كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

ذكر أن أكثر أصحاب الفاسق غارات، وأرشدهم تعرضاً لقطع السبيل وأخذ الأموال، كان بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان قد جمع من ذلك مالاً جليلاً، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب الموفق أخذها فأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من النهر قوم من أصحابه قد أعد لهم لذلك، فاقتطعوه وأوقعوا به؛ فلما كثر ذلك وتحرز منه ركب شذاة، وشبهها بشذوات الموفق، ونصب عليها مثل أعلامه، وسار بها في دجلة، فإذا ظفر بغرة من أهل العسكر أوقع بهم، فقتل وأسر، ويتجاوز إلى نهر الأبلة ونهر معقل وبثق شيرين ونهر الدير فيقطع السبل، ويعبث في أموال السابلة ودمائهم، فرأى الموفق عندما انتهى إليه من أفعال بهبوذ أن يسكر جميع الأنهار التي يخف سكرها، ويرتب الشذاة على فةهة الأنهار العظام، ليأمن عبث بهبوذ وأشياعه، ويأمن سبل الناس ومسالكهم، فلما حرست هذه المسالك وسكر ما أمكن سكره من الأنهار، وحيل بين بهبوذ وبين ما كان يفعل، أقام منتهزاً فرصة في غفلة أصحاب الشذا الموكلين بفوهة نهر الأبلة، حتى وجد ذلك اجتاز من مؤخر نهر أبي الخصيب في شذوات مثل أصحاب الموفق وسميرياتهم، ونصب عليها مثل أعمهم، وشحنها بجلد أصحابه وشجعانهم، واعترض بها في معترض يؤدي إلى النهر المعروف باليهودي، ثم سلك نهر نافذ حتى خرج منه إلى نهر الأبلة، وانتهى إلى الشذوات والسميريات المرتبة لحفظ النهر، وأهلها غارون غافلون، فأوقع بهم، وقتل جمعاً، وأسر أسرى وأخذ ست شذوات، وكر راجعاً في نهر الأبلة وانتهى الخبر بما كان من يهود إلى الموفق فأمر أبا العباس بمعارضته في الشذا من النهر المعروف باليهودي ورجا أن يسبقه إلى المعترض قيفطعه عن الطريق المؤدي إلى مأمنه.
فوافى أبو العباس الموضع المعروف بالمطوعة، وقد سبق بهبوذ فولج النهر المعروف بالسعيدي؛ وهو نهر يؤدي إلى نهر أبي الخصيب. وبصر أبو العباس بشذوات بهبوذ، وطمع في ادراكها فجد في طلبها فأدركها ونشبت الحرب فقتل أبو العباس من أصحاب بهبوذ جمعاً وأسر جمعاً، وأستأمن إليه فريق منهم، وتلقى من أشياعه خلق كثير فعاووه ودافعوا عنه دفعاً شديداً، وقد كان المال جزر، فجرت شذواته في الطين في المواضع التي نضب الماء عنها من تلك الأنهار والمعترضات، فأفلت بهبوذ والباقون من أصحابه بجريعة الذقن.
وأقام الموفق على حصار الخبيث ومن معه، وسد المسالك التي كانت المير تأتيهم منها، وكثر المستأمنون منهم، فأمر الموفق لهم بالخلع والجوائز، وحملوا على الخيل الجياد بسروجها ولجمها وآلتها، وأجريت لهم الأرزاق، وانتهى الخبر إلى الموفق بعد ذلك أن الضر والبؤس قد أحوج جماعةً من أصحاب الخبيث إلى التفرق في القرى لطلب القوت من السمك والتمر، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى تلك القرى والنواحي والإسراع إليها في الشذا والسميريات، وما خف من الزواريق وأن يستصحب جلد أصحابه وشجعانهم وأبطالهم ليحول بين هؤلاء الرجال والرجوع إلى مدينة صاحب الزنج؛ فتوجه أبو العباس لذلك، وعلم الخبيث بمسير أبي العباس له، فأمر بهبوذ أن يسير في أصحابه في المعترضات والأنهار الغامضة ليخفى خبره، إلى أن يوافى القندل وأبراسان ونواحيها، فنهض بهبوذ لما أمره به الخبيث من ذلك فاعترضت له في طريقه سميرية من سميريات أبي العباس، فيها غلمان من غلمانه الناشبة في جماعة الزنج، فقصد بهبوذ لهذه السميرية طامعاً فيها، فحاربه أهلها، فأصابته طعنة في بطنه من يد غلام من مقاتلة السميرية أسود، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه، وولوا منهزمين إلى عسكر الخبيث، فلم يصلوا به إليه؛ حتى أراح الله منه؛ فعظمت الفجيعة به على الفاسق وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وكان قتله الخبيث من أعظم الفتوح، وخفى هلاكه على أبي أحمد؛ حتى استأمن رجلٌ من الملاحين، فأنهى إليه الخبر، فسر بذلك، وأمر بإحضار الغلام الذي ولي قتله، فأحضر، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في أرزاقه، وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بجوائز وخلع وصلات.
وفي هذه السنة كان أول شهر رمضان منها يوم الأحد، وكان الأحد الثاني من السعانين وفي الأحد الثالث الفصح، وفي الأحد الرابع النيروز، وفي الأحد الخامس انسلاخ الشهر.

وفيها ظفر أبو أحمد بالذوائبي، وكان ممايلاً لصاحب الزنج.
وفيها كانت وقعة بين يدكوتكين بن إستاتكين وأحمد بن عبد العزيز، فهزمه يدكوكتين وغلبه على قم.
وفيها وجه عمرو بن الليث قائداً بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله بن أزار مرد الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.
وفي ذي القعدة منها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي بالشام يقال له بكاريين سلمية وحلب وحمص؛ فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً يقال له بوذن في عسكر وجيش كثيف، فرجع وليس معه كثر أحد.
وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون.
وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد.
وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، قتله غلام له في ذي الحجة.
وفيها قتل أصحاب ابن أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية ناحية واسط، ونصيب رأسه ببغداد.
وفيها حارب محمد بن كمشجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ابن كمشجور كفتمر ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.
وفيها أسر العلوي الذي يعرف بالحرون، وذلك أنه اتعرض الخريطة التي يوجه بها بخبر الموسم فأخذها، فوجه خليفة ابن أبي الساج على طريق مكة من أخذ الحرون، ووجهه إلى الموفق.
وفيها كان مصير أبي المغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، فجمع هارون جمعاً نحواً من ألفين، فامتنع بهم منه فصار المخزومي إلى عين مشاش فعورها، وإلى جدة، فنهب الطعام، وحرق بيوت أهلها، فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم.
وفيها خرج ابن الصقلبية طاغية الروم، فأناخ على ملطية، وأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم الطاغية، وتبعوه إلى السريع.
وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً، وغنم الناس، فبلغ السهم أربعين ديناراً.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل، وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة، ثم حمل في شذاة، ومضى به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل.
وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحواً من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناساً كثيرين.
وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفاً، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر.
وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره؛ وكان السبب في ذلك أن غلاماً له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه؛ فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعة وجرحوا جماعة؛ فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر - وكان على الجسر من قبل أبيه - دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه برده عليه.
وفيها وجه ابن أبي الساج بعدما صار إلى الطائف منصرفاً من مكة إلى جدة جيشاً، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مالٌ وسلاح.
وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشي، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت.
وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الأول منها بالثغور الشأمية؛ وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعة من أهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر؛ فبلغ ذلك ابن طولون فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشأمية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها.

وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه؛ وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيداً وأخاه ابني العباس الكلابي. ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطاً، فأجابه أبو أحمد إلى ما سأله؛ وكان مقيماً بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، وأقبل لؤلؤ يريد بغداد.
ذكر خبر إصابة الموفقوفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم - رماه غلام رومي، يقال له قرطاس - للخبيث بعدما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهراً وذهباً وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه، وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دوراً من دوره، وهدم أبنيةً؛ طمعاً في أن يجد في شيء منها دفيناً، فلم يجد من ذلك شيئاً؛ وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم. ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعاً في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب؛ فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني نوباً، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه.
وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم. ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته. وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره؛ فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون إصلاحه من أمر عسكرهم الذي يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له. فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلاً إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفةً منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم؛ ولجأت طائفاٌ إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفراً، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم. وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتاً، أو يجد مساغاً إلى شيء مما يكون له فيه متنفس؛ لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه.

فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى؛ فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك؛ كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعاً لمدافعة من يأتيهم.
فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعى به جد أصحابه واجتهادهم، ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم؛ ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين؛ وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أياماً يغادي الفسقة ويراوحهم؛ فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فيناولون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب؛ فأمر قواداً من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما؛ وتقدم إليهم في أن يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عوناً لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك.
فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعة من أصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهمٌ في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى أصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة.
وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها.
وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه؛ بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه؛ فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه. وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرمون من ذلك؛ وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع. والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم؛ حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقاً من أن يخلو موقف رجل منهم؛ فيدخل الخلل على سائر أصحابه.

فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصبة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجداً، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجداً، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلاً مسروراً. ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي. وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه؛ فانتهبت وأحرقت وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض؛ فما يكاد الرجل يبصره صاحبه. فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلي ذلك؛ حتى وصل سهمٌ من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف إلى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم أمرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح؛ واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم؛ حتى خرج عن مدينته جماعةٌ ممن كان مقيماً بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه؛ فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث. فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه؛ فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته؛ وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلاً مودعاً نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظباً عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره - بعدما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا - أن ذلك باطلٌ لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم.
ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصروفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد؛ ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون - يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي - الرقة، فلما صار المعتد إلى عمل إسحاق بن كنداج - وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة - وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم. وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا.

وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، أن ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد؛ إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه. وقد كان من مع المعتمد من القواد حروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم؛ فأبى إلا المرور به - فيما ذكر - وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد؛ فإن في الطريق إليه صيداً كثيراً. فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد - فيما ذكر - منزلاً قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده؛ وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون؛ فالأمر أمره، وأتم من تحت يده ومن جنده؛ أفترضون بذلك؛ وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء. فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه. فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه؛ لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضى به غير مضربه؛ لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه. فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيوم، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم؛ فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا.
وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها؛ وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدةً من كور خراسان خراجها سلفاً لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها.
وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفصل بن العباس العباسي العامل على المدينة.
وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الطوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فاهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه.
ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير.
ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلّد سيفين بحمائل: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين، وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفاً كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده.
ذكر الخبر عن إحراق قصر صاحب الزنجوفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه:

ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته؛ وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر؛ وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوت أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه؛ حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب؛ ففعلوا ذلك؛ فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة، فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتلة وولجوا النهر؛ فقتلوا فيه مقتلةً عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنفذوا عدداً من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلاً من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي؛ وكانت متصلة بدار الخبيث؛ فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه؛ ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلاً، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم؛ ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقاً حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره. فرأى الموفق بعدما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنداق والأنهار والمواضع العورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة. فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة. ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمرٌ عظيم؛ حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح؛ وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم. فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره؛ فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم؛ فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا؛ فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلي بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعاً شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعاً من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج.
فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استئمانه - فيما ذكر محمد بن الحسن - أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كارهٌ على علم منه بضلالته. قال: وكنت له على ذلك مواصلاً، وكنا جميعاً ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره؛ شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفساً بألا أستصحب ولداً و أهلاً، وأن أنجوا وحيداً؛ فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له، الرأي لك ما رأيت؛ إذ كنت إنما تخلف ولداً صغيراً لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيد حدثاً يلزمك عاره، فأما أنا معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعرضهن لسطوة الفاجر، فامض شأنك؛ فأخبره عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معاً وصبرنا.

فوجه محمد بن سمعان وكيلاً له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق. وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان؛ وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطلية بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته، فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة، فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد إلى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظلة بالقصد، لما كان مطلاً على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سبباً لتمكنها من دار الخبيث.
وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظلة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شئ مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هارباً، وترك ذلك كله. وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم؛ فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنفذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها ناراً، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم، فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك. وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراح شديدة في بطنه أشفى منه على التلف.
ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بأبي حمزةوفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير.
ذكر سبب غرقه:

ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيراً المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخدهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، وأخرج جمعاً من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضاً، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضاً؛ حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل. ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعراً ووجلاً، ودخل الزنج الشذوات ، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعلياً عليهم؛ وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع؛ قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافراً سالماً، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي علة من وجع المفاصل؛ فأقام فيهم بقية شعبان وشهر رمضان وأياماً من شوال ممسكاً عن حرب الفاسق. فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقة، فتأهب لذلك جميع أصحابه.
وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل.
وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة.
وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشأم يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيجٌ يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب.
ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجا نقذف وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق بن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك.
وفي آخر شوال منها دخل ابن الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشأم. ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء؛ فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي.
ذكر الخبر عن الوقعة التي كانت بين الموفق وبين الزنجوفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثاراً، وصل بها إلى مراده منها.
ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان فيها:

ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها أدقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكراً بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بأبي الخصيب فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر الخصيب؛ فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في غربيه؛ حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المنصوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم ناراً لتحترق بها القنطرة في وقت المد. فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغريهم، ويقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماةً عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر. ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقة عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها النجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها.
وكان الفاسق أحكم هذه القنطرة والبدود إحكاماً تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع المار؛ ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا؛ فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم؛ فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه؛ وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر؛ ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم؛ ليزدادوا بذلك جداً واجتهاداً في حرب عدوهم.
ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب؛ وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجري، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه؛ ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه؛ فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم؛ ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك؛ فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك؛ فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا؛ ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق؛ لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار؛ فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه.
خبر انتقال صاحب الزنج إلى شرقي نهر أبي الخصيبوفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة.
ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه

وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي

ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلاً كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به؛ وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفاً شديداً وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم؛ فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس؛ فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعفهم؛ فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه؛ ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحداً ممن فعل شيئاً من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه.
وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريداً سليباً من غربي نهر أبي الخصيب تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعاً، يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمذاني - وكان الهمذاني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه - وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا لدار الهمذاني، ومعهم الفعلة؛ وقد كان هذا الموضع محصناً بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة.
والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس؛ فكانوا يداً واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمذاني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور؛ حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار أن أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمذاني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنفذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عدداً كثيراً، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن.

ولم تزل في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعةٌ من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه؛ فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار الهمذاني متصلةً بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم؛ واستوحشوا لذلك. واضطروا إلى الخروج في الأمان. فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه؛ فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول؛ وأمر راشداً مولاه بقصدها مما يلي دار الهمذاني، وأمر قواداً من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أم به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنضهوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه. وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب.
وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه ناراً فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم؛ ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رءوس المقاتلة؛ فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل. ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم. وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفاً من من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها.
ثم إن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقاً عريضاً من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور؛ لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع فيه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا عما قرب من سور نهر الغربي؛ وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمؤروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور.
وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع.
فانصرف الموفق وجميع أصحابه إلى الموفقية، فأمر بمداواة الجرحى، ووصل كل امرئ على قدر الجراح التي أصابته؛ وعلى ذلك كان أجرى التدبير في جميع وقائعه منذ أول محاربته الفاسق إلى أن قتله الله.

وأقام الموفق بعد هذ الوقعة مدة، ثم رأى معادوة هذا الموضع والتشاغل به دون المواضع، لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وصبرهم، وأنه لا يتهيأ ما يقدر فيما بين الغربي وجوى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد ما يحتاج إليه من آلات الهدم، واستكثر من الفعلة، وانتخب المقاتلة الناشبة والرامحة والسودان أصحاب السيوف، وقصد هذا الموضع على مثل قصده له المرة الأولى، فأخرج الرجالة في المواضع التي رأى إخراجهم فيها، وأدخل عدداً من الشذا النهر، ونشبت الحرب ودامته، وصبر الفسقة أشد صبر، وصير لهم أصحاب الموفق.
واستمد الفلسفة طاغيتهم، فوافاهم المهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما، فقويت قلوبهم عند ذلك، وحملوا على أصحاب الموفق، وخرج سليمان كميناً مما يلي جوى كور، فأزالوا أصحاب الموفغق حتى انتهوا إلى سفنهم، وقتلوا منهم جماعة وانصرف الموفق ولم يبلغ كل الذي أراد، وتبين أنه قد كان يجب أن يحارب الفسقة من عدة مواضع، ليفرق جمعهم، فيخف وطؤهم على من يقصد لهذا الموضع الصعب، وينال منه ما يجب، فعزم على معاونتهم، وتقدم إلى أبي العباس وغيره من قواده في العبور واختيار أنجاد رجالهم، ووكل مسروراً مولاه بالنهر المعروف بمنكى، وأمره أن يخرج رجاله في ذلك الموضع وما يتصل به من الجبال والنخل، لتشتغل قلوب الفجرة، وليروا أن عليهم تدبيراً من تلك الجهة، وأمر أبا العباس بإخراج أصحابه على جوى كور، ونظم الشذا على هذه الموضع المعروف بالدباسين؛ وهو أسفل نهر الغربي، وصار الموفق إلى نهر الغربي، وأمر قواده وغلمانه أن يخرجوا في أصحابهم فيحاربوا الفسقة في حصنهم ومعقلهم، وألا ينصرفوا عنهم حتى يفتح الله لهم، أو يبلغ إرادته منهم. ووكل بالسور من يهدمه، وتسرع الفسقة كعادتهم، وأطمعهم ما تقدم من الوقعتين اللتين ذكرناهما، فثبت لهم غلمان الموفق، وصدقوهم اللقاء؛ فأنزل الله عليهم نصره، فأزالوا الفسقة عن مواقفهم، وقوى أصحاب الموفق، فحملوا عليهم حملة كشفوهم بها، فانهزموا وخلوا عن حصنهم، وصار في أيدي غلمان الموفق فهدموه، وأحرقوا منازلهم، وغنموا ما كان فيها، واتبعوا المنهزمين منهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا، واستنفذوا من هذا الحصن من النساء المأسورات خلقاً كثيراً، فأمر الموفق بحملهن والإحسان إليهن، وأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم ففعلوا، وانصرف إلى عسكره بالموفقية، وقد بلغ ما حاول من هذا الموضع.
ذكر خبر دخول الموفق مدينة صاحب الزنجوفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب.
ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقلام يصلح المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام، ثم رأى القصد لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضاً عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة كبيرة تملأ قصباً قد سقى النفط، وأن ينصب في وسطه السفينة دقل طويل يمعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة وتفرقهم. فلما وجد ذلك في آخر النهار قدّمت السفينة فجرّها الشذا حتى وردت النهر، وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوى المدّ، فوافت القنطرة، ونذر الزّنج بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة بالحجارة والآجرّ، ويهيلون عليها التراب، ويصبّون الماء، وغاص بعضهم فنقبها؛ وقد كانت أحرقت من الجسر شيئاً يسيراً، فأطفأه الفسقة، وغرّقوا السفينة وحازوها؛ فصارت في أيديهم.

فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قوّاد غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك والّلأمة الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربيّ النهر، وجعل الآخر في شرقيّه، وركب الوفق في مواليه وخدّامه وغلمانه الشذّوات والسّميريّات، وقصد فوّهة نهر أبي الخصيب؛ وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوّال سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له من غربيّ نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكّلاً به من أصحاب الفاسق، وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار وطرح عليه القصب وما كان أعدّ له من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هنالك من أعوان الخبيث، ووافى بعد ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقيّ، ففعلوا ما أمروا به من إحراقه.
وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه؛ ففعلا ذلك، فقصد إليهما من كان بإزائهما، وحاربوهم حرباً غليظاً حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق وسميريّاته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا شيئاً يسيراً من الشذّوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان بن جامع، والنتهى غلمان إلى سجن كان للخبيث في غربيّ نهر أبي الخصيب، فحامى عنه الزّنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم عليه غلمان الموفقّ، فتخلّصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من كان في الجانب الشرقيّ من غلمان الوفق، بعد أن أحرقوا ما ولّوا من الجسر إلى الموضع المعروف بدار مصلح؛ وهو من قدماء قوّاد الفاسق، فدخلوا داره وأنهبوا، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم، وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فأمر الموفق أبا العباس بتقديم عدّة من الشّذا إلى ذلك الموضع، ففعل ذلك؛ فكان فيمن تقدّم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى هذه الأدقال، وأخرجوا إليها قد كانوا أعدّوهم لها معهم الفئوس والمناشير، ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابعهما على حافتيه فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين، واستنقذ خلق كثير. وأتى الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه بها، وأحسن إليه ووصله. وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعلت من النهار، بعد أن انحاز الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن. ومال جميع كثير من قواده وأصحابه الذين كان يرى أنهم يقارقونه إلى طلب الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالاً، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع.
ثم إن الموفق واظب على ادخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة.

فبينا الموفق في بعض أيامه - التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب - واقف في موضع من النهر؛ وذلك في يوم الجمعة، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر، وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض كان للخبيث في مدينته؛ فكان ذلك مما فت في أعضادهم؛ وكان الخبثث جمع ما كان بقي له من السفن البحرية وغيرها، فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك؛ فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحريه التي تليه، وأخذ ما أمكن أخذه منها، ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه ووجميع أصحابه حفظه وحراسته خوفاً من أن تتهيأ حيلة، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه أصحاب الموفق، فيكون ذلك سبباً ستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر الأول أياماً يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة، ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج.
وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك التي كانت تخفي عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب، فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه، وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى يحضره في أعياده؛ فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل المعروف بجبل المكتنى بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في أصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع، وأمر جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعاً من هذه الجبال موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من الغلمان المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه؛ ليتصلوا بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر. وأمرهم بحمل الآلات من المعول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشداً موه بقصد الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة من ارتضاه، وأعد معهم من اآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه لذلك؛ وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعاً بين الفريقين، واشتد القتال.

وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثث ساعات من النهار. ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شئ، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته؛ فكان الموفق إذا أتى برأس من الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس، ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام؛ ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر ناراً، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى شرقي نهر أإبي الخصيب، فحالت النار بينهما وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي الخصيب، فغرق منهم خلق كثير وأفلت أنكلاى وسليمان بعد أن أشفيا على الهك، واجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع عد أن ألقيت عليه سفينة مملوءة قصباً مضروماً بالنار فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعاً، فأحرقوا من دروهم وقصورهم وأسواقهم شيئاً كثيراً، واستنفذوا من النساء المأسورات والأطفال ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور إلى الموفقية.
وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره منازلة الدار المعروفة بأحمد بن موسى القلوص الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص؛ فقصد جماعة من غلمان الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع، وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم يرقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله، واستنفذ في هذا اليوم نسوة علويات كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجناً كان الفاسق اتخذه في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقاً كثيراً ممن كان أسر من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم. فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد عنهم وحملهم عنهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوةم كل ما كان بقي في نهر أبي الخصيب من شذاً ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلات وغير ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم.
وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار في ذي القعدة وأنزل دار زيرك.
وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في ذلك رسولاً وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله، وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب. وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان من ابنه فعذله - فيما ذكر - على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان، فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب نفسه.
ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الأمان

وفيها وجه أيضاً سليمان بن موسى الشعراني - وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق - من يطلل الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان؛ استصلاحاً بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده، فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه أنزالاً سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه؛ فلم يبرح الشذا من موضعها من نهر أبي الخصيب حتى استأمن من جمع كثير من قواد الزنج وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم.
ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخره عسكره، ووهي أمره وضعف؛ فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم، وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يرقف شذوات عند دار ابن سمعان؛ ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده ورجاله في الليل إليها.
فأعطى الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن توقف له؛ فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم؛ وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم لمنعه من المصير إلى الشذا. وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل وأصحابه، وقتلوا منهم نفراً؛ فصاروا إلى الشذا سالمين، فصيرهم بهم إلى قصر الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح؛ فأمر الموفق أن يوصل شبل بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعاً كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها ولجمها.
وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذي الغناء والبلاء في نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال، وضموا جميعاً إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه. فعظم ذلك على الفاسق وأوليائه، لما رأو من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمورالتي يكيد بها الخبيث؛ فأمره بتبيت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما أمرهم به من البيات، لعلمهم بالمسالك في عسكر الخبيث.
فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعاً كان عرفه، فكسبه في السحر، فوافى به جمعاً كثيفاً من الزنج في عدة، من قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جمعاً من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحاً كثيراً، وانصرف ومن كان معه سالمين، فأتى بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة منهم.
ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعراً شديداً، وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة؛ حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية.

ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلاً ونهاراً من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه؛ حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلساً عاماً، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كمه. ثم خاطبهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق دين لهم من معاصي الله؛ وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر له الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله، فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة؛ وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته؛ وأنهم لن يأتوا شيئاً يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم؛ فهم أحرياء أن يمحضوه نصيحتهم ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصوته، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه؛ فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، وإن من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته. فارتفعت أصواتهم جميعاً بالدعاء للوفق والإقرار بإحسانه. وبما هم عليه من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا، وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد.
خبر دخول الموفق مدينة صاحب الزنج وتخريب دارهوفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فخرب داره، وانتهب ما كان فيها.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره؛ إذ كان ما في عسكره مقصراً عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها الملاحون الراتبة، فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضى عددها، تقدم إلى أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغري من نهر أبي الخصيب، وضم إليه قواداً من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقاً كثيراً من أصحابه؛ ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع.

فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشداً مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفاً، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه، وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى. وأمر فريقاً من غلمانه بالخروج على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو الخائن؛ فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار المهلبي ليلقاهم هناك من أمر العبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يداً واحدة على الفسقة.
فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعاً، وأبرزوا سفنهم في عشية يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضاً، ومشت الرجالة وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء اخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر؛ وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره. واتخذ فيه قصراً وميداناً لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه؛ فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه؛ فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق؛ وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار.
فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه؛ وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره؛ لتكون حصناً للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب؛ وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب.
وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال؛ فمن الله عليهم بالنصر، وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعاً كثيراً.
وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاج أصحابه للمدافعة عنها؛ فلما لم يغنوا عنها شيئاً أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه؛ فانتبهوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث؛ وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هارباً نحو دار المهلبي، لا يلوى على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم.
وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث؛ المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب.

وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم؛ فانكشفوا، وأتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعةً يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا من النساء والمتاع.
وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم؛ فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملةً صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبييث؛ فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدر وسكون؛ فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم؛ حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة.
وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعاً من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيراً، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالاً إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب.
وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائداً من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره. وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على ادخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره؛ فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفاً إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجال الذين قدموا كان زهاء عشرة آلاف، فأمر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم؛ وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث. فأقام أياماً بعد قدومه لما أمر به.
فهم في ذلك من أمرهم؛ إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه؛ ليشهد عليه حرب الفاسق. فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم، وأخر ما كان عزم عليه من مناجرة الفاجر انتظاراً منه قدوم لؤلؤ؛ وكان لؤلؤ مقيماً بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون؛ فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له ابو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم؛ فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكراً كان أعد بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدم إليه في مباكرة المصير إلى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه. فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلّم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيراً، وأمر أن يخلع عليع وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسي والأموال في البدور، ما يحمله مائة غلام؛ وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسي على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعة ضياعاً جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم؛ فرفع ذلك؛ فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجري له وأمر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم.

ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه؛ وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكراً في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر باباً ضيقاً ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمؤونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه.
فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤاً أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل. فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره. فأمر لؤلؤاً بصرف أصحابه إشفاقاً عليهم، وضناً بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر؛ فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعلمون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم.
وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فهيها مزارع وخضر وقنطرتان على هر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه؛ ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كميناً في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقاً غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين؛ ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرصين. وأمر زيرك أن يخرج في وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق.
وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه؛ فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم؛ فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجالة على حافيته، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى. وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله؛ حتى ألقوا أكثره. وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي.
وفي ذي الحجة من هذه السنة. أعني سنة تسع وستين ومائتين - أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين.
وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة في أربعمائة وسبعين فارساً وألفي راجل؛ فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤاسء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارساً ومائتي أسود وثلاثين فارساً من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفراً حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال، وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف، وحوى جعفر مضرب الغنوي. وقيل: إنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.

وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي ولم يبرح إسحاق بن كنداج - وقد ولي المغرب كله في هذه السنة - سامرا حتى انقضت السنة.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج أضعفت أركان صاحب الزنج.
ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج وأسر معهوفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني واستريح من أسباب الفاسق.
ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك. ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحاً على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيماً فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبى الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه؛ فكان ممن صار إليه من الموعه أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة؛ فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث. ثم قدم بعده من أهل البحرين - فيما ذكر - خلق كثير؛ زهاء ألفى رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد ودخل إليه رئيسهم ووجوههم؛ فأمر أن يخلع عليهم؛ واعترض رجالهم أجمعين. وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كورفارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم بالإنزال، ثم تابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارساً وراجلاً؛ لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها؛ فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفاً أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جماً كثيراً أكثرهم من الفرسان.
وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي العقدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضاً، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي. وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشداً ولؤلؤ، مولياً الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفاً، يتلو بعضهم يعضاً، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك، وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازياً لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحف بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضاً؛ وجعل لهم أمارة الزحف؛ تحريك علم أسود أمر بنصه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة؛ حتى قرب من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعاً، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم بعض.

فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضاً، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير. وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، وأتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون. وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنفذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية. ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هراباً، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته؛ وذلك على النهر المعروف بالسفياني.
وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب؛ وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعاً في تلك الدار.
وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصداً للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون؛ فأتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ أصحابه خلفهم وألجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه.
وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الحيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى ذها الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقاً. ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه. فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحداً من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصداً لصقره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعاً بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى. وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم؛ فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره؛ وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحداً إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفرهم الله به؛ فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها إلى الموفقية عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به. وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه؛ فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم.

وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم؛ فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة؛ حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائداً من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته. وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم.
وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم.
وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد انصراف الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعةً أزالوهم بها عن مواقفهم؛ فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وأتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي.
وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبة الموفق من أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر الريحان المنهزمين من أصحاب الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح. ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض الفجرة، فأوقع بهم. وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته، فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء عنه. وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمذاني - وكان أحد أمراء جيوشه - وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر - فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس. ففعل ذلك.
ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث، وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، وجدوا في الطلب معه.
وانتهى الموفق إلى نهر أبيالخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر؛ ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة. ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه، فخر لله ساجداً على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكراً لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله.
وذكر أن أصحاب الموفق لما أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولي عنه هارباً وأسلمه. وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصناً بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من دجلة، فردت ليعبر الناس فيها.

ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية، وأمر أبا العباس بركوب الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعاً في العسكر؛ ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد. فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح الرأس وتنقيته.
وذكر أنه تتابع مجئ الزنج الذين كانوا أقلموا مع الخبيث وآثروا صحبته، فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من كثرتهم وشجاعتهم، لئ تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله، فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد الاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم خلق كثير لا يرقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعة زهاء ألف زنجي مالوا نحو البر، فمات أكثرهم عطشاً، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم.
وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم بالتضيق عليهم؛ فلما أيقنوا بأن لا ملجأ أعطوا بأيديهم، فظفر بهم الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد. وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل.
وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد. فأخذه وحمله في وثاق، فسأل أبو العباس إياه أن يوليه قتله فدفعه إليه فقتله.
ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي إلى أبي أحمدوفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه هذا - فيما ذكر - من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الفاجر وجهه قبل هلاكه بمدة طويلة إلى أواخر نهر الفهرج، وهي من البصرة في غربي دجلة، فأقام هنالك بموضع وعر كثير النخل والدغل والآجام متصل بالبطيحة، وكان درمويه ومن معه هنالك يقطعون على السابلة في زواريق خفاف وسميريات اتخذوها لأنفسهم، فإذا طلبهم أصحاب الشذا ولجوا الأنهار الضيقة. واعتصموا بمواضع الأدغال منها، وإذا تعذر عليهم مسالك نهر منها لضيقها خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم، ولجئوا إلى هذه المواضع الممتنعة،.
وفي خلال ذلك يغيرون على قرى البطيحة وما يليها، فيقتلون ويسلبون من ظفروا به فمكث درمويه ومن معه يفعلون هذه الأفعال إلى أن قتل الفاجر وهم بموضعهم الذي وصفنا أمره، لا يعملون بشيء مما حدث على صاحبهم. فلما فتح بقتل الخبيث موضعه، وأمن الناس وانتشروا في طلب المكاسب وحمل التجارات، وسلكت السابلة دجلة، أوقع درمويه بهم، فقتل وسلب، فأوحش الناس ذلك، واشرأب لمثل ما فيه درمويه جماعة من شرار الناس وفساقهم، وحدثوا أنفسهم بالمصير إليه وبالمقام معه على مثل ما هو عليه، فعزم الموفق على تسريح جيش من غلمانه السوان ومن جرى مجراهم من أهل البصر بالحرب في الأدغال ومضايق الأنهار، وأعد لذلك صغار السفن وصنوف السلاح؛ فبينا هو في ذلك وافى رسول لدرمويه يسأل الأمان له على نفسه وأصحابه، فرأى الموفق أن يؤمنه ليقطع مادة الشر الذي كان فيه الناس من الفاجر وأشياعه.
وذكر أن سبب طلب درمويه الأمان كان أنه كان فيمن أوقع به يومٌ ممن خرج من عسكر الموفق إلى منازلهم بمدينة السلام، فيهم نسوة، فقتلهم وسلبهم، وغلب على النسوة اللاتي من معهم؛ فلما صرن في يده بحثهن عن الخبر فأخبرته بقتل الفاسق والظفر بالمهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع وغريهم من رؤءا أصحاب الفاسق وقواده ومصير أكثرهم إلى الموفق في الأمان وقبوله إياهم وإحسانه إليهم؛ فأسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا التعوذ بالأمان ومسألة الموفق الصفح عن جرمه، فوجه في ذلك، فأجيب إليه. فلما ورد عليه الأمان خرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق، فوافت منهم قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبها بؤس الحصار وضره مثل ما أصاب سائر أصحاب الخبيث، لما كان يصل إليهم من أموال الناس وميرهم.

فذكر أن درمويه لما أومن وأحسن إليه وإلى أصحابه، أظهر كل ما كان في يده وأيدهم من أموال الناس وأمتعتهم، ورد كل شيء منه إلى أهله رداً ظاهراً مكشوفاً، فووفق بذلك على إنابته، فخلع عليه وعلى وجوه أصحابه وقواده، ووصلوا. فضمنهم الموفق إلى قائد من قواد غلمانه، وأمر الموفق أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكودر دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم. ففعل ذلك، فسارع الناس إلى ما أمروا به، وقدموا المدينة الموفقية من جميع النواحي.
وأقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمناً وإيناساً، وولي البصرة والأبلة وكور دجلة رجلاً من قواد مواليه قد كان حمد مذهبه، ووقف على حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس؛ فأمره بالانتقال إلى البصرة والمقام بها.
وولي قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة وواسط محمد بن حماد.
وقدم ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام، ومعه رأس الخبيث صاحب الزنج ليراه الناس، فاستبشروا، فنفذ أبو العباس في جيشه حتى وافى مدينة السلام يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فدخلها في أحسن زي، وأمر برأس الخبيث فسير به بين يديه على قناة، واجتمع الناس لذلك.
وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقي من شهر رمضان سنة خمس خمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه من لدن خرج إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين، فقال - فيما كان من أمر الموفق، وأمر المخذول - الشعراء أشعاراً كثيرة، فمما قيل في ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعةٍ ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا
جزى الله خير الناس للناس بعدما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا
تفرد إذ لم ينصر الله ناصرٌ ... بتجديد دينٍ كان أصبح باليا
وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ... وإدراك ثاراٍ تبير الأعاديا
ورد عمارات أزيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا
ويرجع أمصارٌ أبيحت وأحرقت ... مراراً فقد امست قواءً عوافيا
ويشفي صدور المومنين بوقعةٍ ... يقر بها منا العيون البواكيا
ويتلى كتاب الله في كل مسجدٍ ... ويلقى دعاء الطالبين خاسيا
فأعرض عن أحبابه ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأقبل غازيا
في قصيدة طويلة. ومن ذلك قوله:
أين نجوم الكاذب المارق ... ما كان بالطب ولا الحاذق
صبحه بالنحس سعدٌ بدا ... لسيدٍ في قوله صادق
فخر في مأزقه مسلما ... إلى أسود الغاب في المازق
وذاق من كأس شربة ... كريهة الطعم على الذائق
وقال فيه يحيى بن خالد:
يابن الخلائف من أرومة هاشمٍ ... والغامرين الناس بالإفضال
والذائدين عن الحريم عدوهم ... والمعلمين لكل يوم نزال
ملكٌ أعاد الدين بعد دروسه ... واستنقذ الأسرى من الأغلال
أنت المجير من الزمان إذا سطا ... وإليك يقصد راغبٌ بسؤال
أطفأت نيران النفاق وقد علت ... يا واهب الآمال والآجال
لله درك من سليل خلائفٍ ... ماضي العزيمة طاهر السربال
أفنيت جمع المارقين فأصبحوا ... متلددين قد أيقنوا بزوال
أمطرتهم عزمات رأيٍ حازمٍ ... ملأت قلوبهم من الأهوال
لما طغى الرجس اللعين قصدته ... بالمشرفي وبالقنا الجوال
وتركته والطير يحجل حوله ... متقطع الأوداج والأوصال
يهوي إلى حر الجحيم وقعرها ... بسلاسل قد أوهنته ثقال
هذا بما كسبت يداه وما جنى ... وبما أتى من سيء الأعمال

أقررت عين الدين ممن قاده ... وأدلته من قاتل الأطفال
صال الموفق بالعراق فأفزعت ... من بالمغارب صولة الأبطال
وفيه يقول أيضاً يحيى بن خالد بن مروان:
أبن لي جواباً أيها المنزل القفر ... فلازال منهلاً بساحاتك القطر
أبن لي عن الجيران أن تحملوا ... وهل عادت الدنيا، وهل رجع السفر!
وكيف تجيب الدار بعد دروسها ... ولم يبق من أعلام ساكنها سطر
منازل أبكاني مغاني أهلها ... وضاقت بي الدنيا وأسلمني الصبر
كأنهم قومٌ رغا البكر فيهم ... وكان على الأيام في هلكهم نذر
وعاثت صروف الدهر فيهم فأسرعت ... وشرٌ ذوي الأصعاد ما فعل الدهر
فقد طابت الدنيا وأينع نبتها ... بيمن ولي العهد وانقلب الأمر
وعاد إلى الأوطان من كان هارباً ... ولم يبق للملعون في موضع إثر
بسيف ولي العهد طالت يد الهدى ... وأشرق وجه الدين واصطلم الكفر
وجاهدهم في الله حق جهاده ... بنفسٍ لها طول السلامة والنصر
وهي طوبلة وقال يحيى بن محمد:
عني اشتغالك إني عنك في شغل ... لا تعذلي من به وقرٌ عن العذل
لا تعذلي في ارتحالي إنني رجلٌ ... وقفٌ على الشد والأسفار والرحل
فيم المقام إذا ما ضاق بي بلدٌ ... كأنني لحجال العين والكلل
ما استيقظت همةٌ لم تلف صاحبها ... يقظان قد جانبته لذة المقل
ولم يبت أمناً من لم يبت وجلاً ... من أين يبيت له جار على وجل
وهي أيضاً طويلة.
وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول منها، ورد مدينة السلام الخبر أن الروم نزلت بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس؛ وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم بطريق البطارقة أندرياس، ومعه أربعة أخر من البطارقة، فخرج إليهم يازمان الخادم ليلاً، فبيتهم، فقتل بطريق البطارقة وبطريق القباذين وبطريق الناطلق، وأفلت بطريق قرة وبه جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وضفة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج نحو من ذلك، وسيوف محلاة بذهب وفضة وآنية كثيرة، ونحو من عشرة آلاف علم ديباج، وديباج كثير وبزيون ولحف سمور، وكان النفير إلى أندرياس يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول، فكبس ليلاً وقتل من الروم خلق كثير، فزعم بعضهم أنه قتل منهم سبعون ألفاً.
وفيها توفي هارون بن أبي أحمد الموفق بمدينة السلام يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى.
ولست خلون من شعبان منها، ورد الخبر بموت أحمد بن طولون مدينة السلام - فيما ذكر . وقال بعضهم: كانت وفاته يوم الاثنين لثمان عشرة مضت من ذي القعدة منها.
وفيها مات الحسن بن يزيد العلوي بطبرستان، إما في رجب، وإما في شعبان.
وللنصف من شعبان دخل المعتمد بغداد، وخرج من المدينة حتى نزل بحذاء قطربل في تعبية، ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحربة، ثم مضى إلى سامرا.
وفيها كان فداء أهل ساتيدما على يدي يازمان في سلخ رجب منها.
وفي يوم الأحد لتسع بقين من شعبان من هذه السنة شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق بغداد على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق، فطلبوا الأرزاق، فخرج إليهم أصحاب صاعد ليدفعوهم، فصارت رجالة أبي العباس إلى رحبة الجسر، وأصحاب صاعد داخل الأبواب بسوق يحيى، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى، وجرحت جماعة، ثم حجز بينهم الليل، وبكروا من الغد، فوضع لهم العطاء واصطلحوا.
وفي شوال منها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وابن دعباش، وكان ابن دعباش على الرقة وأعمالها، وعلى الثغور والعواصم من قبل ابن طولون، وابن كنداج على الموصل من قبل السلطان.
وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي منها من نهر عيسى من الياسرية بثقٌ، فغرق الدباغين وأصحاب الساج بالكرخ، ذكر أنه دق سبعة آلاف دار ونحوها.
وقتل في هذه السنة ملك الروم المعروف بابن الصقلبي.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

الجزء العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين
وأولها يوم الاثنين للتاسع والعشرين من حزيران، ولخمس وتسعين ومائة وألف من عهد ذي القرنين.
ذكر الخبر عما كان فيه الأحداث الجليلةفمن ذلك ما كان فيها من ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسين بن جعفر بن موسى بن محمد بن علي بن حسين المدينة وقتلهما جماعة من أهلها ومطالبتهما أهلها بمال، وأخذهما من قوم منهم مالاً.
وأن أهل المدينة لم يصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جمع؛ لا جمعة ولا جماعة، فقال أبو العباس بن الفضل العلوي:
أخربت دار هجرة المصطفى الب ... ر فأبكى إخرابها المسلمينا
عين أبكى مقام جبريل والقب ... ر فبكى والمنبر الميمونا
وعلى المسجد الذي أسه التق ... وى خلاء أضحى من العابدينا
وعلى طيبة التي بارك الل ... ه عليها بخاتم المرسلينا
قبح الله معشراً أخربوها ... وأطاعوا متبراً ملعونا
وفيها أدخل على المعتمد من كان حضر بغداد من حاج خراسان، فأعلمهم أنه قد عزل عمرو بن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قد قلد خراسان محمد بن طاهر؛ وكان ذلك لأربع بقين من شوال.وأمر أيضاً بلعن عمر بن اليث على المنابر ،ولثمان بقين من شعبان من هذه السنة شخص صاعد بن مخلد من معسكر أبي أحمد بواسط إلى فارس لحرب عمرو بن الليث.ولعشر خلون من شهر رمضان منها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة.وفيها كانت بين أبي العباس بن الموفق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين، فهزم أبو العباس خمارويه، فركب خماروية حماراً هارباً منه إلى مصر، ووقع أصحاب أبي العباس في النهب.
ونزل أبو العباس مضرب خمارويه، ولا يرى أنه بقي له طالب، فخرج عليه كمين لخمارويه كان كمنه لهم خمارويه، وفيهم سعد الأعسر وجماعة من قواده وأصحابه، وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا.
فشد كمين خمارويه عليهم فانهزموا، وتفرق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس في نفر من أصحابه قليل، وذهب كل ما كان في العسكرين؛ عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب ذلك كله؛ وكانت هذه الوقعة يوم السادس عشر من شوال من هذه السنة - فيما قيل.
وفيها وثب يوسف بن أبي الساج - وكان والي مكة - على غلام للطائي يقال له بدر، وخرج والياً على الحاج فقيده، فحارب ابن أبي الساج جماعة من الجند، وأغاثهم الحاج، حتى استنقذوا غلام الطائي، وأسروا ابن أبي الساج، فقيد وحمل إلى مدينة السلام، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع، وقلعوا الأبواب والخشب وغير ذلك، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه؛ فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه؛ وكان يتردد إليه أياماً هو والعامة؛ حتى يكاد يكون بين أصحاب السلطان وبينهم قتال، ثم بنى ما كانت العامة هدمته بعد أيام، وكانت إعادة بنائه - فيما ذكر - بقوة عبدون بن مخلد، أخي صاعد بن مخلد.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى العباسي.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتينأولها يوم الجمعة للثامن عشر من حزيران، سنة ست وتسعين ومائة وألف لذي القرنين.
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداثفمما كان فيها من ذلك إخراج أهل طرسوس أبا العباس بن الموفق من طرسوس؛ لخلاف كان وقع بينه وبين يازمان؛ فخرج عنها يريد بغداد للنصف من المحرم من هذه السنة.
وفيها توفي سليمان بن وهب في حبس الموفق يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر.
وفيها تجمعت العامة، فهدموا ما كان بني من البيعة يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
وفيها حكم شار في طريق خراسان، وصار إلى دسكرة الملك، فقتل وانتهب.
وفيها ورد الخبر مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى الشاري بهم في مسجد الجامع.

وفيها قدم أبو العباس بن الموفق منصرفاً من وقعته مع ابن طولون بالطواحين لتسع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج الذوائبي العلوي ونفسان معه، وكانوا قد أعدت لهم دواب توقف في كل ليلة ليخرجوا فيركبوها هاربين.
فنذر بهم، وغلقت أبواب مدينة أبي جعفر المنصور، فأخذ الذوائبي ومن خرج معه، وركب محمد بن طاهر، وكتب بالخبر إلى الموفق وهو مقيم بواسط، فأمر أن تقطع يد الذوائبي ورجله من خلاف، فقطع في مجلس الجسر بالجانب الغربي، ومحمد بن طاهر واقف على دابته، وكوى يوم الاثنين لثلاث خلون من جمادى الآخرة.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس، ودخل واسط في رجب، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه، وترجلوا له، وقبلوا كفه.
وفيها قبض الموفق على صاعد بن مخلد بواسط وعلى أسبابه، وانتهب منازلهم يوم الاثنين لتسع خلون من رجب، وقبض على ابنيه أبي عيسى وأبي صالح ببغداد، وعلى أخيه عبدون وأسبابه بسامراً، وذلك كله في يوم واحد، وهو اليوم الذي قبض فيه على صاعد، واستكتب الموفق إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
ووردت الأخبار فيها أن مصر زلزلت في جمادى الآخرة زلازل أخربت الدور والمسجد الجامع، وأنه أحصى في يوم واحد بها ألف جنازة.
وفيها غلا السعر ببغداد؛ وذلك أن أهل سامراً منعوا - فيما ذكر - سفن الدقيق من الانحدار إليها، ومنع الطائي أرباب الضياع من دياس الطعام وقسمه، يتربص بذلك غلاء الأسعار، فمنع أهل بغداد الزيت والصابون والتمر وغير ذلك من حمله إلى سامراً، وذلك في النصف من شهر رمضان.
وفيها ضجت العامة بسبب غلاء السعر، واجتمعت للوثوب بالطائي، فانصرفوا من مسجد الجامع للنصف من شوال إلى داره بين باب البصره وباب الكوفة، وجاءوه من ناحية الكرخ، فأصعد الطائي أصحابه على السطوح، فرموهم بالنشاب، وأقام رجاله على بابه وفي فناء داره بالسيوف والرماح، فقتل بعض العامة، وجرحت منهم جماعة، ولم يزالوا يقاتلونهم إلى الليل، فلما كان الليل انصرفوا، وباكروه من غد، فركب محمد بن طاهر، فسكن الناس وصرفهم عنه.
وفيها توفي إسماعيل بن بريه الهاشمي، يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها.
ولثمان بقين منها توفي عبيد بن عبد الله الهاشمي.
وفيها كانت للزنج بواسط حركة، فصاحوا: أنكلاى، يا منصور! وكان أنكلاى والمهلبى وسليمان بن جامع والشعراني والهمداني وآخر معهم من قواد الزنج محتبسين في دار محمد بن عبد الله بن ظاهر بمدينة السلام في دار البطيخ، في يد غلام من غلمان الموفق، يقال له: فتح السعيدي، فكتب الموفق إلى فتح أن يوجه برءوس هؤلاء الستة، فدخل إليهم، فجعل يخرج الأول فالأول منهم، فذبحهم غلام له، وقلع رأس بالوعة في الدار، وطرحت أجسادهم فيها، وسد رأسها، ووجه رءوسهم إلى الموفق.
وفيها ورد كتاب الموفق على محمد بن طاهر في جثث هؤلاء الستة المقتولين، فأمره بصلبها بحضرة الجسر، فأخرجوا من البالوعة، وقد انتفخوا، وتغيرت روائحهم، وتقشر بعض جلودهم، فحملوا في المحامل: المحمل بين الرجلين؛ وصلب ثلاثة منهم في الجانب الشرقي، وثلاثة في الجانب الغربي، وذلك لسبع بقين من شوال من هذه السنة، وركب محمد بن طاهر حتى صلبوا بحضرته. وفيها صلح أمر رسول الله صلى الله علية وسلم، وعمرت، وتراجع الناس إليها.
وفيها غزا الصائفة يازمان.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بين عيسى بن موسى الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كانت وقعة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وعمرو بن الليث الصفار يوم السادس عشر من شهر ربيع الأول.
وفيها كانت أيضاً وقعة بين إسحاق بن كنداج ومحمد بن أبي الساج بالرقة، فانهزم إسحاق؛ وكان ذلك يوم الثلاثاء لتسع خلون من جمادى الأولى.
وفيها قدمت رسل يازمان من طرسوس، فذكروا أن ثلاثة بنين لطاغية الروم وثبوا عليه، فقتلوه وملكوا أحدهم عليهم.
وفيها قيد أبو أحمد لؤلؤاً القادم عليه بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله، لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة.
وذكر أن الذي أخذ من ماله كان أربعمائة ألف دينار.
وذكروا عن لؤلؤ أنه قال: ما عرفت لنفسي ذنباً استوجبت به ما فعل بي إلا كثرة مالي.

وفيها كانت بين محمد بن أبي الساج وإسحاق بن كنداج وقعة أخرى لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة؛ وكانت الدبرة فيها على ابن كنداج.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك شخوص أبي أحمد إلى كرمان لحرب عمرو بن الليث لاثني عشرة بقيت من شهر ربيع الأول.
وفيها غزا يازمان، فبلغ المسكنين، فأسر وغنم، وسلم المسلمون، وذلك في شهر رمضان منها.
وفيها دخل صديق الفرعاني دور سامراً، فأغار على أموال التجار، وأكثر العيث في الناس، وكان صديق هذا يخفر أولاً الطريق، ثم تحول لصاً خارباً يقطع الطريق.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه الطائي جيشاً إلى سامراً بسبب ما أحدث صديق بها وإطلاقه أخاه من السجن؛ وكان أسيراً عنده، وذلك في المحرم من هذه السنة: ثم خرج الطائي إلى سامراً، وأرسل صديقاً ووعده ومناه وأمنه، فعزم على الدخول إليه في الأمان، فحذره ذلك غلام له يقال له هاشم، وكان - فيما ذكر - شجاعاً، فلم يقبل منه، ودخل سامراً مع أصحابه، وصار إلى الطائي، فأخذه الطائي، ومن دخل معه منهم، فقطع يد صديق ورجله ويد هاشم ورجله وأيدي جماعة من أصحابه وأرجلهم وحبسهم، ثم حملهم في محامل إلى مدينة السلام، وقد أبرزت أيديهم وأرجلهم المقطعة ليراها الناس، ثم حبسوا.
وفيها غزا يازمان في البحر، فأخذ للروم أربعة مراكب.
وفيها تصعلك فارس العبدي، فعاث بناحية سامراً، وصار إلى كوخها، فانتهب دور آل حسنج، فشخص الطائي إليه، فلحقه بالحديثة، فاقتتلا، فهزمه الطائي وأخذ سواده، وصار الطائي إلى دجلة، فدخل طيارة ليعبرها، فأدركه أصحاب العبدي فتعلقوا بكوثل الطيار، فرمى الطائي بنفسه في دجلة، فعبرها سباحة، فلما خرج منها نفض لحيته من الماء، وقال: أيش ظن العبدي؟ أليس أنا أسبح من سمكة! ثم نزل الطائي الجانب الشرقي والعبدي بإزائه في الجانب الغربي.
وفي انصراف الطائي قال علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام:
قد أقبل الطائي، لا أقبلا ... قبح في الأفعال ما أجملا
كأنه من لين ألفاظه ... صبية تمضغ جهد البلا
وفيها أمر أبو أحمد بتقييد الطائي وحبسه، ففعل ذلك لأربع عشرة خلت من شهر رمضان، وختم على كل شيء له، وكان يلي الكوفة وسوادها وطريق خراسان وسامراً والشرطة ببغداد، وخراج بادوريا وقطربل ومسكن وشيئاً من ضياع الخاصة.
وفيها حبس أبو أحمد ابنه أبا العباس، فشغب أصحابه، وحملوا السلاح، وركب غلمانه، واضطربت بغداد لذلك،فركب أبو أحمد لذلك حتى بلغ باب الرصافة، وقال لأصحاب أبي العباس وغلمانه فيما ذكر: ما شأنكم؟ أترونكم أشفق على ابني مني! هو ولدي، واحتجت إلى تقويمه.
فانصرف الناس ووضعوا السلاح، وذلك يوم الثلاثاء لست خلون من شوال من هذه السنة.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ضم الشرطة بمدينة السلام إلى عمرو بن الليث، وكتب فيها على الأعلام والمطارد والترسة - التي تكون في مجلس الجسر - اسمه، وذلك في المحرم.
ولأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة شخص أبو أحمد من مدينة السلام إلى الجبل، وكان سبب شخوصه إليها - فيما ذكر - أن الماذرائي كاتب اذكوتكين، أخبره أن له هنالك مالاً عظيماً، وأنه إن شخص صار ذلك إليه، فشخص إليه فلم يجد من المال الذي أخبره به شيئاً، فلما لم يجد ذلك شخص إلى الكرج، ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها أبو أحمد إذا قدم.
وقدم محمد بن أبي الساج على أبي أحمد قبل شخوصه من مضربه بباب خراسان هارباً من ابن طولون، بعد وقعات كانت بينهما، ضعف في آخر ذلك ابن أبي الساج عن مقاومته، لقلة من معه وكثرة من مع ابن طولون من الرجال، فلحق بأبي أحمد فانضم إليه، فخلع أبو أحمد عليه، وأخرجه معه إلى الجبل.

وفيها ولى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد، من قبل عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر.
وفيها ورد الخبر بانفراج تل بنهر الصلة - ويعرف بتل بني شقيق - عن سبعة أقبر فيها أبدان صحيحة، عليها أكفان جدد لينة، لها أهداب، تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شاب له جمة، وجبهته وأذناه وخداه وأنفه وشفتاه وذقنه وأشفار عينيه صحيحة، وعلى شفتيه بلل، كأنه قد شرب ماء؛ وكأنه قد كحل، وبه ضربة في خاصرته، فردت عليه أكفانه.
وحدثني بعض أصحابنا أنه جذب من شعر بعضهم، فوجده قوى الأصل نحو قوة شعر الحي، وذكر أن التل انفرج عن هذه القبور عن شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدري ما هو! وفيها أمر بطرح المطارد والأعلام والترسة التي كانت في مجالس الشرطة التي عليها اسم عمرو بن الليث، وإسقاط ذكره، وذلك لإحدى عشرة خلت من شوال.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وكان والياً على مكة والمدينة والطائف.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك دعاء يازمان بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن خمارويه وجه إليه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسين ومائة دابة وخمسين ومائة ممطر وسلاح، فلما وصل إليه دعا له، ثم وجه إليه بخمسين ألف دينار.وفي أول شهر ربيع الآخر كان بين وصيف خادم ابن أبي الساج والبرابرة أصحاب أبي الصقر شر؛ فاقتتلوا، فقتل من غلمان الخادم أربعة غلمان ومن البرابرة سبعة؛ فكانت الحرب بينهم بباب الشأم إلى شارع باب الكوفة، فركب إليهم أبو الصقر، فكلمهم فتفرقوا، ثم عادوا للشر بعد يومين، فركب إليهم أبو الصقر فسكنهم.
وفيها ولي يوسف بن يعقوب المظالم، فأمر أن ينادي: من كانت له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله أو أحد من الناس فليحضر.
وتقدم إلى صاحب الشرطة ألا يطلق أحداً من المحبسين إلا من رأى إطلاقه يوسف، بعد أن يعرض عليهم قصصهم.
وفي أول يوم من شعبان قدم قائد من قواد ابن طولون في جيش عظيم من الفرسان والرجاله بغداد.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن هارون الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك الحرب التي كانت بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى، أبن أخت مفلح أربعة أيام تباعاً، ثم اصطلحوا؛ وقد قتل بينهم بضعة عشر رجلاً، وذلك في أول المحرم، ثم وقع في الجانب الشرقي حرب بين النصريين وأصحاب يونس، قتل فيها رجل، ثم افترقوا.
وفيها انحدر وصيف خادم ابن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر لتكون عدة له - فيما ذكر - ذلك أنه اصطنعه وأصحابه، وأجازه بجوائز كبيرة، وأدر على أصحابه أرزاقهم، وكان قد بلغه قدوم أبي أحمد، فخافه على نفسه لما كان من إتلافه ما كان في بيوت أموال أبي أحمد؛ حتى لم يبق شيء بالهبة التي يهب؛ والجوائز التي كان يجيز، والخلع التي كان يخلع على القواد، وإنفاقه على القواد، فلما نفذ ما في بيت المال، طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضيهم، وحبس منهم بذلك جماعة؛ وكان الذي يتولى له القيام بذلك الزغل، فعسف على الناس في ذلك.
وقدم أبو أحمد قبل أن يستوظف أداء ذلك منهم، فشغل عن مطالبة الناس بما كان يطالبهم به.
وكان انحدار وصيف في يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من المحرم.
ولليلتين بقيتا من المحرم منها طلع كوكب ذو جمة، ثم صارت الجمة ذؤابة.
ذكر الخبر عن مرض أبي أحمد الموفق ثم موتهوفيها أنصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، وقد اشتد به النقرس حتى لم يقدر على الركوب، فاتخذ له سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء الباردة، حتى بلغ من أمره أنه كان يضع عليها الثلج، ثم صارت علة رجله داء الفيل، وكان يحمل سريره أربعون حمالاً يتناوب عليها عشرون عشرون، وربما اشتد بهم أحياناً، فيأمرهم أن يضعوه.
وذكر أنه قال يوماً للذين يحملونه: قد ضجرتم بحملي، بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي وأكل وأني في عافية.
وأنه قال في مرضه هذا: أطبق دفتري على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالاً مني.

وفي يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم منها وافى أبو أحمد النهروان، فتلقاه أكثر الناس فركب الماء فسار في النهروان، ثم في نهر ديالى، ثم في دجلة إلى الزعفرانية، وصار ليلة الجمعة إلى الفرك، ودخل داره يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر.
ولما كان في يوم الخميس لثمان خلون من صفر، شاع موته بعد انصراف أبي الصقر من داره، وقد كان تقدم في حفظ أبي العباس، فغلقت عليه أبواب دون أبواب، وأخذ أبو الصقر ابن الفياض معه إلى داره، وكان يبقى بناحيته.
وأقام أبو الصقر في داره يومه ذلك، وإزداد الإرجاف بموت أبي أحمد، وكانت اعترته غشية، فوجه أبو الصقر يوم الجمعة إلى المدائن، فحمل منها المعتمد وولده، فجيء بهم إلى داره، وأقام أبو الصقر في داره ولم يصر إلى دار أبي أحمد؛ فلما رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس الذين كانوا حضوراً ما قد نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.
فذكر عن الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنه قال لما سمع أبو العباس صوت أقفال تكسر قال: ليس يريد هؤلاء إلا نفسي.
وأخذ سيفاً كان عنده، فاستله، وقعد مستوفزاً والسيف في حجره، وقال لي: تنح أنت، والله لا وصلوا إلي وفي شيء من الروح.
قال: فلما فتح الباب كان أول من دخل عليه وصيف موشكير - وهو غلام أبي العباس - فلما رآه رمى السيف من يده، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا الخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وهو بعقب غشيته.
فلما فتح أبو أحمد عينيه، وأفاق رآه، فأدناه وقربه.
ووافى المعتمد - ذلك اليوم الذي وجه إليه في حمله، وهو يوم الجمعة نصف النهار قبل صلاة الجمعة - مدينة السلام، لتسع خلون من صفر، ومعه ابنه جعفر المفوض إلى الله ولي العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه، فنزل على أبي الصقر.
ثم بلغ أبا الصقر أن أبا أحمد لم يمت، فوجه إسماعيل بن إسحاق يتعرف له الخبر؛ وذلك يوم السبت.
وجمع أبو الصقر القوات والجند، وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح، ومن داره إلى الجسر كذلك، قطع الجسرين، ووقف قوم على الجسر في الجانب الشرقي يحاربون أصحاب أبي الصقر، فقتل بينهم قتلى، وكانت بينهم جراحات.
وكان أبو طلحة أخو شركب مع أصحابه مقيمين بباب البستان، فرجع إسماعيل، فأعلم أبا الصقر أن أبا أحمد حي، فكان أول من مضى إليه من القواد محمد بن أبي الساج، عبر من نهر عيسى، ثم جعل الناس يتسللون؛ منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد، ومنهم من يرجع إلى منزله، ومنهم من يخرج من بغداد؛ فلما رأى أبو الصقر ذلك، وصحت عنده حياة أبي أحمد، انحدار هو وابناه إلى دار أبي أحمد؛ فما ذاكره أبو أحمد شيئاً مما جرى، ولا ساء له عنه.
وأقام في دار أبي أحمد.
فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار وحده، نزل هو وبنوه وبكتمر، فركبوا زورقاً، ثم لقيهم طيار أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، فحملهم في طياره، ومضى بهم إلى داره، وهي دار علي بن جهشيار برأس الجسر فقال له المعتمد: أريد أن أمضي إلى أخي فأحدره ومن معه من بيته إلى دار أبي أحمد.
وانتهبت دار أبي الصقر وكل ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير إزار، وانتهبت دار محمد بن سليمان كاتبه، ودار ابن الواثقي انتهبت وأحرقت، وانتهبت دور أسبابه، وكسرت أبواب السجون، ونقبت الحيطان، وخرج كل من كان فيها، وخرج كل من كان في المطبق، وانتهبت مجلسا الجسر، وأخذ كل ما كان فيهما، وانتهبت المنازل التي تقرب من دار أبي الصقر.
وخلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر، فركبا جميعاً، والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق، ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى داره؛ دار صاعد.
ثم انحدر أبو الصقر في الماء إلى منزله وهو منتهب، فأتوه من دار الشاه بحصير فقعد عليه، فولي أبو العباس غلامه بدار الشرطة، واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقي، وعيسى النوشري على الجانب الغربي؛ وذلك لأربع عشرة خلت من صفر منها.
وفيها في يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، كانت وفاة أبي أحمد الموفق ودفن ليلة الخميس في الرصافة عند قبر والدته، وجلس أبو العباس يوم الخميس للناس للتعزية.
ذكر الخبر البيعة للمعتضد بولاية العهد

وفيها بايع القواد والغلمان لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوض، ولقب بالمعتضد بالله، في يوم الخميس، وأخرج للجند العطاء، وخطب يوم الجمعة للمعتمد، ثم للمفوض، ثم لأبي العباس المعتضد؛ وذلك لسبع ليال بقين من صفر.
وفيها في يوم الاثنين لأربع بقين من صفر قبض على أبي الصقر وأسبابه وانتهب منازلهم، وطلب بنو الفرات - وكان إليهم ديوان السواد - فاختفوا، وخلع على عبيد الله بن سليمان بن وهب يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر منها، وولي الوزارة.
وفيها بعث محمد بن أبي الساج إلى الواسط ليرد غلامه وصيفاً إلى مدينة السلام، ومضى وصيف إلى الأهواز.
وأبى الانصراف إلى بغداد، وأنهى طيب، وعاث بالسوس.
وفيها ظفر بأبي أحمد بن محمد بن الفرات.
فحبس وطولب بأموال، وظفر معه بالزغل، فحبس، وظفر معه بمال وفيها وردت الأخبار بقتل علي بن الليث، أخي الصفار، قتله رافع بن هرثمة، كان لحق به، وترك أخاه.
ووردت الأخبار فيها عن مصر أن النيل غار ماؤه وغلت الأسعار عندهم.
ذكر ابتداء أمر القرامطةوفيها وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة ومقامه بموضع منه يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما تعلق قلوبهم، وكان يقعد إلى بقال في القرية، وكان بالقرب من البقال نخل إشتراه قوم من التجار، فاتخذوا حظيرة جمعوا فيها ما صرموا من حمل النخل، وجاءوا إلى البقال فسألوه أن يطلب لهم رجلاً يحفظ عليهم ما صرموا من النخل، فأومي لهم إلى هذا الرجل، وقال: إن أجابكم إلى حفظ سمرتكم، فإنه بحيث تحبون، فناظروه على ذلك، فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة؛ فكان يحفظ لهم، ويصلي أكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر، فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر.
فلما حمل التجار مالهم من التمر، صاروا إلى البقال، فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته، فدفعوها إليه، فحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط من ذلك ثمن النوى الذي كان دفعه إلى البقال؛ فسمع التجار ما جرى بينه وبين البقال في حق النوى، فوثبوا عليه فضربوه، وقالوا: ألم ترض إن أكلت تمراً حتى بعت النوى! فقال لهم البقال: لا تفعلوا، فأنه لم يمس تمركم؛ وقص عليهم قصته، فندموا على ضربهم إياه، وسألوه أن يجعلهم في حل، ففعل.
وإزداد بذلك نبلاً عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
ثم مرض.
فمكث مطروح على الطريق، وكانت في القرية رجل يحمل على أثوار له، أحمر العينين شديدة حمرتهما، وكان أهل القرية يسمونه كرميتا لحمرة عينيه، وهو بالنبطية أحمر العينين، فكلم البقال كرميتا هذا، في أن يحمل هذا العلي إلى منزله، ويوصي أهله بالإشراف عليه والعناية به، ففعل وأقام عنده حتى برء، ثم كان يأوي إلى منزله ودعا أهل القرية إلى أمره، ووصف لهم مذهبه، فأجابهم أهل القرية تلك الناحية، وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه ديناراً ويزعم أنه يأخذ ذلك للإمام؛ فمكث بذلك يدعو أهل تلك القرية فيجيبونه.
واتخذ منهم إثنى عشر نقيباً، أمرهم أن يدعو الناس إلى دينهم، وقال لهم: أنتم كحواري عيسى ابن مريم؛ فاشتغل أكرة تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الخمسين الصلاة التي ذكر أنها مفترظة عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فوقف على تقصير أكرته في العمارة، فسأل عن ذلك، فأخبر أن إنساناً طرء عليهم، فأظهر لهم مذهباً من الدين، وأعلمهم أن الذي أفترضه الله عليهم خمسون صلاة في اليوم والليلة، فقد شغلوا بها عن أعمالهم، فوجه في طلبه، فأخذ وجيء به إليه، فسأله عن أمره، فأخبره بقصته، فحلف أنه يقتله.
فأمر به فحبس في البيت، وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته، وتشاغل بالشرب، وسمع بعض من في داره من الجواري بقصته، فرقت له.

فلما نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته، وأقفلت الباب، وردت المفتاح إلى موضعه فلما أصبح الهيصم دعا بالمفتاح ففتح الباب فلم يجده، وشاع بذلك الخبر، ففتن به أهل تلك الناحية، وقالوا: رفع ثم ظهر في موضع أخر.
ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم فسألوه عن قصته، فقال: ليس يمكن أحداً أن يبدأني بسوء، ولا يقدر على ذلك مني، فعظم في أعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج إلى ناحية الشأم، فلم يعرف له خبر، وسمي باسم الرجل الذي كان في منزله صاحب الأثوار كرميته، ثم خفف فقالوا: قرمط.
ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه، أنه حضر محمد بن داود بن الجراح، وقد دعا بقوم من القرامطة من الحبس، فسألهم عن زكرويه، وذلك بعد ما قتله، وعن قرمط وقصته، وأنهم أوموا له إلى شيخ منهم، وقالوا له: هذا سلف زكرويه، وهو أخبر الناس بقصته، فسله عما تريد، فسأله فأخبره بهذه القصة.
وذكر عن محمد بن داود أنه قال: قرمط رجل من سواد الكوفة، كان يحمل غلات السواد على أثوار له، يسمى حمدان ويلقب بقرمط.
ثم فشا أمر القرامطة ومذهبهم، وكثروا بسواد الكوفة، ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فوظف على كل رجل منهم في كل سنة ديناراً، وكان يجبي من ذلك مالاً جليلاً، فقدم قوم الكوفة فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة، وأنهم قد أحدثوا ديناً غير الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمة محمد إلا من بايعهم على دينهم، وأن الطائي يخفي أمرهم على السلطان.
فلم يلتفت إليهم ولم يسمع منهم، فانصرفوا، وأقام رجل منهم مدة طويلة بمدينة السلام، يرفع ويزعم أنه لا يمكنه الرجوع إلى بلده خوفاً من الطائي.
وكان فيما حكموا عن هؤلاء القرامطة من مذهبهم أن جاءوا بكتاب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقول الفرج بن عثمان؛ وهو من قرية يقال لها نصرانة، داعية إلى المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل.
وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان، وقال له: إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك الروح القدس، وإنك يحيى بن زكرياء.
وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الاذان في كل صلاة أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله؛ مرتين أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن موسى رسول الله، وأشهد أن عيسى رسول الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله؛ وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح؛ وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية.
والقبلة إلى بيت المقدس، والحج إلى بيت المقدس، ويوم الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه بأوليائه.
قل إن الأهلة مواقيت للناس؛ ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب الشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي.
اتقون يا أولي الألباب؛ وأنا الذي لا أسأل عما أفعل، وأنا الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي، وامتحن خلقي؛ فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي، وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي، أخلدته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلى، وأظهرت أمري؛ على ألسنة رسلي؛ وأنا الذي لم يعل علي جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته؛ وليس الذي أصر على أمره ودوام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه مؤمنين: أولئك هم الكافرون.
ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصف الظالمون! يقولها مرتين، فإذا سجد قال: الله أعلى، الله أعلى، الله أعظم، الله أعظم.
ومن شرائعه أن الصوم يومان في السنة، وهما المهرجان والنوروز؛ وأن النبيذ حرام والخمر حلال؛ ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن خالفه أخذت منه الجزية ولا يؤكل كل ذي ناب، و لا كل ذي مخلب.
وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج؛ وذلك أن بعض أصحابنا ذكر عن سلف زكرويه أنه قال: قال لي قرمط: صرت إلى صاحب الزنج، ووصلت إليه، وقلت له: إني على مذهب، وورائي مائة ألف سيف؛ فناظرني، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك.

وقلت له: تعطيني الأمان؟ ففعل.
قال: فناظرته إلى الظهر، فتبين لي في آخر مناظرتي إياه أنه على خلاف أمري، وقام إلى الصلاة، فانسللت، فمضيت خارجاً من مدينته، وصرت إلى سواد الكوفة.
ذكر خبر غزو الروم ووفاة يازمان في هذه الغزوةولخمس بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، دخل أحمد العجيفي مدينة طرسوس، وغزا مع يازمان غزاة الصائفة، فبلغ سلندو.
وفي هذه الغزاة مات يازمان، وكان سبب موته أن شظية من حجر منجنيق أصاب أضلاعه وهو مقيم على حصن سلندو؛ فارتحل المعسكر؛ وقد كانوا أشرفوا على فتحه، فتوفي في الطريق من غده يوم الجمعة، لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وحمل إلى طرسوس على أكتاف الرجال فدفن هناك.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من أمر السلطان بالنداء بمدينة السلام؛ ألا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر؛ وحلف والوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم.
وفي ذلك اليوم بويع للمعتضد بأنه ولى العهد من بعد المعتمد، وأنشئت الكتب بخلع جعفر وتوليه المعتضد، ونفذت إلى البلدان، وخطب يوم الجمعة للمعتضد بولاية العهد، وأنشئت عن المعتضد كتب إلى العمال والولاة؛ بأن أمير المؤمنين قد ولاه العهد، وجعل إليه ما كان الموفق يليه من الأمر والنهي والولاية والعزل.
وفيها قبض على جرادة، كاتب أبي الصقر لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وكان الموفق وجهه إلى رافع بن هرثمة، فقدم مدينة السلام قبل أن يقبض علية بأيام.
وفيها انصرف أبو طلحة منصور بن مسلم من شهرزور لست بقين من جمادى الأولى - وكانت ضمت إليه - فقبض عليه وعلى كاتبه عقامة، وأودعا السجن؛ وذلك لأربع بقين من جمادى الأولى.
ذكر خبر الفتنة بطرسوسوفيها كانت الملحمة بطرسوس بين محمد بن موسى ومكنون غلام راغب مولى الموفق؛ في يوم السبت لتسع بقين من جمادى الأولى؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن طغج بن جف، لقي راغباً بحلب، فأعلمه أن خمارويه بن أحمد يحب لقاءه، ووعده عنه بما يحب؛ فخرج راغب من حلب ماضياً إلى مصر في خمسة غلمان له، وأنفذ خادمه مكنوناً مع الجيش الذي كان معه وأمواله وسلاحه إلى طرسوس.
فكتب طغج إلى محمد بن موسى الأعرج يعلمه أنه قد أنفذ راغباً، وأن كل ما معه من مال وسلاح وغلمان مع غلامه مكنون، قد صار إلى طرسوس، وأنه ينبغي له أن يقبض عليه ساعة يدخل وعلى ما معه.
فلما دخل مكنون طرسوس وثب به الأعرج، فقبض عليه ووكل بما معه، فوثب أهل طرسوس على الأعرج، فحالوا بينه وبين المكنون، وقبضوا على الأعرج فحبسوه في يد مكنون، وعلموا أن الحيلة قد وقعت براغب؛ فكتبوا إلى خمارويه بن أحمد يعلمونه بما فعل الاعرج، وأنهم قد وكلوا به، وقالوا: أطلق راغباً لينفذ إلينا حتى نطلق الاعرج، فأطلق خمارويه راغباً، وأنفذه إلى طرسوس، وأنفذ معه أحمد بن طغان والياً على الثغور، وعزل عنهم الأعرج، فلما وصل راغب إلى طرسوس أطلق محمد بن موسى الأعرج، ودخل طرسوس أحمد بن طغان والياً عليها وعلى الثغور ومعه راغب، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شعبان.
خبر وفاة المعتمد: وفيها توفي المعتمد ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب، وكان شرب على الشط في الحسنى يوم الأحد شراباً كثيراً، وتعشى فأكثر، فمات ليلاً، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أيام - فيما ذكر.
خلافة المعتضدوفي صبيحة هذه الليلة بويع لأبي العباس المعتضد بالله بالخلافة، فولى غلامه بدراً الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة ومحمد بن الشاد بن ميكال الحرس، وحجبة الخاصة والعامة صالحاً المعروف بالأمين، فاستخلف صالح خفيفاً السمرقندي.
ولليلتين خلتا من شعبان فيها قدم المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفار بهدايا، وسأل ولاية خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشري مع الرسول، ومعه خلع ولواء عقدة له على خراسان، فوصلوا إليه في شهر رمضان من هذه السنة، وخلع عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيام.
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد، وقام بما كان إليه من العمل وراء نهر بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.

وفيها قدم الحسين بن عبد الله بن المعروف بابن الحصاص من مصر رسولاً لخمارويه بن أحمد بن طولون، ومعه هدايا من العين عشرون حملاً على بغال وعشرة من الخدم وصندوقان فيهما طراز وعشرون رجلاً على عشرين نجيباً، بسروج محلاة بحلية فضة كثيرة، ومعهم حراب فضة، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاة وسبع عشرة دابة، بسروج ولجم، منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وسبع وثلاثون دابة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرافة، يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال، فوصل إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه.
وسفر ابن الحصاص في تزويج ابنة خمارويه من علي بن المعتضد، فقال المعتضد: أنا أتزوجها، فتزوجها.
وفيها ورد الخبر بأخذ أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين من محمد بن إسحاق بن كنداج.
وفيها مات إبراهيم بن محمد بن المدبر، وكان يلي ديوان الضياع، فولى مكانه محمد بن عبد الحميد، وكان موته يوم الأربعاء لثلاث أو أربع عشرة بقيت من شوال.
وفيها عقد لراشد مولى الموفق على الدينور، وخلع علية يوم السبت لسبع بقين من شوال، ثم خرج راشد إلى عمله يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة.
وفي يوم النحر منها ركب المعتضد إلى المصلى الذي اتخذه بالقرب من الحسنى، وركب معه القواد والجيش، فصلى بالناس، فذكر عنه أنه كبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الركعة الثانية تكبيرة واحدة، ثم صعد المنبر، فلم تسمع خطبته، وعطل المصلى العتيق فلم يصل فيه.
وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربة رافع بن هرثمة ورافع الرى، فزحف إليه أحمد، فالتقوا يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة؛ فانهزم رافع بن هرثمة، وخرج عن الرى، ودخلها ابن عبد العزيز.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي؛ وكانت آخر حجة حجها، وحج بالناس ست عشرة سنة، من سنة أربع وستين إلى هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة - وكان شيلمة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه.
ثم لحق بالموفق في الأمان فأمنه - وكان سبب أخذه إياهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأعلمه أنه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه، وأنه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم، وأخذ معه رجل صيدناني وابن أخ له في المدينة، فقرره المعتضد فلم يقر بشيء، وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه، فلم يقر بشيء، وقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، ولو عملتني كردناك لما أخبرتك به؛ فأمر بنار فأوقدت، ثم شد على خشبة من خشب الخيم، وأدير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر الأسفل في الجانب الغربي.
وحبس ابن المهتدي إلى أن وقف على براءته، فأطلق، وكان صلبه لسبع خلون من المحرم.
فذكر أن المعتضد قال لشيلمة: قد بلغني أنك تدعو إلى ابن المهتدي، فقال: المأثور عني غير هذا، وإني أتولى آل ابن أبي طالب - وقد كان قرر ابن أخيه فأقر - فقال له: قد أقر ابن أخيك، فقال له: هذا غلام حدث تكلم بها خوفاً من القتل، ولا يقبل قوله.
ثم أطلق ابن أخيه والصيدناني بعد مدة طويلة.
ذكر خبر قصد المعتضد بني شيبان وصلحه معهمولليلة خلت من صفر يوم الأحد شخص المعتضد من بغداد يريد بني شيبان، فنزل بستان بن هارون، ثم سار يوم الأربعاء منه، واستخلف على داره وبغداد صالحاً الأمين حاجبه، فقصد الموضع الذي كانت شيبان تتخذه معقلاً من أرض الجزيرة؛ فلما بلغهم قصده إياهم؛ ضموا إليهم أموالهم وعيالاتهم.
ثم ورد كتاب المعتضد أنه أسرى إلى الأعراب من السن، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الزابين، وأخذ النساء والذراري، وغنم أهل المعسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله، وأخذ من غنمهم وإبلهم ما كثر في أيدي الناس حتى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بالنساء والذراري أن يحفظوا حتى يحدروا إلى بغداد.
ثم مضى المعتضد إلى الموصل، ثم رجع إلى بغداد، فلقيه بنو شيبان يسألونه الصفح عنهم، وبذلوا له الرهائن، فأخذ منهم خمسمائة رجل - فيما قيل.

ورجع المعتضد يريد مدينة السلام، فوافاه أحمد بن أبي الاصبغ بما فارق عليه أحمد ابن عيسى بن الشيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداج.
وبهدايا ودواب وبغال في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول.
وفي شهر ربيع الأول ورد خبر بأن محمد بن أبي الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب غليظة كانت بينهم، وأنه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه، فقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله، ثم قتله بعد.
وفي شهر ربيع الآخر ورد خبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف.
وكانت وفاته في آخر شهر ربيع الأول، فطلب الجند أرزاقهم، وانتهبوا منزل إسماعيل بن محمد المنشيء، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر، ولم يكتب إليه المعتضد بالولاية.
وفيها افتتح محمد بن ثور عمان، وبعث برءوس جماعة من أهلها.
وذكر أن جعفر بن المعتمد توفي في يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الآخر منها؛ وأنه كان مقامه في دار المعتضد لا يخرج ولا يظهر، وقد كان المعتضد نادمه مراراً.
وفيها انصرف المعتضد إلى بغداد من خرجته إلى الأعراب.
وفيها، في جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول عمرو بن الليث نيسابور؛ في جمادى الأولى منها.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج وثلاثين نفساً من الخوارج، من طريق الموصل، فضربت أعناق خمسة وعشرين رجلاً منهم، وصلبوا، وحبس سبعة منهم في الحبس الجديد.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس لغزاة الصائفة، لخمس خلون من رجب من قبل خمارويه، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعاً مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسور.
وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه - فيما ذكر - مدينة ملكهم، وأسره إياه وأمرأته خاتون ونحواً من عشرة ألاف، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم من الدواب دواب كثيرة لا يوقف على عددها، وأنه أصاب الفارس من المسلمين من الغنيمة في المقسم ألف درهم.
ولليلتين بقيتا من شهر رمضان منها، توفي راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل في تابوت إلى بغداد.
ولثلاث عشرة خلت من شوال منها مات مسرور البلخي.
وفيها - فيما ذكر - في ذي الحجة ورد كتاب من دبيل بانكساف القمر في شوال لأربع عشرة خلت منها، ثم تجلى في آخر الليل، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمة عليهم؛ فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديدة، فدامت إلى ثلث الليل؛ فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها إلا اليسير، قدر مائة دار، وأنهم دفنوا إلى حين كتب الكتاب ثلاثين ألف نفس يخرجون من تحت الهدم، ويدفنون، وأنهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات.
وذكر عن بعضهم أن جملة من أخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من موافاة ترك بن العباس عامل السلطان على ديار مضر مدينة السلام لتسع خلون من المحرم بنيف وأربعين نفساً من أصحاب أبي الأغر صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير.
فمضى بهم إلى دار المعتضد، ثم ردوا إلى الحبس الجديد فحبسوا به، وخلع على ترك، وانصرف إلى منزله.
وفيها ورد الخبر بوقعة كانت لوصيف خادم ابن أبي الساج بعمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وهزيمته إياه، ثم صار وصيف إلى مولاه محمد ابن أبي الساج، في شهر ربيع الآخر منها.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزاة الصائفة من قبل خمارويه يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة - فيما قيل - وغزا، فبلغ طرايون، وفتح ملورية.
ولخمس ليال بقين من جمادى الآخرة مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة، ودفن بها في موضع يقال له مسجد السهلة.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
ولليلتين خلتا من رجب منها شخص المعتضد إلى الجبل، فقصد ناحية الدينور، وقلد أبا محمد على بن المعتضد الري وقزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان والدينور، وقلد كتبته أحمد بن أبي الاصبغ، ونفقات عسكره والضياع بالري الحسين بن عمرو الضراني، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج، وتعجل للانصراف من أجل غلاء السعر وقلة الميرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر رمضان.

وفيها أتستأمن الحسن بن علي كوره عامل رافع على الرى إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل ، فوجهه إلى أبيه المعتضد.
وفيها دخل الأعراب سامراً فأسروا ابن سيما أنف في ذي القعدة منها وانتهبوا.
ذكر خبر الوقعة بين الأكراد والأعرابولست ليال بقين من ذي القعدة خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل عامداً لحمدان بن حمدون؛ وذلك أنه بلغه أنه مايل هارون الشاري الوازقي، ودعا له.
فورد كتاب المعتضد من كرخ جدان على نجاح الحرمي الخادم بالوقعة بينه وبين الأعراب والأكراد؛ وكانت يوم الجمعة سلخ ذي القعدة: " بسم الله الرحمن الرحيم " .
كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة، وقد نصر الله - وله الحمد - على الأكراد والأعراب، وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم؛ ولقد رأيتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عاماً أولاً، ولم تزل الأسنة والسيوف تأخذهم، وحال بيننا وبينهم الليل، وأوقدت النيران على رءوس الجبال، ومن غد يومنا، فيقع الاستقصاء، وعسكري يتبعني إلى الكرخ.
وكان وقاعنا بهم وقتلنا إياهم خمسين ميلاً، فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيراً، فقد وجب الشكر لله علينا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم كثيراً.
وكانت الأعراب والأكراد لما بلغهم من خروج المعتضد، تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا، وعبوا عسكرهم ثلاثة كراديس؛ كردوساً دون كردوس، وجعلوا عيالاتهم وأولادهم في أخر كردوس، وتقدم المعتضد عسكره في خيل جريدة، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرق في الزاب منهم خلق كثير، ثم خرج إلى الموصل عامداً لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان ابن حمدون، فلما بلغه مجيء المعتضد هرب وخلف ابنه بها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم من كان فيها يومهم ذلك؛ فلما كان من الغد ركب المعتضد، فصعد القلعة حتى وصل إلى الباب، ثم صاح: يا بن حمدون، فأجابه: لبيك! فقال له: افتح الباب، ويلك! ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وأمر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والاثاث، ثم أمر بهدمها فهدمت، ثم وجه خلف حمدان بن حمدون، فطلب أشد الطلب، وأخذت أموال كانت له مودعة.
وجيء بالمال إلى المعتضد، ثم ظفر به.
ثم مضى المعتضد إلى مدينة يقال لها الحسنية، وفيها رجل يقال له شداد، في جيش كثيف، ذكر أنهم عشرة آلاف رجل، وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد، فأخذه فهدم قلعته.
وفيها ورد الخبر من طريق مكة أنه أصاب الناس في المصعد برد شديد ومطر جود وبرد أصيب فيه أكثر من خمسمائة إنسان.
وفي شوال منها غزا المسلمون الروم، فكانت بينهم الحرب اثني عشر يوماً، فظفر المسلمون وغنموا غنيمة كثيرة وانصرفوا.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين

ذكر الاحداث التي كانت فيها
ذكر أمر النيروز المعتضدي
فمن ذلك ما كان من أمر المعتضد في المحرم منها بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي هو نيروز العجم، وتأخير ذلك إلى اليوم الحادي عشر من حزيران، وسمي ذلك النيروز المعتضدي، فأنشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها، وورد كتابه بذلك على يوسف بن يعقوب يعلمه أنه أراد بذلك الترفيه على الناس، والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس، ففعل.
وفيها قدم ابن الجصاص من مصر بابنه أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون التي تزوجها المعتضد، ومعها أكثر عمومتها، فكان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم، وأدخلت للحرم ليلة الأحد، ونزلت في دار صاعد ابن مخلد؛ وكان المعتضد غائباً بالموصل.
وفيها منع الناس من عمل ما كانوا يعملون في نيروز العجم من صب الماء ورفع النيران وغير ذلك.
ذكر أمر المعتضد مع حمدان بن حمدونوفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه؛ فأما إسحاق بن أيوب فسارع إلى ذلك، وأما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه.
فوجه إليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما؛ فصادفوا الحسن بن علي كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من أرض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان.
فلما رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان فأومن.

صار الحسين إلى المعتضد، وسلم القلعة فأمر بهدمها، وأغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان؛ وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائداً، فعبر أصحاب وصيف إليه ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم، حتى قتل أكثرهم، فألقى حمدان نفسه في زورق كان معداً له في دجلة، ومعه كاتب له نصراني يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالاً، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض ديار ربيعة، وقدر اللحاق بالأعراب لما حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي، وعبر في أثره نفر يسير من الجند فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله؛ فلما بصر بهم خرج من الدير هارباً ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل إلى المعتضد، وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسراً إلى ضيعة له بشرقي دجلة، فركب دابة لوكيله، وسار ليلة أجمع إلى أن وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيراً به، فأحضره إسحاق مضرب المعتضد، وأمر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعدة من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان؛ وذلك في آخر المحرم من هذه السنة.
وفي شهر ربيع الأول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
وفيها انتقلت ابنة خمارويه بن أحمد إلى المعتضد لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودي في جانبي بغداد ألا يعبر أحد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووكل بحافتي دجلة من يمنع أن يظهروا في دورهم على الشط.
فلما صليت العتمة وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا أحدرت الحراقات، وصارت الشذا بين أيديهم؛ وأقامت الحرة يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالاً لابن أبي دلف وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف يطلب منه جوهراً كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مدداً لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن أبي الساج بمن أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة، ولقي مالاً للسلطان في طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطي ويحيي ويهرب
وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرى إلى أبي محمد أبنه.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار، ليفرقها على أهله ببغداد والكوفة؛ ومكة والمدينة، فسعى به، فأحصر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر أن يوجه إليه في كل سنة بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقة عليه من أهله.
فأعلم بدر المعتضد ذلك، وأعلمه أن الرجل في يديه والمال، واستطلع رأيه وما يأمر به.
فذكر عن أبي عبد الله الحسني أن المعتضد قال لبدر: يا بدر، أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: ألا تذكر أني حدثتك أن الناصر دعاني، فقال لي: أعلم أن هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل على بن أبي طالب! ثم قال: رأيت في النوم كأني خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس إلي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي، لا يلتفت إلي، فعجبت منه ومن قلة اكتراثه بعسكري، مع تشوف الناس إلى العسكر، فأقبلت إليه حتى وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فأقبلت إليه، فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا علي بن أبي طالب؛ خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الأرض - لمسحاة بين يديه - فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: أنه سبيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فأوصهم بولدي خيراً.
قال بدر: فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، قد ذكرت.

قال: فأطلق المال، وأطلق الرجل وتقدم إليه إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يوجه به إليه ظاهراً، وأن يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهراً، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
وفي شعبان لإحدى عشرة بقيت منها، توفي أبو طلحة المنصور بن مسلم في حبس المعتضد.
وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادماً من الرى، فخلع عليه المعتضد.
ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جارية أم قاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابناً سماه جعفر، فسمى المعتضد هذه الجارية شغب.
وفيها قدم إبراهيم ابن أحمد الماذرائي لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في أحد عشر يوماً، فأخبر المعتضد أن خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من الخاصة،وقيل: إن قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجة.
وقيل أن إبراهيم وافى بغداد من دمشق سبعة أيام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادماً.
وكان المعتضد كان قد بعث مع ابن الجصاص إلى خمارويه بهدايا، وأودعه إليه رسالة، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامراً بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب إليه يأمره بالرجوع إليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الاحداث
خبر هارون الشاري والظفر به
فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم منها - بسبب الشاري هارون - إلى ناحية الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان سبب ظفره به أنه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه؛ وذكر أن الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إياهما بعد مجيء به إليه.
فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألا يخالفني فيما أمره به، فأمر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون؛ فتمنعه العبور، وأجيئك أنا، أو يبلغك أني قد قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا؛ والصواب أن نمضي في أثارهم.
فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون الشاري منهزما إلى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفاً وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف هارون خبراً، ولا رأى له أثراً، وجعل يسأل عن هارون حتى وقف عبوره، فعبر في أثره، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسألهم عنه فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم، وأعلمهم أن المعتضد في أثره؛ فأعلموه أنه اجتاز بهم، فأخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم - وكانت قد كلت وأعيت - واتبع أثره، فلحقه بعد أيام والشاري في نحو من مائة، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى إلا محاربته، فحاربه؛ فذكر أن حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه، وجاء به إلى المعتضد سلماً بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعة عليه والإحسان إليه أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه؛ فلما أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعاً إلى مدينة السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية، وعبأ الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من رؤساء أهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشاري على الفيل كالمحفة، وأقعد فيها، وألبس دراعه الديباج، وجعل على رأسه برنس حرير طويل.

ولعشر بقين من جمادى الأولى منها، أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وصرف عمالها؛ فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر.
وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وأبيه، فقال: اللهم أصلح الداعي إلى الحق؛ فرجع عمرو إلى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصراً أهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأخرى منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق ابن كنداجيق وخاقان المفلحي ومحمد بن كمشجور المعزوف ببندقة وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعة من القواد من مصر في الأمان.
وذكر أن سبب مجيئهم إلى المعتضد في الأمان كان أنهم أرادوا أن يفتكوا بجيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فسعى بهم إليه، وكان راكباً وكانوا في موكبه، وعلموا أنه قد وقف على أمرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البرية، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أياماً، ومات منهم جماعة من العطش وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفة بمرحلتين أو ثلاثة.
ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى الكوفة حتى كتب أسماؤهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفة فلما قربوا من بغداد، خرجت إليهم الوظائف والخيم والطعام،ووصلوا إلى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم وحمل كل قائد منهم على دابة بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلاً.
وفي يوم السبت لأربع عشرة بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان.
خبر حصر الصقالبة القسطنطينية: وفيها - فيما ذكر - ورد كتاب من طرسوس أن الصقالبة غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيرة حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، وأغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغية الروم إلى ملك الصقالبة أن ديننا ودينكم واحد؛ فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبة أن هذا ملك آبائي، ولست منصرفاً عنك إلا بغلبة أحدنا صاحبه؛ فلما لم يجد ملك الروم خلاصاً من صاحب الصقالبة، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا، وكشفوا الصقالبة،فلما رأى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث إليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح وفرقهم في البلدان، حذراً من أن يجنوا عليه.
خلاف جند جيش بن خمارويه عليه: وللنصف من رجب من هذه السنة ورد الخبر من مصر أن الجند من المغاربة والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرض بك أميراً علنياً فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذي ذكروا أنهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بأرؤسهما إليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها أمر المعتضد بكري دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبني بذلك من أرباب الضياع والإقطاعات أربعة آلاف دينار، وكسر - فيما ذكر - وأنفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم

وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي أحمد بن طغان، وذكر أن الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " : أعلمك أن أحمد بن طغان نادي في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وأنه قد خرج إلى لامس - وهو معسكر المسلمين - يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زي، فلم يزل الناس خارجين إلى لامس إلى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثني عشر يوماً؛ وكانت جملة من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، وأطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج - فيما ذكر أحمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، أوخلف دميانه على علمه على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردي على طرسوس ولم يرجع هو إليها.
ذكر أمر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز

بن أبي دلف وأخيه بكر
وفي يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنة قرىء كتاب على المنبر بمدينة السلام في مسجد جامعها؛ بأن عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إلى بدر وعبيد الله بن سليمان في الأمان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعاً مطيعاً منقاداً لأمير المؤمنين، مذعناً بالطاعة والمصير معهما إلى بابه، وأن عبيد الله بن سلمان خرج إليه فتلقاه، وصار به إلى مضرب بدر، وأخذ عليه وعلى أهل بيته وأصحابه البيعة لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من أهل بيته، فانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الأمان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على أن يخرج إليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في طاعة السلطان؛ وإنما كنا وليناك عمله على أنه عاص، والآن فأمير المؤمنين أعلى عيناً فيما يرى من أمركما، فامضيا إلى بابه.
وولى عيسى النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في أصحابه، فكتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام بموضعه إلى أن يعرف خبر بكر وما إليه يصير أمره؛ فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى محمد علي بن المعتضد بالرى، ولحق بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالأهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفاً موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه - فيما ذكر - ولم يواقعه، وباتا؛ وكل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بكر وعربه، فتقدم بدر إلى عيسى النوشري بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
عني ملامك ليس حين ملام ... هيهات أحدث زائداً للوام
طارت غيايات الصبا عن مفرقي ... ومضى أوان شراستي وعرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ... وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ... مرمى البعيد الأرحام
وتشعب العرب الذين تصدعوا ... فذببت عن أحسابهم بحسامي
فيه تماسك ما وهي من أمرهم ... والسمر عند تصادم الأقوام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ... قرعاً يهد رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ... بقرارة لمواطىء الأقدام
يا بدر إنك لو شهدت مواقفي ... والموت يلحظ والصفاح دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ... ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإنما ... حركت من حصني جبال تهام

وعجمتني فعجمت مني مرجماً ... خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ... يخلو بغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ... في عيشة رغد وعز نامي
حتى إذا حلئت عنه نابني ... ما نابني وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ... ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبو حفص يدي وذخيرتي ... للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني، وهززته ... فهززت حد الصارم الصمصام
من رام أن يغضي الجفون على القذى ... أو يستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعاً ... والبيض مصلته لضرب الهام
وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشري منبين يديه ويعير وصيفا بالأحجام عنه ويتهدد بدراً:
قالت البيض قد تغير بكر ... وبدا بعد وصله منه هجر
ليس كالسيف مونس حين يعرو ... حادث معضل ويفدح أمر
أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ... ثم حاصوا، فأين منها المفر!
وبغوا شرنا فهذا أوان ... قد بدا شره ويتلوه شر
قد رأى النوشري لما التقينا ... من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ... صولة دونها الكماة تهر
ولواء الموشجير أفضى إلينا ... رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدراً حلمي وفضل أناتي ... واحتمالي، وذاك مما يغر
سوف يأتينه شوذاب قب ... لاحقات البطون جون وشقر
يتبارين كالسعالي عليها ... من بني وائل أسود تكر
لست بكراً إن لم أدعهم حديثاً ... ما سرى كوكب وما كر دهر
وفي يوم الجمعة لسبع خلون من شوال من هذه السنة مات علي بن محمد ابن أبي الشوارب، فحمل إلى سامراً من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينة أبي جعفر ستة أشهر.
وفي يوم الاثنين لأربع من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف قادماً من أصبهان، فأمر المعتضد - فيما ذكر - القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل إليه، وخلع عليه، وحمله على دابة بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وأنزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند رأس الجسر؛ وكانت قد فرشت له.
وفي هذه السنة قرىء على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن الصفار بن الليث الصفار؛ بأنه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وأنه مر هارباً، وأنه على أن يتبعه.
وكانت الوقعة لخمس بقين من شهر رمضان، وقرىء الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة.
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة، وردت خريطة - فيما ذكر - من عمرو بن الليث على المعتضد،وهو في الحلبة، فانصرف إلى دار العامة، وقرىء الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه أنه وجه في أثره رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخي مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار إلى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا أثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم، فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر أنه قد حمل الرسول في أمر الرأس ما يخبر به السلطان.
وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي، ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان.
وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس.

وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمة بين راغب ودميانة بطرسوس، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن راغباً مولي الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن أحمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين أحمد بن طغان الخلاف؛ فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانة للقيام بأمر طرسوس؛ فلما كان في صفر من هذه السنة، وجه يوسف الباغمردي ليخلفه إلى طرسوس؛ فلما دخلها وقوى به دميانة، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانة وابن الباغمردي وابن اليتيم مقيدين إلى المعتضد.
ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنة وردت خريطة من الجبل، بأن عيسى النوشري أوقع ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وأفلت في نفر يسير.
وفي يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول منها، خلع على أبي عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينة أبي جعفر المنصور مكان علي ابن محمد بن أبي الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور والرذانين.
وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينة أبي جعفر من لدن مات ابن أبي الشوارب إلى أن وليها أبو عمر بغير قاض، وذلك خمسة أشهر وأربعة أيام.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه في هذه السنة، أخذ خادم نصراني لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع إلى الحبس، وشهد عليه أنه شم النبي صلى الله عليه وسلم فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامة بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه.
بسبب ما شهد عليه؛ فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت منه اجتمع أهل باب الطاق إلى قنطرة البردان وما يليها من الأسواق، وتداعوا، ومضوا إلى باب السلطان، فلقيهم أبو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم، فأخبروه.
فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إليه منهم جماعة، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفاً السمرقندي إلى يوسف القاضي، وتقدم إلى خفيف أن يأمر يوسف بالنظر في أمر الخادم، وأن ينهي إليه ما يقف عليه من أمره، فمضى معهم خفيف إلى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى أفلت يوسف منهم، ودخل باباً وأغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامة في أمره اجتماع.
وفي هذا الشهر من هذه السنة قدم - فيما ذكر - قوم من أهل طرسوس على السلطان يسألونه أن يولى عليهم وال، ويذكرون أن بلدهم بغير وال؛ وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء إليهم، فأخرجوا عامله عن البلد، وأرسلهم في ذلك، ووعدهم الإحسان، فأبوا أن يتركوا له غلاماً يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - فيما ذكر - ظهرت ظلمة بمصر، وحمرة في السماء شديدة؛ حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر، فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون إليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الأولى، ولإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران، نودي في الأرباع والأسواق ببغداد بالنهي عن وقود النيران ليلة النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودي بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشية يوم الجمعة نودي على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطة بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بأن أمير المؤمنين قد أطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامة من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على أصحاب الشرطة في مجلس الجسر - فيما ذكر.

وفيها أغريت العامة بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادماً أسود عشية الجمعة برقعة إلى ابن حمدون النديم؛ فلما بلغ الخادم رأس الجسر من الجانب الشرقي صاح به صائح من العامة: يا عقيق! فشم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعة من العامة على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه.
فرجع إلى السلطان فأخبره بما صنع به، فأمر المعتضد طريفاً المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط.
فركب طريف يوم السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى في جماعة من الفرسان والرجالة، وقدم بين يديه خادماً أسود؛ فصار إلى باب الطاق لما أمر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعة أنفس؛ ذكر أن بعضهم كان بزياً؛ فضربوا بالسياط في مجلس الشرطة بالجانب الشرقي.
وعبر طريف ومضى إلى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسة أنفس فضربهم في مجلس الشرطة بالشرقية، وحمل الجميع على جمال، ونودي عليهم: هذا جزاء من أولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
وفي هذه السنة عزم المعتضد بالله على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامة، وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إلى ذلك من قوله.
وذكر أن أول شيء بدأ به المعتضد حين أراد ذلك الأمر بالتقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، إلا أن يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع أهل الحلق في الفتيا أو غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعة من القعود في رحابهما.
وفي جمادى الآخرة نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص أو غيره، ومنع القصاص وأهل الحلق من القعود.
وفي يوم الحادي عشر - وذلك يوم الجمعة - نودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظره أو جدل، وأن من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم إلى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه بخير.
ذكر كتاب المعتضد فيشأن بني أميةوتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ.
فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية، فأخرج له من الديوان، فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذكر أنها نسخة الكتاب الذي أنشىء للمعتضد بالله: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته؛ الذي يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى؛ قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وضرب لكل شيء أمداً، وهو العليم الخبير، والحمد لله الذي برأ خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعة مطيعهم، وماضى أمره في عصيان عاصيهم؛ فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجة، وقدم إليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذي ارتضى لهم، وأكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه وأهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له أعداءه وأهل معصيته؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

والحمد لله الذي اصطفى محمداً رسوله من جميع بريته، وأختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى إلى عباده أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتأذن له بالنصر والتمكين، وأيده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من أدبر وتولى، حتى أظهر الله أمره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وأنجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤدياً لأمره، مبلغاً لرسالته، ناصحاً لأمته، مرضياً مهتدياً إلى أكرم مآب المنقلبين، وأعلى منازل أنبيائه المرسلين، وعباده الفائزين؛ فصلى الله عليه أفضل صلاة وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثة خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعبادة المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمة، ومواريث النبوة، والمستخلفين في الأمة، والمنصورين بالعز والمنعة، والتأييد والغلبة؛ حتى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم، ونطقت بها ألسنتهم، على غير معرفة ولا روية، وقلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة، وخالفوا السنن المتبعة، إلى الأهواء المبتدعة، قال قال الله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " صدق الله العظيم " خروجاً عن الجماعة، ومسارعة إلى الفتنة وإيثاراً للفرقة، وتشتيتاً للكلمة وإظهاراً لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، وأخرجه من الملة، وأوجب عليه اللعنة، وتعظيماً لمن صغر الله حقه، وأوهن أمره، وأضعف ركنه، من بني أمية الشجرة الملعونة، ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة، وأسبغ عليهم به النعمة؛ من أهل بيت البركة والرحمة، قال الله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم " صدق الله العظيم " .
فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأى في ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين، وفساداً لمن قلده الله أمره من المسلمين، وإهمالاً لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكين، وبسط اليد على العاندين.
وأمير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بأن الله عز وجل لما ابتعث محمداً بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته، فدعاهم إلى ربه، وأنذرهم وبشرهم، ونصح لهم وأرشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع أمره نفر من يسير من بني أبيه، من بين مؤمن بما أتى به من ربه، وبين ناصر له وإن لم يتبع دينه، وإعزازاً له، وإشفاقاً عليه، لماضى علم الله فيمن اختار منهم، ونفذت مشئته يستودعه إياه من خلافته وإرث نبيه؛ فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له أخبار أعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين؛ حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والإيمان به، بأثبت بصيرة، وأحسن هدى ورغبة، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة، وأهل بيت الدين - أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً - ومعدن الحكمة، وورثة النبوة وموضع الخلافة، وأوجب لهم الفضيلة، وألزم العباد لهم الطاعة.
وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم؛ يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدونه عن من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه.

وأشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأولهم في كل حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر وأحد والخندق والفتح أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بني أمية، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن، وعدة مواضع، لماضى علم الله فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم؛ فحارب مجاهداً، ودفع مكابداً، وأقام منابذاً حتى قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون؛ فتقول الإسلام غير منطو عليه، وأسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وميز لهم المؤلفة قلوبهم، فقبله وولده على علم منه؛ فمما لعنهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل به كتاباً قوله: " بسم الله الرحمن الرحيم " والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً " صدق الله العظيم " .
ولا اختلاف بين أحد انه أراد بها بني أمية.
ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلاً على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد والراكب والسائق.
ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار.
وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت " بسم الله الرحمن الرحيم " الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " صدق الله العظيم " .
ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية أحد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: ها هنا ذببنا محمداً وأصحابه.
ومنه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم فوجم لها، فما رئى ضاحكاً بعدها، فأنزل الله: " بسم الله الرحمن الرحيم " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " صدق الله العظيم " ؛ فذكروا أنه رأى نفراً من بني أمية ينزون على منبره.
ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه، وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقي على ذلك سائر عمره، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو أريق بعدها.
ومنه ما أنزل الله على نبيه في سورة القدر: " بسم الله الرحمن الرحيم " ليلة القدر خير من ألف شهر " صدق الله العظيم " ، من ملك بني أمية.
ومنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه، فدافع بأمره، واعتل بطعامه، فقال النبي: " لا أشبع الله بطنه " ، فبقي لا يشبع، ويقول: والله ما أترك الطعام شبعاً؛ ولكن إعياء.
ومنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي " ، فطلع معاوية.
ومنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه " .
ومنه الحديث المرفوع المشهور أنه قال: " إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي: يا حنان يا منان، الآن وقد عصيت قبل وكنت كن المفسدين.
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً، وأقدمهم إليه سبقا، وأحسنهم فيه أثراً وذكراً؛ علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو أبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
يستهوى أهل الغباوة، ويمون على أهل الجهالة بمكره وبغيه، الذين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عنهما، فقال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار " ، مؤثراً للعاجلة، كافراً بالآجلة، خارجاً من ربقة الإسلام، مستحلاً للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهداً لله، مجتهداً في أن يعصي الله فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان.

وأن تغلو كلمة الضلالة، وترتفع دعوة الباطل؛ وكلمة الله هي العليا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وأمره الغالب، وكيد من حادة المغلوب الداحض؛ حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها؛ واغتره الإملاء، واستدرجه الإمهال، والله له بالمرصاد.
ثم أوجب الله له به اللعنة، قتل من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة؛ مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدي، فيمن قتل من أمثالهم، في أن تكون له العزة والملك والغلبة، ولله العزة والملك والقدرة، والله عز وجل يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً " صدق الله العظيم " .
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سمية، جرأه على الله؛ والله يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " صدق الله العظيم " .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير موالية " ، ويقول: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ، فخالف حكم الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم جهاراً، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيرها منسفور وجوه ما قد حرمه الله، وأثبت بها قربي قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه.
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبة، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره.
فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، بثأرات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش؛ مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهراً بكفره ومظهراً بشركه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من ساداتكم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً ... ثم قالوا: يا يزيد لا تسل
لست من خندف إن لم أنتقم ... من بني أحمد ما كان فعل
ولعت هاشم بالملك فلا ... خبر جاء ولا وحي نزل
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.
ثم من أغلظ ما انتهك، أعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراء على الله، وكفراً بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهدة لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة، ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلمه ما تحت يده، وأعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.

هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه، واتخاذ مال الله دولاً بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم إياه بالنيران، لا يألون له إحراقاً وإخراباً، ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكاً، ولمن لجأ إليه قتلاً وتنكيلاً، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريداً؛ حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب، واستحقوا من الله الإنتقام، وملئوا الأرض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطة، ونزلت بهم من الله السطوة، أتاح الله لهم من عترة نبيه، وأهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته؛ مثل ما أتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بآبائهم دماء آباء الكفرة المشركين؛ وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين.
ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق إلى أهله المستحقين، كما قال جل شأنه: " بسم الله الرحمن الرحيم " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " صدق الله العظيم " .
واعلموا أيها الناس، أن الله عز وجل إنما أمر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، وألزم الأخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليتبع؛ وإن كثيراً ممن ضل فالتوى، وانتقل من أهل الجهالة والسفاه ممن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ وقد قال الله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقتلوا أثمة الكفر " صدق الله العظيم " .
فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، ورجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما أمركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجة البينة، والسبل الواضحة، وأهل بيت الرحمة؛ الذين هداكم الله بهم بديئاً، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيراً، وأصاركم إلى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في أديانكم ومعايشكم في أيامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله،وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته.
اللهم إلعن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم وولده؛ اللهم إلعن أثمة الكفر، وقادة الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول، ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب وسفاكي الدم الحرام.
اللهم إنا نتبرأ إليك من موالاة أعدائك، ومن الإغماض لأهل معصيتك، كما قلت: " بسم الله الرحمن الرحيم " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " صدق الله العظيم " .
يأيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فإنه إنما يبين عن الناس أعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم؛ فلا يأخذكم في الله لومة لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعة من تخرجكم طاعته إلى معصية ربكم.
أيها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، أمر الله ونحن ورثة رسول الله القائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به؛ فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وأثمة الهدى على سبيل الإيمان والتقوى، وأمير المؤمنين يستعصم الله أكبر، ويسأله توفيقكم، ويرغب إلى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي دينه عليكم؛ حتى تلقون به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب أمير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا حول ولا قوة إلا بالله والسلام عليكم.
وكتب أبو القاسم عبدي الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين.
وذكر أن عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد؛ فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا أمير المؤمنين؛ إني أخاف أن تضطرب العامة، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة.
فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم؛ وفي الكتاب إطراؤهم، أو كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة، وأثبت حجة منهم اليوم.

فأمسك المعتضد فلم يرد عليه جواباً، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز إلى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الرى وهدايا من قبل المعتضد.
وفي هذه السنة لحق عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران أمر بكر إلام يؤول وعلى إصلاح الجبل.
وفيها - فيما ذكر - فتحت من بلاد الروم قرة، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعة من رجب.
وفي ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من شعبان - أو ليلة الخميس فيما ذكر - ظهر شخص إنسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربة قطع بها منطقته، ووصل السيف إلى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفاً عنه هارباً، ودخل الشخص في زرع البستان، فتوارى فيه، فطلب باقي ليلته ومن غد، فلم يوقف على أثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في أمره رجماً بالظنون، حتى قالوا: إنه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مراراً كثيرة، حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكم السور ورأسه، وجعل عليه كالبرابخ؛ لئلا يقع عليه الكلاب إن رمي به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن أحد للدخول إليه بنقب أو تسلق.
وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنة، وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين، ذكر أنهم من القرامطة، فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه كان يكاتبهم، وأنه أحد رؤسائهم، فقبض على أبي هاشم، وقيد وحبس في المطامير.
وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم إلى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذي كان يظهر له، فأدخلوا الدار، وصعد المعتضد علية له، فأشرف عليهم؛ فلما رآهم صرعت امرأة كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسة دراهم - فيما ذكر - وصرفوا.
وقد كان قد وجه إلى المعزمين قبل أن يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذي ظهر له: هل يمكنهم أن يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم أنهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سأل الجني عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما رأى المرأة التي صرعت أمر بصرفهم.
وفي ذي القعدة منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أخذه فقيده، وحمله إلى قلعة لآل أبي دلف بالزز، فحسبه فيها، وكان كل ما لآل أبي دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعة من غلمان عمر وخاصته، فلما استأمن عمر إلى السلطان، وهرب بكر عاصياً للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه أبو ليلى في إطلاقه فأبى، وقال: لا أفعل فيك وفيما في يدي إلا بما يأمرني به عمر.
فذكر عن جارية لأبي ليلى أنها قالت: كان مع أبي ليلى في الحبس غلام صغير يخدمه، وآخر يدخل ويخرج في حوائجه ولا بيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال أبو ليلى لغلامه الذي يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله إلي، ففعل وأدخله في شيء من طعامه.
وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضي فينام، وتحت فراشه سيف مسلول.
وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية حدثة السن، فذكر عن ذلفاء جارية أبي ليلى عن هذه الجارية أنها قالت: برد أبو ليلى المسمار الذي في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء.
قالت: وجاء شفيع الخادم عشية من العشايا إلى أبي ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحاً، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته.
قالت: فأمرني أبو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثياباً في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني أن أقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر إلي ويقفل الباب، فسألك عني فقولي: هو نائم.

وخرج أبو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش، وسأل الجارية فأخبر أنه قد نام، فأقفل الباب؛ فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في قلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: أنا أبو ليلى قد قتلت شفيعاً، ولئن تقدم إلي منكم أحد لأقتلنه وأنتم آمنون؛ فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما أريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الإحسان، وأخذ عليهم الإيمان.
فلما أصبح نزل من القلعة، ووجه إلى الأكراد وأهل الزموم، فجمعهم وأعطاهم، وخرج مخالفاً على السلطان.
وقيل إن قتله الخادم كان في ليلة السبت لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل أنه ذبح الخادم ذبحاً بسكين كان أدخلها إليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به إلى الغلمان.
وفي هذه السنة - وهي سنة أربع وثمانين ومائتين - كان المنجمون يوعدون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وأن إقليم بابل لا يسلم منه إلا اليسير، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة المياه في الأنهار والعيون والآبار، فقحط الناس فلم يروا فيها من المطر إلا اليسير، وغارت المياه في الأنهار،والعيون والآبار، حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء فاستقوا ببغداد مرات.
ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت - فيما ذكر - وقعة بين عيسى النوشري وبين أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه - فيما ذكر - فنحره، فسقط على دابته، وانهزم أصحابه، وأخذ رأسه فحمل إلى أصبهان.
وحج الناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف بأترجة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قطع صالح بن مدرك الطائي في جماعة من طيىء على الحاج بالأجفر الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من المحرم، فحاربه الجني الكبير، وهو أمير القافلة، فظفر الأعراب بالقافلة؛ فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعة من النساء الحرائر والممالك.
وقيل إن الذي أخذوا من الناس بقيمة ألفي ألف دينار.
ولسبع بقين من المحرم منها قرىء على جماعة من حاج خراسان في دار المعتضد بتوليه عمرو بن الليث الصفار ما وراء نهر بلخ، وعزل إسماعيل بن أحمد عنه.
ولخمس خلون من صفر منها ورد مدينة السلام وصيف كامه مع جماعة من القواد من قبل بدر مولى المعتضد وعبيد الله بن سليمان من الجبل، معهم رأس الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى، فمضوا به إلى دار المعتضد بالثريا، فاستوهبه أخوه فوهبه، واستأذنه في دفنه فأذن له، وخلع على عمر بن عبد العزيز في هذا اليوم وعلى جماعة من القواد القادمين.
وفيها - فيما ذكر - كتب صاحب البريد من الكوفة، يذكر أن ريحاً صفراء ارتفعت بنواحي الكوفة في ليلة الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، فلم تزل إلى وقت صلاة المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع إلى الله.
وإن السماء مطرت بعقب ذلك مطراً شديداً برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمد أباذ ونواحيها حجارة بيض وسود مختلفة الألوان، في أوساطها ضغطة شبه أفهار العطارين، فأنفذ منها حجراً، فأخرج إلى الدواوين والناس حتى رأوه.
ولتسع بقين منه شخص ابن الإخشاد أميراً على طرسوس من بغداد مع النفر الذين كانوا قدموا منها يسألون أن يولى عليهم وال.
وخرج أيضاً في هذا اليوم من بغداد فاتك مولى المعتضد للنظر في أمور العمال بالموصل وديار ربيعة وديار مضر والثغور والشأمية والجزرية وإصلاح الأمور بها إلى ما كان يتقلده من أعمال البريد بهذه النواحي.

وفي هذه السنة ورد الخبر - فيما ذكر - من البصرة أن ريحاً ارتفعت بها بعد صلاة الجمعة لخمس بقين من شهر ربيع الأول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سواد، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثلها، ثم وقع برد كبار كان وزن البردة الواحدة مائة وخمسين درهماً - فيما قيل - وأن الريح أقلعت من نهر الحسين خمسمائة نخلة أو أكثر، ومن نهر معقل مائة نخلة عدداً.
وفيها كانت وفاة الخليل بن ريمال بحلوان.
ولخمس خلون من جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان أن بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف توفي بطبرستان من علة أصابته، ودفن هنالك.
فأعطى بالذي جاء بالخبر - فيما ذكر - ألف دينار.
وفيها ولى المعتضد محمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف، وبعث إليه بخلع وحملان.
وفيها ورد الخبر لثلاث خلون من شعبان أن راغباً الخادم مولى الموفق غزا في البحر، فأظفره الله بمراكب كثيرة، وبجميع من فيها من الروم، فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم الذين كانوا في المراكب، وأحرق المراكب، وفتح حصوناً كثيرة من حصون الروم، وانصرفوا سالمين.
وفي ذي الحجة منها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عيسى بن شيخ وقيام ابنه محمد بن أحمد بن عيسى بما كان في يد أبيه بآمد، وما يليها على سبيل التغلب.
ولإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة منها خرج المعتضد من بغداد قاصداً إلى آمد، وخرج معه ابنه أبو محمد والقواد والغلمان، واستخلف ببغداد صالحاً الامين الحاجب، وقلده النظر في المظالم وأمر الجسرين وغير ذلك.
وفيها وجه هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ومن معه من قواد المصريين إلى المعتضد وضيف قاطرميز، يسألونه مقاطعتهم عما في أيديهم من مصر والشأم، وأجرى هارون على ما كان يجري عليه أبوه، فقدم وصيف بغداد، فرده المعتضد، ووجه معه عبد الله بن الفتح ليشافههم برسائل، ويشترط عليهم شروطاً، فخرجا لذلك في آخر هذه السنة.
وفيها غزا ابن الإخشاد بأهل طرسوس وغيرهم في ذي الحجة، وبلغ سلندو.
وفتح عليه، وكان انصرافه إلى طرسوس في سنة ست وثمانين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن أبي الساج ابنه معروف بأبي المسافر إلى بغداد رهينة بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، فقدم - فيما ذكر - يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد.
وفي شهر ربيع الأخر منها ورد الخبر أن المعتضد بالله وصل إلى آمد، فأناخ بجنده عليها، وأغلق محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينة آمد، وعلى من فيها من أشياعه.
ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لأيام بقيت من شهر ربيع الأول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها.
وفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى وجه محمد بن أحمد ابن عيسى إلى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الأمان، فوجه إلى ذلك فخرج محمد بن أحمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه فوصلوا إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه، وانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره إلى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره؛ وكتب بذلك كتاباً إلى مدينة السلام مؤرخاً بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الأولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد إلى مدينة السلام، وقرىء على المنبر بالجامع.
وفيها انصرف عبد الله بن الفتح إلى المعتضد وهو مقيم بآمد من مصر بأجوبة كتبه إلى هارون بن خمارويه، وأعلمه أن هارون قد بذل أن يسلم أعمال قنسرين والعواصم، ويحمل إلى بيت المال ببغداد في كل سنة أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وأنه يسأل أن يجدد له ولاية مصر والشأم، وأن يوجه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك؛ فأجابه إلى ما سأل، وأنفذ إليه بدراً القدامي وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد إلى مصر بذلك وتسلم عمال المعتضد أعمال قنسرين والعواصم من أصحاب هارون في جمادى الأولى، وأقام المعتضد بآمد بقية جمادى الأولى وثلاثة وعشرين يوماً من جمادى الآخرة.

ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه علياً بآمد مع جيوش ضمهم إليه لضبط الناحية وأعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعة وديار مضر.
وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في أمور هذه النواحي ومكاتبة العمال بها، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
وفيها وافت هدية عمرو بن الليث الصفار من نيسابور إلى بغداد، فكان مبلغ المال الذي وجه أربعة ألاف ألف دينار، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاة مغرقة ومائة وخمسين دابة بجلال مشهرة وكسوة وطيب وبزاة، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة؛ وكان خروجه - فيما ذكر - في أول هذه السنة، وكثر أصحابه في جمادى الآخرة، وقوى أمره، فقتل من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يقال له القطيف، وبينه وبين البصرة مراحل، فقتل من بها.
وذكر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي - وكان يتقلد معاون البصرة وكور دجلة في ذلك الوقت - إلى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة؛ فكتب إليه وإلى محمد بن هشام المتولي أعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصرة، فقدرت النفقة على ذلك أربعة عشر ألف دينار، فأمر بالإنفاق عليه فبني.
وفي رجب من هذه السنة صار إلى الأنبار جماعة من أعراب بني شيبان، فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشي.
فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور المتولي المعاون بها، فلم يطقهم.
فكتب إلى السلطان يخبره بأمورهم.
فوجه من مدينة السلام نفيساً المولدي وأحمد بن محمد الزرنجي والمظفر بن حاج مدداً له في زهاء ألف رجل؛ فصاروا إلى موضع الأعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبة من الأنبار، فهزمهم الأعراب، وقتلوا أصحابهم وغرق أكثرهم في الفرات، وتفرقوا.
فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين بقين من رجب بخبر هذه الوقعة وهزيمة الأعراب إياهم، فأقام الأعراب يعيشون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب إلى المعتضد بخبرهم، فوجه إليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفاً الأذكوتكيني وجماعة من القواد.
فصار هؤلاء القواد إلى هيت في آخر شعبان من هذه السنة.
وبلغ الأعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوهما ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الأعراب بعين التمر ونواحي الكوفة؛ مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقين شعبان وشهر رمضان.
وفيها وجه المعتضد إلى راغب مولى أبي أحمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير إليه بالرقة، فصار إليه وهو بها، فلما وصل إليه تركه في عسكره يوماً ثم أخذه من الغد فحبسه؛ وأخذ جميع ما كان معه؛ ورد الخبر بذلك مدينة السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد أيام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى أصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولي أخذهم ابن الإخشاد.
ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنساً الخازن إلى الأعراب بنواحي الكوفة وعين التمر، وضم إليه العباس بن عمرو وخفيفاً الاذكرتكيني وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى فوجد الأعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم إلى برية طريق مكة وبعضهم إلى برية الشأم، فأقام بموضعه أياماً، ثم شخص إلى مدينة السلام.
وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعة من أهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر؛ وذلك أنه صار بعض أقربائه - فيما ذكر - إلى عبيد الله بن سليمان، فأعلمه أن محمداً على الهرب في جماعة من أصحابه وأهله، فكتب بذلك عبيد الله إلى المعتضد، فكتب إليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم منها.

وفي هذا الشهر من هذه السنة ورد كتاب أبي الأغر على السلطان أن طيئاً تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الأعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين إلى مدينة السلام من مكة ببضعة عشر ميلاً، وأقبل إليهم فرسان الأعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وإبلهم؛ وكانت رجالتهم أكثر من ثلاثة ألاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم أجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما جنهم الليل باينوهم؛ فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداة يوم الجمعة إلى حين انتصاف النهار.
ثم أنزل الله النصر على أوليائه وولى الأعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وأنه سار هو وجميع الحاج سالمين، وأنفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو أحد وجوه بني عمه والمتولي كان للقبض على صالح بن مدرك.
وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى أبو الأغر مدينة السلام، وبين يديه رأس صالح بن مدرك، ورأس جحنش، ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أسارى من بني عم صالح، فمضى إلى دار المعتضد، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على رأس الجسر الأعلى بالجانب الشرقي، وأدخل الأسرى المطامير.
ولأربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز إلى بغداد، وأمر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل إليه الآلات، وابتدأ في عمله.
وفي شهر بيع الأول منها غلظ أمر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي يسأل المدد، فوجه إليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار جيش لينفذه إلى البصرة.
وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في أمور الخاصة والعامة من الناس والخراج والضياع والمعاون.
وفي يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة منه ولي جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه إلى الديوان وقعد فيه.
وفي شهر ربيع الأخر منها ولي المعتضد بن عباس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة أبي سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة، وضم إليه زهاء ألفي رجل، فعسكر العباس بالفرك أياماً حتى اجتمع إليه أصحابه، ثم مضى إلى البصرة، ثم شخص منها إلى البحرين واليمامة.
وفيها - فيما ذكر - وافى العدو باب قلمية من طرسوس، فنفر أبو ثابت وهو أمير طرسوس بعد موت ابن الإخشاد - وكان استخلفه على البلد حين غزا - فمات وهو على ذلك؛ فبلغ في نفيره إلى نهر الريحان في طلب العدو، فأسر أبو ثابت وأصيب الناس؛ فكان ابن كلوب غازياً في درب السلامة؛ فلما قفل من غزاته جمع المشايخ من أهل الثغر ليتراضوا بأمير يلي أمورهم، فاتفق رأيهم على علي بن الأعرابي، فولوه أمرهم بعد اختلاف من ابن أبي ثابت.
وذكر أن أباه استخلفه، وجمع جمعاً لمحاربة أهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت؛ وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازياً ببلاد الروم، فانصرف إلى طرسوس، وجاء الخبر أن أبا ثابت حمل إلى القسطنطينية من حصن قونية، ومعه جماعة من المسلمين.
وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذي كان إليه المعاون بديار ربيعة، فقلد ما كان إليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى، ورد كتاب - فيما ذكر - على السلطان بأن إسماعيل بن أحمد أسر عمراً الصفار، واستباح عسكره؛ وكان من خبر عمرو وإسماعيل، ان عمراً سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل بن أحمد: إنك قد وليت دنيا عريضة، وإنما في يدي ما وراء النهر، وأنا ثغر؛ فاقنع بما في يدك، واتركني مقيماً بهذا الثغر.

فأبى إجابته إلى ذلك؛ فذكر له أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقال: لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت؛ فلما أيس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر إلى الجانب الغربي؛ وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة - فيما ذكر - فأبى إسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم فولى هارباً، ومر بأجمة في طريقه، قيل له أنها أقرب، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح.
ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته؛ فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل، فأخذوه أسيراً.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد بما كان من أمر عمرو وإسماعيل، مدح إسماعيل - فيما ذكر - وذم عمراً.
ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان أن وصيفاً خادم ابن أبي الساج، هرب من برذعة، ومضى إلى ملطية مراغماً لمحمد بن أبي الساج في أصحابه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب إليه المعتضد يأمره بالمصير إليه، ووجه إليه رشيقاً الحرمي.
ولسبع خلون من رجب من هذه السنة توفيت ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، زوجة المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة أنفس وجههم وصيف خادم ابن أبي الساج إلى المعتضد، يسأله أن يوليه الثغور، يوجه إليه الخلع، فذكر أن المعتضد أمر بتقرير الرسل بالسبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبي الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا أنه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه، على أنه متى صار إلى الموضع الذي هو به متى لحق به صاحبه، فصار جميعاً إلى مضر وتغلباً عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به.
ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولي حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس؛ وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية إلى أخيه أحمد بن العباس، وكان حامد مقيماً بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب إلى عيسى النوشري وهو بإصبهان بالمصير إلى فارس والياً على معونتها.
خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصرة: وفي هذه السنة كان خروج العباس بن عمرو الغنوي - فيما ذكر - من البصرة بمن ضم إليه من الجند، مع من خف معه من مطوعة البصرة نحو أبي سعيد الجناني ومن انضوى إليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقي أبا سعيد ومن معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما إلى موضعهم.
فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من أعراب بني ضبة - وكانوا زهاء ثلثمائة - إلى البصرة، ثم تبعهم مطوعة البصرة؛ فلما أصبح العباس غادي القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالاً شديداً.
ثم إن صاحب ميسرة العباس - وهو نجاح غلام أحمد بن عيسى بن شيخ - حمل في جماعة من أصحابه زهاء مائة رجل على ميمنة أبي سعيد؛ فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابي وأصحابه على أصحاب العباس، فانهزموا، فاستأسر العباس، وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكر العباس؛ فلما كان من غد يوم الوقعة أحضر الجنابي من كان أسر من أصحاب العباس، فقتلهم جميعاً، ثم أمر بحطب فطرح عليهم، وأحرقهم.
وكانت هذه الوقعة - فيما ذكر - في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لأربع خلون من شعبان.
وفيها - فيما ذكر - صار الجنابي إلى هجر، فدخلها وآمن أهلها؛ وذلك بعد منصرفه من وقعة العباس، وانصرف فل أصحاب العباس بن عمرو يريدون البصرة، ولم يكن أفلت منهم إلا القليل بغير أزواد ولا كساً، فخرج إليهم من البصرة جماعة بنحو من أربعمائة راحلة، عليها الأطعمة والكسا والماء، فخرج عليهم - فيما ذكر - بنو أسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممن كان مع تلك الرواحل ومن أفلت من أصحاب العباس؛ وذلك في شهر رمضان فاضطربت البصرة لذلك اضطراباً شديداً وهموا بالإنتقال عنها، فمنعهم أحمد بن محمد الواثقي المتولي لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم.

ولثمان خلون من شهر رمضان منها - فيما ذكر - وردت خريطة على السلطان من الأبلة بموافاة العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وأن أبا سعيد الجنابي أطلقه وخادماً له.
ولإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريا، فذكر أنه بقي عند الجنابي أياماً بعد الوقعة، ثم دعا به، فقال له: أتحب أن أطلقك؟ ، قال: نعم، قال: امض وعرف الذي وجه بك إلى ما رأيت.
وحمله على رواحل، وضم إليه رجالاً من أصحابه، وحملهم ما يحتاجون إليه من الزاد والماء، وأمر الرجال الذين وجههم معه أن يؤدوه إلى مأمنه، فساروا به حتى وصل إلى بعض السواحل، فصادف به مركباً، فحمله، فصار إلى الأبلة، فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.
وفي يوم الخميس لإحدى عشرة خلت من شوال ارتحل المعتضد من مضربه بباب الشماسية في طلب وصيف خادم ابن أبي الساج، وكتم ذلك، وأظهر أنه يريد ناحية ديار مضر.
وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، ورد الخبر - فيما ذكر - على السلطان أن القرامطة بالسواد من أهل جنبلاء وثبوا بواليهم بدر غلام الطائي، فقتلوا من المسلمين جمعاً فيهم النساء والصبيان، وأحرقوا المنازل.
ولأربع عشرة خلت من ذي القعدة نزل المعتضد كنيسة السوداء في طلب وصيف الخادم، فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، حتى تلاحق به الناس، وأراد الرحيل في طريق المصيصة، فأتته العيون أن الخادم يريد عين زربة، فأحضر الركاضة الثغريين وأهل الخبرة، فسألهم عن أقصد الطريق إلى عين الزربة، فقطعوا به جيحان غداة الخميس لسبع عشرة خلت من ذي القعدة، فقدم ابنه علياً ومعه الحسن بن علي كوره، وأتبعه بجعفر بن سعر، ثم أتبع جعفراً محمد بن كمشجور، ثم أتبعه خاقان المفلحي، ثم مؤنس الخادم، ثم مؤنس الخازن، ثم مضى في آثارهم مع غلمان الحجر، ومربعين زربة؛ وضرب لهم بها مضرب، وخلف بها خفيفاً السمرقندي مع سواده، وسار هو قاصداً للخادم في أثر القواد، فلما كان بعد صلاة العصر جاءته البشارات بأخذ الخادم، ووفوا به المعتضد، فسلمه إلى مؤنس الخادم وهو يومئذ صاحب شرطة العسكر، وأمر ببذل الأمان لأصحاب الخادم والنداء في العسكر ببراءة الذمة ممن وجد في رحله شيء من نهب عسكر الخادم، ولم يرده على أصحابه؛ فرد الناس على كثير منهم ما انتهبوا من عسكرهم.
وكانت الوقعة وأسر وصيف الخادم - فيما قيل - يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة، وكان من اليوم الذي ارتحل المعتضد فيه من مضربه بباب الشماسية إلى أن قبض على الخادم ستة وثلاثون يوماً.
ولما قبض المعتضد على الخادم انصرف - فيما ذكر - إلى عين زربة، فأقام بها يومين، فلما كان في صبيحة الثالث؛ اجتمع إليه أهل الزربة، وسألوه أن يرحل عنهم لضيق الميرة ببلدهم، فرحل عنها في اليوم الثالث، فنزل المصيصة بجميع عساكره إلا أبا الأغر خليفة بن المبارك؛ فإنه كان وجهه ليأخذ على الخادم الطريق لئلا يصير إلى مرعش وناحية ملطية، وكان الخادم قد أنفذ عياله وعيال أصحابه إلى مرعش، وبلغ أصحاب الخادم الذين كانوا قد هربوا ما بذل لهم من الأمان، وما أمر برده عليهم من أمتعتهم، فلحقوا بعسكر المعتضد داخلين في أمانه.
وكان نزول المعتضد بالمصيصة - فيما قيل - يوم الأحد لعشر بقين من ذي القعدة، فأقام بها إلى الأحد الآخر، وكتب إلى وجوه أهل طرسوس في المصير إليه، فأقبلوا إليهم منهم النغيل - وكان من رؤساء الثغر - وابن له، ورجل يقال له ابن المهندس، وجماعة معهم، فحبس هؤلاء مع آخرين، وأطلق أكثرهم.
فحمل الذين حبسهم معه إلى بغداد، وكان قد وجد عليهم لأنهم - فيما ذكر - كانوا كاتبوا وصيفاً الخادم، وأمر المعتضد بإحراق جميع المراكب البحرية التي كان المسلمون يغزون فيها جميع آلاتها.
وذكر أن دميانة غلام يازمان هو الذي أشار عليه لشيء كان في نفسه على أهل طرسوس، فأحرق ذلك كله، وكان في المراكب نحو من خمسين مركباً قديماً قد أنفق عليها أموال جليلة لا يعمل مثلها في هذا الوقت فأحرقت، فأضر ذلك بالمسلمين، وكسر ذلك أعضادهم، وقوي به الروم، وأمنوا أن يغزوا في البحر.

وقلد المعتضد الحسن بن علي كوره الثغور الشأمية بمسألة من أهل الثغور واجتماع كلمتهم عليه، ورحل المعتضد - فيما قيل - من المصيصة فنزل فندق الحسين، ثم الإسكندرية، ثم بغراس ثم إنطاكية، لليلتين خلتا من ذي الحجة.
فأقام بها إلى أن نحر، وبكر في ثاني النحر بالرحيل، فنزل أرتاح ثم الأثارب ثم حلب، فأقام بها يومين، ثم رحل إلى الناعورة، ثم إلى خساف وصفين هنالك في الجانب الجزري، وبيت مال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجانب الآخر، ثم إلى يالس، ثم إلى دوسر، ثم إلى بطن دامان، ثم إلى الرقة، فدخلها لثمان بقين من ذي الحجة، فأقام بها إلى أن بقي ليلتان منه.
ذكر الخبر عن مقتل محمد بن زيد العلويولخمس بقين من شوال ورد الخبر على السلطان بأن محمد بن زيد العلوي قتل.
ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن محمد بن زيد خرج لما اتصل به الخبر عن أسر إسماعيل بن أحمد عمرو بن الليث في جيش كثيف نحو خراسان، طامعاً فيها، ظناً منه أن إسماعيل بن أحمد لا يتجاوز عمله الذي كان يتولاه أيام ولاية عمرو بن الليث الصفار خراسان، وأنه لا دافع له عن خراسان، إذ كان عمرو قد أسر، ولا عمل للسلطان به؛ فلما صار إلى جرجان واستقر به كتب إليه يسأله الرجوع إلى طبرستان، وترك جرجان له، فأبى عليه ابن زيد، فنذب إسماعيل - فيما ذكر لي - خليفة كان يرفع بن هرثمة أيام ولاية رافع خراسان يدعى محمد بن هارون، لحرب محمد بن زيد، فانتدب له، فضم إليه جمعاً كثيراً من رجاله وجنده، ووجهه إلى ابن زيد لحربه، فشخص محمد بن هارون نحو ابن زيد، فالتقيا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر محمد بن هارون.
ثم إن محمد بن هارون رجع، وقد انتفضت صفوف العلوي، فانهزم عسكر محمد بن زيد، وولوا هاربين، وقتل منهم - فيما ذكر - بشر كثير، وأصابت ابن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد، وحوى محمد بن هارون عسكره وما كان فيه.
ثم مات محمد بن زيد بعد هذه الوقعة بأيام من الضربات التي كانت فيه، فدفن على باب جرجان، وحمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد وشخص محمد بن هارون إلى طبرستان.
وفي يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة أوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة على غرة منهم بنواحي روذميستان وغيرها، فقتل منهم - فيما ذكر - مقتلة عظيمة، ثم تركهم خوفاً على السواد أن يخرب؛ إذ كانوا فلاحية وعماله، وطلب رؤساءهم في أماكنهم، فقتل من ظفر به منهم؛ وكان السلطان قد قوى بدراً بجماعة من جنده وغلمانه بسببهم للحدث الذي كان منهم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ورد الخبر على السلطان - فيما ذكر - بوقوع الوباء بأذربيجان، فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى، فكفنوا في الأكسية واللبود، ثم صاروا إلى أن لم يجدوا من يدفن الموتى، فكانوا يتركونهم مطروحين في الطرق.
وفيها دخل أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث فارس، وأخرجوا منها عمال السلطان، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من صفر منها.
وفيها توفي محمد بن أبي الساج الملقب بأذربيجان، فاجتمع غلمانه وجماعة من أصحابه، فأمروا عليهم ديوداد بن محمد، واعتزلهم يوسف بن أبي الساج لهم.
ولليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر ورد كتاب صاحب البريد بالأهواز، يذكر فيه أن أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث صاروا إلى سنبيل يريدون الأهواز.
وفي أول جمادى الأولى أدخل عمرو بن الليث عبد الله بن الفتح - الموجه كان إلى إسماعيل بن أحمد - بغداد وأشناس غلام إسماعيل بن أحمد.
وذكر لي أن إسماعيل بن أحمد خيره بين المقام عنده أسيراً وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه فوجهه.
ولليلتين خلتا من جمادى الآخرى، ورد - فيما ذكر - كتاب صاحب البريد الأهواز منها، يذكر أن كتاب إسماعيل بن أحمد ورد على طاهر بن محمد بن عمرو يعلمه أن السلطان ولاه سجستان، وأمره بالخروج إليها، وأنه خارج إليه إلى فارس ليوقع به، ثم ينصرف إلى سجستان، وأن طاهراً خرج لذلك، وكتب إلى ابن عمه وكان مقيماً بأرجان في عسكره يأمره بالإنصراف إليه إلى فارس بمن معه.

وفيها ولى المعتضد مولاه بدراً فارس، وأمره بالشخوص إليها لما بلغه من تغلب طاهر بن محمد عليها، وخلع عليه لتسع خلون من جمادى الآخرة، وضم إليه جماعة من القواد، فشخص في جيش عظيم من الجند والغلمان.
ولعشر خلون من جمادى الآخرة منها خرج عبد الله بن الفتح وأشناس غلام إسماعيل إلى إسماعيل بن أحمد بن سامان بخلع من المعتضد حملها إليه وببدنه وتاج وسيف من ذهب، مركب على جميع ذلك جوهر وبهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم، يفرقها في جيش من جيوش خراسان، يوجه إلى سجستان لحرب من بها من أصحاب طاهر بن محمد بن عمرو.
وقد قيل: إن المال الذي وجهه إليه المعتضد كان عشرة آلاف ألف درهم، وجه ببعض ذلك من بغداد، وكتب بباقيه إلى عمال الجبل، وأمروا أن يدفعوه إلى الرسل.
وفي رجب منها وصل بدر مولى المعتضد إلى ما قرب من أرض فارس، فتنحى عنها من كان بها من أسباب طاهر بن محمد بن عمرو، فدخلها أصحاب بدر، وجي عماله الخراج به.
ولليلتين خلتا من شهر رمضان منها، ذكر أن كتاب بن حاج عامل مكة ورد يذكر فيه أن بني يعفر أوقعوا برجل كان تغلب على صنعاء، وذكر أنه علوي وأنهم هزموه، فلجأ إلى مدينة تحصن بها، فصاروا إليه فأوقعوا به، فهزموه أيضاً، وأسروا ابناً له، وأفلت هو في نحو من خمسين نفساً، ودخل بنو يعفر صنعاء وخطبوا بها للمعتضد.
وفيها أوقع يوسف بن أبي الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداد بن محمد، ومعه جيش أبيه محمد بن أبي الساج، فهرب عسكره، فبقي ديوداد في جماعة قليلة، فعرض عليه يوسف المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل فوافى بغداد يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، فكانت الوقعة بينهما بناحية أذربيجان.
وفيها غزا نزار بن محمد عامل الحسن بن علي كوره الصائفة، ففتح حصوناً كثيرة للروم، وأدخل طرسوس مائة علج ونيفاً وستين علجاً من القوامسة والشمامسة وصلباناً كثيراً وأعلاماً لهم، فوجهها كروه إلى بغداد.
ولاثنتي عشرة خلت من ذي الحجة وردت كتب التجار من الرقة أن الروم وافت في مراكب كثيرة، وجاء قوم منهم على الظهر إلى ناحية كيسون، فاستاقوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألف نفس إنسان؛ ما بين رجل وامرأة وصبي، فمضوا بهم، وأخذوا فيهم قوماً من أهل الذمة.
وفيها قرب أصحاب أبي سعيد الجنابي من البصرة، واشتد جزع أهل البصرة منهم حتى هموا بالهرب منها والنقلة عنها، فمنعهم من ذلك واليهم.
وفي آخر ذي الحجة منها قتل وصيف خادم ابن أبي الساج، فحملت جثته فصلبت في الجانب الشرقي.
وقيل إنه مات ولم يقتل، فلما مات احتز رأسه.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور
فمن ذلك ما كان من انتشار القرامطة بسواد الكوفة، فوجه إليهم شبل غلام أحمد بن محمد الطائي، وتقدم إليه في طلبهم، وأخذ من ظفر به منهم وحملهم إلى باب السلطان.
وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبي فوارس، فوجه به معهم، فدعا به المعتضد لثمان بقين من المحرم، فساءله، ثم أمر به فقلعت أضراسه، ثم خلع بمد إحدى يديه - فيما ذكر - ببكرة، وعلق في الأخرى صخرة، وترك على حالة تلك من نصف النهار إلى المغرب، ثم قطعت يداه ورجلاه من غد ذلك اليوم، وضربت عنقه، وصلب بالجانب الشرقي، ثم حملت جثته بعد أيام إلى الياسرية، فصلب مع من صلب هنالك من القرامطة.
ولليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، أخرج من كانت له دار وحانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أقفاصكم واخرجوا؛ وذلك أن المعتضد كان قد قدر أن يبني لنفسه داراً يسكنها، فخط موضع السور، وحفر بعضه، وابتدأ في بناء دكة على دجلة، كان المعتضد أمر ببنائها لينتقل فيقيم فيها إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر.
وفي ربيع الآخر منها ليلة الأمير توفي المعتضد، فلما كان في صبيحتها أحضر دار السلطان يوسف بن يعقوب وأبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان، وأبو خازم وأبو عمر والحرم والخاصة، وكان أوصى أن يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فحفر له فيها، فحمل من قصره المعروف بالحسنى ليلاً، فدفن في قبره هنالك.

ولسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - وهي سنة تسع وثمانين ومائتين - جلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان في الحسنى، وأذن للناس، فعزوه بالمعتضد، وهنئوه بما جدد له من أمر المكتفي، وتقدم إلى الكتاب والقواد في تجديد البيعة للمكتفي بالله، فقبلوا.
خلافة المكتفى بالله: ولما توفي المعتضد القاسم بن عبيد الله بالخبر إلى المكتفى كتباً، وأنفذها من ساعته؛ وكان المكتفى مقيماً بالرقة، فلما وصل الخبر إليه أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من في عسكره، ووضع العطاء لهم، ففعل ذلك الحسين، ثم خرج شاخصاً من الرقة إلى بغداد، ووجه إلى النواحي بديار ربيعة وديار مضر ونواحي المغرب من يضبطها.
وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى دخل المكتفى إلى داره بالحسني؛ فلما صار إلى منزله، أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
وفي هذا اليوم كنى المكتفى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
وفي هذا اليوم مات عمرو بن الليث الصفار، ودفن في غد هذا اليوم بالقرب بالقرب من القصر الحسني، وقد كان المعتضد - فيما ذكر - عند موته بعد ما امتنع من الكلام أمر صافياً الحرمي بقتل عمرو بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه، أراد ذبح الأعور فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو، فلما دخل المكتفى بغداد سأل - فيما قيل - القاسم بن عبيد الله عن عمرو: أحي هو؟ قال: نعم، فسر بحياته.
وذكر أنه يريد أن يحسن إليه، وكان عمرو يهدى إلى المكتفى ويبره براً كثيراً أيام مقامه بالرى فأراد مكافأته، فذكروا أن القاسم بن عبيد الله كره ذلك، ودس إلى عمرو من قتله.
وفي رجب منها ورد الخبر لأربع بقين منه أن جماعة من أهل الرى كاتبوا محمد بن هارون الذي كان إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان استعمله على طبرستان بعد قتله محمد بن زيد العلوي، فخلع محمد بن هارون وبيض، فسألوه المصير إلى الرى ليدخلوه إليها؛ وذلك أن أوكر تمش التركي المولي عليهم كان - فيما ذكر - قد أساء السيرة فيهم، فحاربه، فهزمه محمد بن هارون وقتله، وقتل ابنين له وقائداً من قواد السلطان يقال له أبرون أخو كيغلغ، ودخل محمد بن هارون الرى واستولى عليها.
وفي رجب من هذه السنة زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة فيها أياماً وليالي كثيرة.
ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضدوفي هذه السنة كان مقتل بدر غلام المعتضد.
ذكر سبب قتله ذكر أن سبب ذلك كان أن القاسم بن عبيد الله كان هم بتصيير الخلافة من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وأنه كان ناظر بدراً في ذلك، فامتنع بدر عليه وقال: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي الذي هو ولي نعمتي فلما رأى القاسم ذلك وعلم أنه لا سبيل إلى مخالفة بدر؛ إذ كان بدر صاحب جيش المعتضد، والمستولي على أمره، والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر.
وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافة، وبايع له وهو بالرقة، لما كان بين المكتفى وبين بدر من التباعد في حياة والده.
وكتب القاسم إلى المكتفى لما بايع غلمان أبيه له بالخلافة، وأخذ عليهم البيعة بما فعل من ذلك، فقدم بغداد المكتفى وبدر بعد بفارس، فلما قدمها القاسم في هلاك بدر؛ حذراً على نفسه - فيما ذكر - من بدر أن يقدم على المكتفى، فيطلعه على ما كان القاسم هم به، وعزم عليه في حياة المعتضد من صرف الخلافة عن ولد المعتضد إذا مات.
فوجه المكتفى - فيما ذكر - محمد بن كمشجور وجماعة من القواد برسائل، وكتب إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمصير إلى ما قبله ومفارقة بدر وتركه، فأوصلت الكتب إلى القواد في شر، ووجه إليه يانس خادم الموفق، ومعه عشرة آلاف ألف درهم ليصرفها في عطاء أصحابه لبيعة المكتفى، فخرج بها يانس.
فذكر أنه لما صار بالأهواز، وجه إليه بدر من قبض المال منه فرجع يانس إلى مدينة السلام؛ فلما وصلت كتب المكتفى إلى القواد المضمومين إلى بدر، فارق بدراً جماعة منهم، وانصرفوا عنه إلى مدينة السلام؛ منهم العباس بن عمرو الغنوي وخاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخفيف الأذكوتكيني وجماعة غيرهم.

فلما صاروا إلى مدينة السلام دخلوا على المكتفى، فخلع - فيما ذكر - على نيف وثلاثين رجلاً منهم، وأجاز جماعة من رؤسائهم؛ كل رجل منهم بمائة ألف درهم، وأجاز آخرين بدون ذلك، وخلع على بعضهم، ولم يجزه بشيء.
وانصرف بدر في رجب؛ عامداً المصير إلى واسط.
واتصل بالمكتفى إقبال بدر إلى واسط، فوكل بدار بدر، وقبض على جماعة من غلمانه وقواده؛ فحبسوا، منهم نحرير الكبير، وعريب الجبلي، ومنصور، ابن أخت عيسى النوشري.
وأدخل المكتفي على نفسه القواد، وقال لهم: لست أؤمر عليكم أحداً، ومن كانت له منكم حاجة فليلق الوزير، فقد تقدمت إليه بقضاء حوائجكم.
وأمر بمحو اسم بدر من التراس والاعلام، وكان عليها مولى المعتضد بالله، وكتب بدر إلى المكتفى كتاباً دفعه إلى زيدان السعيدي، وحمله على الجمازات.
فلما وصل الكتاب إلى المكتفى أخذه، ووكل بزيدان هذا، وأشخص الحسن بن علي كوره في جيش إلى ناحية واسط.
وذكر أنه قدمه المكتفى على مقدمته.
ثم أحدر محمد بن يوسف مع المغرب لليلة بقيت من شعبان من هذه السنة برسالة إلى بدر، وكان المكتفى أرسل إلى بدر حين فصل من عمل فارس يعرض عليه ولاية أي النواحي شاء؛ إن شاء أصبهان وإن شاء الرى، وإن شاء الجبال، ويأمره بالمصير إلى حيث أحب من هذه النواحي مع من أحب من الفرسان والرجالة، يقيم بها والياً عليها.
فأبى ذلك بدر، وقال: لا بد لي من المصير إلى باب مولاي.
فوجد القاسم بن عبيد الله مساغاً للقول فيه، وقال للمكتفى: يا أمير المؤمنين، قد عرضنا عليه أن نقلده أي النواحي شاء أن يمضي إليها، فأبى إلا المجيء إلى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفى على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر أنه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال وإحداره إليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقية وأمره بالمضي إلى بدر ولقائه وتطييب نفسه وإعطائه الأمان من أمير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر أن أبا خازم قال له: أحتاج سماع ذلك من أمير المؤمنين حتى أؤديه إليه عنه، فقال له: انصرف حتى أستأذن لك في ذلك أمير المؤمنين.
ثم دعا بأبي عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم، فسارع إلى إجابته إلى ما أمره به، ودفع القاسم بن عبيد الله إلى أبي عمر كتاب أمان عن المكتفى، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه أصحابه وأكثر غلمانه؛ مثل عيسى النوشري وختنه يانس المستأمن وأحمد بن سمعان ونحرير الصغير، صاروا إلى مضرب المكتفى في الأمان.
فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنة، خرج المكتفى من بغداد إلى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار إلى مضربه من الجماعة الذين سميت، وعلى جماعة من القواد والجند.
ووكل بجماعة منهم، ثم قيد تسعة منهم، وأمر بحملهم مقيدين إلى السجن الجديد؛ ولقى - فيما ذكر - أبو عمر محمد بن يوسف بدراً بالقرب من واسط، ودفع إليه الأمان وخبره عن المكتفى بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقة بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقي وغلمانه الذين بقوا معه في جماعة من الجند وخلق كثير من الأكراد وأهل الجبل يسيرون معه بمسيرة على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وأبي عمر على أن يدخل بدر بغداد سامعاً ومطيعاً، وعبر بدر دجلة، فصار إلى النعمانية، وأمر غلمانه وأصحابه الذين يقوا معه أن ينزعوا سلاحهم، وألا يحاربوا أحداً، وأعلمهم ما ورد به عليه أبو عمر من الأمان؛ فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذاً، ومعه جماعة من الغلمان، فتحول إلى الحراقة، وسأله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولاً جميلاً، وهم في كل ذلك يؤمرونه؛ وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد؛ فأعلمني.
فوجه القاسم، وأعلمه؛ فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤاً أحد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لأمر، فقال: سمعاً وطاعة؛ فقال له: امض وتسلم بدراً من ابن كنداجيق، وجئني برأسه.

فمضى في طيار حتى استقبل بدراً ومن معه بين سيب بني كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار إلى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا بأس عليك، فحوله إلى طياره، ومضى به حتى صار به إلى جزيرة بالصافية، فأخرجه إلى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعة قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه ورجع إلى طياره؛ وأقبل راجعاً إلى معسكر المكتفى بنهر ديالى ورأس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك.
ثم وجه عياله من أخذ جثته سراً، فجعلها في تابوت، وأخفوها عندهم، فلما كان أيام الموسم حملوها إلى مكة، فدفنوها بها - فيما قيل - وكان أوصى بذلك، وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله.
وورد الخبر على المكتفى بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة، فرحل منصرفاً إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه، فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف، ورفع في الخزانة، ورجع أبو عمر القاضي إلى داره يوم الاثنين كئيباً حزيناً، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو السبب في قتل بدر، وقالوا فيه أشعاراً، فمما قيل فيه منها:
قل لقاضي المدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير!
بعد إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأيمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ... ه على أنها يمين فجور
أن كفيك لا تفارق كفي ... ه إلى أن ترى مليك السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الأ ... مة يا شاهداً شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ... سن أمثاله ولاة الجسور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه ... راء من شهر خير خير الشهور
قد مضى من قتلت في رمضان ... صائماً بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم في غرور
بدد الله شملكم وأراني ... ذلكم في حياة هذا الوزير
فأعد الجواب للحكم العا ... دل من بعد منكر ونكير
أنتم كلكم فدا لأبي خا ... زم المستقيم كل الأمور
ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذي كان قدم رسولاً من قبل بدر إلى المكتفى مع التسعة الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعة أنفس أخر من أصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينة مطبقة عليهم، وأحدروا مقيدين إلى البصرة، فحبسوا في سجنها.
وذكر أن لؤلؤاً الذي ولى قتل بدر غلاماً من غلمان محمد بن هارون الذي قتل محمد بن زيد بطبرستان وأكرتمش بالرى، قدم مع جماعة من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الأمان.
وفي ليلة الاثنين لأربع عشرة بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن أبي أحمد الموفق - فيما ذكر - وكانت والدته - فيما قيل - وجهت معه إلى دار مؤنس لما قبض عليه دابة له، ففرق بينه وبين الداية فمكثت يومين أو ثلاثة، ثم صرفت إلى منزل مولاتها، فكانت والدة عبد الواحد إذا سألت عن خبره قيل لها: إنه في دار المكتفى؛ وهو في عافية.
وكانت طامعة في حياته، فلما مات المكتفى أيست منه وأقامت عليه مأتماً.
ذكر باقي الكائن من الأمور الجليلة

في سنة تسع وثمانين ومائتين
فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعة كانت بين أصحابه وبين ابن جستان الديملي بطبرستان، وأن أصحابه هزموه، وقرىء بذلك كتابه بمسجدي الجامع ببغداد.
وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من أصحاب بدر لما قتل بدر إلى ناحية البادية في جماعة من أصحابه على الخلاف على السلطان؛ فكانت بينه هنالك وبين أبي الأغر وقعة، هزم فيها أبو الأغر، وقتل من أصحابه ومن قواده عدة، ثم أشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف إلى الكوفة لحرب إسحاق الفرغاني.
ولسلخ ذي القعدة خلع على خاقان المفلحي، وولى معونة الرى، وضم إليه خمسة آلاف رجل.

وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعاً كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنة، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيرة قتل فيها - فيما ذكر - خلق كثير.
ذكر خبر هذا الرجل الذي ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها ذكر أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه كان داعياً قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، وألح في طلبهم، وأثخن فيهم القتلى، ورأى أنه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطييء وتميم وغيرهم من قبائل الأعراب، ودعاهم إلى رأيه؛ وزعم لهم أن من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له.
فلم يستجيبوا له، وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وأمتعة التجار على إبلها، فأرسل زكرويه أولاده إليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا إلى علي بن أبي طالب وإلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وذكروا أنهم خائفون من السلطان، وأنهم ملجئون إليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة؛ فلم يقبل ذلك أحد منهم - أعنى من الكلبيين - إلا الفخذ المعروفة ببني العليص ابن ضمضم بن عدي بن جناب ومواليهم خاصة، فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين بناحية السماوة ابن زكرية المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على أمر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم أنه أبو عبد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد.
وقد قيل: إنه زعم أنه محمد بن عبد الله بن يحيى.
وقيل إنه زعم أنه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب.
وقيل إنه لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم أن أباه المعروف بأبي محمود داعية له، وأن له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، وأنهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا.
وتكهن لهم، وأظهروا عضداً له ناقصة، وذكر أنها آية، وانحارت إليه جماعة من بني الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بالله بناحية الرصافة في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى أصعدوا إلى أعمال الشأم التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، وأسند أمرها هارون إلى طغج بن جف، فأناح عليها وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينة دمشق، فأنفذ المصريون إليه بدراً الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعوهم قريباً من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه.
وكان سبب قتله - فيما ذكر - أن بعض البرابرة زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه؛ وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالى بني العليص إلى بني العليص ومن معهم من الأصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالى بني العليص على صريحهم، فقتلوا جماعة منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى بأحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامة في وجهه ذكر أنها آيته، وطرأ إليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم أنه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد إليه؛ وذكر أنه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلاماً من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من أهل الشأم، وتسمى بأمره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنة تسع وثمانين، وفي سنة تسعين.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة من هذه السنة صلى الناس في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شدة البرد إلى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد حتى جمد الماء.

وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد بالرى ومحمد بن هارون وابن هارون - فيما قيل - حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم أصحابه، وتبعه من أصحابه نحو من ألف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيراً بها، ودخل إسماعيل بن أحمد الرى، وصار زهاء ألف رجل - فيما ذكر - ممن انهزم من أصحابه إلى باب السلطان.
وفي جمادى الآخرة منها لأربع خلون منها ولي القاسم بن سيما غزو الصائفة بالثغور الجزرية، وأطلق له من المال اثنا وثلاثون ألف دينار.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة تسعين ومائتين

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمما كان فيها من ذلك التوجيه المكتفى رسولاً إلى إسماعيل بن أحمد لليلتين خلتا من المحرم منها بخلع، وعقد ولاية له على الرى، وبهدايا مع عبد الله ابن الفتح.
ولخمس بقين من المحرم منها ورد - فيما ذكر - كتاب علي بن عيسى من الرقة، يذكر فيه أن القرمطي بن زكرويه المعروف بالشيخ، وافى الرقة في جمع كثير، فخرج إليه جماعة من أصحاب السلطان ورئيسهم سبك غلام المكتفى، فواقعوه، فقتل سبك، وانهزم أصحاب السلطان.
ولست خلون من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بأن طغج بن جف أخرج من دمشق جيشاً إلى القرمطي، عليهم غلام له يقال له بشير، فواقعوهم القرمطي، فهزم الجيش وقتل بشيراً.
ولئلات عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الأغر ووجه به لحرب القرمطي بناحية الشأم، فمضى إلى حلب في عشرة آلاف رجل.
ولإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع لآخر على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكاية أهل الثغور إياه.
وللنصف من جمادى الأولى من هذه السنة، وردت كتب التجار إلى بغداد من دمشق مؤرخه لسبع بقين من ربيع الآخر يخبرون فيها أن القرمطي الملقب بالشيخ قد هزم طغج غير مرة، وقتل أصحابه إلا القليل، وأنه قد بقي في قلة، وامتنع من الخروج، وإنما تجتمع العامة، ثم تخرج للقتال، وأنهم قد أشرفوا على الهلكة، فاجتمعت جماعة من تجار بغداد في هذا اليوم، فمضوا إلى يوسف بن يعقوب، فأقرءوه كتبهم، وسألوه المضى إلى الوزير ليخبره خبر أهل دمشق، فوعدهم ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الأولى أحضر دار السلطان أبو خازم ويوسف وابنه محمد، وأحضر صاحب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، فقوطع على مال فارس، ثم عقد المكتفى لطاهر على أعمال فارس، وخلع على صاحبه، وحملت إليه خلع مع العقد.
وفي جمادى الأولى هرب من مدينة السلام القائد المستأمن المعروف بأبي سعيد الخوارزمي، وأخذ نحو طريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون، وكان يتقلد المعاون بتكريت والأعمال المتصلة بها إلى حد سامراً وإلى الموصل في معارضته وأخذه، فزعموا أن عبد الله عارضه، فاختدعه أبو سعيد حتى اجتمعا جميعاً على غير حرب، ففتك به أبو سعيد فقتله، ومضى أبو سعيد نحو شهرزور، فاجتمع هو وابن أبي الربيع الكردي، وصاهره، واجتمعا على عصيان السلطان.
ثم إن أبا سعيد قتل بعد ذلك، وتفرق من كان اجتمع إليه.
ولعشر خلون من جمادى الآخرة، شخص أبو العشائر إلى عمله بطرسوس، وخرج معه جماعة من المطوعة للغزو، ومعه هدايا من المكتفى إلى ملك الروم.
ولعشر بقين من جمادى الآخرة خرج المكتفى بعد العصر عامداً سامراً، مريداً البناء بها للانتقال إليها، فخلع يوم الخميس لخمس بقين من جمادى الآخرة، ثم انصرف إلى مضارب قد ضربت له بالجوسق، فدعا القاسم بن عبيد الله والقوام بالبناء، فقدروا له البناء وما يحتاج إليه من المال للنفقة عليه، فكثروا عليه في ذلك، وطولوا مدة الفراغ مما أراد بناءه، وجعل القاسم يصرفه عن رأيه في ذلك، ويعظم أمر النفقة في ذلك وقدر مبلغ المال، فثناه عن عزمه، ودعا بالغداء، فتغدى ثم نام، فلما هب من نومه ركب إلى الشط، وقعد في الطيار، وأمر القاسم بن عبيد الله بالانحدار.
ورجع أكثر الناس من الطريق قبل أن يصلوا إلى سامراً حين تلقاهم الناس راجعين.

ولسبع خلون من رجب خلع على ابني القاسم بن عبيد الله، فولى الأكبر منهما ضياع الولد والحرم والنفقات، والأصغر منهما كتبة أبي أحمد بن المكتفى؛ وكانت هذه الأعمال إلى الحسين بن عمرو النصراني، فعزل بهما، وكان القاسم بن عبيد الله اتهم الحسين بن عمرو أنه قد سعى به إلى المكتفى.
ثم إن الحسين بن عمرو كاشف القاسم بن عبيد الله بحضرة الله المكتفى، فلم يزل القاسم يدبر عليه، ويغلظ قلب المكتفى عليه، حتى وصل إلى ما أراد من أمره.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان قرىء كتابان في الجامعين بمدينة السلام بقتل يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، قتله المصريون على باب دمشق؛ وكانت الحرب اتصلت بينه وبين من حاربه من أهل دمشق وجندها ومددهم من أهل مصر، وكسر لهم جيوشاً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وكان يحيى بن زكرويه هذا يركب برجاله، ويلبس ثياباً واسعة ويعتم عمه أعرابية، ويلتثم، ولم يركب دابة من لدن ظهر إلى أن قتل، وأمر أصحابه ألا يحاربوا أحداً؛ وإن أتى عليهم حتى يبتعث الجمل من قبل نفسه؛ وقال لهم: إذا فعلتم ذلك لم تهزموا.
وذكر أنه كان إذا أشار بيده إلى ناحية من النواحي التي فيها محاربوه، انهزم أهل الناحية، فاستغوى بذلك الأعراب، ولما كان في اليوم الذي قتل فيه يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، وانحازوا إلى أخيه الحسين بن زكرويه، فطلب أخاه الشيخ في القتلى، فوجده، فواراه وعقد الحسين بن زكرويه لنفسه، وتسمى بأحمد بن عبد الله، وتكنى بأبي العباس.
وعلم أصحاب بدر بعد ذلك بقتل الشيخ، فطلبوه في القتلى فلم يجدوه، ودعا الحسين بن زكرويه إلى مثل ما دعا إليه أخوه أكثر أهل البوادي وغيرهم من سائر الناس، واشتدت شوكته وظهر.
وصار إلى دمشق، فذكر أن أهلها صالحوه على خراج دفعوه إليه، ثم انصرف عنهم، ثم سار إلى أطراف حمص، فتغلب، عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدي، ثم سار إلى مدينة حمص، فأطاعه أهلها، وفتحوا له بابها خوفاً منه على أنفسهم فدخلها، ثم سار منها إلى حماة ومعرة النعمان وغيرهما، فقتل أهلها، وقتل النساء والأطفال ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلها حتى لم يبق منهم - فيما قيل - إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فحاربه أهلها ومنعوه الدخول، ثم وادعهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكان بها منهم جماعة فقتلهم، ثم ثني بأهل سلمية فقتلهم أجمعين.
ثم قتل البهائم، ثم قتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها؛ وليس بها عين تطرف - فيما قيل - وسار فيها حوالي ذلك من القرى يقتل ويسبي ويحرق ويخيف السبيل.
فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسن أنه قال: جاءتني امرأة بعد ما أدخل القرمطي صاحب الشامة وأصحابه بغداد، فقالت لي: إني أريد أن تعالج شيئاً في كتفي، قلت: وما هو؟ قالت: جرح، قلت: أنا كحال؛ وها هنا امرأة تعالج النساء، وتعالج الجراحات، فانظري مجيئها.
فقعدت، ورأيتها مكروبة كئيبة باكية، فسألتها عن حالها، وقلت: ما سبب جراحتك؟ فقالت: قصتي تطول، فقلت: حدثني بها وصادقني، وقد خلا من كان عندي، فقالت: كان لي ابن غاب عني، وطالت غيبته، وخلف علي أخوات له، فضقت واحتجت.
واشتقت إليه، وكان شخص إلى ناحية الرقة، فخرجت إلى الموصل وإلى بلد وإلى الرقة؛ كل ذلك أطلبه، وأسأل عنه؛ فلم أدل عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه، فرقعت في عسكر القرمطي، فجعلت أطوف وأطلبه؛ فبينا أنا كذلك إذ رأيته فتعلقت به، فقلت: ابني! فقال: أمي! فقلت: نعم، قال ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق، فمضى بي إلى منزله، وجلس بين يدي، وجعل يسائلني عن أخبارنا، فخبرته، ثم قال: دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بني أما تعرفني! فقال: وكيف لا أعرفك! فقلت: ولم تسألني من ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني! فقال: كل ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه الآن، فأعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآني كذلك خرج وتركني.

ثم وجه إلي بخبر ولحم وما يصلحني، وقال: اطبخيه، فتركنه ولم أمسه، ثم عاد فطبخه، وأصلح أمر منزله، فدق الباب داق؛ فخرج إليه فإذا رجل يسأله، ويقول له: هذه القادمة عليك تحسن أن تصلح من أمر النساء شيئاً؟ فسألني فقلت: نعم، فقال: امضي معي، فمضيت فأدخلني داراً، وإذا امرأة تطلق، فقعدت بين يديها، وجعلت أكلمها، فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذي جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، أصلحي أمر هذه، ودعى كلامها، فأقمت حتى ولدت غلاماً، وأصلحت من شأنه، وجعلت أكلمها وأتلطف بها وأقول لها: يا هذه، لا تحتشميني؛ نقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبي، فقالت: تسألينني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك! فقلت: لا، ولكن أحب أن أعلم خبرك، فقالت لي: إني امرأة هاشمية - ورفعت رأسها؛ فرأيت أحسن الناس وجهاً - وإن هؤلاء القوم أتونا، فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعاً، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أخرجني، فدفعني إلى أصحابه، فقال: طهروها فأرادوا قتلي، فبكيت.
وكان بين يديه رجل من قواده، فقال: هبها لي، فقال: خذها، فأخذني، وكان بحضرته ثلاثة أنفس قيام من أصحابه، فسلوا سيوفهم، وقالوا: لا نسلمها إليك؛ وإما أن تدفعها إلينا، وإلا قتلناها.
وأرادو قتلي، وضجوا، فدعاهم رئيسهم القرمطي، وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم أربعتكم، فأخذوني، فأنا مقيمة معهم أربعتهم، والله ما أدرى ممن هو هذا الولد منهم! قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنية فهنأته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضة، وجاء آخر وآخر، أهنىء كل واحد منهم، فيعطيني سبيكة فضة؛ فلما كان في السحر جاء جماعة مع رجل وبين يديه شمع، وعليه ثياب خز تفوح منه رائحة المسك، فقالت لي: هنيه، فقمت إليه، فقلت: بيض الله وجهك، والحمد لله الذي رزقك هذا الابن، ودعوت له، فأعطاني سبيكة فيها ألف درهم، وبات الرجل في بيت، وبت مع المرأة في بيت، فلما أصبحت قلت للمرأة: يا هذه، قد وجب عليك حقي، فالله الله في، خلصيني! قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابني، وقلت لها: إني جئت راغبة إليه، وإنه قال لي كيت وكيت، وليس في يدي منه شيء، ولي بنات ضعاف خلفتهن بأسوأ حال، فخلصيني من ها هنا لأصل إلى بناتي.
فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم، فسليه ذلك، فإنه يخلصك.
فأقمت يومي إلى أن أمسيت؛ فلما جاء تقدمت إليه، وقبلت يده ورجله، وقلت: يا سيدي قد وجب حقي عليك، وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني، ولي بنات ضعفاء فقراء، فإن أذنت لي أن أمضي فأجيئك ببناتي حتى يخدمنك ويكن بين يديك! فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم، فدعا قوماً من غلمانه.
فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا، ثم اتركوها وارجعوا.
فحملوني على دابة، ومضوا بي.
قالت: فبينما نحن نسير.
وإذا أنا بابني يركض، وقد سرنا عشرة فراسخ - فيما خبرني به القوم الذين معي - فلحقني وقال: يا فاعلة، زعمت أنك تمضين وتجيئين ببناتك! وسل سيفه ليضربني؛ فمنعه القوم، فلحقني طرف السيف، فوقع في كتفي، وسل القوم سيوفهم.
فأرادوه، فتنحى عني.
وساروا بي حتى بلغوا بي الموضع الذي سماه لهم صاحبهم.
فتركوني ومضوا، فتقدمت إلى ها هنا وقد طفت لعلاج جرحي، فوصف لي هذا الموضع، فجئت إلى ها هنا.
قالت: ولما قدم أمير المؤمنين بالقرمطي وبالأسارى من أصحابه خرجت لأنظر إليهم؛ فرأيت ابني فيهم على جمل؛ عليه برنس وهو يبكي وهو فتى شاب، فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك! قال المتطبب: فقمت معها إلى المتطببة لما جاءت، وأوصيتها بها، فعالجت جرحها وأعطتها مرهماً، فسألت المتطببة عنها بعد منصرفها، فقالت: قد وضعت يدي على الجرح، وقلت: انفحي، فنفحت فخرجت الريح من الجرح من تحت يدي، وما أراها تبرأ منه، فمضت فلم تعد إلينا.
ولإحدى عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، قبض القاسم بن عبيد الله على الحسين بن عمرو النصراني، وحبسه، وذلك أنه لم يزل يسعى في أمره إلى المكتفى، ويقدح فيه عنده؛ حتى أمره بالقبض عليه، وهرب كاتب الحسين ابن عمرو حين قبض على الحسين المعروف بالشيرازي، فطلب وكبست منازل جيرانه، ونودي: من وجده فله كذا وكذا، فلم يوجد.
ولسبع بقين منه صرف الحسين بن عمرو إلى منزله، على أن يخرج من بغداد.

وفي يوم الجمعة التي بعدها خرج الحسين بن عمرو وحدر إلى ناحية واسط على وجه النفي، ووجد الشيرازي كاتبه لثلاث خلون من ذي القعدة.
ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة أمر المكتفى بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهب للشخوص لحرب القرمطي بناحية الشأم، فأطلق للجند في دفعة واحدة مائة ألف دينار؛ وذلك أن أهل مصر كتبوا إلى المكتفى يشكون ما لقوا ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وأنه قد أخرب البلاد، وقتل الناس، وما لقوا من أخيه قبله ومن قتلهما رجالهم، وأنه لم يبق منهم إلا العدد اليسير.
ولخمس خلون خلت من شهر رمضان أخرجت مضارب المكتفى، فضربت بباب الشماسية.
ولسبع خلون منه خرج المكتفى في السحر إلى مضربه بباب الشماسية، ومعه قواده وغلمانه وجيوشه.
ولاثني عشرة ليلة من شهر رمضان، رحل المكتفى من مضربه بباب الشماسية في السحر، وسلك طريق الموصل.
وللنصف من شهر رمضان منها مضى أبو الأغر إلى حلب، فنزل وادي بطنان قريباً من حلب، ونزل معه جميع أصحابه، فنزع - فيما ذكر - جماعة من أصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادي يتبر دون بمائة، وكان يوماً شديد الحر؛ فبيناهم كذلك إذ وافى جيش القرمطي المعروف بصاحب الشامة، وقد بدرهم المعروف بالمطوق، فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقاً كثيراً وانتهب العسكر، وأفلت أبو الأغر في جماعة من أصحابه، فدخل حلب، وأفلت معه مقدار ألف رجل، وكان في عشرة آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضم إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد الفراعنة ورجالهم، فلم يفلت منهم إلا اليسير.
ثم صار أصحاب القرمطي إلى باب حلب، فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة بعد حرب كانت بينهم، ومضى المكتفى بمن معه من الجيش حتى انتهى إلى الرقة، فنزلها، وسرح الجيوش إلى القرمطي جيشاً بعد جيش.
ولليلتين خلتا من شوال ورد مدينة السلام كتاب أبو القاسم بن عبيد الله، يخبر فيه أن كتاباً ورد عليه من دمشق من بدر الحمامي صاحب ابن طولون، يخبر فيه أنه واقع القرمطي صاحب الشامة، فهزمه ووضع في أصحابه السيف، ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وأن أمير المؤمنين وجه في أثره الحسين بن حمدان بن حمدون وغيره من القواد.
وورد أيضاً في هذه الأيام - فيما ذكر - كتاب من البحرين من أميرها ابن بانوا، يذكر فيه أنه كبس حصناً للقرامطة، فظفر بمن فيه.
ولثلاث عشرة خلت من ذي القعدة منها - فيما ذكر - ورد كتاب آخر من ابن بانوا من البحرين، يذكر فيه أنه واقع قرابة لأبي سعيد الجنابي، وولى عهده من بعده على أهل طاعته، فهزمه.
وكان مقام هذا المهزوم بالقطيف فوجد بعدما انهزم أصحابه قتيلاً بين القتلى، فاحتز رأسه، وأنه دخل القطيف فافتتحها.
ومن كتب صاحب الشامة إلى بعض عماله: " بسم الله الرحمن الرحيم " من عبد الله أحمد بن عبد الله المهدي المنصور بالله لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ومذل المنافقين خليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المبصرين، وضياء المستضيئين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة سيد الرسلين، وولد خير الوصيين، صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته الطيبين، وسلم كثيراً، وإلى جعفر بن حميد الكردي: سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على جدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما بعد؛ فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك، وأظهروه من الظلم والعيث والفساد في الأرض، فأعظمنا ذلك، ورأينا أن ننفذ إلى ما هناك من جيوشنا من ينقم الله به أعدئه الظالمين، والذين يسعون في الأرض فساداً، وأنفذنا عطيراً داعيتنا وجماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص، وأمددناهم بالعساكر، ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا، نحن نرجو أن يجرينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم؛ فينبغي أن تشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذي لم يزل في كل مرق عن الطاعة وانحرف عن الإيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية، وما يتجدد فيها، ولا تخف عني شيئاً من أمرها إن شاء الله.
سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله جدي محمد رسول الله، وعلى أهل بيته وسلم كثيراً.
نسخة كتاب عامل له إليه: " بسم الله الرحمن الرحيم " لعبد الله أحمد الإمام المهدي المنصور بالله، ثم الصدر كله على مثال نسخة صدر كتابه إلى عامله الذي حكينا في الكتاب الذي قبل هذا الكتاب، إلى ولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين وسلم كثيراً.
ثم بعد ذلك من عامر بن عيسى العنقائي.
سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وادام الله عزه وتأييده، ونصره وسلامته، وكرامته ونعمته وسعادته، وأسبغ نعمه عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله لديه.
فقد كان وصل كتاب سيدي أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه، يعلمه فيه ما كان من نفوذ بعض الجيوش المنصورة مع قائد من قواده إلى ناحيتنا لمجاهدة أعداء الله بني الفصيص والخائن ابن دحيم، وطلبهم حيث كانوا، والإيقاع بهم وبأسبابهم وضياعهم، ويأمرني أدام الله عزه عند نظري في كتابه بالنهوض في كل من قدرت عليه من أصحابي وعشائري للقائهم ومكانفة الجيش ومعاضدتهم والمسير بسيرهم، والعمد كل ما يومون إليه ويأمرون به، وفهمته، ولم يصل إلي هذا الكتاب أعز الله أمير المؤمنين حتى وافت جيوش المنصورة؛ فنالت طرفاً من ناحية ابن دحيم، وانصرفوا بالكتاب الوارد عليهم من مسرور بن أحمد الداعية ليلقوه بمدينة أفامية.
ثم ورد علي كتاب مسرور بن أحمد في درجة الكتاب الذي اقتصصت ما فيه في صدر كتابي هذا، يأمرني فيه بجمع من تهيأ من أصحابي وعشيرتي والنهوض إلى ما قبلته، ويحذرني التخلف عنه.
وكان ورود كتابه علي وقت صح عندنا نزول المارق سبك عبد مفلح مدينة عرقة في زهاء ألف رجل، ما بين فارس وراجل.
وقد شارف بلدنا، وأطل على ناحيتنا، وقد وجه أحمد بن الوليد عبد أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه إلى جميع أصحابه، ووجهت إلى جميع أصحابي، فجمعناهم إلينا ووجهنا العيون إلى ناحية عرقة لنعرف أخبار هذا الخائن، وأين يريد، فيكون قصدنا ذلك الوجه، ونرجوا أن يظفر الله به، ويمكن منه بمنه وقدرته.
ولولا هذا الحادث، ونزول هذا المارق في هذه الناحية، وإشرافه على بلدنا لما تأخرت في جماعة أصحابي عن النهوض إلى مدينة أفامية، لتكون يدي مع أيدي القواد المقيمين بها لمجاهدة من بتلك الناحية حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
وأعلمت سيدي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه السبب في تخلفي عن مسرور بن أحمد، ليكون على علم منه.
ثم إن أمرني أدام الله عزه بالنفوذ إلى أفامية كان نفوذي برأيه، وامتثلت ما يأمرني به إن أشاء الله.
أنم الله على أمير المؤمنين نعمة وأدام عزه وسلامته، وهنأه كرامته، وألبسه عفوه وعافيته.
والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين الاختيار.
وفيها وجه القاسم بن عبيد الله الجيوش إلى صاحب الشامة، وولي حربه محمد بن سليمان الكاتب الذي كان إليه ديوان الجيش، وضم جميع القواد إليه، وأمرهم بالسمع له والطاعة، فنفذ من الرقة في جيش كثيف، وكتب إلى من تقدمه من القواد بالسمع والطاعة.
وفيها ورد رسولاً صاحب الروم؛ أحدهما خادم، والآخر فحل، يسأله الفداء بمن يده من المسلمين أسير، ومعهما هدايا من صاحب الروم وأسارى من المسلمين بعث بهم إليه، فأجبنا إلى ما سألا، وخلع عليهما.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس ابن محمد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة
ذكر خبر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة
فمن ذلك ما كان من أمر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة قال أبو حعفر: قد مضى ذكرى شخوص المكتفى مدينة السلام نحو صاحب الشامة لحربه ومصيره إلى الرقة، وبثه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتوليه حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب وتصييره أمر جيشه وقواده إليه؛ فلما دخلت هذه السنة كتب وزيره القاسم بن عبيد الله إلى محمد ابن سليمان وقواد السلطان يأمره وإياهم بمناهضة ذي الشامة وأصحابه، فساروا إليه حتى صاروا إلى موضع بينهم وبين حماة - فيما قيل - اثنا عشرة ميلاً، فلقوا به أصحاب القرمطي في يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم، وكان القرمطي قدم أصحابه وتخلف هو في جماعة من أصحابه، ومعه مال قد كان جمعه، وجعل السواد وراءه، فالتحمت الحرب بين أصحاب السلطان وأصحاب القرمطي، واشتدت، فهزم أصحاب القرمطي، وقتلوا، وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب السلطان ليلة الأربعاء لسبع خلون من المحرم.
فلما رأى القرمطي ما نزل بأصحابه من الفلول والهزيمة حمل - فيما قيل - أخاً له يكنى أبا الفضل مالاً، وتقدم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر في موضع، فيصير إليه، وركب هو وابن عمه المسمى المدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي.
وأخذ دليلاً، وسار يريد الكوفة عرضاً في البرية، حتى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال طريق الفرات، فنفذ ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض ما كان معه ليأخذ له ما يحتاجون إليه، فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق لشراء حاجه، فأنكروا زيه، وسئل عن أمره فمجمج، فأعلم المتولى مسلحة هذه الناحية بخبره، وهو رجل يعرف بأبي خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كمشرد عامل أمير المؤمنين المكتفى على المعاون بالرحبة وطريق الفرات.
فركب في جماعة، وسأل هذا الرجل عن خبره، فأخبره أن الشامة خلف رابية هنالك في ثلاثة نفر.
فمضى إليهم، فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه، فتوجه بهم ابن كشمرد وأبو خبزة إلى المكتفى بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا جميع من قدروا عليه من أولياء القرمطي وأشياعه، وكتب محمد بن سليمان إلى الوزير بالفتح: " بسم الله الرحمن الرحيم " قد تقدمت كتبي إلى الوزير أعزه الله في خبر القرمطي اللعين وأشياعه؛ بما أرجو أن يكون قد وصل إن شاء الله.
ولما كان في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من المحرم رحلت من الموضع المعروف بالقراونة، نحو موضع يعرف بالعليانة، في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا بهم على مراتبهم في القلب والميمنة والميسرة وغير ذلك؛ فلم أبعد أن وافاتي الخبر بأن الكافر القرمطي أنفذ النعمان ابن أخي إسماعيل بن النعمان أحد دعاته في ثلاثة آلاف فارس، وخلق من الرجالة، وإنه نزل بموضع يعرف بتمتع، بينه وبين حماة اثنا عشرة ميلاً، فاجتمع إليه جميع من كان بمعرة النعمان وبناحية الفصيصي وسائر النواحي من الفرسان والرجالة، فأسررت ذلك عن القواد والناس جميعاً ولم أظهره، وسألت الدليل الذي كان معي عن هذا الموضع، وكم بيننا وبينه، فذكر أنه ستة أميال، فتوكلت على الله عز وجل، وتقدمت إليه في المسير نحوه، فمال بالناس جميعاً، وسرنا حتى وافيت الكفرة، فوجدتهم على تعبئة، ورأينا طلائهم.

فلما نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا إليهم، فاقترفوا ستة كراديس، وجعلوا على ميسرتهم - على ما أخبرني من ظفرت به من رؤسائهم - مسروراً العليصي وأبا الحمل وغلام هارون العليصي، وأبا العذاب ورجاء وصافي وأبا يعلى العلوي، في ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا كميناً في أربعمائة فارس ميسرتهم بإزاء ميمنتنا، وجعلوا في قلب النعمان العليصي والمعروف بأبي الحطي، والحمارى وجماعة من بطلانهم في ألف وأربعمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليباً العليصي والمعروف بالسديد العليصي والحسين بن العليصي وأبا الجراح العليصي وحميد العليصي، وجماعة من نظرائهم في ألف وأربعمائة فارس، وكمنوا مائتي فارس؛ فلم يزالوا زفاً إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرقين، متوكلين على الله عز وجل.
وقد استحثت الأولياء والغلمان وسائر الناس غيرهم، ووعدتهم.
فلما رأى بعضنا بعضاً حمل الكردوس الذي كان في ميسرتهم ضرباً بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان، وهو في جناح الميمنة، فاستقبلهم الحسين - بارك الله عليه وأحسن جزاءه - بوجهه وبموضعه من سائر أصحابه برماحهم، فكسروها في صدورهم، فانفلوا عنهم، وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف، واعترضوا ضرباً للوجوه، فصرع من الكفار الفجرة ستمائة فرس في أول وقعة، وأخذ أصحاب الحسين خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضة، وولوا مدبرين مفلولين واتبعهم الحسين، فرجعوا عليه، فلم يزالوا حملة وحملة، وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعة بعد الجماعة؛ حتى أفناهم الله عز وجل، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتي رجل.
وحمل الكردوس الذي كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويمن الخادم ومن كان معهما من بني شيبان وبني تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتى كسروها فيهم؛ واعتنق بعضهم بعضاً، فقتل من الفجرة جماعة كثيرة.
وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفة بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحاً لخليفة في ثلثمائة فارس، وجميع أصحاب الخليفة؛ وهو يعاركون بني شيبان وتميم، فقتل من الكفرة مقتلة عظيمة، واتبعوهم، فأخذ بنو شيبان منهم ثلثمائة فرس ومائة طوق، وأخذ أصحاب خليفة مثل ذلك؛ وزحف النعمان ومن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معي، وكنت بين القلب والميمنة، وحمل خاقان القشوري بن كمشجور ومن كان معهم في الميمنة، ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمى وربيعة بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمري وبشر البكتمري ومحمد بن قراطغان.
وكان في جناح الميمنة جميع من حمل على من في القلب ومن انقطع ممن كان حمل الحسين بن حمدان، فلم يزالوا يقتلون الكفار فرسانهم ورجالتهم حتى قتلوا أكثر من خمسة أميال.
ولما أن تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت أن يكون من الكفار مكيدة في الإحتيال على الرجالة والسواد، فوقفت إلى أن لحقوني.
وجمعتهم وجمعت الناس، إلي وبين يدي المطرد المبارك، مطرد أمير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الأول، وحمل الناس.
ولم يزل عيسى النوشري ضابطاً للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجالته على ما رسمته له، لم يزل من موضعه إلى أن رجع الناس جميعاً إلي من كل موضع، وضربت مضربي في الموضع الذي وقفت فيه؛ حتى نزل الناس جميعاً، ولم أزل واقفاً إلى أن صليت المغرب، حتى استقر العسكر بأهله، ووجهت في الطلائع ثم نزلت؛ وأكثرت حمد الله على ما هنأنا به من النصر، ولم يبق أحد من قواد أمير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركة في المناصحة لها إلا بلغوها؛ بارك الله عليهم جميعاً! ولما استراح الناس خرجت القواد جميعاً لنقيم خارج المعسكر إلى أن يصبح الناس خوفاً من حيلة تقع، وأسأل الله تمام النعمة وإيزاع الشكر؛ وأنا - أعز الله سيدنا الوزير - راحل إلى حماة، ثم أشخص إلى سلمية بمن الله تعالى وعونه، فمن بقي من هؤلاء الكفار فهم بسلمية؛ فإنه قد صار إليها منذ ثلاثة أيام، وأحتاج إلى أن يتقدم الوزير بالكتاب إلى جميع القواد وسائر بطون العرب من بني شيبان وتغلب وبني تميم، يجزيهم جميعاً الخير على ما كان في هذه الوقعة؛ فما بقي أحد منهم - صغير ولا كبير - غاية، والحمد لله على ما تفضل به، وإياه أسأل تمام النعمة.
ولما تقدمت في جمع الرءوس، وجد رأس أبي الحمل ورأس أبي العذاب وأبي البغل.

وقيل أن النعمان قد قتل؛ وقد تقدمت في طلبه، وأخذ رأسه وحمله مع الرءوس إلى حضرة أمير المؤمنين إن شاء الله.
وفي يوم الاثنين الأربع بقين من المحرم، أدخل صاحب الشامة إلى الرقة ظاهراً للناس فالج، عليه برنس حرير ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين.
ثم إن المكتفى خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقة إلى بغداد، وحمل معه القرمطي والمدثر والمطوق وجماعة من أسارى الوقعة، وذلك في أول صفر من هذه السنة.
فلما صار إلى بغداد عزم - فيما ذكر - على أن يدخل القرمطي مدينة السلام مصلوباً على دقل، والد قل على ظهر فيل؛ فأمر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل، وإن كانت أقصر من الدقل؛ وذلك مثل باب الطاق وباب الرصافة وغيرهما.
ثم استمسج المكتفى - فيما ذكر - فعل ما كان عزم عليه من ذاك، فعمل له دميانة - غلام يازمان - كرسياً، وركب الكرسي على ظهر الفيل، وكان ارتفاعه عن ظهر الفيل ذراعين ونصف الذراع - فيما قيل - ودخل المكتفى مدينة السلام بغداد صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربع الأول، وقدم الأسرى بين يديه على جمال مقيدين، عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، والمطوق في وسطهم، غلام ما خرجت لحيته، قد جعل في فيه خشبة مخروطة، وشدت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنه لما أدخل الرقة كان يشم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق عليهم، ففعل ذلك لئلا يشم إنساناً.
ثم أمر المكتفى ببناء دكة في المصلى العتيق من الجانب الشرقي، تكسيرها عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد منها إليها.
وكان المكتفى خلف مع محمد بن سليمان عساكره بالرقة عند منصرفه إلى مدينة السلام، فتلقط محمد بن سليمان من كان في تلك الناحية من قواد القرمطي وقضاته وأصحاب شرطة، فأخذهم وقيدهم، وانحدر والقواد الذين تخلفوا معه إلى مدينة السلام على طريق الفرات، فوافى باب الأنبار ليلة الخميس لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، ومعه جماعة من القواد، منهم خاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وغيرهما: فأمر القواد الذين ببغداد بتلقي محمد بن سليمان والدخول معه، فدخل بغداد وبين يديه نيف وسبعون أسيراً، حتى صار إلى الثريا، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه، وطوقوا وسوروا وصرفوا إلى منازلهم، وأمر بالأسرى إلى السجن.
وذكر عن صاحب الشامة أنه أخذ وهو في حبس المكتفى سكرجة من المائدة التي تدخل إليه فكسرها، وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروق نفسه، فخرج منه دم كثير، ثم شد يده.
فلما وقف المولي خدمته على ذلك سأله: لم فعل ذلك؟ فقال: هاج بي الدم فأخرجته.
فترك حتى صلح، ورجعت إليه قوته.
ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القواد والغلمان بحضور الدكة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها، فحضروها، وحضر أحمد بن محمد الواثقي وهو يومئذ يلي الشرطة بمدينة السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش الدكة، فقعدا عليها، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفى معه من الرقة والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا الكوفة، وقوم من أهل بغداد كانوا على رأى القرامطة، وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة - وكانوا قليلاً - فجيء بهم على جمال، وأحضروا الدكة، ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل: إنهم كانوا ثلثمائة ونيفاً وعشرين، وقيل ثلثمائة وستين، وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة؛ ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد أسبل عليها الغشاء، ومعهما جماعة من الفرسان والرجالة، فصعد بهما إلى الدكة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنساناً من هؤلاء الأسارى، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وضربت أعناقهم واحداً بعد واحد، كان يأخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه، ويحلق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه إلى أسفل، ثم يقعد فيمد رأسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته إلى أسفل.
وكانت جماعة من هؤلاء الأسرى قليلة يضجون ويستغيثون، ويحلفون أنهم ليس من القرامطة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35