كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

ذكر أن بدء علته أه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفى فيها إفاقة؛ فقال: هيئوا إلى الزلال لأركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله فقال: يا زنام: ازمر لي:
يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
قال:فما زالت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحاً وجعلت أزمره وأكرره وقد تناول بين يديه؛ فما زال يبكي وتمسح دموعه فيه وينتحب؛ حتى رجع إلى منزله ولم يتسم شرب الرطليّة.
وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيلة ليست حيلة،حتى أصمت وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق.
وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت.
فلما مات دفن بسامراً؛ فكات خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين. فإن كا مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستاً وأرعي سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يوماً، وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة؛ فإن عمره كان سبعاً وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً.
وكان - فيما ذكر - أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعاً مشرب اللون حمرة، حسن العينين.
وكان مولده بالخلد. وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن. وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانين وأربعين سنة. ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثما سين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات.
قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيدٍ بالترب والطبن
اذهب فنعم الحفيظ كنت على الد ... نيا ونعم الظهير للدين
لا جبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة:
أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسنا بهارون حيينا
لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا
ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره ذكر عن ابن أبي داود أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته؛ فقال: قال لي يوماً ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق؛ قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه. ثم قال: يا إيتاخ هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، و قال: كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فأكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي قال: فوالله ما زال حاسراً عن ذراعه، وماداً يده، وأنا أجتبي من الغدق، وآكل حتى رمى به خالياً ما فيه بسرة.
قال: وكنت كثيراً ما أزامله في سفره ذلك؛ إلى أن قلت له يوماً: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرّة ومنهم إلى مرة أخرى كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك وأشدّ لراحتك؛ قال: فإنّ سيما الدمشقيّ يزاملني اليوم فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، فأنت وذاك. قال: فدعوت الحسن فزاملني. وتهيأ أن يركب المعتصم بغلاً، فاختار أن يكون منفرداً، قال: فجعل يسير بسير بعيري؛ فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلى، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي؛ قال: فانتهينا إلى واد ولم نعرف غوره؛ وقد خلقنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم. فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي وجعل يطلب قلة الماء، فمرة ينحرف عن يمينه، ومرة ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه؛ وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي.

قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفى ألف درهم لكرى نهر لهم اندفن في صدر الإسلام؛ فأصر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، مالي ومالك؛ تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمين: والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء.وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل.
وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء؛ وكانت غايته فيه الإحكام. قال: لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب.
وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم: دعاني أمير المؤمينين المعتصم يوماً، فدخلت عليه وعليه صدرة ومشى ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة؛ فبحياتي عليك إلاّ لبست مثل لباسي؛ فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدّم إليه فرس محلاّة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزّيّ، فقلت: هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق؛ فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت؛ ثم دخلنا أنا وهو الحمام؛ وليس معنا غلام؛ فقمت عليه ودلكته وتولى أمير المؤمنين المعتصم متى مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى على، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي؛ وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال: يا إسحاق؛ جئني بمصلي ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة؛ وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين؛ فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحدٌ منهم؛ قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين؛ فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبداً، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمانٍ من غضبك. قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول؛ فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعاً لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يوماً وعنده قينة كان معجباً بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: سأل إسحاق، لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق؛ إذا نصر الهوى بطل الرأي؛ فقلت له: كنت أحب يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي؛ فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أو لست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذاً.
وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة.
وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبند نيجين.
وكان للرشد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما.
وذكر عن أحمد بن أبي داود أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسبي بقيمة مائل ألف ألف درهم.
خلافة هارون الواثق أبي جعفر

وبويع في يوم توفي المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس.
وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثني عشرة سنة.
وفيها ملكت بعده امرأته تذورة، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي.
وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى.
؟ثم دخلت سنة ثمان وعشري ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان.
وفيها مات أبو الحسن المائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر.
وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر.
وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهماً. وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شدة البرد في ساعة واحدة، ومطروا بمنىً في يوم النحر مطراً شديداً لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال
فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالاً، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط؛ فضربه - فيما يقل - نحواً من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار. وأخذ من سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار. وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحاً مائة ألف وأربعين ألف دينار؛ وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم. ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي داود وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم؛ فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد.
ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة: ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلةً في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ؛ ولكن هلموا نتحدث الليلة؛ فجلس في روايه الأوسط الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم بن رباح بناه؛ وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبةٌ مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضة إلا قدر ذراع - فيما ترى العين - حولها في وسطها ساج منقوش مغشي باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة؛ وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة.

قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور؛ حلفت بعتقها وعتق رقيق جميعاً وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول ألا أنقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها. فقال أمير المؤمنين: قد أخذتها منك بمائة ألف دينار ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء؛ إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك؛ فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار فأعاد عليه: لابد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكرثوها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر. قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت؛ فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر ذلك ودعا خادماً له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لأضم إليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك؛ فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم؛ فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفاً بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود؛ فحضر ليلةً فيمن حضره، فأعجبه حديثه؛ فأمر خادماً له أن يأتي يحيى بن خالد إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثي ألف درهم. ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل؛ وليس بحضرتنا اليوم مال، غداً يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله. ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتاً يحرضه فيه على البرامكة - وقد شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم - فدخل عليه ليلةً، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة.
وعدت هندٌ وما كانت تعد ... ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
واستبدت مرة واحدةً ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال الرشيد: أجل والله؛ إنما العاجز من لا يستبد حتى انقضى المجلس، وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادماً يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غادياً على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعرٍ أنشدنيه بعض من كان عندي ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال: ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر؛ فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وكان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال؛ فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم؛ فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم؛ فانصرف بذلك المال كله إلى منزله. وجدّ الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم وأزال نعمتهم، وقتل جعفراً فقال الواثق: صدق والله وجدي؛ إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها.

قال عزون: أحبسه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم. قال: وأمر الواثق بحبس سلما بن وهب كاتب إيتاخ، وأخذه بمائتي ألف درهم - وقيل دينار - فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسأل أن يؤخذ بالباقي عشري شهراً، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد.
وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر.
وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة
فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها.
ذكر الخبر عن ذلك ذكر أن بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر وكانوا إذا وردوا سوقاً من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى أن أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وبأهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة في سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي. فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي؛ وهو يومئذ عامل المدينة؛ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم حماد بن جرير الطبري - وكان الواثق وجه حماداً مسلحةً للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية - فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة؛ فار إليهم فلقيته طلائعهم. وكانت بنو سليم كارهة للقتال ، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل؛ وكانت بنو سليم يومئذ وأمدادها جاءوا من البادية في ستمائة وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بني سليم، ومعهم أشهب بن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمة بن يحيى وعزيزة بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم؛ فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرساً فقاتلهم حماد وأصحابه؛ ثم أتت بني سليم أمدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم؛ وهو موضع يسمى أعلى الرويثة؛ بينها وبين موضع القتال أربعة أميال؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت سودان المدينة بالناس؛ وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عددٌ صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب؛ وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل؛ فيما بينها وبين مكة والمدينة؛ حتى لم يمكن أحداً أن يسلك ذلك الطريق؛ وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب.

فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان؛ وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه للحرة؛ وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا إليها - والسوارقية حصون - وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب - وهما رأسا القواد يومئذ - فقتل بغا منهم نحواً من خمسين رجلاً، وأسر مثلهم؛ فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك؛ ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، وأقام بالسوارقية فأتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقية من غير بني سليم من أثناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها؛ وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجلّ من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر والفساد؛ وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم؛ ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجاً في ذي الحجة؛ فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من ممردتهم وعتاتهم نحواً من ثلثمائة رجل، وخلّى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان.
ذكر الخبر عن وفاة عبد الله بن طاهر وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام. ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهراً.
وحجّ في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين - فيما قبل - أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين إنساناً.
ذكر الخبر عن أمر بني سليم وغيرهم من القبائلوفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا.
ذكر الخبر عن سبب قتلهم
وما كان من أمرهم
ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمراً عمرة المحرم، ثم انصرف إلى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعاً في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر. ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من ألف وثلثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلاً أو رجلين وخرج بعضهم أو عامتهم؛ فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة؛ أحرارهم وعبيدهم - وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي - فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا؛ وكان وثوبهم عشية الجمعة؛ وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت؛ ولم يزل أهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول:
لابد من زحم وإن ضاق الباب ... إني أنا عزيزة بن القطاب
للموت خيرٌ للفتى من العاب ... هذا وربي عملٌ للبواب

وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلاً، فخرّ صريعاً. وقتلوا جميعاً، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتاز، حتى لقوا أعرابياً خارجاً من قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه؛ وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة. وكان بغا غائباً عنهم؛ فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجداً شديداً.
وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده؛ فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون:
الموت خيرٌ للفتى من العار ... قد أخذ البواب ألف دينار
وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا:
يا بغية الخير وسيف المنتبه ... وجانب الجور البعيد المشتبه
من كان منا جانياً فلست به ... افعل هداك الله ما أمرت به
فقال: أمرت أن أقتلكم. وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم؛ بعضها فوق بعض.
وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيباً لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق؛ تعلموا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:
متى كان ابن عباسٍ أميراً ... يصل لصقل نابيه صريف
يجور ولا يرد الجور منه ... ويسطو ما لوقعته ضعيف
وقد كنا نرد الجور عنا ... إذا انتضيت بأيديا السيوف
أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو اليلث ثار من الغريف
فإن يمنن فعفو الله نرجو ... وإن يقتل فقاتلنا شريف
وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة؛ فلما شارفهم وجه إليهم رجلاً من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفراً بقوا فيها منهم؛ وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها؛ فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الرّكاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق وأقام بغا بجفاء وهي قرية من حدّ عمل الشأم، مما يلي الحجاز نحواً من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرّة وفزارة.
وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة؛ وكان وجّه إليهم وإلى بني ثعلبة؛ فلمّا صاروا إليه - فيما ذكر - أمر محمد ابن يوسف الجعفريّ فاستحلفهم الأيمان الموكدة ألاّ يتخلّفوا عنه متى دعاهم. ثم شخص إلى ضريّة لطلب بني كلاب ووجّه إليهم رسله فاجتمع إليه منهم - فيما قيل - نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحواً من ألف رجل وثلثمائة رجل وخلّى سائرهم ثم قدم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدّة غيبة بغا؛ حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفراسة فلم يجيبوه، وتفرّقوا في البلاد، فوجّه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير أحد.
ذكر مقتل أحمد بن نصر الخزاعي على يد الواثقوفي هذه السنة تحرّك ببغداد قومٌ في ربض عمرو بن عطاء فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعيّ البيعة.
ذكرالخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر

وكان السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعيّ - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث؛ كيحيى بن معين وابن الدّورقيّ وابن خيثمة، وكات يظهر المباية لم يقول: القرآن مخلوق؛ مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني عباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبة أحمد بن أبي داود عليه - فحدثني بعض أشياخنا، عمّن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألاّ فعل هذا الخنزي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟رن أو قال: هذا الكافر؛ وفشا ذلك من أمره، فخوّف بالسلطان، وقيل له: قد اتّصل أمرك به، فخافه.
وكان فيمن يغشاه رجل - فيما ذكر - يعرف بأبي هارون السرّاج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خرسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ممّن ظهر له القول بمقالته، فحرّك المطيفون به - يعني أحمد بن نصر - من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد - أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن وقصدوه بذلك دون غيره لما كانت لما لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنة إحدى ومائتي لماّ كثر الدعّار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان؛ وقد ذكرنا خبره فيما مضى. وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتاً إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرّك للأسباب التي ذكرت.

فذكر أنه أجاب من سأله ذلك؛ وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم قبل. وإ أبا هارون السّراج وطالباً فرّقا في قوم مالا، فأعطيا كلّ رجل منهم ديناراً ديناراً، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطّبل للإجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقيّ فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذاً، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد. وكان إسحاق بن إبراهيم غائباً عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلاماً له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطّبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالباً ومنزله في الرّبض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السّراج ومنزله في الجانب الشرقيّ، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقيّ والغربيّ، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلاً من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش - وهو عامل الجانب الغربيّ، وعامل الجانب الشرقيّ العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني - ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علماً أو عدّة أو سلاحاً لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلاً ممن كان يغشاه يقال له اسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهليّ، ومنزله بالجانب الشرقيّ، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي داود وأصحابه، وجلس لهم مجلساً عاماًّ ليمتحنوا امتحاناً مكشوفاً، فحضر القوم واجتمعوا عنده .
وكان أحمد بن أبي داود - فما ذكر - كارهاً قتله في الظاهر؛ فلما أتى بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشّغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله؟ وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله قال: فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المومنين جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " فنحن على الخبر قال: وحدثني سفيان ابن عتيبة بحديث يرفعه " أن قلب ابن آدم بين إصبعي من أصابع الله يقلّبه " ؛ وكان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يدعو: " يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك " ؛ فقال له إسحاق بن إبراهيم: و؟يلكن انظر ماذا تقولن قال: أنت أمرتني

بذلك؛ فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلكن قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له ألاّ يخالف حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضياً على الجانب الغربيّ فعزل؛ وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له - :يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم، وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب ابن أبي داود: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن أبي داود: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل - كأنه كره أن يقتل بسببه - فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة - سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان في الخزاة، كان أهدى إلى موسى الهادي فأمر سلماً الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه - فأخذ الواثق الصمصامة - وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسمير تجمع بين الصفيحة والصلة - فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم اتضى سيماً الدمشقي سيفه، قضرب عنقه وخر رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام ؟عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه.
وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر؛ ممن ذكر أنه كان متشايعاً له؛ فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلاً وسموا في حبوس الظلمة؛ ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد. وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامراً، ثم ردوا إلى بغداد فجعلوا في المجالس.
وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلاً قصاراً كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم؛ فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سبباً حبسوه معهم؛ وكان له في المهرزار نخل فقطع وانتهت منزله؛ وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس؛ فقال بعض الشعراء في أحمد بن أبي داود:
ما إن تحولت من إياد ... صرت عذاباً على العباد
أنت كما قلت من إياد ... فارفق بهذا الخلق يا إيادي
وفي هذه السنة أراد الواثق الحج؛ فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له.
وحج بالناس فيها محمد بن دواد بن عيسى.
وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن فشخص إليها في شعبان. وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير؛ وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفى راجل وأعطى رزق ستة أشهر.
وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة؛ ولم يذكر أن أحداً عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات.
وفي هذه السنة قب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر وأخذوا اثنين وأربعين ألفاً من الدراهم؛ وشيئاً من الدنانير يسيراً، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ.

وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلاً في ديار ربيعة فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج أربعة، وأخذ محمد ابن عمرو أسيراً فبعث به إلى سامراً، فبعث به إلى مطبق بغداد؛ وصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك.
وفي هذه السة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس؛ وكان شخص في طلب الأكراد لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة فس؛ فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود وأغلال؛ فأمر بحبسهم، وأجيز في وصيف بخمسة وسبعي ألف دينار، وقلد سيفاً وكسى.
خبر الفداء بين المسلمين والروموفي هذه السنة، ثم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس.
ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر - أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب؛ فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس؛ فيمكثون إلى وقت الظهر؛ وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعاً؛ إلا أربعة نفر؛ فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه؛ وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقا بعدهم قليلاً؛ فقدم على الواثق رسل صاحب الروم - وهو ميخائيل بن توفيل بن مخائيل ابن أليون بن جورجس - يسأله أن يفادى بمن في يده من أسارى المسلمين فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء؛ وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين. ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء؛ فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذي قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزاً ولا شيخاً كبيراً ولا صبياً، فلم يزل ذلك بينهم أياماً حتى رضوا عن كل نفس بنفس. فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شرى من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن؛ حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي داود رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة وجعفر " بن أحمد " بن الحذاء؛ ووجه معهما كاتباً من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودى به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم؛ وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم؛ وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق؛ ممن فودى به ديناراً لكل إنسان من ماله حمل معهم فمضى القوم.
فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم. فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء - فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة؛ فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودى به؛ ومن لم يقل ذلك ترى في أيدي الروم؛ ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة.

قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم؛ يقال لأحدهما أنفاس وللآخر لمسنوس؛ والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس؛ فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه أن من فودى به من المسلمين من كان معهم من أهل ذمتهم أربعة آلاف وستمائة إنسان؛ منهم صبيان ونساء ستمائة؛ ومنهم من أهل الذمة أقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الأفاق.
وذكر أبو قحطبة - وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظر كم عدد الأسرى ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم - أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطينيية وغيرها؛ إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي - وكان عندهم - فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس؛ وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
وذكر محمد هذا أنه كان أسيراً في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودى به هذا الفداء، وقال: فودى بنا في يوم عاشوراء على هر يقال له اللامس، على سلوقية قريباً من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفساًً؛ النساء أزواجهن وصبيانهن ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيراً أو كبيراً، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي - وهو مخاضة - فكان هؤلاء يرسلون من هنا رجلاً وهؤلاء من هنا رجلاً، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا؛ وإذا صار الرمي إلى الرم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيهاً بالتكبير.
وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسراً على النهر، وعقد الروم جسراً؛ فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم؛ فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين امتحننا جعفر ويحيى،، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين.
قال: وكان البطريقان اللذان قدما الأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين؛ فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوماً لا يغزون حتى وصلوا إلى بلادهم ومأمنهم؛ وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس؛ ليكون عليهم الفضل استظهاراً مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحوٌ من ثلاثين رجلاً فودي بهم.
قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوماً، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة،، فأصاب الناس الثلج والمطر فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدنون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين؛ فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان؛ وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكراً فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه؛ فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
فأخذ نحواً من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس.
وفيها مات أبو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضي.
وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير إلى حرب بني نمير
فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم: حدثي أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم؛ وذكر أنه كان مع بغا بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها؛ فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلاً له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف؛ فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفاً وخمسين رجلاً، وأسر نحواً من أربعين، ثم سار إلى حظيان ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة؛ وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه؛ حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين؛ أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحاً، فسار بغا إليهم من مرأة. وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة وأرسل إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود - وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة - فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم. ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه؛ وهم يومئذ نحو ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة؛ فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحواً من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلاً، وعقروا من إبل عسكره نحواً من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.
قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعة أمير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد بن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمة الرحم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول.
فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه؛ فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا - وكانوا قد جعلوا رجّالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم - حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا،وأيقنّا بالهلكة.
قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلاً لهم بمكان من بلادهم،، فوجّه من أصحابه نحواً من مائتي فارس إليهما. قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجّهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجّهت إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه فنفخوا في صفّاراتهم؛ فلما سمعوا نفخ الصّفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر واللّه العبد، وولّوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجّالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.
قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجّالتهم كثير أحد؛ حتى قتلوا عن آخرهم؛ وأما الفرسان فطاروا هرّاباً على ظهور الخيل.

وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار؛ وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنّهب وعقر الإبل والدوابّ حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع من كان تفرّق عنه، فكرّوا على بني نمير، فهومهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السّر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بي نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان؛ فأعطاهم الأمان؛ فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.
وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له هوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حص باهلة. قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسرة وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف - وهم بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل - وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب - فقال عمارة ابن عقيل لبغا:
تركت الأعقفين وبطن قو ... وملأت السجون من القماش
فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان م1 بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحداً بعد واحد؛ فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر؛ فزعم أحمد أمه حضر ضربهم ولم يطق منهم ناطق يتوجع من الضرب؛ وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفاً، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف وقال لبغا: هذا أخبث ما كان - أصلحك الله - حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة أو خمسمائة، فلما توجع وما استغاث وذكر أن فارساً من بني نمير لقى بغا في وقعتهم التي ذكرت أمرها يدعى المجنون، فطعن بعا ورمى المجنون ورجل من الأتراك. فأفلت، وعاش أياماً ثلاثة ثم مات من رميته.
قال: ثم قدم عليه واجن الأشروسي الصغدي في سبعمائة رجل مدداً له من الأشروسية الإشتيخنية فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم؛ فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه؛ فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سراياً في محاربة من امتنع ممن قبل الأمان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم كلهم يطلب الأمان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم؛ ولم يزل مقيماً إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائة رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي العقدة من سنة اثنتين ومائتين وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به؛ فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعاً في المحرم إلى سامراً سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب. وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها ألفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ.
وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في أربعة منازل إلى الربذة، فبلغي عدة دنانير. ومات خلق كثير من العطش.
وفيها ولى محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
وفيها اشتد البرد في نيسان حتى تجمد الماء لخمس خلون منه.
ذكر خبر موت الواثقوفيها مات الواثق.
ذكر خبر عن العلة التي كانت بها وفاته

ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفى منها كانت الإستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمى عليه، فأخرج منه، وصير في محفة؛ وحضره الفضل بن اسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم؛ ثم حضر ابن الزيات وابن أبي داود، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.
وقد قيل: إن أحمد بن أبي داود حضره وقد أغمى عليه، فقضى وهو عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه. وكانت وفاته لستٍّ بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهارونيّ. وكان الذي صلّى عليه وأدخله قبره وتولّى أمره أحمد بن أبي داود؛ وكان الواثق أمر أحمد بن أبي داود أن يصلّى بالناس يوم الأضحى في المصلّى، فصلى بهم العيد؛ لأن الواثق كان شديد العلّة فلم يقدر على الحضور إلى المصلّى، ومات من علّته تلك.
ذكر الخبر عن صفة الواثق وسنه وقدر مدة خلافته ذكر من رآه وشاهده أنه كان أبيض مشرباً حمرة، جميلاً ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى؛ وفيها نكتة بياض.
وتوفّى - فيما زعم بعضهم - وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة؛ فقال الذي1 زعموا أنه كا1 اب1 ست وثلاثين: كا1 مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام. وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.
وكا1 ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد روميّة؛ يقال لها قراطيس.
واسمه هارو1 وكنيته أبو جعفر.
وذكر أنه لما اعتلّ علته التي مات فيها وسقى بطنه أمر بإحضار المنجمّين، فأحضروا؛ وكا1 ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشميّ وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزميّ المجوسيّ القطربّليّ وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علّته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهراً طويلاً، وقدّ روا له خمسين سنة مستقبلة؛ فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.
ذكر بعض أخباره ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام، وقد قعد مجلساً كان أوّل مجلس قعده؛ فكان أوّل ما تغنّى به من الغناء في ذلك المجلس؛ أن تغنّت جارية إبراهيم بن المهديّ:
ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للفناء
فليقل فيك باكياتك ما شأ ... ن صباحاً ووقت كلّ مساء
قال: فبكى واللّه وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنّا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنّى:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل!
قال: فازداد واللّه في البكاء؛ وقال: ما سمعت كاليوم قطّ تعزية بأب ونعىّ نفس؛ ثم ارفضّ ذلك المجلس.
وذكر عن عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع أن عليّ بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولى الخلافة:
قد فاز ذو الدّنيا وذو الدّين ... بدولة الواثق هارون
أفاض من عدلٍ ومن نائلٍ ... ما أحسن الدنيا مع الدين
قد عمّ بالإحسان في فضله ... فالناس في خفض وفي لين
ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثر التالي بآمين
وقال عليّ بن الجهم أيضاً فيه:
وثقت بالملك الوا ... ثق باللّه النفوس
ملكٌ يشقى به الما ... ل ولا يشقى الجليس
أنس السيف به واست ... وحش العلق النفيس
أسدٌ تضحك عن ... شدّاته الحرب العبوس
يا بني العباس يأبى اللّ ... ه إلا أن تسوسوا
فغنّت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنّت في شعر محمد بن كناسة:
فيّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها ... وقلت ما شئت غير محتشم

فغنّته الواثق؛ فاستحسنه؛ فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث فأشخصه؛ وليحمل جاريته؛ فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنّت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردّها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق:
أبت دار الأحبّة أن تبينا ... أجدّك ما رأيت لها معينا
تقطّع حسرةً من حبّ ليلى ... نفوسٌ ما أثبن ولا جزينا
فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغنّاه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث إلى ابن الزيات، فأشخص صالحاً ومعه قلم؛ فلمّا دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: بارك اللّه عليك! وبعث إلى صالح: اسم وقل قولاً يتهيأ أن تعطاه؛ فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك اللّه لأمير المؤمنين فيها. قال: قد قبلتها، يا محمد، عوّضه خمسة آلاف دينار، وسمّاها " اغتباط " فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو:
أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدّك هل رأيت لها معينا
فقال لها: بارك اللّه عليك وعلى من ربّاك؛ فقالت: يا سيّدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل إليه! فقال الواثق: يا سمّانة، الدواة؛ فكتب إلى ابن الزّيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوّضناه من ثمن اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها. قال صالح: فصرت إلى ابن الزّيات فقرّبني، وقال: هذه الخمسة الأولى؛ خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة؛ فإ سئلت، فقل: إني قبضت المال. قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض؛ فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانة: قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجربها، حتى توفى.
خلافة جعفر المتوكل على الله وفي هذه السة بويع لحعفر المتوكل على الله بالخلافة؛ وهو جعفر بن محمد بن هارون بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن على السجاد ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها حدثني غير واحد؛ أن الواثق لم توفى حضر الدار أحمد بن أبي داود وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق؛ وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه فمررت بجعفر المتوكل؛ فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم؛ ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن أبي داود الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمني ورحمة الله وبركاته! ثم غسل الواثق وصلى عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة؛ ولم يكن لقب المتوكل.
وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة؛ ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر؛ وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات؛ وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل؛ واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن أبي داود إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجوا أن يكون موافقاً حسناً إن شاء الله، وهو المتوكل على الله؛ فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، ففذت إليهم الكتب، نسخة ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمر - أبقاك الله - أمير المؤمني أطال الله بقاءه، أ يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضائه وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجري المكاتبة بينه وبينه: " من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين " ؛ فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقاً إن شاء الله.

وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشمين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل إليهم: من كان منكم مملوكاً؛ فليمض إلى أحمد بن أبي داود حتى يبيعه؛ ومن كان حراً صيرناه أسوة الجند؛ فرضوا بذلك؛ وتكلم وصيف فيهم حتى رضى عنهم؛ فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك. وبويع للتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم.
وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكراً سليماناً يسقط عليه من السماء، مكتوباً عليه " جعفر المتوكل على الله " فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيداً معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر حبس محمد بن عبد الملك الزيات وفاته
فمن ذلك ما كان من غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه إياه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه: أأما السبب في غضبه عليه؛ فإنه كان - فيما ذكر - أنّ الواثق كان استوزر محمد بن عبد الملك الزيات وفوّض إليه الأمور؛ وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكّل عليه عمر بن فرج الرّخّجّي ومحمد بن علاء الخادم؛ فكاا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كلّ! وقت؛ فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم عه أخاه الواثق ليرضّى عنه؛ فلمّا دخل عليه مكث واقفاً بين يديه مليّاً لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد؛ فلما فرغ من ظره في الكتب، التفت إليه كالمتهدّدله، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل يا أمير المؤمنين الرضّا عني، فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا، يغضب أخاه، ويسألني أن استرضيه له! اذهب فإنك إغذا صلحت رضي عنك؛ فقالم جعفر كيئباً حزيناً لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به؛ فخرج من عنده؛ فأتى عمر بن فرج ليسألخه أن يختم له صكّة ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة؛ وأخذ الصكّ، فرمى به إلى صح المسجد.
وكا عمر يجلس في مسجد؛ وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضراً، فقالم لينصرف، فقالم معه جعفر، فقال: يا أبا الوزير؛ أرأيت ما صنع بي عمر ابن فرج؟ قال: جعلت فداك! أنا زمامٌ عليه؛ وليس يختم صكّي بأرزاقي إلا بالطلب والترنّق به؛ فابعث إليّ بوكيلك؛ فبعث جعفر بوكيله؛ فدفع إليه عشرين ألفاً، وقال: أنفق هذا حتى يهيّىء اللّه أمرك؛ فأخذها ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر؛ يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم؛ ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي داود، فدخل عليه، فقالم له أحمد، واستقبله على باب البيت، وقبّله ولتزمه، وقال: ما جاء بك، جعلت فداك! قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، فكلّم أحمد بن أبي داود الواثق فيه، فوعده ولم يرض عنه؛ فلما كان يوم الحلبة كلّم أحمد بن أبي داود الواثق، وقال: معروف المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه؛ فقد كلمتك فيه، ووعدت الرضا؛ فبحقّ يا أمير المؤمنين إلاّ رضيت عنه! فرضى عنه من ساعته وكساه، وانصرف الواثق وقد قلّد أحمد بن أبي داود جعفراً بكلامه حتى رضى عنه أخوه شكراً، فأحظاه ذلك عنده حين ملك.
وذكر أنذ محمد بن عبد الملك كا كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جفعفر بن المعتصم يسألي أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عه في زيّ المخنثين له شعر قفاً. فكتب إليه الواثق: ابعث إليه فأحضره، ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. فذكر عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله، لبست سواداً لي جديداً، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنّي، فقال: يا غلام، ادع لي حجّاماً، فدعى به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السّواد الجديد. ولم يأته بمنديل؛ فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه.

قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد؛ وقد جئته فيه طامعاً في الرضا، فأخذ شعري عليه. ولما توفى الواثق أشار محمد بن عبد الملك بابن الواثق، وتكلم في ذلكوجعفر في حجرة غير الحجرة التي يتشاورن فيها، فيمن يعقدون حتى بعث إليه، فعقد له هناك؛ فكان سبب هلاك ابن الزيات.
وكان بغا الشرابي الرسول إليه يدعوه، فسلم عليه بالخلافة في الطريق، فعقدوا له وبايعوا؛ فأمهل حتى إذا كان يوم الأرعاء لسبع خلون من صفر؛ وقد عزم المتوكل على مكروه أن يناله به، أمر إيتاخ بأخذه وعذابه؛ فبعث إليه إيتاخ، فظن أنه دعى به، فركب بعد غدائه مبادراً يظن أن الخليفة دعا به، فلما حاذى منزل قيل له: اعدل إلى منزل أبي منصور،فعدل وأوجس في نفسه خيفةً؛ فلما جاء إلى الموضع الذي كان ينزل فيه إيتاخ عدل به يمنة، فأحس بالشر، ثم أدخل حجرة، وأخذ سيفه ومنطقته وقلنسوته ودراعته؛ فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم؛ انصرفوا؛ فانصرفوا لا يشكون أنه مقيم عند إيتاخ ليشرب النبيذ.
قال: وقد كان إيتاخ أعد له رجلي من وجوه أصحابه، يقال لهما يزيد ابن عبد الملك الحلواني وهرثمة شارباميان؛ فلما حصل محمد بن عبد الملك خرجا يركضان في جندهما وشاكريتهما، حتى أتيا دار محمد بن عبد الملك، فقال لهم غلمان محمد: أين تريدون؟ قد ركب أبو جعفر؛ فهجما على داره، وأخذا جميع ما فيها.
فذكر عن ابن الحلواني أنه قال: أتيت البيت الذي كان فيه محمد بن عبد الملك يجلس فيه، فرأيته رث الهيئة قليل المتاع، ورأيت فيه طنافس أربعة وقناني رطليات، فيها شراب؛ ورأيت بيتاً ينام فيه جواريه؛ فرأيت فيه بورياً ومخاد منضدة في جانب البيت؛ على أن جواريه كن يمن فيه بلا فرش.
وذكر أن المتوكل وجه في هذا اليوم من قبض ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، فصير ذلك كله في الهاروني، ووجه راشداً المغربي إلى بغداد في قبض ما هنالك من أمواله وخدمه وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأما ما كان بسامراً فحمل إلى خزائن مسرور سمانة، بعد أن اشترى للخليفة؛ وقيل لمحمد بن عبد الملك: وكل ببيع متاعك. وأتوه بالعباس بن أحمد بن رشيد كاتب عجيف، فوكله بالبيع عليه؛ فلم يزل أياماً في حبسه مطلقاً، ثم أمر بتقيده فقيد، وامتنع من الطعام؛ وكان لا يذوق شيئاً، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياماً ثم سوهر، ومنع من النوم، يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوماً وليلة، فنام وانتبه؛ واشتهى فاكهة وعنباً؛ فأتى به؛ فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد " قيام " فذكر عن ابن أبي داود وأبي الوزير أنهما قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلى به فعذب به أياماً فذكر عن الدنداي الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه؛ فيمد يديه إلى السماء جميعاً حتى يدق موضع كتفيه؛ ثم يدخل التنور فيجلس، والتور فيه مسامير حديد في وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب؛ إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجئ الموكل به؛ فإذا هو سمع صوت الباب يفنح قام قائماً كما كان؛ ثم شدوا عليه.
قال المعذب له: خاتلته يوماً، وأريته أني أقفلت الباب ولم أقفله؛ إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلاً، ثم دفعت الباب غفلة؛ فإذا هو عاقد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه؛ فما مكث بعد ذلك إلا أياماً حتى مات.
واختلف في الذي قتل به، فقيل: بطيح، فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلت فضرب على استه مثلها؛ فمات وهو يضرب؛ وهم لا يعلمون، فأصبح ميتاً قد التوت عنقه، ونتف لحيته. وقيل: مات بغير ضرب.
وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه إلا رغيفاً واحداً؛ وكان يأكل العنبة والعنبتين.

قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك؛ لم يقعك النعمة والدواب الفرة والدار الظيفة والكسوة الفاخرة؛ وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على فسه؛ فلما كان قبل موته بيوم؛ ذهب عنه عتاب نفسه؛ فكا لا يزيد على التشهد وذكر الله؛ فلما مات أحضر ابناه سليمان وعبيد الله - كانا مجوسين - وقد طرح على باب من خشب في قميصه الذي حبس فيه؛ وقد اتسخ فقالا: الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق؛ فدفعت جثته إليهما، فعسلاه على الباب الخشب، ودفناه وحفرا له، فلم يعمقا؛ فذكر أن الكلاب نبشته؛ وأكلت لحمه.
وكان إبراهيم بن العباس على الأهواز، وكان محمد بن عبد الملك له صديقاً، فوجه إليه محمد أحمد بن يوسف أبا الجهم، فأقامهللناس فصالحه عن نفسه بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقال إبراهيم:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا عدت حرباً عوانا
وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وقال:
أصبحت من رأى أبى جعفر ... في هيئة تذر بالصليم
من غير ما ذنب ولكنها ... عداوة الزندق للمسلم
وأحدر بعد ما قبض عليه مع راشد المغربي إلى بغداد، لأخذ ماله بها، فوردها، فأخذ روحاً غلامه وكان قهرمانه في يده أمواله يتجر بها، وأخذ عدة من أهل بيته، وأخذ معهم حمل بغل، ووجدت له بيوت فيها أنواع التجارة من الحنطة والشعير والدقيق والحبوب والزيت والزبيب والتين وبيت مملوء ثوماً، فكان جميع ما قبض له مع قيمته تسعين ألف دينار، وكان حبس المتوكل إياه يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر ووفاته يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع الأول.
ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرجوفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج؛ وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى أسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله؛ فلم يجد فيه إلا خمسة عشر ألف درهم، وحضر مسرور سمانة، فقبض جواريه، وقيد عمر ثلاثين رطلاً، وأحضر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملاً، كرت مراراً، وألبس فرجية صوف وقيد فمكث بذلك سبعاً، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله، ففتشوا وكن مائة جارية؛ ثم صولح على عشرة آلاف درهم، على أن يرد عليه ما حيز عنه ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبة الصوف والقيد؛ وذلك في شوال.
وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرضه على عمر بن فرج:
أبلغ نجاحاً فتى الكتاب مألكةً ... تمضى بها الريح إصداراً وإيراد
لا يخرج المال عفواً من يدي عمر ... أو يغمد السيف في فوديه إغمادا
الرخجيون لا يوفون ما وعدوا ... والرخجيات لا يخلفن معادا
وقال أيضاً يهجوه:
جمعت أمرين ضاع الحزم بيهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك
أردت شكراً بلا بر ومرزئةٍ ... لقد سلكت سبيلاً غير مسلوك
ظننت عرضك لم يقرع بقارعة ... وما أراك على حالٍ بمتروك
وفي هذه السنة أمر المتوكل بإبراهيم بن الجنيد النصراني، أخى أيوب كاتب سماة فضرب له بالأعمدة حتى أقر بسبعين ألف دينار، فوجه معه مباركاً المغربي إلى بغداد حتى استخرجها من منزله، وجئ به فحبس.
ذكر غضب المتوكل على أبي الوزير وغيرهوفيها غضب المتوكل على أبي الوزير في ذي الحجة، وأمر بمحاسبته، فحمل نحواً من ستين ألف دينار، وحمل بدور دراهم وحلياً، وأخذ له من متاع اثنين وستين سفطاً واثنين وثلاثين غلاماً وفرشاً كثيراً، وحبس بخيانته محمد بن عبد الملك أخا موسى بن عبد الملك والهيثم بن خالد النصراني وابن أخيه سعدون بن علي، وصولح سعدون على أربعين ألف دينار؛ وأخذت ضياعهم ابنا أخيه عبد الله وأحمد على نيف وثلاثين ألف دينار؛ وأخذت ضياعهم بذلك.

وفي هذه السنة استكتب المتوكل محمد بن الفضل الجرجرائي.
وفي هذه السنة عزل المتوكل يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضا عن ديوان الخراج الفضل بن مروان، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني ولى الأزد وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا اليوم ديوان زمام النفقات وعزل عنه أبا الوزير.
وفيها ولى المتوكل ابنه محمداً المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وفيها فلج أحمد بن أبي داود لست خلون من جمادى الآخرى وفيها قدم يحيى بن هرثمة مكة وهو الي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضي بن موسى بن جعفر من المدينة.
وفيها وثب ميخائيل بن توفيل على أمة تذورة فشمسها وأدخلها الدير وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به؛ وكان ملكها ست سنين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث
فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس؛ جئ به أسيراً من قبل أذربيجان فحبس.
ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة؛ وكان مع ابن البعيث رجلٌ يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، وأعد له دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه منها مرند - وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر - ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخاً من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماء قاتم ثم يركب الناس من أطراف المراغة إلى أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير.
وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحواً من ثلاثين كفيلاً، منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني؛ فكان يتردد بسامراً؛ فهرب إلى مرند، فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء؛ فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كل ناحية؛ من ربيعة وغيرهم؛ فصار في نحو من أفين ومائتي رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان، ووجهه من سامراً على البريد، فلما صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث، فألجأه إلى مدينة مرند - وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها - وقد جمع فيه ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك؛ فلم يصنع شيئاً فوجه إليه المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئاً، فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما حولها من الشجر، فقطعوا نحواً من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض، ونصبوا عليها عشرين منجنيقاً،وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه؛ ونصب عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك؛ وكان معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائة رجل، وجرح نحو من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك.
وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه؛ وكان السور من قبل المدينة ذليلاً، ومن القرار نحواً من عشرين ذراعاً، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون؛ فإذا حمل عليهم من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط؛ وكانوا ربما فتحوا باباً يقال له باب الماء؛ فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون.

ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث - فيما ذكر - عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا وينزل على حكم أمير المؤمنين؛ وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحداً، ومن نزل فله الأمان؛ وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ؛ فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث على أخته أبو الأغر.
وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هارباً يريد أن يخرج من وجه آخر؛ فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه؛ وهو راكب دابةً، يريد أن يصير إلى نهر عليه رحاً ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيراً وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعدما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات وخالته والبواقي سراري؛ فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة، وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحوٌ من مائتي رجل، وهرب الباقون؛ فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا الشرابي بالفتح لنفسه.
وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى.
ذكر الخبر عن حج إيتاخ وسببهوحجّ في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على المنابر.
ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة: ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق؛ حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم؛ وكان من قبله رجل، ومن قبل إسحاق رجل؛ وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ يقتل، وبيده يحبس؛ منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم؛ فلما ولى المتوكل كان إيتاخ في مرتبته؛ إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة؛ فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ بقتله؛ فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامراً دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيّره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه، وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير؛ فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة.
وقد قيل إن هذه القصة من أمر إيتاخ كانت في سة ثلاث وثلاثين ومائتين وإن المتوكل إنما صيّر إلى وصيف الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مقتل إيتاخ
فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري.
ذكر الخبر عن صفة مقتله ذكر عن إيتاخ أنه لما اصرف من مكة راجعاً إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه؛ وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز. قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن ابراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك. فركب فاستقبله؛ فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل.

قال: وكان إيتاخ في ثلثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلداً سيفاً بحمائل، فسارا جميعاً؛ حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ: تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه؛ حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه؛ ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك. قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصيّر معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدّم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سلمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد. وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد؛ فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر.
وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك؛ فكنت أدفع عنك ما أمكنني؛ فلينفعني ذلك عندك؛ أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء؛ فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان؛ فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصيّر لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه. قال: ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: مالك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي إيتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً وكوزاً من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف؛ فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما؛ فأما إيتاخ فقيد وصيّر في عنقه ثمانون رطلاً، وقيدّ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر.
وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشاً، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما؛ فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات؛ وأما منصور فعاش بعده.
ذكر خبر أسر ابن البعيث وموتهوفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد - وكانا نزلا بأمان - وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء؛ خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلاً، ومات باقيهم قبل أن يصلوا؛ فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديداً.
فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتى المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه؛ وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك؛ وهو العفو؛ ثم اندفع بلا فضل، فقال:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
هل أنا إلا جبلةٌ من خطيةٍ ... وعفوك من نور النبوة يجبل
فإنك خير السابقين إلا العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل
قال علي: ثم التفت إلى المتوكل، فقال: إن معه لأدباً، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك؛ فقال: ارجع إلى منزلك.
وحدثني... أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعاراً لابن البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخباراً وأحاديث.

وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتى بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز؛ وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
وكان ابن البعيث حين هرب قال:
كم قد قضيت أموراً كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسرٍ وفي يسرٍ ... إن الجواد الذي يعطي على العدم
وكان ابن البعيث حين هرب خلّف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم: البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث - ومات بعد دخوله سامرا بشهر - في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالةٌ لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحاً من يومها، وبقي الباقون في الحبس.
وذكر أن ابن البعيث صيّر في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوباً على وجهه حتى مات.
ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوساً بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصيّر بنوه: حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكرية مع عبيد الله بن خاقان، وأجريت عليهم الأنزال.
أمر المتوكل مع النصارىوفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالفٌ لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه؛ وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره؛ وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسلياً، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعاً صيّر مسجداً، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجداً صيّر فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة؛ تفريقاً بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليباً، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
وكتب إلى عماله في الآفاق:

بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد؛ اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرءاً من الشبهات، معصوماً من الآفات، محبواً بمناقب الخير، مخصوصاً من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها؛ وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرّم عليهم من حرامه؛ وبيّن لهم من شرائعه وأحكامه، وحدّ لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ، وقال فيما حرم على أهله مما غمط فيه أهل الأديان من ردىء المطعم والمشرب والمنكح ليزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلاً: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة ... " إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرّم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه؛ ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم ... " الآية، وقال عز وجل: " حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ... " وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان... " الآية، فحرّم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزراً، وأولاها عند ذوي الحجمى والألباب تحريماً، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات؛ فحعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق؛ ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم؛ بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه؛ فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرّم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه؛ حتماً ومشيئةً منه في إظهار حقه ماضية، وإرادةً منه في إتمام نعمته على أهله نافذة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة " ، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.

وقد رأى أمير المؤمنين - وبالله توفيقه وإرشاده - أن يحمل أهل الذمة جميعاً بحضرته وفي نواحي أعماله ؛ أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها؛ من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبراً تاماً في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وأن يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس؛ ترتفع في أماكنها التي يقع بها، لئلا تلصق فتستسر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى؛ وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكرٍ على قرابيسها؛ تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخّص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها؛ بل يتفقد ذلك منهم؛ ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهراً يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمين في ذلك إيعازاً تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهاناً وميلاً، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره؛ ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين وأمره، وأنفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه؛ حفظاً يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده؛ إنه كريم رحيم.
وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين.
فقال علي بن الجهم:
العسليات التي فرقت ... بين ذوي الرشدة والغي
وما على العاقل إن تكثروا ... فإنه أكثر للفي
ظهور محمود بن الفرج النيسابوريوفي هذه السنة ظهر بسامرا رجلٌ يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلاً عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين؛ فأتى به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط؛ فضرب ضرباً شديداً، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه؛ وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطاً، فأنكر نبوته حين ضرب. وحُمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه؛ كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وأن جبريل عليه السلام كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنة ودفن في الجزيرة.
ذكر عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثةوفي هذه السنة عقد المتوكل لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة - ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل: اسمه الزبير ولقبه المعتز - ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك - فيما قيل - يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة - وقيل لليلتين بقيتا منه - وعقد لكل واحد منهم لواءين؛ أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره.

فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشأمية والجزرية وديار مضر وديار ربيعة والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكور باجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضرموت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامر وماه الكوفه وماه البصرة وماسبذان ومهرجان قذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقمّ وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة.
وكان ما ضمّ إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وإرمينية وأذربيجان وكور فارس. ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم. وكان ما ضم إلى ابنه الؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغص الأعرابي:
إن ولاه المسلمين الجله ... محمد ثم أبو عبد الله
ثمت إبراهيم آبى الذله ... بورك في بني خليفة الله
وكتب بينهم كتاباً نسخته: هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبيد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله؛ بني أميرالمؤمنين؛ في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه؛ مختاراً لما شهد به، متوخياً بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها؛ وصلاح ذات بينها؛ وذلك في ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين ومائتين " أنه جعل " ؛ إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده؛ وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها؛ فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم. وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين.
وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدواً، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده.

وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، والإتمام على ذلك، وألا يخلعها ولا واحداً منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدماً، ولا يقدم منهما مؤخراً، ولا ينقصهما ولا واحداً منهما شيئاً من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما؛ من الصلاة والمعاون والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما؛ من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحداً من احيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شئ من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف؛ وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة؛ ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضاً لشئ منه.
وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضياً به ممضياً له؛ مقدماً ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذي يبدلونه إن الله سميع عليم " على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، الأمان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه؛ أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالهما المتصلة بها والمضمومة إليها؛ ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشأم وأجنادها؛ فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أ يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالهما المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شئ من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وأن يعجل إشخاصه إليها والياً عليها وعلى جميع أعمالها، مفرداً بها مفوضاً إليه أعمالها كلها؛ لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحداً، ولا يشرك في شئ من أعماله أحداً، ولا يوجه عليه أميناً ولا كتاباً ولا بريداً، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير.

وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشأم وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولا دهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحداً، ويسلم إليه ولايتها دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشأم وأجنادها والياً عليها، ولا ينقله عنها؛ وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالهما على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب.
ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين - إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم الشام - أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كا غائباً عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشأم، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها،، ولا يعوّقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجّل إشخاصه إليها والياً عليها وعلى جميع أعمالها؛ على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد اللّه المعتز باللّه ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر باللّه ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها؛ على ما رسم ووصف وشرط في شرط في هذا الكتاب؛ لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط؛ من محمد المنتصر باللّه، وأبى عبد اللّه المعتزّ باللّه، وإبراهيم المؤيد باللّه؛ بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئاً مما اشترطا في هذا الكتاب، ووكّدنا، وعليهم جميعاً الوفاء به؛ لا يقبل اللّه منهم إلاّ ذلك، ولا التمسّك إلا بعهد اللّه فيه؛ وكان عهد اللّه مسؤلاً.
أشهد اللّه ربّ العالمين جعفر الإمام المتوكل على اللّه أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في الكتاب على إمضائه إياه؛ على محمد المنتصر باللّه، وأبي عبد اللّه المعتز باللّه، وإبراهيم المؤيد باللّه، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمّي ووصف فيه، وكفى باللّه شهيداً ومعيناً لمن أطاعه راجياً، ووفىّ بعهده خائفاً وحسيباًُ؛ ومعاقباً من خالفه معانداً، أو صدف عن أمره مجاهداً.
وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كلّ نسخة منها؛ في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد اللّه المعتز باللّه ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد باللّه ابن أمير المؤمنين.
وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على اللّه أبا عبد اللّه المعتز باللّه ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وإرمينية وأذربيجان إلى مايلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتّصلة بها والمضمونة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر باللّه ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه، والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه وسائر من يستعين به من الناس جميعاً في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمّي ووصف في هذا الكتاب.
وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة: المنتصر، والمعتزّ، والمؤيد:
أضحت عرى الإسلام وهي منوطةٌ ... بالنّصر والإعزاز والتأييد
بخليفة من هاشمٍ وثلاثةٍ ... كنفوا الخلافة من ولاة عهود
قمرٌ توالت حوله أقماره ... يكنفن مطلع سعده بسعود
كنفتهم الآباء واكتنفت بهم ... فسعوا بأكرم أنفس وجدود
وله في المعتزّ باللّه:
أشرق المشرق بالمع ... تزّ باللّه ولاحا
إنما المعتز طيبٌ ... بثّ في الناس ففاحا
وله أيضاً:
اللّه أظهر دينه ... وأعزّه بمحمد
واللّه أكرم بالخلا ... فة جعفر بن محمد
واللّه أيّد عهده ... بمحمدٍ ومحمد
ومؤيّد لمؤيدين ... إلى النبيّ محمّد

وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة، وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه. وصيّر ابنه مكانه، وكسى خمس خلع، وقلّد سيفاً، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتزّ لعيادته مع بغا الشرابيّ وجماعة من القواد والجند.
وذكر أن ماء دجلة تغيّر في هذه السنة إلى الصّفرة ثلاثة أيام، ففرح الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة.
وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من بعض النواحي؛ وكان - فيما ذكر - قد جمع قوماً، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

خبر مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب
فمن ذلك ما كان من مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، أخي إسحاق بن إبراهيم بفارس.
ذكر الخبر عن مقتله وكيف قتل حدّثني غير حد، عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم؛ أن أباه إسحاق بلغه عنه أنه أكول لا يملأ جوفه شيء، وأنه أمر باتخاذ الطعام والأكثار منه؛ ثم أرسل إليه فدعاه؛ ثم أمره أن يأكل، وقال له: إني أحب أن أرى أكلك فأكل وأكثر حتى عجب إسحاق منه ثم قدم إليه بعد ما ظنّ أنه شبع وامتلأ من الطعام حملٌ مشويّ، فأكل منه حتى لم يبق منه إلا عظامه؛ فلما فرغ من أكله، قال: يا بنيّ، مال أبيك لا يقوم بطعام بطنك؛ فالحق أمير المؤمنين؛ فإنّ ماله أحمل لك من مالي. فوجّهه إلى الباب وألزمه الخدمة، فكان في خدمة السلطان حياة أبيه، وخليفة أبيه ببابه، حتى مات أبوه إسحاق؛ فعقد له المعتز على فارس، وعقد له المنتصر على اليامة والبحرين وطريق مكة، في المحرم من هذه السنة، وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها، وزاده المنتصر ولاية مصر؛ وذلك أنه كان - فيما ذكر - حمل إلى المتوكل وأولياءه عهده مما كان في خزائن أبيه من الجواهر والأشياء النفسية ما حظي به عندهم، فرفعوه ورفعوا مرتبته. فلما بلغ محمد بن إبراهيم ما فعل بابن أخيه محمد بن إسحاق تنكر للسلطان، وبلغ المتوكل عنه أمور أنكرها، فأخبرني بعضهم أن تنكر محمد بن إبراهيم إنما كان لابن أخيه محمد بن إسحاق، واعتلاله عليه بحمل خراج فارس إليه. وإن محمداً شكا إلى المتوكل ما كان من تنكر عمه محمد بن إبراهيم في ذلك، فبسط يده عليه، وأطلق له العمل فيه بما أحب، فوفى محمد بن إسحاق الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فارس، وعزل عمه، وتقدم محمد إلى الحسين بن إسماعيل في قتل عمه محمد بن إبراهيم؛ فذكر أنه لما صار إلى فارس أهدى إليه في يوم النيروز هدايا؛ فكان فيما أهدى إليه حلواء، فأكل محمد بن إبراهيم منها ثم دخل الحسين بن إسماعيل عليه، فأمر بإدخاله إلى موضع آخر وإعادة الخلواء عليه، فأكل أيضاً منها، فعطش فاستسقى، فمنع الماء، ورام الخروج من الموضع الذي أدخل إليه؛ فإذا هو محبوس لا سبيل له إلى الخروج؛ فعاش يومين وليلتين، ومات. فحمل ماله وعياله إلى سامراً على مائة جمل. ولما ورد نعى محمد بن إبراهيم على المتوكل أمر بالكتاب فيه إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بالتعزية فكتب: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يوجب لك مع كل فائدة ونعمة تهنئتك بمواهب الله وتعزيتك عن ملمات أقداره؛ وقد مضى الله في محمد بن إبراهيم مولى أمير المؤمنين ما هو قضاؤه في عباده؛ حتى يكون الفناء لهم والبقاء له. وأمير المؤمنين يعزيك عن محمد بما أوجب الله لمن عمل بما أمره به في مصائبه؛ من جزيل ثوابه وأجره؛ فليكن الله وما قربك منه أولى بك في أحوالك كلها؛ فإن مع شكر الله مزيده، ومع التسليم لأمر الله رضاه؛ وبالله توفيق أمير المؤمنين. والسلام.
ذكر خبر وفاة الحسن بن سهل

وفي هذه السنة توفي الحسن بن سهل في قول بعضهم في أول ذي الحجة منها، وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه. وذكر عن القاسم بن أحمد الكوفي، أنه قال: كنت في خدمة الفتح بن خاقان في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان الفتح يتولى للمتوكل أعمالاً، منها أخبار الخاصة والعامة بسامراً والهاروني وما يليها؛ فورد كتاب إبراهيم بن عطاء المتولي الأخبار بسامراً يذكر وفاة الحسن بن سهل، وأنه شرب شربة دواء في صبيحة يوم الخميس لخميس ليال بقين من ذي العقدة من سنة خمس وثلاثين ومائتين أفرطت عليه، وأنه توفى في هذا اليوم وقت الظهر، وأن المتوكل أمر بتجهيز جهازه من خزائنه. فلما وضع على سريره تعلق به جماعة من التجار من غرماء الحسن بن سهل، ومنعوه من دفنه، فتوسط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتاب ورجل يعرف ببرغوث؛ فقطعوا أمرهم، ودفن. فلما كان من الغد ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم بعد الظهر يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع عليه المتوكل جزعاً، وقال: تبارك الله وتعالى! كيف توافيت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد! ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه؛ فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق؛ فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه؛ وحرث ذلك الموضع، وزرع ما حواليه.
وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيي بن خاقان، وصرف محمد بن الفضل الجرجرائي.
وفيها حج محمد المنتصر، وحجت معه جدته شجاع أم المتوكل، فشيعها المتوكل إلى النجف.
وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي الكبح فجاءة، ذكر أن فارس بن بغا الشرابي وهو خليفة أبيه، عقد لأبي سعيد هذا، وهو مولى طيء على أذربيجان وأرمينية، فعسكر بالكرخ؛ كرخ فيروز؛ فلما كان لسبع بقين من شوال وهو بالكرخ مات فجاءة، لبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه فسقط ميتاً، فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان أبوه وليه من الحرب، وولاه بعد ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الاحية فضبطها ووجه عماله في كل ناحية. وحج المتوكل بالناس في هذه السنة المنتصر محمد بن جعفر المتوكل.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر وثوب أهل إرمينية بعاملهم يوسف بن محمد
فمن ذلك ما كان من وثوب أهل إرمينية بيوسف بن محمد فيها ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به

قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب استعمال المتوكل يوسف بن محمد هذا إياه على إرمينية؛ فأما سبب وثوب أهل إرمينية به؛ فإنه كان - فيما ذكر أنه لما صار إلى عمله من إرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط؛ وكان يقال له بطريق البطارقة، يطلب الإمارة؛ فأخذه يوسف بن محمد، وقيده وبعث به إلى باب الخليفة، فأسلم بقراط وابنه؛ فذكر أن يوسفلما حمل بقراط بن أشوط اجتمع عليه ابن بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة إرمينية، وكان الثلج قد وقع في المدينة التي فيها يوسف؛ وهي - فيما قيل - طرون؛ فلما سكن الثلج أناخوا عليها من كل ناحية، وحاصروا يوسف ومن معه في المدينة، فخرج يوسف إلى باب المدينة، فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه؛ فأما من لم يقاتل معه؛ فإنهم قالوا له: ضع ثيابك، وانج عرياناً فطرح قوم منهم كثير ثيابهم، ونجوا عراة حفاة، فمات أكثرهم من البرد، وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا؛ وكانت البطارقة لما حمل يوسف بقراط بن أشوط تحالفوا على قتله، وذروا ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو على ابنه بقراط، فنهى سوادة بن عبد الحميد الحجافي يوسف بن أبي سعيد عن المقام بموضعه، وأعلمه بما أتاه من أخبار البطارقة، فأبى أ يفعل، فوافاه القوم في شهر رمضان، فأحدقوا بسور المدينة والثلج ما بين عشرين ذراعاً إلى أقل حول المدينة إلى خلاط إلى دبيل، والدنيا كلها ثلج وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله، فتوجه إلى كل ناحية منها قوم من أصحابه، فوجه إلى كل طائفة منهم من البطارقة، ممن معهم جماعة، فقتلوهم في يوم واحد، وكانوا قد حاصروه في المدينة أياماً، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل، فوجه المتوكل بغا الشرابي إلى إرمينية طالباً بدم يوسف، فشخص إليها من ناحية الجزيرة، فبدأ بأرزون بموسى بن زرارة، وهو " أبو الحر " وله أخوة: إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى باب الخليفة، ثم سار فأناخ بجبل الخويثية؛ وهم جمة أهل إرمينية، وقتلة يوسف بن محمد، فحاربهم فظفر بهم، فقتل زهاء ثلاثين ألفاً، وسبي منهم خلقاً كثيراً، فباعهم بإرمينية، ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس وهو صاحب الباق - والباق من كور البسفرجان وبني النشوى، ثم سار إلى مدينة دبيل من إرمينية،،، فأقام بها شهراً، ثم سار إلى تفليس.
وفي هذه السنة ولى عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد. وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولى الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد.
وفيها عزل المتوكل محمد بن أحمد بن أبي داود عن المظالم، وولاها محمد ابن يعقوب المعروف بأبي الربيع.
وفيها رضى عن ابن أكثم، وكان ببغداد فأشخص إلى سامراً، فولى القضاء على القضاة، ثم ولى أيضاً بالمظالم، وكان عزل المتوكل محمد بن أحمد ابن أبي داود عن مظالم سامراً لعشر بقين من صفر من هذه السنة.
ذكر غضب المتوكل على ابن أبي داودوفيها غضب المتوكل على ابن أبي داود؛ وأمر بالتوكل على ضياع أحمد ابن أبي داود لخمس بقين من صفر، وحبس يوم لثلاث خلون من شهر ربيع الأول ابنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود في ديوان الخراج، وحبس إخوته عند عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة،، فلما كان يوم الإثنين حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف درهم، وأشهد عليهم جميعاً ببيع كل ضيعة لهم؛ وكان أحمد بن أبي داود قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان، أمر المتوكل بولد أحمد بن أبي داود، فحدروا إلى بغداد، فقال أبو العتاهية:
لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد ... وكان عزمك عزماً فيه توفيق
لكان في الفقه شغلٌ لو قنعت به ... عن أن تقول: كلام الله مخلوق
ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
وأقيم فيها الخلنجي للناس في جمادى الآخرة.
وفيها ولى ابن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما أعور، فقال الجماز

رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قداً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد وضعت عليه دناً ... فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيي ... إذ افتتح القضاء بأعورين
خبر إنزال جثة ابن نصر ودفعه إلى أوليائهوفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه.
ذكر خبر عما فعل به وما كان من الأمر بسبب ذلك ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جتثه إلى أوليائه لدفنه، فعل ذلك، فدفع إليهم؛ وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، وفذت كتبه بذلك إلى الآفاق وهم بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة، وكثروا وتكلموا، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم نصر من الليث، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم وحبسهم وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من أطلقوا؛ فلما دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الذي ذكرت حمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، وغسل ودفن، وضم رأسه إلى بدنه، وأخذ عبد الرحمن بن حمزة جسده في منديل مصري، فمضى به إلى منزله، فكفنه وصلى عليه، وتولى إدخاله القبر مع بعض أهله رجلٌ من التجار، ويقال له الأبرازي فكتب صاحب البريد ببغداد - وكان يعرف بابن الكلبي، من موضع بناحية واسط، يقال له الكلبانية - إلى المتوكل بخبر العامة، وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة؛ جنازة أحمد بن نصر وبخشبة رأسه؛ فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: كيف دخل ابن الأبرازي القبر على كبرة خزاعة! فقال: يا أمير المؤمنين، كان صديقاً له. فأمر المتوكل إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر بمنع العامة من الإجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه؛ وكان بعضهم أوصى ابنه عند موته أن يرهب العامة؛ فكتب المتوكل ينهى عن الإجتماع.
وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأزمتي.
وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان والي مكة.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل وإحراقه مدينة تفليس
فمن ذلك ما كان من ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس وإحراقه مدينة تفليس.
ذكر الخبر عما كان من بغا في ذلك ذكر أن بغا لما صار إلى دبيل بسبب قتل القاتلين من أهل إرمينية يوسف ابن محمد، أقام بها شهراً؛ فلما كان يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وجه بغا زيرك التركي، فجاوز الكر - وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر، وهو ما بين المدينة وتفليس في الجانب الغربي وصغدبيل في الجانب الشرقي - وكان معسكراً بغا في الشرقي، فجاوز زيرك الكر إلى مدينة تفليس، ولتفليس خمسة أبواب: باب الميدان، وباب قريس، وباب الصغير، وباب الربض، وباب صغدبيل - والكر نهر ينحدر مع المدينة - ووجه أيضاً أبا العباس الواثي النصراني إلى أهل إرمينية عربها وعجمها، فأتاهم زيرك مما يلي الميدان وأبو العباس مما يلي باب الربض، فخرج إسحاق بن إسماعيل إلى زيرك، فناوشه القتال، ووقف بغا على تل مطل على المدينة مما يلي صغدبيل؛ لينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس، فبعث بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار؛ وهي من خشب الصنوبر، فهاجت الريح في الصنوبر، فأقبل إسحاق بن اسماعيل إلى المدينة لينظر؛ فإذا النار قد أخذت في قصره وجواريه، وأحاطت به النار؛ ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيراً، وأخذوا ابنه عمراً، فأتوا بهما بغا، فأمر بغا به، فرد إلى باب الحسك، فضربت عنقه هناك صبراً، وحمل رأسه إلى بغا، وصلبت جيفته على الكر؛ وكان شيخاً محدوداً ضخم الرأس، يخضب بالوسمة، آدم أصلع أحول؛ فنصب رأسه على باب الحسك.

وكان الذي تولى قتله غامش خليفة بغا، واحترق في المدينة نحو من خمسين ألف إنسان، وأطفئت النار في يوم وليلة؛ لأنها نار الصنوبر، لا بقاء لها، وصبحهم المغاربة، فأسروا من كان حياً، وسلبوا الموتى. وكانت امرأة إسحاق نازلةً بصغدبيل، وهي حذاء تفليس في الجانب الشرقي، وهي مدينة بناها كسرى أنوشروان؛ وكان إسحاق قد حصنها وحفر خندقها، وجعل فيها مقاتلة من الخويثية وغيرهم. وأعطاهم بغا الأمان على أن يضعوا أسلحتهم، ويذهبوا حيث شاء. وكات امرأة إسحاق ابنة صاحب السرير.
ثم وجه بغا - فيما ذكر - زيرك إلى قلعة الجردمان - وهي بين برذعة وتفليس - في جماعة من جنده، ففتح زيرك الجردما، وأخذ بطريقها القطريج أسيراً، فحمله إلى العسكر. ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف بن أخت اصطفانوس؛ وهو في قلعة كثيش من كورة البيلقان، وبينها وبين البيلقان عشرة فراسخ، وبينها وبين برذعة خمسة عشر فرسخاً، فحاربه، ففتحها، وأخذه وحمله وحمل ابنه معه وأباه، وحمل أبا العباس الواثي - واسمه سنباط بن أشوط - وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق أران، وحمل آذر نرسى بن إسحاق الخاشني.
ذكر مقدم الروم بمراكبهم إلى دمياطوفي هذه السنة جاءت للروم ثلثمائة مركب مع عرفا وابن قطوا وأمرداقه - وهم كانوا الرؤساء في البحر - مع كل واحد منهم مائة مركب، فأاخ ابن قطونا بدمياط، وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون فيها الماء إلى صدر الرجل؛ فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر؛ فجازها قوم فسلموا، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان؛ واحتمل من كانت له قوة في السفن؛ فنجوا إلى ناحية الفسطاط، وبينها وبين الفسطاط مسيرة أربعة أيام. وكان والي معونة مصر عبسة بن إسحاق الضبي، فلما قرب العيد ، أمر الجند الذي بدمياط أن يحضروا الفسطاط لتحمل لهم في العيد، وأخلى دمياط من الجند؛ فانتهى مراكب الروم من ناحية شطا التي يعمل فيها الشطوي، فأناخ بها مائة مركب من الشلندية؛ تحمل كل مركب ما بين الخمسين رجلاً إلى المائة؛ فخرجوا إليه وأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها وأخصاصها، واحتملوا سلاحاً كان فيها أرادوا حمله إلى أبي حفص صاحب أقريطش نحواً من ألف قناة وآلتها، وقتلوت من أمكنهم قتله من الرجال، وأخذوا من الأمتعة والقند والكتان ما كان عبئ ليحمل إلى العراق، وسبوا من المسلمات والقبطيات نحواً من ستمائة امرأة؛ ويقال إن المسلمات منهن مائة وخمس وعشرون امرأة والباقي من نساء القبط.
ويقال إن الروم الذين كانوا في الشلنديات التي أناخت بدمياط كانوا نحواً من خمسة آلاف رجل، فأوقروا سفنهم من المتاع والأموال والنساء، وأحرقوا خزانة القلوع وهي شرع السفن، وأحرقوا مسجد الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس؛ وكان من حزر منهم ممن غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممن سباه الروم. ثم رحل الروم عنها.
وذكر أن ابن الأكشف كان محبوساً في سجن دمياط، حبسه عنبسة، فكسر قيده وخرج؛ فقاتلهم، وأعانه قوم، فقتل من الروم جماعة، ثم صاروا إلى أشتوم تنيس، فلم يحمل الماء سفنهم إليها، فخشوا أن توحل؛ فلما لم يحملهم الماء صاروا إلى أشتومها - وهي مرسى بينه وبين تنيس أربعة فراسخ وأقل، وله سور وباب حديد كان المعتصم أمر بعمله - فخربوا عامته، وأحرقوا ما فيه من المجانيق والعرادات، وأخذوا بابيه الحديد؛ فحملوهما، ثم توجهوا إلى بلادهم، لم يعرض لهم أحد.
وخرج المتوكل في هذه السنة يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة من سامرا يريد المدائن، فصار إلى الشماسية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فأقام هنالك إلى يوم السبت، وعبر بالعشي إلى قطربل، ثم رجع ودخل بغداد يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت منه فمضى في سوقها وشارعها حتى نزل الزعفرانية، ثم صار إلى المدائن.
وغزا الصائفة فيها علي بن يحيى الأرمني.
وحجّ بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر .
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها، ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين.
وفيها في المتوكل علي بن الجهم بن بدر إلى خراسان.

وفيها قتل صاحب الصناريه بباب العامة في جمادى الآخرة منها.
وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام.
وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود ببغداد في ذي الحجة. وفيها غزا الصائفة على بن يحيى الأرمني.
وحج بالناس فيها عبد الله بن محمد بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، وكان والي مكة.
وفيها حج جعفر بن دينار؛ وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة فولى أحداث الموسم.
وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز؛ وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي العقدة، فذكر أن النصارى زعمت أنهما لم يجتمعا في الإسلام قط.
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وثوب أهل حمص بعاملهم
فما كان فيها من ذلك وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل إليه أمرهم ووثوبهم ذكر أن عاملهم على المعونة قتل رجلاً كان من رؤسائهم؛ وكان العامل يومئذ أبو المغيث الرافعي موسى بن إبراهيم ، فوثب أهل حمص في جمادى الآخرة من هذه السنة، فقتلوا جماعة من أصحابه، ثم أخرجوه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم؛ فبلغ ذلك المتوكل؛ فوجه إليهم عتاب بن عتاب، ووجه معه محمد بن عبدويه كراديس الأنباري، وأمره أن يقول لهم: إن أمير المؤمنين قد أبد لكم رجلاً مكان رجل؛ فإن سمعوا وأطاعوا ورضوا؛ فول عليهم محمد بن عبدويه؛ وإن أبوا وثبتوا على الخلاف فأقم بمكانك، واكتب إلي أمير المؤمنين حتى يوجه إليك رجاء، أو محمد بن رجاء الحضاري أو غيره من الخيل لمحاربتهم؛ فخرج عتاب بن عتاب من سامراً يوم الإثنين لخمس بقين من شهر جمادى الآخرة، فرضوا بمحمد بن عبدويه، فولاه عليهم ففعل فيهم الأعاجيب.
وفيها مات أحمد بن أبي داود ببغداد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد محمد؛ وكان ابنه محمد توفي قبله بعشرين يوماً في ذي الحجة ببغداد.
وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر، وقبض منه ما كان له ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، ومن أسطوانة في داره ألفاً دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة.
وفيها ولى جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي القضاء على القضاة في صفر.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن محمد بن داود وحج بن دينار وهو والي الأحداث بالموسم.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وثوب أهل حمص بعاملهم مرة أخرى
فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة؛ وهو محمد ابن عبدويه.
ذكر الخبرعما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم

ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرى من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي؛ وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف؛ فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنساناً فيضربهم ثلثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي إلى جانب مسجدها في المسجد، وألا يترك في المدينة نصرانياً إلا أخرجه منها، وينادي فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه. وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته على بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف، وأمر بخلع؛ فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم؛ فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم عشرة منهم؛ فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم يضربهم؛ فوجه المتوكل رجلاً من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدي والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامراً وهم ثمانية؛ فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامراً وبرأس الميت. ثم كتب محمد بن عبدويه أه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا. ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة - وكان فيما ذكر - رأساً من رءوس الفتنة؛ فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس - فيما ذكر - بسامراً مطراً جوداً في آب. وفيها ولى القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي.
ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل إليه أمرهوفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد - فيما قيل - ألف سوط.
ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزياديّ قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلاً؛ شهاداتهم - فيما ذكر - مختلفة من هذا النحو؛ فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد اللّه ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد اللّه ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله.
فكتب عبيد اللّه إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى: بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ أبقاك اللّه وحفظك، وأتّم نعمته عليك؛ وصل كتابك في الرّجل المسمّى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق؛ وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم، وتثبّتك في أمر أؤلئك الشهود وما شهدوا به، وما صحّ عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك؛ فعرضت على أمير المؤمنين أعزّه اللّه ذلك؛ فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه اللّه بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده أبقاه اللّه، في نصرة دين اللّه، وإحياء سنّته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حداً في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فإن مات ألقى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهياً لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين؛ وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء اللّه تعالى - والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته.

وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا - وقد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم - لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمى به في دجلة.
وفي هذه السنة انقضّت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة.
وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدّوابّ والبقر.
وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزّط؛ مع نسائهم وذراريّهم وجواميسهم وبقرهم.
خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنةوفيها كان الفداء بين المسلمين والروم.
ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله ذكر أن تذورة صاحبة الروم أمّ ميخائيل، وجّهت رجلاً يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفاً، فوجه المتوكل رجلاً من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج؛ ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم؛ وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عدهم حيناً. فذكر أن تذورة أمرت بعد خروج نصر بعرض من في إسارها من المسلمين على النصرانية؛ فمن تنصرّ منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن أبى قتله؛ فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفاً؛ ويقال إن قنقلة الخصى كان يقتلهم من غير أمرها. ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفاً الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى انصرافهم إلى مأمنهم. فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب؛ وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة.
وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلاً اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر؛ وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنساناً، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية؛ فسأل جعفر بن عبد الواحد - وهو قاضي القضاة - أن يؤذن له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلاً يقوم مقامه - فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفاً معونة وأرزاق ستين ألفاً؛ فاستخلف ابن أبي الشوارب - وهو يومئذ فتىً حدث السن - وخرج فلحق شنيفاً، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين إنساناً، ومن النساء مائة وخمساً وعشرين امرأة.
وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشراً، ونقلهم من الخراج إلى العشر، وأخرج لهم بذلك كتاباً.
ذكر غارة البجة على مصروفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد اللّه القمّيّ.
ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم

ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا؛ وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان - فيما ذكر - البجة وأهل غاتة الغافر وبينور ورعوين والفروية ويكسوم ومكاره أكرم والنوبة والحبش وفي بلاد البجة معادن من ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى أعمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى. فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلاً من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسى مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبين المسلمين وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر؛ وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة؛ فقتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل في المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها؛ وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين؛ فانصرفوا عنها خوفاً على أنفسهم وذرايتهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن؛ فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهى إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش؛ لأنها مفاوز وصحارى، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر؛ في أرض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن؛ وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام؛ فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم لا ترد على السلطان شيئاً من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم؛ فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمى محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور - وهي فقط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان - وتقدم إليه في محاربة البجة؛ وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر. وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميه ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر.
فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة؛ فكانت عدة من معه نحواً من عشرين ألف إنسان؛ بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوماً من أصحابه أن يلجوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة؛ فلم يزل محمد بن عبد الله القمى يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم - واسمه على بابا واسم ابنه لعيسى - في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمى من الناس؛ وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرةٌ تشبه بالمهارى في النجابة، فجعلوا يلتقون أياماً متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمى لكي تطول الأيام طمعاً في نفاذ الزاد والعلوفة التي معهم؛ فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلاً، فيأخذهم البجة بالأيدي.

فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمى إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على أصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة؛ فلما رأى ذلك على بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلاً زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شئ؛ فلما رأى ذلك القمى جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، ففرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمى بأصحابه، فأخذهم قتلاً وأسراً حتى أدركه الليل؛ وذلك في أول سنة إحدى وأربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم؛ فلما أصبح القمى وجدهم قد جمعوا جمعاً من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا به فيه طلب القمى، فوافاهم القمى في الليل في خيله، فهرب ملكهم؛ فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب على بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها - وهي أربع سنين - لكل سنة أربعمائة مثقال، واستخلف على بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا على بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجاً وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلاماً على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم؛ قتلهم القمي. فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمى يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين. وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعداً الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمى، فخرج القمى بعلي بابا؛ وهو مقيم على دينه؛ فذكر بعضهم أنه رأى معه صنماً من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة وحج بالناس في هذه السنة عبد الله محمد بن داود، وحج جعفربن دينار فيها، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر أحداث الزلازل بالبلاد
فما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان؛ فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشرٌ كثير؛ ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفاً وستة وتسعين نفساً؛ وكان عظيم ذلك بالدامغان.
وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشأم في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضاً مثل ذلك مع خسف بها.
ذكر خروج الروم من ناحية شمشاطوفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهوا عدة قرى، وأسروا نحواً من عشرة آلاف إنسان؛ وكان دخولهم من ناحية أبريق؛ قرية قربياس؛ ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحداً، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتياً.
وفيها قتل المتوكل عطارداً - رجلاً كان نصرانياً فأسلم - فمكث مسلماً سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة.
وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب.
وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي؛ وهو والي مكة.
وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي العقدة، فضحى ببلد؛ فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج:
أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق

وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولى ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن ينجور في ذي الحجة.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر؛ وكان من لدن شخص من سامراً إلى أن دخلها سبعة وتسعون يوماً - وقيل سبعة وسبعون يوماً - وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به. ثم استوبأ البلد؛ وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر؛ فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل؛ وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة.
وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة، فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأياماً، ثم رجع إلى سامراً، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار - فيما زعم بعضهم - والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
وفيها أتى المتوكل - فيما ذكر - بحربة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العنزة؛ ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت عند المؤذنين، وكان يمشي بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين؛ وكانت تركز بين يديه في الفناء فيصلى إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه؛ فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة.
وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي:
يا سخطةً جاءت على مقدار ... ثار له الليث على اقتدار
منه وبختيشوع في اغترار ... لما سعى بالسادة الأقمار
بالأمراء القادة الأبرار ... ولاة عهد السيد المختار
وبالموالي وبني الأحرار ... رمى به في موحش القفار
" بساحل البحرين للصغار " وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود.
وحجّ بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر بناء الماحوزة
ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجدّ في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها - فيما قيل - أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم؛ وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصراً سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمي يكون شرباً لما حولها من فوهة النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدّر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه؛ فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب؛ حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر.
وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر؛ فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن.

وبعث ملك الروم فيها بأسى من المسلمين؛ وبعث يسأل المفاداة بمن عنده؛ وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولاً إلى المتوكل شيخاً يدعى أطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلاً من أسرى المسلمين، أهداهم ميخائيل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم. ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.
وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلفاً كثيراً، وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعوا أصواتاً هائلة لا يحسنون وصفها من كوى المنازل، وهرب ألها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر؛ فهاج البحر في ذلك اليوم؛ وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب.
وسمع فيها - فيما قيل - أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير.
وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشأم. ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.
وفيها غارت مشاش - عين مكة - حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهماً، فبعثت أم المتوكل فأنفقت عليها.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازي.
ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمةوفيها هلك نجاح بن سلمة.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه حدّثني الحارث بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره؛ أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري؛ وكان على الضياع؛ فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه؛ ولا يقدرون على منعه من شيء يريده؛ وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل؛ وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج؛ فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرّا فيما هما بسبيله؛ وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم؛ فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح؛ خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غداً حتى أدفعهما إليك؛ فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى؛ فغذا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل؛ فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر؛ وأنا أشير عليك بأمرٍ لك فيه صلاح؛ قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما؛ وتكتب رقعة تذكر فيها أنك شارباً، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين؛ فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قال البارحة؛ وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا؛ فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريباً مما ضمن لك عنهما.
فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما؛ فانصرفا به؛ وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاّ، فوجد البرد، فقال: ويحك يا حسن! قد وجدت البرد؛ فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب - وكان انقطاعه إلى نجاح - فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بفبض ذلك كله، وضرب مراراً بالمقارع في غير موضع الضرب نحواً من مائتي مقرعة، وغُمز وخُنق، خنقه موسى الفران والمعلوف.

فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات؛ فأصبح ميتاً يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلاً؛ وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحواً من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقرّ عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار - وقيل عشرين ألف دينار.
وكان ابنه أحمد ابن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد؛ وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار. وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا.

وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وكان عبيد الله متمكناً من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله؛ وإلى نجاح توقيع العامة - فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح - وكان في الندماء - يا أمير المؤمنين؛ أسمى لك قوماً تدفعهم إليّ حتى أستخرج لك منهم أموالاً تبني بها مدينتك هذه؛ إنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره. فقال له: سمّهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرّخانشاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء، وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى؛ وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفراً المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً؛ فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه، وقال له: اغد غدوةً، فلما أصبح لم يشك في ذلك. وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتباً ولا قائداً إلا أوقع بهم؛ فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح؛ فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إ دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان؛ ولكن اكتبانّ إلى أمير المؤمنين رقعة تقبّلان به فيها بألفي دينار؛ فكتبا رقعة بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله بن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والسحن بن مخلد؛ فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن؛ ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك؛ وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً؛ والناس جميعاً الخواص والعوام؛ وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح؛ للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد - وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد - أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلّف على ذلك، وقال: إنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً؛ حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً كما أخذ فضلاً. فحبس ونجّم عليه في ثلاثة أنجم؛ ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار. ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل - وكان أحد حجاب المتوكل - وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وُصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك؛ فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت. وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات. وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج - وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد - وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه؛ فكان المتوكل كثيراً ما يقول لهما كلما شرب: ردّوا علي كاتبي؛ وإلا فهاتوا المال؛ وضمّ توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح؛ فما أتى على ذلك إلا يسيراً حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري. وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق؛ فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعاً؛ فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه: خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجاً، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصيّر على ديوان الخراج أيضاً عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز؛ وكان أيضاً خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي:
ما كان يخشى نجاحٌ صولة الزمن ... حتى أديل لموسى منه والحسن

غدا على نعم الأحرار يسلبها ... فراح وهو سليب المال والبدن
وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب.
غارة الروم على سميساطوفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحواً من خمسمائة.
وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوماً، فبعث ملك الروم إليهم بطريقاً يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلوة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة؛ وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور. وقيل إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم؛ وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزيني؛ وهو والي مكة.
وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي:
إن يوم النيروز عاد إلى العه ... د الذي كان سنه أردشير
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فم ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس. وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحراً في عشرين مركباً؛ فافتتح حصن أنطاكية. وغزوة بلكاجور فغنم وسبى. وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحواً من عشرة آلاف.
وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزة، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنة.
ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنةوفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، بألفين وثلثمائة وسبعة وستين نفساً. وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى.
وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي - وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء - أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة - وهو القيّم بشأن الملك - وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت: أنصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثيابٌ حريرٌ وزعفران كثير وطرائف؛ وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحّملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه؛ فإذا هو على سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون؛ فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت: لا تزيدون على ما أقول لكم شيئاً؛ فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلاً بقربه؛ فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين.

قال: فتغافل عني نحواً من أربعة أشهر؛ حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها؛ فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء؛ على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي؛ وكانوا أكثر من ألف قليلاً؛ وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين؛ منهم عشرون امرأة؛ معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة؛ فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك؛ فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه : نعم، ولم أسمعه يتكلم بكلمة مذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال؛ حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة؛ وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلاً؛ وكان قوم تنصروا؛ فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء؛ وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه؛ وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية؛ وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى؛ فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتى بهم من سلقية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم سلقية، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة، فتركتهما، " و " قلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية.
ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحداً وعشرين يوماً في شعبان ورمضان؛ حتى نبت العشب فوق الأجاجير.
وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد.
وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دماً عبيطاً.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فولى أعمال الموسم.
وضحى أهل سامراً فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مقتل المتوكل
فما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعهما الفتح بن خاقان؛ فكتبت الكتب بذلك، وصارت إلى الخاتم على أن تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان فبلغ ذلك وصيفاً، واستقر عنده الذي أمر به في أمره؛ وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه؛ وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلي في آخر جمعة من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب. فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس قد اجتمعوا وكثروا؛ من أهل بيتك وغيرهم؛ وبعض متظلم وبعض طالب حاجة؛ وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعاً فليفعل. فقال: قد رأيت ما رأيتما؛ فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين؛ قد رأينا رأياً؛ وأمير المؤمنين أعلى عيناً، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف؛ فقد اجتمع أهل بيته؛ والناس جميعاً فقد بلغ الله به.

قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم؛ فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله - وكان بالجعفرية - وكان ذلك مما زاد في إغرائه؛ فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه؛ ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه؛ حتى دخل على أبيه وهما معه؛ ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، والله يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت الأمين والمأمون ورأيت المعتصم صلوات الله عليهم، ورأيت الواثق بالله؛ فوالله ما رأيت رجلاً على منبر أحسن قواماً، ولا أحسن بديهاً، ولا أجهر صوتاً، ولا أعذب لساناً، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيراً، وأمتعنا بك؛ فلما كان يوم الأحد؛ وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال: مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين؛ قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين؛ ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل. فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه؛ فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
وذكر أنه ركب يوم الفطر؛ وقد ضربت له المصاف نحواً من أربعة أميال، وترجل بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنةً من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل؛ فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه؛ فلما كان يوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال - أصبح نشيطاً فرحاً مسروراً، فقال: كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش - وهما طبيباه: يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير؛ افعل، ففعل؛ واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده.
وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان أحدٌ ممن يأكل " بين يديه " حاضراً غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ؛ فإنه جاء مع المتنصر. قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معاً، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم؛ لم يدع بأحد منهم بعد. قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال: كل أنت وعثعث بين يدي. ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ؛ قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي؛ فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه. قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتةً، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: مالكم لا تأكلون؟ قلت: يا سيدي، قد نفذ ما بين أيدينا؛ فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه.
قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم. قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر؛ لم ير الناس مثله حسناً، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بأن يقول: أنا والله مفارفكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل .
وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله بن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال؛ على أن يفتك بالمنتصر؛ ويقتل وصيفاً وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم؛ فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم - فيما ذكر ابن الحفصي - بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرةً يتهدده بالقتل .

فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تلطمه - يعني المنتصر - فقام الفتح ولطمه مرتين؛ يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر: اشهدوا جميعاً أني قد خلعت المستعجل - المنتصر - ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وأمر بناناً غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران.
وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي؛ إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال: إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء؛ وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي، فإن أوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة، نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك. وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه. قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعاً إلى حجرته. قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته.
فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد أملكت ابن زرافة من ابنة أوتامش وابن أوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غداً إن شاء الله؛ فإن الليل قد مضى. قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي يه، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ؛ فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة؛ إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا أمير المؤمنين! كان عبداً لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر؛ وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وذكر عن عثعث أنّ المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائماً عند الستر؛ وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار؛ وكان خليفته في الدار ابنه مسعود - وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط - فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحداً، وقد شرب أربعة عشر رطلاً، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا جميعاً، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة؛ منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد المحرزي. قال: ووضع الطباخ المائدة بيت يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلفم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضاً بعد ذلك.

فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه - كان معهم في المجلس فقال إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذي عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلو التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي؛ فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم ورائهم عند كلام المتوكل لبغا؛ ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد. قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم: يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراماً؛ فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربةً على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلاً قطع اللّه يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح: ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه. وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون. قال: وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحاً، وأحمد، وعبد اللّه، ونصراً، وعبيد اللّه؛ حتى صاروا إلى ما أرادوا.
وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال المتوكل: قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف؛ وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد؛ فلما ذكر عثعث السيوف، قال له: ويلك! أي شئ تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب؛ وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه. وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين؛ فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زراقة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه. وأرسل المنتصر إلى وصيف: إن الفتح قتل أبي، فقتله، فاحضر في وجوه أصحابك. فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا. قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور.
وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم. فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها؛ وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره؛ فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه؛ وهان عليهم أمر القوم، وثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر.

فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذا طلع عليه بعض الخدم، فقال: يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفراً بالخروج، فخرج وعاد؛ فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضاً مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأباء والعجم والأرمن والزواقيل والأعراب والصعاليك وغيرهم " وقد اختلف في عدتهم " فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف؛ فقالوا له إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة؛ نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. فأبى ذلك وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم - يعني المعتز.
وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتاباً من كتب الملاحم، فوقفت على موضع من الكتاب فيه: إن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقف عن قراءته وقطعته، فقال لي: ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء؛ فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكن رأيت في المام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل، فقال لي: إلي كم تؤذينا! إنما بقى من أجلك تمام خمسة عشر سنة غير أيام. قال: فكان بعدد أيام خلافته.
وذكر عن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلاً دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة وهو ينشد:
يا عين ويلك فاهملي ... بالدمع سحا واسبلي
دلت على قرب القيا ... مة قتلة المتوكل
وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين.
وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيت في النوم آتياً أتاني، وهو يقول:
يا نائم العين في جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكي بتهتان!
أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان!
وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ... حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني
فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعاً.
قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال - وقيل: بل قتل ليلة الخميس - فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام. وقتل يوم قتل وهو - فيما قيل - ابن أربعين سنة؛ وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين.
وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفاً.
ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرتهذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعراً، وذكرت الرافضة فيه، فقعد لي على البحرين واليمامة، وخلع على أربع خلع في دار العامة، وخلع على المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعداً الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئاً؛ فجمعاها، فانصرفت بها.
قال: والشعر الذي قال فيه:
ملك الخليفة جعفر ... للدين والدنيا سلامة
لكم تراث محمدٍ ... وبعدلكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنا ... ت وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بوارث ... والبنت لا ترث الإمامة
ما للذين تنحلوا ... ميراثكم إلا الندامه
أخذ الوارثة أهلها ... فغلام لومكم علامه!

لو كان حقكم لما ... قامت على الناس القيامة
ليس التراث لغيركم ... لا والإله ولا كرامه
أصبحت بين محبكم ... والمبغضين لكم علامه
ثم نشر على رأسي - بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى - عشرة آلاف درهم وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة - مدحت فيها ابن أبي داود - إلى ابن أبي داود، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:
وقيل لي الزيات لاقى حمامه ... فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ... فألقى فيها بالخيانة والغدر
قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن داود ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هما باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين. قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامراً، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:
رحل الشباب وليته لم يرحل ... والشيب حل وليته لم يحلل
فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة:
كانت خلافة جعفر كنبوة ... جاءت بلا طلبٍ ولا بتنحل
وهب الإله له الخلافة مثل ما ... وهب النبوة للنبي المرسل
أمر له بخمسين ألف درهم.
وذكر عن أبي يحيى بن مروا بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاه العهود، وأنشدته:
سقى الله نجداً والسلام على نجد ... ويا حبذا نجدٌ على النأي والبعدا
نظرت إلى نجدٍ وبغداد دونها ... لعلي أرى نجداً وهيهات من نجد!
ونجدُ بها قومٌ هواهم زيارتي ... ولا شئ أحلى من زيارتهم عندي
قال: فلما استتمت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوباً وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره:
تخير رب الناس جعفراً ... فملكه أمر العباد تخيرا
قال: فلما صرت إلى هذا البيت:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة؛ ذكر ابن المدير أهذا وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها. قال: فإني أقبّلكما في السنة مائة سنة قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدّي درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي. فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السّيوح.
وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظنّ أنه هارون، فكان الواثق؛ وكان يقول: وبعده أصفر الساقين؛ فكان يظن أنه أبو الحنائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه؛ فكانا أصفرين؛ كأنما صبغا بزعفران.

وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولاً كثيراً؛ لم يقع بموافقة بعض من حضر؛ فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وحشة إلى فعل أحد؛ ولا مع البيان والإفهام حجّة لتعلّم، ولا بعد الجحود للبرهان والحقّ إلا السيف لظهور الحجة. فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه؛ فإن المعتصم باللّه يرحمه اللّه كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللّهم إني أحمدك على النّعم التي لا يحصيها أحدٌ غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك. قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئاً أوبشّر بشيء، فقد كان المعتصم باللّه أمر عليّ بن يزداد أن يكتبه لنا؛ فكتبه فعلّمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إنّ ذكر آلاء اللّه ونشرها نعمه والحديث بها فرض من اللّه على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكرٌ له عليها؛ فالحمد اللّه العظيم الآلاء، السابغ النّعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترداف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه. فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كلّه حكم من ذي حنكة وعلم؛ وانقضى المجلس.
وقدم في هذه السنة محمد بن عبد اللّه بن طاهر بغداد منصرفاً من مكة في صفر؛ فشكا ما ناله من الغمّ بما وقع من الخلاف في يوم النّحر؛ فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشّمع مكان الّزيت والنفط.
وفيها ماتتّ أم المتوكل بالجعفرية لستّ خلون من شهر ربيع الآخر وصلّى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع.
خلافة المنتصر محمد بن جعفر وفيها بويع المنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال - وقيل لثلاث خلون منه - وهو ابن خمس وعشرين سنة. وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحّل منه بعياله وقوّاده وجنوده إلى سامرّا.
وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لمّا كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفريّة من القّواد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وغيرهم؛ فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتاباً يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر؛ أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفراً المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.

وذكر عن أبي عثمان سعيد الضغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدّار مع المنتصر؛ فكان كلّما خرج الفتح خرج معه، وكلّما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره؛ وكلّما ركب أخذ بركابه، وسوّى عليه ثيابه في سرج دابته؛ وكان اتّصل بنا الخبر أن عبيد اللّه بن يحيى قد أعدّ له قوماً في طريقه ليغتالوه عند انصرافه؛ وقد كان المتوكل أسمعه وأحفظه قبل إنصرافه، ووثب به؛ فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلّما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصّته - وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ - قال: فلم ألبث أن جاءني الرّسول: أن احضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير؛ وهو على الركوبح فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر؛ وأنه إنما يدعي لذلك؛ فركبت في سلاح وعدّة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون؛ وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب؛ فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إنّ أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه اللّه. فأكبرت ذلك، وشقّ عليّ ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القّواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكّل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلّمت عليه بالخلافة، وقلت: لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشّفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال: أجل؛ فكن أنت من ورائي وسليمان الروميّ. وألقى منديلٌ، فجلس عليهن وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة. فذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم؛ وكلمات. وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكلّ من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتزّ حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك؛ حتى يجتمع الناس. قال أحمد بن الخطيب: ها هنا من يكفيك، فامض؛ فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي؛ فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان؛ فلما صرت إلى باب أبي نوح، والناس يموجون ويذهبون ويحيئون؛ وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم؛ فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟ فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحداً من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقاً من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقاً عنيفاً مفرطاً، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير؛ رسول أمير المؤمنين المنتصر؛ فمضى الرسول، وأبطأ علي: وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض. ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج؛ وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته؛ وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة. فدخل ثم خرج إلي؛ فقال: ادخل، فدخلت على المعتز؛ فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت أفتله في الحبل والغارب؛ ويعينني عليه بيدون الخادم حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقاً غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت هو يأخذ البيعة على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ؛ وإذا بفارس قد لحق بنا؛ وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه؛ فصاح به بيدون؛ فمضى ثم رجع ثلاثاً؛ كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا؛ حتى وافينا باب الخير فاستفتحه فقيل له؛ من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر؛ فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه؛ ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير

ففعل به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري. فأمر بدفن المتوكل والفتح وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار؛ حتى وهب لي عشرة آلاف درهم. به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري. فأمر بدفن المتوكل والفتح وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار؛ حتى وهب لي عشرة آلاف درهم.
وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر.
بسم الله الرحمن الرحيم، تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرّي عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة اللّه وتقواه، وإعزاز دين اللّه وحقه، ومن عموم صلاح عباد اللّه، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمنن العواقب، وعزّ الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن محمداً الإمام المنتصر باللّه عبد اللّه وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكوّن ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون؛ وعلى السّمع له، والطاعة والمسالمة، والنّصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كلّ كل ما يأمر به عبد اللّه الإمام المنتصر باللّه أمير المؤمنين؛ وعلى أنّكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه؛ من خاصٍ وعامً، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمّة العهد؛ سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم؛ راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم. وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديد بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم؛ صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم؛ وعلى ألاّ تسعوا في نقض شيء مما أكد اللّه عليكم، وعلى ألاّ يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألاّ تبدذلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيّته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع اللّه من قلوبكم على اجتنابها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمتّه بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأوّل؛ حتى تلقوا اللّه، موفين بعهده، ومؤدّين حقّه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إنما يبايعون اللّه؛ يد اللّه فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً.
عليكم بذلك وبما أكّدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم؛ وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح؛ وعليكم عهد اللّه؛ إنّ عهده كان مسئولاً؛ وذمّة رسوله. وأشدّ ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكّد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة، ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم عليه تمسّك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم؛ لا يلفتكم عن ذلك هوىً ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدىً؛ باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدّمين فيه حقّ الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل اللّه في هذه البيعة إلا الوفاء بها.

فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكدّ عليه مسرّاً أو معلناً، أو مصرّحاً أو محتالاً؛ فادّهن فيما أعطى اللّه من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود اللّه عليه؛ مستعملاً في ذلك الهوينى دون الجدّ، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل اللّه، محرمٌ عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدّمها لنفسه، أو يحتال بها. وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيّتهن، ويأتي عليه أجله؛ وكلّ مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه اللّه؛ ونساؤه في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة؛ لا مثنويّة فيه ولا رجعة. وعليه المشي إلى بيت اللّه الحرام ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً؛ واللّه عليكم بذلك شهيد، وكفى باللّه شهيداً.
وذكر أنه لمّا صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة - وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرّاً - بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكريّة بباب العامة بالجعفريذ وغيرهم من الغوغاء والعوامّ، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضاً، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتّاب بن عتّاب - وقيل: إنّ الذي خرج إليهم زرافة - فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون فأسمعوه؛ فدخل إلى المنتصر فأخبره؛ فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم؛ فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض؛ ثم تفرّقوا عن عدّة ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة.
وفيها ولّى المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد - مولى بن هاشم، بعد البيعة له بيوم - المظالم، فقال قائل:
يا ضيعة الإسلام لمّا ولى ... مظالم الناس أبو عمره
صيّر مأموناً على أمةٍ ... وليس مأموناً على بعره
وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر عليّ بن المعتصم من سامرّا إلى بغداد ووكل به.
وحجّ بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبيّ.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر غزاة وصيف التركيّ الروم
فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفاً التركي صائفة أرض الروم.
ذكر الخبر عن سبب ذلك، وما كان في ذلك من وصيف: ذكر أنّ السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض؛ فلمّا استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرّض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازياً إلى الثّغر؛ فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو.
وقد ذكر عن المنتصر أنه لمّا عزم على أن يغزي وصيفاً الثغر الشأميّ، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفاً بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار؛ فأذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه! فإما شخصت وإما شخصت؛ فقال وصيف: بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد؛ انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما تعم! قم الساعة لذلك؛ يا وصيف مركاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه. فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح.

وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفاً وأمره بالغزو، قال له، إن الطاغية - يعني ملك الروم - قد تحرك، ولست آمنة أن يهلك كل ما يمر به من بلاد الإسلام، ويقتل ويسبى الذراري؛ فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك. وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال؛ فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل؛ فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان؛ أخو الفتح بن خاقان؛ وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي؛ واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته؛ وكان على الشرطة بسامراً.
وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفاً مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتاباً نسخته: بسم الرحمن الرحيم: من عبد الله محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين.
سلام عليك؛ فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله. أما بعد: فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلاً نهجياً إلى رحمته، وسبباً إلى مذخور كرامته؛ فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها؛ وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه وأنجحها وسيلة إليه؛ لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل آمراً بالجهاد، ومفترضاً له: " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " وليست تمضى بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصباً ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدواً، ولا يقطع بلداً، ولا يطأ أرضاً؛ إلا وله بذلك أمر مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالحٌ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمناً لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها؛ وعداً منه حقاً لا ريب فيه وحكماً عدلاً لا تبديل له، قال الله عز وجل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة؛ لأن أهله بذلوا لله أنفسهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو.

وقد رأى أمير المؤمنين - لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته - أن ينهض وصيفاً مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازياً لما عرّف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربة من الله ومن خليفته.
وقد رأى أمير المؤمنين - والله ولي معونته وتوفيقه - أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز؛ فاعلم ذلك واكتب إلى أعمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا؛ ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والحفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وصير على ما ذكرناه على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.
وكتب معه المنتصر كتاباً إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأيته رأى أمير المؤمنين.
ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهماوفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما ذكر أن محمداً المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن من الحدثان؛ وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقى منا باقية، ويبيد خضراءنا؛ والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين؛ تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا حتى فعل، ولم يزل مكرماً المعتز والمؤيد؛ على ميلٍ منه شديد إلى المؤيد؛ فلما كان بعد أربعين يوماً من ولايته؛ أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك؛ فبيناهم كذلك؛ إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز: ما كنت لأفعل؛ فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا الباب.

فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني أكلمه؛ فكاعوا عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت؛ فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل؛ تراهم قد نالوا من أبيك - وهو هو - ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك لا تراجعهم!؛ قال: سبحان الله! أمرٌ قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فوالله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين. قال: أفعل. قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيراً، ودخل معهم كاتب قد سماه ، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاساً، أملل ما شئت، فأملي علي كتاباً إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر؛ وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذا لم أكن موضعاً له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي. فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال: بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا؛ وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوفٌ، وقال: أترياني خلعتكما طمعاً في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط؛ وإذا لم يكن في ذلك طمع؛ فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي؛ ولكن هؤلاء - وأما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد - ألحوا عليّ في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما ترياني صانعاً! أقتله؟ فوالله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم؛ فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل على. قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمها إليه، ثم انصرفا.
وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع بها، وأن الناس في حل من حلها ونقضها؛ وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد بني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك.
والنسخة التي كتباها: بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضى الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير؛ من غير إرادتي ومحبتي؛ فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد أحللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم؛ ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد؛ وأنتم برآء من ذلك.
وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب. ثم قال كل واحد منهما قائماً، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي؛ فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من أيمانكم. وحللتكم منها. فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتاباً إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله

ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين؛ أما بعد؛ فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه؛ وجعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسول صلى الله عليه وسلم والذابين عن دينه، والدا عين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قواماً لعباده. وصلاحاً لبلاده، ورحمة غمر بها خلقه، وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله؛ لما جمع فيها من سكون الدهماء. واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسبباً لرضاه ومثوبته. لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم؛ وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين. وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه؛ وتذللاً لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعيه بتوفيقه على طاعته؛ إنه سميع قريب.
وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضى الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما؛ يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما؛ وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله. وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين؛ ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامها ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في جل؛ إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعاً ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك؛ ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وأنهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من ولهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته؛ قريبهم وبعيدهم وحاضرهم وغائبهم في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم؛ ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما. وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله؛ وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين أن يظهر ما فعلاه، وينشره ويحضر جميع أوليائه؛ ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين؛ ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكر من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد؛ وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بهما ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي.

وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم؛ وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم. وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضى الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما؛ إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به.
ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك؛ قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم. ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير. ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بإخوتهما وماس رحمهما؛ لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه؛ لم يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره. ويعم المسلمين مكروهه؛ ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه؛ فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع اخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين؛ الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم.
وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد؛ إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحلالا الخاص والعام، والحاضر والغائب. والداني والقاصي منه؛ ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد؛ وذكر ما نسب إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم. والدعاء لهما على المنابر؛ ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموماً إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما؛ وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما. ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص لله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك؛ ما أوجب الله لك بذلك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق.
وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي؛ ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه أحد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دوادينه.
فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه. إن شاء الله، والسلام.
وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
ذكر الخبر عن وفاة المنتصروفي هذه السنة توفي المنتصر.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته فأما العلة التي كانت بها وفاته؛ فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم: أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر؛ وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات؛ وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها.
وحدثني بعض أصحابنا أنه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يطبب له، وأمره بفضده، ففضده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فضده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذاً له؛ فأمره بفضده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها؛ وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر؛ وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعاً أجود من المبضع المسموم؛ ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره؛ فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك؛ فأوصى من ساعته، وهلك من يومه.

وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه هناً، فورم رأسه وعوجل فمات. وقد قيل: إن ابن الطيفوري إنما سمه في محاجمه.
قال أبو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولى إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضاً ذلك على ألسن العامة والخاصة.
وذكر عن يسر الخادم - وكان - فيما ذكر - يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوماً من الأيام في خلافته نائماً في إيوانه، فانتبه وهو يبكي وينتحب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب؛ فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائماً فانتبه باكياً، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال: ادن مني يا عبد الله؛ فدنا منه فقال له: كنت نائماً، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي، ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتي في خلافتي؛ والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياماً يسيرة، ثم مصيرك إلى النار. فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي. فقال له عبد الله: هذه رؤيا؛ وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله؛ فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا. قال: ففعل ذلك؛ وما زال منكسراً إلى أن توفي.
وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب؛ فأشاروا عليه بقتله؛ فكان من أمره ما ذكرنا بعضه.
وذكر عنه أنه لما اشتد به علته؛ خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة.
قال إبراهيم بن جيش: حدثني موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمي يعقوب وابن عمي يزيد، أن المنتصر لما أفضت الخلافة إليه، كان ينكر إذا سكر قتل أبيه المتوكل، ويقول في الأتراك: هؤلاء قتلة الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا لخادم له ثلاثين ألف دينار على أن يحتال في سمه، وجعلوا لعلي بن طيفور جملة، وكان المنتصر يكثر أكل الكمثري إذا قدمت إليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور إلى كمثراة كبيرة نضيجة، فأدخل في رأسها خلالة، ثم سقاها سماً، فجعلها الخادم في أعلى الكمثرى الذي قدمه إليه، فلما نظر إليها المنتصر أمره أن يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم أعطاه قطعة قطعة حتى أتى عليها، فلما أكلها وجد فترة، فقال لابن طيفور: أجد حرارة فقال: يا أمير المؤمنين؛ احتجم تبرأ من علة الدم، وقدر أنه إذا خرج الدم قوي عليه السم. فحجم فحم، وغلظت علته عليه. فتخوف هو والأتراك أن تطول علته، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافتيك، وتحتاج إلى الفصد؛ فإنه أنجح لما تريد، فقال: أفعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فألقاه في مباضعه - وكان أحدّها وأجودهاز ثم إن عليذ بن طيفور، وجد حرارة، فدعها تلميذاً له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد أحدّ منه ولا أخير ففصده، فكانت منيته فيه.
وذكر عن ابن دهقانة أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوماً بعد ما قتل المتوكل، فتحدّث المسدود الطنبوريّ بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟ فقال: ليلة لااه ولا زاجر؛ فأحفظ ذلك المنتصر.
وذكر عن سعيد بن سلمة النصرانيّ أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسروراً يذكر أن أمير المؤمنين رأى في ليلة في المنام؛ أنه صعد درجةً حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها؛ فقيل له: هذا ملكك؛ وبلغ الخبر ابن المنجّم، فدخل عليه محمد بن موسى وعليّ بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم أحمد ابن الخصيب؛ ولكني حين بلغت آخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك؛ واغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فعاش بعد ذلك أياماً تتمذة سنة، ثمّ مات وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وقيل: توفيّ وهو ابن خمس وعشرين سنة وستة أشهر.
وقيل: بل كان عمره أربعاً وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة أشهرفي قول بعضهم ويومين.
وقيل: كانت ستة أشهر سواء.
وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوماً.
وكان وفاته بسامرّا بالقصر المحدث بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة؛ وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:

فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الربّ الكريم أصير
وصلّى عليه أحمد بم محمد بن المعتصم بسامرّا؛ وبها كان مولده.
وكان أعين أفتى قصيراً جيّد البضعة. وكان - فيما ذكر - مهيباً.
وهو أول خليفة من بني العباس - فيما بعد - عرف قبره؛ وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره.
وكانت كيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أمّ ولد روميّة.
ذكر بعض سيره ذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتولية عليّ بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها؛ فذكر عن عليّ بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودّعه، فقال لي: يا عليّ، إني أوجّهك إلى الحمى ودمي - ومدذ جلد ساعده - وقال: إلى هذا وجّهتك، فاظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيدّه اللّه فيهم إن شاء اللّه؛ فقال: إذاً تسعد بذلك عندي.
وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن عليّ برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولاً على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف، فأحضر ولده خادماً أسود كان له وصيفاً، ذكر أن الوصيف أقلرّ على الأسود. فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقرّ به، ووصف فعله به وسسب قتله إياه فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره. فأشاروا بقتله، فضرب عقه وصلبه، عند خشبة بابك.
وفي هذه السنة حكّم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجّه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغانيّ، فأخذه أسيراً مع عدة من أصحابه. فقتلوا وصلبوا.
وفيها تحرّك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة.
وذكر عن أحمد بن عبد اللّه بن صالح صاحب المصلّى أنه قال: كان لأبي مؤذّن، فرآه بعض أهلنا في المام كأنه أذّن أذاناً لبعض الصّلوات؛ ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر. إنّ ربّك لبالمرصاد.
وذكر عن بنان المغنّي - وكان فيما قيل أخصّ الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولى الخلافة - أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة؛ فقال: أو خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال: تتمارض حتى أعودك؛ فإنه سيهدي لك أكثر من الثوب الديباج؛ فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئاً.
وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بم محمد بن المعتصم.
خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه: ذكرأنّ المنتصر لما توفّى؛ وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهارونيّ يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير أوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قوّاد الأتراك والمغاربة والأشروسنيّة - وكان الذي يستحلفهم عليّ بن الحسين ابن عبد الأعلى الأسكافيّ كاتب بغا الكبير - على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبيرأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحدٌ من ولد المتوكل؛ لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم؛ فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم؛ وقد كانوا قبله دكروا جماعة من بني هاشم؛ فبايعوه وقت العشاء من ليلة الاثنين، لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة؛ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.

فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أوتامش. فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمريّ بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزيّ الخلافة؛ وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسنيّباب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصفّ أصحابه صفين، وقام في الصفّ وهو عدّة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبييّن وغيرهم ممن لهم مرتبة؛ فبيناهم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف؛ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق؛ فإذا نحوٌ من خمسين فارساً من الشاكرية؛ ذكروا أنهم من أصحاب أبي العباس محمد بن عبد اللّه، ومعهم قوم من فرسان طبريّة وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل؛ فشهروا السلاح، وصاحوا: يا معتزّ يا منصور، وشدّوا على صفذي الأشروسنيّة اللّذين صفّهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضّة مع الشاكريّة، فكثروا، فشدّ عليهم المغاربة والأشروسنيّة، فهزموهم حتى أدخلوهم الدّرب الكبير المعروف بزرافة وعزّون. وحمل قوم منهم على المعتزّية، فكشفوهم؛ حتى جاوزوا بهم دار أخي عزّون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزّية هنالك، ورمى الأشروسنيّة عدّة منهم بالنّشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشب الحرب بينهم؛ وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكبّرون؛ فوقعت بينهم قتلى كثيرة؛ إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات. ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم؛ وانصرفوا مما يلي العمريّ والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب. وخرج المستعين من باب العامة منصرفاً إلى الهارونيّ، فبات هنالك. ومضى الأشروسنيّة إلى الهارونيّ، وقد قتل من الفريقين عددٌ كثير، ودخل قوم من الأشروسنيّة دوراً، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهّم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهارونيّ، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها؛ وربّما مرّ أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقّاع تراس خيزران وقناً بلا أسنّة؛ فكثرت الرّماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقليّ، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الضغير من دري زرافة، فأحلّوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلاً. ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم؛ وأقبل الغوغاء لا يمرّ أحد من الأتراك من أسافل سامرّا يريد باب العامة إلاّ انتبهوا سلاحه، وقتلبوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش أخي يعقوب قوصرّة في شوارع سامرّا، وعامة من انتهت فيما ذكر هذا السلاح أصحاب الفقّاع والناطف وأصحاب الحمّامات والسقاءون وغوغاء الأسواق؛ فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرّك أهل السجن بسامرّا في هذا اليوم فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به لأتامش ومحمد بن عبد اللّه في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق.
وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر عبد اللّه بن طاهر بخرسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد اللّه على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد اللّه ابن طاهر على خراسان والأعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة من شعبان.
ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها. وولى ديوان البريد.
وفي هذه السنة وجه ألوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي فقتله يوم السبت بكفر توثي لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج؛ فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.

وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئاً استثني منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة؛ فلما كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم. وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد اللّه ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار؛ فكان ما اتبع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ؛ وأشهد عليهما بذلك الفقهاء والقضاة. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وخمساً في حجرة الجوسق، ووكلّ بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير؛ وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما؛ فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما؛ وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
وفيها غضب الموالى على أحمد بن الخصيب؛ وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفى ماله ومال ولده، ونفى إلى إقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على إرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامراً، وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيماً بالثغر الشأمي حتى ورد عليه موت المنتصر، ثم دخل بلاد الروم؛ فافتتح حصناً يقال له فرورية، وعقد المستعين فيها لأوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيراً.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجان قذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره وقدمه أوتامش على جميع الناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصناً ومطامير واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم؛ فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفاً، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين؛ وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.
خبر مقتل علي بن يحيى الأرمنيوفيها قتل علي بن يحيى الأرمني
ذكر الخبر عن سبب قتلهذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من إرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان.
شغب الجند والشاكرية ببغدادوشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر.
ذكر الخبر عن السبب في ذلك

وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامراً وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني - وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديداً بأسهما، عظيماً غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها - شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين؛ فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق؛ وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر؛ وكان فيها جماعة - فيما ذكر - من رفوع خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه ، وانتهب ديوان قصص المحبسين وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتبهوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانين كاتبي محمد بن عبد الله؛ وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد. وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامراً أموالاً كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك؛ وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم؛ فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام.
ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدري من هم يوم الجمعة بسامراً، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زراقة في جماعة من الموالي، فوثب بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك أوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف - فيما ذكر لي - قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامة عند السريجة بحجر؛ فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار؛ فأنا رأيت ذلك الموضع محتوقاً؛ وذلك بسامراً عند دار إسحاق.
وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم؛ ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامة والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامراً، وولى مكانه بن سهل الدارج.
ذكر خبر قتل أوتامش وكاتبهوفي هذه السن قتل أوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم؛ وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتلهذكر أن المستعين لما أفضت إليه الخلافة، أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أراد فعله فيها؛ وفعل ذلك أيضاً بأم نفسه، فلم يمنعها من شئ تريده؛ وكان كاتبها سلمة بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد أوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه؛ وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر أوتامش؛ فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه - وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل - فاقتطع من ذلك أمولاً جليلة لنفسه؛ وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك؛ وهم في ضيقة، وجعل أوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة؛ ووصيف وبغا من ذلك بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى أحكما التدبير، فتذمرت الأتراك والفراعنة على أوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكرا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين.
وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة؛ فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا أوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار أوتامش، فأخذ منها - فيما بلغني - أموالٌ جليلة ومتاع وفرش وآلة.

ولما قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخانشاه، وولى صيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر. ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي؛ فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني:
لبس السيف سعيد بعدما ... عاش ذا طمرين لا نوبة له
إن لله لآيات وذا ... آية لله فينا منزله
مقتل علي بن الجهموفيها قتل علي بن الجهم بن بدر؛ وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف؛ لقيته خيل لكلب، فقتله، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق:
أزيد في الليل ليل ... أم سال بالصبح سيل
ذكرت أهل دجيل ... وأين مني دجيل!
وكان منزله في شارع الدجيل.
وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة؛ وقد قيل إن في ذلك في سنة خمسين ومائتين.
وفيها أصاب أهل الريّ في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدّمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة؛ فنزلوا خرجها. ومطر أهل سامرّا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى؛ وذلك يوم السادس عشر من تمّوز مطرٌ جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم؛ ولم يزل المطر جوداً سائلاً يومئذ إلى إصفرار الشمس ثم سكن.
وتحرّكت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرّا، ثم تفرّقوا يوم الجمعة.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمتام وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث
ظهور يحبى بن عمر الطالبيّ ثم مقتله
فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه؛ المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي اللّه عنه.
ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر - وأمّه أم الحسين فاطمة بنت الحسين ابن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب - نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعاً، فلقيّ عمر بن فرج - وهو يتولّى أمر الطالبين - عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلّمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول؛ فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوساً إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيّئة، ثم صار إلى سامرّا، فلقي وصيفاً في رزق يجري له، فأغلظ له وصيفٌ في القول، وقال: لأيذ شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه.
فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفيّ الطالبيّ حدّثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه؛ وأنه عرض عليه الطّعام، وتبيّن فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل وقال: إن عشنا أكلنا، قال: فتبيذنت أنه قد عزم على فتكة؛ وخرج من عندي؛ فجعل وجهه إلى الكوفة؛ وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملاً عليها من قبل محمد بن عبد اللّه بن طاهر؛ فجمع يحيى بن عمر جمعاً كثيراً من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلّوجة؛ فصار إلى قرية تعرف بالعمد؛ فكتب صاحب البريد بخبره؛ فكتب محمد بن عبد اللّه بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد اللّه بن محمود السرخسيّ - وكان عامل محمد بن عبد اللّه على معاون السواد - يأمرهما بالاجتماع على محاربة يحيى ابن عمر - وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ - فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها؛ فأخذ ما فيه؛ والذي وجد ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم؛ وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأخرج جميع من كان فيها؛ وأخرج عمّالها عنها، فلقيه عبد اللّه بن محمود السرخسيّ - وكان في عداد الشاكريّة، فضربه يحيى بن عمر ضربةً على قصاص شعره في وجهه أثخنته

فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.
ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان - أو قريباً منه - على ثلاثة فراسخ من جنبلاء؛ ولم يقم بالكوفة، وتبعته جماعة من الزيديّة، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب تلك الناحية من الأعراب وأهل الطّفوف والسيّب الأسفل، وإلى ظهر واسط. ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه فوجّه محمد بن عبد اللّه لمحاربته الحسين بن إسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة؛ مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنويّ، وعبد اللّه بن نصر بن حمزة، وسعد الضّبابيّ، ومن الإسحاقية أحمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم.
وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندي في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه؛ وقصد يحيى نحو البحرية - وهي قرية بينها وبين قسيّن خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه - ثم مضى يحيى بن عمر في شرقيّ السيّب والحسين في غربيّه، حتى صار إلى أحمد أباذ فعبر إلى ناحيى سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفاً عجز عن اللحاق بيحيى إلا أخذوه، وأوقعوا بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى.
وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاريّ يتولى معوة السيّب لمحمد ابن عبد اللّه، فحمل ما اجتمع عنده منحاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر أحمد أباذ، فلم يظفر به.
ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالاً شديداً، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهى، ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد - ولا يعلم أهم تولوا من أهل بيته غيره - وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيّعهم؛ ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم.
وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابّهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات؛ واتّلت بهم الأمداد والميرة والأموال. وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعدّ العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح.
وإن جماعة من الزيديّة ممّن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعالجة الحسين، وألحت عليه عوّام أصحابه بمثل ذلك، فزحفت إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب؛ ومعهم الهيضم العجلي؛ في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم؛ ثم صبحوا حسيناً وأصحابه - وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون - فثاروا إليهم في الغلس فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف؛ فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب؛ فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبنى، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير؛ فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن. وقف عليه أيضاً أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه؛ وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلاً من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر.
وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركاً ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضباني أنه قتله.

وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلاً في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدري من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغير، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد وهرب الجزارون وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل له سهل بن الصغدي، فإنه تولى وإخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن. وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامراً، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا وتولى إبراهيم الديرج نصبه؛ لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر؛ فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس. وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجّه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممّن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدّهم وأجاعهم وأساءبهم؛ فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد اللّه يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب.
وذكر عن بعض الطاهرييّن أنه حضر مجلس محمد بن عبد اللّه وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبييّن وغيرهم حضور؛ فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفريّ فيمن دخل، فسمعهم يهنّئونه، فقال: أيها الأمير؛ إنك لتهنّئأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيّاً لعزّي به! فما ردّ عليه محمد بن عبد اللّه شيئاً، فخرج أبو هاشم الجعفريّ، وهو يقول:
يا بني كلوه وبيّاً ... إن الحم النبيّ غير مريّ
إنّ وتراً يكون طالبه الل ... ه لوترٍ نجاحه بالحريذ
وكان المستعين قد وجّه كلباتكين مدداً للحسين ومستظهراً به، فلحق حسيناً بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممّن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى؛ فوضع فيهم السيّف فقتلهم، ودخل الكوفة؛ فأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه الحسين، وآمن الأسود والأبيض بها؛ وأقام أياماً ثم انصرف عنها.
ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلويّ
وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب في شهر رمضان منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه: حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم؛ أنّ سبب ذلك كان أنّ محمد بن عبد اللّه بن طاهر لمّا جرى على يديه ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع؛ وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان ممّا يلي الدّيلم؛ وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم؛ وليس لأحد عليها ملك؛ وإنما هي صحراء من موتان الأرض؛ غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ.
فوجّه - فيما ذكر لي - محمد بن عبد اللّه بن طاهر أخاً لكاتبه بشر بن هارون النصرانيّ يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد اللّه خليفة محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر، أخو محمد بن عبد اللّه بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخيّ؛ وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضمّ إلى كلّ واحد منهم مدينة منها؛ وهم أحدث سفهاء؛ قد تأذّى بهم وبسففهم من تحت أيديهم من الرعيّة واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد اللّه أثرهم فيهم؛ بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها.

ووتر مع ذلك - فيما ذكر لي - محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان؛ وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الدّيلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعاً إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقاً وغيظاً، فلما صار رسول محمد بن عبد اللّه - وهو جابر بن هارون النصرانيّ - إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد - فيما قيل لي - جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد اللّه من صوا في السلطان فحازه، وحاز ما اتّصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية - فيما ذكر - فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذي بقرب من الثغريين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس؛ وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديماً بضبط تلك الناحية ممن رامها من الدّيلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما؛ يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر؛ وهما ابنا رستم أخوان؛ فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك.
وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممّن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية - فيما ذكر - وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد اللّه، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفاً على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصرانيّ فعله. فلحق بسليمان بن عبد اللّه ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشرّ، وذلك أن عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد اللّه؛ وهو أخو محمد بن عبد اللّه بن طاهر وعمّ محمد ابن طاهر بن عبد اللّه عامل المستعين على خراسان وطبرستان والرّيّ والمشرق كله يومئذ.
فلما أيقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الدّيلم، وذكّروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه؛ فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي على أرضهم من جميع نواحيها من الأرضيين والبلاد؛ إنما عمّالها إمّا عمال لطاهر؛ وإمّا من يتّخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم؛ وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد اللّه؛ فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك؛ حتى يأمنوا مما خافوا منه، فأجابهم الدّيلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونة بعضهم بعضاً على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب.

ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر - فيما ذكر - إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم؛ لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري. فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان؛ فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدةً؛ فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولا شام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد - وكان عندهم من أهل التأله والتعبد - ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردهم عنها؛ فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله؛ وهما بمدينة سارية، وانضم إلى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت؛ لما بلغهم ظهوره بها حوزية جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن إبراهيم بن الخليل بن ونداسفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم؛ فإن رئيسهم كان يومئذ والمتلك عليهم قارن بن شهريار؛ فإنه كان ممتنعاً بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الأحوال، ومخاتنة ومصاهرة كفاً من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن ومن معه.
ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرسان مما يلي كلار وسالوس من السفج - وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم. وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس؛ وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد؛ فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية؛ فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم؛ فأقام - فيما حدثت - الحسن بن زيد بآمل أياماً؛ حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد. ثم نهض بمن معه نحو سارية مريداً سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما؛ فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند؛ فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم. ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع؛ فلم يكن له ناهية دون جرجان. وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه. فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها.

فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلاً مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلاً من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته. فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع إلى همذان، وأمره بالمقام بها وضبطها إلى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد؛ ذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله وعليه صلاحه. فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه - فيما ذكر - أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائداً له من قبله، يقال له محمد بن مكيال - وهو أخو الشاه بن مكيال - في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي خارج الري؛ فذكر أن محمد بن مكيال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان؛ فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلاً، عليها قائد له من أهل اللازر، يقال له واجن: فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن مكيال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، إلتجأ محمد بن مكيال إلى مدينة الري معتصماً بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد. فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن مكيال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب؛ فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد؛ فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه أحمد بن عيسى، فصار إلى قزوين.
وفي هذه السنة غضب علي بن جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين.
وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين.
وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى.
وفيها وثب أهل حمص وقومٌ من كلب - عليهم رجل يقال له عطيف بن نعمة الكلبي - بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن؛ وهو يؤمئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب؛ فوجه المستعبن إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فلما قرب تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم؛ وافتتح حمص من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو.
وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان.
وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة.
وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا.
وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق.
وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجّه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح.
وغزا الصائفة فيها بلكاجور.
وحجّ بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر قتل باغر التركي
فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الضغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي.
ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر

ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع؛ فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي - رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك - بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيّد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا؛ فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال؛ لمكانه من بغا. وكان ابن مارمة صديقاً لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة؛ وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الأتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بدّ ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى أصير مكانه إنساناً، وشأنك به. ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب؛ وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلاً؛ فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين الدليل وباغر، وباغر يتهدد دليلاً بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه؛ فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلاً، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك؛ وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك؛ فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني؛ وإنما باغر عبدٌ من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك. فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له أنه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه؛ ويخلع عليه، ويُجلس في الدار مجلس بغا ووصيف - وهما يسميان الأميرين - ودافعوه بذلك. وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم؛ فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال: الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفاً، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء؛ فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين. فبعث إلى بغا ووصيف؛ وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة؛ وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم نريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكّر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه؛ فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا.

فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضراً دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعُطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود؛ فامتنع عليهم؛ فحبسوه في الحمام؛ وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إسطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح؛ فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة؛ فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه؛ فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعاً، وتراكض الناس يومهم - وهو يوم الثلاثاء وليلته - بالسلاح جائين وذاهبين؛ فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا؛ فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه. فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى عملوا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد؛ وقد كان وصيف أعطى قوماً من المغاربة فرساناً ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور؛ وقد كان عدةٌ من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا.
فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد - وكان أحد خلفاء وصف من الأتراك - أنه كان المتولى مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين؛ فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك إلى دور دليل بن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه؛ فانتبهوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات؛ وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب؛ ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها؛ من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار؛ لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلوا باغراً ... لقد هاج باغر حرباً طحونا
وفرّ الخليفة والقائدا ... ن بالليل يلتسمان السفينا
وصاحوا بميسان ملاحهم ... فجاءهم يسبق الناظرينا
فألزمهم بطن حراقةٍ ... وصرت مجاذيفهم سائرينا
وما كان قدر ابن مارمةٍ ... فتسكب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليلٌ سعى سعيةً ... فأخزى الإله بها العالمينا
فحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بها منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا
وأقبلت الترك والمغربون ... وجاء الفراغنة الدارعونا
تسير كراديسهم في السلاح ... يروحون خيلاً ورجلاً ثبينا
فقام بحربهم عالمٌ ... بأمر الحروب تولاه حينا
فجدد سوراً على الجانب ... ين حتى أحاطهم أجمعينا
وأحكم أبوابها المصمتات ... على السور بها المستعينا
وهيا مجانيق خطارةً ... تفيت النفوس وتحمي العرينا
وعبى فروضاً وجيشية ... ألوف ألوفٍ إذ تحسبونا
وعبى المجانيق منظومةً ... على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له، ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد؛ لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة. ومات ابن مارمة في تلك الأيام؛ فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه ... وحتفه من بعده وهلكه
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحاً قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سراً أو بمؤنة ثقيلة.
وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان

وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين ونصبهم الحرب لمن أقام على الوفاء ببيعته قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد؛ وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام - وقيل لخمسة أيام - خلون من المحرم من هذه السنة؛ فلما وافاها، نزل المستعين على محمدين بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام؛ فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعاً إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحية وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي؛ وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
وكان - فيما ذكر - وجّه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولاً، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم، ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللاً وخضوعاً، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم؛ ألو ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم؛ وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادةً لصلاحكم ورضاكم؛ وأنتم تزدادون بغياً وفساداً وتهدداً وإبعاداً!.
فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت؛ فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا؛ فإن الأرتاك ينتظرونك؛ فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكن في حلق بايكباك. وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين؛ قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك. وقال: هؤلاء قوم عجم؛ ليس لهم معرفة بحدود الكلام. وقال لهم المستعين، تصيرون إلى سامرا؛ فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في أمري ها هنا ومقامي.
فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضاً لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له؛ وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه؛ موكلٌ بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة؛ وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشأم نحواً من خمسمائة ألف دينار؛ وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس بن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار؛ فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:

بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيع طوع واعتقاد، ورضاً ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين؛ بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه؛ ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده؛ لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله وأبو عبد الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين؛ من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد؛ سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى يه أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقةً، راغبين طائعين؛ عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة؛ وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته؛ وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعةً يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها. وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها؛ لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول؛ حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين؛ إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: " إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً " .
عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد. وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ الله على أبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه؛ أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميلٌ، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدىً، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل اللّه منكم في هذه البيعة إلاّ الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممّ بايع أمير المؤمنين وولّى عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرّاً أو معلناً، مصرّحاً أو محتالاً أو متأوّلاً؛ وادّهن فيما أعطى اللّه من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق اللّه وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرّأي؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد منكم ممن خير في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل اللّه، محبوس محرّم عليه أن يرجع شيئاً من ذلك إلى ماليه؛ عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها؛ وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ؛ فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيّته، ويأتي عليه أجله. وكلّ مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة؛ ذكر أو أنثى، أحرار لوجه اللّه، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوّج بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج؛ لا يقبل اللّه منه إلا الوفغاء بها؛ وهو بريء من اللّه ورسوله، واللّه ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً؛ واللّه عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

وأحضر - فيما ذكر - البيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه النّقرس محمولاً في محفّة؛ فأمر بالبيعة فامتنع؛ وقال للمعتزّ: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها؛ فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف. فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت؛ وقد بايعنا هذا الرجل؛ فتريد أن نطلّق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس؛ وإلا فهذا السيف. فقال المعتزّ اتركوه، فردّ إلى منزله من غير بيعة.
وكان مم بايع إبراهيم الديرج وعتذاب بن عتّاب، فهرب فصار إلى بغداد، وأما الدّيرج فخلع عليه، وأقرّ على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصيّر على ديوان الضياع، وأقام يومه يأملار وينهى وينفّذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد.
ولما بايع الأتراك المعتزّ ولىّ عما له، فولّى سعيد بن صالح الشرطة، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج؛ ثم عزل وجعل مكانه محمد بن براهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر، كاتب سيما الشرابيّ، وولّى مقلّداً كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكريّة، وولّى بريد الآفاق والخاتم سيما الساربانيّ، واستكتب أبا عمر؛ فكان في حدّ الوزارة.
ولما اتصل بمحمد بن عبد اللّه خبر البيعة للمعتزّ وتوجيه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرّا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو وم معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع الشسفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرّا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامراً، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد؛ فتقدم في ذلك؛ فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة وم دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر جميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائداً في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعاً ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار؛ فبلغت النفقة - فيما ذكر - على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار؛ وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق؛ فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاسي باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحدٌ ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته، وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار؛وفيها واحدٌ كبير سموة الغضبان، وست عرادات ترمى بها إلى ناحية رقة الشماسية؛ وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، " وجعل على كل باب من أبوابها قواداً برجالهم " وجعل لكل باب من أبوابها دهليزاً بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل؛ ولكل منجنيق وعرادة رجالاً مرتبين يمدون بحباله. ورامياً يرمي إذا كان القتال. وفرض فروضاً ببغداد ومر قوم من أهل خراسان قدموا حجاجاً، فسألوا المعونة على قتال الأتراك فأعينوا. وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وتولى - فيما ذكر - عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون. وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها. عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المثيرة من العيارين رجلاً يقال له ينتويه. وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم.

وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامراً شيئاً؛ وإلى عماب المعاون في رد كتب الأتراك. وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامراً يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته؛ وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي.
ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات يدعو المعتز محمداً إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له؛ تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها.
وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطير وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادرويا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار. وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي. وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه. فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار.
ثم وجه بعدها رشيد بن كاوس ، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد بن وبندار بالشمسة فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين.
وكان محمد بن الحسن بن جياويه الكردي يتولى معونة عكبراء؛ وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب؛ فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم. وكتب كل ولاحد من المستعين والمعتز إلى موسى بغا وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة وكان خرج إلى حمص لحرب بأهلها - يدعوه إلى نفسه، وبعث كلّ واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب ويأمره المستعين بالإنصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف إلى المعتز وصار معه. وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على أبيه؛ وكان قد تخلف بسامراً حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك. وأقام ببغداد أياماً، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له؛ فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي إلى سامراً مجانياً لأبيه وممالئاً عليه؛ واعتذر إلى المعتز من مصره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف أخبارهم، وليصير إليه فيعرفه صحتها. فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته.
وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر.
ولم يزل أسد بن داودسياه مقيماً بسامراً، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأننار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارساً، فوافى مدينة السلام؛ فدخل على محمد بن عبد الله فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن أبي خالد.

وعقد المعتز لأخيه أبي حمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة - وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين - على حرب المستعين وابن طاهر؛ وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراعنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم؛ فصلى أبو أحمد ودعا للمعتز بالخلافة؛ وكتب بذلك نسخاً إلى المعتز؛ فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم؛ وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتبهون القرى ما بين عكبراء، وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفاً على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع؛ فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق.
ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلاً، فاجتازوا بباب الشماسية؛ وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم؛ وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنقه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها.
ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية.
ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسيّة ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد اللّه بن بشر بن سعد المرثديّ، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتزّ الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن أحمد البناتي، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريتيّن كان في عسكره ويعرف بباذنجانة:
يا بني طاهر أتتكم جنود الل ... ه والموت بينها منثور
وجيوشٌ أما مهنّ أبو أحم ... د نعم المولى ونعم النصير
ولمّا صار أبو أحمد بباب الشماسيّة ولّى المستعين الحسين بن إسماعيل باب الشماسية، وصيّر من هناك من القّواد تحت يده؛ فلم يزل مقيماً هناك مدّة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار؛ فولّى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم؛ ولثلاث عشرة مضت من صفر؛ صار إلى محمد بن عبد اللّه جاسوس له؛ فأعلمه أن أبا أحمد قد عبّى قوماً يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم.
وذكر أن محمد بن عبد اللّه وجّه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربيّ، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويجزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفى إنسان، معهم ألف دابة؛ فلما كان يوم الإثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسيّة، فوقفوا بالقرب منه؛ فوجّه محمد بن عبد اللّه الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبريّ فيمن معهم؛ وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسيّة.
فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم؛ فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم بن محمد بن عبد اللّه على توجيه الجيوش إلا القفص ليعرض جنده هنالك، ويرهب بذلك الأتراك؛ وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر؛ وعليه ساعد حديد؛ ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عمّا هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد اللّه ولىّ العهد بعد المستعين؛ فإن قبلوا الأمان وإلاّ باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاإثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر؛ فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطىء دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدّم لكثرة الناس؛ وعارضهم من جانب دجلة الشرقيّ محمد بن راشد المغربيّ.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35