كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما؛ ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فأنزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك وقد قربتما منهما، فوجه الرجال من الياسرية إلى فم الجامع. وبلغ الحارث وداود الخبر، فكبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم؛ وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة. ووجه الطاهر محمد بن زياد ونصير بن الخطاب مدداً للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بن سليمان ومحمد بن حماد فيما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أهل بغداد، وهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات. وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بن حماد إلى بغداد، وقال أبو يعقوب الخريمي في ذلك:
هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ... صفا الحق فانفضا بجمع مبدد
وأفلتنا ابن البربري مضمر ... من الخيل يسمو للجياد ويهتدي
وذكر يزيد بن الحارث، أن محمد بن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهوراً النجاري؛ وأمره بسرعة السير؛ فتوجه الفضل؛ فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه. وبلغ طاهر الخبر، فوجه محمد بن العلاء، وكتب إلى الحارث بن هشام وداود بن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر؛ وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد؛ فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره؛ فإن أردت الأمير طاهراً فارجع وراءك؛ فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر؛ فإني لست آمن مكر هذا؛ فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بن العلاء قد أمنه، فوجده على عدة وأهبة؛ واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه؛ فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين. وحمل أصحاب محمد بن العلاء على أصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثي، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بن محمد القرشي وجمهور النجاري، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد؛ عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم. والصلات والخلع من قبل محمد. فلما قرب طاهر من المدائن - وكان منها على رأس فرسخين - نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصراً كنصرك المسلمين يوم المدائن. ووجه الحسن بن علي المأموني وقريش بن شبل، ووجه الهادي بن حفص على مقدمته وسار. فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف؛ فكلما سوى صفاً انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان؛ ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال: خل سبيل الناس؛ فإني أرى جنداً لا خير عندهم؛ فركب بعضهم بعضاً نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخاراخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بن سعيد الحرشي ونصر بن منصور بن نصر بن مالك معسكران بنهر ديائي، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بن المنصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسراً ونزلها.
ذكر خبر خلع داود بن عيسى الأمين وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمداً - وهو عامله يومئذ عليها - وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له؛ وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون؛ ثم خرج بنفسه إلى المأمون.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه

ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه بعث إلى مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة؛ وكان عامله عليها محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها القضاء بين أهلها؛ فعزل محمد عن ذلك كله بداود بن عيسى؛ سوى القضاء فإنه أقره على القضاء. فأقام داود والياً على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضاً الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه، وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود - وكان داود أحدهم - فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه؛ ولنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر؛ فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل؛ رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصياً ظالماً، فحرقهما بالنار. وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة؛ إذ كان مظلوماً مبغياً عليه. فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك؛ فوعدهم صلاة الظهيرة؛ وأرسل في فجاج مكة صائح يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر - وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة - خرج داود بن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر؛ وكان داود خطيباً فصيحاً جهير الصوت؛ فلما اجتمع الناس قام خطيباً، فقال: الحمد لله مالك الملك؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين. أما بعد يا أهل مكة؛ فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمة الله عليه وصلاته حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغي عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر؛ ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام؛ وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به. ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي - وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - ثم قال: قد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم.
فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمداً، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة؛ يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أياماً.

وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة؛ يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة؛ من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون. فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان؛ حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمداً ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك؛ فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة؛ إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتاباً ليناً لطيفاً يعدهم فيه الخير، ويبسط أملهم، وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بن عيسى مسرعاً مغذاً مبادراً لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وقد عقد المأمون للعباس بن موسى بن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلاً كثيفة، وضمن لهم يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم؛ ليخلعوا محمداً ويبايعوا عبد الله المأمون.
فساروا جميعاً حتى دخلوا مكة. وحضر الحج، فحج بأهل الموسم العباس بن موسى بن عيسى؛ فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى أتى طاهر بن الحسين - وهو على حصار محمد - وأقام داود بن عيسى على عمله بمكة والمدينة؛ ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله المأمون، وقرأ عليهم كتاباً من طاهر بن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته؛ فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمداً، فسار فيهم يزيد بن جرير بن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلاً وإنصافاً، وكتب بإجابتهم وبيعتهم إلى المأمون وإلى طاهر بن الحسين.
وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحواً من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بن محمد ين عيسى بن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان.
ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند على طاهر، ففرق محمد فيمن صاروا إليه من أصحاب طاهر مالاً عظيماً وقود رجالاً وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الآمر فيه: ذكر عن يزيد بن الحارث، قال: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين. قال: فمكثوا بذلك أشهراً، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بن جهم النمري الأعرابي في أصحابه؛ فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قواداً من قواد بغداد، فوجههم إلى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءاً لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالإطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فأرعدوا وأبرقوا وأجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول:

لا يغرنكم كثرة ما ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف ملياً. ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال. وبلغ الخبر محمداً، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحداً وسيماً حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده؛ وكان لا يقود أحداً إلا غلفت لحيته بالغالية؛ وهم الذين يسمون قواد الغالية. قال: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة رجل وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابه شيئاً. وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهراً بذلك؛ فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك:
قل للأمين الله في نفسه ... ما شتت الجند سوى الغالية
وطاهر نفسي تقي طاهراً ... برسله والعدة الكافية
أضحى زمام الملك في كفه ... مقاتلاً للفئة الباغية
يا ناكثاً أسلمه نكثه ... عيوبه من خبثه فاشيه
قد جاءك الليث بشداته ... مستكلباً في أسد ضاريه
فاهرب ولا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاويه
قال: فلما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف أمرك؛ فإن بهم قوام ملكك؛ وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم. فلج في أمرهم وأمر قتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه؛ فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعاً بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها؛ وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم؛ واشتد في ذلك عليهم، وغادي القتال ورواحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.
ثم دخلت سنة يبع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففي هذه السنة لحق القاسم بن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم إلى جرجان.
ذكر خبر حصار الأمين ببغدادوفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمد بن هارون ببغداد.
ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة، وكيف كان الحصار فيها: ذكر محمد بن يزيد التميمي وغيره أن زهير بن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذي، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبى السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ؛ وبلغ أمره طاهراً وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كان يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي - لم يعرف اسمه - في زهير وقتله الناس بالمجانيق:
لا تقرب المنجنيق والحجرا ... فقد رأيت القتيل إذ قبرا
باكر كي لا يفوته خبر ... راح قتيلاً وخلف الخبرا
ماذا به كان من نشاط ومن ... صحة جسم به إذا ابتكرا

أراد ألا يقال كان له ... أمر فلم يدر من به أمرا
يا صاحب المنجنيق ما فعلت ... كفاك، لم تبقيا ولم تذرا
كان هواه سوى الذي قدرا ... هيهات لن يغلب الهوى القدرا
ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطاً وخندقاً، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قال: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمداً أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق من كان في يده من الأموال، وضاق ذرعاً، وتحرق صبراً فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بن عبد الملك العتري الوراق:
يا رماة المنجنيق ... كلكم غير شفيق
ما تبالون صديقاً ... كان أو غير صديق
ويلكم تدرون ما تر ... مون مرار الطريق
رب خودٍ ذات دلٍ ... وهي كالغصن الوريق
أخرجت من جوف دنيا ... ها ومن عيشٍ أنيق
لم تجد من ذاك بداً ... أبرزت يوم الحريق
وذكر عن محمد بن منصور الباوردي، قال: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة؛ وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشأم واحداً بعد واحد؛ وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بن مالك؛ وكثر الحراب والهدم حتى درست محاسن بغداد؛ ففي ذلك يقول العتري:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زماناً قرة العين!
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زيناً من الزين!
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ... ماذا لقيت بهم من لوعة البين!
أستودع الله قوماً ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين
قال: ووكل محمد علياً فراهمود؛ فيمن ضم إليه من المقاتة، بقصر صالح وقصر سليمان بن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي؛ فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك؛ وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها؛ وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله؛ فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته؛ حتى أوحشت بغداد ، وخاف الناس أن تبقى خراباً؛ وفي ذلك يقول الحسين الخليع:
أتسرع الرجلة إغذاذا ... عن جانبي بغداذ أم ماذا!
ألم تر الفتنة قد ألفت ... إلى أولى الفتنة شذاذا
وانتقضت بغداذ عمرانها ... عن رأي لا ذاك ولا هذا
هدماً وحرقاً قد أبيد أهلها ... عقوبة لاذت بمن لاذا
ما أحسن الحالات إن لم تعد ... بغداذ في القلة بغداذا
قال: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال؛ إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق. وكان حاتم بن صقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله ، ولا يني فيه فقال الخريمي يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها:
قالوا: ولم يلعب الزمان ببغ ... داد وتعثر بها عواثرها

إذ هي مثل العروس باطنها ... مشوق للفتى وظاهرها
جنة خلدٍ ودار مغبطةٍ ... قل من النائبات واترها
درت خلوف الدنيا لساكنها ... وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت ... فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة أنفٍ ... أشرق غب القطار زائرها
من غرة العيش في بلهنيةٍ ... لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوكٍ رست قواعدها ... فيها وقرت بها منابرها
أهل العلا والندى وأندية ال ... فخر إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكةٍ ... شد عراها لها أكابرها
فلم يزل والزمان ذو غيرٍ ... يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأساً مثملةً ... من فتنةٍ لا يقال عاثرها
وافترقت بعد ألفةٍ شيعاً ... مقطوعةً بينها أواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت ... إذ لم يرعها بالنصح زاجرها
أورد أملاكنا نفوسهم ... هوة غي أعيت مصادرها
ما ضرها لو وفت بموثقها ... واستحكمت في التقى بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها ... وتبتعث فتيةً تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت ... لها ورعب النفوس ضائرها
ما زال حوض الأملاك يحفره ... مسجورها بالهوى وساجرها
تبغي فضول الدنيا مكاثرةً ... حتى أبيحت كرهاً ذخائرها
تبيع ما جمع الأبوة لل ... أبناء لا أربحت متاجرها
يا هل رأيت الجنان زاهرةً ... يروق عين البصير زائرها!
وهل رأيت القصور شارعةً ... تكن مثل الدمى مقاصرها
وهل رأيت القرى التي غرس ال ... أملاك مخضرة دساكرها
محفوفةً بالكروم والنخل والر ... يحان ما يستغل طائرها
فإنها أصبحت خلايا من ال ... إنسان قد أميت محاجرها
قفراً خلاءً تعوي الكلاب بها ... ينكر منها الرسوم زائرها
وأصبح البؤس ما يفارقها ... إلفاً لها والسرور هاجرها
بزند ورد والياسرية والشط ... ين حيث انتهت معابرها
ويا ترحلي والخيزرانية ال ... عليا التي أشرفت قناطرها
وقصر عبدويه عبرة وهدىً ... لكل نفس زكت سرائرها
فأين حراسها وحارسها ... وأين مجبورها وجابرها!
وأين خصيانها وحشواتها ... وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب وال ... أحبش تعدو هدلاً مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها ... تعدو بها سرباً ضوامرها
بالسند والهند والصقالب وال ... نوبة شيبت بها برابرها
طيراً أبابيل أرسلت عبثاً ... يقدم سودانها أحامرها
أين الظباء الأبكار في روضه ال ... ملك تهادي بها غرائرها!
أين غضاراتها ولذتها ... وأين محبورها وحابرها!
بالمسك والعنبر اليمان وال ... يلنوج مشبوبة مجامرها
يرفلن في الخز والمجاسد وال ... موشي محطومه مزامرها
فأين رقاصها وزامرها ... يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد أسماعهم تسك إذا ... عارض عيدانها مزاهرها
أمست كجوف الحمار خاليةً ... يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم ... عاد ومستهم صراصرها
لا تعلم النفس ما يبايتها ... من حادث الدهر أو يباكرها

تضحي وتمسي درية غرضاً ... حيث استقرت بها شراشرها
لأسهم الدهر وهو يرشقها ... محنطاً مرةً وباقرها
يا بوس بغداد دار مملكة ... دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها ... لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبال ... حرب التي أصبحت تساورها
كم قد رأينا من المعاصي ببغدا ... د فهل ذو الجلال غافرها!
حلت ببغداد وهي آمنة ... داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي ال ... فضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده بالرغم ... واستعبدت حرائرها
وصار رب الجيران فاسقهم ... وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها ... قد ربقت حولها عساكرها
كل طحون شهباء باسلة ... تسقط أحبالها زماجرها
تلقى بغي الردى أوانسها ... يرهقها للقاء طاهرها
والشيخ يعدو حزماً كتائبه ... يقدم أعجازها يعاورها
ولزهير بالفرك مأسدة ... مرموقة صلبة مكاسرها
كتائب الموت تحت ألوية ... أبرح منصورها وناصرها
يعلم أن الأقدار واقعة ... وقعاً على ما أحب قادرها
فتلك بغداد ما يبني من الذ ... لة في دورها عصافرها
محفوفة بالردى منطقة ... بالصغر محصورة جبابرها
ما بين شط الفرات منه إلى ... دجلة حيث انتهت معابرها
بارك هادي الشقراء نافرة ... تركض من حولها أشاقرها
يحرقها ذا وذاك يهدمها ... ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة ... يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها ... آساد غيل غلباً تساورها
من البواري تراسها ومن ال ... خوص إذا استلأمت مغافرها
تغدو إلى الحرب في جواشنها ال ... صوف إذا ما عدت أساورها
كتائب الهرش تحت رايته ... ساعد طرارها مقامرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها للقاء حاشرها
في كل درب وكل ناحية ... خطارة يستهل خاطرها
بمثل هام الرجال من فلق الص ... خر يزود المقلاع بائرها
كأنما فوق هامها فرق ... من القطا الكدر هاج نافرها
والقوم من تحتها لهم زجل ... وهي ترامى بها خواطرها
بل هل رأيت السيوف مصلتةً ... أشهرها في الأسواق شاهرها
والخيل تستن في أزقتها ... بالترك مسنونة خناجرها
والنفط والنار في طرائقها ... وهابيا للدخان عامرها
والنهب تعدو به الرجال وقد ... أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد ... أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة ... لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت ... للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها وتعجلها ... كبة خيل ريعت حوافرها
تسأل أين الطريق والهة ... والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها ... حتى اجتلتها حرب تباشرها
يا هل رأيت الثكلى مولولة ... في الطرق تسعى والجهد باهرها!
في إثر نعش عيه واحدها ... في صدره طعنة يساورها
فرغاء ينقى الشنار مربدها ... يهزها بالسنان شاجرها
تنظر في وجهه وتهتف بالث ... كل وجارى الدموع حادرها

غرغر بالنفس ثم أسلمها ... مطلوبة لا يخاف ثائرها
وقد رأيت الفتيان في عرصة ال ... معرك مغفورة مناخرها
كل فتى مانع حقيقته ... تشقى به في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه ... مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة ... بالقوم منكوبة دوائرها
تعث بالأوجه الحسان من ال ... قتلى وغلت دماً أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد ... يفلق هاماتهم حوافرها
أما رأيت النساء تحت المجا ... نيق تعادي شعثاً ضفائرها
عقائل القوم والعجائز وال ... عنس لم تحتبر معاصرها
يحملن قوتاً من الطحين على ال ... أكتاف معصوبة مهاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة ... تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها وقد سلبت ... وابتز عن رأسها غفائرها
يا ليت شعري والدهر ذو دول ... يرجى وأخرى تخشى بوادرها
هل ترجعن أرضنا كما غنيت ... وقد تناهت بنا مصايرها
من مبلغ ذا الرياستين رسا ... لات تأتي للنصح شاعرها
بأن خير الولاة قد علم الن ... اس إذا عددت مآثرها
خليفة الله في بريته ال ... مأمون منتاشها وجابرها
سمت إليه آمال أمته ... منقادةً برها وفاجرها
شاموا حيا العدل من مخايله ... وأصحرت بالتقى بصائرها
وأحمدوا منك سيرة جلت ال ... شك وأخرى صحت معاذرها
واستجمعت طاعة برفقك للمأ ... مون نجديها وغائرها
وأنت سمع في العالمين له ... ومقلة ما يكل ناظرها
فاشكر لذي العرش نعمته ... وأوجب فضل المزيد شاكرها
واحذر فداءً لك الرعية وال ... أجناد مأمورها وآمرها
لا تردن غمرةً بنفسك لا ... يصدر عنها بالرأي صادرها
عليك ضحضاحها فلا تلج الغم ... رة ملتجةً زواخرها
والقصد إن الطريق ذو شعبٍ ... أشماخها وعثها وجائرها
أصبحت في أمةٍ أوائلها ... قد فارقت هديها أواخرها
وأنت سرسورها وسائسها ... فهل على الحق أنت قاسرها!
أدب رجالاً رأيت سيرتهم ... خالف حكم الكتاب سائرها
وامدد إلى الناس كف مرحمة ... تسد منهم بها مفاقرها
أمكنك العدل إذ هممت به ... ووافقت مده مقادرها
وأبصر الناس قصد وجههم ... وملكت أمةً أخايرها
تشرع أعناقها إليك إذ الس ... ادات يوماً جمت عشائرها
كم عندنا من نصيحة لك في الل ... ه وقربى عزت زوافرها
وحرمةٍ قربت أواصرها ... منك، وأخرى هل أنت ذاكرها!
سعى رجال في العلم مطلبهم ... رائحها باكر وباكرها
دونك غراء كالوذيلة لا ... تفقد في بلدةٍ سوائرها
لا طمعاً قلتها ولا بطراً ... لكل نفسٍ هوىً يؤامرها
سيرها الله بالنصيحة وال ... خشية فاستدنجت مرائرها
جاءتك تحكي لك الأمور كما ... ينشر بز التجار ناشرها
حملتها صاحباً أخا ثقةٍ ... يظل عجباً بها يحاضرها
وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد.
ذكر خبر وقعة قصر صالحوفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر قصر صالح.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة

ذكر عن محمد بن الحسين بن مصعب، أن طاهراً لم يزل مصابراً محمداً وجنده على ما وصفت من أمره؛ حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي فراهمرد الموكل بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه؛ وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلاً، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد؛ وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش؛ وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد؛ وكان مهيباً في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم؛ وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون؛ وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار.
قال: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجاً من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر؛ ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلاً وجريحاً معقوراً من أصحاب طاهر من تلك الوقعة؛ فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب. وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع:
أمين الله ثق بالل ... ه تعط الصبر والنصره
كل الأمر إلى الله ... كلاك الله ذو القدره
لنا النصر بعون الل ... ه والكرة لا الفره
وللمراق أعدائ ... ك يوم السوء والدبره
وكأس تلفظ الموت ... كريه طعمها مره
سقينا وسقيناهم ... ولكن بهم الحره
كذاك الحرب أحياناً ... علينا ولنا مره
فذكر عن بعض الأبناء أن طاهراً بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون؛ فلحق به جماعة، منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي واخوته، وولد الحسن بن قحطبة ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.
قال: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش؛ فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ. وفرض دجلة وباب المحول والكناسة؛ فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة؛ فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب.
قال: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم؛ فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على أهل الريب. وأمر محمد بن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم؛ فكان الرجل إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز؛ حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قال الله تعالى ذكره: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " . فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعاً؛ وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:
بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرورٍ ... ومن سعةٍ تبدلنا بضيق
أصابتها من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قسراً ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي واصباحاً ... وباكية لفقدان الشفيق

وحوراء المدامع ذات دل ... مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهابٍ ... ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها ... مضاحكها كلألأة البروق
حيارى كالهدايا مفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشقيق من الشقيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا ... متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقىً ... بلا رأسٍ بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعاً ... فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه ... وقد هرب الصديق بلا صديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرقيق
وذكر أن قائداً من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى؛ استهانة بأمرهم واحتقاراً لهم؛ فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة؛ فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعدة والقوة؛ ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وأبصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريباً منه؛ فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيهاً بالجعبة. وجعل كلما وقع سهم أخذه وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه؛ ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه؛ فأخرج من مخلاته حجراً؛ فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر؛ فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه؛ وكر راجعاً وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس؛ قال: فحدثت أن طاهراً حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب؛ فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:
خرجت هذه الحروب رجالاً ... لا لقحطانها ولا لنزار
معشراً في جواشن الصوف يغدو ... ن إلى الحرب كالأسود الضواري
وعليهم مغافر الخوص تجزي ... هم عن البيض. والتراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ... طال عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشد على أل ... فين عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذا طعن الطع ... نة: خذها من الفتى العيار
كم شريف قد أخملته وكم قد ... رفعت من مقامر طرار
ذكر خبر منع طاهر الملاحين من إدخال شيء إلى بغدادقال محمد بن جرير: وفي هذه السنة منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.
ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر أما السبب في ذلك فإنه - فيما ذكر - كان أن طاهراً لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه؛ لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه؛ فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشأم وباب الكوفة، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة؛ وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة؛ وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون؛ حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون؛ فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعدياً؛ فقال شاعر منهم - وذكر أنه عمرو بن عبد الملك الوراق العتري - في ذلك:
لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ... يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا داراً أخذنا سقوفها ... ونحن لأخرى غيرها نتربص

وإن حرصوا يوماً على الشر جهدهم ... فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
فقد ضيقوا من أرضنا كل واسعٍ ... وصار لهم أهل بها، وتعرصوا
يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا ... لهم وجه صيدٍ من قريب تقنصوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ... علينا فما ندري إلى أين نشخص!
إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ... وإن يروا شيئاً قبيحاً تخرصوا
وما قتل الأبطال مثل مجربٍ ... رسول المنايا ليله يتلصص
ترى البطل المشهور في كل بلدة ... إذا ما رأى العريان يوماً يبصبص
إذا ما رآه الشمري مقزلاً ... على عقبيه للمخافة ينكص
يبيعك رأساً للصبي بدرهمٍ ... فإن قال إني مرخص فهو مرخص
فكم قاتلٍ منا لآخر منهم ... بمقتله عنه الذنوب تمحص
تراه إذا نادى الأمان مبارزاً ... ويغمرنا طوراً وطوراً يخصص
وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ... وما قتل المقتول إلا المرخص
وقال أيضاً في ذلك:
الناس في الهدم وفي الانتقال ... قد عرض الناس بقيلٍ وقال
يأيها السائل عن شأنهم ... عينك تكفيك مكان السؤال
قد كان للرحمن تكبيرهم ... فاليوم تكبيرهم للقتال
اطرح بعينيك إلى جمعهم ... وانتظر الروح وعد الليال
لم يبق في بغداد إلا امرؤ ... حالفه الفقر كثير العيال
لا أم تحمي عن حماها ولا ... خال له يحمي ولا غير خال
ليس له مال سوى مطردٍ ... مطرده في كفه رأس مال
هان على الله فأجرى على ... كفيه للشقوة قتل الرجال
إن صار ذا الأمر إلى واحدٍ ... صار إلى القتل على كل حال
ما بالنا نقتل من أجلهم ... سبحانك اللهم يا ذا الحلال!
وقال أيضاً:
ولست بتاركٍ بغداد يوماً ... ترحل من ترحل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ... نبالي بعد من كان الإماما
قال عمرو بن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر عند ذلك بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات؛ ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار؛ بما كان زهير بن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا أو كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام.
وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حيناً بالياسرية.
ذكر خبر وقعة الكناسة وفيها جعل طاهر قواداً من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بن الوضاح الأزدي في أصحابه ومن ضم إليه بالوضاحية على المحول الكبير، وجعل نعيم بن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهراً، ثم صبر الفريقان جميعاً؛ فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة؛ باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بن عبد الملك:
وقعة يوم الأحد ... صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرته ... ملقىً وكم من جسد
وناظر كانت له ... منية بالرصد
أتاه سهم عاثر ... فشك جوف الكبد
وصائحٍ يا والدي ... وصائحٍ يا ولدي
وكم غريقٍ سابحٍ ... كان متين الجلد!
لم يفتقده أحد ... غير بنات البلد
وكم فقيدٍ بئس ... عز على المفتقد
كان من النظارة ال ... أولى شديد الحرد

لم يبق من كهل لهم ... فات ولا من أمرد
وطاهر ملتهم ... مثل التهام الأسد
خيم لا يبرح في ال ... عرصة مثل اللبد
تقذف عيناه لدى ال ... حرب بنار الوقد
فقائل قد قتلوا ... ألفاً ولما يزد
وقائل أكثر بل ... ما لهم من عدد
وهارب نحوهم ... يرهب من خوف غد
هيهات لا تبصر مم ... ن قد مضى من أحد
لا يرجع الماضي إلى ال ... باقي طوال الأبد
قلت لمطعون وفي ... ه روحه لم تبد
من أنت يا ويلك يا ... مسكين من محمد
فقال لا من نسبٍ ... دانٍ ولا من بلد
لم أره قط ولم ... أجد له من صفد
قلت لا للغي قا ... تلت ولا للرشد
إلا لشيء عاجلٍ ... يصير منه في يدي
وذكر عن عمرو بن عبد الملك أن محمداً أمر زريحاً غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلاً، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالاً كثيرة، وأهلك خلقاً، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:
أظهروا الحج وما ينوونه ... بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة ... وكل الهرش عليهم بالعطب
كل من راد زريح بيته ... لقي الذل ووافاه الحرب
ذكر خبر وقعة درب الحجارة.
وفيها كانت وقعة درب الحجارة.
ذكر الخبر عنها: ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة؛ وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بن عبد الملك العتري:
وقعة السبت يوم درب الحجاره ... قطعت قطعة من النظاره
ذاك من بعد ما تفانوا ولكن ... أهلكتهم غوغاؤنا بالحجاره
قدم الشورجين للقتل عمداً ... قال إني لكم أريد الإماره
فتلقاه كل لص مريبٍ ... عمر السجن دهره بالشطاره
ما عليه شيء يواريه منه ... أيره قائم كمثل المناره
فتولوا عنهم وكانوا قديماً ... يحسنون الضراب في كل غاره
هؤلاء مثل هولاك لدينا ... ليس يرعون حق جار وجاره
كل من كان خاملاً صار رأساً ... من نعيمٍ في عيشه وغضاره
حامل في يمينه كل يومٍ ... مطرداً فوق رأسه طياره
أخرجته من بيتها أم سوءٍ ... طلب النهب أمه العياره
يشتم الناس ما يبالي بإفصا ... حٍ لذي الشتم لا يشير إشاره
ليس هذا زمان حر كريم ... ذا زمان الأنذال أهل الزعاره
كان فيما مضى القتال قتالاً ... فهو اليوم يا علي تجاره
وقال أيضاً:
بارية قيرت ظاهرها ... محمد فيها ومنصور
العز والأمن أحاديثهم ... وقولهم قد أخذ السور
وأي نفع لك في سورهم ... وأنت مقتول ومأسور؟
قد قتلت فرسانكم عنوةً ... وهدمت من دوركم دور
هاتوا لكم من قائد واحد ... مهذب في وجهه نور
يأيها السائل عن شأننا ... محمد في القصر محصور
ذكر خبر وقعة باب الشماسية وفيها أيضاً كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة.
ذكر عن علي بن يزيد أنه قال:

كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحياناً، فيقف بباب خراسان مشفقا ًمن أهل العسكر، كارهاً للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به؛ فيقف ساعة ثم ينصرف. وكان حاتم بن الصقر من قواد محمد؛ وكان قد واعد أصحابه الغزاة والعيارين أن يوافوا عبيد الله بن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم؛ فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزماًن فأصابوا له خيلاً وسلاحاً ومتاعاً كثيراً، وغلب على الشماسية حاتم ابن صقر. وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر إلى موضعه؛ فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزماً، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب؛ وما كانوا من النهب والأسر. فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم.
وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق:
عريان ليس بذي قميص ... يغدو على طلب القميص
يعدو على ذي جوشنٍ ... يعمي العيون من البصيص
في كفه طرادة ... حمراء تلمع كالفصوص
حرصاً على طلب القتا ... ل أشد من حرص الحريص
سلس القياد كأنما ... يغدو على أكل الخبيص
ليثاً مغيراً لم يزل ... رأساً يعد من اللصوص
أجرى وأثبت مقدماً ... في الحرب من أسدٍ رهيص
يدنو على سنن الهوا ... ن وعيصه من شر عيص
ينجو إذا كان النجا ... ء على أخف من القلوص
ما للكمي إذا لمق ... تله تعرض من محيص
كم من شجاعٍ فارسٍ ... قد باع بالثمن الرخيص
يدعو: ألا من يشتري ... رأس الكمي بكف شيص!
وقال بعض أصحاب هرثمة:
يفنى الزمان وما يفنى قتالهم ... والدور تهدم والأموال تنتقص
والناس لا يستطيعون الذي طلبوا ... لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا
يأتوننا بحديثٍ لا ضياء له ... في كل يوم لأولاد الزنا قصص
قال: ولما بلغ طاهراً ما صنع الغزاة وحاتم بن الصقر بعبيد الله بن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه؛ وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بن الوضاح وهرثمة.
قال: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانية بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبة، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشراً كثيراً، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:
ثقلان وطاهر بن الحسين ... صبحونا صبيحة الإثنين
جمعوا جمعهم بليل ونادوا ... اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين
ضربوا طلبهم فثار إليهم ... كل صلب القناة والساعدين
يا قتيلا بالقاع ملقىً على الشط ... هواه بطيء الجبلين
ما الذي في يديك أنت إذا ما اص ... طلح الناس أنت بالخلتين
أوزير أم قائد، بل بعيد ... أنت من ذين موضع الفرقدين
كم بصير غدا بعينين كي يب ... صر ما حالهم فعاد بعين
ليس يخطون ما يريدون ما يع ... مد راميهم سوى الناظرين
سائلي عنهم هم شر من أب ... صرت في الناس ليس غير كذين
شر باقٍ وشر ماضٍ من النا ... س مضى أو رأيت في الثقلين
قال: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمداً، فاشتد عليه وغمه وأحزنه؛ فذكر كاتب لكوثر أن محمداً قال - أو قيل على لسانه هذه الأبيات:

منيت بأشجع الثقلين قلباً ... إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدنٍ رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفلٍ أمراً عناداً ... إذا ما الأمر ضيعه الغفول
وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى المدائن؛ فذكر عن الحسين بن الضحاك أن عبد الله بن خازم بن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلاً في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئاً من القتال.
وذكر غيره أن طاهراً كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم؛ فقال بعض قرائبه في ذلك:
وما جبن ابن خازم من رعاعٍ ... وأوباش الطغام من الأنام
ولكن خاف صولة ضيغمي ... هصور الشد مشهور العرام
فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتاباً أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له؛ لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب ؛ فضلاً عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين؛ حتى إن الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار؛ وإنما هم بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون. وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعة الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى أن الرجل ليستقبل المرأة في زحمة الناس فيلتثان قبل التخلص؛ وحتى إن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفاً وحتى إن الحامل الكيس في حنجرته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة؛ ولا نملك لأنفسنا معهم شيئاً؛ وإن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفي الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصة، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لاتظنوا أن طاهراً غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم؛ حتى كأنه شاهدكم؛ والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا؛ فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم؛ والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفاً، بل لو كنتم من أهل الأثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا. فأجابوهم وأمسكوا. وقال ابن أبي طالب المكفوف:
دعوا أهل الطريق فعن قليل ... تنالهم مخاليب الهصور
فتهتك حجب أفئدة شداد ... وشيكاً ما تصير إلى القبور
فإن الله مهلكهم جميعاً ... بأسباب التمني والفجور
وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعاً للقتال؛ حتى كان الفتح منه؛ وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار أبي يزيد الشروي. وخلف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار؛ فذكر أن طاهراً لما رأى ذلك وجه إليهم قائداً من أصحابه، وكان مشتغلاً بوجوه كثيرة يقاتل منها أصحاب محمد، فأوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق:
نادى منادي طاهرٍ عندنا ... يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت
فسوف يأتيكم غد فاحذروا ... ليثاً هريت الشدق فيه عيوت
فثارت الغوغاء في وجهه ... بعد انتصاف الليل قبل القنوت
في يوم سبتٍ تركوا جمعه ... في ظلمة الليل سموداً خفوت
وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد:

كم قتيل قد رأينا ... ما سألناه لأيش
دارعاً يلقاه عريا ... ن بجهلٍ وبطيش
إن تلقاه برمحٍ ... يتلقاه بفيش
حبشياً يقتل النا ... س على قطعة خيش
مرتدٍ بالشمس راض ... بالمنى من كل عيش
يحمل الحملة لا يق ... تل إلا رأس جيش
كعلي أفراهمردٍ ... أو علاءٍ أو قريش
أحذر الرمية يا طا ... هر من كف الحبيشي
وقال أيضاً عمرو الوراق في ذلك:
ذهبت بهجة بغدا ... د وكانت ذات بهجه
فلها في كل يومٍ ... رجة من بعد رجه
ضجت الأرض إلى الل ... ه من المنكر ضجه
أيها المقتول ما أن ... ت على دين المحجه
ليت شعري ما الذي نل ... ت ووقد أدلجت دلجه
أإلى الفردوس وجه ... ت أم النار توجه
حجر أرداك أم أر ... ديت قسراً بالأزجه
إن تكن قاتلت براً ... فعلينا ألف حجه
وذكر عن علي بن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمداً أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يوماً وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعاً، وأراح الناس منهم؛ فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا؛ أما هؤلاء فيريدون مالي؛ وأما أولئك فيريدون نفسي. وذكرت أبياتاً قيل أنه قالها:
تفرقوا ودعوني ... يامعشر الأعوان
فكلكم ذو وجوهٍ ... كخلقة الإنسان
وما أرى غير إفكٍ ... وترهات الأماني
ولست أملك شيئاً ... فسائلوا خزاني
فالويل لي ما دهاني ... من ساكن البستان
قال: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك. وكان على مكة في هذه السنة داود بن عيسى.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائةذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر استيلاء طاهر على بغدادفمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بن خازم محمد بن هارون ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي.
ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر ذكر السبب في ذلك كان طاهراً كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته، لم يقصر في أمره. فلما وصل كتابه إليه شاور الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا؛ فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمراً يؤثر رأيه ورضاه؛ وانه إن لم يضمن له ذلك؛ فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف. فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات؛ وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب؛ إن في ذلك جرماً؛ فاستعد للدخول؛ فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور؛ وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله.
قال: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت؛ فلن أخالفك؛ قال: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة.
وقد ذكر أن طاهراً لما كتب أيضاً إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك. قيل:

فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمداً، ودعوا لعبد الله المأمون؛ وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك؛ ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهاً، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر:
علينا جميعاً من خزيمة منة ... بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب
تولى أمور المسلمين بنفسه ... فذب وحامى عنهم أشرف الذب
ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا ... يبيت على عتب ويغدو على عتب
خزيمة لم ينكر له مثل هذه ... إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب
أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ... شوارع والأرواح في راحة العضب
وأم المنايا بالمنايا مخيلة ... تفجع عن خطب وتضحك عن خطب
فكانت كنار ما كرتها سحابة ... فأطفأت اللهب الملفف باللهب
وما قتل نفس في نفوس كثيرة ... إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب
بلاء أبي العباس غير مكفر ... إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب
فذكر عن يحيى بن سلمة الكاتب أن طاهراً غداً يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسراً بالسيف. وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الكرخ والأطراف قواداً وجنداً في كل موضع على قدر حاجته منهم؛ وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد وبأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:
يا طاهر الظهر الذي ... مثاله لم يوجد
يا سيد بن السيد ب ... ن السيد بن السيد
رجعت إلى أعمالها الأ ... ولى غزاة محمد
من بين نطافٍ وسو ... اطٍ وبين مقرد
ومجردٍ يأوي إلى ... عيارةٍ ومجرد
ومقيدٍ نقب السجو ... ن فعاد غير مقيد
ومقيدٍ بالنهب سا ... د وكان غير مسود
ذلوا لعزك واستكا ... نوا بعد طول تمرد
وذكر عن علي بن يزيد، أنه قال: كنت يوماً عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه، فقال عمرو: ناولني قدحاً، وقال في ذلك:
خذها فللخمرة أسماء ... لهل دواء ولها داء
يصلحها الماء إذا صفقت ... يوماً وقد يفسدها الماء
وقائلٍ كانت لهم وقعة ... في يومنا هذا وأشياء
قلت له: أنت امرؤ جاهل ... فيك عن الخيرات إبطاء
اشرب ودعنا من أحاديثهم ... يصطلح الناس إذا شاءوا
قال: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان. قال: فقال أيضاً:
أي دهر نحن فيه ... مات فيه الكبراء
هذه السفلة والغو ... غاء فينا أمناء
ما لنا شيء من الأش ... ياء إلا ما يشاء
ضجت الأرض وقد ضج ... ت إلى الله السماء
ورفع الدين وقد ها ... نت على الله الدماء
يا أبا موسى لك الخي ... رات قد حان اللقاء

هاكها صرفاً عقاراً ... قد أتاك الندماء
وقال أيضاً عمرو الوراق في ذلك:
إذا ما شئت أن تغض ... ب جندياً وتستامر
فقل: يا معشر الأجنا ... د قد جاءكم طاهر
قال وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
فذكر عن الحسين بن أبي سعيد أن طارقاً الخادم - وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمد سأله يوماً من الأيام وهو محصور، أو قال في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئاً - قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئاً، فجئت إلى جمرة العطارة - وكانت جارية الجوهر - فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئاً؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوج في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة؛ فما شرب ماء حتى أتى عليه.
وذكر عن محمد بن راشد أن إبراهيم بن المهدي أخبره أنه كان نازلاً مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار - في قرن الصراة - أسفل من قصر الخلد - في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذٍ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله. قال: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني؛ لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك؛ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها؛ ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قال: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
قال: فاشتد ما غنت به عليه وتطير منه، وقال لها: عن غير هذا فتغنت:
أبكي فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئاً غير هذا! قالت: يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه؛ وما أردت ما تكرهه؛ وما هو إلا شيء جاءني. ثم أخت في غناء آخر:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك ... عان بحب الدنيا بلا ملك
وملك ذي العرش دائم أبداً ... ليس بفانٍ ولا مشترك
فقال لها: قومي غضب الله عليك! قال: فقامت. وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زبرباح، وكان موضوعاً بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته - قال إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا هذا - فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية؛ ثم ماكان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك. فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتاً من دجلة " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " ، فقال: يا إبراهيم ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئاً - وقد كنت سمعت - قال: تسمع حساً! قال: فدنوت من الشط فلم أر شيئاً، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " ، فوثب من مجلسه ذلك مغتماً، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك ليوم الأحد لست - أو لأربع - خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة.
وذكر عن أبي الحسن المدائني؛ قال:

لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بن هارون مدينة السلام هارباً من القصر الذي كان يقال له الخلد مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة؛ وذلك لأربع عشرة شهراً منذ ثارت الحرب مع طاهر إلا اثنا عشر يوما.
ذكر الخبر عن قتل الأمين وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون.
ذكر الخبر عن مقتله: ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي أنه قال: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم؛ دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى؛ وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه؛ فإنا نرجو أن يكون صواباً ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله. قال: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها؛ فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلاً على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله؛ ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله؛ فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشأم فتفرض الفروض، وتجبى الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، وإلى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار. فقال لهم: نعم ما رأيتم؛ واعتزم على ذلك. وخرج الخبر إلى طاهر؛ فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى السندي بن شاهك: والله لإن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه؛ فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجد فيها؛ ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيراً، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم؛ وضربوا له فيه الأمثال.
قال محمد بن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعوداً في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه. قال: فلما سمعوا كلامه، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له؛ هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه؛ ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج. فكفوا وأمسكوا.
قال محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرم عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج؛ فأجاب سليمان والسندي ومحمد بن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلام واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى؛ وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة. فقال محمد بن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة؛ لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذا أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك - وهو الصواب - وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة. قال محمد بن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهراً وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق لم أر حائطاً شبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفتي؛ وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك؛ وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنساً وأشد ثقة.
وذكر عن محمد بن إسماعيل، عن حفص بن أرميائيل، أن محمداً لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى - وكان له جسر في ذلك الموضع - أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب. قال:

فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت؛ فسهرت ليلتي أنا وأعواني؛ ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاساً شديداً؛ ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون. وأعطيتها كانوناً من فضة عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا بالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي: قم يا حفص؛ فقد وقعت في بلاء، قلت: ما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة؛ فلم أشك أنه هو؛ فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل. قال: فشتمتها وعنفتها. قال: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت؛ وكان هذا من أوائل الإدبار.
وذكر علي بن يزيد، قال: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي ومحمد بن عيسى بن نهيك، ولحقوا جميعاً بعسكر المهدي، ومكث محمد محصوراً في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت. وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان؛ وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي؛ لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا؛ وما أرى فرجاً إلا هرثمة. قال له: وكيف بهرثمة؛ وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك؛ فلعله كان سيركن إليك. فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم؛ هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولي الأمور برأيه بالغاً عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به؛ ولا طمع فيما سواه؛ ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر؛ ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه؛ ولكني لا أطمع في ذلك منه. فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين؛ فبادر بنا إلى هرثمة؛ فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك؛ وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك؛ فاخرج ليلاً في ساعة قد نوم الناس فيها؛ فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا.
وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب؛ حتى صار إلى طلب الأمان؛ ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني؛ فيكون الفتح له.
ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم؛ فصار إليهم طاهر وخاصته وقواده، وحضرهم سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهراً أنه لا يخرج إليه أبداً، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فقالوا له: يخرج ببدنه إلى هرثمة - إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشاً منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة - وذلك الخلافة - ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله. فأجاب إلى ذلك ورضي به. ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة. فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول.
فذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: أخبرني طارق الخادم، قال: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده. قال: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه؛ ولبس ثياب الخلافة؛ دراعة وطيلساناً والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة. فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قال:

اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزاً من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه؛ وصار إلى هرثمة. فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد؛ فلما صار إلى الحراقة؛ خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة؛ فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخي ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بن المهدي - وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلاً من أصحابه خراسانياً ضم إليه قوماً - فعرفه محمد بن حميد - وهو المعروف بالطاهري؛ وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمداً لماً، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي، وكان ينزل باب الكوفة، وأردف رجلاً خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير.
فذكر عن الحسن بن أبي سعيد، أن خطاب بن زياد حدثه أن محمداً وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة. قال: فلما انتهى طاهر ونحن معه في الموكب والحسن بن علي المأموني والحسن الكبير خادم الرشيد - إلى باب الشأم، لحقنا محمد بن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه أسر محمداً، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي. قال: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين بن علي. قال: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد. قال: واتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع.
وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي؛ قال: لما تهيأ للخروج - وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد - خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود؛ فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة. قال: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة؛ فإني رأيت في دجلة على الشط أمراً قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك؛ ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك؛ فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدني. قال: فقال محمد: ارجع إليه، فقل له لا تبرح؛ فإني خارج إليك الساعة لا محالة؛ ولست أقيم إلى غد. قال: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني. ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما، وقال: أستودعكما الله؛ ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر؛ حتى ركبنا دوابنا وبين يديه شمعة واحدة. فلما صرنا إلى الطاقات مما يلي باب خراسان، قال لي أبي: يا محمد ابسط يدك عليه؛ فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف؛ فإن ضرب كان الضرب بك دونه. قال: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق؛ وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت.
فذكر عن أحمد بن سلام صاحب المظالم أنه قال: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظاماً، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي. قال: وجعل يتصفح وجوهنا، قال: ونظر إلى عبيد الله بن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قال: أنا عبيد الله بن الوضاح، قال:

نعم، فجزاك الله خيراً، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني. قال: فبينا نحن كذلك - وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع - إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب. قال: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح؛ وخرج كل واحد منا على حيله؛ ورأيت محمداً حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء. قال: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر؛ فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة؛ أنا أحمد بن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت فاصدقني، قال: قلت. قد صدقتك، قال: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قال: قدموا دابتي؛ فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب. قال: فجعل في عنقي حبل وجنبت؛ وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل؛ وليس يعدو، قال: انزل فحز رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم. قال: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولاً حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي. قال: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفاً لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب؛ فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره؛ فإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث - وفي رواية حصر مدرجة - قال: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجاً، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون. قال: فلما ذهب من الليل ساعة؛ إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون : يسر زبيدة. قال: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قوماً آخرين أيضاً منهم.
قال: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي. قال: وجعل ينظر إلي، ثم قال: أيهم أنت؟ قال: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قال: وأي الموالي؟ قلت: أحمد بن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟ قال: قلت نعم، قال: كنت تأتيني وتلطفني كثيراً، لست مولاي بل أنت أخي ومني. ثم قال: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي؛ قال: ادن مني وضمني إليك، فإني أجد وحشة شديدة. قال: فضممته إلي فإذا قلبه يخفق خفقاً شديداً كاد أن يفرج عن صدره فيخرج. قال: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه. قال: ثم قال: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قال: قلت: هو حي، قال: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته؛ قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قال: لا تقل لوزرائي إلا خيراً، فما لهم ذنب؛ ولست بأول من طلب أمراً فلم يقدر عليه. ثم قال: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قال: قلت: بل يفون لك يا سيدي. قال: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة. قال: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك. قال: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير.
قال: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتاً له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب؛ وإذا هو محمد بن حميد الطاهري، قال: فعلمت أن الرجل مقتول. قال: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قال:

فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة. قال: فاقتربت منه؛ فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائماً، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قال: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضاً. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هارون؛ وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه - غلام لقريش الدنداني مولى طاهر - فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه؛ وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني - بالفارسية قال: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحاً من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته. قال: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها. قال: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك. قال: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، بها، فدفعتها إليه. قال: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد.
وذكر عن أحمد بن سلام في هذه القصة أنه قال: قلت لمحمد لما دخل على البيت وسكن: لاجزى الله وزراءك خيراً، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي؛ ليس بموضع عتاب. ثم قال: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم؛ هذا القتال عمن إذاً! هو إلا عنه! قال: فقال لي: أخبرني يحيى أخو عامر بن إسماعيل بن عامر - وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة - أن المأمون مات، فقلت له: كذب. قال: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير. قال: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر. قال: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها؛ وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت؛ فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم هجموا عليه فحزوا رأسه. واستقبلوا به طاهراً، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره؛ إذ أقبل عبد السلام بن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له - وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية - فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قال: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه. فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد.
وذكر محمد بن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه.
وذكر عن الحسن بن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال.
وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى بن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه. قال: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله. قال: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى - وهو من سعف مبطن - مع محمد بن الحسن بن مصعب ابن عمه، فأمر له بألف ألف درهم، فرأيت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد.
قال الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قال: حدثني علي بن حمزة العلوي، قال:

قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله. قال: فقال لنا شيخ منهم: كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشاً يقتله؛ فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بن أبي الوزير أن علي بن محمد بن خالد بن برمك أخبره أن إبراهيم بن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلاً، ثم قال:
عوجا بمغنى طلل دائر ... بالخلد ذات الصخر والآجر
والمرمر المسنون يطلى به ... والباب باب الذهب الناضر
عوجا بها فاستيقنا عندها ... على يقين قدرة القادر
وأبلغا عني مقالاً إلى ال ... مولى على المأمور والآمر
قولا له: يابن ولي الهدى ... طهر بلاد الله من طاهر
لم يكفه أن حز أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر
حتى أتى يسحب أوصاله ... في شطن يفني مدى السائر
قد برد الموت على جنبه ... وطرفه منكسر الناظر
قال: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه.
وذكر المدائني أن طاهراً كتب إلى المأمون بالفتح: أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بظلام للعبيد. وقد كتبت إلى أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحد ري السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظاً بالمخلوع، وتخوفاً من أن يروغ مراغاً، ويسلك مسلكاً يجد به السبيل إلى إثارة فتنة وإحياء ثائرة، أو يهيج قتالاً بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج واجتماعي وهرثمة بن أعين؛ لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه؛ وحيل بينه وبين الماء؛ فضلاً عن غيره؛ حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - مما أرجو أن يكون قد أتاه.
وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعاً وانتشاراً، وأعلمت ذلك هرثمة بن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه؛ فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته - بعد يأس من انصرافه - عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه وقضيبه قبل خروجه؛ ثم أخلي له طريق الخروج إليه؛ كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمرٍ يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت.
فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة؛ حتى طالعت جميع أمر كل من كنت وكلت بالمدينة والخلد براً وبحراً، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفناً؛ سوى العدة التي كنت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرساناً ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط.

وأقبل هرثمة بن أعين حتى صار بقرب خراسان معداً مستعداً؛ وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله فبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب؛ على ما كان فارقني عليه من ذلك. فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعوا أحداً يجوزهم إلا بأمري. فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر أصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت بالماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصاً إلى الشط، نادماً على ما كان من خروجه، ناقضاً للعهد، داعياً بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهراً بلا ولا عقد ؛ فدعا بشعاره وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم وإيثاراً للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده؛ كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه؛ حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحاً عليه، إلى أن أتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فأتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري. ثم انصرفت. فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه.
فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيتبرأسه لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه؛ وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله؛ وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط؛ والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك.
فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داعٍ إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساعٍ في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر؛ قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته؛ فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه؛ والله ولي ما صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته.
وأنا أسأل الله أن تهنئ أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره؛ وأن يجعل منته لديه متوالية دائماً متواصلة؛ حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء.
وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة.
وذكر عن محمد المخلوع أنه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب - وكان تقدم في بنائه قبل ذلك - وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال: الحمد لله الذي يرفع ويضع. ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط؛ وإليه المصير. أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب؛ حمداً يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمداً عبده الأمين، ورسوله إلى المسلمين، صلى الله عليه وسلم، آمين رب العالمين.

أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى أن نبهتموني فانتبهت، واسعنتموني في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، وناولته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت - علم الله - في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه؛ من ذلك توجيهي إليكم علي بن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم؛ فكان منكم ما يطول ذكره؛ فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بن حميد بن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه. يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفاً؛ إلى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين. ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني؛ وأشياء منعتموني من ذكرها؛ حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر. فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره؛ والسلام.
وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن؛ فكان مما حفظ من ذلك أن قال: الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
في آي من القرآن أتبع بعضها بعضاً، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبتهم في التمسك بحبل الطاعة. وانصرف إلى معسكره.
وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قال: الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين؛ إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله الخلافة إذ جعلها عماداً لدينه، وقواماً لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة؛ بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات. والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب درة نعمتها، ألف لزهرة روضتها، كلف برونق بهجتها. وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغير ناهيه، وعظته مردية؛ واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة.
ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أي إسحاق المعتصم - وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم: أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير؛ ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع؛ وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكتب في أسفل الكتاب هده الأبيات:
ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته ... وجل ورأيك بالتغرير تغرير
أقبح بدنيا ينال المخطئون بها ... حظ المصيبين والمغرور مغرور
وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الأمينوفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أياماً حتى أصلح أمرهم.
ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل به أمره وأمرهم

ذكر عن سعيد بن حميد؛ أنه ذكر أباه حدثه؛ أن أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به؛ ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأةٍ من أهل الأرباض إياهم، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف. وكان قد أحر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحميل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثني عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أبر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.
قال: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، وأحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور. وصوب الناس إخراج طاهر وموسى وعبد الله؛ وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم. فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم؛ فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر؛ فقال في ذلك بعض الأبناء:
آلى الأمير وقوله وفعالهحق بجمع معاشر الزعار
إن هاج هائجهم وشغب شاغب ... منكل ناحيةٍ من الأقطار
ألا يناظر معشراً من جمعهم ... إمهال ذي عدلٍ وذي إنظار
حتى ينيخ عليهم بعظيمةٍ ... تدع الديار بلاقع الآثار
فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب إليه سعيد بن مالك بن قادم ومحمد بن أبي خالد وهبيرة بن خازم؛ في مشيخةٍ من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه. وأتاه عميرة - أبو شيخ بن عميرة الأسدي - وعلى ابن يزيد؛ في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد بن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان. فطابت نفسه إلا أنه قال لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال. فضمن لهم سعيد بن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان. وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي ديناً، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك. فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا.
قال المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة؛ وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم - وكان رامياً لم يكن حجره يخطئ - ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، واحترقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلاً، وخرج إلى ناحية خراسان هارباً، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه؛ فلما جازه قال الرجل للمكاري: ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قال:

إنا لله وإنا إليه راجعون! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه - أو مسلحة انتهى إليها - فأخبرهم خبره، وكانوا من أصحاب كندغوش من أصحاب هرثمة، فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حياً، فذكروا أنه لما أرادوا شده على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رمياً بالحجارة والنشاب وطعناً بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصباً وحطباً، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه؛ وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر.
ذكر الخبر عن صفة محمد بن هارون وكنيته

وقدر ما ولي ومبلغ عمره
قال هشام بن محمد وغيره: ولي محمد بن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة. وأمه زبيدة بنة جعفر الأكبر بن أبي جعفر؛ فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله.
وأما محمد بن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قال: أتت الخلافة محمد بن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بن عيسى بن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته، بعشرة أشهر وخمسة أيام وجه عصمة بن أبي عصمة إلى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاثون خلون من شهر ربيع الأول؛ وكان على شرطه علي بن عيسى بن ماهان.
وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائة علي بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بن العباس بن محمد، وعلى مكة داود بن عيسى، وكان بين أن عقد لابنه إلى التقاء علي بن عيسى بن ماهان وطاهر بن الحسين وقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يوماً. قال: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قال: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام.
ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه. وقام الفضل بن سهل فقرأ الكتاب بالخبر، فهنئ بالظفر، ودعوا الله له. وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن هارون، فأظهر ذلك ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر بن محمد كله - فيما بلغني - ثمانياً وعشرين سنة.
وكان سبطاً أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلاً، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. وكان مولده بالرصافة.
وذكر أن طاهراً قال حين قتله:
قتلت الخليفة في داره ... وأنهبت بالسيف أمواله
وقال أيضاً:
ملكت الناس قسراً واقتدارا ... وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مروٍ ... إلى المأمون تبتدر ابتدارا
ذكر ما قيل في محمد بن هارون ومرثيته فما قيل في هجائه:
لم نبكيك لماذا؟ للطرب! ... يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصاً منك على ماء العني
وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضا ... لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطلك الطاعة بالملك العرب
أيها الباكي عليه لا بكت ... عين من أبكاك إلا للعجب
لم نبكيك لما عرضتنا ... للمجانيق وطوراً للسلب
ولقومٍ صيرونا أعبداً ... لهم ينزو على الرأس الذنب
في عذاب وحصار مجهدٍ ... سدد الطرق ولا وجه طلب

زعموا أنك حي حاشر ... كل من قال بهذا قد كذب
ليت من قد قاله في وحدة ... من جميع ذاب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله ... فإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنةً ... غضب الله عليه وكتب
وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي، بغداد، ويهجو طاهراً ويعرض به:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زماناً قرة العين!
ألم يكن فيك أقوام لهم شرف ... بالصالحات والمعروف يلقوني
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زيناً من الزين
صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا ... ماذا الذي فجعتني لوعة البين!
أستودع الله قوماً ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين
كم كان لي مسعد منهم على زمني ... كم كان منهم على المعروف من عون
لله در زمان كان يجمعنا ... أين الزمان الذي ولى ومن أين!
يا من يخرب بغداداً ليعمرها ... أهلكت نفسك مل بين الفريقين
كانت قلوب جميع الناس واحدةً ... عيناً، وليس لكون العين كالدين
لما أشتهم فرقتهم فرقاً ... والناس طراً جميعاً بين قلبين
وذكر عمرو بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه، أن لبانة ابنة علي بن المهدي قالت:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على هالكٍ فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بن جعفر، وكانت مملكة بمحمد.
وقال الحسين بن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمداً، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:
يا خير أسرته وإن زعموا ... إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبداً ... حرى عليك ومقلةً تكف
لئن شجيت بما رزئت به ... إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً، وكان لغيرك التلف!
فلقد خلفت خلائفاً سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم ... إني لرهطك بعدها شنف
هتكوا بحرمتك التي هتكت ... حرم الرسول ودونها السجف
وثبت أقاربك التي خذلت ... وجميعها بالذل معترف
لم يفعلوا بالشط إذ حضروا ... ما تفعل الغيرانة الأنف
تركوا حريم أبيهم نفلاً ... والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش ... أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجرهن واجتليت ... ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب ... در تكشف دونه الصدف
ملك تخون ملكه قدر ... فوهى وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا ... عز وأن يبقى لنا شرف
لا هيبوا صحفاً مشرفةً ... للغادلين وتحتها الجدف
أفبعد عهد الله تقتله ... والقتل بعد أمانه سرف
فستعرفون غداً بعاقبة ... عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من يخون نومه أرق ... هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملاً غنيت به ... فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا ... عرفاً وأنكر بعدك العرف
فالشمل منتشر لفقدك والد ... نيا سدىً والبال منكسف
وقال أيضاً يرثيه:
إذا ذكر الأمين نعى الأمينا ... وإن رقد الخلي حمى الجفونا
وما برحت منازل بين بصرى ... وكلواذى تهيج لي شجونا
عراص الملك خاوية تهادى ... بها الأرواح تنسجها فنونا
تخون عز ساكنها زمان ... تلعب بالقرون الأولينا

فشتت شملهم بعد اجتماعٍ ... وكنت بحسن ألفتهم ضنينا
فلم أر بعدهم حسناً سواهم ... ولم ترهم عيون الناظرينا
فوا أسفاً وإن شمت الأعادي ... وآه على أمير المؤمنينا
أضل العرف بعدك متبعوه ... ورفه عن مطايا الراغبينا
وكن إلى جنابك كل يومٍ ... يرحن على السعود ويغتدينا
هو الجبل الذي هوت المعالي ... لهدته وريع الصالحونا
ستندب بعدك الدنيا جواراً ... وتندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شيءٍ ... وعاد الدين مطروحاً مهينا
تعقد عز متصل بكسرى ... وملته وذل المسلمونا
وقال أيضاً يرثيه:
أسفاً عليك سلاك أقرب قربةً ... مني وأحزاني عليك تزيد
وقال عبد الحمن بن أبي الهداهد يرثي محمداً:
يا غرب جودي قد بت من وذمه ... فقد فقدنا العزيز من ديمه
ألوت بدنياك كف نائبةٍ ... وصرت مغضىً لنا على نقمه
أصبح للموت عندنا علم ... يضحك سن المنون من علوه
ما استنزلت درة المنون على ... أكرم من حل في ثرى رحمه
خليفة الله في بريته ... تقصر أيدي الملوك عن شيمه
يفتر عن وجهه سنا قمرٍ ... ينشق عن نوره دجى ظلمه
زلزلت الأرض من جوانبها ... إذ أولغ السيف من نجيع دمه
من سكت نفسه لمصرعه ... من عمم الناس أو ذوي رحمه
رأيته مثل ما رآه به ... حتى تذوق الأمر من سقمه
كم قد رأينا عزيز مملكةٍ ... ينقل عن أهله وعن خدمه
يا ملكاً ليس بعده ملك ... لخاتم الأنبياء في أممه
جاد وحيا الذي أقمت به ... سح غزير الوكيف عن ديمه
لو أحجم الموت عن أخي ثقة ... أسوي في العز مستوى قدمه
أو ملكٍ لا ترام سطوته ... إلا مرام الشتيم في أجمه
خلدك العز ما سرى سدف ... أو قام طفل العشي في قدمه
أصبح ملك إذا اتزرت به ... يقرع سن الشقاة من ندمه
أثر ذو العرش في عداك كما ... أثر في عاده وفي إرمه
لا يبعد الله سورة تليت ... لخير داعٍ دعاه في حرمه
ما كنت إلا كحلم ذي حلمٍ ... أولج باب السرور في حلمه
حتى إذا أطلقته رقدته ... عاد إلى ما اعتراه من عدمه
وقال أيضاً يرثيه:
أقول وقد دنوت من الفرار ... سقيت الغيث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهم عينٍ ... فصرت ملوحاً بدخان نار
أبن لي عن جميعك أين حلوا ... وأين مزارهم بعد المزار
وأين محمد وابناه ما لي ... أرى أطلالهم سود الديار!
كأن لم يؤنسوا بأنيس ملكٍ ... يصون على الملوك بخير جار
إمام كان في الحدثان عوناً ... لنا والغيث يمنح بالقطار
لقد ترك الزمان بني أبيه ... وقد غمرتهم سود البحار
أضاعوا شمسهم فجرت بنحسٍ ... فصاروا في الظلام بلا نهار
وأجلوا عنهم قمراً منيراً ... وداستهم خيول بني الشرار
ولو كانوا لهم كفواً مثلاً ... إذا ما توجوا تيجان عار
ألا بان الإمام ووارثاه ... لقد ضرما الحشا منا بنار
وقالوا الخلد بيع فقلت ذلاً ... يصير ببائعيه إلى صغار
كذاك الملك يتبع أوليه ... إذا قطع القرار من القرار
وقال مقدس بن صيفي يرثيه:
خليلي ما أتتك به الخطوب ... فقد أعطتك طاعته النحيب
تدلت من شماريخ المنايا ... منايا ما تقوم لها القلوب
خلال مقابر البستان قبر ... يجاور قبره أسد غريب
لقد عظمت مصيبته على من ... له في كل مكرمةٍ نصيب

على أمثاله العبرات تذرى ... وتهتك في مآتمه الجيوب
وما اذخرت زبيدة عنه دمعاً ... تخص به النسيبة والنسيب
دعوا موسى ابنه لبكاء دهرٍ ... على موسى ابنه دخل الحزيب
رأيت مشاهد الخلفاء منه ... خلاء ما بساحتها مجيب
ليهنك أنني كهل عليه ... أذوب، وفي الحشا كبد تذوب
أصيب به البعيد فخر حزناً ... وعاين يومه فيه المريب
أنادي من بطون الأرض شخصاً ... يحركه النداء فما يجيب
لئن نعت الحروب إليه نفساً ... لقد فجعت بمصرعه الحروب
وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كآبةٍ ... وأرق عيني يابن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت بعد مصابه ... فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المستهام المقهر
وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته ... فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهراً ... فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهب أموالي وأحرق آدري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسدى بأمرٍ أمرته ... صبرت لأمرٍ من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمةٍ متذكر
وقال أيضاً يرثيه:
سبحان ربك رب العزة الصمد ... ماذا أصبنا به في صبحة الأحد
وما أصيب به الإسلام قاطبةً ... من التضعضع في ركنيه والأود
من لم يصب بأمير المؤمنين ولم ... يصبح بمهلكةٍ والهم في صعد
فقد أصبت به حتى تبين في ... عقلي وديني وفي دنياي والجسد
يا ليلةً يشتكي الإسلام مدتها ... والعالمون جميعاً آخر الأبد
غدرت بالملك الميمون طائره ... وبالإمام وبالضرغامة الأسد
سارت إليه المنايا وهي ترهبه ... فواجهته بأوغادٍ ذوي عدد
بشورجين وأغتامٍ يقودهم ... قريش بالبيض في قمصٍ من الزرد
فصادفوه وحيداً لا معين له ... عليهم غائب الأنصار بالمدد
فجرعوه المنايا غير ممتنعٍ ... فرداً فيا لك من مستسلم فرد
يلقى الوجوه بوجهٍ غير مبتذلٍ ... أبهى وأنقى من القوهية الجدد
وا حسرتا وقريش قد أحاط به ... والسيف مرتعد في كف مرتعد
فما تحرك بل ما زال منتصباً ... منكس الرأس لم يبدئ ولم يعد
حتى إذا السيف وافى وسط مفرقة ... أذرته عنه يداه فعل متئد
وقام فاعتقلت كفاه لبته ... كضيغمٍ شرس مستبسل لبد
فاحتزه ثم أهوى فاستقل به ... للأرض من كف ليثٍ محرجٍ حرد
فكاد يقتله لو لم يكاثره ... وقام منفلتاً منه ولم يكد
هذا حديث أمير المؤمنين وما ... نقصت من أمره حرفاً ولم أزد
لا زلت أندبه حتى الممات وإن ... أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وذكر عن الموصلي أنه قال: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس وألسنتهم؛ أمرناه أن يبعث به أسيراً فبعث به عقيراً! وقال المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه؛ فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بن يوسف بشبرٍ من قرطاس فيه: أما بعد؛ فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين؛ يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح:

" إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " ، فلا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله . وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها.
ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بن هارون ذكر عن حميد بن سعيد، قال: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم. وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه؛ وفرض لهم فرضاً سماه الجرادية، وفرضاً من الحبشلن سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:
ألا يا مزمن المثوى بطوس ... عزيباً ما يفادى بنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلاً ... تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدرٍ، فيا لك من جليس!
وما العصمى بشار لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس
لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيماً ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس!
فلو علم المقيم بدار طوسٍ ... لعز على المقيم بدار طوس
قال حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك؛ واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلا ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناوري والهوب؛ وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيماً، فقال أبو النواس يمدحه:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سن براً ... سار في الماء راكباً ليث غاب
أسداً باسطاً ذراعيه يهوى ... أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو ... ط ولا غمز رجليه في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صو ... رة ليثٍ تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك صرت عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناح ... ين تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما اس ... تعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقا ... ه وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه ... هاشمي موفق للصواب
وذكر عن الحسين بن الضحاك، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ :
قد ركب الدلفين بدر الدجى ... مقتحماً في الماء قد لحجا
فأشرقت دجلة في حسنه ... وأشرق الشطان واستبهجا
لم ترى عيني مثله مركباً ... أحسن إن سار وإن أحنجا
إذا استحثثته مجاديفه ... أعتق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الذي ... أضحى بتاج الملك قد توجا
وذكر عن احمد بن إسحاق بن برصومة المغني الكوفي أنه قال: كان العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلداً

وعقلأ وصنيعاً؛ وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له المنصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوةً عجيبة. قال: فركب الخادم يوماً في جماعة خدم كانو لمجمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس هيئته وحاله التي هو عليها. وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا ًفي قميص حاسرأ، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحداً منهم إلا أوهنه، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره. وبلغ الخبر محمداً، فبعث إلى داره جماعة، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسة والسهام، فقام أحمد بن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا؛ وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس. قال: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل غليه، فقال: ماتصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنه، ألست في الطاعة! قال: بلى، قال: فقم فاركب. قال: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قال: يا غلام، هلم دابتي فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلاً. قال: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر؛ فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش. قال: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلاً ورشيد راكب. قال: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعل تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك. قال: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قال: فبينما محمد كذلك - ولم يأت العباس بعد - إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بن عيسى بن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان. قال: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بن علي بن عيسى بن ماهان، ودعا إلى المأمون وحبس محمد. قال: فمر إسحاق بن عيسى بن علي ومحمد بن محمد المعبدى بالعباس بن عبد الله وهو في منظره، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل - يعنيان حسين بن علي - قال: فخرج فأتى حسيناً، ثم وقف عند باب الجسر؛ فما ترك لأم جعفر شيئاً من الشتم إلا قاله، وإسحاق بن موسى يأخذ البيعة للمأمون. قال: ثم لم يكن إلا يسيراً حتى قتل الحسين، وهرب العباس إلى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة ألف درهم وثلثمائة أف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار. فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما ... وحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان وتسعين ومائة.
قال أحمد بن إسحاق: وكان العباس بن عيد الله يحدث بعد ذلك؛ فيقول: قال لي سليمان بن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟ فقالت: يل عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله؛ فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.
وذكر عن أحمد بن إسحاق بن برصوما، قال: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بن حبيب بن بديل التميمي؛ وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قال: فأرسلوا إليه، قال: فقدم علينا، فلما صار إليه قال له: إني قد خيرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب؛ ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب؛ فنصب رجلاً كان ينزل دجيلاً يقال له بكير بن المعتمر؛ فكان إذا نزل بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قال له: هات؛ فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. قال أحد بن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بن المعتمر شيخ عظيم الخلق.
وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان الكاتب، قال: حدثنا إبراهيم بن الجراح، قال:

حدثني كوثر، قال: أمر محمد بن زبيدة يوماً أن يفرش له على دكان الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشراً عشراً، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد؛ فأصعدت إليه عشراً فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
قال: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشراً، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن قبل تبلج الأسحار
قال: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلاً، ثم قال: أصعدي عشراً فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
قال: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيراً مما كان.
وذكر عن محمد بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثني محمد بن دينار، قال: كان محمد المخلوع قاعداً يوماً، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره؛ فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتي به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأساً ليشربه؛ فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأساً أخرى، ودعا أخرى فغنت:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأساً أخرى ليشربها، وقال لأخرى: غني، فغنت: قومي هم قتلوا أميم أخي فرمى وجهها بالكأس،، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.
وذكر عن أبي سعيد أنه قال: ماتت فطيم - وهي أم موسى بن محمد بن هارون المخلوع - فجزع عليها جزعاً شديداً، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قال: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئةٍ ... ما بعد موسى على مفقوده أسف
وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بن إسماعيل بن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قال: حدثني أبي قال: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:
أما قريش فلا افتخار لها ... إلا التجارات من مكاسبها
وإنها إن ذكرت مكرمةً ... جاءت قريش تسعى بغالبها
إن قريشاً إذا هي انتسبت ... كان لها الشطر من مناسبها
قال:يريد أن أكرمها يغالب. قال: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه؛ فلم يزل محبوساً حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشمٍ ... فيا من رأى دراً على الدر ينثر!
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل منصوريك: منصور هاشمٍ ... ومنصور قحطانٍ إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ... وعبد منافٍ والداك وحمير
قال: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس. قال: فبعث إليه إسحاق بن فراشة وسعيد بن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال: ليس عليه بأس، فقال أبياتاً وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:
أرقت وطار من عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يواسوا

أمين الله قد ملكت ملكاً ... عليك من التقى فيه لباس
ووجهك يستهل ندى فيحيا ... به في كل ناحيةٍ أناس
كأن الخلق في تمثال روحٍ ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن السجن باس ... وقد أرسلت: ليس عليك باس
فلما أنشده قال: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده؛ وأخرج حتى دخل عليه، فأنشأ يقول:
مرحباً مرحباً بخير إمامٍ ... صيغ من جوهر الخرفة نحتا
يا أمين الإله يكلؤك الل ... ه مقيماً وظاعناً حيث سرتا
إنما الأرض كلها لك دار ... فلك الله صاحب حيث كنتا
قال: فخلع عليه، وخلي سبيله، وجعله في ندمائه.
وذكر عن عبد الله بن عمرو التميمي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الفارسي، قال: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه أبو الفضل بن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:
تذكر أمين الله والعهد يذكر
الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:
تحسنت الدنيا بحسن خليفةٍ ... هو البدر إلا أنه الدهر مقمر
إمام يسوس الناس سبعين حجة ... عليه له منها لباس ومئزر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
أيا خير مأمولٍ يرجى، أنا امرؤ ... رهين أسير في سجونك مقفر
مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ... وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكثر
قال: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قال: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه. قال: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله: لا أذوق المدام إلا شميما وذكر عن مسعود بن عيسى العبدي، قال: أخبرني يحيى بن المسافر القرقسائي، قال: أخبرني دحيم غلام أبي نواس؛ أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به - وكان للفضل بن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم - ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قال: معاذ الله، قال: فلعلك ممن يعبد الكبش! قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن بعبد الشمس؟ قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضاً لها، قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها بريء، قال: ليس إلا هذا؟ قال: والله لقد صدقتك. قال: فجاء إلى الفضل، فقال له: يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قال: نعم، قيل له: فبعهد الله! قال: نعم، قال: فاخرج ، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله إلى شربها، وأنشأ يقول:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شمما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى في خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
إن حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما
كل عن حملة السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطبق ألا يقيما
وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قال: كنت عند الفضل بن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا سقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
قال: فبلغت القصة محمداً، فأمر الفضل بن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه.
وذكر كامل بن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قال: كان أبو نواس قال أبياتاً بلغت الأمين في آخرها:

وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر
ولو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر
ولا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب في القصر
قال: فبعث إليه الأمين - وعنده سليمان بن أبي جعفر - فلما دخل عليه، قال: يا عاض بظر أمه العاهرة! يابن اللخناء - وشتمه أقبح الشتم - أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول: ولا صاحب التاج المحجب في القصر أما والله لا نلت مني شيئاً أبداً. فقال له سليمان بن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟ فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:
يا رب إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف تعطل حبسوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافه ... مني إليه بكيدهم نسبوني
ما كان إلا الجري في ميدانهم ... في كل جري والمخافة ديني
لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ... منهم ولا يرضون حلف يميني
ولكان كوثر كان أولى محبساً ... في دار منقصة ومنزل هون
أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عني، فمن لي اليوم بالمأمون!
قال: وبلغت المأمون أبياته فقال: والله لئن لحقته لأغنيه غنى لا يؤمله، قال: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.
قال: ولما طال حبس أبي نواس، قال في حبسه - فيما ذكر - عن دعامة:
احمدوا الله جميعاً ... يا جميع المسلمينا
ثم قولوا لا تملوا ... ربنا أبق الأمينا
صير الخصيان حتى ... صير التعنين دينا
فاقتدى الناس جميعاً ... بأمير المؤمنينا
قال: وبلغت هذه الأبيات أيضاً المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.
وذكر يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمداً أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعى حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعراً ظريفاً أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قال: لم أرد أحداً سواك. فأتاه به، فقال: من أنت؟ قال: خادمك الحسن بن هانئ، وطليقك بالأمس، قال: لا ترع؛ إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عوداً على أنفك، وتمنعي أشهى لك. قال: فقال أبو نواس. حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:
فقدت طول اعتلالك ... وما أرى في مطالك
لقد أردت جفائي ... وقد أردت وصالك
ما ذا أردت بهذا! ... تمنعي أشهى لك
وأخذ بيد وصيفته فعزلها، ثم قال:
قد صحت الأيمان من حلفك ... وصحت حتى مت من خلفك
بالله يا سني احنثي مرة ... ثم اكسري عوداً على أنفك
ثم عزل الثانية، ثم قال:
فديتك ماذا الصلف ... وشتمك أهل الشرف!
صلي عاشقاً مدنفاً ... قد أعتب مما اقترف
ولا تذكري ما مضى ... عفا الله عما سلف
ثم عزل الثالثة، وقال:
وباعثاتٍ إلى من في الغلس ... أن ائتنا واحترس من العسس
حتى إذا نوم العداة ولم ... أخش رقيباً ولا سنا قبس
ركبت مهري وقد طربت إلى ... حورٍ حسان نواعم لعس
فجئت والصبح قد نهضت له ... فبئس والله ما جرى فرسي
فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قال:

لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل على الشط، بفرش أجود مما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي؛ لم يكن لأبيك فرش يباهي بك الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا؛ فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المرداج، وقال: مزقوه، قال: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقاً وفرقوه.
وذكر عن محمد بن الحسن. قال: حدثني أحمد بن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدي غنى محمد بن زبيدة:
هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهباً.
وذكر عن علي بن محمد بن إسماعيل، عن مخارق، قال: إني لعند محمد بن زبيدة يوماً ماطراً، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي؛ لا والله ما رأيت أحسن منها. فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي؛ عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك. قال: يا غلام، فأجابه الخادم، قال: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها. قال: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخون لن مصلية، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، وفي وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قال: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، اعفني من الأكل، قال: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئاً، فلما وضعتها في فمي قال: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها؛ ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها إلى منزلي، ودعوت القصارين والوشائين، وجهدت جهدي أن تكون كما كانت فما عادت.
وذكر عن البحتري أبي عبادة عن عبيد الله بن أبي غسان، قال: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد؛ وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش؛ قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ؛ والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة البول، فقلت لخادم من خدمي الخاصة: ويلك! قد والله مت فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قال: لا شيء يا سيدي، فغضب. قال البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بن أبي غسان؛ لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعاً شديدأً. فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قال: قلت: إي والله يا سيدي ابتليت به، قال: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قال: فقلت: أنا كذا. قال: فتعجب ثم قال: علي ببطيخ؛ فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت. قال: خذوه وضعوا البطيخ بين يديه، قال: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قال: كل واحدة، قال: فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قال: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت؛ علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت وأنا أموت إن أكلت! قال: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي وأنا أصرخ وأضطرب؛ وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصبح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت؛ حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات؛ وأطعمني ثلاث بطيخات، قال: وحسنت والله حالي واشتد ظهري.
قال: وكان منصور بن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت أن محمداً سيعقبني بشر ندامة على ما خرج من يديه؛ فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال:

يابن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك؛ وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن أحببت أن تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود. قال: فإني أتفضل عليك. قال: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن أصنع شيئاً؛ أرمي عبيد الله إلى البركة وتضحك منه. قال: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا؛ ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قال: ما هو؟ قال: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه. فقال: طيب والله؛ ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت فألقيت على باب المتوضأ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك. ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه.
وذكر عب عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن أبيه - وكان حاجب المخلوع - قال: كنت قائماً على رأسه، فأتى بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلاً عجيباً، وكان يوماً يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه. قال: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر - خادم كان لأمه - فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالاً لا يقطعونه، ويكون حشوه شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه؛ فما مكث إلا يسيراً حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئاً.
وذكر عن علي بن محمد أن جابر بن مصعب حدثه، قال: حدثني مخارق، قال: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليلٍ إذ أتاني رسول محمد - وهو خليفة - فركض بي ركضاً، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعاً، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعاً من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدماً، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قال لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبراً ومقصراً عن السورناي، واتبعاه في لحنه قال: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد: هذي دنانير تنساني وأذكرها تتبع الزمار. قال: فوالله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحياناً نراه، وأحياناً يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.
وذكر الحسين بن فراس مولى بني هاشم، قال: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالاً عظيماً.
وذكر عن ابن الأعرابي، قال: كنت حاضر الفضل بن الربيع، وأتي بالحسن بن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين أنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:
أهلي أتيتكم من القبر ... والناس محتبسون للحشر
لولا أبو العباس ما نظرت ... عيني إلى ولدٍ ولا وفر
فالله ألبسني به نعماً ... شغلت حسابتها يدي شكري
لقيتها من مفهمٍ فهمٍ ... فمددتها بأناملٍ عشر
وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشى حدثه، قال: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟ قال: أردت أبا العباس الفضل بن الربيع، قال: فتبلغه رقعة أعطيكها؟ قال: نعم، قال: فأعطاه رقعة فيها:
ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... إلا أبو العباس مولاها

نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدرٍ ... وجبت له نقم فألغاها
قال: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس.
وذكر عن محمد بن خلاد الشروي، قال: حدثني أبي قال: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله: ألا سقني خمراً وقل لي هي الخمر وقوله:
اسقنيها يا ذفافه ... مزة الطعم سلافه
ذل عندي من قلاها ... لرجاء أو مخافه
مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافه
ثم أنشد له:
فجاء بها زيتيةً ذهبيةً ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا
قال: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق. فكتب في ذلك إلى الفضل بن الربيع:
أنت يا بن الربيع علمتني الخي ... ر وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر جه ... لي وأظهرت رهبةً وزهاده
لو تراني شبهت بي الحسن البص ... ري في حال نسكه وقتاده
بركوعٍ أزينه بسجودٍ واصفرارٍ مثل اصفرار الجراده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمل بعينك السجاده
لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدها للشهاده
خلافة المأمون عبد الله بن هارونوفي هذه السنة وضعت الحرب - بين محمد وعبد الله بني هارون الرشيد - أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.
وفيها خرج الحسن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد - بزعمه - في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب؛ حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.
وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل؛ وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأموال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بن شبت، وولاه الموصل والجزيرة والشأم والمغرب.
وفيها قدم علي بن أبي سعيد العراق خليفةً للحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر علياً بتسليم الخراج إليه؛ حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.
وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة
فمن ذلك قدوم الحسن بن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.
وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بن محمد بن أبي خالد. وفيها شخص أيضاً هرثمة إلى خراسان.
وفيها خرج أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم.
وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا، واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان.
ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بن إبراهيم بن طباطبااختلف في ذلك، فقال بعضهم:

كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل؛ فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصراً حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه. فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار؛ فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.
وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بن إبراهيم بالكوفة، وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب وغيرهم.
ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب وفيها وجه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في أصحابه إلى الكوفة - وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بن أبي جعفر المنصور من قبل الحسن بن سهل، وكان خليفة سليمان بن أبي جعفر بها خالد بن محجل الضبي - فلما بلغ الخبر الحسن بن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل؛ فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه؛ فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء.
فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب - وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة - مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأةً؛ فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه؛ وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه؛ فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاماً أمرد حدثاً يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب؛ فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب؛ وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به. وكان الحسن بن سهل قد وجه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل؛ حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد، واستباح عسكره. وكان عبدوس - فيما ذكر - في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " ، ولما بلغ زهيراً قتل أبي السرايا عبدوساً وهو بالقصر، انحاز بمن كان معه إلى نهر الملك.

ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشاً إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بن سعيد الحرشي والياً عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريباً من واسط فهزموه، فانصرف راجعاً إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة. فلما رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكراً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها؛ ولم يجد معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة - وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق والياً عليها من قبل المأمون. سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضباً للحسن، فسار حتى بلغ حلوان - فبعث إليه السندي وصالحاً صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى. وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه؛ فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى بغداد، فقدمها في شعبان؛ فتهيأ للخروج إلى الكوفة. وأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك، وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان. وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما؛ وكان علي بن أبي سعيد معسكراً بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالاً شديداً. فلما كان الغد غدا أصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن. وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن؛ فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة؛ فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملاً قبيحاً، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها. وكان هرثمة - فيما ذكر - يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم؛ فلم يدع أحداً يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس.
وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والذي وجه إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها. وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم؛ والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم مكانك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قال له داود:

أي ملك لي! والله أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت؛ إنما هذا الملك لك وأشباهك؛ فقاتل إن شئت أو دع. فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتاباً من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، فقال له: اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو؛ حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر. ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم؛ فخرج في إثر داود راجعاً إلى العراق، وبقي الناس بعرفة؛ فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بن محمد بن الوليد الردمي - وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام إذ لم تحضر الولاة - لقاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين؛ فإنك قاضي البلد. قال: فلمن أخطب وقد هرب الإمام؛ وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قال: لا تدع لأحد، قال له محمد: بل أنت تقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى؛ حتى قدموا رجلاً من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعاً بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضاً من عرض الناس وحسين بن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق. فدخل حسين بن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه.
وأقام بمنى أيام الحج، فلم يزل مقيماً حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بن سليمان بن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضاً، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام.
وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج - وقد نزل قرية شاهي - واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء الكوفة، وقد كان علي بن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم دخلت سنة مائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن هرب أبي السرايا وما آل إليه أمره فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها.
ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى أتى القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفي صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلاً منهم يقال له غسان بن أبي الفرج أبو إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بن محمد وأبو السرايا.

ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي؛ فوجد بها مالاً كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة أيام، وجعل يعطي الفارس ألفاً والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني. فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديدة، فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين؛ فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم الحسن بن سهل، وكان مقيماً بالنهروان حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول. وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بن محمد بن أبي خالد، وكان أسيراً في أيدي أبي السرايا. وذكروا أنه لم يروا أحداً عند القتل أشد جزعاً من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح؛ حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح؛ حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر.
وكان علي بن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها. والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بنعلي بن حسين بن علي بن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد نار - وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم؛ وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار - وانتهبوا بالبصرة أموالاً، فأخذه علي بن أبي سعيد أسيراً. وقيل إنه طلب الأمان فآمنه. وبعث علي بن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بن يزيد الجلودي وورقاء بن جميل وحمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان وهارون بن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين. وقال التيمي في قتل الحسن بن سهل أبا السرايا:
ألم تر ضربة الحسن بن سهلٍ ... بسيفك يا أمير المؤمنينا
أدارت مرو رأس أبي السرايا ... وأبقت عبرةً للعابرينا
وبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد حين قتل أبو السرايا إلى المأمون بخراسان.
ذكر الخبر عن خروج إبراهيم بن موسى باليمن وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب باليمن.
ذكر الخبر عنه وعن أمرهوكان إبراهيم بن موسى - فيما ذكر - وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر. وبلغ إبراهيم بن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فلما سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفاً عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة؛ حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بن موسى بن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بن موسى معسكراً بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفياً يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره. وكان يقال إبراهيم بن موسى: الجزار؛ لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال.
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة

وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس الحسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوته شيئاً، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام،وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم أمر حسين بن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم عليه في داره؛ فإن وجد من ذلك شيئاً أخذه وعاقب الرجل؛ وإن لم يجد عنده شيئاً حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقاً كثيراً.
وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلاً من أهل الكوفة يقال له محمد بن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين؛ فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس؛ حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المساجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس. فلما رأى حسين بن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، واجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - وكان شيخاً وداعاً محبباً في الناس، مفارقاً لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتاً وزهداً - فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة؛ فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر و حسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعاً وكرهاً، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهراً، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلاً، فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش من بني فهر - وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها جمال بارع - فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وأمر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلاً جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة. ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاضٍ بمكة يقال له إسحاق بن محمد، وكان جميلاً بارعاً في الجمال - فاقتحم عليه بنفسه نهاراً جهاراً في داره على الصفا مشرفاً على المسعى؛ حتى حمله على فرسه في السرج. وركب علي بن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون - وكان ينزل في دار داود بن عيسى في طريق منى - فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة؛ حتى أتوا محمد بن جعفر بن محمد ، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة. فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه. فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم إني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه. فلما رأى ذلك محمد قال لأهل مكة:

آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه. فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله. قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي مقبلاً من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بن جعفر بن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بن موسى مقبلاً إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقاً بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك. وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أياماً. ثم إن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجلودي، فقالوا: ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال. فرجع معهم حتى أتوا مكة فنزلوا المشاش. واجتمع إلى محمد بن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بن موسى وورقاء بن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات. ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم، بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه؛ فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالاً من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان؛ حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام،فلما كان اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية؛ فأما محمد بن جعفر فأخذ ناحية جدة، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بن حكيم بن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذاباً شديداً؛ وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعه ذلك قميصاً وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيماً هناك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك بجمع الجموع. وقد وقع بينه وبين هارون بن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما رأى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بن جعفر، وفقئت عينه بنشابه، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده. فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بن يزيد الجلودي ورجاء بن أبي الضحاك ابن عم الفضل بن سهل بالمنبر؛ فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء؛ وليس عليه سيف ليخلع نفسه. ثم قام محمد فقال:

أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علب بن أبي طالب؛ فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعاً غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين. ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا. وكان نمي إلي خبر؛ أن وعبد الله المأمون أمير المؤمنين قد توفي؛ فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني - أو من فعل منكم - ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي. ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها؛ كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابكم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون وعبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين؛ والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون.
ثم نزل. فخرج به عيسى بن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بن جعفر حتى سلمه إلى الحسن بن سهل، فبعث به الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بن أبي الضحاك.
وفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة.
ذكر الخبر عن أمر إبراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره ذكر أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلاً من ولد عقيل بن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود ما لا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي - وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، وأخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد. فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى أصبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئاً كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال: اعزبوا يا كلاب النار؛ فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال. وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعاً وعرياً.
وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع علي يده في يد الحسن أو شخص إلي بمرو وإلا فاضرب عنقه. فشخص إلى المأمون مع هرثمة بن أعين. وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو.
ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره ذلك ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول؛ فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بن سهل بالمدائن؛ فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى أتى إلى خراسان؛ وقد أتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشأم والحجاز، فأبى وقال:

لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين،؛ إدلالاً منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل بما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب؛ أن يرجع فيلي الشأم والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصياً مشاقاً، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه.
وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان حتى كان ذو القعدة؛ فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول. فأمر بإدخاله، فلما أدخل - وقد أشرب قلبه ما أشرب - قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل؛ وكان رجلاً من أصحابك؛ ولو أردت أن تأخذهم جميعاً لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم. فذهب هرثمة ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه. وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أياماً ثم دسوا إليه فقتلوه وقالوا له: إنه مات ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كانذكر أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، فلم يزل مقيماً بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام - وهو والي بغداد، من قبله: أن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم. وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا برضى حتى نطرد الحسن بن سهل عن بغداد؛ وكان من عماله بها محمد بن أبي خالد وأسد بن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد؛ فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزراً؛ فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل.
وجاء زهير بن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بن سهل بن علي بن هشام، فجاء من الجانب الآخر؛ حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوادهم ليلاً؛ حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بن هشام دار العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمانٍ خلون من شعبان؛ وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيراً وعلي بن هشام، شدوا على باب الكرخ فأحرقوه، وأنهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء.
ثم إنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهماً لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم؛ حتى خرج زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار؛ كان أفلت من الحبس عند علي بن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولو يف لهم بإعطاء الخمسين؛ إلى أن جاء الأضحى؛ وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه.

وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بن أبي خالد؛ وذلك أن علي بن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بن أبي خالد وبين زهير بن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط. فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم علي بن هشام حتى أخرجوه من بغداد؛ ثم اتبعهم حتى هزمهم من نهر صرصر.
وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بن موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن جعفر.
وأحصي في هذه السنة ولد العباس؛ فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكرٍ وأنثى.
وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجس ثانية.
وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل؛ وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال له: يا أمير الكافرين؛ فقتل بين يديه.
وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.
ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ولاية منصور بن المهدي ببغداد فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد المنصور بن المهدي على الخلافة وامتناعه عليهم؛ فلما امتنع من ذلك راودوه على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة؛ فأجابهم إلى ذلك.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيهقد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد. ويذكر عن الحسن بن سهل أن الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط؛ وذلك في أول السنة إحدى ومائتين.
وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد، كان أن الحسن بن سهل وجه محمد بن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده وولى علي بن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بن المسيب يلي الجانب الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان حداً بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب إلى بربخا ثم إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل أهل الجانبين، ففرق محمد بن خالد على الحربية مالاً، فهزم علي بن هشام، فانهزم الحسن بن سهل بانهزام علي بن هشام، فلحق بواسط، فتبعه محمد بن أبي خالد بن الهندوان مخالفاً له؛ وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي ونصر بن حمزة بن مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع.
وقد قيل أن عيسى بن محمد بن أبي خالد قدم في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعاً فيه عسكر من عساكر الحسن فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن.
ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثاً، وزهير بن المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخي مقيم في عمله؛ فكان يكاتب قواد أهل بغداد. فبعث ابنه الأزهر، مضى حتى انتهى إلى نهر النهروان، فلقي محمد بن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيراً، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له. ثم تقدم محمد بن أبي خالد، فلما صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر؛ فكان الحسن مقيماً بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد محمد بن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بن الساجور الكوفي، فهزمه هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولي عليها. وقدم عيسى بن يزيد الجلودي من مكة؛ ومعه محمد بن جعفر، فخرجوا جميعاً حتى أتوا واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعاً في قرية أبي قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بن سهل ، فتقدم الحسن بن سهل، فنزل خلف واسط وفي أطرافها.

وكان الفضل بن الربيع مختفياً من حين قتل المخلوع، فلما رأى أن محمد بن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر. ثم تعبأ محمد بن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا قتالاً شديداً عند أبيات واسط. فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض؛ وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراح شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن؛ وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين.
فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك؛ فأقاموا به؛ فلما أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا.
فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجايا، فلما اشتدت به الجراحات خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين، ومات محمد بن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في داره سراً.
وكان زهير بن المسيب محبوساً عند جعفر بن محمد بن أبي خالد، فلما قدم أبو زنبيل أتى خزيمة بن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك، وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد بن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب. وفرضوا بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه. ويقال إنه ذبحه ذبحاً وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره فنصبه على رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلاً، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه إلى باب الشأم بالعشي؛ فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة.
وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن خالد، فخرج من واسط حتى انتهى إلى المبارك، فأقام بها. فلما كان جمادى الآخرة وجه حميد بن عبد الحميد الطوسي ومعه عركو الأعرابي وسعيد بن الساجور وأبو البط ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن؛ وذلك يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة.
ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من القرى؛ وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بن أبي خالد تكلموا في ذلك؛ وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك؛ إذا بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه، وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به حتى صيروه أميراً خليفةً للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان.
وقد قيل: إن عيسى بن محمد بن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد، وساعدوه على حرب الحسن بن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث إليه وهب بن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون بذلك بخطة، فرد الحسن بن سهل وهباً بإجابته، فغرق وهب بين المبارك وجبل؛ فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلاً من بني هاشم،فولوا منصور بن المهدي، وعسكر منصور بن المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال:

أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم أو يتولى من أحب، فرضى بذلك بنو هاشم والقواد الجند؛ وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها يومه، ثم انصرف إلى النيل.
فلما بلغ منصوراً خبره خرج حتى عسكر بكلواذي، وتقدم يحيى بن علي بن عيسى بن ماهان إلى المدائن.
ثم إن منصوراً وجه إسحاق بن العباس بن محمد الهاشمي من الجانب الآخر، فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بن عباد بن أبي الفرج أبا إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به. فلما بلغ حميداً الخبر لم يعلم إلا وحميد قد أحاط بالقصر، فأخذ غسان أسيراً، وسلب أصحابه، وقتل منهم؛ وذلك يوم الاثنين لأربع خلون من رجب.
ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم؛ إلا أن محمد بن يقطين بن موسى كان مع الحسن بن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه منصور إلى ناحية حميد؛ وكان حميداً مقيماً بالنيل إلا أن له خيلاً بالقصر.
وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثي. وبلغ حميداً الخبر، فلم يعلم ابن اليقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثي، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب حميد وأصحابه وما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير وما قدورا عليه من حلي ومتاع وغير ذلك؛ ثم أنصرف حتى النيل، وراجع ابن يقطين، فأقام بنهر صرصر.
وفي محمد بن أبي خالد قال أبو الشداخ:
هوى خيل الأبناء بعد محمد ... وأصبح منها كاهل العز أخضعا
فلا تشتموا يا آل سهل موته ... فإن لكم يوماً من الدهر مصرعاً
وأحصى عيسى بن محمد بن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف وخمس وعشرين ألفا بين فارس وراجل؛ فأعطى الفارس أربعين درهماً، ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، رئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان.
ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله فعلت المطوعة ما ذكرت: كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذىً شديداً، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق؛ فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع؛ وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم؛ وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها، ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك؛ لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم؛ لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يحبسون المارة في الطريق وفي السفن وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم؛ ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، فانتهبوها علانيةً، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه أعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئاً مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان.
فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم؛ وما بيع من متاع الناس في أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم؛ فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحداً، لقمعتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.

فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان؛ إلا أنه كان يرى أن يغير السلطان شيئاً، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان؛ يكنى أبا حاتم؛ فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلق مصحفاً في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعاً إلى ذلك؛ الشريف منهم والوضيع؛ بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديواناً يثبت فيه اسم من أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائناً من كان؛ فأتاه خلق كثير، فبايعوا.
ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام - والخفارة أنه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهماً، فيعطيه ذلك شائياً وآبيا، فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان شيئاً ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه. وقال سهل بن سلامة: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان؛ سلطاناً أو غيره؛ والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني قاتلته. فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين في مسجد طاهر بن الحسين؛ الذي كان بناه في الحربية. وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو ثلاثة، وكان المنصور بن المهدي مقيماً بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل بن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصوراً وعيسى - وإنما كان عظم أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه - كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد.
وقد كان عيسى يكاتب الحسن بن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بن سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطى الحسن أصحابه وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن، وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه من الصلح، فرضوا بذلك.
ثم رجع عيسى إلى المدائن، وجاء يحيى بن عبد الله، ابن عم الحسن بن سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد. فلما دخل عيسى فيما دخل فيه - وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له - وثب المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل؛ فامتنع عليه سهل بن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني.
وتحول منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع - وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنة - فنزلوا بالحربية فراراً من الطلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى المطلب أن يجيشه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالاً شديداً؛ حتى اصطلح عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهلٍ من اغتاله فضربه ضربة بالسيف؛ إلا أنها لم تعمل فيه؛ فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس، فكفوا عن القتال.
وقد كلن حميد بن عبد الحميد مقيماً بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر دخل الكوفة، فأقام بها أياماً. ثم إنه خرج منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلاً وعمل عليه سوراً وخندقاً؛ وذلك آخر ذي القعدة، وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى سهل بن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأنه عونه على ذلك، فقام سهل بما قام به أولاً من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنة.
ذكر خبر البيعة لعلي بن موسى بولاية العهد

وفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك

وما آل الأمر فيه إليه
ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمد ولي عهده من بعده؛ وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحداً هو أفضل ولا أروع ولا أعلم منه؛ وأنه سماه الرضي من آل محمد، وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة؛ وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ جميعاً بذلك.
فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس؛ وإنما هذا دسيس من الفضل بن سهل، فمكثوا بذلك أياماً. وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا فيه، وقالوا: نولي بعضنا ونخلع المأمون؛ وكان المتكلم في هذا والمختلف والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدي.
ذكر الدعوة لمبايعة إبراهيم بن المهدي وخلع المأمون وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون.
ذكر السبب في ذلكقد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه، واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بن سهل منهم؛ حتى خرج عن بغداد. ولما كان من بيعة المأمون لعلى بن موسى بن جعفر - وأمره الناس بلبس الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بن محمد بن أبي خالد يأمره بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة - أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة، ومن بعده ابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي؛ وأنهم قد خلعوا المأمون، وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة المستقبلة. فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى؛ فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلاً يقول حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة؛ وكانوا قد دسوا قوماً، فقالوا لهم: إذا قام يقول ندعو للمأمون، فقوموا أنتم فقولوا: لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون أصلاً، ليس نريد أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم. فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة، ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين.
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبه وهو والي طبرستان اللارز والشيرز؛ من بلاد الديلم، وزادهما في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر:
إنا لنأمل فتح الروم والصين ... بمن أدال لنا من ملك شروين
فاشدد يديك بعبد الله إن له ... مع الأمانة رأي غير موهون
وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد في هذه السنة.
وفيها مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا.
وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العبث والفساد.
وفيها أصاب أهل خراسان والري وإصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت.
وحج بالناس فيها إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر بيعة إبراهيم بن المهدي

فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وتسميتهم إياه المبارك. وقبل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم بالخلافة، وخلعوا المأمون؛ فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر؛ فكان أول من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد الهاشمي، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد. وكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك؛ وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي؛ إلا أن هؤلاء كانوا الرؤساء والقادة غضباً منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه السواد ولبسه الخضرة.
ولما فرغ من البيعة وعد الجند أن يعطيهم أرزاق ستة الأشهر، فدافعهم بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة مالهم حنطة وشعيراً. فخرجوا في قبضها فلم يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعاً؛ نصيب أهل البلاد ونصيب السلطان. وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر بالمدائن. وولي الجانب الشرقي من بغداد العباس بن موسى الهادي والجانب الغربي إسحاق ابن موسى الهادي. وقال إبراهيم بن المهدي:
ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ... شريت بنفسي دونكم في المهالك
خبر تحكيم مهدي بن علوان الحروري وفي هذه السنة حكم مهدي بن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور، وغلب على طساسيج هنالك. وعلى نهر بوق والراذانين. وقد قيل: إن خروج مهدي كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بن المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بن الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك؛ فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي أعرفني، فسماه يومئذ أشناس؛ وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.
وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدي بن علوان الدهقاني الحروري المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلاً من قعد الحرورية يقال له أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوا بغداد.
وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة، فلقيه غسان بن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه إلى إبراهيم بن المهدي.
ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة ذكر أن الحسن بن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بولاية العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى نزل سمر، وكتب إلى حبيب بن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد ويحاصر أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد. وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وغسان بن أبي الفرج ومحمد بن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بن المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة. وكان قد تباعد ما بينه وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميداً يكاتب إبراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن يثب الآخرون بعسكره؛ فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد. فلما ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر، فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد؛ وكان إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن، فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم.

فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من القصر تهيئوا للهرب؛ وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط والفضل بن محمد بن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد؛ فانتهبوا ما فيه، وأخذوا الحميد - فيما ذكر - مائة بدرة أموالاً ومتاعاً، وهرب بن لحميد ومعاذ بن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل؛ فأما ابن حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالاً ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الآخر. وبلغ الحسن بن سهل وحميد عنده، فقال له حميد: ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالاً له كانت هنالك ومتاعاً. وولى على الكوفة العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بن موسى؛ وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك. فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه، وقد كان الحسن وجه حكيماً الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل؛ فلما كان ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل؛ وخرج غداة السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل.
فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وما يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم آخرون: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك. فقال: أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي؛ فقعد عنه الغالية من الرافضة وأكثر الشيعة. وكان يظهر أن حميداً يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه إليه قوماً من قبله مدداً، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط من النيل إلى الكوفة؛ فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقاً يخرج بهم إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي.
فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى. فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بن محمد بن جعفر العلوي، ابن المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة، وجههم مع علي بن محمد، فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد وأصحابه حتى نزلوا الحيرة؛ فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما يلي دار عيسى بن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: " يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون " ، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة الخضرة.
فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا ظهروا على شيء أحرقوه. فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة، أتوا سعيداً وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بن موسى بن جعفر وأصحابه؛ على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرق والنهب والقتل؛ فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك. فقبل منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بن موسى العباسي، فهزموهم حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بن موسى، فأحرقوا الدور، وقتلوا من ظهروا به. فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك، وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان. فركب سعيد وأبو البط وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمةً، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه؛ حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء. فانصرفوا عنهم.

فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود؛ ولم يعرضوا لأحد من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، من أهلها. فكتب إليهم إبراهيم بن المهدي يأمرهم بالخروج إلى ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى أهل بلده؛ فولاها غسان بن الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول؛ فلم يزل والياً عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم أن يسيرا جميعاً، فخرجا مما يلي جوخى، وبذلك أمرهما، وذلك في جمادى الأولى. ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط؛ فاجتمعوا جميعاً في مكان واحد، وعليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فكانوا يركبون حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط.
ثم إن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى قريب الظهر. ثم وقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك.
ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه.
ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه: ذكر أن سهل بن سلامة كان مقيماً ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده؛ سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه؛ وكان إبراهيم قد هم بقتاله قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة، وصارت الهزيمة على أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجاً بجص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف؛ حتى بلغوا قرب باب الشأم؛ سوى من أجابه من أهل الكرخ وسائر الناس؛ فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو واخوته وجماعة أصحابه نحو سهل ابن سلامة؛ لأنه كان يذكرهم بأسواء أعمالهم وفعالهم، ويقول: الفساق؛ لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أياماً؛ وكان الذي تولى قتاله عيسى بن محمد بن أبي خالد؛ فلما صار إلى الدروب التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الألف الدرهم والألفين درهماً؛ على أن يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى ذلك؛ فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك؛ فلما كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجد طاهر بن الحسين وإلى منزله؛ وهو بالقرب من المسجد؛ فلما وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء فدخلوا منزله.
فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون؛ فلما كان الليل أخذوه في بعض الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي - وهو ولي العهد بعد عمه إبراهيم بن المهدي وهو بمدينة السلام - فكلمه وحاجه، وجمع بينه وبين أصحابه، وقال له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له: إنما كانت دعوتي عباسية؛ وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة؛ وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة. فلم يقبلوا ذلك منه. ثم قالوا له: اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل. فأخرج إلى الناس وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة. فلما قال لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه؛ فلما صنعوا ذلك به قال:

المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية؛ فأخذ فأدخل إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى إبراهيم بالمدائن؛ فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل ما رد على إسحاق. وقد كانوا أخذوا رجلاً من أصحابه يقال له محمد الرواعي، فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه؛ فلما أخذ سهل بن سلامه حبسوه أيضاً، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله؛ وإنما أشاعوا ذلك تخوفاً من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه؛ فكان بين خروجه وبين أخذه وحبسه اثنا عشر شهراً.
ذكر خبر شخوص المأمون إلى العراق وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق.
ذكر الخبر عن شخوصه منهاذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء؛ وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة. فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة؛ وإنما صيروه أميراً يقوم بأمرهم،على ما أخبره به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسألهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه؛ وهم يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وموسى وعلي بن أبي سعيد - وهو ابن أخت الفضل - وخلف المصري، فسألهم عما أخبره، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل؛ ألا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم، وكتب لكل رجل منهم كتاباً بخطه، ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه؛ وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطئ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب؛ استعين بمن هو دونه أضعافاً، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد في بني هاشم والموالي والقواد، والجند لو رأوا عزتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة.
فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد؛ فلما أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضاً، ونتف لحى بعض؛ فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم؛ فأعلمه أنه يداري ما هو فيه. ثم ارتحل من مرو فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين. فأخذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون وهم أربعة نفر: أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وقتلوه وله ستون سنة؛ وهربوا. فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم. وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا ساءلهم المأمون؛ فمنهم من قال:

إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل دسهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا. ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي بن موسى وخلف فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك؛ فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه. ووصل الكتاب بذلك إلى الحسن في شهر رمضان، فلم يزل الحسن وأصحابه حتى أدركت الغلة وجبي بعض الخراج، ورحل المأمون من سرخس نحو العراق يوم الفطر، وكان إبراهيم بن المهدي بالمدائن وعيسى وأبو البط وسعيد بالنيل وطرنايا يراوحون القتال ويغادونه؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك بن عبد الله قدم من المدائن، فاعتل بأنه مريض، وجعل يدعو في السر إلى المأمون؛ على أن المنصور بن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه إلى ذلك منصور وخزيمة بن خازم وقواد كثير من أهل الجانب الشرقي، وكتب المطلب إلى حميد وعلي بن هشام أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وعلى النهروان؛ فلما تحقق عند إبراهيم الخبر خرج من المدائن إلى بغداد، فنزل زند ورد يوم السبت لأربع عشرة خلت من صفر، وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة، فلما أتاهم رسوله اعتدوا عليه؛ فلما رأى ذلك بعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد وأخوته؛ فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما وأما المطلب فإن مواليه وأصحابه قاتلوا عن منزله حتى كثر الناس عليهم، وأمر إبراهيم منادياً فنادى: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره، فانتهبوا ما وجدوا فيها، وانتهبوا دور أهل بيته، وطلبوه فلم يظفروا به، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر.
فلما بلغ حميداً بن هشام الخبر بعث حميد قائداً فأخذ المدائن، وقطع الجسر، ونزل بها، وبعث علي بن هشام قائداً فنزل المدائن، وأتى نهر ديالى فقطعه، وأقاموا بالمدائن، وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به.
وفي هذه السنة تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل.
وفيها زوج المأمون علي بن موسى الرضي ابنته أم حبيب، وزوج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد، فدعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد.
وكان الحسن بن سهل كتب إلى عيسى بن يزيد الجلودي، وكان بالبصرة فوافى مكة في أصحابه، فشهد الموسم، ثم انصرف، ومضى إبراهيم بن موسى إلى اليمن؛ وكان قد غلب عليها حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
موت علي بن موسى الرضي ذكر أن مما كان فيها موت علي بن موسى بن جعفر.
ذكر الخبر عن سبب وفاتهذكر أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فلما صار بها أقام بها عند قبر أبيه أياماً. ثم إن علي بن موسى أكل عنباً فأكثر منه، فمات فجأة؛ وذلك في آخر صفر؛ فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بن سهل يعلمه أن علي بن موسى بن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته؛ وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده؛ ويسألهم الدخول في طاعته. فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد. وكان الذي صلى على علي بن موسى المأمون. ورحل المأمون في هذه السنة من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم.
وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل، فذكر سبب ذلك أنه كان مرض مرضاً شديداً، فهاج به من مرضه تغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس في بيت. وكتب بذلك قواد الحسن إلى المأمون، فأتاهم الكتاب أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله، ويعلمهم أنه قادم على أثر كتابه.
خبر حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد كان يكاتب حميداً والحسن؛ وكان الرسول بينهم محمد بن محمد المعبدي الهاشمي، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة والنصيحة، ولم يكن يقاتل حميداً ولا يعرض له في شيء من عمله؛ وكان كلما قال إبراهيم :

تهيأ للخروج لقتال حميد، يعتل عليه بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة؛ فما زال بذلك حتى إذا توثق مما يريد مما بينه وبين الحسن وحميد فارقهم، على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة لانسلاخ شوال. وبلغ الخبر إبراهيم؛ فلما كان يوم الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سالمت حميداً، وضمنت له ألا أدخل عمله، وضمن لي ألا يدخل عملي. ثم أمر أن يحفر خندق بباب الجسر وباب الشأم، وبلغ إبراهيم ما قال وما صنع، وقد كان عيسى سأل إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم به، وبلغ إبراهيم الخبر وأنه يريد أخذه حذر.
وذكر أن هارون أخا عيسى أخبر إبراهيم بما يريد أن يصنع به عيسى؛ فلما أخبره، بعث إليه أن يأتيه حتى يناظره في بعض ما يريد، فاعتل عليه عيسى، فلم يزل إبراهيم يعيد إليه الرسل حتى أتاه إلى قصره بالرصافة، فلما دخل عليه حجب الناس، وخلا إبراهيم وعيسى، وجعل يعاتبه، وأخذ عيسى يعتذر إليه مما يعتبه به، وينكر بعض ما يقول؛ فلما قرره بأشياء أمر به فضرب. ثم إنه حبسه وأخذ عدة من قواده فحبسهم، وبعث إلى منزله، فأخذ أم ولده وصبياناً له صغاراً؛ فحبسهم؛ وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال. وطلب خليفة له يقال له العباس فاختفى. فلما بلغ حبس عيسى أهل بيته وأصحابه، مشى بعضهم إلى بعض، وحرض أهل بيته واخوته الناس على إبراهيم واجتمعوا؛ وكان رأسهم عباس خليفة عيسى، فشدوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه، وعبر إلى إبراهيم فأخبره الخبر، وأمر بقطع الجسر فطردوا كل عامل كان لإبراهيم في الكوخ وغيره، ظهر الفساق والشطار، فقعدوا في المسالح. وكتب إلى حميد يسأله أن يقدم إليهم حتى يسلموا إليه بغداد؛ فلما كان يوم الجمعة صلوا في مسجد المدينة أربع ركعات، صلى بهم المؤذن بغير خطبة.
ذكر خبر خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة.
ذكر الخبر عن سبب ذلكقد ذكرنا قبل ما كان من إبراهيم وعيسى بن محمد بن أبي خالد وحبس إبراهيم إياه، واجتماع عباس خليفة عيسى واخوة عيسى على إبراهيم ، وكتابهم إلى حميد يسألونه المصير إليهم ليسلموا بغداد إليه؛ فذكر أن حميداً لما أتاه كتابهم، وفيه شرط منهم عليه أن يعطي جند أهل بغداد؛ كل رجل منهم خمسين درهماً، فأجابهم إلى ذلك ، وجاء حتى نزل صرصر بطريق الكوفة يوم الأحد، وخرج إليه عباس وقواد أهل بغداد، فلقوه غداة الاثنين، فوعدهم ومناهم وقبلوا ذلك منه، فوعدهم أن يضع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية، على أن يصلوا الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم؛ فأجابوه إلى ذلك. فلما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى واخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى ذلك عليه.
فلما كان يوم الجمعة بعث عباس إلى محمد بن أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون، فلما كان يوم السبت جاء حميد إلى الياسرية فعرض حميد جند أهل بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم، فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، فيعطيهم أربعين درهماً لكل رجل منهم؛ لما كانوا تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين. فغدر بهم، وقطع العطاء عنهم، فقال لهم حميد: لا بل أزيدكم وأعطيكم ستين درهماً لكل رجل،فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى فسأله أن يقاتل حميداً، فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، فكلم عيسى الجند أن يعطيهم مثل ما أعطى حميد؛ فأبوا ذلك عليه؛ فلما كان يوم الاثنين عبر إليهم عيسى واخوته وقواد أهل الجانب الشرقي، فعرضوا على أهل الجانب الغربي أن يزيدوهم على ما أعطى حميد، فشتموا عيسى وأصحابه، وقالوا:

لا نريد إبراهيم. فخرج عيسى وأصحابه حتى دخلوا المدينة، وأغلقوا الأبواب، وصعدوا السور، وقاتلوا الناس ساعة. فلما كثر عليهم الناس انصرفوا راجعين؛ حتى أتوا باب خراسان، فركبوا في السفن، ورجع عيسى كأنه يريد أن يقاتلهم، ثم احتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قواده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك غماً شديداً؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك اختفى من إبراهيم، فلما قدم حميد أراد العبور إليه فأخذه المعبر، فذهب إلى إبراهيم فحبسه عنده ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إنه خلى عنه ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة.
ذكر خبر اختفاء إبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي، وتغيب بعد حرب بينه وبين حميد بن عبد الحميد، وبعد أن أطلق سعد بن سلامة من حبسه.
ذكر الخبر عن اختفائه والسبب في ذلكذكر أن سهل بن سلامة كان الناس يذكرون أنه مقتول، وهو عند إبراهيم محبوس؛ فلما صار حميد إلى بغداد ودخلها أخرجه إبراهيم. وكان يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو، فإذا كان الليل رده إلى حبسه؛ فمكث بذلك أياماً، فأتاه أصحابه ليكونوا معه، فقال لهم: الزموا بيوتكم، فإني أرزأ هذا - يعني إبراهيم - فلما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة خلى سبيله، فذهب فاختفى، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده أن حميداً قد نزل في أرحاء عبد الله بن مالك، تحول عامتهم إليه، وأخذوا له المدائن؛ فلما رأى ذلك إبراهيم، أخرج جميع من عنده حتى يقاتلوا، فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا، فهزمهم حميد، فقطعوا الجسر فتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بيوت بغداد، وذلك يوم الخميس لانسلاخ ذي القعدة.
فلما كان يوم الأضحى أمر إبراهيم القاضي أن يصلي بالناس في عيساباذ، فصلى بهم فانصرف الناس، واختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد، ثم تحول علي بن ريطة إلى معسكر حميد، وجعل الهاشميون والقواد يلحقون بحميد واحداً بعد واحد؛ فلما رأى إبراهيم أسقط في يده، فشق عليه. وكان المطلب يكاتب حميداً على أن يأخذ له الجانب الشرقي، وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وعبدويه وعدة معهم من القواد يكاتبون علي بن هشام، على أن يأخذوا له إبراهيم؛ فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه، وأنهم قد أحدقوا به، جعل يداريهم؛ فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحدق بدار إبراهيم هو وأصحابه؛ فإن كان يريده فليأته.
وكتب ابن الساجور وأصحابه إلى علي بن هشام، فركب حميد من ساعته؛ وكان نازلاً في أرحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، وتقدم إلى مسجد كوثر، وخرج إليه ابن الساجور وأصحابه، وجاء المطلب إلى حميد، فلقوه بباب الجسر، فقربهم ووعدهم ونبأهم أن يعلم المأمون ما صنعوا، فأقبلوا إلى دار إبراهيم، وطلبوه فلم يجدوه، فلم يزل إبراهيم متوارياً حتى قدم المأمون وبعد ما قدم؛ حتى كان من أمره ما كان.
وقد كان سهل بن سلامة حيث اختفى وتحول إلى منزله وظهر، وبعث إليه حميد، فقربه وأدناه، وحمله على بغل، ورده إلى أهله، فلم يزل مقيماً حتى قدم المأمون، فأتاه فأجازه ووصله، وأمره أن يجلس في منزله.
وفي هذه السنة انكسفت الشمس يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها، وكان غاب أكثر من ثلثيها، وكان انكسافها ارتفاع النهار، فلم يزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت.
فكانت أيام إبراهيم بن المهدي كلها سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً.
وغلب علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيها، وصار المأمون إلى همذان في آخر ذي الحجة وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة أربع ومائتينذكر الأحداث التي كانت فيها
خبر قدوم المأمون إلى بغدادفمما كان في ذلك قدوم المأمون العراق، وانقطاع مادة الفتن ببغداد.
ذكر الخبر عن مقدمه العراق وما كان فيه بها عند مقدمه

ذكر عن المأمون أنه لما قدم جرجان أقام بها شهراً، ثم خرج منها، فصار إلى الري في ذي الحجة، فأقام بها أياماً، ثم خرج منها، فجعل يسير المنازل، ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى النهروان؛ وذلك يوم السبت، فأقام فيه ثمانية أيام، وخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فسلموا عليه؛ وقد كان كتب إلى طاهر بن الحسين من الطريق وهو بالرقة، أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها، فلما كان السبت الآخر دخل بغداد ارتفاع النهار، لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولباسه ولباس أصحابه؛ أقبيتهم وقلانسهم وطراداتهم وأعلامهم كلها الخضرة. فلما قدم نزل الرصافة، وقدم معه طاهر، فأمره بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول فنزل قصره على شط دجلة، وأمر حميد بن عبد الحميد وعلي بن هشام وكل قائد كان في عسكره أن يقيم في عسكره؛ فكانوا يختلفون إلى دار المأمون في كل يوم؛ ولم يكن يدخل عليه أحد إلا في الثياب الخضر، ولبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون، فكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد على إنسان إلا القلنسوة؛ فإنه كان يلبسها الواحد بعد الواحد على خوف ووجل؛ فأما قباء أو علم فلم يكن أحد يجترئ أن يلبس شيئاً من ذلك ولا يحمله. فمكثوا بذلك ثمانية أيام؛ فتكلم في ذلك بنو هاشم وولد العباس خاصةً، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتهم، ولبست الخضرة. وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان.
وقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يطرح لباس الخضرة، ويرجع إلى لبس السواد زي دولة الآباء؛ فلما رأى طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها، وجاء السبت قعد لهم وعليه ثياب خضر، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهراً، ثم دعا بعدة من قواده، فألبسهم أقبية وقلانس سوداً؛ فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد، طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة، ولبسوا السواد، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر.
وقد قيل: إن المأمون لبس الثياب الخضر بعد دخوله بغداد سبعة وعشرين، ثم مزقت.
وقيل إنه لم يزل مقيماً ببغداد في الرصافة حتى بنى منازل على شط دجلة عند قصره الأول؛ وفي بستان موسى.
وذكر عن إبراهيم بن العباس الكاتب، عن عمرو بن مسعدة، أن أحمد بن أبي خالد الأحول قال: لما قدمنا من خراسان مع المأمون وصرنا في عقبة حلوان - وكنت زميله - قال لي: يا أحمد، إني أجد رائحة العراق، فأجبت بغير جوابه، وقلت: ما أخلقه! قال: ليس هذا جوابي، ولكني أحسبك سهوت أو كنت مفكراً، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فيم فكرت؟ قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم، مع فتنة غلبت على قلوب الناس، فاستعذبوها، فكيف يكون حالنا إن هاج هائج، أو تحرك متحرك ! قال: فأطرق ملياً، ثم قال: صدقت يا أحمد، ما أحسن ما فكرت؛ ولكني أخبرك؛ الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم؛ فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالماً ولا مظلوماً فبيته يسعه. فوالله ما كان إلا كما قال.
وأمر المأمون في هذه السنة بمقاسمة أهل السواد على الخمسين؛ وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفيز الملجم - وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني - كيلا مرسلا.
وفي هذه السنة واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه. وولى المأمون صالح بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب الحرمين.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن.
ثم دخلت سنة خمس ومائتينذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
ولاية طاهر بن الحسين خراسانفمن ذلك تولية المأمون فيها طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وقد كان قبل ذلك ولاه الجزيرة والشرط وجانبي بغداد ومعاون السواد، وقعد للناس.
ذكر الخبر عن سبب توليته وكان سبب توليته إياه خراسان، والمشرق، ما ذكر عن حماد بن الحسن، عن بشر بن غياث المريسي، قال:

حضرت عبد الله المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس وعلي بن الهيثم، فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن أبي العباس الإمامة، ونصر علي بن الهيثم الزيدية، وجرى الكلام بينهما؛ إلى أن قال محمد لعلي: يا نبطي، ما أنت والكلام! قال: فقال المأمون - وكان متكئاً فجلس: الشتم عي، والبذاء لؤم؛ إنا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه بما يجب؛ فاجعلا بينكما أصلاً، فإن الكلام فروع؛ فإذا افترعتم شيئاً رجعتم إلى الأصول. قال: فإنا نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وذكرا الفرائض والشرائع في الإسلام، وتناظرا بعد ذلك. فأعاد محمد لعلي بمثل المقالة الأولى، فقال له علي: والله لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته، ولولا ما نهى عنه لأعرقت جبينك؛ وبحبسك من جهلك وغسلك المنبر بالمدينة.
قال: فجلس المأمون - وكان متكئاً - فقال: وما غسلك المنبر؟ ألتقصير مني في أمرك أو لتقصير المنصور كان في أمر أبيك؟ لولا أن الخليفة إذا وهب شيئاً استحيا أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك، قم وإياك ما عدت.
قال: فخرج محمد بن أبي العباس، ومضى إلى طاهر بن الحسين - وهو زوج أخته - فقال له: كان من قصتي كيت وكيت؛ وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج. فركب طاهر إلى الدار؛ فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب؛ فقال: إنه ليس من أوقاته، ائذن له: فدخل طاهر فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: اسقوه رطلاً، فأخذه في يده اليمنى وقال له: اجلس، فخرج فشربه ثم عاد، وقد شرب المأمون رطلاً آخر، فقال: اسقوه ثانياً، ففعل كفعله الأول، ثم دخل، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة، فأما مجلس الخاصة فطلق، قال: وبكى المأمون، وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين؛ لم تبكي لا أبكى الله عينيك! فوالله دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك. فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن؛ فتكلم بحاجة إن كانت لك، قال: يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العباس أخطأ فأقله عثرته، وارض عنه. قال: قد رضيت عنه، وأمرت بصلته، ورددت عليه مرتبته؛ ولولا أنه ليس من أهل الأنس لأحضرته.
قال: وانصرف طاهر، فأعلم ابن أبي العباس ذلك، ودعا بهارون بن جبغويه؛ فقال له: إن للكتاب عشيرة، وإن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض؛ فخذ معك ثلثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ قال: ففعل ذلك، قال: فلما تغدى قال: يا حسين اسقني، قال: لا والله لأسقينك أو تقول لي: لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قال: يا حسين، وكيف عنيت بهذا فسألتني عنه! قال : لغمي بذاك، قال: يا حسين هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سراً! قال: إني ذكرت محمداً أخي، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره. قال: فأخبر حسين طاهراً بذلك؛ فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل، فبكر إلي غداً. قال: فركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال: ما نمت البارحة، فقال: لم ويحك! قال: لأنك وليت غسان خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه، فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، قال: ويلك يا أحمد! هو والله خالع، قال: أنا الضامن له، قال: فأنفذه، قال: فدعا بطاهر من ساعته، فعقد له؛ فشخص من ساعته، فنزل في بستان خليل بن هاشم، فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهراً، فحمل إليه عشرة آلاف ألف، التي تحمل إلى صاحب خراسان.
قال أبو حسان الزيادي:

وكان قد عقد له على خراسان والجبال من حلوان إلى خراسان، وكان شخوصه من بغداد يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين، وقد كان عسكر قبل ذلك بشهرين، فلم يزل مقيماً في عسكره. قال أبو حسان: وكان سبب ولايته - فيما اجتمع الناس عليه - أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعاً بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لأصل عمله عليه. وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بن سهل، وهو ابن عم الفضل بن سهل.
وذكر عن علي بن هارون أن طاهر بن الحسين قبل خروجه إلى خراسان وولايته لها، ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث، فقال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائداً من قوادي؛ فكان سبب المصارمة بين الحسن وطاهر.
قال: وخرج طاهر إلى خراسان لما تولاها، وهو لا يكلم الحسن بن سهل، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها لي في مصارمته.
وفي هذه السنة ورد عبد الله بن طاهر بغداد منصرفاً من الرقة، وكان أبوه طاهراً استخلفه عليها، وأمره بقتال نصر بن شبث، وقدم يحيى بن معاذ فولاه المأمون الجزيرة.
وفيها ولى المأمون عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
وفيها مات السري بن الحكم بمصر وكان واليها.
وفيها مات داود بن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم.
وفيها ولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط.
وفيها شخص طاهر بن الحسين إلى خراسان في ذي القعدة، وأقام شهرين حتى بلغه خروج عبد الرحمن النيسابوري المطوعي بنيسابور، فشخص ووافى التغرغزية أشروسنة.
وفيها أخذ فرج الرخجي عبد الرحمن بن عمار النيسابوري.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن، وهو والي الحرمين.
ثم دخلت سنة ست ومائتين

ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك من تولية المأمون داود بن ماسجور محاربة الزط وأعمال بصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين.
وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها.
وفيها نكب بابك بعيسى بن محمد بن أبي خالد.
ولاية عبد الله بن طاهر على الرقةوفيها ولى المأمون عبد الله بن طاهر الرقة لحرب نصر بن شبث ومضر.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياه: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن يحيى بن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: سنة ست. وقال بعض: سنة سبع. فلما دخل عليه، قال: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى بن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين.
فال: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء مكتوباً عليه بصفرة ما يكتب على الألوية؛ وزاد فيه المأمون: " يا منصور " ، وخرج معه الناس فصار إلى منزله؛ ولما كان من غد ركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع؛ فأقام عنده إلى الليل؛ فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك إلي ألا أقطع أمراً دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك؛ فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل.
فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الإفطار ها هنا. قال: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث إلى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له: إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قال: ففي حفظ الله؛ وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره.
وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر؛ لقتال نصر بن شبث بعد خروج أبيه إلى خراسان، بستة أشهر.
وصية طاهر إلى ابنه عبد الله

وكان طاهر حين ولى ابنه ديار ربيعة، كتب إليه كتاباً نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه؛ وموقوف عليه، ومسئول عنه؛ والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه؛ فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلنك عنه ذاهل، ولا يشغلنك عنه شاغل؛ فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله به لرشدك.
وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك؛ المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها؛ في إسباغ وضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها. وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك ونيتك. واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده؛ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل في كتابه؛ من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد. وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به؛ فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله؛ فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالاً له، ودركاً للدرجات العلا في المعاد؛ مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها؛ فليس شيء أبين نفعاً، ولا أحضر أمناً، ولا أجمع فضلاً من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة. وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للإستكثار من البر والسعي له؛ إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به، تتم أمورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.
وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل تكسف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزاً، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها؛ بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك؛ فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة.

وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن. ومأخوذ بما أساء؛ فإن الله جعل الدين حرزاً وعزاً، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الحرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه.ولا تعطل ذلك ولا تهاون به. ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك.
واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهداً ففي به، وإذا وعدت بالخير فأنجزه؛ واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كلذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله،وأقص أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر.
وأحب أهل الصدق والفلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم،وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة. واجتنب سوء الأهوار والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك؛ وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله. وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلص لله النية فيه واليقين به ؛واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله.ودع عنك شره نفسك. ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح العية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، ولإغاثة لملهوفهم.
واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر؛ وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت الولاة ، وطاب به الزمان، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم؛ فإنك إذا فعلت ذلك قررت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفساً لكل ما أردت.

فأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه؛ فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه. وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك؛ فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب؛ فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله؛ فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين؛ وقض الحق فيما حمل من النعم، والبس من العافية والكرامة. ولا تحقرن ذنباً، ولا تمايلن حاسداً، ولا ترحمن فاجراً، ولا تصلن كفوراً، ولا تداهنن عدواً، ولا تصدقن نماماً، ولا تأمنن غداراً؛ ولا توالين فاسقاً، ولا تتبعن غاوياً، ولا تحمدن مرائياً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً، ولا تجيبن باطلاً، ولا تلاحظن مضحكاً، ولا تخلفن وعداً، ولا ترهبن فجراً، ولا تعملن غضباً، ولا تأتين بذخاً، ولا تمشين مرحاً، ولا تركبن سفهاً، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عياناً، ولا تغمضن عن الظالم رهبةً أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ من أهل التجارب وذوي العقول والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولاً؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم. وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ، قليل العطية؛ وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلاً؛ فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي؛ وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ؛ فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظاً ونصيباً، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقاً، وارض به عملاً ومذهباً.
وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمةً في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته؛ فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً.
واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء.
واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وأبعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقتك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وابلغ في الحاجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم - فإن الدماء من الله بمكان عظيم - انتهاكاً لها بغير حقها.

وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعةً، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتاً وغيظاً، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلاً وصغاراً، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئاً عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد لخاصتك. ولا تأخذن منه فوق منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمراً فيه شطط. واحمل الناس كلهم على مر الحق؛ فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم؛ تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم؛ فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي التدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق؛ فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف؛ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في أعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل القوة، وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئاً تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم؛ حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله. وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك؛ فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه؛ وإلا فتوقف عنه. وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته؛ فإنه ربما نظر الرجل في أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره.
فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك؛ وأكثر مباشرته بنفسك؛ فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه؛ فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.

وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك؛ فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم؛ حتى لا يجدوا لخلتهم مساً. وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك. والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه؛ فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. واجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقواماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة؛ وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل؛ كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله ، ويلتمس رحمته به. وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك؛ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة؛ ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه؛ واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله. واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها. ولا تجمع حراماً، ولا تنفق إسرافاً، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم. وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها؛ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك؛ فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامراته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له؛ فما كان موافقاً للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه.
ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا في ذلك.
وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله؛ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضاً ولدينه نظاماً، ولأهله عزاً وتمكيناً؛ وللذمة والملة عدلاً وصلاحاً.
وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك؛ حتى يجعلك أفضل مثالك نصيباً، وأسناهم ذكراً، وأمراً، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.
وذكر أن طاهراً لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره؛ حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقى أبو الطيب شيئاً من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم؛ وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه.

وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه من الشرط وأعمال بغداد؛ وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بن شبث.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن؛ وهو والي الحرمين.
ثم دخلت سنة سبع ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خروج عبد الرحمن بن أحمد العلوي باليمن فمن ذلك خروج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضي من آل محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر الخبر عن سبب خروجهوكان السبب في خروجه أن العمال أساءوا السيرة، فبايعوا عبد الرحمن هذا، فلما بلغ ذلك المأمون وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيفٍ، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار بن عبد الله الموسم وحج، فلما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن، فبعث إليه بأمانه من المأمون؛ فقبل ذلك، ودخل ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمر بأخذه بلبس السواد؛ وذلك يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعدة.
ذكر الخبر عن وفاة طاهر بن الحسين وفي هذه السنة كانت وفاة طاهر بن الحسين.
ذكر الخبر عن وفاته: ذكر عن مطهر بن طاهر، أن وفاة ذي اليمينين كانت من حمى وحرارة أصابته، وأنه وجد في فراشه ميتاً. وذكر أن عميه علي بن مصعب وأخاه أحمد بن مصعب، صارا إليه يعودانه، فسألا الخادم عن خبره - وكان يغلس بصلاة الصبح - فقال الخادم: هو نائم لم ينتبه، فانتظراه ساعة، فلما انبسط الفجر، وتأخر عن الحركة في الوقت الذي كان يقوم فيه للصلاة، أنكرا ذلك، وقالا للخادم: أيقظه، فقال الخادم: لست أجسر على ذلك، فقالا له: اطرق لنا لندخل إليه، فدخلا فوجداه ملتفاً في دواج، قد أدخله تحته، وشده عليه من عند رأسه ورجليه، فحركاه فلم يتحرك، فكشفا عن وجهه فوجداه قد مات. ولم يعلما الوقت الذي توفي فيه، ولا وقف أحد من خدمه على وقت وفاته؛ وسألا الخادم عن خبره وعن آخر ما وقف عليه منه؛ فذكر أنه صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم التف في دواجه. قال الخادم: فسمعته يقول بالفارسية كلاماً وهو " درمرك ينزمردي وبذ " ؛ تفسيره أنه يحتاج في الموت أيضاً إلى الرجلة.
وذكر عن كلثوم بن ثابت بن أبي سعد - وكان يكنى أبا سعدة - قال: كنت على بريد خراسان، ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلما كان في سنة سبع ومائتين، بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين، حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، فقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤنة من بغى فيها، وحشد عليها، بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين. قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول؛ لأني لا أكتم الخبر؛ فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بإزار الموتى، ولبست قميصاً، وارتديت رداء، وطرحت السواد، وكتبت إلى المأمون. قال: فلما صلى العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه وفي مأقه، فخر ميتاً. قال: فخرج طلحة بن طاهر، فقال: ردوه ردوه - وقد خرجت فردوني، فقال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم، قال: فاكتب بوفاته، وأعطاني خمسمائة ألف ومائتي ثوب، فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بالجيش.
قال: فردت الخريطة على المأمون بخلعه غدوة، فدعا ابن أبي خالد فقال له: اشخص: فأت به - كما زعمت، وضمنت - قال: أبيت ليلتي، قال: لا لعمري لا تبيت إلا على ظهر. فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت. قال: ووافت الخريطة بموته ليلاً، فدعاه فقال: قد مات، فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة، قال: الصواب ما قلت، فاكتب بتوليته. فكتب بذلك، وأقام طلحة والياً على خراسان في أيام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر، ثم توفي، وولي عبد الله خراسان - وكان يتولى حرب بابك - فأقام بالدينور، ووجه الجيوش، ووردت وفاة طلحة على المأمون؛ فبعث إلى عبد الله يحي بن أكتم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية خراسان، وولي علي بن هشام حرب بابك.
وذكر عن العباس أنه قال: شهدت مجلساً للمأمون، وقد أتاه نعي طاهر، فقال: لليدين وللفم! الحمد لله الذي قدمه وأخرنا.

وقد ذكر في أمر ولاية طلحة خراسان بعد أبيه طاهر غير هذا القول؛ والذي قيل من ذلك، أن طاهراً لما مات - وكان موته في جمادى الأولى - فأعطوا رزق ستة أشهر. فصير المأمون عمله إلى طلحة خليفة لعبد الله بن طاهر؛ وذلك أن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله - وكان مقيماً بالرقة على حرب نصر بن شبث - وجمع له مع ذلك الشأم، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه؛ فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان، واستخلف بمدينة السلام إسحاق بن إبراهيم، وكاتب المأمون طلحة باسمه، فوجه المأمون أحمد بن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر، فافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بن خاراخره وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضاً بألفي ألف، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد بن أبي خالد خمسمائة ألف درهم.
وفي هذه السنة غلا السعر ببغداد والبصرة والكوفة حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهماً إلى الخمسين بالقفيز الملجم.
وفي هذه السنة ولي موسى بن حفص طبرستان والرويان ودنباوند.
وحج بالناس في هذه السنة أبو عيسى بن الرشيد.
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك مصير الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان، ممتنعاً بها ، ومصير أحمد بن خالد إليه حتى أخذه، فقدم به على المأمون، فعفا عنه.
وفيها ولي المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في المحرم.
وفيها استعفى محمد بن سماعة القاضي من القضاء فأعفي، وولي مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن عن القضاء بعد أن وليه فها في شهر ربيع الأول، ووليه بشر بن الوليد الكندي، فقال بعضهم:
يأيها الملك الموحد ربه ... قاضيك بشر بن الوليد حمار
ينفي شهادة من يدين بما به ... نطق الكتاب وجاءت الأخبار
ويعد عدلاً من يقول بأنه ... شيخ يحيط بجسمه الأقطار
ومات موسى بن محمد المخلوع في شعبان، ومات الفضل بن الربيع في ذي القعدة.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن الرشيد.
ثم دخلت سنة تسع ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر الظفر بنصر بن شبث فمن ذلك ما كان من حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وتضييقه عليه؛ حتى طلب الأمان، فذكر عن جعفر بن محمد العامري أنه قال: قال المأمون لثمامة: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان ومعرفة،يؤدي عني ما أوجهه به إلى نصر بن شبث؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، رجل من بني عامر يقال له جعفر بن محمد، قال له: أحضرنيه، قال جعفر: فأحضرني ثمامة، فأدخلني عليه، فكلمني بكلام كثير، ثم أمرني أن أبلغه نصر بن شبث. قال: فأتيت نصراً وهو بكفر عزرن بسروج، فأبلغته رسالته، فأذعن وشرط شروطاً، منها ألا يطأ له بساطاً. قال: فأتيت المأمون فأخبرته، فقال: لا أجيبه والله إلى هذا أبداً ،ولو أفضيت إلي بيع قميصي حتى يطأ بساطي؛ وما باله ينفر مني! قال: قلت: لجرمه وما تقدم منه، فقال: أتراه أعظم جرماً عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبي خالد! أتدري ما صنع بي الفضل! أخذ قوادي وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى به لي أبي، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيداً فريداً وأسلمني، وأفسد علي أخي؛ حتى كان من أمره ما كان؛ وكان أشد علي من كل شيء. أتدري ما صنع بي عيسى بن أبي خالد! طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب علي دياري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني، ودعاه باسمي. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال: تكلم، قلت: الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالكم، وحال سلفكم حاله، ترجع عليه بضروب كلها تردك إليه، وأما عيسى بن أبي خالد فرجل من أهل دولتك، وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عليه بذلك؛ وهذا رجل لم تكن له يد قط فيحمل عليها، ولا لمن مضى من سلفه؛ إنما من جند بني أمية. قال: إن كان كذلك كما تقول، فكيف بالحنق والغيظ؛ ولكني لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي، قال: فأتيت نصرأ فأخبرته بذلك كله، قال:

فصاح بالخيل صيحة فجالت، ثم قال: ويلي عليه؟ هو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعني الزط - يقوى على حلبة العرب! فذكر أن عبد الله بن طاهر لما جاده القتال وحصره وبلغ منه، طلب الأمان فأعطاه، وتحول من معسكره إلى الرقة سنة تسع ومائتين، وصار إلى عبد الله بن طاهر، وكان المأمون قد كتب إليه قبل ذلك أن هزم عبد الله بن طاهر جيوشه كتاباً يدعوه إلى طاعته ومفارقة معصيته، فلم يقبل، فكتب عبد الله إليه - وكان كتاب المأمون إليه من المأمون كتبه عمرو بن مسعدة: أما بعد؛ فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها وبرد ظلها وطيب مرتعها وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدة الله بك، فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم. وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك؛ فإن الصدق صدق والباطل باطل؛ وإنما القول بمخارجه وبأهل الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا أحرص على استنقاذك والانتياش لك من خطائك مني؛ فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين! تؤخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمناً أو مطمئناً، أو وادعاً أو ساكناً أو هادئاً! فوعالم السر والجهر، لأن لم تكن للطاعة مراجعاً وبها خانعاً، لتستوبلن وخم العاقبة؛ ثم لأبدأن بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفساداً كبيراً، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب إليك من أداني البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب الناس، ومن لفظه بلده، ونفته عشيرته؛ لسوء موضعه فيهم. وقد أعذر من أنذر. والسلام.
وكان مقام عبد الله بن طاهر على نصر بن شبث محارباً له - فيما ذكر - خمس سنين حتى طلب الأمان؛ فكتب عبد الله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه، أماناً نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد؛ فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز؛ ولا يزال المعذر بالحق، المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين؛ حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين؛ ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهوراً يطلب الغلبة ظلماً؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع، فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقاً، فلعمري ما همته الكبر، ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال؛ وإن كنت للدنيا تقصد، فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها؛ والأمر الذي تستحقها به؛ فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك. فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهوراً فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك. ويعجل ذلك، كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يداً، وأكثف جنداً. وأكثر جمعاً وعدداً ونصراً منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم جوائح الظالمين. وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت؛ إن شاء الله. والسلام.
ولما خرج بصر بن شبث إلى عبد الله بن طاهر بالأمان هدم كيسوم وخربها.
وفي هذه السنة ولى المأمون صدقة بن علي المعروف بزريق أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، وانتدب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد بن فرزندي الإسكافي، ثم رجع أحمد بن الجنيد بن فرزندي إلى بغداد، ثم رجع إلى الخرمية، فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل التجيبي أذربيجان.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد بن علي، وهو والي مكة.
وفيها مات ميخائيل بن جورجس صاحب الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملكت الروم عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.
ثم دخلت سنة عشر ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك وصول نصر بن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر، فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه.
ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائهوفيها ظهر المأمون على إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ومالك بن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة إبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي؛ فأرسل إليهم المأمون يوم السبت - فيما ذكر - لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين؛ فأمر المأمون بإبراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له؛ ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواماً برآء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بن شبث بعد ذلك وحده؛ ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل إسحاق بن إبراهيم، ثم حول إلى مدينة أبي جعفر.
ذكر خبر الظفر بإبراهيم المهديوفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة؛ أخذه حارس أسود ليلاً، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم - فيما ذكر - خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم؛ ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه؛ فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به؛ فأمر بالاحتفاظ به في الدار؛ فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقباً بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفاً بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ. فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبسه عنده، ثم أخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بن أبي خالد، وصير معه أحمد بن يحيى بن معاذ وخالد بن يزيد بن مزيد يحفظانه؛ إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه.
ذكر خبر قتل ابن عائشةوفي هذه السنة قتل المأمون إبراهيم بن عائشة وصلبه.
ذكر الخبر عن سبب قتله إياه كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة إبراهيم؛ بعد أن ضربوا بالسياط ما عدا عماراً، فإنه أومن لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن - وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحداً يدخل عليهم - فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبراً، وأسمعه ابن عائشة شتماً قبيحاً؛ فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل؛ فلما كان من الغداة يوم الأربعاء أنزل إبراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل الإفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون.
العفو عن إبراهيم بن المهديوذكر أن إبراهيم بن المهدي لما أخذ صير به إلى دار أبي إسحاق بن الرشيد - وأبو إسحاق عند المأمون - فحمل رديفاً لفرج التركي؛ فلما أدخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه؛ وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك، قال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجداً.

وقيل إن إبراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف؛ فوقع المأمون في حاشية رقعته: " القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله " ، فقال إبراهيم بمدح المأمون:
يا خير من ذملت يمانية به ... بعد الرسول لآيس ولطامع
وأبر من عبد الإله على التقى ... عيناً وأقوله بحقٍ صادع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع
متيقظاً حذراً وما يخشى العدى ... نبهان من وسنات ليل الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافةً ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فديةً وبنيهما ... من كل معضلة وريبٍ واقع
ما ألين الكنف الذي بوأتني ... وطناً وأمرع رتعه للراتع
للصالحات أخاً جعلت وللتقى ... وأباً رءوفاً للفقير القانع
نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ... وألوذ منك بفضل حلمٍ واسع
أملاً لفضلك والفواضل شيمة ... رفعت بناءك بالمحل اليافع
فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو، ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وعويل عانسةٍ كقوس النازع
وعطفت آصرةً علي كما وعى ... بعد انهياض الوشي عظم الظالع
الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيفٍ راكع
ما إن عصيتك والغواة تقودني ... أسبابها إلا بنية طالع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أن لمثل جرمي غافراً ... فوقفت أنظر أي حتفٍ صارعي
رد الحياة علي بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولاك أطول مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع
كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا آلت إلي مطامعي
أسديتها عفواً إلي هنيهةً ... فشكرت مصطنعاً لأكرم صانع
إلا يسيراً عندما وليتني ... وهو الكثير لديغير الضائع
إن أنت جدت بها علي تكن لها ... أهلاً، وإن تمنع فأعدل مانع
إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع
فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قال: أقول ما قال يوسف لأخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " .
ذكر الخبر عن بناء المأمون ببورانوفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بن سهل، حمل معه إبراهيم بن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكباً زورقاً، حتى أرسى على باب الحسن؛ وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجاً عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق؛ فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن ألا يفعل، فلما ساواه ثنى الحسن رجله لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل؛ فاعتنقه الحسن وهو راكب. ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعاً منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس - ودينار بن عبد الله قائم على رجله - حتى فرغوا من الإفطار، وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن؛ لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك؛ فغمز دينار بن عبد الله الحسن، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين،أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون:

لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه.فلما كان في الليلة الثانية، جمع بينمحمد بن الحسن بن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها؛ فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشراً، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنما نثر لنأخذه، قال: ردها فإني أخلفها عليك، فردها. وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك؛ فأمسكت. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها. وألبستها أم جعفر البدنة الأموية؛ وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر؛ فيها أربعون مناً في تور ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف؛ فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل؛ فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون: يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعة ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفاً، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه.
وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بن سهل سبعة عشر يوماً يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم؛ وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. قال: وأمر المأمون غسان بن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان؛ وكانت معدة عند غسان بن عباد، فجلس الحسن ففرقها على قواده وأصحابه وحشمه وخدمه؛ فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح.
فذكر عن أحمد بن الحسن بن سهل، قال: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بن سهل كتب رقاعاً فيها أسماء ضياعه. ونثرها على القواد وعلى بني هاشم؛ فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.
وذكر عن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الأعلى الكاتب، قال: حدثني الحسن بن سهل يوماً بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قال: سألها يوماً المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر. قال: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قال: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئاً، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم. قال: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قال: فدخل بها ليلاً، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما. فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع. قال: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قال: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يوماً حميد الطوسي فأقرأني أربعة أبيات امتدح بها ذا الرياستين. فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافأتك من قبله، فأقطعه إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران.
وروى علي بن الحسين أن الحسن بن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولايرفع الشمع بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها. وكان متطيراً يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد. قال: ودخلت عليه يوماً فقال لي قائل: إن علي بن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قال: فدعا لي فانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتاباً بعشرين ألف درهم. قال: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه.
وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قال: لما صار المأمون إلى الحسن بن سهل، أقام عنده أياماً بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يوماً. ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال.

وذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: خرج المأمون نحو الحسن بن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين.
وهلك حميد بن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة؛ وقالت جاريته عذل:
من كان أصبح يوم الفطر مغتبطاً ... فما غبطنا به والله محمود
أو كان منتظراً في الفطر سيده ... فإن سيدنا في الترب ملحود
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بن السري بن الحكم.
ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بن طاهر

من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان
ذكر أن عبد الله بن طاهر لما فرغ من نصر بن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر؛ فحدثني أحمد بن محمد بن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائداً من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعاً يعسكرفيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقاً، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره؛ فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولةً، وأبرد القائد إلى عبد الله بريداً يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال؛ على كل بغل رجلين بآلتهما وأدواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السري؛ فلم تكن من عبد الله وأصحابه إلا حملة واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه - يعني ابن السري - في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بن طاهر؛ فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان.
وذكر عن ابن ذي القلمين، قال: بعث ابن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة؛ مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلاً. قال: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهاراً لقبلتها ليلاً " بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة صاغرين " ، قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه.
وذكر أحمد بن حفص بن عمر، عن أبي السمراء، قال: خرجنا مع الأمير عبد الله بن طاهر إلى مصر؛ حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق؛ إذا نحن بأعرابي قد اعترض؛ فإذا شيخ فيه بقيه على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام. قال أبو السمراء: وأنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب ، وأجود منه كساً. قال: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قال " فقال: يا شيخ؛ قد ألححت في النظر، أعرفت شيئاً أم أنكرته؟ قال: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم؛ ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قال: فأشرت له إلى إسحاق بن أبي ربيعة، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتباً داهي الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير
ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي، فقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا، بالرجال مكور
أخال به جبناً وبخلأ وشيمةً ... تخبر عنه أنه لوزير
ثم نظر إلي وأنشأ يقول:
وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور
إخاله للأشعار والعلم راوياً ... فبغض نديم مرةً وسمير
ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول :
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة ... ووجه بإدراك النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بدابد ... به عاش معرف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بن طاهر ... لنا والد بر بنا، وأمير
قال:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35