كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

دمه في دمك إلا توجهه إلي؛ فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له - وقد كان شيخاً كبير السن - بصوت ضعيف ضئيل غير مستعلٍ:
أتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم
قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول:
العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم منصرف!
قال: يا ربيع، قد عفوت عنه؛ فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قال: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حداً من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فأنصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.
قال: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد فزد في خطاك تزدد من الثواب.
قال: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقاً فجئ به ملبباً فقد أذنا لك في ذلك.
وذكر عمر بن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قال: بلغني أن السيد بن محمد مات بالكرخ - أو قال: بواسط - ولم يدفنوه،لأن حق ذلك عندي لأحرقنها. وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمن المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.
وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار ببغداد و استقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:
تبيت من البلوى على حد مرهفٍ ... مراراً ويكفي الله ما أنت خائف
قال: وأنشدني عبد الله بن الربيع، قال: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
وقال الهيثم بن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بن حسن في البلاد هرباً من عقابه، تمثل:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه ... وإن أخف آمناً تقلق به الدار
سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ... إني لكل امرئ من جاره جار
وذكر علي بن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قال: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشترينهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهماً، قال: صالحان، استحطه؛ فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك. فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهماً، قال: أحسنت؛ اقطع أحدهما قميصاً، واجعل الآخر رداء لي. ففعلت، فلبس القميص خمسة عشرة يوماً لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بن علي، قال: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب؛ فإن رأى أحدهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قال: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك؛ وإني لأراها تلمع في لحية فلان؛ فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم؛ وإن رأى على أحدهم وشياً طاهراً عضه بلسانه.
وذكر عن أحمد بن خالد، قال: كان المنصور يسأل مالك بن أدهم كثيراً عن حديث عجلان بن سهيل، أخي حوثرة بن سهيل، قال: كنا جلوساً مع عجلان، إذ مر بنا هشام بن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قال: من تعني؟ قال: هشاماً، قال: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.
وقال أحمد بن خالد: قال إبراهيم بن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال المنصور يوماً: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين، قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال:

أما إنك نعم الغلام؛ ولكن لا يدخل علي قصري عربي يخدم حرمي؛ اخرج عافاك الله؛ فاذهب حيث شئت! وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن معاوية بن بكر - وكان من الصحابة - أن المنصور ضم رجلاً من أهل الكوفة، يقال له الفضيل بن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وكان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر. قال: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بن غزوان مولى عثمان بن نهيك إلى الفضيل - وهو مع جعفر بحديثه الموصل - وقال: إذا رأيتما فضيلاً فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتاباً منشوراً، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. قال: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن؛ فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد؛ فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه - وكان الفضيل رجلاً عفيفاً ديناً - فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولاً، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.
فذكر معاوية بن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفراً أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قال سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء؛ وهو أعلم بما يصنع؛ فقال : يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة. قال فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن عبد الله بن علي، وقد قتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلماً، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قال: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.
وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بن عفان أن حفصاً الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بن أبي جمعة، مولى عباد بن زياد، وكان المنصور صيره مؤدباً للمهدي في مجالسه، وكان مداحاً لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد؛ ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة. قال: وكان مما مدح به بني أمية قوله:
أين روقا عبد شمسٍ أين هم ... أين أهل الباع منهم والحسب!
لم تكن أيد لهم عندكم ... ما فعلتم آل عبد المطلب!
أيها السائل عنهم أولو ... جثث تلمع من فوق الخشب
إن تجذوا الأصل منهم سفهاً ... يا لقوم للزمان المنقلب!
إن فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ... فستسقون صرى ذاك الحلب
وقيل: إن حفصاً الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: مولى لي مثلك لا أعرفه! قال: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.
ومما رثي به قول سلم الخاسر:
عجباً للذي نعى الناعيان ... كيف فاهت بموته الشفتان!
ملك إن غدا على الدهر يوماً ... أصبح الدهر ساقطاً للجران
ليت كفاً حثت عليه تراباً ... لم تعد في يمينها بنان
حين دانت له البلاد على العس ... ف وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته ال ... ملك، عشرون حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد إذا ما ... أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يق ... دح في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى ... قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأي ... دي من خوفه على الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ... خلف أقصاهم ودون الداني

هاشمي التشمير لا يحمل الثق ... ل على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخو ... ف وعزمٍ يلوي بكل جنان
وذهبت دونه النفوس حذاراً ... غير أن الأرواح في الأبدان
ذكر أسماء ولده ونسائهفمن ولده المهدي - واسمه محمد - وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت المنصور أخت يزيد بن المنصور الحمري؛ وكانت نكنى أم موسى؛ وهلك جعفر هذا قبل المنصور.
وسليمان وعيسى ويعقوب؛ وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله.
وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.
وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.
والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم.
والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس. وذكر إسحاق بن سليمان أنه قال: قال لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس؛ العالية بنت أمير المؤمنين.
قال: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا من بني أمية.
ذكر الخبر عن وصاياهذكر عن الهيثم بن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجهاً إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أياماً والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاثٍ بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان؛ يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكاً. فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئاً إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحداً، يصر مفتاحه في كم قميصه. قال: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم - فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك. ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر؛ فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث؛ حتى بلغ سبعة ؛ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة؛ فإياك أن تستبدل بها؛ فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور؛ فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر؛ فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واتكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك. ، وما أظنك تفعل.
وأوصيك بأهل خراسان خيراً، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعسن برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وإني غير راجع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختوماً، فإذا بلغك أني قد مت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين أحب أن تقضيه وتضمنه، قال: هو علي يا أمير المؤمنين، قال: فإنه ثلثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها. قال: أفعل، هو علي. قال: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لأخوتك الأصاغر.
قال: نعم، قال: ورقيقي الخاصة هم لك،فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم

الحاجة. قال: أفعل، قال: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قال: أفعل، قال: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع. قال: والمتاع والثياب، سلمه لهم قال: أفعل. قال: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه.ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلاً بالعمرة والحج، قد ساق هدية من البدن، وأشعر وقلد؛ وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.
وذك أبو يعقوب بن سليمان،قال: حدثتني جمرة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الأيمان ألا تفتح بعض الخزائن، ولا تطاع عليها أحداً إلا المهدي؛ ولا هي؛ إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث؛ حتى يفتحا الخزانة. فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه إلا يفتحه ولا يطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته. فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولى الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة؛ فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم؛ وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذاك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.
وذكر عن إسحاق بن عيسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله؛ إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة؛ وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي؛ يجعل لك فيها كربك وحزنك مخرجاً، أو قال: فرجاً ومخرجاً - ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. احفظ يا بني محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم. والزم الحلال فإن ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل. وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن الله لو علم أن شيئاً أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً " الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم؛ ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، واحسم للعدو، وأنجع في الدواء. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة. وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية. واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها. وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة؛ وهي من شيم الزمان. وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع. جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار،ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
قال: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.
وذكر عمر بن شبة عن سعيد بن هريم، قال:

لما حج المنصور في السنة التي توفي بها شيعة المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها؛ ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد؛ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، و والله لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفت عليك، فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.
وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم " .
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنية مانع!
قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى شيئاً يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى على صدر البيت شيئاً، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: " بسم الله الرحمن الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، فأمر بفكيه فوجئا. وقال: ما وجدت شيئاً تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيراً مما كان، وركب فرساً، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر - وكان آخر منزل بطريق مكة - كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.
وذكر عن محمد بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قال: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت بالقصد، كل ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك ... إذا انقضى ملكه إلى ملك
حتى يصيرا به إلى ملك ... ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض والمر ... سي الجبال المسخر الفلك
فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.
وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جواباً، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلاً ينشدني هذه الأبيات:
أخي أخفض من مناكا ... فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من ... تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال ... عبد الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته ... والأمر فيه إلى سواكا
فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت. فقلت: خيراً رأيت يا أمير المؤمنين. فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.
وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بمكة؛ صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، كذلك قال هشام بن محمد ومحمد بن عمر وغيرهما.
وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.
وأم المهدي أم موسى بنت المنصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميري.
خلافة المهدي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة

حين مات والده المنصور بمكة

ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قال: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة؛ وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، قضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب الزوال، ثم انصرف - وكذلك كان يفعل الهاشميون - وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم؛ فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلداً السيف عليهما، وأنا أساير محمد بن عون بن عبد الله بن الحارث - وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم؛ وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلداً السيف عليهما - قال: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر وقول علي بن أبي طالب فيه. فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: أحسب الرجل قد مات؛ فأرادا أن يحصنا مكة؛ فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه كل يوم؛ فإذا بموسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بن منصور في ناحية السرادق - وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطة، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه - قال: فلما رأيته ناحية السرادق ورأيت موسى مصدراً، علمت أن المنصور قد مات. قال: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همساً من بكاء. فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك؛ ولكن لعله ثقيل، أو إصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم. وقال بن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله. فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبياً رطباً ما يتحلحل.
ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " . من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين - ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء؛ ولكن هذا عهد أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة - أما بعد: فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعاً، ولا يذيق بعضكم بأس بعض. يا بني هاشم، ويا أهل خراسان...ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.
قال النوفل: قال أبي: وكان هذا شيئاً وضعه الربيع؛ ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال:

يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين كان ضربني واصطفى مالي؛ فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع بن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني؛ فكنت الثالث؛ وبايع الناس؛ فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعاً، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه؛ فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال؛ فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريره نحمله؛ فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه؛ وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه؛ حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.
قال: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان؛ أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بن موسى على بيعة مجددة للمهدي - وكان القائم بذلك الربيع - فأبى عيسى بن موسى، فأقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون؛ فنهض علي بن عيسى بن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.
وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه أن موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي. وبعثا بعد بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة؛ ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بن نصر بن مالك؛ وهو يومئذ على شرطة موسى بن المهدي، واندس علي بن عيسى بن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بن موسى، وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم. وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروزي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بن سلمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته؛ إلا أن محمداً كان أحسنهم قياماً به حتى طفئ ذلك وسكن. وكتب به إلى المهدي،فكتب بعزل علي بن عيسى عن حرس موسى بن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حري بن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بن محمد. وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصلوا الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.
وذكر الهيثم بن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب - أو غيره من منازل طريق مكة - رؤيا - وكان الربي عديله - وفزع منها، وقال: يا ربيع ما أحيبني إلى ميتاً في وجهي هذا؛ وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قال الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قال: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هارباً من ذنوبي وإسرافي عل نفسي؛ فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قال الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه. ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم؛ ويكبت عدوكم، ويسر وليكم؛ وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي؛ لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغٍ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين؛ نحن إلى ذلك أسرع . قال: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم؛ فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكياً مشقوق الجيب لاطم رأسه، فقال بعض من حضر:

ويلي عليك يا بن شاة! يريد الربيع - وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة - قال: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قال: فبلغ المهدي فلما قدم عليه الربيع قال: يا عبد؛ ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت ما فعلت به! وقال قوم أنه ضربه؛ ولم يصح ذلك. قال: وذكر من حضر حجة المنصور، قال: رأيت صالح بن المنصور وهو مع أبيه والناس معه؛ وإن موسى بن المهدي لقي تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحاً معه.
وذكر عن الأصمعي أنه قال: أول من نعى أبو جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق قال يونس: وماذا؟ قال:
تنتجوها خير أضخم العنق ... موت الإمام فلقة من الفلق
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان المنصور - فيما ذكر - أوصى بذلك.
وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي أخو المسيب بن زهير - وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي. وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس - وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.
وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وشريك بن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة. وقيل: إن شريكاً كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.
وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور - فيما ذكر - عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن. وقيل كان موسى بن كعب.
وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة. وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.
وأصاب الناس - فيما ذكر محمد بن عمر - في هذه السنة وباء شديد
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة العباس بن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة؛ وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم. وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.
وهلك في هذه السنة حميد بن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد.
وفيها ولي حمزة بن مالك سجستان، وولي جبرائيل بن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.
وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.
وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن المدينة؛ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.
وفيها وجه المهدي عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفاً وخمسمائة رجل، ووجه معه قائداً من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المدحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم - فيما ذكر - الربيع بن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بن شهاب المنذر بن الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصرة، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الألف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بن إبراهيم، فمضوا لوجههم؛ حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.

وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.
وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوساً الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حمل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوساً إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.
ذكر الخبر عن سبب تحول المهدي

الحسن بن إبراهيم من المطبق إلى نصير
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون. على ما ذكرت، وكان يعقوب بن داود محبوساً مع الحسن بن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بن داود، ولم يطلق الحسن بن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجاً لنفسه وخلاصاً، فدس إلى بعض ثقاته، فحفر له سرباً من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة - وهو قاضي المهدي بمدينة السلام - ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله فأخبره خبر يعقوب وما جاء به ، فأمره بإدخاله عليه؛ فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هارباً، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله فأخبره أنه حاضر - وقد كان لزم أبا عبيد الله - فدعى به المهدي خالياً، فذكر له ما كان من فعله في الحسن بن إبراهيم أولاً، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فاخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أماناً يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له. فقال له يعقوب: فله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به؛ فأعطاه المهدي ذلك. وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت. فأعطاه المهدي ذلك، وجعله إليه، وصير سليمان الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلاً، ويفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظى بذلك عنده، وبما رجى أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخاً في الله، وأخرج بذلك توقيعاً، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعداً، إلى أن صير الحسن بن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك؛ وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بن الخليل في ذلك:
عجباً لتصريف الأمو ... ر مسرة وكراهيه
والدهر يلعب بالرجا ... ل له دوائر جاريه

رثت بيعقوب بن دا ... ود حبال معاويه
وعدت على ابن علاثة ال ... قاضي بوائق عافيه
قل للوزير أبي عبي ... د الله: هل لك باقيه!
يعقوب ينظر في الأمو ... رو أنت تنظر ناحيه
أدخلته فعلاً علي ... ك،كذاك شؤم الناصيه
وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بن أبي إسماعيل عن الكوفة وأحداثها. واختلف فيمن ولي مكانه إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بن عبد الله قاضي الكوفة.وقال عمر بن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بن سعيد بن لقمان. ويقال: إن شريك بن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء:
لست تعدو بأن تكون ولو نل ... ت سهيلاً صنيعةً لشريك
قال: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكاً قال له:
صلى وصام لدنيا كان يأملها ... فقد أصاب ولا صلى ولا صاما
وذكر أن جعفر بن محمد قاضي الكوفة، قال: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بن الصباح، ثم ولى إسحاق بن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل ابن محمد بن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بن جعفر.
وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النمري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم من أهل البصرة من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بن أيوب إلى عمارة بن حمزة، فولاها عمارة رجلاً من أهل البصرة يقال له المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة.
وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي.
وفيها عزل يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بن روح.
وفيها عزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بن صالح.
وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها.
وفيها تزوج المهدي أيضاً أم عبد الله بنت صالح بن علي، أخت الفضل وعبد ابني صالح لأمهما.
وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بن المهدي؛ فلما تبين ذلك المهدي كتب - فيما ذكر - إلى عيسى بن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه.
وقال عمر:

لما أفضى الآمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولي على شرطه خالد بن يزيد بن حاتم؛ وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة؛ فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته. وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة؛ فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد؛وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس؛ وليس يفعل ذلك غيره؛ فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشباً ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك - فذلك الموضع يسمى الخشبة - وبلغ ذلك عيسى بن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن أبى عبيدة - وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم إنه عمرها واتخذ فيها حماماً، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها وأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حماراً فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره. ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعاً. فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم - ويقال عشرين ألف ألف - وقطائع كثيرة.
وأما غير عمر فإنه فقال: كتب المهدي إلى عيسى بن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بن محمد، وكتب إليه كتاباً، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من أصحابه من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلاً، وأمرهم أن يضربوا جميعاً بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلاً في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بن موسى روعاً شديداً، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى، فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.
وحج بالناس في هذه السنة يزيد بن منصور - خال المهدي - عند قدومه من اليمن؛ فحدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر الواقدي وغيره. وكان انصراف يزيد بن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه.
وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة؛ وخليفته على ذلك المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي؛ وعلى قضائها عبيد الله بن حسن. وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة. وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء بن روح. وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة.
ثم دخلت سنة ستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خروج يوسف البرم

فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكراً هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي - فيما زعم - الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه - فيما ذكر - بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرمعلى بعير وقد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله؛ لأنه قتل أخاً لهرثمة بخراسان.
ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادي وفيها قدم عيسى بن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم - فيما ذكر - الفضل بن سليمان فنزل داراً كانت لمحمد بن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أياماً يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله؛ لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروهاً ولا تقصيراً به؛ حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يوماً قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد أجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه؛ ففعلوا ذلك وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكاراً لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أياماً، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه؛ وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان.
فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته؛ دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته إياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه؛ فأبى؛ وذكر أن عليه أيماناً محرجة في ماله وأهله؛ فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بن عبد الله بن علاثة والزنجي بن خالد المكي وغيرهما؛ فأتوه بما رأوا، وصار إلى المهدي ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضاً وعوض؛مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه؛ وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر. فقبل عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسباً عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضى بالخلع والتسليم، وإلى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار. ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلاً رجلاً لنفسه ولموسى بن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم. ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه. وقال عيسى على أول عتبة المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بما بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بن أمير المؤمنين؛ لاختيارهم له ورضاهم به؛ وما رأى من إجاباتهم إلى ذلك؛ لما رجا مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك؛ وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأحسن السيرة وأعدلها،فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم؛ فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة. وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم.

وجلس موسى دونه معتزلاً للمنبر؛ لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائماً في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان غليه من ولاية العهد وتحليله الجماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم؛ وإن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر. فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم؛ يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما؛ حتى فرغ آخرهم؛ وفعل من أحضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدي، فصار إلى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتاباً أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين؛ ليكون حجة على عيسى، وقطعاً لقوله ودعواه فيما خرج منه.
وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه: " بسم الله الرحمن الرحيم " . هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المؤمنين موسى بن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ حيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي؛ فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضى بولاية موسى بن المهدي محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل المسلمون من الرضا بموسى بن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حياً حتى أموت. وقد بايعت محمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى ابن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه. علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولي عهده موسى بن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنية والشدة والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهمل ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائناً من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه. فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى بن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك؛ فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب - أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة - طالق ثلاثاً البتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مالٍ لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافياً إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذراً واجباً ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه؛ إلا الوفاء به. والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وكفى بالله شهيداً. وشهيد على عيسى بن موسى بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة.
وكتب في صفر سنة ستين ومائة. وختم عيسى بن موسى.
فقال بعض الشعراء:
كره الموت أبو موسى وقد ... كان في الموت نجاء وكرم
خلع الملك وأضحى ملبساً ... ثوب لوم ما ترى منه القدم

وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس وحض بعضهم بعض بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية؛ حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلاً، وأفاءها الله عليهم. وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بن صبيح. ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلاً من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلاً، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم - فيهم بنت ملك باربد - على محمد بن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة.
وفيها صير أبان بن صدقة كاتباً لهارون بن المهدي ووزيراً له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بن مسلم.
وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة.
وفيها غزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام ذكر خبر رد نسب آل بكرة وآل زياد وفيها رد المهدي آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان يبب ذلك أن رجلاً من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي وتقرب إليه فيها بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المهدي: إن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم،وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا. فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر؛ أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمر بآل زياد بن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الولد للفراش وللعاهر الحجر " ، فيردوا إلي نسبهم من عبيد في موالي ثقيف. فأمر المهدي في آل بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بن سليمان كتاباً، وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبهم إلى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم،ممن أمر برد ماله عليه،وألا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بن سمرقند. فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم.
وأما آل زياد فإنه مما قوي رأي المهدي فيهم - فيما ذكر على بن سليمان - أن أباه حدثه، قال: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بن سلم بن حرب،فقال له: من أنت؟ قال: ابن عمك، قال: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدي: يا ابن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، قال: فلما خرجت لحقني عيسى بن موسى - أو موسى بن عيسى - فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك. فانصرفت فكتبت ، وبعثت به إليه. فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد؛ وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمر أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله. فعرضهم، فأقروا جميعاً الولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم.
ثم إن آل زياد بعد ذلك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك:
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
ذا قرشي كما يقول، وذامولى، وهذا بزعمه عربي

نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم؛ للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة.
وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير من منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من أهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة. والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجامن معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وأثاره وإعماله الخبيثة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ، وقد قال: " من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفاً ولا عدلا " .
ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبداً لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب. ولقد قال معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بن الحجاج بن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجراً تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم من قضاء معاوية. فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قال الله عز وجل: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ، وقال لداود صلى الله عليه وسلم وقد آتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض... " الآية إلى آخرها.
فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى؛ إنه سميع قريب.
وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زياداً ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد؛ وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه آثاره وإحيائه سنة، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى، وقد قال الله جل وعز: " فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون " .
فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم؛ فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب معاوية بن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة.
فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بإنقاذه،ثم كلم فيهم، فكف عنهم؛ وقد كان كتب إلى عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم.
وفيها كانت وفاة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وهو والٍ على المدينة، فولى مكانه محمد بن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزل وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل.

وفيها عزل بسطام بن عمرو بن السند، واستعمل عليها روح بن حاتم. وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بن منصور خال المهدي وزيراً له ومدبراً لأمره.
وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته؛ وكان ممن شخص معه يعقوب بن داود، على منزلته التي كانت له عنده؛ فأتاه حين وافى مكة الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانه، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالاً من الصوافي بالحجاز وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة؛ وذلك أن حجبة الكعبة - فيما ذكر - رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجردة، ثم طلي البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجاً ثخيناً جيداً، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن.
وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها - فيما ذكر - مالاً عظيماً، وفي أهل المدينة كذلك؛ فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله. وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه؛ فذكر عن مالك بن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي.
وأمر أيام مقامه بالمدينة بإثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرساً له بالعراق وأنصاراً، وأجرى عليهم أرزاقاً سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم.
وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية.
وفي هذه السنة حمل محمد بن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء.
وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم.
وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك. وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان. وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بن الحسن. وعلى خراسان معاذ بن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى السند روح بن حاتم. وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان من ذلك خروج حكيم القنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان - فيما ذكر - يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، فاستغوى بشراً كثيراً، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده؛ فيهم معاذ بن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيداً الحرشي، وضم إليه القواد؛ وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش.وفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام؛ فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق؛ فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتى بعبد الله بن مروان بن محمد - وكان يكنى أبا الحكم - فجلس المهدي مجلساً عاماً في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بن مسلم العقيلي، فصار معه قائماً، ثم قال له: أبو الحكم؟ قال: نعم ابن أمير المؤمنين، قال: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بن مروان. فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء.

قال: ولما حبس المهدي عبد الله بن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بن مروان قتل أباه؛ كذب والله ما قتل أباه غيري؛ أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بن مروان من دمه بريء. فزالت عن عبد الله بن مروان ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بن مسلم لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بن علي مرابطاً بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك.
وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولي ذلك يقطين بن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى. وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمة مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولى بناء ذلك محمد بن سليمان وهو يومئذٍ والي البصرة وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به.وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك.وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقه البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عدداً كثيراً، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بن موسى الحلبي. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟
ذكر السبب الذي من أجلهتغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بن شبة، أن سعيد بن إبراهيم حدثه أن جعفر بن يحيى حدثه أن الفضل بن ربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده؛ فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي؛ فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه.
قال الفضل: وكانت كتب أبي عبيد الله تصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه إلى المهدي بالوصاة به، وترك القبول فيه. قال: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به.
ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه؛ وبلغ ذلك من أخبره أبي.
قال: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي؛ فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني؛ هو صاحب الرجل؛ وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه؛ ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له. قال: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله؛ فما زال واقفاً حتى صليت العتمة، فخرج الحاجب،فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي. قال: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك.قال: اذهب فأخبره أن الفضل معي. قال: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضاً من لك! قال:

فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعاً، فدخلن أنا وأبي وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصل متكئ على وسادة،فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالساً إذا دنا، فلم يعلم،فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم ، قال: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قال: فقال أبي : إن الدروب لا تغلق دوني، قال: بلى قد أغلقت. قال: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره ، ويريد أن يسأله؛ قال: فأقيم. قال: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بن أبي عبيد الله مبيتاً.فلما رأى انه يريد أن يخرج من الدار،قال: فليس تفلق دروبي دوني فاعتزم. ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني،أنت أحمق ، قلت: وما حمقي أنا! قال: تقول لي: كان ينبغي لك ألا تجيئ، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وان تنصرف ولا تدخل؛ وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه؛ ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله؛ ولكن والله الذي لا إله إلا هو - وأستغلق في اليمين - لأخلعن جاهي ، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من عبيد الله. قال: ثم جعل يضرب بجهده، فلا يجد مساغاً إلى مكروهه، ويحنال الجد إذا ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجره، فأرسل إليه فجائه، فقال: إنك قد عملت ما ركبك به أبو عبيد الله،و بلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي؛ فما وجدت عليه طريقاً، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك... يقال:هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحدق الناس، أو يقال:هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس؛ لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهم موضع،أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فيس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل؛ وليس يتسلق عليه بذلك أن يقول: هو متهم؛ ولكن هذا كله مجتمع لكفي ابن؛ قال: فتناول الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن أبي عبيد الله؛ فوالله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي؛ حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، و أخرج أبو عبيد الله.فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قال: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين؛ وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قال: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع،فقال العباس بن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قال: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه قال: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي ، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد.
وذكر محمد بن عبد الله يعقوب بن داود، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب المهدي رجلاً من الأشعريين، فأوجعه، فتعصب أبو عبيد الله - وكان مولى لهم،فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي: يا يهودي،اخرج من عسكري لعنك الله. قال: مت أدري إلى أين أخرج إلا إلى النار! قال: قلت: يا أمير المؤمنين،أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قال: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر.
وفيها ولى نصر بن محمد بن الأشعث السند مكان روح بن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل، وولي مكانه محمد بن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة؛ فأتى نصر بن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله؛ وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة.
وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي؛ فكان هو وابن علاثة حبيب العدوى.
وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة،واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي.

وفيها استعمل عيسى بن لقمان على مصر وفيها ولي يزيد بن المنصور سواد الكوفة وحسان الشروي الموصل و بسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان.
وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الزير عمر بن مطرف.
وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه، و دفن في المقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي.
وفيها صرف أبان بن صدقة عن هارون بن المهدي إلى موسى، وجعله له كاتباً ووزيراً، وجعل مكانه مع هارون بن المهدي يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل محمد بن سليمان أبا ضمر عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بن رجاء.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بن محمد بن عبد الله الهادي ،وهو ولى عهد أبيه.
وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بن سليمان،وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بن المنصور.
ثم دخلت سنة اثنتين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر مقتل عبد السلام الخارجي فمن ذلك ما كان من مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين.
ذكر الخبر عن مقتله ذكر أن عبد السلام بن هاشم اليشكري هذا خرج بالجزيرة، وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة، منهم عيسى بن موسى القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد، فوجه إليه المهدي الجنود، فنكب غير واحد من القواد، منهم شبيب بنواج المروروذي، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس، أعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، وألحقهم بشبيب فوافوه ، فخرج شبيب في أثر عبد السلام، فهرب منهم حتى أتى قنسرين، فلحقه بها فقتله.
وفيها وضع المهدي دواوين الأزمة، وولي عليها عمر بن بزيع مولاه، فولى عمر بن يزيع النعمان بن عثمان أبا حازم زمام خراج العراق.
وفيها أمر المهدي أن يجري على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق.
وفيها ولى ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة، فلم يتم ذلك.
وفيها خرجت الروم إلى الحدث فهدموا سوارها.
وغزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثلاثين ألف مرتزق سوى المطعة،فبلغ حمة أذرولية، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم نمن غير أن يفتح حصناً،ويلقى جمعاً، وسمته الروم التنين.وقيل: إنه إنما أتى هذه الحمة الحسن ليستنقع قيها للوضح الذي كان به؛ ثم قفل بالناس سالمين. وكان على قضاء عسكره وما يجتمع من الفئ حفص بن عامر السلمي. قال: وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من باب قاليقلا، فغنم وفتح ثلاثة حصون، وأصاب سبيا كثيراً وأسرى.
وفيها عزل على بن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بن سليمان عن اليمن، وولى مكانه عبد الله بن سليمان.
وفيها عزل سلمة بن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بن لقمان، في المحرم، ثم عزل في جمادى الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي.
وفيها ظهرت المحمرة بجرجان، عليهم رجل يقال له عبد القهار، فغلب على جلجان، وقتل بشرأً كثيراً، فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن جعفر بن المنصور؛ وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحداً فيوليه إياه،فقال: يا أمير المؤمنين، عمداً أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية.
وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها. ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بن صفوان.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع؛وذلك أن سعيداً الحرشي حصر بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله ، فمات وماتوا - فيما ذكر - جميعاً، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه، ووجهوا به إلى المهدي وهو بجلب.
ذكر الخبر غزو الروم

وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، وأقام به نحواً من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود،وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفى عيسى بن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد. وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجهاً إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بن المهدي، وكاتبه يومئذ أيان بن صدقة؛ وعلى خاتمه عبد الله بن علاثة، وعلى حرسة علي بن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بن خازم؛ فذكر العباس بن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه؛ فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا فقدت فلا تحتشمتا. فقاللما حدثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا أمير المؤمنين.
وذكر إبراهيم بن زياد، عن الهيثم بن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بن قحطبة.
قال محمد بن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس؛ إذ جاء والحسن بن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعمته أنه راكب، فقال: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بن قحطبة: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بأن نخلي جميعاً بابك؛ فإما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك. قال: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الإستعفاء؛ لا كما فعل الحجام ابن الحجام - يعني عامر بن إسماعيل - وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله.
وذكر عبد الله بن أحمد بن الوضاح، قال: سمعت جدي أبا بديل، قال: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح بن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب؛ فلما فصل ودخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب. قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي. قال: فسر حتى تلحق به وبهما؛ واذكر ما تحتاج إليه. قال: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجاً؟ قال: قلت من غد، قال: فودعته وخرجت، فلحقت القوم. قال: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصواجة، وانظر إلى موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ وهما يتضاحكان منه. قال: فصرت إلى الربيع والحسن - وكنا لا نفترق - قال فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيراً؛ فقالا: إيه، وما الخبر؟ قال: قلت: موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلساً يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعة يدخلون عليه ويخلوه في سائر أيامه لما يريد! قال: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل. قال: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة. قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين. قال: فقلت ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا ، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنه ما نقص، أفلستم أول من نعى إليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة - يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل - فأتى به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة، قال:

فوالله لولا أني لولا أني رأيت العشر في تلك الأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة. قال: ووجه المهدي خالد بن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بن خالد - وكان أمر هارون كله إليه - وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك؛ وكان يشاورهما ويعمل برأيهما؛ ففتح الله عليهم فتوحاً كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاءً جميلاً، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد؛ وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركاً به، ونظراً إليه. قال: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلاً.
قال يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى ادن، فدنوت، ثم قال لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلاً لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به؛ إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره. قال: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونةً على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له.
قال: وأوفد الربيع بن سليمان بن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفداً، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم لذلك.
عزل عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وتولية زفر بن الحارثوفي هذه السنة؛ سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي.
ذكر السبب في عزله إياه ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلاً، ولا أصلح له قناطر. فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطاً، وأمر بأخذه بإقامة النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربى ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه. وأقام له العباس بن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة. ففعل، وأتاه بهم وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، وأشخص جماعة من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان. فسار هارون حتى نزل رستاقاً من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانياً وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريبٍ لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين؛ وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم؛ فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها.
وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه،ومعه العباس بن محمد والفضل بن صالح وعلي بن سليمان وخاله يزيد بن المنصور.
وفيها عزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بن منصور حتى رده عليها.
وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح بن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.
وفيها عزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بن زهير.

وفيها عزل يحيى الحرشى عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بن سعيد.
وفيها عزل سعيد بن دعلج عن طبرستان و الرويان، وولاهما عمر بن العلاء.
وفيها عزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن المهدي.
وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بن سليمان، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق - فيما ذكر - في نحو من تسعين ألفاً، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكريم ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق.
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بن داود على ما كان إلى محمد بن سليمان، ووجه معه عاصم بن موسى الخراساني الكاتب على الخراج وأمره بأخذ حماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان وعبيد الله بن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم.
وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصراً من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة؛ وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة.
وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجاً، فأقام برصافة الكوفة أياماً، ثم خرج متوجهاً إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء؛ لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى أشرفوا على الهلكة.
وفيها توفي نصر بن محمد بن الأشعث بالسند.
وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجواهر والعنبر ما أقر به، فرده إليه، واستعمل مكانه منصور بن يزيد بن منصور.
وفيها وجه المهدي صالح بن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس. فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها هاشم بن سعيد بن منصور، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس صالح بن داود بن علي، وعلى السند سطيح بن عمر، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى الموصل محمد بن الفضل. وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بن صالح، وإفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بن دعلج.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
غزوة هارون بن المهدي الصائفة ببلاد الروم

فمن ذلك غزوة هارون بن المهدي الصائفة، ووجهه أبوه - فيما ذكر - يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازياً إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبادره يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم. وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسة وتسعين ألفاً وسبع مائة وثلاثة وتسعين رجلاً، وحمل لهم من العين مائة ألف دينار وأربعة وتسعين ألفاً وأربع مائة وخمسين ديناراً، ومن الورق أحداً وعشرين ألف ألف وأربع مائة ألف وأربعة عشر ألفاً وثمانمائة درهم. وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون؛ وذلك أن ابنها كان صغيراً قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه؛ وذلك أنه دخل مدخلاً صعباً مخوفاً على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولاً إلى المهدي بما بذلك على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى. وكان الذي أفاء على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأساً، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفاً، وقتل من الأسارى صبراً ألفان وتسعون أسيراً. ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدراتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس. وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفاً بدرهم، فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:
أطفئت بقسطنطينية الروم مسنداً ... إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها، والحرب تغلي قدورها
وفيها عزل خلف بن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن أبي جعفر المنصور.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة هم عمالها في السنة الماضية؛ غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك قفول هارون بن المهدي؛ ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك - فيما قيل - أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية وألفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزي. وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين خزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.
وفيها عزل جعفر بن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود.
ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب

ذكر علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان داود بن طهمان - وهو أبو يعقوب بن داود - واخوته كتاباً لنصر بن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان؛ فلما كانت أيام يحيى بن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم؛ فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من أصحاب نصر، أتاه داود بن طهمان مطمئناً لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثاً بمرو، فلما فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر؛ فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب يجول البلاد منفرداً بنفسه، ومع إبراهيم بن عبد الله أحياناً، في طلب البيعة لمحمد بن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بن عبد الله كتب علي بن داود - وكان أسن من يعقوب - لإبراهيم بن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من اخوته مع إبراهيم؛ فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعلياً فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما. وكان معهما في المطبق إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن - وكانا لا يفارقانه - واخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك صداقة. وكان إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالح بني هاشم جميعاً، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلح إلا في بني هاشم؛ وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم؛ وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب؛ وكان هو ويعقوب بن داود يتجاريان ذلك؛ فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يوماً: لو وجدت رجلاً من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بن زيد، وله فقه فأجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بن زيد! فدل على يعقوب بن داود، فأتى به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة وكرابيس وكساء أبيض غليظ. فكلمه وفاتحه، فوجده رجلاً كاملاً، فسأله عن عيسى بن زيد؛ فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك؛ إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما كانت للسعاية بآل علي. ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة؛ فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ... خلبفة الله بين الدف والعود
قال: فحسده موالي المهدي،فسعوا عليه.
ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بن إبراهيم بن الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة. قال: ولما علم آل الحسن بن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه؛ وقد كاتبهم؛ وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل؛ فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.
قال علي بن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائماً على رأسه يوماً يذب عنه إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلاً يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت رجلاً يصلح لذلك. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمك إسحاق بن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير ،فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قال: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قال:

ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه.
وقال موسى بن إبراهيم المسعودي: قال المهدي: وصف لي يعقوب بن داود في منامي، فقيل لي أن أتخذه وزيراً. فلما رآه، قال: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيراً، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حيناً حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه - وكان حظياً عنده - فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي ، قال لي: قد بنى متنزهاً أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسي أحمد بن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بن داود، فبينا يعقوب بين يديه لببه، فضرب به الأرض، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين! قال: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون؛ فكان هذا أول سبب أمره.
قال: كان يعقوب بن داود قد عرف عن المهدي خلعاً واستهتاراً بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بن داود يصف من نفسه في ذلك شيئاً كثيراً، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلاً فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب؛ فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيراً! فيقول: نعم فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثاً، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.
قال: وقال لي الموصلي: قال يعقوب بن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بن يعقوب بن داود عن أبيه، قال: بعث إلي المهدي يوماً فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئاً أحسن منه؛ وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قواماً، ولا أحسن اعتدالاً، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك. فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به. قال: فدعوت له بما يجب. قال: ثم قال: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قال: فوثبت قائماً ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قال: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قال: والله - قلت والله ثلاثاً - قال: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قال: فضع يدك عليه واحلف به، قال: فوضعت يدي عليه، وحلفتله به لأعلمنبما قال، ولآقضين حاجته. قال: فلما استوثق مني في نفسه، قال: هذا فلان بن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك. قال: قلت: أفعل، قال فخذه إليك، فحولتهإ لي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.
قال: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.
قال: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قال: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قال: إن فعلت خيراً شكرت ولك عندي دعاء واستغفار. قال: فقلت له أي الطريق أحب إليك؟ قال: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قال: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحباً في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا - الذي اتفقوا عليه - في وقت كذا وكذا من الليل؛ وإذا الجارية قد حفظت علي قولي؛ فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت:

هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك؛ صنع وفعل كذا وكذا؛ حتى ساقت الحديث كله. قال:وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، وعلى السجية التي حكتها الجارية. قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني - قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوي بالاً حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة - فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: والله، ثم قال: قم فضع يدك على رأسي؛ قال فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به. قال: فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال: فبقيت متحيراً، وسقط في يدي، وامتنع مني الكلام، فما أدري ما أقول! فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق؛ ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري؛ حتى استرسل كهيئة شعور البهائم. قال: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث أيت هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قال: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قال: رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قال: نعم؛ قلت: ما أشك في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قال: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قال: قلت: المقام بمكة، قال: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قال: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ، قال: فراشداً. قال: فخرجت فكان وجهي إلى مكة. قال ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات.
قال محمد بن عبد الله: قال لي أبي: قال يعقوب بن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ إلا تحرجاً؛ ولكنه كان لا يشتهيه؛ وكان أصحابه عمر بن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قال: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك؛ أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قال: كان يقول: قد سمع عبد الله بن جعفر، قال: قلت: ليس هذا من حسناته؛ لو أن رجلاً سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعداً! وقال محمد بن عبد الله: حدثني أبي قال: كان أبي يعقوب بن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه؛ وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه؛ واستقبل وقدم النية في تركه موضعه. قال: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين؛ والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلي مما أنا فيه؛ وإني لأركب إليك فأتمنى يداً خاطئة تصيبني في الطريق، فاعفني وول غيري من شئت؛ فإني أحب أن أسلم عليك أنا وولدي؛ ووالله إني لأتفزع في النوم؛ وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضاً من آخرتي. قال: فكان يقول لي: اللهم غفراً! اللهم أصلح قلبه، قال: فقال شاعر له:
فدع عنك يعقوب بن داود جانباً ... وأقبل على صهباء طيبة النشر
قال عبد الله بن عمر: وحدثني جعفر بن أحمد بن زيد العلوي، قال: قال بن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بن داود جاريةً، وكان بضعف، قال: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الأرض مطية أوطأ منها حاشا سامع. فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.
وقال علي بن محمد النوفلي: حدثني أبي، قال:

كان يعقوب بن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلاً يحادثه ويسامره؛ فبينا هو ليلة عنده؛ وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي؛ وهو الأزرق الخفيف؛ وكان الطيلسان قد دق دقاً شديداً فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب فاستدبره فضربه ضربةً على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافياً؛ فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غداً عليه المهدي مع الفجر؛ وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أياماً ثلاثةً متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله؛ فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأتي عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في أصحابه : لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه. ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن بصر.
قال النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر ان يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.
وقال علي بن محمد: لما حبس يعقوب بن داود وأهل بيته، وتفرق عماله واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلاً وإلى يعقوب، فأتى به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت؛ وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قال: وتكذبني وترد على قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطاً ضرباً مبرحاً، وأمربه فرد إلى الحبس.
قال: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه. وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وأبوك الباقي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر؛ وأنت في البستان وأنا عندك؛ إذ دخل أبو الوزير - قال علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بن داود على ابنة صالح بن داود - فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قال: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكثت محبوساً أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم.
وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مكة واليمن؛ بغالاً وإبلاً؛ ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خرا سان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج بأمر المهدي.
وفيها أخذ داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن سليمان بن مجالد ومحمد بن أبي أيوب المكي ومحمد بن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلي سبيلهم، وبعث بداود بن روح إلى أبيه روح؛ وهو يومئذ بالبصرة عاملاً عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.
وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بن أبي عبيد الله الوزير - وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام - وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بزندقة. وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.
وفيها ولي إبراهيم بن يحيى بن محمد على المدينة؛ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الطائف ومكة عبيد الله بن قثم.
وفيها عزل المنصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي.
وفيها خلى المهدي عبد الصمد بن علي من حسبه الذي كان فيه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد.

وكان عامل الكوفة من هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى قضائها خالد بن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى نصر إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي. وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ولم يكن في هذه السنة صائفة؛ للهدنة التي كانت فيها.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

ذكر الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز - فيما ذكر - أحد بمثله إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها إبان بن صدقة على رسائله، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعاً مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، وعبد الله بن خازم على شرطه؛ فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشيروين، وأمر عليهم يزيد مزيد فحاصرهما.
وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، وولى الكوفة يومئذ روح بن حاتم، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن. وقيل إن عيسى بن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحاً يصلي على عيسى بن موسى؛ فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بن عيسى، فصلى على أبيه. وبلغ ذلك المهدي فغضب على روح، وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى؛ أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أوليس إنما ذلك مقامي لو حضرت. فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وأمر بمحاسبته؛ وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث.
وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده؛ وكان يكره التقدم عليه لجلالته.
وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور، فأقر - فيما ذكر - فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بن واقد؛ وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.
وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة.
وفيها توفي أبان بن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام؛ فدخلت فيه دور كثيرة. وولى بناء ما زيد فيه يقطين بن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان؛ وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي.
وفيها أظلمت الدنيا لليالٍ بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار.
ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.
وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيغ، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها.
وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي.
وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي.
وعلى مصر موسى بن مصعب. وعلى أفريقية موسى بن حاتم. وعلى طبرستان والرويان عمر بن العلاء، وعلى حرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي جرى بينهم وبين هارون بن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم؛ وذلك في شهر رمضان من هذه السنة؛ فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهراً، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذٍ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر بن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا.
وفيها وجه المهدي سعيداً الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل. وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة. وولى مكانه حمدويه، وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان.
وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد.
وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها.
وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط - وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته؛ يصلهم بذلك.
وفيها ولي المهدي على بن يقطين ديوان زمام الأزمة علي عمر بن بزيع.
وذكر أحمد بن موسى بن حمزة، عن أبيه، قال: أول من عمل ديوان الزمام عمر بن بزيع في خلافة المهدي؛ وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر؛ فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون على كل ديوان؛ فاتخذ دواوين الأزمة، وولي كل ديوان رجلاً، فكان واليه على زمام ديوان الخراج إسماعيل ابن صبيح؛ ولم يكن لبني أميه دواوين أزمة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن رليطه.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
ذكر الخبر عن خروج المهدي إلى ماسبذان. فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان.
ذكر الخبر عن خروجه إليها: ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.
وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره - وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه - قال: سأل علي بن يقطين المهدي أن يتغذى عنده، فوعده أن يفعل، ثم إعتزم على إتيان ماسبذان؛ فوالله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقاً، فقال له علي: يا أمير المؤمنين؛ إنك قد وعدتني أن تتغذى عندي غداً، قال: فاحمل غداءك إلى النهروان. قال: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.
وفيها توفى المهدي.
ذكر الخبر عن موت المهدي
ذكر الخبر عن سبب وفاتهاختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قال :خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر، وانصرفت إلى مضربي - وكان بعيدا ً من مضربه - فلما كان في السحر الأكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي؛ إذ لقيني أسود عريان على قتد رحل، فدنا مني؛ ثم قال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي؛ فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنابه مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد العصر؛ وهو أسر ما كان حالاً وأصحه بدناً، فما كان الخبر؟ قال: طردت الكلاب ظبياً، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.
وذكر أن علي بن أبي نعيم الروزي، قال:

بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم؛ وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له إنه مسموم. وحدثني أحمد بن محمد الرازي، أن المهدي كان جالساً في علية في قصر بماسبذان، ويشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية - وكان المهدي يعجبه الكمثرى - وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدي - وكان يتخطاها - تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رأى ورأى معها الكمثرى؛ دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.
وذكر عن عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب، قال: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فأمسكت به وما به علة،؛ فوالله ما أصبح إلا ميتاً، فرأيت حسنة وقد رجعت؛ وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأصبح ... ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده ... ر له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عم ... رت ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن ... كنت لابد تنوح
وذكر صالح أن علي بن يقطين، قال: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يوماً فقال: إني أصبحت جائعاً، فأتى بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قال: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق؛ فانتبهنا ببكائه؛ فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئاً، قال: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجةٍ ... وملكٍ إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولاتٍ حلائله
قال: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.
وكانت وفاته - فيما قال أبو معشر الواقدي - في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم؛ وكانت خلافته عشر سنين وشهراً ونصف شهر.
وقال بعضهم: وكانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوماً؛ وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
وقال هشام بن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليالٍ خلون منه؛ فملك عشر سنين وشهراً واثنين وعشرين يوماً، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ؛ وفي ذلك يقول بكار بن رباح:
ألا رحمة الرحمن في كل ساعةٍ ... على رمةٍ رمت بماسبذان
لقد غيب القبر الذي تم سوددا ... وكفين بالمعروف تبتدران
وصلى عليه ابنه هارون؛ ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.
وكان طويلاً مضمر الخلق، جعداً. واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.
وكان في عينه اليمنى - في قول بعضهم - نكتة بياض. وقال بعضهم: كان ذلك بعينه اليسرى.
وكان ولد بإيذج.
ذكر بعض سيرة المهدي وأخبارهذكر عن هارون بن أبي عبيد الله، قال: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة؛ فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: حدثني علي بن صالح، قال:

جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته ومن أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة؛ العشرة الآف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قال: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت. قال: كان يسرك أن أقتل؟ قال: لا، قال: فوالذي أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.
قال الحسن: وحدثني علي بن صالح، قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟ قال: إلى أبدٍ نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا؛ فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.
وذكر محمد بن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قال: كان هشام الكلبي صديقاً لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد؛ فكنت أراه في حالٍ رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته؛ فما راعني إلا وقد لقيني يوماً على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرةً، قال لي: نعم، أخبرك عنها، فاكتم؛ فبينما وأنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر؛ إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خالٍ ليس عنده أحد؛ وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه. ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه. قال: فنظرت في الكتاب؛ فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه؛ اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قال: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلباً عجيبا، لم يبق له فيه شيئاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قال: هذا صاحب الأندلس، قال: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته. قال: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قال: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب. قال: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكتاب من المهدي جواباً، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت؛ فلم أبق شيئاً حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس. قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.
قال الحسن: وحدثني مسور بن مساور، قال: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاماً صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنه عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي. قال: قال المهدي: ادنه، فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قال: قلت: نعم، قال: فادن مني، فدنوت حتى التزقت بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلت: أصلح الله القاضي! سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إلي بعد الخلافة. قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
قال: وحدثني عبد الله بن الربيع، قال: سمعت مجاهداً الشاعر يقول: خرج المهدي متنزهاً، ومعه عمر بن بزيع مولاه، قال: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟ قال: ما من شيء، قال: أرى كوخاً وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قال: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، قال: وكراث؟ قال: نعم، ماشئت وتمر. قال: فعدا نحو المبقلة ، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلاً كثيراً، وشبعاً، فقال المهدي لعمر بن بزيع: قل في هذا شعراً، فقال:

إن من يطعم الربيثاء بالزي ... ت وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أو بثنتي ... ن لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا...
لحقيق ببدرة أو بثنتي ... ن لحسن الصنيع أو بثلاث
قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وذكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أبو غانم، قال: كان زيد الهلالي رجلاً شريفاً سخياً مشهوراً من بني هلال؛ وكان نقش خاتمه: " افلح يا زيد من زكا عمله " . فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:
زيد الهلالي نقش خاتمه ... أفلح يا زيد من زكا عمله
قال: وقال حسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعاً خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمداً في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعدائنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك؛ قال: فما لبثنا إلا يسيراً حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.
وقال الموصلي: قال عبد الصمد بن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، إنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم؛ وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه؛ قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قال: يا أبا محمد ، إن الموالي يستحقون ذلك؛ وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك إلا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك؛ ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.
قال علي بن محمد: قال الفضل بن الربيع: قال المهدي لعبد الله بن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه؛ فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه. فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك. قال: أما سمعت قول الشاعر:
ومولاك لا يهضم لديك فإنما ... هضيمة مولى القوم جدع المناخر
قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بن مجاشع التيمي - من أهل مرو بقرية يقال لها باران - الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام ... " ، إلى آخر الآية. ثم كتب: والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارث الإمامة بعده. قال: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها. قال أبو الخطاب: فلم يزل في قلب أبي عبيد الله الوزير؛ فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية. قال: وقال الهيثم بن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المنصور شتمني وقذف أمي؛ فإما أمرتني أن أحله؛ وإلا عوضتني واستغفرت الله له. قال: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته؛ فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحماً وأوجب عليه حقاً، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع؛ وما أساء من انتصر لابن عمه. قال: إنه كان عدواً له، قال: فلم ينتصر للعداوة؛ وإنما انتصر للرحم؛ فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قال: لعلك أردت أمراً فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قال: نعم، قال: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
قال: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قال: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه! وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قال: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
وذكر أبو الأشعث الكندي، قال: حدثني بن عبد الله، قال: قال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة؛ فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم ثيابه! قال: فقرأ هذه الآية:

" فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " ، قال: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بن جعفر، وكان محبوساً عندي! قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلاموسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.
وذكر إبراهيم بن أبي علي، قال: سمعت سليمان بن داود، يقول: سمعت المهدي يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، في سورة النساء.
وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، قال: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم؛ فتقدم إليه رجل من آل الزبير؛ فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أميه، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي؛ وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها؛ منهم عمر بن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بن عبد العزيز؛ وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم يرد ردها، قال: وكل أفعال عمر ترضى؟ قال: وأي أفعاله لا ترضى؟ قال: منها أنه كان يفرض للسقط من بنى أمية في خرقه في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين. قال: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قال: نعم؛ قال: اردد على الزبير ضيعته.
وذكر عن عمر بن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قال: كتب المهدي إلى جعفر بن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة تهم بالقدر، فحمل إليه رجالاً؛ منهم عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وعبد الله بن يزيد بن قيس الهذلي، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي، وإبراهيم بن محمد بن أبي بكر الأسامي؛ فأدخلوا على المهدي، فانبرى له عبد الله بن أبي عبيدة بينهم؛ فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قال: لا، ذاك عمي داود. قال: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وكان به يدين. فأطلقهم.
وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك؛ وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد. قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم؛ فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا بن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي، قلت: فأنا بن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله؛ فابن من؟ قال: عباس؛ فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر. قال: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدي؛ فتحدث الناس بها حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: إني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه. وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.
وذكر أحمد بن الهيثم القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عطاء، قال: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم؛ أبناء سبيل، وأنضاء طريق؛ وصية الله ووصية الرسول؛ فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه الله في أهله! قال: فأمر نصيراً الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول:

كان أول من افترش الطبري المهدي؛ وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدى إليه الطبري من طبرستان، وجعل الثلج والخلاف حوله؛ حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.
وذكر محمد بن زياد، قال: قال المفضل: قال لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك. قال: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها؛ فوصلني وأحسن إلي.
قال علي بن محمد: كان الرجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه. فقال له يوماً: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي: لمن الديار بقنة الحجر فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر؛ فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.
وذكر أن أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض، فعاده المهدي؛ فإذا منزل رث وبناء سوء؛ وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن. قال: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته. وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين؛ وألا يميتني على فراشه حتى أقتل في طاعتك؛ وإني لواثق بألا أموت حتى أبلى الله في طاعتك ما هو أهله؛ فإنا قد روينا، قال: فأظهر له المهدي رأياً جميلاً، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك؛ فوالله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائناً ما كان؛ فقل وأوص. قال: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين؛ حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه. قال: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك؛ إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما. قال: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه؛ فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم. قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قال لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنياً بالذهب والفضة؛ وأنتم إذا وجدتم درهماً بنيتم بالساج والذهب.
وذكر أبو عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: خطب المهدي يوماً، فقال: عباد الله؛ اتقوا الله؛ فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله؛ فإنك تعمل بغير الحق. قال: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم؛ فلما أدخل عليه قال: يا ابن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قال: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قال: ما أراك إلا نبطياً، قال: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله. قال: فرئي الرجل بعد ذلك؛ فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي. قال: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام.
وقال هارون بن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قال: قال المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يداً سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
قال: وذكر خالد بن يزيد بن وهب بن جرير، أن أباه حدثه، قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ هجا صالح بن داود بن طهمان - أخا يعقوب بن داود - حين ولي البصرة، فقال:
هم حملوا المنابر صالحاً ... أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب بن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قال: ويلك! وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاد ذلك، قال: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
قال: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهدي فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.
وذكر عبد الله بن عمر. حدثني جدي أبو الحي العبسي، قال: لما دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ ... لبني البنات وراثة الأعمام
فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:

بسبعين ألفاً راشني من حبائه ... ومانالها في الناس من شاعر قبلي
وذكر أحمد بن سليمان، قال: أخبرني أبو عدنان السلمي، قال: قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعراً؟ قال: والبة بن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:
ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح
في القلب يفدح والحشا ... فالقلب مجروح النواحي
قال: صدقت والله ، قال: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قال: يمنعني والله من منادمته، قوله:
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على وجهك لي ساعةً ... إني امرؤ أنكح جلاسي
أفتريد أن يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي. قال: فأدخل عليه فأنشده شعراً يقول فيه: وجوارٍ زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قال: وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.
قال ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بن يزيد:
أنت بن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الخي والولج
والله لا تقول لي في مثل هذا أبداً، لا أسمع منك شعراً، وإن شئت وصلتك.
وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بن بكير المحاربي في ذلك:
يا إمام الهدى سقينا بك الغي ... ث وزالت عنا بك اللأواء
بت تعنى بالحفظ والناس نوا ... م عليهم من الظلام غطاء
رقدوا حيث طال ليلك فيهم ... لك خوف تضرع وبكاء
وقد عنتك الأمور منهم على الغف ... لة من معشر عصوا وأساءوا
وسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قد تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته في سواد ال ... ليل لله فاستجيب الدعاء
بثلوج تحيا بها الأرض حتى ... أصبحت وهي زهرة خضراء
وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك:
أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ... في القرب بين قريبنا والأبعد
إلا سمعت وأنت أكرم من مشى ... من منشدٍ يرجو جزاء المنشد
حل الصيام فصمته متعبدا ... أرجو ثواب الصائم المتعبد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما أكلف من نطاح المسجد
فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: أي قرابة بيني وبينك يا ابن اللخناء! قال: رحم آدم وحواء. فضحك منه وأمر له بجائزة.
وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، عن إبراهيم بن خالد بن المعيطي قال: دخلت على المهدي - وقد وصف له غنائي - فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني؛ وبلغني أنه قال: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن أدنيه من خلوتي ولا آنس به.
ولمعبد المغني النواقيس في هذا الشعر:
سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ... وأنى ترد القول بيداء سملق
وأنى ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق
وذكر قعنب بن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قال: رأيت حكماً الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له من في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفاً له يضربه، وقال: أنا القائل:
فمتى تخرج العرو ... س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم تقض لبسها
فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله.
وذكر علي بن محمد أنه سمع أباه يقول:

دخل المهدي بعض دوره يوماً فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها؛ وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع؛ فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه، فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك:
يوم نازعتها الصليب فقالت ... ويح نفسي أما تحل الصليبا!
قال: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجباً بهذا الصوت.
قال: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال: يا حبذا النرجس في التاج فأرتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجاً عليها فقلت: يا حبذا النرجس في التاج فتستطيع أن تزيد فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ولكن دعني أخرج فأفكر، قال: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال: على جبين لاح كالعاج وأتمها أبياتاً أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفاً، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف.
وذكر أحمد بن موسى بن مضر أبو علي، قال: أنشدني التوزي في حسنة جاريته:
أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي
وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، وبينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفاً في هيئة الغلمان. قال: وإني لأرى في صدرها شيئاً من ثدييها.
قال علي: وحدثني أبي، قال: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا؛ وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها - قل والٍ مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيراً حتى يعزل - ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقة تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما.
قال: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة. فلما ماتت - وذلك ببغداد - أظهر عليها المهدي جزعاً لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس من التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بن شيبة؛ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك.
وقد ذكر صباح بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً، وأعقبك صبراً، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمةً؛ ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك؛ وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده.
خلافة الهادي وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان؛ وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها؛ فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد. فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد البرمكي - وكان المهدي ولى هارون المغرب كله؛ من الأنبار إلى إفريقية؛ وأمر يحيى بن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها إلى أن توفي - قال: فصار يحيى بن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال:

لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا؛ ولكن أرى أن يوارى رحمه الله ها هنا؛ وتوجه نصيراً إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية؛ فإن البريد إلى نصير؛ فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز؛ مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول؛ فإنهم إن قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أوطانهم؛ ولا عرجة على شيء دون بغداد. قال: نفعل ذلك. وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان؛ فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا. وقدم هارون بغداد، فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما في ذلك؛ فأمل الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى.
قال: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا؛ وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتاباً يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه.
قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد - وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لاصبر لي على جر الحديد. قال: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك؛ فإني لأرجو ألا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله. قال: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما؛ فقالت له: نصحك والله. قال: فإني أحب أن أوصي إليك؛ فإني لا أدري ما يحدث. فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع لك ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب؛ ولكن أشرك معي في ذلك ابنك الفضل وهذه المرأة؛ فإنها جزلة مستحقة لذلك منك. ففعل الربيع ذلك وأوصى إليهم.
قال الفضل بن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بن محمد وعبد الملك بن صالح ومحرز بن إبراهيم ذلك؛ فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم؛ فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك؛ حتى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهراً؛ وذلك قبل قدوم هارون. فلما قدم - وكان هو خليفة موسى الهادي - ومعه الربيع وزيراً له وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي؛ وله بولاية العهد من بعده؛ وضبط أمر بغداد. وقد كان نصير الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له؛ فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جواداً ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بن جميل كاتب جنده. فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم؛ وقد كلن احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه؛ وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل؛ فتلقاه بما أعد له من الهدايا؛ فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي فاعتذر إليه؛ وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بن عيسى بن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطة عبد الله بن مالك مكان عبد الله بن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بن يقطين.
وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر في هذه السنة، سار - فيما ذكر عنه - من جرجان إلى بغداد في عشرين يوماً، فلما نزل القصر الذي يسمى الخلد؛ فأقام به شهراً، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول إلى عيساباذ.
وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور.

وقد ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتاً، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها:
يا بعيد المحل أم ... سى بجرجان نازلا
قال: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد؛ لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس.
وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة؛ فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان؛ ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء بن حداد الأعمى:
أيا أمين الله في خلقه ... ووراث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا ... حمراً تدوس البر والدوسر!
فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره. وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل.
وذكر عن علي بن محمد الهاشمي، قال: كان المهدي أتى بابن لداود ابن على زنديقاً، وأتى بيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب زنديقاً، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلاماً واحداً، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقه، أما يقعوب بن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك؛ فأما أن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الامر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد صلى الله عليه من كنت! هل كنت إلا إنساناً من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهداً إذا ولاني هذا الامر ألا أقتل هاشمياً لما ناظرتك ولقتلتك. ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الامر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة. فمات ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي؛ وأما يعقوب فبقي حنى مات المهدي. وقدم موسى من جرجان فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشأً، واقعدت الرجال عليه حتى مات. ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته؛ وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح. قال: ابعثوا به إلى أخيه إسحاق بن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن. فجعل في زورق واتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفاناً، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع.
وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى فاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك.
قال علي بن محمد: قال أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بن الفضل - وليست بهاشمية، يقال لها خديجة - على الهادي - أو على المهدي من قبل - فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت : أكرهني، فقالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور؛ إن كنت مكرهة! ولعنتهما. قال: وخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعاً، ضرب على رأسيهما بشيء يقال له الرعبوب. ففزعتا منه، فماتتا. وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بن إسماعيل بن الفضل؛ وكان رجلاً لا بأس به في دينه.
وفيها قدم ونداهرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان.
ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنة تسع وستين ومائةخروج الحسين بن علي بن الحسن بفخ ومما كان فيها خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المقتول بفخ.
ذكر الخبر عن خروجه ومقتلهذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام. قال:

ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم من مدينة السلام إلى خروج الحسين بن علي بن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً.
وذكر محمد بن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قال: كان إسحاق بن عيسى بن علي على المدينة، فلما مات المهدي واستخلف موسى، شخص إسحاق وافداً إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بن عيسى بن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بن عبد العزيز. وإن سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن كان أن عمر بن عبد العزيز لما تولى المدينة - كما ذكر الحسين بن محمد بن أبي حفص السلمي - أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعاً، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم؛ لأن أهل العراق لا يرون به بأساً، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يوماً وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعاً؛ وكانوا يعرضون، ففقد الحسن بن محمد، وكان الحسين بن علي كفيله.
قال محمد بن صالح: وحدثني عبد الله بن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض؛ فكان الحسين بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيلين بالحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن؛ وكان قد تزوج مولاةً لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بن الحسن؛ فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله؛ فسألهما عن الحسن بن محمد؛ فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى؛ فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قال لهما: أين الحسن بن محمد؟ قالا: والله ما ندري؛ إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس؛ فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض؛ فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره؛ حتى يعلم أنه قد جاءه به. فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسناً! حلفت له بشيء لا تقدر عليه. قال: إنما حلفت على حسن، قال: سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف. قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قال: قد كان الذي كان فلا بد منه.
وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم - فيما ذكروا - وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم - وممن كان بايع الحسين - متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا. وجاء يحيى بن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بن عمر فلم يجده أيضاً فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح؛ فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء؛ وجعل الناس يأتون المسجد؛ فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم للمرتضى من آل محمد. وأقبل خالد البربري؛ وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشروي؛ ومعهم ناس كثير؛ فيهم الحسين بن جعفر بن الحسين بن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتاً سيفه، وهو يصيح بحسين:

أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم؛ فقام إليه ابنا عبد الله بن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به. ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا. قال عبد الله بن محمد: هذا كله بعيني.
وذكر عبد الله بن محمد أن خالداً ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته إلى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه.
قال عبد الله بن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين بن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين: ارفقوا بالشيخ - يغني الحسين بن جعفر - وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء - وقيل: إن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بن مالك، يفرض بها من خزاعة - قال: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم؛ فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء، وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء. وفشت الجراحات بين الفريقين جميعاً، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركاً التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع الناس إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا. وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئاً من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أياماً يتجهزون. وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوماً، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا؛ وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل.
قال محمد بن صالح: فحدثني نصير بن عبد الله بن إبراهيم الجمحي، أن حسيناً لما انتهى إلى السوق متوجهاً إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال: لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت؛ لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملؤوه قذراً وبولاً؛ فلما خرجوا غسل الناس المسجد.
قال: وحدثني ابن عبد الله بن إبراهيم، قال: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قال: ونادى أصحاب الحسين بمكة: أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي؛ فكان معه؛ فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه؛ فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا.
وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل بيته؛ منهم محمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد وموسى بن عيسى، سوى من حج من الأحداث. وكان على الموسم سليمان بن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بن محمد! قال:

دعوني لا والله لا أخدع عن ملكي؛ فنفذ الكتاب بولاية محمد بن سليمان بن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج. وكان محمد بن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال؛ وذلك لأن الطريق كان مخوفاً معوراً من الأعراب؛ ولم يحتشد له الحسين؛ فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه. وكان موسى بن علي بن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بن محمد بن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة. ثم صاروا إلى ذي طوىً، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بن أبي جعفر؛ فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم. وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جداً. ثم قدم محمد بن سليمان قدامه تسعين حافراً ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكباً على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جداً وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوىً ونزلوا، وذلك يوم الخميس. فوجه محمد بن سليمان أبا كامل - مولى لإسماعيل بن علي - في نيفٍ وعشرين فارساً؛ وذلك يوم فلقيهم. وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجاً لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم؛ وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخاً بالأعمدة؛ فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارساً، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر؛ فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامساً، فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروا عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بن حميد بن رزين السمرقندي - وهو يومئذ شاب بن ثلاثين سنة - فذهبوا وهم خمسون فارساً؛ وذلك ليلة السبت. فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس؛ فكان العباس بن محمد وموسى بن عيسى في الميسرة، ومحمد بن سليمان في الميمنة؛ وكان معاذ بن مسلم فيما بين محمد بن سليمان والعباس بن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بن علي - أحدهم زنجويه غلام حسان - فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بن سليمان - وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم - وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها. فقتلوهم وهزموهم؛ وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بن عيسى وأصحابه؛ فكانت الصدمة بهم؛ فلما فرغ محمد بن سليمان ممن يليه وأسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بن عيسى؛ فإذا هم مجتمعون كأنهم كبة غزل، والتفت الميمنة والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين؛ فما شعروا وهم بذي طوىً أو قريباً منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولاً، وعلى قفاه ضربة أخرى؛ وكان الناس نادوا بالأمان حيث فرغوا،فجاء الحسن بن محمد أبو الزفت مغمضاً إحدى عينيه، وقد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس. فأمر به فقتل، فغضب محمد بن سليمان من ذلك غضباً شديداً. ودخل محمد بن سليمان مكة من طريق والعباس بن محمد من طريق، واحتزت الرؤوس؛ فكانت مائة رأس ونيفاً؛ فيها رأس سليمان بن عبد الله بن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بن أبي جعفر شاكياً فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بن جعفر الحج تلك السنة؛ وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبراً.
قال الحسين بن محمد بن عبد الله: وأسر موسى بن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبنى عجل آخر.
قال محمد بن صالح: حدثني محمد بن داود بن علي، قال: حدثنا موسى بن عيسى، قال: قدمت معي بستة أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت:

تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه. ثم قال: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا،وكان الثالث منكراً، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هذا أعلم الناس بآل أبي طالب؛ فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ إني أرجو أن يكون بقائي صنعاً لك. فأطرق ثم قال: والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد؛ فلم يزل يكلمه حتى أمر به أن يؤخر، وأمره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بن السابق القلاس الكوفي، وأن يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا أسرا بفخ. وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بن عيسى لقتله حسن بن محمد، وأمر بقبض أمواله.
وقال عبد الله بن عمر الثلجي: حدثني محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى، قال: أفلت إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وأنه دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، فخرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه؛ وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة. ثم إنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنوناً مسموماً قاتلاً، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته؛ فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله. وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس؛ فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر وأجاره، فقال بعض الشعراء - أظنه الهنازي:
أتظن يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخليفة أو يفيد فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة ... لا يهتدي فيها إليك نهار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وقصر دونها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع أمره ... حتى يقال: تطيعه الأقدار
وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن الحسين بن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمري لم يزل العمري متخفياً مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة. وكان معه الهادي وجه سليمان بن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بن محمد وموسى بن عيسى وإسماعيل بن عيسى بن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بن سلمان وعدة من ولد جعفر بن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي - وكان صاحب الأمر سليمان - ومن الوجوه المعروفين يقطين بن موسى وعبيد بن يقطين وأبو عمر بن مطرف؛ فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بن أبي جعفر لولايته؛ وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها؛ وقد كان العباس بن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لأرحامهم؛ وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب؛ وكان فيمن هرب يحيى بن وإدريس ابنا عبد الله بن حسن؛ فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه؛ فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بن إدريس؛ فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث.
قال المفضل بن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة. قال:

وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه؛ فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بن عيسى لقتله الحسن بن محمد بن عبد الله أبي الزفت؛ وتركه أن يقدم به أسيراً، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى. وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفيوعلي بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد؛ ففعل ذلك. قال: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين.
وذكر علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن - وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن - قال: كنت مع حسين أيام قدم علي المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفة؛ ووالله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئاً يلبسه إلا فرواً مل تحته قميص وإزار الفراش؛ ولقد كان في طريقه إلى المدينة؛ إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم. قال علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قال: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ، فصلى بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه؛ إذ أقبل خالد البربري في أصحابه؛ فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بن عبد الله، فشد عليه البربري؛ وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وأنفه، فقطع البيضة والقلنسوة، حتى نظرت إلى قحفه طائراً عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا. ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دماً، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه: يا أيها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم. قال: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيراً، فكانوا قد ملئوا المسجد؛ فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس؛ حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك؛ وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟. قال: نعم، قال: ابسط يدك فأبايعك، قال: فبايعه، ثم قال لابنه: ادن فبايع. قال: فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنىً، وذلك أني حججت في ذلك العام.
قال: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركاً التركي أرسل إلى حسين بن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة؛ ولكن لا بد من الإعذار؛ فبيتني فإني منهزم عنك. فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فوجه إليه الحسين - أو خرج إليه - في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره وصاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق موسى بن عيسى.
وذكر أبو المضرحي الكلابي، قال: أخبرني المفضل بن محمد بن المفضل بن حسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، أن الحسين بن علي بن حسن بن حسن، قال يومئذ في قوم لم يخرجوا معه - وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه - متمثلاً:
من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجباً ... موتاً على عجل أو عاش منتصفاً
لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ... لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفاً
وذكر الفضل بن العباس الهاشمي أن عبد الله بن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قال: دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفاً يلتمس عذراً من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعراً كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنه؟ قال: أنشدني، فأنشده، قال:

يا أيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على شحط المزار بها ... بيني وبين الحسين الله والرحم
وموقفٍ بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما تعرى له الذمم
عنفتم قومكم فخراً بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم ... من قومكم لهم من فضلها قسم
إني لأعلم أو ظناً كعالمه ... والظن يصدق أحياناً فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها ... قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومن لا تشبوا الحرب إذ خمدت ... ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ... وإن شارب كاس البغي يتخم
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً ... فرب ذي بذخ زلت به القدم
قال: فسرى موسى بن عيسى بعض ما كان فيه.
وذكر عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليلة يكتب كتاباً بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلاماً له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قال: فدنا من موسى، فلما رآه قال: ما لك؟ فاعتل عليه، قال: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال:
رقد الألى ليس السرى من شأنهم ... وكفاهم الإدلاج من لم يرقد
وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي؛ قال: حدثنا الأصمعي، قال: قال محمد بن سليمان ليلة فخ لعمرو بن أبي عمرو المدني - وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا أرمي ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين.
قال: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما فمات إلا بالبرص.
قال: ولما قتل الحسين بن علي وجاء برأسه يقطين بن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قال: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم. قال: فحرمهم ولم يعطهم شيئاً.
وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلاً:
قد أنصف القارة من رماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها
وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث؛ فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق، فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بن يحيى، فبلغ مدينة أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور.
وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان. وعلى قضائها عمر بن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان و الرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.
ثم دخلت سنة سبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك وفاة يزيد بن حاتم بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بن حاتم.
وفيها مات عبد الله بن مروان بن محمد في المطبق.
ذكر الخبر عن وفاة موسى الهاديوفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ. واختلف في السبب الذي كان بعد وفاته، فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه. وقال آخرون: كانت وفاته من قبل جوارٍ لأمه الخيزران؛ كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر بعضها.
ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله كانت أمرتهن بقتلهذكر يحيى بن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها؛ لما صارت إليه الخلافة، فصارت خالصة إليه يوماً، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها بخزانة مملوءة كسوة. قال:

ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر. قال: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل؛ فإنه ليس من قدر النياء الاعتراض في أمر الملك؛ وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك؛ ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيراً ما تكلمه في الحوائج؛ فكان يجيبها إلى كل ما تسأله حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها؛ فكانت المواكب تغدو إلى بابها؛ قال: فكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا، فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. قال: فغضب موسى وقال: ويل على بن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها؛ والله لا قضيتها لك، قالت: إذاً والله لا سألتك حاجة أبداً، قال: إذاً والله لا أبالي. وحمي وغضب. فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه؛ ولأقبضن ماله؛ فمن شاء فليلزم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك؛ ما فتحت بابك لملي أو لذمي. فانصرفت ما تعقل ما تطأ؛ فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.
قال يحيى بن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصة تقول للعباس بن الفضل بن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزةٍ، وقال: استطبتها فأكلت منها، فكلي منها. قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري؛ فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه؛ فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت: وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي؛ ولو أكلت لكنت استرحت منك، متى أفلح خليفة له أم! قال وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بن خالد: إن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر.
وذكر محمد بن عبد الرحمن بن بشار أن الفضل بن سعيد حدثه، عن أبيه، قال: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها في قضاء حوائجهم عنده، قال: وكانت تريد أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي؛ فكان يمنعها من ذلك ويقول: ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من قواده، قال يوماً وقد جمعهم: أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين؛ قال: فأيما خير؛ أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه؛ فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.
ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيدوكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك وجد - فيما ذكر صالح بن سليمان - أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر يحيى بن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب؛ فأراد الهادي خلع هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بن موسى الهادي، وتابعه على ذلك القواد؛ منهم يزيد بن مزيد وعبد الله بم مالك وعلي بن عيسى ومن أشبههم؛ فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بن موسى، ودسوا إلى الشيعة؛ فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر؛ وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس وتركوه؛ فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه.

وكان يحيى بن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده - فيما ذكر. قال صالح: وكان إسماعيل بن صبيح كاتب يحيى بن خالد، فأحب أن يضعه موضعاً يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي؛ وبلغ ذلك يحيى بن خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها؛ فلما كان بعد أشهر سأل الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قال: فلان كاتب، وسماه، فقال: أليس بلغني أن إسماعيل بن صبيح كاتبك؟ قال: باطل يا أمير المؤمنين؛ إسماعيل بحران.
قال: وسعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف؛ وإنما يفسده يحيى بن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده بالقتل؛ وارمه بالكفر؛ فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بن خالد.
وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى بن خالد حدثه، قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلاً، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه، ولم يشك أنه يقتله؛ فلما أدخل عليه، قال: يا يحيى، ما لي ولك! قال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين؛ فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قال: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره؛ فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك. قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئاً، ولا ذلك فيه ولا عنده. قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفساً بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم جعفر وجداً شديداً، فقال له يحيى: وأين ذلك من الخلافة! ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع؛ ومنعه من الإجابة.
قال الكرماني: فحدثني صالح بن سليمان، قال: بعث الهادي إلى يحيى بن خالد وهو بعيساباذ ليلاً، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه؛ وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر في يده، وقال: هذا أمانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر بذلك.
قال: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه كان إبراهيم الموصلي.
قال صالح بن سليمان: قال الهادي يوماً للربيع: لا يدخل علي يحيى بن خالد إلا آخر الناس. قال: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له. قال: فلما جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد بن علي والعباس بن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من إكرامه إياه وقوله؛ فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي يقول فيك يا يحيى:
لو يمس البخيل راحة يحيى ... لسخت نفسه ببذل النوال
قال: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قال: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين؛ إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم؛ وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت؛ ولي في هذا تدبير.
قال الكرماني: وحدثني خزيمة بن عبد الله، أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر؛ وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى - قال: وكان يقول: ما كلمت أحداً من الخلفاء كان أعقل من موسى - قال: وقال له:

لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله؛ فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده. قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه. وذكر الموصلي عن محمد بن يحيى، قال: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده؛ وأجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه. وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له؛ فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يوماً حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده ألسنتهم فيه؛ والفضل بن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب إليه بذلك، وانصرف وطال الأمر.
قال الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بن خالد، قال: بعثت الخيزران عاتكة - ظئراً كان لهارون - إلى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها. قال: فصاح بها وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم. قال: ولما لم ير الهادي يحيى بن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من إكرام وإقطاع وصلة، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه. قال: فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد؛ لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره.
وذكر محمد بن القاسم بن الربيع، قال: أخبرني محمد بن عمرو الرومي، قال: حدثني أبي، قال: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوساً خاصاً، ودعا بإبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة الحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان؛ وكان يثق به ويقدمه؛ فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يده، وجلس عن يمينه بعيداً من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت من بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى؛ إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت؛ وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي؛ فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت،وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي. قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر؛ ادن مني، فدنا منه، فقبل يده، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل - أعني أباك المنصور - لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار؛ وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة؛ فيأخذ جميع ما أراد. قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: أدن دابته إلى البساط. قال عمر الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال الهادي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيباً وإلى هارون قضيباً، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلاً؛ فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره. فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري - وكان يكنى أبا سفيان - فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعاً، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة؛ وتكون أيامه أحسن أيام. قال: ولم يلبث إلا أياماً يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى؛ ووفى بكل ما قال؛ وكان دهره أحسن الدهور.

وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة؛ حديثة الموصل؛ فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف. فذكر عمرو اليشكري - وكان في الخدم - قال: انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقاً وغرباً بالقدوم عليه؛ فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه. ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا. ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي؛ وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى أن هلك؛ فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتباً إلى الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون؛ فلما مات الهادي أنفذوها على البرد.
وذكر الفضل بن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة ، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة؛ فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب. فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة؛ قال: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون.
قال الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قال: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي.
ذكر يحيى بن الحسن أن محمد بن سليمان بن علي حدثه، قال: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة؛أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه؛ قالت: إن كان موت موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لسادتي أربع مائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد. قالت هاتوا الرحائل، فما جلوسي ها هنا؛ وقد مضى! فلحقته ببغداد.
ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه قال أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول؛ حدثنا بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق. وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول. وقال هشام بن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة. وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يوماً منه؛ وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وقال هشام: ملك أربعة عشر شهراً، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهراً واثنين وعشرين يوماً. وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول - أو ليلة الجمعة - وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهراً وثلاثة وعشرين يوماً، وصلى عليه أخوه هارون بن محمد الرشيد. وكان كنيتة أبو محمد، وأمه الخيرزان أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.
وذكر الفضل بن إسحاق أنه كان طويلاً جسيماً جميلاً أبيض، مشباً حمرة؛ وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبقن وكان قد ولد بالسيروان من الري.
ذكر أولاده وكان له من الأولاد تسعة؛ سبعة ذكور وابنتان، أما الذكور فأحدهم جعفر - وهو الذي يرشحه للخلافة - والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم من أمهات أولاد. وكان الأعمى - وهو موسى - ولد بعد موت أبيه. والابنتان؛ إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والأخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوتة.
ذكر بعض أخباره وسيرته ذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي الندي أبو طوطة، قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، وركب البريد إلى بغداد؛ ومعه سعيد بن سلم، ووجهي إلى خراسان؛ فحدثني سعيد بن سلم، قال: سرنا بين أبات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتاً من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطتة:

علي بالرجل الساعة، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في منتزه له ومعه حرمه؛ فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت؛ فأتى به؛ فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل.فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المنتزه، فجلس مجلس الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال له: يا سليمان؛ الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله. قال: فقال يا موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده فقال: لا تعرض للرجل.
وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى المهدي؛ أن على ابن صالح حدثه؛ أنه كان يوماً على رأس الهادي وهو غلام - وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام - فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام؛ فالتفت إلي، وقال: يا علي ، ائذن للناس، علي بالجفلي لا بالنقري، فخرجت من عنده أطير على وجهي. ثم وقفت فلم أدري ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني؛ قبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلى النقري، فقال: الجفلى جفالة، والنقري ينقر خواصتهم. فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم؛ فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل؛ فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئاً يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام؛ فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قال: وحدثني علي بن صالح، قال: ركب الهادي يوماً يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعرضه عمر بن بزيغ، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قال: الظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قال: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها أن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله.
وذكر عن عبد الله بن مالك، أنه قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضرهم؛ وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم؛ ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي. قال: فلما ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف؛ فبعث إلي يوماً، فدخلت عليه متكفناً متحنطاً؛ وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يوماً بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؛ وفي فلان وفلان - وعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشداً فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكراً في أمري وأمره، وقلت:

حدث يشرب، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه؛ فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في ، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه. قال: فإني لجالس وبين يديه بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسنخه وأضعه للصبية؛ وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت؛ فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم؛ فلما رأيته وثبت عن مجلس مبادراً، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك إني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل؛ لتعلم أني قد تحرمت والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي. فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال؛ لعلي أحتاج إليها يوماً لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعاً.
فذكر موسى بن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال؛ وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها.
وذكر محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود بن طهمان السلمي. قال: أخبرنيأبي، قال: كان علي بن عيسى بن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة؛ وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى؛ فإنه دخل إلى الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قال: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي؛ يمسني به مساً إلى أن عد مائة، وخرج. فقال له: ما صنعت بالرجل؟ قال: صنعت به ما أمرت. قال: فما حاله؟ قال: مات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ويلك! فضحتني والله عند الناس؛ هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بن داود! قال: فلما رأى شدة جزعه، قال: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، الحمد لله على ذلك.
قال: وكان الهادي قد استخلف على حجابته بعد الربيع ابنه الفضل، فقال له: لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمراً إذا كشفته أصبته باطلا؛ فإن ذلك يوقع الملك، ويضر الرعية.
وقال موسى بن عبد الله: أتى موسى برجل، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري يوجب علي ذنباً؛ ولكني أقول:
فإن كنت ترجو في العقوبة رحمةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
قال: فأمر بإطلاقه.
وذكر عمر بن شبة أن سعيد بن سلم كان عند موسى الهادي، فدخل عليه وفد الروم وعلى سعيد بن سلم قلنسوة - وكان قد صلع وهو حدث - فقال له موسى: ضع قلنسوتك حتى تتشايخ بصلعتك.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن أباه حدثه، قال: خرجت إلى عيساباذ أريد الفضل بن الربيع، فلقيت موسى أمير المؤمنين وهو خليفة؛ وأنا لا أعرفه؛ فإذا هو في غلالة على فرس، وبيده قناة لا يدرك أحداً إلا طعنه. فقال لي: يا بن الفاعلة! قال: فرأيت إنساناً كأنه صم، وكنت رأيته بالشام، وكان فخذاه كفخذي بعير، فضربت يدي إلى قائم السيف، فقال لي رجل: ويلك! أمير المؤمنين، فحركت دابتي - وكان شهرياً حملني عليه الفضل بن الربيع، وكان اشتراه بأربعة آلاف درهم - فدخلت دار محمد بن القاسم صاحب الحرس، فوقف على الباب، وبيده القناة، وقال: اخرج يا بن الفاعلة ! فلم أخرج، ومر فمضى. قلت للفضل: فإني رأيت أمير المؤمنين؛ وكان من القصة كذا وكذا، فقال: لا أرى لك وجهاً إلا ببغداد؛ إذا جئت أصلي الجمعة فالقني، قال: فما دخلت عيساباذ حتى هلك الهادي.
وذكر الهيثم بن عروة الأنصاري أن الحسين بن معاذ بن مسلم - وكان رضيع موسى الهادي - قال:

لقد رأيتني أخلو مع موسى، فلا أجد له هيبةً في قلبي عند الخلوة، لما كان يبسطني. وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فإذا تلبس لبسة الخلافة ثم جلس مجلس الأمر والنهي قمت على رأسه؛ فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة له.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن محمد بن سعيد بن عمر بن مهران، حدثه عن أبيه، عن جده، قال: كانت المرتبة لإبراهيم بن سلم بن قتيبة عند الهادي، فمات ابن لإبراهيم يقال له سلم، فأتاه موسى الهادي يعزيه عنه على حمار أشهب، لا يمنع مقبل ولا يرد عنه مسلم؛ حتى نزل في رواقه، فقال له: يا إبراهيم، سرك هو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة. فقال: يا أمير المؤمنين، ما بقي مني جزء كان فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء. قال: فلما مات إبراهيم صارت المرتبة لسعيد بن سلم بعده.
وذكر عمر بن شبة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كان يلقب بالجرزي، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية - وكانت تحت المهدي - فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي صلى الله عليه وسلم؛ فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقى ناحية؛ وكان في يده خاتم سري فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح. وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي، مع استخفافه بأبي، وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسله، ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك. ففعل ذلك موسى، فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن عمي؛ لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه.
وذكر أبو إبراهيم المؤذن، أن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان النهدي يسميه ريحاني.
وذكر محمد بن عطاء بن الواسطي، أن أباه حدثه أن المهدي قال لموسى يوماً - وقد قدم إليه زنديق، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الآمر فتجرد لهذه العصابة - يعني أصحاب ماني - فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجاً وتحوباً، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور؛ فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الإثنين. قال: فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عيناً تطرف.
ويقال: إنه أمر أن يهيأ له ألف جدع، فقال: هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.
وذكر أيوب بن عنابة أن موسى بن صالح بن شيخ، حدثه أن عيسى بن دأب كان أكثر أهل الحجاز أدباً وأعذبهم ألفاظاً؛ وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن عنده لأحد؛ وكان يدعو له بمتكأ، وما كان يفعل ذلك بأحد غيره في مجلسه. وكان يقول: ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك. وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له. قال: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار؛ فلما أصبح ابن دأب وجه قهرمانة إلى باب موسى، وقال له: الق الحاجب، وقل له: يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب، فأبلغه رسالته؛ فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج له كتاباً إلى الديوان، فتدبره هناك ثم تفعل فيه كذا وكذا. فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولا تعرض لها، ولا تسأل عنها. قال: فبينا موسى في مستشرف له ببغداد، إذ نظر إلى دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد! فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب؛ ما غير من حاله، ولا تزين لنا؛ وقد بررناه بالأمس ليرى أثرنا عليه! فقال له إبراهيم: فإن أمرني أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا؛ قال:

لا، هو أعلم بأمره؛ ودخل ابن دأب، فأخذ في حديثه إلى أن عرض له موسى بشيء من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلاً، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، قال: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك! قال: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأحضرت وحملت بين يديه.
وذكر علي بن محمد، أن أباه حدثه عن علي بن يقطين، قال: إني لعند موسى ليلة مع جماعة من أصحابه؛ إذ أتاه خادم فسار بشيء، فنهض سريعاً، وقال: لا تبرحوا، ومضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس، فألقى بنفسه على فراشه يتنفس ساعة حتى استراح، ومعه خادم يحمل طبقاً مغطى بمنديل، فقام بين يديه، فأقبل يرعد، فعجبنا من ذلك. ثم جلس وقال للخادم: ضع ما معك، فوضع الطبق، وقال: ارفع المنديل، فرفعه فإذا في الطبق رأساً جاريتين؛ لم أراد والله أحسن من وجوههما قط ولا من شعورهما، وإذا على رءوسهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما تتحابان قد اجتمعتا على الفاحشة، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إلي أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعتا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد على الفاحشة فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارفع الرأسين قال: ثم رجع في حديثه كأنه لم يصنع شيئاً.
وذكر أبو العباس بن أبي مالك اليمامي أن عبد الله بن محمد البواب، قال: كنت أحجب الهادي خليفةً للفضل بن الربيع، قال: فإنه ذات يوم جالس وأنا في داره، وقد تغدى ودعا بالنبيذ، وقد كان قبل ذلك دخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: أذكريني به قبل أن أشرب، قال: فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة - أو زهرة - تذكره، فقال: اختاري له طلاق ابنته عبيدة أو ولاية اليمن، فلم تفهم إلا قوله: اختاري له فمرت، فقالت: قد اخترت له ولاية اليمن، فطلق ابنته عبيدة، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فأعلمته الخبر، فقال: أنت اخترت له، فقالت: ما هكذا أديت إلي الرسالة عنك. قال: فأمر صالحاً صاحب المصلى أن يقف بالسيف على رءوس الندماء ليطلقوا نساءهم،فخرج إلي بذلك الخدم ليعلموني ألا آذن لأحد. قال: وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه، يراوح بين قدميه، فعن لي بيتان، فأنشدتهما وهما:
خليلي من سعد ألما فسلما ... على مريم، لا يبعد الله مريما
وقولا لها : هذا الفراق عزمته ... فهل من نوالٍ بعد ذلك فيعلما!
قال: فقال لي الرجل المتلفع بطيلسانه: فنعلما، فقلت: ما الفرق بين يعلما ونعلما؟ فقال: أنا أعلم بالشعر منك، قال: فلمن الشعر؟ قلت: للأسود بن عمارة النوفلي، فقال لي: فأنا هو؛ فدنوت منه فأخبرته خبر موسى، واعتذرت إليه من مراجعتي إياه. قال: فصرف دابته، وقال: هذا أحق منزل بأن يترك. قال مصعب الزبيري: قال أبو المعافي: أنشدت العباس بن محمد مديحاً في موسى وهارون:
يا خيزران هناك ثم هناك ... إن العباد يسوسهم إبناك
قال: فقال لي: إني أنصحك، قال اليماني: لا تذكر أمي بخير ولا بشر.
وذكر أحمد بن صالح بن أبي فنن، قال: حدثني يوسف الصقيل الشاعر الواسطي، قال: كنا عند الهادي بجرجان قبل الخلافة ودخوله بغداد، فصعد مستشرفا له حسناً؛ فغنى بهذا الشعر:
واستقلت رجالهم ... بالرديني شرعا
فقال: كيف هذا الشعر؟ فأنشدوه، فقال: كنت أشتهي أن يكون هذا الغناء في شعر أرق من هذا، اذهبوا إلى يوسف الصقيل حتى يقول فيه، قال: فأتوني فأخبروني الخبر، فقلت:
لا تلمني أن اجزعا ... سيدس قد تمنعا
وابلائي إن كان ما ... بيننا قد تقطعا
إن موسى بفضله ... جمع الفضل أجمعا
قال: فنظر فإذا أمامه، فقال: أوقروا هذا دراهم ودنانير، واذهبوا بها إليه. قال: فأتوني بالبعير موقراً.
وذكر محمد بن سعد، قال: حدثني أبو زهير، قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج الفضل بن الربيع يوماً، فقال:

إن أمير المؤمنين يأمر من بابه بالانصراف؛ فأما أنت يا بن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه؛ وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل، فقال لي: حدثني بحديث في الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت رجله من كنانة ينتجعون الخمر من الشأم، فمات أخ لأحدهم، فجلسوا عند قبره يشربون، فقال أحدهم:
لا تصرد هامةً من شربها ... أسقه الخمر وإن كان قبر
أسق أوصالاً وهاماً وصدى ... قاشعاً يقشع قشع المبتكر
كان حراً فهوى فيمن هوى ... كل عود وفنون منكسر
قال: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الحراني بأربعين ألف درهم، وقال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفاً للثلاثة الأبيات. قال: فأتيت الحراني، فقال: صالحنا على عشرة آلاف، على أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها لأمير المؤمنين، حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها حتى أفضت الخلافة إلى الرشيد.
وذكر أبو دعامة أن سلم بن عمرو الخاسر مدح موسى الهادي، فقال:
بعيساباذ حر من قريش ... على جنباته الشرب الرواء
يعوذ المسلمون بحقوتيه ... إذا ما كان خوف أو رجاء
وبالميدان دور مشرفات ... يشيدهن قوم أدعياء
وكم من قائلٍ إني صحيح ... وتأبه الخلائق والرواء
له حسب يضن به ليبقى ... وليس لما يضن به بقاء
على الضبي لؤم ليس يخفي ... يغطيه فينكشف الغطاء
لعمري لو أقام أبو خديج ... بناء الدار ما انهدم البناء
قال: وقال سلم الخاسر لما تولى الهادي الخلافة بعد المهدي:
لقد فاز موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد
فمات الذي عم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد
وقال أيضاً:
تخفى الملوك لموسى عند طلعته ... مثل النجوم لقرن الشمس إذ طلعا
وليس خلق يرى بدراً وطلعته ... من البرية إلا ذل أو خضعا
وقال أيضاً:
لولا الخليفة موسى بعد والده ... ما كان للناس من مهديهم خلف
ألا ترى أمة الأمى واردةً ... كأنها من نواحي البحر تغترف
من راحتي ملك قد عم نائله ... كأنه نائله من جوده سرف
وذكر إدريس بن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة حدثه، قال: لما ملك موسى الهادي دخلت عليه فأنشدته:
إن خلدت بعد الاٍمام محمد ... نفسي لما فرحت بطول بقائها
قال: ومدحت فقلت فيه:
بسبعين ألفاً شد ظهري وراشني ... أبوك وقد عاينت من ذاك مشهدا
وإني أمير المؤمنين لواثق ... بألا يرى شربي لديك مصردا
فلما أنشدته قال: ومن يبلغ مدى المهدي! ولكنا سنبلغ رضاك. قال: وعاجلته المنية فلم يعطني شيئاً، ولا أخذت من أحد درهماً حتى قام الرشيد.
وذكر هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني أبو غزية، عن الضحاك بن معن السلمي، قال: دخلت على موسى فأنشدته:
يا منزلي شجو الفؤاد تكلما ... فلقد أرى بكما الرباب وكلثما
ما منزلان على التقادم والبلى ... أبكي لما تحت الجوانح منكما
ردا السلام على كبير شاقة ... طللان قد درسا فهاج فسلما
قال: ومدحته فيها، فلما بلغت:
سبط الأنامل بالفعال أخاله ... أن ليس يتركفي الخزائن درهماً
التفت إلى أحمد الخازن ، فقال: ويحك يا أحمد! كأنه نظر إلينا البارحة، قال: وكان قد أخرج تلك الليلة مالاً كثيراً ففرقه.
وذكر عن إسحاق الموصلي - أو غيره - عن إبراهيم، قال: كنا يوما عند موسى، وعنده ابن جامع ومعاذ بن الطيب - وكان أول يوم دخل علينا معاذ؛ حاذقاً بالأغاني، عارفاً بقديمها - فقال: من أطربني منكم فله حكمه؛ فغناه ابن جامع غناءً فلم يحركه، وفهمت غرضه في الأغاني، فقال هات يا إبراهيم، فغنيته:
سليمى أجمعت بينا ... فأين تقولها أينا!
فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال:

هذا غرضي فاحتكم، فقلت يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك. ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أكره. ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: ماءة بدرة، قال: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى أؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قال: الآن جئت بالحق، فشأنك. فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي.
وذكر علي بن محمد، قال: حدثني صالح بن علي بن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قال كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذي يقل ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جداً. قال: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غنائي صوتاً في الطريق الذي أشتهيه، فهن له كلهن. قال: وكان فيه خلق حسن؛ كان إذا كره شيئاً لم يوقف عليه، وأعرض عنه. فغناه ابن الجامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم؛ فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي فصاح أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك؛فانظر فيها بما شئت. فقال: هنأك الله، ووددنا أنا زدناك. ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهماً واحداً.
وذكر محمد بن عبد الله، قال: قال لي سعيد القارئ العلاف - وكان صاحب أبان القارئ - : إنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد بن سلم وغيرهما؛ وكانت جارية لموسى تسقيهم؛ وكانت ماجنةً، فكانت تقول لهذا: يا جلفي؛ وتعبث بهذا وهذا؛ ودخل يزيد بن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير؛ لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول؛ فإياك. قال: فأمسكت عنه ولم تعابثه قط. قال: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين.
وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب، قال: حدثني ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها لإلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قال: هذه لموسى أصلح، فوهبها له؛ فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم إن بعض أعداء الربيع قال لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كأساً فيها شراب عسل؛ قال: فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي؛ مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذراً. فشربتها. وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده. ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها علي بن الرشيد.

وزعم الفضل بن سليمان بن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بن بزيع، وأقر الربيع على الزمام؛وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد؛ وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بن سليم، وولى إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، خال الفضل بن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قال: أريد قتل الربيع؛ فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بن سلم: تأمر رجلاً باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم تأمر بقتل ذلك الرجل. قال: هذا الرأي، فأمر رجلاً فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام؛ فمات ميتة نفسه.
وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة؛ وهو الربيع بن يونس.
خلافة هارون الرشيدبويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي. وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة. وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة. وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور.
وأما البرامكة فإنها - فيما ذكر - تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة؛ وكان الفضل بن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئراً للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
وذكر سليمان بن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بن أعين هارون الرشيد ليلاً فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن برمك - وكان محبوساً، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة - قال: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب؛ فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بن القاسم، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات.
وذكر أحمد بن القاسم، أنه حدثه عمه علي بن يوسف بن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضراً يحمل دواة أبي يوسف بن القاسم، فحفظ الكلام. قال: قال بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق؛ وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قوياً عزيزاً؛ فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى؛ عن أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم. وبكم استنقذكم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به؛ فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم. وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيداً مرضياً أمير المؤمنين رءوفاً بكم رحيماً، من محسنكم قبولاً، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفاً؛ وهو - أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما اترعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم. وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهراً، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحامل باقي ذلك؛ للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال؛ حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله وجددوا شكراً يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم؛ بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته. وارغبوا إلى الله له في البقاء؛ ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون. وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن هشام المخزومي، قال: جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار؛ لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجاباً منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل؛ فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه. قال: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قال: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قال ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قال: قد فعلت؛ ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد؛ وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي. قال: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشط جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد؛ وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين. فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير؛ فوقف حتى جاز جعفر؛ فكان هذا سبب قتل أبي عصمة.
قال: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتماً شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي؛ فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي. فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع. فغاصوا فأخرجوه، فسر به غاية السرور.
وقال محمد بن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر؛ وكان عبد الله بن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة بن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفراً من فراشه؛ وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كان لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها؛ والخلافة لعمي هارون؛ ولا حق لي فيها.
وكان سبب مشي عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود؛ لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له:

كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله؛ ليس فيه حيلة. فحج ماشياً. وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد.
وذكر أن الرشيد كان ساخطاً على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بن خالد في داره، فكلم فيه محمد بن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك.
وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها ولد محمد بن هارون الرشيد، وكان مولده - فيما ذكر أبو الكرماني عن محمد بن يحيى بن خالد - يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليلة الجمعة النصف من شهر ربيع الأول.
وفيها قلد الرشيد يحيى بن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه؛ وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى ... فهارون واليها ويحيى وزيرها
وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها.
وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية.
وفيها آمن من كان هارباً أو مستخفياً، غير نفر من الزنادقة؛ منهم يونس بن فروة ويزيد بن الفيض.
وكان ممن ظهر من الطالبيين طبابا؛ وهو إبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحداً وسميت العواصم.
وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيراً، وقسم فيهم مالاً جليلاً.
وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بن رزين:
بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله ... وأكثر ما يعني به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج
وإن أمين الله هارون ذا الندى ... ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو
وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بن عبد الله البكائي.
وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى الكوفة موسى بن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفاً عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيراً حتى توفي. فدفع الخاتم إلى يحيى بن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان.
وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بن فروخ - وكان على الجزيرة - فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد.
وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بن عبد الله فيمن أشخص.
وخرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.
وفي هذه السنة كان قدوم روح بن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتاداً بها منزلا ينزله.
ذكر السبب في ذلك ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد.
وفيها عزل الرشيد يزيد بن مزيد عن إرمينية، وولاها عبيد الله بن المهدي.
وغزا الصائفة فيها إسحاق بن سليمان بن علي.
وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بن أبي جعفر المنصور.
وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وفاة سليمان فمن ذلك وفاة محمد بن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها.
وذكر أنه لما مات محمد بن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلاً أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلاً، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجلٍ من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولميتركوا شيئاً إلا الحرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك؛ فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال؛ فإنه أمر بصكاك فكتب للندماء، وكتب للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكاً بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع؛ لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه؛ وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة.
وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: لما مات محمد بن سليمان أصيب في خزانة لباسه مذ كان صبياً في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين؛ فكان من ذلك ما عليه آثار النقش. قال: وأخرج من خزائنه ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان؛ من الألطاف والأدهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد أكثره فاسداً. وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر ومحمد في الطريق؛ فكانت بلاء. قال: فمكثنا حيناً لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها.
ذكر وفاة الخيزران أم الهادي والرشيد وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي.
ذكر الخبر عن وقت وفاتهاذكر يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيدية وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافياً يعدو في الطين؛ حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بن الربيع، فقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر. فقال الفضل بن الربيع لإسماعيل بن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك؛ بأن أكتب إليه وآخذه؛ ولكن إن رأى أن يبعث به! قال وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وباد وريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حاله تنمي إلى سنة سبع وثمانين ومائة.
وقيا إن وفاة محمد بن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد.
وفيها أقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث.
وحج بالناس فيها هارون؛ وذكر أنه خرج محرماً من مدينة السلام.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها.
وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان الهاشمي السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف، وأبوه حي.
وفيها هلك روح بن حاتم.
وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصراً، فقال الشاعر في ذلك:
بقردى وبازبدى مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود
وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ... فخرء، وأما حرها فشديد

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالاً عظيماً، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن البيعة للأمين فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر:
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهداً عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر روح مولى الفضل بن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي - يعني محمد بن زبيدة بنت جعفر بن المنصور - فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك؛ وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد؛ فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه.
قال: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد؛ فذكر محمد بن الحسين بن مصعب أن الفضل بن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالاً، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد؛ فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري:
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ... على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ببيعة لولي العهد أحكمها ... بالنصح منه وبالاٍشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقداً لا انتقاض له ... لمصطفى من بني العباس منتخب
قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:
عزمت أمير المؤمنين على الرشد ... برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد
وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء.
وفيها صار يحي بن عبد الله بن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح فبلغ إقريطية.وقال الوافدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح، قال: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بن يحي كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وإرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحي بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالديلم.
ذكر الخبر عن مخرج يحي بن عبد الله وما كان من أمرهذكر أبو حفص الكرماني، قال: كان أول خبر يحي بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتنم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إيه الفضل بن يحي في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بن الحجاج بن قتيبة بن مسلم طبرستان، وولى على بن الحجاج الخزاعي جرجان، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم أكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة. وشخص الفضل بن يحي، واستحلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكنوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم؛ لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم. ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع؛ فكاتب يحي ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله. ونزل الفضل بطالقان الري ودستبي بموضع يقال له أشب؛ وكان شديد البرد كثير الثلوج؛ ففي ذلك يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي:

لدور أمس بالدولا ... ب حيث السيب ينعرج
أحب إلي من دور ... أشب إذا هم ثلجوا
قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحي، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم؛ على أن يسهل له خروج يحي إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحي إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أماناً ليحي بن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بي هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن علي والعباس ابن محمد ومحمد بن إبراهيم وموسى بن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحي بن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقاً سنية، وأنزله منزلا سرياً بعد أن أقام في منزل يحي بن خالد أياماً، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحي والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل؛ ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ظفرت فلا شلت يد برمكية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطة ... من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزاً ... لكم كلما ضمت قداح المساهم
قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:
للفضل يوم الطالقان وقبله ... يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور ورد ألفة هاشم ... بعد الشتات، فشعبها متدان
عصمت حكومته جماعة هاشم ... من أن يجرد بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها ... عظم النبأ وتفرق الحكمان
فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.
وذكر أحمد بن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لما قدم يحي بن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بن أبي طالب، فقلت : يا عم، ما بعدك مخبر و لا بعدي مخبر؛ فأخبرني خبرك، فقال: يا أبن أخي، والله إن كنت إلا كما قال يحيى ابن خطب:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس حمدها ... وقلل يبغي العز كل مقلل
وذكر الضبي أن شيخاً من النوفليين، قال: دخلنا على عيسى بن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض؛ وهو قائم متكئ عليها؛ وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجباً منه ، فقلنا ما الذي يضحك الأمير أدام لله سروره! قال: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا تمم الله للأمير سروره، وزاده سروراً. فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائماً - واتكأ على الفراش وهو قائم - فقال: كنت اليوم عد أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلاً في الحديد، وعنده بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسئ بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم - قال: فلما دعي بيحيى قال له الرشيد: هيه هيه! متضاحكاً؛ وهذا يزعم أيضاً أنا سممناه! فقال يحي: ما معنا يزعم؟ ها هو ذا لساني - قال: وأخرج لسانه أخضر مثل السلق - قال: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحي: يا أمير المؤمنين؛ إن لنا قرابة ورحماً، لسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين؛ إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله وقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم! علام تحبسني وتعذبني؟ فال: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا؛ فإنه شاق عاصي؛ وإنما هذا منه مكر وخبث؛ إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فأقبل يحي عليه؛ فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري:

هذا كلامه قدامك؛ فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافاً بنا. قال: فأقبل عليه يحي، فقال: نعم، ومن انتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي هذا هاجر أبوك إلى المدينة. ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما الناس نحن وانتم؛ فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا؛ فوجدنا بذلك مقالاً فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالاً فينا؛ فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؛ يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحةً منهلك؛ وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا؛ إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض. والله يا أمير المؤمنين؛ لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله!وأنشدني فيه مرثيةً قالها نحواً من عشرين بيتاً وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك! قال: فتغير وجه الزبيري وأسود، فأقبل عليه هارون ، فقال: أي شئ يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين؛ ما كان مما قال حرف قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قال: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قاله شيء؛ ولقد تقول علي ما لم أقل. قال: فأقبل الرشيد على يحي ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أن بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته. فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا ادري ما هو! قال يحي بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقاً فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلي حولي وقوتي؛ قال: فاضرب منها وأرعد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم اعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلي حولي وقوتي إن كنت قلته. قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.
قال: فقال عيسى بن جعفر: والله ما يسرني أن يحي نقصه حرفاً مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه.
قال: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته؛ وهي من ولد عبد الرحمن بن عوف.
وذكر إسحاق بن محمد النخعي أن الزبير بن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بن عبد الله تزوج امرأةً من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها؛ فقالت لغلامين له زنجيين: أنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق - ولاطفتهما - فتعاوناني على قتله؟ قالا: نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعاً معها، فقعدا على وجهه حتى مات. قال: ثم إنها سقتها نبيذاً حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة؛ فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات. فأخذ الغلامان؛ فضربا ضرباً مبرحاً، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك؛ فأخرجت من الدار ولم تورث.
وذكر أبو الخطاب أن جعفر بن يحيى بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره، قال: دعا الرشيد اليوم بيحيى بن عبد الله بن حسن، وقد أحضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع للأمان؟ لو كان محارباً ثم ولى كان آمناً. فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري:

هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة؛ وأنت أعلم بذلك؛ فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري - وكان بكار بن عبد الله بن مصعب حاضراً المجلس - فأقبل على يحيى بن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا؛ وفعلت بنا وفعلت. فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قال جعفر: فوالله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكاً شديداً. قال: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قال للناس: سموه. قال يحيى: كلا ما زلت عليلاً منذ كنت في الحبس؛ وقبل ذلك أيضاً كنت عليلاً. قال أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهراً حتى مات.
وذكر أبو يونس إسحاق بن إسماعيل، قال: سمعت عبد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي، الذي يعرف بالخطيب، قال: كنت يوماً على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قال: فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلى أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب؛ فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلاً عند الناس. فما مكثنا إلا قليلاً حتى جاء الفضل بن الربيع، فقال: إن عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحداً، فقال: قال: إن عندي شيئاً أذكره. فقال: قل له يقله لك، قال: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قال: أدخله. وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره؛ وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها؛ وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.
وطلع الزبيري، فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: إنه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه وأخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه. قال: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مماذا؟ قال: جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحداً إلا وقد أدخله في الخلاف عليك. قال: فتقول له هذا في وجهه! قال: نعم، قال الرشيد: أدخله، فدخل، فأعد القول الذي قال له، فقال يحيى بن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبداً، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفي مؤنتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهه بين يديك وتصبر قليلاً. فقال: يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه. وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بن مصعب إلى خلاف على هذا - ووضع يده عليه، وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين. فقال عبد الله: آمين رب العالمين. فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك ، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار؛ فلما خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفاً على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد - وكان ذلك من عادتي - فبينما أنا أحل عنه منطقته؛ إذ دخل عليه الغلام، فقال:

رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قال له: ما وراءك؟ قال: يقول لك مولاي، أنشدك الله إلا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في إثرك؛ وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك؛ فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفته سعى بي؛ وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره؛ فاذهب إليه، فكل ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبي؛ فقد وجهتك وما آمن عليك، وقد كان قال لي أبي حين انصرفا - وذلك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قال عبد الله بن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين؛ فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمراً أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعاً أركض ركضاً لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي؛ فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوباً في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه؛ فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرشيد؛ فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك. فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين؛ لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبداً! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع مني في زيادة نمرة لباعك بها. فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيراً، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم. ثم قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار.
ذكر الفتنة بين اليمانية والنزاريةوفي هذه السنة، هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام.
ذكر الخبر عن هذه الفتنة ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة. فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي:
من مبلغ يحيى ودون لقائه ... زأرت كل خنابسٍ همهام
يا راعي الإسلام غير مفرطٍ ... في لين مغتبط وطيب مشم
تعذى مشاربه وتسقى شربةً ... ويبيت بالربوات والأعلام

حتى تنخنخ ضارباً بجرانه ... ورست مراسيه بدار سلام
فلكل ثغر خارس من قلبه ... وشعاع طرف ما يفتر سام
وقال في موسى غير أبي يعقوب:
قد هاجت الشام هيجاً ... يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها ... بخيله وجنوده
فدانت الشأم لما ... أتى نسيج وحيده
هو الجواد الذي ... بد كل جود بجوده
أعداه جود أبيه ... يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بن يحيى ... بطارفٍ وتليده
ونال موسى ذرى المج ... د وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي ... منشوره وقصيده
من البرامك عود ... له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طراً ... خفيفه ومديده
وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولاها عمر بن مهران.
ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفراً مصر
وتولية جعفر عمر بن مهران إياهاذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلاً، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلاً أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباساً خسيساً، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهماً، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلاً وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلاماً؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان و فلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى.
قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال:

يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أإلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصناً.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك عزل الرشيد - فيما ذكر - جعفر بن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بن سليمان، وعزله حمزة بن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بن يحيى؛ إلى ما كان يليه من الأعمال من الري وسجستان.
وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.
وكان فيها - فيما ذكر الواقدي - ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة؛ ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مدداً لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحواً من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح.
وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.
وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان،وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أماناً من الرشيد، ووصله ورأسه.
وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية.
ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بهاوفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان والياً عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعاً.
وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جنداً من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ... عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حامٍ على ملك قوم عز سهمهم ... من الوراثة في أيديهم سبب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ... كتائب ما لها في غيرهم أرب
كتائب لبني العباس قد عرفت ... ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين في عدادهم ... من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم ... أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق ... يبقى على جود كفيه ولا ذهب
ما مر يوم له مذ شد مئزره ... إلا تمول أقوام بما يهب
كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها ... للطالبين مداها دونها تعب

يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا ... ينبو إذا سلت الهندية القضب
ولا الرضى والرضى لله غايته ... إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعادله ... غيث مغيث ولا بحر له حدب
قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:
ألم تر أن الجود من لدن آدمٍ ... تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ... فيا لك من هطل ويا لك من وبل
إذا أم طفل راعها جوع طفلها ... دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بك الإسلام إنك عزه ... وإنك من قوم صغيرهم كهل
وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول:
تخيرت للمدح بن يحيى بن خالد ... فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا
له عادة أن يبسط العدل والندى ... لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ... له والد يعلو سريراً ومنبرا
يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ... لدى الدهر إلا قائداً أو مومرا
ومدحه سلم الخاسر، فقال:
وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ ... تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بن يحيى ... نفير ما يوازنه نفير
له يومان: يوم ندىً وبأسٍ ... كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ ... فهمته وزير أو أمير
وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يوماً بعد ما أغفلني حيناً، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعاً، فاستوى جالساً - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم.قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحي قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئاً، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطاً سجزياً، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.
قال: ولما قدم الفضل بن يحي من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال:
حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ... بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا
وما هجعت حتى رأته عيوننا ... وما زلن حتى آب بالدمع حشدا
لقد صبحتنا خيله ورجاله ... بأروع بذ الناس بأساً وسوددا
نفى عن خراسان العدو كما نفى ... ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره ... إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامةٍ ... وأطلق بالعفو الأسير المقيدا
وأفشى بلا من مع العدل فيهم ... أيادي عرفٍ باقياتٍ وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم ... وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا

وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ... فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ... وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعداً بالفضل يحيى وخالد ... إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعةً ... ويسقي دم العاصي الحسام المهندا
أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ... وكانت لأهل الدين عزاً مؤبدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ... على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ... به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع ... بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلاً وطئن جموعه ... قتيلاً ومأسوراً وفلاً مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعدما ... تحوب مخذ ولا يرى الموت مفردا
وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:
كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ ... وجود يديه بخل كل بخيل
قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم.
وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بن شرحبيل.
وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها شري بخراسان حمزة بن أترك السجستاني.
وفيها عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر:
وائل بعضها يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد إلا الحديد
وقالت الفارعة أخت الوليد:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناً وسيوف
واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكراً لله على ما أبلاه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشياً، ثم انصرف على طريق البصرة.
وأما الواقدي فإنه قال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.
ذكر الخبر عما صار إليه أمرهاذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحاً ولا فرساً، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنةٍ ... فهذا أوان الشأم تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ ... عليها، خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ... وفيه تلاقى صدعها وانجبارها
رماها بميمون النقيبة ماجد ... تراضى به قحطانها ونزارها
تدلت عليهم صخرة برمكيةً ... دموغ لهام الناكبين انحدارها
غدوت تزجى غابة في رءوسها ... نجوم الثريا والمنايا ثمارها
إذا خفقت راياتها وتجرست ... بها الريح هال السامعين انبهارها
فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبنكم ... حجاكم طويلات المنى وقصارها
فإن أمير المؤمنين بنفسه ... أتاكم وإلا نفسه فخيارها
هو الملك المأمول للبر والتقى ... وصولاته لا يستطاع خطارها
وزير أمير المؤمنين وسيفه ... وصعدته والحرب تدمى شفارها
ومن تطو أشرار الخليفة دونه ... فعندك مأواها وأنت قرارها
وفيت فلم تغدر لقوم بذمةٍ ... ولم تدن من حالٍ ينالك عارها
طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ... من الدهر أعناق، فأنت جبارها
إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ... ملمي خطب لم ترعه كبارها
لقد نشأت بالشأم منك غمامة ... يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمها ... أتاها حياها، أو أتاها بوارها
فإن سالموا كانت غمامة نائلٍ ... وغيثٍ، وإلا فالدماء قطارها
أبوك أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ... أخو الجود والنعمى الكبار صغارها
كأين ترى في البرمكيين من ندىً ... ومن سابقاتٍ ما يشق غبارها
غدا بنجوم السعد من حل رحله ... إليك، وعزت عصبة أنت جارها
عذيري من الأقدار هل عزماتها ... مخلفتي عن جعفرٍ واقتسارها
فعين الأسى مطروفة لفراقه ... ونفسي إليه ما ينام ادكارها
وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكراماً. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقاً على قربك، وأسفاً على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضاً من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظاً لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم.

وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضياً ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظماً؛ إلا وازددت عن شكرك عجزاً وضعفاً وما خلق الله أحداً من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلاً مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصراً عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.
وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة.
وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريداً الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة.
وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطناً.
وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام،فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.
وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.
وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضاً عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة.
وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.
وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أياماً، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحواً من أربعين يوماً فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمداً الأمين، وولاه العراقين.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوةً حصن الصفصاف، فقال مروان بن أبي حفصة:
إن أمير المؤمنين المصطفى ... قد ترك الصفصاف قاعاً صفصفا
وفيها غزا عبد الملك بن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.

وفيها توفي الحسن بن قحطبة وحمزة بن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على جرجان.
وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلاً. وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح، ومن القواد علي بن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى إرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين.
وانصرف فيها يحيى بن خالد إلى مدينة السلام.
وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه رييني، وتلقب أغسطة.
وحج بالناس فيها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيه
فمن ذلك خروج الخزر بسبب ابنه خاقان من باب من الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هناك وأهل الذمة، وسبيهم - فيما ذكر - أكثر من مائة ألف. فانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع في الإسلام بمثله، فولى الرشيد إرمينية يزيد بن مزيد مع أذربيحان، وقواه بالجند؛ ووجهه، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءاً لا أهل إرمينية.
وقد قيل سبب دخول الخزر إرمينية غير هذا القول؛ وذلك ما ذكره محمد بن عبد الله، أن أباه حدثه أن سبب دخول الخزر إرمينية في زمان هارون كان أن سعيد بن سلم ضرب عنق المنجم السلمي بفأس، فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فدخلوا إرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات، وأقاموا فيها - أظن - سبعين يوماً، فوجه هارون خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى إرمينية حتى أصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر، وسدت الثلمة.
وفيها كتب الرشيد إلى علي بن عيسى بن ماهان وهو بخراسان بالمصير إليه؛ وكان سبب كتابه إليه بذلك؛ أنه كان حمل عليه، وقيل له: إنه قد أجمع على الخلاف، فاستخلف علي بن عيسى ابنه يحيى على خراسان، فأقره الرشيد، فوافاه علي، وحمل إليه مالاً عظيماً، فرده الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبي الخصيب، فرجع.
وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي مولى الحريش.
وفيها مات موسى بن جعفر بن محمد ببغداد ومحمد بن السماك القاضي وفيها حج بالناس العباس بن موسى الهادي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها قدم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفاً إليها من الرقة في الفرات في السفن، فلما صار إليها أخذ الناس بالبقايا.
وولي استخراج ذلك - فيما ذكر - عبد الله بن الهيثم بن سام بالحبس والضرب، وولي حماد البربري مكة واليمن، وولي داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل، ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية إبراهيم الأغلب، فولاها إياه الرشيد.
وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهير القصاب فقتله بشهرزور.
وفيها طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بن عيسى، فوافاه بمرر فأكرمه.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35