف بصرك عني، فوالله لا تركت شيئاً من بغيتك علي إلا دفعته إليك؛ فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قال: لا أرضى حتى أفتشك؛ لا تكونين قد خبأت ذهباً أو دراً أو ياقوتاً؛ فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها؛ فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه؛ حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد.
فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره؛ أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قال: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير! أجلني يوماً أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل. ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال نعم، قال: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بن ماهان، فيقول له: صالح فلاناً عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم؛ فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئاً، فأقمت حولاً أنتظر ركوب هذا الفاجر؛ فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمناً إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قال: نعم، جماعة حضروا كلامه؛ فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قال: ولم؟ قال: لقذفك أم هذا، قال: من فقهك وعلمك هذا؟ قال: هذا دين المسلمين، قال: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين؛ وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتماً ومرة أعين؛ فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك ومطالبته بقذفه أمك.
كتاب هرثمة إلى الرشيد في أمر علي بن عيسى ولما حمل هرثمة علياً إلى الرشيد، كتب إليه كتاباً يخبره ما صنع؛ نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " . أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه في أقصى غاية الهمة، امتناناً منه عليه، وحفظاً لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه وأهل حقه وطاعته؛ فسيتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفية في كل ما يؤدينا إليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.

ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلاً ما أمرني به فيما أنهضني له؛ لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله؛ إلى أن حللت أوائل خراسان؛ صائناً للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره؛ لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها؛ كجرجان ونيسابور ونسا وسرخس، ولم آل الأحتياط في ذلك، واختيار الكفاءة وأهل الأمانة والصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، وأمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم؛ وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بن حفص بن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وإحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه.
ولما صرتمن مدينة مرو على منزل، اخترت عدةً من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعاً، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنساً وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك؛ مما كان يأتيه من كتبي؛ فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لإلقاء سوء الظن عنه؛ لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك. وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي؛ فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها. ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أنه قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه؛ من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته.
ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيرة علي، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه؛ وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ بحقوقهم أقصى غايتهم. وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي؛ وأني به أقتدي وعليه أحتذي؛ فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره؛ فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعاً، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدلم عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم. فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدراً صالحاً من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي تعنى بها إن شاء الله تعالى.

ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة؛ ومهما تنصرف به رسلي إلى أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، وأعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه. وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته؛ ما لم تزل عادته جاريةً به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام.
الجواب من الرشيد" بسم الله الرحمن الرحيم " . أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واحتذائك في ذلك كله ما كلن أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيراً وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يدك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.
وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جداً واجتهاداً فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت إليه، ومن أيدي أصحاب الودائع التي استودعوها إياهم؛ واستعمال اللين والشدة في ذلك كله؛ حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم؛ ولا تبقي من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم؛ حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الإحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم؛ وما الله بظلام للعبيد.
ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافاً وامتناعاً من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم؛ فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم؛ إذ كانوا رعيته؛ وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعتهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم - وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها؛ فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم؛ وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك فيإن آثروه، وعنودٍ إن أظهروه. وكفى بالله شهيداً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب. والسلام.
وكتب إسماعيل بن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن ناصر بن مالك.
ذكر الخبر عن مسير الرشيد إلى خراسان

وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع؛ وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الإثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حماداً البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمداً بمدينة السلام.
وذكر عن ذي الرياستين أنه قال: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك؛ وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه. فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له : أنت عليل؛ وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئاً. فأذن له وسار.
فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبداً. قال: فقلت: بل يردك الله سالماً؛ قد فتح الله عليك، وأراك في عدوك أملك. قال: ؟؟؟؟؟ يا صباح، لا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قال: فتعال حتى أريك، قال: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، فأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قال: فكشف عن بطنه؛ فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم؛ ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين - وسمى الثالث فذهب عني اسمه - وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب؛ ولا في ولاة العهود؛ غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك؛ وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروهاً أبداً، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفراً مفلحاً، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك. قال: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين.
قال: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع؛ فإن لك أشغالاً، فودعته وكان آخر العهد به.
وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي.
وفيها مات علي بن ظبيان القاضي بقصر اللصوص.
وفيها قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله.
وفيها فارق عجيف بن عنبسة والأحوص بن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بن ليث، وصاروا إلى هرثمة.
وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر.
وفيها ولى ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة.
وفيها كان الفداء بالبدندون.
وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
وفيها قدم بعلي بن عيسى بغداد، فحبس في داره.
وفيها مات عيسى بن جعفر بطرارستان - وقيل بالدسكرة - وهو يريد اللحاق بالرشيد.
وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن عبيد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وفاة الفضل بن يحي فمن ذلك وفاة الفضل بن يحي بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته - فيما ذكر - من ثقل أصابه في لسانه وشقه؛ وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره. ومكث يعالج أشهراً، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان

الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر؛ وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم اخرج فصلى الناس على جنازته.
وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس وفيها وافي هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان - فيما ذكر - في صفر، وهو عليل، إلى طوس؛ فلم يزل بها إلى أن توفي - واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك ويحيى ين معاذ وأسد بن يزيد بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي بن الحرشي ونعيم بن حازم؛ وعلى كتابته ووزارته أيوب بن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.
وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن ليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس؛ فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك - أو قال أكثر - وفي يده مرآة ينظر فيها إلى وجهه. قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ونظر إلى أخي رافع، فقال: أما والله يابن اللخناء؛ إني لأرجو ألا يفوتني خامل - يريد رافعاً - كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حرباً، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلماً؛ ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذاً علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل؛ لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء. فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضواً، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه. ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.
ذكر الخبر عن موت هارون الرشيد وفيها مات هارون الرشيد.
ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيهذكر عن جبريل بن بختيشوع أنه قال: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته؛ فإن كان أنكر شيئاً وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها؛ فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابساً مفكراً مهموماً، فوقفت بين يديه ملياً من النهار، وهو على تلك الحال؛ فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك منذلك؛ وأنا أولى من أفضيت إليه بالخبر، وتروحت إليه بالمشورة. فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين؛ فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا إنما تكون من مخاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء؛ وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله. قال: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكهف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتهت. فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتفاض بعضها. قال: قد كان ذاك، قال: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سروراً، يخرجه من قلبك لا يولد علة. قال:

فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملاً يقوم ويسقط؛ فاجتمعنا إليه؛ كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسراً عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئاً؛ وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بها والله بعد ثلاثة ودفن في ذلك البستان.
وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته؛ فكان الرشبد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية. فمات في ذلك اليوم.
وذكر الحسن بن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه - وكان جمالاً معه مائة جمل، قال: هو حمل الرشيد إلى طوس - قال: قال الرشيد احفروا لي قبراً قبل أن أموت، فحفروا له، قال: فحملته في قبة أقود به؛ حتى نظر إليه. قال، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع الدار التي كان فيها نازلاً، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قوماً فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
وذكر محمد بن زياد بن محمد بن حاتم بن عبد الله بن أبي بكرة، أن سهل بن صاعد حدثه، قال: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي؛ فنهضت فقال لي: اقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت يا أمير المؤمنين ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني؛ فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك، ثم قال: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم ... شماساً وصبراً شدة الحدثان
وذكر عن مسرور الكبير، قال: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في أثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئاً، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.
وتوفي - فيما ذكر - في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم، نصف الليل؛ ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً. أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال هشام بن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بن محمد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستة عشر يوماً.
وقيل: كان سنه يوم توفي سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وكان جميلاً وسيماً أبيض جعداً، وقد وخطه الشيب.
ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد

ولاة المدينة: إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك بن صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب الزبيري، بكار بن عبد الله بن مصعب، أبو البختري وهب بن وهب.
ولاة مكة: العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس؛ محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى،محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، أحمد بن إسماعيل بن علي، الفضل بن العباس بن محمد.
ولاة الكوفة: موسى بن عيسى، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، جعفر بن جعفر بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى.
ولاة البصرة: محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد؛ جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين؛ إسحاق بن عيسى بن علي.
ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة ابن مالك، الفضل بن يحيى، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى خليفته بها، علي بن الحسن بن قحطبة، علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين.
ذكر بعض سير الرشيدذكر العباس بن محمد عن أبيه، عن العباس، قال: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا؛ إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال؛ فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده. وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه. وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه ، ويكره المراء في الدين، ويقول : هو شيء لانتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب؛ ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
وما انفك معقوداً بنصر لواؤه ... له عسكر عنه تشظى العساكر
وكل ملوك الروم أعطاه جزية ... على الرغم قسراً عن يد وهو صاغر
لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ... كأن لم يدمنه من الناس حاضر
أناخ على الصفصاف حتى استباحه ... فكابره فيها ألج مكابر
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ... إلى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشم ... كما حفت البدر النجوم الزواهر
يسوق يديه من قريش كرامها ... وكلتاهما بحر على الناس زاخر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت ... عليهم بكفيك الغيوم المواطر
على ثقة ألقت إليك أمورها ... قريش، كما ألقى عصاه المسافر
أمور بميراث النبي وليتها ... فأنت لها بالحزم طاوٍ وناشر
إليكم تناهت فاستقرت وإنما ... إلى أهله صارت بهن المصاير
خلفت لنا المهدي في العدل والندى ... فلا العرف منزور ولا الحكم جائر
وأبناء عباس نجوم مضيئة ... إذا غاب نجم لاح آخر زاهر
علي بني ساقي الحجيج تتابعت ... أوائل من معروفكم وأواخر

فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغاً ... مدى شكر نعماكم وإني لشاكر
وما الناس إلا وارد لحياضكم ... وذو نهل بالري عنهن صادر
حصون بني العباس في كل مأزق ... صدور العوالي والسيوف البواتر
فطوراً يهزون القواطع والقنا ... وطوراً بأيديهم تهز المخاصر
بأيدي عظام النفع والضر لا تني ... بهم للعطايا والمنايا بوادر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالةً والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشمٍ ... وإن رغمت من حاسديك المناخر
فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه.
وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضاحكاً له محادثاً فكيهاً، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته؛ وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلاً في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه؛ فجاء ذات ليلةوهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائماً، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك! قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائماً، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب، فقال: يابن أبي مريم، في الصلاة أيضاً! قال: يا هذا وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت؛ إنما سمعت منك كلاماً غمني حين قلت: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بن محمد أهدى غاليةً إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتية العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية؛ فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قال: خذها إليك. فاغتاظ العباس، وطار أسفاً، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قال: فضحك الرشيد ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن أنصرف فأنيكك. فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك. ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: انظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قال: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم.
وذكر عن زيد بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يوماً، فقال له ابن أبي مريم:

هل لك أن تجعلني حاجبك غداً عند أخذك الدواء؛ وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قال: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غداً منزلك؛ فإني قد وليت ابن أبي مريم الحجابة. وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس؛ فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء؛ فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة؛ فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قال: معزول، قال: قد سوغناك حاصلنا؛ فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد.
وذكر عن إسماعيل بن صبيح، قال: دخلت على الرشيد، فإذا جارية على رأسه، وفي يدها صحيفة وملعقة في يدها الأخرى، وهي نلعقه أولاً فأولاً، قال: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قال: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قال: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قال: هذا حشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد؛ وهو نافع لأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفى البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ. قال: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ؛ فقلت: بكر على كل غداة بالحشيش، قال: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها. قال: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعماه في اليوم الأول فاستطبته، وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه. وذكرت أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء،فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو العجمي : بالهند طبيب يقال له منكة؛ رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند؛ وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم ،فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قال: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره. قال: فقدم فعالج الرشيد فبرىء من علته بعلاجه، فأجرى له رزقاً واسعاً وأموالاً كافية، فبينما منكه ماراً بالخلد؛ إذا هو برجلمن المانيين قد بسط كساءه، وألقي عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجوناً، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة؛ ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش؛ فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل؛ وذاك أنه كان الأمر على ما قال هذا،فلم حملني من بلادي، وقطعني عن أهلي، وتكلف الغيظ من مؤنتي، وهو يجد هذا نصب عينيه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه؛ لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير ؛ وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفساً،وبالحري أن يقتل اثنين وثلاثاً وأربعاً ففي كل يوم؛ وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة.
وذكر أن يحي بن خالد بن برمك ولى رجلأ بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه؛ وعنده يحي وجعفر بن يحي، فقال الرشيد ليحي وجعفر: أوصياه، فقال له يحي: وفر واعمر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال الرشيد: اعدل وأحسن.
وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بن مزيد الشيباني، ثم رضى عنه، ةأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال جزاء المنعمين الممتنين المتطولين؛ فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجاً عند الغضب، وتتطول ممتناً بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلاً بالعفو.

وذكر مصعب بن عبد الله بن مصعب أخبره أن الرشيد قال له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس؛ وكان معه ناس؛ فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه؛ فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج؛ وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم. فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا.
قال مصعب: وقال أبي - وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كيفتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، كفيتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر. قال: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفرجلاً قد أتى به من بلخ؛ وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قال: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين. قال: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يابن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بن عبد العزيز، نحتملها لعمر ابن الخطاب! وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بن عبد الله، وأثنى عليه خيراً؛ قال: أخبرني بعض ولد عبد الله بن عبد العزيز، قال: قال الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم؛ وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل بن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قال: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج؛ حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى؛ فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب؛ فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك؛ فإذا شئت فقم. فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وأن لي ما طلعت عليه الشمس؛ فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئاً تستعين به على دهرك، قال: لا حاجة لي فيه، أنا عنه غني، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قال: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قال: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا بخادم ولا عون. قال: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما؛ فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا. فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الياعة يشتري لصبيانه؛ إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه. قال: فرأيت دموع هارون؛ وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف.
وذكر محمد بن أحمد مولى بني سليم قال: حدثني الليث بن عبد العزيز الجوزجاني - وكان مجاوراً بمكة أربعين سنة - أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقال على أصابعه، وقال:

يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك رداً حاضراً، وجواباً عتيداً، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة؛ ورحمتك الواسعة. صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات؛ إن حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي. اللهم لك الحمد حمداً يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صل على محمد صلاة تكون له رضاً، وصل على محمد صلاة تكون له حرزاً، واجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر علي بن محمد عن عبد الله، قال: أخبرني القاسم بن يحيى، قال: بعث الرشيد إلى أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي الحير، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد، وقال: ما لك؟ قال: بعث إلي هذا الرجل - يعني الرشيد - فأحضرني، ولست آمنة على نفسي، قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلما دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قال: فلما حضر قال: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قال: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه كل شهر ثلاثين درهماً فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى - وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور.
وذكر علي بن محمد أن أباه حدثه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، وفي بيت مكشوف؛ وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج؛ وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه؛ لأنه كان يؤذيه؛ ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش؛ ولا يجلس فيه. وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفاً دون سقف؛ وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس؛ فاتخذ هو سقفاً يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.
وقال علي عن أبيه: خبرت أنه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاوية وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمداً حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقبله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.
وذكر علي بن حمزة أن عبد الله بن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قال: قال لي العباس بن الحسن: قال لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قال: قلت: بكلام أو بشعر؟ قال: بكلام وشعر، قال: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قال: فتبسم، فقلت له:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... من منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترى قراقيره والعيس واقفةً ... والضب والنون والملاح والحادي
وذكر محمد بن هارون، عن أبيه، قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غداً بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما؛ جنة أو نار. قال: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحد شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قال: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال:

يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك. قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه. وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
قال: ودخل ابن السماك على الرشيد يوماً؛ فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة ماء؛ فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين؛ بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو منعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله؛ فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي؛ قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه. فبكى هارون؛ فأشار الفضل بن الربيع إلى السماك بالانصراف فانصرف.
قال: ووعظ الرشيد عبد الله بن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف؛ بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم؛ يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم اخذ من الكيس ديناراً، وقال: كرهت أن اجمع سوء القول وسوء الفعل. وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: مالي ولابن عمتكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلاماً كثيراً، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين. فأخذ نعله، وقام وهو يقول: " فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير " .
وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يوماً مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقل ما يجب لك، قال: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: " أنا ربكم الأعلى " وقال: " ما علمت لكم من إله غيري " ، قال: صدقت؛ فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " ، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه؛ وهذا وهو في عتوه وجبريته؛ على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحداً سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنياً. قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزره: أترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه؛ ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت؛ وضعها حيث أحببت. فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.
ذكر من كان عند الرشيد من النساء المهائرقيل: إنه تزوج زبيدة؛ وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بن سليمان - التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله - فولدت له محمداً الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.
وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له علي بن الرشيد.

وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس؛ كانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.
وتزوج العباسة ابنة سليمان بن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.
وتزوج عزيزة ابنة الغطريف؛ وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر، فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران.
وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.
ذكر ولد الرشيدوولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلي وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها خبث ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد أبو أحد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.
ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي وأمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينة.
بقية ذكر بعض سير الرشيدذكر يعقوب بن إسحاق الأصفهاني، قال: قال المفضل بن محمد الضبي: وجه الرشيد؛ فما علمت إلا وقد جاءتني الرسل ليلاً، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه؛ وذلك في يوم خميس؛ وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه؛ فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كم إسماً في: " فسيكفيكهم " ؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل. قال: صدقت؛ هكذا أفادنا هذا الشيخ - يعني الكسائي - ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قال: نعم، قال: أعد علي المسألة كما قال المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال: هيهات أفادناها متقدماً قبلك هذا الشيخ؛ لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قال: قلت: فأزيد في السؤال؟ قال: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر؛ فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر، واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قال الله عز وجل: " بعد المشرقين " وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. قال: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمداً صلى الله عليه وسلم، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين؛ وقال: يا فضل بن الربيع؛ احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال:

أذن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:
قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائماً! قال: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قال: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
حتى بلغ:
ما كان أحسن أيام الشباب وما ... أبقى حلاوة ذكراه التي تدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
قال الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب.
وذكر أن سعيد بن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين؛ ما رأيت قط أشعر منه، قال: أما أنك استبحت هذين - يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه - نهبي لهما أحجارك، قال: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك؛ فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بن الربيع، فقال بن سلم للأعرابي: خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين،: أسمعك مستحسناً، وأنكرك متهماً عليك؛ فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين - يعني محمدا والمأمون - وهما حفا فاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين؛ يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي. قال: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلاً من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول:
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
بنيت بعبد الله بعد محمدٍ ... ذري قبة الإسلام فاهتز عودها
فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك؛ فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قال: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قال: فتبسم أمير المؤمنين، وأمر له بمائة ألف درهم وسبع خلع. وذكر أن الرشيد قال لابنه القاسم - وقد دخل عليه قبل أن يبايع له: أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه.
وقال للقاسم يوماً قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قال: أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك.
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ابناه الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية؛ فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنة لخمسمائة من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بني تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة.
وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، فلما قدم ليبايع، قال:
لا قصرا عنها ولا بلغتهما ... حتى يطول على يديك طوالها
فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته. قال: والشعر لطريح بن إسماعيل، قال في الوليد بن يزيد وفي ابنيه.
وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد:
غربت في الشرق شمس ... فلها عينان تدمع
ما رأينا قط شمساً ... غربت من حيث تطلع
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
جرت جوارٍ بالسعد والنحس ... فنحن في مأتمٍ وفي عرس
القلب يبكي والسن ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس
يضحكنا القائم الأمين ويب ... كينا وفاة الإمام بالأمس

بدران: بدر أضحى ببغداد بال ... خلد، وبدر بطوس في رمس
وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف.
خلافة الأمين وفي هذه السنة بويع لمحمد الأمين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بن هارون المأمون يومئذ بمرو؛ وكان - فيما ذكر - قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد أرسله إليه بالخبر بذلك - وقيل: أتاه الخبر بذلك - ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستره الخبر بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره.
ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد - وكان نازلاً في قصره بالخلد - تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم؛ فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيراً، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل. ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعته جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهراً، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور.
ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الأمين والمأمون وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذي ذكرنا أنه كان كتبه عليهما وبينهما.
ذكر الخبر عنالسبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت: قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلما بلغ محمد بن هارون أن أباه قد اشتدت علته ، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وأرسل بكر بن المعتمر، وكتب معه كتباً، وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك ولو قتلت حتى بموت أمير المؤمن؛ فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه.
فلما قدم بكر بن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله. ما أقدمك؟ قال: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قال: فهل معك كتاب؟ قال:

لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئاً، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد. فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشيةً ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع مع عبد الله بن أبي نعيم، يسأله ألا يعجلون بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها - وكان بكر محبوساً عند حسين الخادم - فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حياً، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتباً من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها؛ وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون. فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد - وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده - فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعاً شديداً، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر. وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح.
وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون: إذا ورد عليك كتاب أخيك - أعاذه الله من فقدك - عند حلول ما لامرد له ولا مدفع مما قد أخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضية فعز نفسك بما عزاك الله به. واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، واجزل الحظين فقبضه الله طاهراً زاكياً، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله. فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين. وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر. وصلوات الله على أمير المؤمنين حياً وميتاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وخذ البيعة عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم؛ فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره. وإياك وإقالته؛ فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثواباً حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطاً محموداً قائداً لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله. ومرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم. وأعلمهم أني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تني في تقوية أجنادي وأنصاري، ولتكن كتبك إليهم كتباً عامة، لتقرأ عليهم؛ فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم. واعمل بما تأمر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك؛ على حسب ما ترى وتشاهد؛ فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك؛ وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشتد بك عضده، ويجمع بك أمره؛ إنه لطيف لما يشاء.
وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وإلى أخيه صالح: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل:

" كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه وأنبيائه، صلوات الله عليهم، وإنا إليه راجعون. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهم عصمةً وكهفاً، وبهم رءوفاً رحيماً؛ فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك؛ فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين؛ على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين، صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه. وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم؛ فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. واضمم إلى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله؛ ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه؛ فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليلة نهاره؛ فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة. وأقر حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء. ومر الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك؛ فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بن يزيد بن مزيد، وساقتك إلى يحيى بن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل؛ فإن ذلك أرفق بك. ومر أسد بن يزيد بن مزيد أن يتخير رجلاً من أهل بيته أو قواده، فيصير إلى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق؛ فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام؛ فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله. وإياك أن تنفذ رأياً أو تبرم أمراً إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك؛ ولا تخرجن أحداً منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي.
وقد أوصيت بكر بن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وما ترى، وان أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق؛ فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه؛ بمحضر من أصحاب الدواوين؛ فإن الفضل بن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور. وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بن صبيح وبكر بن المعتمر على مركبيهما من البريد؛ ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك بمافية من الأموال والخزائن إن شاء الله. أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته.
وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس - وقيل الأربعاء - فكان من الخبر ما قد ذكر قبل.
وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بن عيسى بن علي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أعظم الناس رزيئةً، وأحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة.
وذكر الحسن بن الفضل بن سهل أخبره، قال: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بن مصعب. قال: ولقيني فقال لي: الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وأمر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك؛ مد يدك. فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة. قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته.

وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهراً.
قال: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون؛ تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً حاضراً لآخر لا يدري ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس ابن المسيب بن زهير وهو على شرطته، وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته؛ وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرياستين؛ وهو عنده من أعظم الناس قدراً وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمي لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً، وتوجه إليهم رسولاً؛ فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين. قال: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله؛ فلن يألوك نصحاً، وتوجه نوفلاً الخادم مولى موسى أمير المؤمنين - وكان عاقلاً. فكتب كتاباً، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.
فذكر الحسن بن أبي سعيد عن سهل بن صاعد، أنه قال له: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قال لي سهل: وشد علي عبد الرحمن بن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضراً لوضعت الرمح فيك، هذا جوابي.
قال: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر.
قال الفضل بن سهل: قلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم؛ ولكن افهم عني ما أقول لك؛ إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر ، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة، ثم خرج بعد يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر؛ فكفا الله المؤنة، ثم خرج أستاذسيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور فكفي المؤنة؛ ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال: رأيتهم اضطربوا اضطراباً شديداً، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة - ووضعت يدي على صدري - قال: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به. قال: قلت: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادماً له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في. فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء. قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه! فجئت فأخبرته، قال: قم بالأمر قال: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم. ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك؛ فكنا نقول للتيمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي: نقيمك مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني:

نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم؛ فكنا ندعو كل قبيلة إلى نقباء رءوسهم، واستلمنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي صلى الله عليه.
قال علي بن إسحاق: لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم؛ فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:
بنى أمين الله ميدانا ... وصير الساحة بستانا
وكانت الغزلان فيه بانا ... يهدى إليه فيه غزلانا
وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان؛ فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.
وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع.
وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع سنين، وملك بعده إستبرق بن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات. وملك ميخائيل بن جورجس ختنه على أخته.
وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
وأقر محمد بن هارون أخاه القاسم بن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي ومعه عافية بن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا؛ فضرب أيضاً أعناق عدة منهم.
وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشأم وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.
وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة.
ذكر تفاقم الخلاف بين الأمين والمأمونوفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفاً عن طوس، وناكثاً للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوماً وهو حي لم يبق عليه؛ وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى؛ ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه - فيما ذكر عنه - الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون، ويزين له خلعه؛ حتى قال له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك!فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحداً بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته؛ فأزال محمداً عن رأيه.
فأولما بدء به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالاٍمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بن إسحاق بن سليمان أن المأمون لما بلغه ما أمر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب.

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون حسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعاً. وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس. فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون؛ فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك - وهو عامل المأمون على الري - وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريداً بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به، وكتم المأمون وذا الرياستين. فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن علي المأموني وأردفه بالرستمي على البريد، وعزل العباس بن عبد الله بن مالك؛ فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري. ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلاً: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك؛ وكتب معهم كتاباً إلى صاحب الري؛ أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك؛ ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون؛ فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه؛ ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ وكان الذي أشار عليه بذلك علي بن عيسى بن هامان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه؛ فرد المأمون ذلك وأباه. قال: فقال لي ذو الرئاستين: قال العباس بن موسى بن عيسى بن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك؛ فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قال: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيراً؛ وهذا بين أخواله وشيعته. قال: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلاً. قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: أيذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قال للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قال: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك. قال: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.
قال: فما برح حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة؛ فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.
قال: فأخبرني علي بن يحيى السرخسي، قال: مر بي العباس بن موسى ذاهباً إلى مرو - وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني - فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت الإمام؟ قال: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي. قال: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قال: فألح الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بن عيسى وولاه العراق. قال: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بن السميدع الأزدي، وكان والياً على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون عامة. قال: ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتاباً مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بن عبد الله بن عثمان بن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، وأجازه بجائزة عظيمة، ومزقهما وأبطلهما.

وكان محمد - فيما ذكر - كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان - سماها - وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك. وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعاً له: أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظاً من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثاً، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قال أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما. وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطراً، فإعطاؤك من نازعك طرفاً من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيباً عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعاً بفساد غدك. وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الإباء من الفرقة. وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة؛ فلعلي أعطى معها العافية. فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم؛ وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قال: لذلك ما كان الاجتماع. وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمداً تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا نعم؛ ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه. قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع دون ما يخاف ويتوقع. قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة؛ أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعة محذور في عاجله! قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غداً على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبةٍ؛ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا أو أمر آخرة. قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي ؛ والله يؤيد الأمير بالتوفيق. فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب: قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره؛ غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتاً بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال - لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيراً من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله؛ فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي. ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.

وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبراً ولا يؤثر أثراً، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحداً، ولا يبلغ أحداً قولاً ولا كتاباً. فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة. ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الأشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب. وكان - فيما ذكر - أول من أقبل من قبل محمد مناظراً في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبذلوا أو يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعة إلى ما التمس منها. فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيراً مؤبداً، وعقداً مستحصداً متأكداً، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين؛ لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم؛ وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة؛ يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل؛ فوجدوا جميع ذلك ممنوعاً محسوماً؛ حتى صاروا إلى باب المأمون. وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل؛ تأييداً لأمرك، وتحصيناً لطرفك؛ فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك. وقد كان هذا الطرف وخراجه كافياً لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده؛ وقد ضم لك إلى الطرف كوراً من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودةً في أهلها، ومواضع حقها. فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها؛ وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك؛ فكتبت تلط دون ذلك بما تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك؛ فاثن عن همك اثن عن مطالبتك، إن شاء الله.
فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيباً له: أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته؛ وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة عن أهلها؛ فمتى تجاوز متجاوز - وهي موجودة الوسع - ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها؛ فلا تبعثني يابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك. وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك. والسلام.
ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في أمر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته؛ حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته. فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم؛ فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى أن تقولوه لنا. فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبراً يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جداً غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع - بزعمهم.
فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظاً بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر؛ وكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك غامطاً لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضاً لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك؛ وإن كان قد تقدم مني متقدم؛ من مواضع نفعك إذ كان راجعاً على العامة من رعيتك؛ وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزلة السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة؛ فأعلمني رأيك أعمل عليه. إن شاء الله.
وذكر سهل بن هارون عن الحسن بن سهل، أن المأمون قال لذي الرياستين:

إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد - وهو مائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مراراً. فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك؛ وأن يكون أهلك في دارك وجنابك؛ وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده؛ فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته؛ وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك؛ ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثاً لعهدك؛ فإن أطاع فنعمة وعافية؛ وإن أبى لم تكن بعثت على نفسك حرباً أو مشاقة. فاكتب إليه، فكتب عنه: أما بعد؛ فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته؛ وإذا كان ذلك رأيه في عامته؛ فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه؛ فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالاً أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الحرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والداً - بد من الإشراف والنزوع إلى كنفي، ومالي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال؛ فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة يقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة. والسلام.
فكتب إليه محمد: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلاً عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك؛ والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين.
ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأياً هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته. وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين؛ فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه؛ وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك. وأما ما ذكرت من حمل أهلك؛ فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم؛ وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة. ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رأيت من تعريضهم بالسفر للتشتت؛ وإن أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله. والسلام.
قال: ولما ورد الكتاب على المأمون، قال: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا. فقال له ذو الرياستين: أوليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته؛ على أن يحرسه قنيةً، فهو لا ينزع إليها؛ فلا تأخذ عليه مضايقها، وأمل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها؛ والرأي لزوم عروة الثقة، وحسم الفرقة؛ فإن أمسك فبنعمة وإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة.
قال: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج إلى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثاً دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة؛ فرأى أن يختار رجلاً يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد؛ فإن أحدث محمد خلعاً للمأمون صار إلى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها؛ وإن لم يفعل من ذلك شيئاً خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل.
ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر:

أمما بعد؛ فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها؛ فيكون كره ذلك مؤلماً لجميعها؛ وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم؛ للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمة أخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم؛ وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلا سيعرب عن محنة، ويسفر عما استتر من وجهه؛ وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله؛ وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع؛ وبحيث إن قلت أذن لقولك؛ وإن لم تجد للقول مساغاً فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك؛ ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك. إن شاء الله.
وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك.
قال: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه؛ فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه؛ فكتب أحدهم: أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته؛ وكفى غبناً بإضاعة حظ من حظ العاقبة؛ لمأمول من حظ عاجلة، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبة مع التعرض للنكبة والوقائع؛ ولي من العلم بمواضع حظي ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي. إن شاء الله.
قال: وكتب الرسول المتوجه إلى بغداد إلى المأمون وذي الرياستين: أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علماً من اعتراضه ومفارقته وأمسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته؛ ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريرة ونفاة العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون إلا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها؛ والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعاً منه عن همه، ولا راغباً في عامه، والمحلون بأنفسهم يحلون تمام الحدث؛ ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتواني في أمركم نصيباً إن شاء الله والسلام.
قال: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بن مالك بن قادم وعبد الله بن حميد بن قحطبة والعباس بن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بن أبي مطر وكثير بن قادرة، ألطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهراً، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهراً.
قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للإيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه! فقال له محمد: إن رأى الرشيد شيئاً كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرساً مكروهاً لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور باجتثاثه والراحة منه فقال: أما إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعة، فلا يجاهره مجاهرة فستنكرها الناس، ويستشنعها العامة؛ ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع؛ فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك؛ فإن قدم صار إلى الذي تريد منه؛ وإن كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه. فقال محمد: ما قطع أمراً كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح؛ قم فالحق بمدادك وأقلامك؛ قال يحيى: فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحة، أشرت إلى رأي يخلطه غش وجهل. قال: فوالله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه.
قال سهل بن هارون: وقد كان الفضل بن سهل دس قوماً اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يوماً يوماً، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به، فقال له الفضل:

صدقت؛ ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له. قال: لا، قال: أفتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قال: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلوماً يجب به فسخ عهده! قال: نعم، قال الرجل - ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قال: فأطرق الفضل ملياً، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة؛ ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قال: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! أفليسوا وإن أعطوك ظاهر طاعة هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم؛ قال: فإن أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعة دون تكون على تثبت من البصائر. قال: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذاً يصيروا إلى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. قال: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قال: قوم على بصيرة من أمرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قال: فما ظنك بعامتهم؟ قال: قوم كانوا بلوى عظيمة من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بلية لا يأمنون العودة إليها. قال: فهل من سبيل إلى استفساد عظماء البلاد عليه؛ لتكون محاربتنا إياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: أما الضعفاء فقد صاروا له إلباً لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعناً ولا موضع حجة، والضعفاء السواد الأكثر. قال: ما أراك أبقيت لنا موضع رأي في اعتزالك إلى أجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته. وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدمٍ جرى في أمره، وربما أقبلت الأمور مشرفة بالمخافة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبة. ثم تفرقاً.
قال: وكان الفضل بن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد؛ فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر؛ وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش. وجاء الخبر إلى المأمون موافقاً لسائر ما ورد عليه من الكتب، وقد شهد بعضها ببعض، فقال لذي الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرهاً يسوق خيراً. قال: وكان أول ما دبره الفضل بن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحة الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، وأجناد للقيام بأمرهم؛ وكانت البلاد أجدبت بحضرتهم؛ فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل؛ حتى ما فقدوا شيئاً احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يداً بسوء في عامد ولا مجتاز. ثم أشخص طاهر بن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذاً لا يلوى على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان:
رمى أهل العراق ومن عليها ... إمام العدل والملك الرشيد
بأحزم من مشى رأياً وحزماً ... وكيداً نافذاً فيما يكيد
بداهية نآدٍ خنفقيقٍ ... يشيب لهول صولتها الوليد
وذكر أن محمداً وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بن حماد على الحرس، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يلهبان محمداً، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى.

وفي هذه السنة عقد محمد بن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بن عيسى بن ماهان، وعلى شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بن صالح صاحب المصلى.
وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل.
وفيها ملك على الروم ليون القائد.
وفيها صرف محمد بن هارون إسحاق بن سليمان عن حمص، وولاها عبد اله بن سعيد الحرشي، ومعه عافية بن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلكما كان من أمر محمد بن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة؛ لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حيناً
النهي عن الدعاء للمأمون على المنابروفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صقر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك.
عقدة الإمرة لعلي بن عيسى وفيها عقد محمد لعلي بن عيسى بن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له - فيما ذكر - بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالاً عظيماً، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتاباً من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدماً مفرداً بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز؛ وأن ما أحدث من ذلك ليس له؛ ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له. وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته. وقال سعيد بن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعرض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله. ثم تكلم الفضل بن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول فأكثر وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين؛ وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظاً له ولا نصيباً. فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بن عيسى بن نهيك ونفر من وجوه الحرس. وقال الفضل بن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم. ثم انصرف الناس، وأقبل علي بن عيسى على محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه.
شخوص علي بن عيسى إلى حرب المأمونوفيها شخص علي بن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون.
ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك:

ذكر الفضل بن إسحاق، أن علي بن عيسى شخص من مدينة السلام عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، سخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفاً، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعاً حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة. وقد كان محمد كتب إلى عصمة بن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه، ووجه معه هلال بن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بن جبلة الأبناوي على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه ألفي ألف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بن الحسين وهو أقل من أربعة آلاف - وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائة - وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟ ومن أي البلدان هم؟ فأخبره أحدهم أنه كان من جند عيسى أبيه الذي قتله رافع. قال: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين. وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جداً في محاربته ونفوراً منه.
فذكر أحمد بن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بأن تسمى بالخلافة، إذ التقيا - وكان أحمد على شرطة طاهر - فقلت لطاهر: قد ورد علي بن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له؛ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه. فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا شيء، فقلت: دعني وما أريد، قال: شأنك، قال: فصعدت المنبر، فخلعت محمداً، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق. وانتهى علي بن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعة فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده. وكان علي بن عيسى ظن أن طاهراً إذا رآه يسلم إليه العمل؛ فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي؛ وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريباً منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال؛ فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بن عيسى دخل الري - وقد كان كاتبهم فأجابوه - فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم؛ وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار. وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قال: نعم فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت. وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع أخطأنا؛ فرجعنا فقال لي: أخرج أصحابنا.
قال: فدعوت المأموني والحسن بن يونس المحاربي والرستمي؛ فخرجوا جميعاً؛ فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسرة الرستمي ومحمد بن مصعب. قال: وأقبل علي في جيشه؛ فامتلأت الصحراء بياضاً وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن علي ومعه أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم.
قال: وقال طاهر لما رأى علي بن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية؛ فيهم ميكائيل وداود سياه.
قال أحمد بن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم؛ قال: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم؛ فقال علي بن عيسى : ذلك لك، فقلت:

يا علي بن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام - وقد كان علي بن عيسى ضربه أربعمائة سوط - فصاح علي بن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم. قال: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه، وشد داود سياه على علي بن عيسى فصرعه؛ وهو لا يعرفه. وكان علي بن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد - وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة - قال: فقال داود: ناري أسنان كتبتم. قال: فقال طاهر الصغير - وهو طاهر بن التاجي: علي بن عيسى أنت؟ قال: نعم، أنا علي بن عيسى، وظن أنه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف. ونازعهم محمد بن مقاتل بن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره؛ وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعاً. وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير. فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم؛ فلحقني طاهر بن التاجي، ومعه رأس علي بن عيسى؛ وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان علي أمر أن يهيأ له الغداء بالري. قال: فانصرفت فوجدت عيبة علي فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكراً لله تبارك وتعالى. ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس؛ في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال؛ فكسروا الصناديق؛ فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب.
قال أحمد بن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصلة من لحية علي، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي. قال: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكراً لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه إلى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر. قال: وكتب إلى ذي الرياستين بالخبر.
قال: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ؛ ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد.
قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مدداً، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نأمن أن يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع. فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بن سهل،فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بن مدرك - وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا - فدخل وسكت، قلت: ويلك! ما وراءك؟ قال: الفتح؛ فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك؛ كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي؛ والحمد لله رب العالمين. فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان.
وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة.
وذكر محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري، قال: لما جاء نعي علي بن عيسى وقتله إلى محمد بن زبيدة - وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك - فقال للذي أخبره: ويلك! دعني؛ فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئاً بعد. قال: وكان بعض أهل الحسد يقول: ظن طاهر أن علياً يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه.
وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجدة قي قتل علي ولقاء طاهر:

لقينا الليث مفترساً لديه ... وكنا ما ينهنهنا اللقاء
نخوض الموت والغمرات قدماً ... إذا ما كر ليس به خفاء
فضعضع ركبنا لما التقينا ... وراح الموت وانكشف الغطاء
وأردى كبشنا والرأس منا ... كأن بكفه كان القضاء
ولما انتهى الخبر بمقتل علي بن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون - وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله - عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالاً قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان.
وذكر بعض من سمع عبد الله بن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قال الأول: " قد ضيع الله ذوداً أنت راعيها " ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بن عيسى، قال الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير علي والفضل بن الربيع:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرورٍ ... وشر المسالك طرق الغرور
لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري اخترف الأمور
فلو يستعينان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمرستير
ولكن ذا لج في كوثرٍ ... ولم يشف هذا دعاس الحمير
فشنع فعلاهما منهما ... وصارا خلافاً كبول البعير
وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير
ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير
وما ذاك إلا بفضل وبكرٍ ... يريدان نقض الكتاب المنير
وهذان لولا انقلاب الزمان ... أفي العير هذان أم في النفير
ولكنها فتن كالجبال ... ترفع فيها الوضيع الحقير
فصبراً ففي الصبر خير كثير ... وإن كان قد ضاق صدر الصبور
فيا رب فاقبضهما عاجلاً ... إليك وأوردهم عذاب السعير
ونكل بفضلٍ وأشياعه ... وصلبهم حول هذي الجسور
وذكر أن محمداً لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه: أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكراً لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري أن لو رد أمير المؤمنين الأمر إلى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته؛ ولكنت محجوجاً بمفارقة ما يجب من طاعته؛ فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك إعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه؛ فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه؛ وإن أبيت الحق قام الحق بمعذرته. وأما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام.
قال: وكتب إلى علي بن عيسى لما بلغه ما عزم عليه:

أما بعد؛ فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها؛ وعلى العناية بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يداً على أهل مخالفتكم، وحزباً وأعواناً لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورجاء، لا ترون شيئاً أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم؛ ولا أحرى لبواركم مما دعا إلى شتات كلمتكم، وترون من رغب عن ذلك جائراً عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفاً من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزراً جامجة؛ قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه؛ ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك؛ بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في آثارها؛ وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها؛ حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم أمر أئمتك؛ إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وإن أمسكت وقفوا وأقروا، وئاماً لك واستنصاحاً، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك؛ أو خلاف فيضل له متقدم سعيك؛ وقد ترى يا أبا يحيى حالاً عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك؛ من طعن بعقدة كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها؛ يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة. وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة، وتفريق أمر أمة وشت أمر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة؛ ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم؛ ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساعٍ فيها على نفسه دون السعي على حملتها، القائمين بحرمتها؛ قد عرضوهم أن يكونوا جزراً لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم. ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك؛ ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق. ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة؛ مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف؛ ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك؛ فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك وتنحاز إلى من يحسن تقبلاً لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك؛ ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا. وإن تعذر ذلك بقيةً على نفسك، فإمساكاً بيدك، وقولاً بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك؛ فلعل مقتدياً بك، ومغتبطاً بنهيك. ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.
قال: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حمياً قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بن الربيع لقيامه كان بمكانفته.
وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في أمره: إن أبى القوم إلا عزمة الخلاف؛ فألطف لأن يجعلوا أمره لعلي بن عيسى. وإنما خص ذو الرياستين علياً بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه؛ وإن العامة قائلة بحربه. فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: علي بن عيسى إن فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة؛ فأجمعوا على توجيه علي؛ فكان من توجيهه ما كان. وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامة من أهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم؛ وذلك رأي يكثر الأخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه؛ فكان ما كان من أمره ومقتله.
وذكر سهل أن عمر بن حفص مولى محمد قال:

دخلت على محمد في جوف الليل - وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمة - فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفاً على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: اسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأياً، وأكمل نظراً؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. قال عمرو بن حفص: وسمعت محمداً يقول للفضل بن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه؛ ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل؛ وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمداً لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه؛ ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم؛ فشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول. وأقبل علي بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد، ثم قال: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته ، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمداً على رأيه. قال أبو جعفر ك ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: ألا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك؛ ولعله يسلم هذا الأمرفي عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته ! قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكارثه بالجنود، ومعالجته بالكبد. فقال له: أعمل في ذلك برأيك. فلما حضر إسماعيل بن صبيح للكتاب إلى عبد الله قال: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر ولكن اكتب فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته. فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين، قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه: من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين. أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في أمرك، والموضع الذي أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده؛ وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعاً عن أهل بيتك، متغيباً عن أمير المؤمنين أن يولى موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك. فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة وأنفذ بصيرة؛ فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح أهل ملته وذمته. والسلام.
ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى عبد الله المأمون، وألا يدعوا وجهاً من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه؛ وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والألطاف والهدايا.
ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الأمير؛ إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلاً عظيماً، ومن النظر في أمور الناس عبئاً جليلاً، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة في العدل؛ وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه؛ وقد فزع إليك في أموره، وأملك للموازرة والمكانفة؛ ولسنا نستبطئك في بره اتهاماً لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفاً لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه؛ فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره؛ فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.
وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال: إن الإكثار على الأمير - أيده الله - في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير؛ وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من أهل بيته فلا يجد عنده غناءً، ولا يجد منه خلفاً ولا عوضاً؛ والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته؛ فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.
وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال: أيها الأمير؛ إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين. وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعاً إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك فنعمة عظيمة تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك؛ وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك؛ ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.
وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير؛ إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل؛ ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أمور، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قال: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه؛ وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام؛ والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبيطاً ومدافعةً، ولا أتقدم عليه اعتسافاً وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.
فذكر سفيان بن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا؛ وأنت تجد من ذلك بداً. قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة. فقال له الفضل:

إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق؛ ولأن تكون في جندك وعزك مقيماً بين ظهراني أهل ولايتك أحرى؛ فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته؛ فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظاً مكرماً، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك. قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور؛ كان خطبه يسيراً، والاحتيال في دفعه ممكناً؛ ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك إبراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد؛ وأنا أعلم أن محمداً لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحري أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.
فقال له الفضل: أيها الأمير؛ إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزاً، ومقهور قد عاد قاهراً مستطيلاً؛ وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم؛ وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجرداً من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلى عذراً في جهاد ولا قتال؛ ولكن اكتب إلى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصاً، وسلم الملك إبرازبنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال؛ فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادراً. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: أعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا؛ وكتب إلى من كان شاذاً عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله على الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه؛ ويكون على حذر وعدة من جيش إذا طرقه، أو عدو إن هجم عليه. واستعد للعرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان.
ويقال : إن عبد الله بعث إلى الفضل بن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: أيها الأمير، أنظرني في يومي هذا أغد عليك برأيي؛ فبات يدبر الرأي ليلته؛ فلما أصبح غداً عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له. فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته.
فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من أمر خراسان، كتب إلى محمد: لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون؛ أما بعد؛ فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين؛ وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين؛ ولعمري إن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطاً بقربه، مسروراً بمشاهدة نعمة الله عنده؛ فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام.
ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمداً وصالحاً؛ فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره.
قال سفيان بن محمد:

لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم إليه، فوجه عصمة بن حماد بن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحةً فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب بأخباره وما يريد؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. ثم عزم على محاربته، فدعا علي بن عيسى بن ماهان، فعقد له خمسين ألف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون.
فذكر يزيد بن الحارث، قال: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي؛ إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري؛ فإني على عبد الله منعطفة ومشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى؛ وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاره على ما في يده؛ والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره؛ فاعرف لعبد اله حق والده وأخوته، ولا تجبه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادماً،ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير؛ ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده. ثم دفعت إليه قيداً من فضة، فقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد. فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك.
وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه - في جميع الآفاق إلا خراسان - موسى وعبد الله؛ وأعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق. ثم خرج علي بن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة؛ فيقال: إن عسكره كان فرسخاً بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكراً كان أكثر رجالاً، وأفره كراعاً، وأظهر سلاحاً، وأتم عدة، وأكمل هيئة؛ من عسكره. وذكر عمر بن سعيد أن محمداً لما جاز باب خراسان نزل علي فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء؛ وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جنداً كثيفاً، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها؛ وول كل كورة ترحل عنها رجلاً من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخاً بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحداً رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح؛ ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه؛ فإذا أشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك؛ فإن غره الشيطان فناصبك فاحرص أن تأسره أسراً، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان فتول إليه المسير بنفسك. أفهمت كل ما أوصيك به؟ قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قال: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر؛ فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له : يا سعيد؛ قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه؛ فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه؛ غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه؛ ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتد بفساد القمر؛ فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء.
قال أبو جعفر : وذكر بعضهم أنه قال: كنت فيمن خرج في معسكر علي بن عيسى بن ماهان؛ فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان؛ فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان؛ فيقال له: إن طاهراً مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري؛ وما مثل طاهر يتولى علي الجيوش، ويلقى الحروب؛ ثم اتفت إلى أصحابه فقال:

والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف؛إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد؛ فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح.
وذكر يزيد بن الحارث أن علي بن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسأله عن الخبر، فقالوا: إن طاهراً مقيم بالري ، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور؛ وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر أصحابه؛ وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان.قال علي: فهل شخص من أهل خراسان أحد يعتد به؟ قالوا: لا؛ غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير،وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم. ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز. وأهدى إليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد؛ فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول البلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت - أبقى الله أمير المؤمنين - أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعاً تعسكر فيه، وتتخذ خندقاً لأصحابك يأمنون به؛ كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند. قال: لا؛ ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعاً لو قربت خيولنا وعساكرنا منه. واتاه يحيى بن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم؛ فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار؛ والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب أي طاهر؛ فالشرارة الخفية ربما صارت ضراماً، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحراً عظيماً؛ وقد قربت عساكرنا من طاهر؛ فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا. قال: اسكت؛ فإن طاهراً ليس في هذا الموضع الذي ترى؛ وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها.
وذكر عبد الله بن مجالد، قال: أقبل علي بن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته؛ فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه المدد من الخيل، وقائد يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك، وأقدر لهم على المبرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة؛ إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك. فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم؛ إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون؛ ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى؛ ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعوا أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا،؛ مع أنه لم يكن قوم قط رعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم واجترأ عليهم عدوهم. وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا؛ فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان. قالوا: الرأي ما رأيت. فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا. فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص؛ وأتاه محمد بن العلاء فقال: أيها الأمير؛ إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال:

لا؛ إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم؛ إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا؛ وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة؛ فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو؛ وإن تكن الأخرى؛ فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي لأصحابه: بادروا القوم؛ فإن عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح. وعبأ جنده ميمنة وميسرة وقلباً؛ وصير عشر رايات؛ في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات رايةً رايةً، فصير بين كل راية وراية غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة. وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من آهل البأس والحفاظ والنجدة منهم.
وكتب طاهر بن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة؛ فيقول: يا أولياء الله وأهل الوفاء والشكر؛ إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر؛ إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رعيتم؛ وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل؛ أصحاب سلب ونهب؛ فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره؛ فجالدوا طواغيت الفتنة و يعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم؛ فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين. وقلق قلقاً شديداً، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق؛ الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم إلى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم؛ فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق. وتلاحموا واقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر الفريقان جميعاً، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضاً منكراً، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها. وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب؛ فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها. فصبر أصحابه صبراً صادقا، ثم حملوا على أوائل رايات القلب فهزموهم؛ وأكثروا فيهم القتل؛ ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي. ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة؛ معاودة الحرب من الصبر فيها. ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم؛ حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة؛ ونادى طاهر في أصحاب علي: من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون.
وذكر أن عبد الله بن علي بن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته؛ حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده.
وذكر سفيان بن محمد أن علياً لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلاً رجلاً؛ فكلهم يصرخ بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلاً.
وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس؛ فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر. وإنه في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، ودعي له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من أهل خراسان:
أصبحت الأمة في غبطةٍ ... من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى ... خير بني حواء مأمونها

على شفاً كانت فلما وفت ... تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ زبرت ... في ولده كتب دواوينها
ألا تراها كيف بعد الردى ... وفقها الله لتزيينها!
وهي أبيات كثيرة.
وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، أرجف الناس ببغداد إرجافاً شديداً، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن علياً قد قتل، ولسنا نشك أن محمداً يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع؛ وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها؛ فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز؛ فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا.فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز. وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالاً شديداً، وسمع محمد التكبير والضجيج؛ فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم. قال: فهل يطلبون شيئاً غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم؛ ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز.
توجيه الأمين عبد الرحمن بن جبلة لحرب طاهروفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن ذلك: ذكر عبد الله بن صالح أن محمداً لما انتهى إليه قتل علي بن عيسى بن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإنكماش في السير، وتقليل اللبث والتضجع؛ حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهراً إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آلة الحرب، ويغادي طاهراً وأصحابه إلى القتال. وبسط يده وانفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته. بين الري وهمذان؛ فكان لا يمر به أحد من قبل أبيه إلا احتسبه؛ وكان يرى أن محمداً سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال؛ فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد؛ وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده؛ فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه؛ وتلقى طاهر فيمن معه؛ وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه. فلما بلغ طاهراً الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه: إن طاهراً قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن عن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعاً يدخل وهنه على من خلفنا ، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به وأقمت على انتظار مدده؛ لم آمن أن يمسك عنا ضناً برجاله وإبقاءً عليهم، وشحاً بهم على القتل؛ ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريباً من عبد الرحمن؛ فإن استعنا به قرب منا عونه؛ وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه. قالوا: الرأي ما رأيت؛ فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان؛ فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبية، فصادف طاهراً، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر الفريقان جميعاً، وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أياماً حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر؛ فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قال لأصحابه:

إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم؛ فإذا قربتم منه قاتلكم؛ فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها؛ وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم وولى منكم؛ ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريباً؛ فإن تقارب منا قاتلناه؛ وإن بعد من خندقهم قربنا منه. فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف؛ إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر؛ فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية راية، فيقول: اصبروا؛ إنما صبرنا ساعة، هذا أول الصبر والظفر. وقات بيديه قتالاً شديداً، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل؛ فلا يزول أحد ولا يتزحزح. ثم إن رجلاً من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان؛ فأقام طاهر على باب المدينة محاصراً لهم وله؛ فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه. فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله الأمان له ولمن معه؛ فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بن علي.
تسمية طاهر بن الحسين ذا اليمينينوفي هذه السنة سمي طاهر بن الحسين ذا اليمينين.
ذكر الخبر عن ذلك قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمي بذلك، ونذكر الذي سماه بذلك.
ذكر أن طاهراً لما هزم جيش علي بن عيسى بن ماهان، وقتل علي بن عيسى، وكتب إلى الفضل بن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين. فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين؛ فأمد المأمون طاهر بن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين إلى الثمانين.
ظهور السفياني بالشاموفي هذه السنة ظهر بالشأم السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فدعا إلى نفسه؛ وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بن أبى جعفر بعد حصره إياه بدمشق - وكان عامل محمد عليها - فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بن علي بن ماهان، فلم ينفذ إليه؛ ولكنه لما صار إلى الرقة أقام بها.
طرد طاهر عمال الأمين عن قزوين وكور الجبالوفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.
ذكر الخبر عن سبب لك ذكر علي بن عبد الله بن صالح أن طاهراً لما توجه إلى عبد الرحمن الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادرة - وهو بقزوين عامل من عمال محمد - في جيش كثيف إن هو خلفه وراء طهره؛ فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا. ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد كثير بن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه. وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جنداً كثيفاً، وولاها رجلاً من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من أصحاب عبد الرحمن الأبناوي وغيرهم.
ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناويوفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي بأسداباذ.
ذكر الخبر عن مقتله:

ذكر عبد الرحمن بن صالح أن محمداً المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مدداً له إن احتاج إلى عونهما. فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهراً وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم؛ ثم اغترهم وهم آمنون. فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجالة أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالاً منكراً، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح. ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب؛ فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبداً، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزماً. وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد؛ حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يحوز بلدةً بلدةً، وكورةً كورةً؛ حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان؛ فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه. وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي:
ألا إنما تبكي العيون لفارس ... نفى العار عنه بالمناصل والقنا
تجلى غبار الموت عن صحن وجهه ... وقد أحرز العليا من المجد واقتنى
فتى لا يبالي إن دنا من مروءةٍ ... أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى
يقيم لأطراف الذوابل سوقها ... ولا يرهب الموت المتاح إذ ادنا
وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بن هارون داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة.
وعلى الكوفة العباس بن موسى الهادي من قبل محمد.
وعلى البصرة منصور بن المهدي من قبل محمد.
وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر توجيه الأمين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين فمما كان من ذلك حبس محمد بن هارون أسد بن يزيد بن مزيد، وتوجيهه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرتذكر عبد الرحمن بن وثاب أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي. قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعداً في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان؛ وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده.
لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة؛ قد ألهاه كأسه وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه؛ قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له أصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متن الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة ... لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه ... تضيء لها الظلماء ساعة تبسم
وثديان كالحقين، والبطن ضامر ... خميص، وجهم ناره تتضرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالدٍ ... وأنت بمرو الروذ غيظاً تجرم
أظل أناغيها وتحت ابن خالدٍ ... أمية نهد المركلين عثمثم
طواه طراد الخيل في كل غارة ... لها عارض فيه الأسنة ترزم
يقارع أتراك ابن خاقان ليلةً ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم

فيصبح من طول الطراد، وجسمه ... نحيل وأضحى في النعيم أصمصم
أباكرها صهباء كالمسك ريحها ... لها أرج في دنها حين ترشم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله قاسم
ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، أنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا؛ وإنما نحن شعب من أصل؛ إن قوي قوينا؛ وإن ضعف ضعفنا؛ إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا؛ وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام؛ والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل؛ وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه؛ فارس العرب وابن فارسها؛ قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك؛ وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت؛ غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك؛ فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة. فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص؛ غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل؛ وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال؛ وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق والدارة والصلات والفوائد الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من أمامي، وقد فضل أهل السلم على أهل الحرب، وجاز بأهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة؛ والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل؛ ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: قد اشتططت؛ ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب وركبت معه ، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسداً قال لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي؛ فإن أعطاني الطاعة ،وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما أمري. فقال: أنت أعرابي مجنون؛ أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وارفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط. وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولأ في قصر المأمون ببغداد؛ فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان؛ فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما اكبر ولده. وذكر عن زياد بن علي، قال: لما غضب محمد على أسد بن زيد، وأمر بحبسه، قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم من مقامه؛ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم؛ فيهم أحمد بن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة،وله مع هذا بأس ونجده وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب؛ فأنفذ إليه محمد بريداً يأمره بالقدوم عليه؛ فذكر بكر بن أحمد، قال: كان أحمد متوجهاً إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بينه ومواليه وحشمه؛ فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: إن هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب. ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك أحمد ابن مزيد؟ قال: نعم؛ فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقرأه ثم قال: إني قد بلغت ضيعتي؛ وإنما بيني وبينها ميل؛ فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك؛ وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها؛ من ليل أو نهار فانصرف معه حتى الكوفة، فأقام بها يوماً حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد.
فذكر عن أحمد، قال: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بن الربيع، فقالت:

أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد؛ فلما أذن لي دخلت عليه؛ وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال؛ فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعني حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قال:
إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ... من آل شيبان أما دونكم وأبا
الأكثرون إذا عد الحصى عدداً ... والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله: إنهم لكذلك؛ وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة . ثم أقبل على الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحه والشدة على أهل المعصيه، والتقدم بالرأي، فاحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج؛ مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع قدرك وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية ا لناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم؛ فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله. فقال: يا فضل ، قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه. فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجهت بهم إلى حلوان.
وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلاً إلا باستخارة، ولا تشهر سيفاً إلا بعد إعذار؛ ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي؛ ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخاً مصافياً، وقريناً براً، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك؛ ولتكن أيديكما واحدةً، وكلمتكما متفقة. ثم قال: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك. فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض علي ما استجمع من رأي، ومن علي بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك. ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلى سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح أحمد ويذكر حاله ومنزلته:
ليهن أبو العباس رأي إمامه ... وما عنده منه القضا بمزيد
دعاه أمير المؤمنين إلى التي ... يقصر عنها ظل كل عميد
فبادرها بالرأي والحزم والحجى ... ورأي أبي العباس رأي سديد
نهضت بما أعيا الرجال بحمله ... وأنت بسعد حاضر وسعيد
رددت بها للرائدين أعزهم ... ومثلك والى طارفاً بتليد
كفى أسداً ضيق الكبول وكربها ... وكان عليه عاطفاً كيزيد
وحصله فيها كليث غضنفر ... أبي أشبل عبل الذراع مديد

وذكر يزيد بن الحارث أن محمداً وجه أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهراً وأصحابه عنها؛ وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة؛ فتوجها حتى نزلا قريباً من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما؛ فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمداً قد وضع العطاء لأصحابه؛ وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا؛ ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضاً، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهراً، ويكون بينهم وبينه قتال. وتقدم طاهر حتى نزل حلوان؛ فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيراً حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر إلى الأهواز.
ذكر رفع منزلة الفضل بن سهل عند المأمون وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره.
ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلكذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين؛ وسلم الفضل بن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق؛ من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولاً، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضاً؛ وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم،وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علماً، وسماه ذا الرياستين؛ فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسة الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسة التدبير. فحمل اللواء علي بن هاشم، وحمل العلم نعيم بن حازم، وولى الحسن بن سهل ديوان الخراج.
ذكر خبر ولاية عبد الملك بن صالح على الشام وفي هذه السنة ولى محمد بن هارون عبد الملك بن صالح بن علي على الشأم وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنوداً يقاتل بها طاهراً وهرثمة.
ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك: ذكر داود بن سليمان أن طاهراً لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد - وكان عبد الملك محبوساً في حبس الرشيد؛ فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته - فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك؛ فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم؛ وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف؛ ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتم الحرب والوقائع؛ وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولاً عن لقائهم ومناهضتهم؛ فإن سيرنهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جنداً تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته. فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك؛ فاعمل عملاً يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله. فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثاً شديداً، ووجه معه كنفاً من الجند والأبناء.
وفي هذه السنة سار عبد الملك بن صالح إلى الشأم، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء أجناد أهل الشأم بجمع الرجال بها، وإمداد محمد بهم لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن ذلك:

قد تقدم ذكري عن سبب توجيه محمد إياه لذلك؛ فذكر داود بن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيساً بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة؛ فكان لا يدخل عليه أحد إلى أجازه وخلع عليه وحمله؛ فأتاه أهل الشأم: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا. ثم إن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا؛ واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن أبي خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا؛ وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك؛ فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم. فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة. فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم. وبلغ ذلك عبد الملك بن صالح فوجه إليهم رسولاً يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالاً شديداً، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل؛ فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل - وكان مريضاً مدنفاً - فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل؛ فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة؛ وقام رجل من أهل حم، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل؛ إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم. النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقال رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قال:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها ... قد شرعت فرسانها قناها
فأورد الله لظى لظاها ... إن غمرت كلب بها لحاها
ثم قال: يا معشر كلب؛ إنها الراية السوداء؛ والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم. اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضرم. شأمكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري. ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفاً لطوق بن مالك. فأتى طوقاً رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك. فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره؛ وإني لأشهد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الإعتزال. وأقبل نصر بن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:
فرسان قيس اصمدن للموت ... لاترهبني عن لقاء الفوت
دع التمني بعسى وليت
ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالاً شديداً، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون؛ وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى بن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث وعمرو السلمي والعباس بن زفر.
وتوفي في هذه السنة عبد الملك بن صالح.

ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وفيها حبس محمد بن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر.
ذكر الخبر عن سبب خلعه: ذكر عن داود بن سليمان أن عبد الملك بن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة؛ وذلك في سنة ست وتسعين ومائة.
وذكر أحمد بن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة؛ فلما كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه؛ فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك؛ ولا وليت له عملاً، ولا جرى له على يدي مال؛ فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف؛ فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
فانصرف الرسول، فلما أصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبد الله بن علي وباب سوق يحيى وقال: يا معشر الأبناء؛ إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر؛ وإن محمداً يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم؛ وينقل عزكم إلى غيركم؛ وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم؛ وليعرفن ضرره وكروهه في دولتكم ودعوتكم؛ فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل؛ وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه. ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا؛ حتى صاروا إلى سكة باب خراسان؛ واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشأم، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلي باب الكوفة.
وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بن علي؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً ملياً من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد.
قال: فخلع الحسين بن علي محمداً يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بن موسى بن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها. فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشأم، فقال: أيها الناس؛ والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سناً، ولا أكرمنا حسباً، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة؛ وإني أولكم نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله؛ فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.
وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.
فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطعٍ منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحداً من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قال:

فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف؛ انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.
ونهضت الحربية، ونهض معهم عامة أهل الأرباض في المشهرات والعدة الحسنة. فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالاً شديداً منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة؛ فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح؛ فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحاً كثيراً ومتاعاً من خز وغير ذلك؛ وأتي بالحسين بن علي، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال؛ وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قال: بلى، قال: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك. ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.
وذكر عن عثمان بن سعيد الطائي، قال: كانت لي من الحسين بن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفاً بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له: إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول:
هم قتلوه حين تم تمامه ... وصار معزاً بالندى والتمجد
أغر كأن البدر سنة وجهه ... إذا جاء يمشي في الحديد المسرد
إذا جشأت نفس الجبان وهللت ... مضى قدماً بالمشرفي المهند
حليم لدى النادي جهول لدى الوغى ... عكور على الأعداء قليل التزيد
فثأرك أدركه من القوم إنهم ... رموك على عمدٍ بشنعا مزند
فضحك، ثم قال: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر. ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعناً وضرباً وأخذوا رأسه، وفي ذلك يقول علي بن جبلة - وقيل الخريمي:
ألا قاتل الله الألى كفروا به ... وفازوا برأس الهرثمي حسين
لقد أوردوا منه قناةً صليبةً ... بشطب يماني ورمح رديني
رجا في خلاف الحق عزاً وإمرةً ... فألبسه التأميل خف حنين
وقيل: إن محمداً لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه.
وقتل الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان للنصف من رجب من هذه السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين.
وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمداً في قصر أبي جعفر يومين.
وفي الليلة التي قتل فيها حسين بن علي هرب الفضل بن الربيع.
وفي هذه السنة توجه طاهر بن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشاً أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه.
ذكر الخبر عن مقتل محمد بن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز ذكر عن يزيد بن الحارث، قال:

لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيراً مقتصداً، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه. فلما توجه أتت طاهراً عيونه، فأخبروه أن محمد بن يزيد المهلبي - وكان عاملاً لمحمد على الأهواز - قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور - وهو حد ما بين الأهواز والجبل - ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر؛ وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه؛ منهم محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخاراخذاه والحارث بن هشام وداود بن موسى وهادي بن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهراً له. فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.
وبلغ محمد بن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريباً منهم، ووجه الحسن بن علي المأموني، وأمره بمضامة قريش بن شبل والحسين بن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بن يزيد بعسكر مكرم؛ فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطال القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فوالله ما أرى أن أرجع إلى أمير المؤمنين أبداً، ولا أنصرف عن الأهواز، فقالوا له: الرأي أن ترجع إلى الأهواز؛ فتتحصن بها وتغادي طاهراً القتال وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك.فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز. وأمر طاهر قريش بن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بن علي المأموني والحسين بن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه؛ فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه. ومضى قريش بن شبل يقفو محمد بن يزيد، كلما ارتحل محمد بن يزيد من قرية نزلها قريش؛ حتى صاروا إلى سوق الأهواز.
وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم؛ ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره. وأقبل قريش بن شبل حتى صار قريباً منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة؛ فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحاتٍ كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالاً شديداً حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض. والتفت محمد بن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه؛ فقال: ما رأيكم؟ قالوا: في ماذا؟ قال: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعته، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف؛ فوالله لأن تبقوا أحب إلي من أ تعطبوا وتهلكوا. فقالوا: والله ما أنصفناك، إذاً تكون أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال؛ بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك؛ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك. ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك؛ وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه؛ وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه؛ فقال بعض أهل البصرة يرثيه، ويذكر مقتله:
من ذاق طعم الرقاد من فرحٍ ... فإنني قد أضر بي سهري
ولي فتى الرشد فافتقدت به ... قلبي وسمعي وغرني بصري
كان غياثاً لدى المحول فقد ... ولى غمام الربيع والمطر
وفي العييني للإمام ولم ... يرهبه وقع المشطب الذكر
ساور ريب المنون داهيةً ... لولا خضوع العباد للقدر
فامض حميداً فكل ذي أجلٍ ... يسعى إلى ما سعيت بالأثر

وقال بعض المهالبة ؛ وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:
فما لمت نفسي غير أني لم أطق ... حراكاً وأني كنت بالضرب مثخنا
ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ... وضاربت عنه الطاهري الملعنا
فتىً لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ... إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى
وذكر عن الهيثم بن عدي، قال: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظني إلا لواحدةٍ ... في الصدر محصورةٍ عن الكلم
فتبسم طاهر، ثم قال: أما والله لقد ساءني ما ساءك، وآلمني ما آلمك؛ ولقد كنت كارهاً لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازلة، ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة؛ فظننا أنه يريد محمد بن يزيد بن حاتم.
وذكر عمر بن أسد، قال: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بن يزيد بن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجهاً إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بن خازم؛ فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملاً عاملاً، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا منها؛ حتى قرب من واسط، فنادى السندي بن يحيى والهيثم بن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما؛ وهما بالقتال، وأمر الهيثم بن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرساً، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها؛ فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر. فضحك ثم قال: قرب فرس الهرب؛ فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطاً، وهربا عنها. ودخل طاهر واسطاً، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها. فوجه محمد بن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائداً من قواده يقال له أحمد بن المهلب نحو الكوفة. وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي؛ فلما بلغ العباس خبر أحمد بن المهلب خلع محمداً، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون؛ ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة؛ وكتب المنصور بن المهدي - وكان عاملاً لمحمد على البصرة - إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا؛ فأقام بها يومين فلم يرها موضعاً للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.
وكانت بيعة المنصور بن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بن موسى الهادي بالكوفة، وبيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمداً في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.
وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بن العباس بن موسى بن عيسى.
ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعه محمداً، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة.
ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر وفي هذه السنة أخذ طاهر بن الحسين من أصحاب محمد المدائن؛ ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسراً، ومضى إلى صرصر.
ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن

ومصيره إلى صرصر
ذكر أن طاهراً لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمداً خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35