كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

وذكر أن إبراهيم بن محمد حين أخذ للمضيّ به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيّعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده؛ فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته؛ منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو عليّ ويحيى ابن محمد وعيسى بن موسى بن محمد بن عليّ، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بن داود ويحيى بن جعفر بن تمام؛ حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القوّاد والشيعة. وأراد - فيما ذكر - أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بن محمد؛ فذكر عليّ بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ وأبا السريّ وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قال: لم يقدم بعد، فألحّ عليه يسأله، قال: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادماً لأبي العباس، ييقال له سابق الخوارزميّ، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأنّ أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرّح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بن سلمة رجل كان معهم، فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الإمام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه؛ لأن واسطاً لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موشى بن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعيّ وسلمة ابن محمد وإبراهيم بن سلمة وعبد الله الطائيّ وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وأبو حمييد محمد بن إبراهيم وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا إلى الكوفة في حاجة لهم.
وأتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيّكم عبد الله بن محمد ابن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة؛ فرجع موسى بن كعب وأبو الجهم الآخرين؛ فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامي. فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أنّ أبا سلمة قد أتاكم؛ فلا يدخلنّ على الإمام إلاّ وحده؛ فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس.
وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلّى بالناس؛ فأخبرنا عمارة مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلميّ أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قال له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه! فقال له أبو العباس: مّهْ!

وذكر أنّ أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بن عليّ فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرّفه وعظّمه، واختاره لنا وأيّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوّام به، والذّابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقّنا من نبعته؛ جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا، حريصاً علينا بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم، فقال عزّ من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " ، وقال: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى " وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، وقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى " فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودّتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا، وفضلاً علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبيّئة الضلاّل، أن غيرنا أحقّ بالراسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيّها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحقّ، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمّ بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرّ ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم؛ فتح الله ذلك منّةً ومنحةً لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدّلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصاً منها. ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزّوها وتدالولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفون انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقّنا، وتدارك بنا أمّتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استُضعفوا في الأرض؛ وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألاّ يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح؛ وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم محلّ محبّتنا ومنزل مودّتنا. أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم؛ حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا؛ فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا؛ وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
وكان موعوكاً فاشتدّ به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بن عليّ فقام دونه على مراقي المنبر، فقال:

الحمد للله شكراً شكراً شكراً؛ الذي أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدّنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه؛ وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه؛ في أهل بيت نبيّكم، أهل الرأفة والرّحمة بكم والعطف علكيم. أهييا الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، ولا نبني قصراً؛ وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم؛ ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتدّ علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم؛ واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم. لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذمة العبّاس رحمه الله؛ أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تبّاً تبّاً لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدّتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم فيي العباد؛ وسنّتهم في البلاد التي بها استلذّوا تسربل الأوزار، وتجليبب الآصار، ومرحوا في أعنّة المعاصي، وركضوا في ميادين الغيّ؛ جهلاً باستدراج الله، وأمناً لمكر الله؛ فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومُزّقوا كلّ ممزّق، فبعداً للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غرّه بالله الغرور، أرسل لعدوّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظنّ عدوّ الله أن لن نقدر علييه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه؛ فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقنا وإرثنا.
أيّها الناس؛ إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزييزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد الصّلاة؛ أنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فييه شدّة الوعك؛ وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوّ الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهّل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار؛ الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى.
فعجّ الناس له بالدعاء. ثم قال: يا أهل الكوفة؛ إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقّنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقّنا، وأفلج بهم حجّتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، وإليه تتشوّفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشأم، ونقل إليكم السلطان، وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة. فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصراً؛ وإنكم مصرنا. ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد - وأشار بيده إلى أبي العباس - فاعلموا أنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود بن عليّ أمامه؛ حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم؛ حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنّهم الليل، فدخل.

وذكر أن داود بن عليّ وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بن محمد وعبد الله بن عليّ وعيسى بن موسى ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصّتكم؟ فقصّ عليه أبو العباس قصّتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفة وشيخ بني مروان؛ مروان ابن محمد بحرّان مطلٌ على العراق في أهل الشأم والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحبّ الحياة ذلّ، ثم تمثل بقول الأعشى:
فما ميتة إن متها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نمت كراماً، فرجعوا جميعاً، فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفراً أربعة عشر رجلاً خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همّهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.
ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث

في سنة اثنتين وثلاثين ومائة
تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ وما كان من أمره: قال أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ ما حضرنا ذكره قبل، عمّن ذكرنا ذلك عنه؛ وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضاً ما أنا ذاكره؛ وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء إلى ولد العباس وأضمر الدّعاء لغيرهم؛ وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمّام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادماً لإبراهيم يقال له سابق الخوارزميّ، فعرفه، وكان يأتيهم بالشأم فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أنّ مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامّة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غداً في هذا الموضع، وكره سابق أن يدلّه عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقاً، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بن عليّ: هذا إمامكم وخليفتكم - وأشار إلى أبي العباس - فسلم عليه بالخلافة، وقبّل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزّاه بالإمام إبراهيم.
وقد كان إبراهيم بن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكراً، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم، وأنّ أبا العباس كان سرّحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمّال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها إليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد ومعهما إبراهيم بن سلمة، حتى دخلوا على موسى بن كعب، فقصّ عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بن سلمة، فقال موسى بن كعب: عجل البعثة إليه بالدّنانير وسرّحه. فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بن سلمة، وحمله على بغل وسرّح معه رجلين، حتى أدخلاه الكوفة، ثم قال أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده؛ فردّ عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد.

فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بن سلمة أبا الجهم وموسى بن كعب، فبلّغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القوّاد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بن كعب؛ منهم عبد الحميد بن ربعيّ وسلمة بن محمد وعبد الله الطائيّ وإسحق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وغيرهم من القوّاد. فأتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفة وزعيمهم موسى بن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميريّ - وهو محمد بن إبراهيم - فانتهوا إلى دار الوليد بن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيّكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزّوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلّفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بن الحارث ونهار بن حصين ويوسف بن محمد وأبا هريرة محمد بن فروخ.
فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال: أين كنت يا أبا الجهم؟ قال: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بن صدّان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلّم على أبي العباس بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: إن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده؛ فإن دخل وبايع فسبيله ذلك؛ وإلا فاضربوا عنقه؛ فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفّوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدوابّ، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر بيع الآخر. ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الربّ تبارك وتعالى وفضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيراً ثم سكت.
وتكلّم داود بن عليّ وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيّها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة إلا عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي لخفي. ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمّه داود بن عليّ، وبعث عمه عبد الله بن عليّ إلى أبي عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهراً ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشميّة في قصر الكوفة، وقد كان تنكّر لأبي سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك.
ذكر هزيمة مروان بن محمد بموقعة الزّاب
وفي هذه السنة هزم مروان بن محمد بالزّاب.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كان ذلك

ذكر عليّ بن محمد أن أبا السريّ وجبلة بن فرّوخ والحسن بن رشيد وأبا صالح المروزيّ وغيرهم أخبروه أن أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي وجّهه قحطبة إلى شهرزور من نهاوند، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وبلغ مروان أن عثمان قد قتل، فأقبل من حرّان، فنزل منزلاً في طريقه، فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: بلوى، قال: بل علوى وبشرى. ثم أتى رأس العين، ثم أتى الموصل، فنزل على دجلة، وحفر خندقاً فسار إليه أبو عون، فنزل الزّاب، فوجّه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى والمنهال بن فتّان وإسحاق بن طلحة؛ كلّ واحد في ثلاثة آلاف؛ فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائيّ في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعيّ الطائيّ في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون. ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بن عليّ: أنا، فقال: سر على بركة الله، فسار عبد الله بن عليّ، فقدم على أبي عون، فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلاّه وما فيه، وصيّر عبد الله بن عليّ على شرطته حيّاش بن حبيب الطائييّ، وعلى حرسه نصير بن المحتفز، ووجّه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلاً على البريد إلى عبد الله بن عليّ، فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، سأل عبد الله بن عليّ عن مخاضة، فدلّ عليها بالزّاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله ابن عليّ؛ فأصبح مروان فعقد الجسر، وسرّح ابنه عبد الله يحفر خندقاً أسفل من عسكر عبد الله بن عليّ، فبعث عبد الله بن علي المخارق بن غفار في أربعة آلاف، فأقبل حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن عليّ، فسرّح عبد الله بن مروان إليه الوليد بن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسروا، وقتل منهم يومئذ عدّة، فبعث بهم إلى عبد الله، وبعث بهم عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا عليّ رجلاً من الأسارى، فأتوه بالمخارق - وكان نحيفاً - فقال: أنت المخارق؟ فقال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها، فقال: هو هذا، فخلّى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر إلى المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم!

قال عليّ: حدثنا شيخ من أهل خراسان قال: قال مروان للمخارق: تعرف المخارق إن رأيته؟ فإنهم زعموا أنه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قال: نعم، قال: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلاّ وقد ذهب، فخلّى سبيله. وبلغ عبد الله بن علّ انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفلّ إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق. فدعا عبد الله بن عليّ محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانية والصحصحية والرّاشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم؛ وإن قاتلونا قبل الزوال؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأرسل مروان إلى عبد الله بن عليّ يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشأم: قفوا لا تبدءوهم بقتال؛ فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الويد بن معاوية بن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه. وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن عليّ، فقال موسى. ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس، وأشرعوا الرماح، وجثوا على الكرب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشأم يتأخّرون كأنهم يدفعون؛ ومشى عبد الله قدماً وهو يقول: يا ربّ، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم! يا محمد، يا منصور! واشتدّ بينهم القتال. وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السّكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضاً. قال: أما والله لأسوءنّك، قال: وددت والله أنك قدرت على ذلك. ثم انهزم أهل الشأم، وانهزم مروان، وقطع الجسر؛ فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل؛ فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بن عليّ فعقد الجسر على الزّاب، واستخرجوا الغرقى فأخرجوا ثلثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن عليّ: " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " .
وأقام عبد الله بن عليّ في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاص يعيّر مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له ... عاد الظلوم ظلماً همّه الهرب
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينى فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
وكتب عبد الله بن عليّ إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحاً كثيراً وأموالاً؛ ولم يجدوا فيه امرأةً إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان؛ فلمّا أتى العباس كتاب عبد الله ابن عليّ صلى ركعتين، ثم قال: " فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر " إلى قوله: " وعلّمه مما يشاء " . وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
حدثنا أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، قال: قال عبد الرحمن بن أميّة: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبّر شيئاً إلا كان فيه الخلل والفساد. قال: بلغني أنّه كان يوم انهزم واقفاً، والناس يقتتلون؛ إذ أمر بأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إنّ الناس قد مالوا على هذا المالل، ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخّر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم؛ فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة؛ فانهموا.

حدّثنا أحمد بن عليّ، عن أبي الجارود السلميّ، قال: حدّثني رجل من أهل خراسان، قال: لقينا مروان على الزّاب، فحمل علينا أهل الشأم كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشأم، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشأميّ، ثم خرج آخر فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفاً قاطعاً، وترساً صلباً، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشأميّ فاتّقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع؛ وحملناه وكبّرنا فإذا هو عبيد الله الكابليّ.
وكانت هزيمة مروان بالزّاب - فيما ذكر - صبيحة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
ذكر خبر قتل إبراهيم بن محمد بن عليّ الإمام
وفي هذه السنة قتل إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس.
ذكر الخبر عن سبب مقتله اختلف أهل السير في أمر إبراهيم بن محمد، فقال بعضهم: لم يقتل ولكنه مات في سجن مروان بن محمد بالطاعون.
ذكر من قال ذلكحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم. قال: حدّثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: قدم مروان بن محمد الرّقة حين قدمها متوجهاً إلى الضّحاك بسعيد بن هشام ابن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان؛ وهم في وثاقهم معه؛ فسرّح بهم إلى خليفته بحرّان، فحبسهم في حبسها، ومعهم إبراهيم بن عليّ بن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز والعباس بن الوليد وأبو محمد السفيانيّ - وكان يقال له البيطار - ، فهلك في سجن حرّان منهم في وباء وقع بحرّان العباس ابن الوليد وإبراهيم بن محمد وعبد الله بن عمر. قال: فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب يوم هزمه عبد الله بن عليّ بجمعة، خرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبسين، فقتلوا صاحب السجن، وخرج فيمن معه، وتخلف أبو محمد السفيانيّ في الحبس، فلم يخرج فيمن خرج، ومعه غيره لم يستحلّوا الخروج من الحبس، فقتل أهل حرّان ومن كان فيها من الغوغاء سعيد ابن هشام وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر التغلبيّ، وبطريق أرمينية الرابعة - وكان اسمه كوشان - بالحجارة، ولم يلبث مروان بعد قتلهم إلا نحواً من خمس عشرة ليلة؛ حتى قدم حرّان منهزماً من الزّاب، فخلّى عن أبي محمد ومن كان في حبسه من المحبّسين.
وذكر عمر أن عبد الله بن كثير العبديّ حدّثه عن عليّ بن موسى، عن أبيه، قال: هدم مروان على إبراهيم بن محمد بيتاً فقتله.
قال عمرو: وحدثني محمد بن معروف بن سويد، قال: حدّثني أبي عن المهلهل بن صفوان - قال عمر: ثم حدّثني المفضّل بن جعفر بن سليمان بعده؛ قال: حدّثني المهلهل بن صفوان - قال: كنت أخدم إبراهيم بن محمد في الحبس؛ وكان معه في الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك فكانوا يتزاورون، وخصّ الذي بين إبراهيم وشراحيل فأتاه رسوله يوماً بلبن، فقال: يقول لك أخوك: إنّي شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصّب من ساعته وتكسر جسده، وكان يوماً يأتي فيه شراحيل، فأبطأ عليه، فأرسل إليه: جعلت فداك! قد أبطأت فما حبسك؟ فأرسل إليه: إني لما شربت اللبن الذي أرسلته إليّ أخلفني، فأتاه شراحيل مذعوراً وقال: لا والله الذي لا إله إلا هو؛ ما شربت اليوم لبناً، ولا أرسلت به إليك، فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل لك والله. قال: فوالله ما بات إلاّ ليلته وأصح من غد ميتاً؛ فقال إبراهيم بن عليّ بن سلمة بن عامر ابن هرمة بن هذيل بن الربيع بن عامر بن صبيح بن عديّ بن قيس - وقيس هو ابن الحارث بن فهر - يرثيه:
قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني ... قبر بحرّان فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمّت مصيبته ... وعيّلت كل ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة ... لكن عفا الله عمّن قال آمين
ذكر الخبر عن قتل مروان بن محمدوفي هذه السنة قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم.
ذكر الخبر عن مقتله وقتاله من قاتله من أهل الشأم في طريقه وهو هارب من الطلب

حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: لما انهزم مروان من الزّاب كنت في عسكره. قال: كان لمروان في عسكره بالزّاب عشرون ومائة ألف؛ كان في عسكره ستون ألفاً، وكان في عسكر ابنه عبد الله مثل ذلك، والزّاب بينهم، فلقيه عبد الله بن عليّ فيمن معه وأبي عون وجماعة قوّاد، منهم حميد بن قحطبة؛ فلما هزموا سار إلى حرّان وبها أبان بن يزيد بن محمد بن مروان، ابن أخيه عامله عليها، فأقام بها نيّفاً وعشرين يوماً. فلما دنا منه عبد الله بن عليّ حمل أهله وولده وعياله، ومضى منهزماً، وخلّف بمدينة حرّان أبان ابن يزيد؛ وتحته ابنة لمروان يقال لها أمّ عثمان، وقدم عبد الله بن عليّ، فتلقاه أبان مسوّداً مبايعاً له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحرّان والجزيرة. ومضى مروان حتى مرّ بقنّسرين وعبد الله بن عليّ متبع له. ثم مضى من قنّسرين إلى حمص، فتلقاه أهلها بالأسواق وبالسمع والطاعة فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها؛ فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم، فاتّبعوه بعد ما رحل عنهم؛ فلحقوه على أميال، فلما رأى غبرة خيلهم أكمن لهم في واديين قائدين من مواليه، يقال لأحدهما يزيد والآخر مخلّد؛ فلما دنوا منه وجازوا الكمينين ومضى الذراريّ صافّهم فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال بينهم؛ وثار الكمينان من خلفهم؛ فهزمهم وقتلتهم خيله حتى انتهوا إلى قريب من المدينة.
قال: ومضى مروان حتى مر بدمشق، وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ وهو ختن لمروان، متزوج بابنة له يقال لها أمّ الوليد، فمضى وخلفه بها حتى قدم عبد الله بن عليّ عليه، فحاصره أياماً، ثم فتحت المدينة، ودخلها عنوة معترضاً أهلها. وقتل الوليد بن معاوية فيمن قتل، وهدم عبد الله بن عليّ حائط مدينتها. ومرّ مروان بالأردنّ، فشخص معه ثعلبة ابن سلامة العامليّ، وكان عامله عليها، وتركها ليس عليها وال، حتى قدم عبد الله بن عليّ فولى عليها، ثم قدم فلسطين وعليها من قبله الرّماحس بن عبد العزيز. فشخص به معه؛ ومضى حتى قدم مصر، ثم خرج منها حتى نزل منزلاً منها يقال له بوصير؛ فبيّته عامر بن إسماعيل وشعبة ومعهما خيل أهل الموصل فقتلوه بها، وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان ليلة بيّت مروان إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء وقاتلتهم الحبشة، فقتلوا عبيد الله، وأفلت عبد الله في عدّة ممن معه؛ وكان فيهم بكر بن معاوية الباهليّ، فسلم حتى كان في خلافة المهديّ، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهديّ.
وأما عليّ بن محمد؛ فإنه ذكر أن بشر بن عيسى والنعمان أبا السريّ ومحرز بن إبراهيم وأبا صالح المروزيّ وعمارة مولى جبريل أخبروه أنّ مروان لقي عبد الله بن عليّ في عشرين ومائة ألف وعبد الله في عشرين ألفاً.
وقد خولف هؤلاء في عدد من كان مع عبد الله بن عليّ يومئذ. فذكر مسلم بن المغيرة، عن مصعب بن الربيع الخثعميّ وهو أبو موسى ابن مصعب - وكان كاتباً لمروان - قال: لما انهزم مروان، وظهر عبد الله بن عليّ على الشأم، طلبت الأمان فآمنني، فإني يوماً جالس عنده؛ وهو متّكىء إذ ذكر مروان وانهزامه، قال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير! فقال: حدّثني عنه؛ قال: قلت: لما كان ذلك اليوم قال لي: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب قلم؛ ولست صاحب حرب؛ فأخذ يمنة ويسرة ونظر فقال: هم اثنا عشر ألفاً، فجلس عبد الله، ثم قال: ما له قاتله الله! ما أحصى الديوان يومئذ فضلاً على اثني عشر ألف رجل!.

رجع الحديث إلى حديث عليّ بن محمد عن أشياخه: فانهزم مروان حتى أتى مدينة الموصل؛ وعليها هشام بن عمرو التغلبيّ وبشر بن خزيمة الأسديّ، وقطعوا الجسر، فناداهم أهل الشأم: هذا مروان، قالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ، فسار إلى بلد، فعبر دجلة، فأتى حرّان ثم أتى دمشق، وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشأم. ومضى مروان حتى أتى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذاميّ، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع، فأجازه، وكان بيت المال في يد الحكم. وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن عليّ يأمره باتباع مروان، فسار عبد الله إلى الموصل، فتلقاه هشام بن عمرو التغلبيّ وبشر بن خزيمة. وقد سوّدا في أهل الموصل، ففتحوا له المدينة، ثم سار إلى حرّأن، وولّى الموصل محمد بن صول؛ فهدم الدّار التي حبس فيها إبراهيم ابن محمد، ثم سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل منبج وولاها أبا حميد المروروذيّ، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم إياه بما أتاه به عنهم أبو أمية التغلبيّ. وقدم عليه عبد الصمد بن عليّ، أمده به أبو العباس في أربعة آلاف، فأقام يومين بعد قدوم عبد الصّمد، ثم سار إلى قنسرين، فأتاها وقد سوّد أهلها، فأقام يومين، ثم سار حتى نزل حمص، فأقام بها أيّاماً وبايع أهلها، ثم سار إلى بعلبكّ فأقام يومين ثم ارتحل؛ فنزل بعين الحرّ، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل مزّة قرية من قرى دمشق فأقام. وقدم علييه صالح بن عليّ مدداً، فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف، معه بسام بن إبراهيم وخفّاف وشعبة والهيثم بن بسام. ثم سار عبد الله بن عليّ، فنزل علي الباب الشرقي، ونزل صالح بن علي علي باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسام على باب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس - وفي دمشق الوليد بن معاوية - فحصروا أهل دمشق والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة، فقتل بعضهم بعضاً، وقتلوا الوليد، ففتحوا الأبواب يوم الأربعاء لعشر مضين من رمضان سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فكان أوّل من صعد سور المدينة من الباب الشرقيّ عبد الله الطائيّ، ومن قبل باب الصغير بسّام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وأقام عبد الله بن عليّ بدمشق خمسة عشر يوماً، ثم سار ييريد فلسطين، فنزل نهر الكسوة، فوجّه منها يحيى بن جعفر الهاشميّ إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردنّ، فأتوه وقد سوّدوا، ثم نزل بيسان، ثم سار إلى مرج الرّوم، ثم أتى نهر أبي فطرس، وقد هرب مروان، فأقام بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العباس؛ أنْ وجه صالح بن عليّ في طلب مروان، فسار صالح بن عليّ من نهر أبي فطرس في ذلك القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة؛ ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل وأبو عون، فقدّم صالح ابن عليّ أبا عون على مقدّمته وعامر بن إسماعيل الحارثيّ، وسار فنزل الرّملة، ثم سار فنزلوا ساحل البحر، وجمع صالح بن عليّ السفن وتجهز يريد مروان، وهو بالفرماء، فسار على الساحل والسفن حذاءه في البحر؛ حتى نزل العريش.
وبلغ مروان فأحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ابن عليّ فنزل الليل، ثم سار حتى نزل الصعيد. وبلغه أن خيلاً لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجّه إليهم قوّاداً، فأخذوا رجالاً، فقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل، وقطع الجسر، وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه، فالتقى هو وخيل لمروان على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثم مضى إلى خليج، فصادف عليه خيلاً لموان، فأصاب منهم طرفاً وهزمهم، ثم سار إلى خليج آخر فعبروا، ورأوا رهجاً فظنوه مروان، فبعث طليعة عليها الفضل بن دينار ومالك ابن قادم، فلم يلقوا أحداً ينكرونه، فرجعوا إلى صالح فارتحل، فنزل موضعاً يقال له ذات الساحل؛ ونزل فقدم أبو عون عامر بن إسماعيل الحارثيّ، ومعه شعبة بن كثير المازنيّ، فلقوا خيلاً لمروان وافوهم، فهزموهم وأسروا منهم رجالاً، فقتلوا بعضهم، واستحيوا بعضاً، فسألوا عن مروان فأخبروهم بمكانه، على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلاً في كنيسة في بوصير، ووافوهم في آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان في نفرٍ يسير، فأحاطوا به فقتلوه.

قال عليّ: وأخبرني إسماعيل بن الحسن، عن عامر بن إسماعيل قال: لقينا مروان ببوصير ونحن في جماعة يسيرة فشدوا علينا، فانضوينا إلى نخل ولو يعلمون بقلّتنا لأهلوكنا، فقلت لمن معي من أصحابي: فإن أصبحنا فرأوا قلّتنا وعددنا لم ينج منا أحد؛ وذكرت قول بكير بن ماهان: أنت والله تقتل مروان؛ كأني أسمعك، تقول " دهيد ياجونكثان " ؛ فكسرت جفن سيفي، وكسر أصحابي جفون سيوفهم، وقلت: " دهيد ياجونكثان " ؛ فكأنها نار صبّت عليهم، فانهزموا وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله. وركب عامر بن إسماعيل إلى صالح بن عليّ، فكتب صالح بن عليّ إلى أمير المؤمنين أبي العباس: إنّا اتّبعنا عدوّ الله الجعديّ حتى ألجأناه إلى أرض عدوّ الله شبيهه فرعون، فقتلته بأرضه.
قال عليّ: حدثنا أبو طالب الأنصاريّ، قال: طعن مروان رجلٌ من أهل البصرة - يقال له المغود، وهو لا يعرفه - فصرعه، فصاح صائح: صرع أمير المؤمنين، وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان، فاحتزّ رأسه، فبعث عامر بن إسماعيل برأس مروان إلى أبي عون، فبعث بها أبو عون إلى صالح بن عليّ، وبعث صالح برأسه مع يزيد بن هانىء - وكان على شرطه - إلى أبي العباس يوم الأحد، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ورجع صالح إلى الفسطاط، ثم انصرف إلى الشأم، فدفع الغنائم إلى أبي عون، والسلاح والأموال والرّقيق إلى الفضل بن دينار، وخلّف أبا عون على مصر.
قال عليّ: وأخبرنا أبو الحسن الخراسانيّ، قال: حدّثنا شيخ من بكر ابن وائل، قال: إني لبدير قنّي مع بكير بن ماهان ونحن نتحدّث؛ إذ مرّ فتىً معه قربتان؛ حتى انتهى إلى دجلة، فاستقى ماء، ثم رجع فدعاه بكير، فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر، قال: ابن من؟ قال: ابن إسماعيل، من بلحارث، قال: وأنا من بلحارث، قال: فكن من بني مسلية، قال: فأنا منهم، قال: فأنت والله تقتل مروان، لكأني والله أسمعك تقول: " يا جوانكثان دهيد " .
قال عليّ: حدثنا الكنانيّ، قال: سمعت أشياخنا بالكوفة يقولون: بنو مسلية قتلة مروان.
وقتل مروان يوم قتل وهو ابن اثنتين وستين سنة في قول بعضهم، وفي قول آخرين: وهو ابن تسع وستين، وفي قول آخرين: وهو ابن ثمان وخمسين.
وقتل يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً، وكان يكنى أبا عبد الملك. وزعم هشام بن محمد أن أمه كانت أم ولد كرديّة.
وقد حدّثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، عن عليّ بن مجاهد وأبي سنان الجهنيّ، قالا: كان يقال: إنّ أم مروان بن محمد كانت لإبراهيم بن الأشتر؛ أصابها محمد بن مروان بن الحكم يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله وهي تتنيّق، فولدت مروان على فراشه، فلما قام أبو العباس دخل عليه عبد الله بن عيّاش المنتوف، فقال: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النّخع ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عبد المطلب.
وفي هذه السنة قتل عبد الله بن عليّ من قتل بنهر أبي فطرس من بني أمية، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.
وفيها خلع أبو الورد أبا العباس بقنّسرين؛ فبيّض وبيّضوا معه.
ذكر الخبر عن تبيض أبي الوردوما آل إليه أمره وأمر من بيّض معه

وكان سبب ذلك - فيما حدّثني أحمد بن زهير - قال: حدّثني عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: كان أبو الورد - واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابيّ، من أصحاب مروان وقوّاده وفرسانه - فلما هزم مروان، وأبو الورد بقنّسرين، قدمها عبد الله بن عليّ فبايعه ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة. وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قوّاد عبد الله ابن عليّ من الأزار مردين في مائة وخمسين فارساً، فبعث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، فخرج من مزرعة يقال لها زرّاعة بني زفر - ويقال لها خساف - في عدّة من أهل بيته؛ حتى هجم على ذلك القائد وهو نازل في حصن مسلمة؛ فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع لعبد الله بن عليّ، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك، فبيّضوا بأجمعهم، وأبو العباس يومئذ بالحيرة وعبد الله بن عليّ يومئذ مشتغل بحرب حبيب بن مرّة المرّيّ، فقاتله بأرض البلقاء والبثنيّة وحوران. وكان قد لقيه عبد الله بن عليّ في جموعه فقاتلهم وكان بينه وبينهم وقعات؛ وكان من قوّاد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وعلى قومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور؛ البثنية وحوران. فلما بلغ عبد الله بن علي تبييضهم، دعا حبيب بن مرّة إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجّهاً نحو قنّسرين للقاء أبي الورد، فمرّ بدمشق، فخلف فيها أبا غانم عبد الحميد بن ربعيّ الطائيّ في أربعة آلاف رجل من جنده؛ وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بن عليّ أمّ البنين بنت محمد بن عبد المطلب النوفليّة أخت عمرو بن محمد، وأمهات أولاد لعبد الله وثقل له. فلما قدم حمص في وجهه ذلك انتقض عليه بعده أهل دمشق فبيّضوا، ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزديّ. قال: فلقوا أبا غانم ومن معه، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن عليّ خلّف من ثقله ومتاعه؛ ولم يعرضوا لأهله، وبيّض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف، ومضى عبد الله بن عليّ - وقد كان تجمّع مع أبي الورد جماعة أهل قنّسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، وقدمهم ألوف، عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: هو السفيانيّ الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفاً - فلما دنا منهم عبد الله بن عليّ وأبو محمد معسكر في جماعته بمرج يقال له مرج الأخرم - وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبّر له وصاحب القتال والوقائع - وجّه عبد الله أخاه عبد الصمد بن عليّ في عشرة آلاف من فرسان من معه؛ فناهضهم أبو الورد، ولقيهم فيما بين العسكرين، واشتجر القتل فيما بين الفريقين وثبت القوم، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من معه من القوّاد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانكشف جماعة ممّن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة فهزموهم، وثبت أبو الورد في ينحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبيّة حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنّسرين، وسوّدوا وبايعوه، ودخلوا في طاعته؛ ثم انصرف راجعاً إلى أهل دمشق، لما كان من تبييضهم عليه، وهزيمتهم أبا غانم. فما دنا من دمشق هرب الناس وتفرقوا، ولم يكن بينهم وقعة، وآمن عبد الله أهلها، وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم.
قال: ولم يزل أبو محمد متغيباً هارباً؛ ولحق بأرض الحجاز. وبلغ زياد بن عبيد الله الحارثيّ عامل أبي جعفر مكانه الذي تغيّب فيه، فوجّه إليه خيلاً، فقاتلوه حتى قتل، وأخذ ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد وابنيه إلى أبي جعفر أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما.

وأما عليّ بن محمد فإنه ذكر أنّ النعمان أبا السريّ حدّثه وجبلة بن فرّوخ وسليمان بن داود وأبو صالح المروزيّ. قالوا: خلع أبو الورد بقنّسرين، فكتب أبو العباس إلى عبد الله بن عليّ وهو بفطرس أن يقاتل أبا الورد، ثم وجّه عبد الصمد إلى قنّسرين في سبعة آلاف، وعلى حرسه مخارق بن غفار، وعلى شرطه كلثوم بن شبيب؛ ثم وجّه بعده ذؤيب بن الأشعث في خمسة آلاف، ثم جعل يوجه الجنود، فلقي عبد الصمد أبا الورد في جمع كثير، فانهزم الناس عن عبد الصمد حتى أتوا حمص؛ فبعث عبد الله بن عليّ العباس بن يزيد بن زياد ومروان الجرجانيّ وأبا المتوكل الجرجانيّ؛ كلّ رجل في أصحابه إلى حمص؛ وأقبل عبد الله بن عليّ بنفسه، فنزل على أربعة أميال من حمص - وعبد الصمد بن عليّ بحمص - وكتب عبد الله إلى حميد ابن قحطبة، فقدم عليه من الأردنّ، وبايع أهل قنسرين لأبي محمد السفيانيّ زياد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وأبو الورد بن...، وبايعه الناس، وأقام أربعين يوماً، وأتاهم عبد الله بن عليّ ومعه عبد الصّمد وحميد بن قحطبة، فالتقوا فاقتتلوا أشدّ القتال بينهم، واضطرهم أبو محمد إلى شعب ضيّق، فجعل الناس يتفرّقون، فقال حميد بن قحطبة لعبد الله بن عليّ: علام نقيم؟ هم يزيدون وأصحابنا ينقصون! ناجزهم؛ فاقتتلوا يوم الثلاثاء في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وعلى ميمنة أبي محمد أبو الورد وعلى مييسرته الأصبغ بن ذؤالة، فجرح أبو الورد، فحمل إلى أهله فمات. ولجأ قوم من أصحاب أبي الورد إلى أجمة فأحرقوها عليهم؛ وقد كان أهل حمص نقضوا، وأرادوا إيثار أبي محمد؛ فلما بلغهم هزيمته أقاموا.
ذكر خبر خلع حبيب بن مرّة المرّيّ
وفي هذه السّنة خلع حبيب بن مرة المرّي وبيّض هو ومن معه من أهل الشأم.
ذكر الخبر عن ذلك ذكر عليّ عن شيوخه، قال: بيّض حبيب بن مرّة المريّ وأهل البثنيّة وحوران، وعبد الله بن عليّ في عسكر أبي الورد الذي قتل فيه.
وقد حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: كان تبييض حبيب بن مرة وقتاله عبد الله بن عليّ قبل تبييض أبي الورد، وإنما بيّض أبو الورد وعبد الله مشتغل بحرب حبيب بن مرة المريّ بأرض البلقاء أو البثنية وحوران، وكان قد لقيه عبد الله بن عليّ في جموعه فقاتله، وكان بينه وبينه وقعات، وكان من قوّاد مروان وفرسانه؛ وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممّن يليهم من أهل تلك الكور؛ البثنية وحوران، فلما بغل عبد الله ابن عليّ تبييض أهل قنّسرين، دعا حبيب بن مرّة إلى الصلح فصالحه، وآمنه ومن معه، وخرج متوجهاً إلى قنّسرين للقاء أبي الورد.
ذكر خبر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم أبا العباسوفي هذه السنة بيّض أيضاً أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس.
ذكر الخبر عن أمرهم وما آل إليه حالهم فيه حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: كان أهل الجزيرة بيّضوا ونقضوا؛ حيث بلغهم خروج أبي الورد وانتقاض أهل قنّسرين، وساروا إلى حرّان، وبحرّان يومئذ موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من الجند، فتشبّث بمدينتها، وساروا إليه مبيّضين من كلّ وجه، وحاصروه ومن معه؛ وأمرهم مشتت؛ ليس عليهم رأس يجمعهم.

وقدم على تفيئة ذلك إسحاق بن مسلم من أرمينية - وكان شخص عنها حين بلغه هزيمة مروان - فرأسه أهل الجزيرة عليهم. وحاصر موسى بن كعب نحواً من شهرين، ووجّه أبو العباس أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتى مرّ بفرقيسيا وأهلها مبيّضون، وقد غلّقوا أبوابها دونه. ثم قدم مدينة الرّقة وهم على ذلك، وبها بكار بن مسلم، فمضى نحو حرّان، ورحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء - وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من مدينة حرّان، فلقوا أبا جعفر. وقدم بكار على أخيه إسحاق بن مسلم، فوجّهه إلى جماعة ربيعة بدارا وماردين - ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحروريّة يقال له بريكة - فصمد إليه أبو جعفر، فلقيهم فقاتلوه بها قتالاً شديداً، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء فخلفه إسحاق بها، ومضى في عظم العسكر إلى سميساط، فخندق على عسكره. وأقبل أبو جعفر في جموعه حتى قابله بكار بالرّهاء؛ وكانت بينهما وقعات.
وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن عليّ في المسير بجنوده إلى إسحاق بسميساط، فأقبل من الشأم حتى نزل بإزاء إسحاق بسميساط؛ وهم في ستين ألفاً أهل الجزيرة جميعها، وبينهما الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء فكاتبهم إسحاق وطلب إليهم الأمان، فأجابوا إلى ذلك وكتبوا إلى أبي العباس، فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، ففعلوا وكتبوا بينهم كتاباً، ووثقوا له فيه، فخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وتمّ الصلح بينهما؛ وكان عنده من آثر أصحابه. فاستقام أهل الجزيرة وأهل الشأم، وولّى أبو العباس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف.
وقد ذكر أن إسحاق بن مسلم العقيليّ هذا أقام بسمييساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصره، وكان يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أنّ صاحبها قد مات أو قتل. فأرسل إليه أبو جعفر: إنّ مروان قد قتل، فقال: حتى أتيقن، ثم طلب الصلح، وقال: قد علمت أن مروان قد قتل، فآمنه أبو جعفر وقد قيل: إن عبد الله بن عليّ هو الذي آمنه.
ذكر خبر شخوص أبي جعفر إلى خراسانوفي هذه السنة شخص أبو جعفر إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان.
ذكر الخبر عن سبب مسير أبي جعفر في ذلك وما كان من أمره وأمر أبي مسلم في ذلك قد مضى ذكري قبل أمر أبي سلمة، وما كان من فعله فيي أمر أبي العباس ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة، الذي صار به عندهم متّهماً؛ فذكر عليّ بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ قال: قال يزيد بن أسيد: قال أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمير المؤمنين سمرنا ذات ليلة، فذكرنا ما صنع أبو سلمة، فقال رجل منا: ما يدريكم، لعلّ ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم! فلم ينطق منّا أحد، فقال: أمير المؤمنين أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا لبعرض بلاء؛ إلاّ أن يدفعه الله عنّا. وتفرّقنا. فأرسل إليّ أبو العباس، فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك، فقال: ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك، فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك؛ فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.

فخرجت على وجل؛ فلما انتهيت إلى الريّ، إذا صاحب الريّ قد أتاه كتاب أبي مسلم: إنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجّه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه عليك. فلما قدمت أتاني عامل الريّ فأخبرني بكتاب أبي مسلم، وأمرني بالرّحيل، فازددت وجلاً، وخرجت من الريّ وأنا حذرٌ خائف فسرت؛ فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم، فإن أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه. فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري. فسرت، فلما كنت من مرو على فرسخين، تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا منّي أقبل يمشيإليّ؛ حتى قبّل يدي، فقلت: اركب، فركب فدخل مرو، فنزلت داراً فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة! أكفيكموه! فدعا مرّارا ابن أنس الضبيّ، فقال: انطلق إلى الكوفة، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته؛ وانته في ذلك إلى رأي الإمام. فقدم مرار الكوفة؛ فكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد في يطريقه، فلما خرج قتله فقالوا: قتله الخوارج.
قال عليّ: فحدثني شيخ من بني سليم، عن سالم، قال: صحبت أبا جعفر من الرّيّ إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدّار ويجلس في اعلدهليز، ويقول: استأذن لي، فغضب أبو جعفر عليّ، وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته. ففعلت وقلت لأبي مسلم: إنه قال كذا وكذا، قال: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه.
وقد قيل: إنّ أبا العباس قد كان تنكّر لأبي سلمة قبل ارتحاله من عسكره بالنخيلة، ثم تحوّل عنه إلى المدينة الهاشميّة، فنزل قصر الإمارة بها، وهو متنكر له، قد عرف ذلك منه، وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه، وما كان همّ به من الغشّ، وما يتخوّف منه، فكتب أبو مسلم إلى أمير المؤمنين: إن كان اطلع على ذلك منه فليقتله؛ فقال داود بن عليّ لأبي العبااس: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فيحتجّ عليك بها أبو مسلم وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله؛ ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرّار بن أنس الضبيّ، فقدم على أبي أبي العباس في المدينة الهاشميّة، وأعلمه سبب قدومه، فأمر أبو العباس منادياً فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه وكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلةً، فلم يزل عنده حتى ذهب عامّة الليل، ثم خرج منصرفاً إلى منزله يمشي وحده؛ حتى دخل الطاقات، فعرض له مرّار بن أنس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة. ثم أخرج من الغد؛ فصلى عليه يحيى بن محمد بن عليّ، ودفن في المدينة الهاشميّة، فقا سليمان بن المهاجر البجليّ:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبس مسلم: أمين آل محمد. فلما قتل أبو سلمة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر في ثلاثين رجلاً إلى أبي مسلم؛ فيهم الحجاج بن أرطاة وإسحاق بن الفضل الهاشميّ.
ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسين الأعرج وسليمان بن كثير معه، فقال سليمان بن كثير للأعرج: يا هذا؛ إنا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم؛ فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظنّ عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فخاف ذلك. وبلغ أبا مسلم مسايرة سليمان بن كثير إياه، وأتى عبيد الله أبا مسلم، فذكر له ما قال سليمان، وظنّ أنه إن لم يفعل ذلك اغتاله فقتله، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بن كثير، فقال له: أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم، قال: فإني قد اتّهمتك، فقال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني الله وأ،ت منطوٍ على غشّ الإمام؛ فأمر بضرب عنقه. ولم ير أحداً ممن كان يضرب عنقه أبو مسلم غيره، فانصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم، فقال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال أبو العباس: اسكت فاكتمها.
ذكر الخبر عن حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط

وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة؛ وقد ذكرنا ما ككان من أمر الجيش الذين لقوه من أهل خراسان مع قحطبة، ثم مع ابنه الحسن بن قحطبة وانهزامه ولحاقه بمن معه من جنود الشأم بواسط متحصّناً بها؛ فذكر عليّ بن محمد عن أبي عبد الله السلميّ عن عبد الله بن بدر وزهير بن هنيد وبشر بن عيسى وأبي السريّ أنّ ابن هبيرة لما انهزم تفرّق الناس عنه، وخلّف على الأثقال قوماً، فذهبوا بتلك الأموال فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم! امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر، قال: بل نأتي واسطاً فننظر، قال: ما تزيد على أن تمكّنه من نفسك وتقتل، فقال له يحيى بن حضين: إنك لا تأتي مروان بشيء أحبّ إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتى تقدم عليه؛ وإياك وواسطاً؛ فتصير في حصار، وليس بعد الحصار إلا القتل. فأبى. وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه؛ فخافه إن قدم عليه أن يقتله، فأتى واسطاً فدخلها، وتحصّن بها.
وسرّح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق الحسن وأصحابه، فنزلوا فيما بين الزّاب ودجلة؛ وضرب الحسن سرادقه حيال باب المضمار، فأوّل وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء، فقال أهل الشأم لابن هبيرة: ائذن لنا فيي قتالهم، فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة، وعلى ميمنته ابنه داود، ومعه محمد بن نباتة في ناس من أهل خراسان، فيهم أبو العود الخراسانيّ، فالتقوا وعلى ميمنته الحسن خازم بن خزيمة، وابن هبيرة قبالة باب المضمار، فحمل خازم على ابن هبيرة، فهزموا أهل الشأم حتى ألجئوهم إلى الخنادق، وبادر الناس باب المدينة حتى غصّ باب المضمار، ورمى أصحاب العرّادات بالعرّادات والحسن واقف. وأقبل يسير في الخيل فيما بين النهر والخندق، ورجع أهل الشأم، فكرّ عليهم الحسن، فحالوا بينه وبين المدينة، فاضطروهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقّوه هم بالسفن، فحملوهم، وألقى ابن نابة يومئذ سلاحه واقتحم، فتبعوه بسفينة فركب وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام، ثم خرجوا إليهم يوم الثلاثاء فاقتتلوا، فحمل رجل من أهل الشام على أبي حفص هزار مرد، فضربه وانتمى: أنا الغلام السلميّ، وضربه أبو حفص وانتمى: أنا الغلام العتكيّ، فصرعه، وانهزم أهل الشأم هزيمة قبيحة، فدخلوا المديينة؛ فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رمياً من وراء الفصيل.
وبلغ ابن هبيرة وهو في الحصار أن أبا أميّة التغلبيّ قد سوّد، فأرسل أبا عثمان إلى منزله، فدخل على أبي أمية في قبّته، فقال: إنّ الأمير أرسلني إليك لأفتّش قبتك، فإن كان فيها سواد علقته في عنقك وحبلاً، ومضيت بك إليه؛ وإن لم يكن في بيتك سواد فهذه خمسون ألفاً صلة لك. فأبى أن يدعه أن يفتش قبّته، فذهب به إلى ابن هبيرة فحبسه، فتكلّم في ذلك معن ابن زائدة وناس من ربيعة، وأخذوا ثلاثة من بني فزارة؛ فحبسوهم وشتموا ابن هبيرة، فجاءهم يحيى بن حضين، فكلّمهم فقالوا: لا نخلي عنهم حتى يخلى عن صاحبنا؛ فأبى ابن هبيرة، فقال له: ما تفسد إلاّ على نفسك وأنت محصور؛ خلّ سبيل هذا الرجل، قال: لا ولا كرامة؛ فرجع ابن حضين إليهم فأخبرهم، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجليّ، فقال ابن حضين لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم؛ وإن تماديت في ذلك كانوا أشدّ عليك ممّن حصرك؛ فدعا أبا أميّة فكساه، وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه.

وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناتحية سجستان، فأوفد الحسن بن قحطبة وفداً إلى أبي العباس بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيرلان ابن عبد الله الخزاعيّ - وكان غيلان واجداً على الحسن لأنه سرّحه إلى روح ابن حاتم مدداً له - فلما قدم على أبي العباس قال: أشهد أنك أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين؛ فقال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك، قال: غفر الله لك، فقال داود بن عليّ: وفّقك الله يا أبا فضالة، فقال له غيلان: يا أميير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك، قال: أوليس عليكم رجل من أهل بيتي! الحسن بن قحطبة؛ قال: يا أمير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه، وتقرّ أعيننا به، قال: نعم يا غيلان؛ فبعث أبا جعفر، فجعل غيلان على شرطه فقدم واسطاً، فقال أبو نصر لغيلان: ما أردت لا ما صنعت؟ قال: " به بود " ، فمكث أياماً على الشرط، ثم قال لأبي جعفر: لا أقوى على الشّرط؛ ولكني أدلك على مَن هو أجلد مني، قال: من هو؟ قال: جهور بن مرار، قال: لا أقدر على عزلك؛ لأن أمير المؤمنين استعملك، قال: اكتب إليه فأعلمه، فكتب إليه، فكتب إليه أبو العباس: أن اعمل برأي غيلان، فولّى شرطه جهوراً. وقال أبو جعفر للحسن: ابغني رجلاً أجعله على حرسي، قال: من قد رضيته لنفسي؛ عثمان بن نهيك، فولّى الحرس.
قال بشر بن عيسى: ولما قدم أبو جعفر واسطاً، تحوّل له الحسن عن حجرته، فقاتلهم وقاتلوه، فقاتلهم أبو نصر يوماً، فانهزم أهل الشأم إلى خنادقهم؛ وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذاميّ، فلما جاوزهم أهل خراسان، خرجوا عليهم؛ فقاتلوهم حتى أمسوا، وترجّل لهم أبو نصر؛ فاقتتلوا عند الخنادق، ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلاّلين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل. وسرّح ابن هبيرة إلى معن أن ينصرف. فانصرف ومكثوا أياماً. وخرج أهل الشأم أيضاً مع محمد بن نباتة ومعن بن زائدة وزياد بن صالح وفرسان من فرسان أهل الشأم، فقاتلهم أهل خراسان، فهموهم إلى دجلة، فجعلوا يتساقطون في دجلة، فقال أبو نصر: يا أهل خراسان مردمان خائنه بيابان هستيدوبرخزيد، فرجعوا وقد صرع ابنه، فحماه روح بن حاتم، فمرّ به أبوه، فقال له بالفارسية: قد قتلوك يا بنيّ؛ لعن الله الدنيا بعدك! وحملوا على أهل الشأم فهزموهم حتى أدخلوهم مدينة واسط، فقال بعضهم لبعض: لا والله لا تفلح بعد عيشتنا أبداً؛ خرجنا عليهم ونحن فرسان أهل الشأم، فهزمونا حتى دخلنا المدينة.
وقتل تلك العشيّة من أهل خراسان بكار الأنصاريّ ورجل من أهل خراسان؛ كانا من فرسان أهل خراسان؛ وكان أبو نصر في حصار ابن هبيرة يملأ السفن حطباً، ثم يضرمها بالنار لتحرق ما مرّت به؛ فكان ابن هبيرة يهيّىء حرّاقات كان فيها كلاليب تجرّ تلك السفن؛ فمكثوا بذلك أحد عشر شهراً، فلما طال ذلك عليهم طلبوا الصلح؛ ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسريّ، وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم، وقد قتل مروان!

وقد قيل: إنّ أبا العباس وجّه أبا جعفر عند مقدمه من خراسان منصرفاً من عند أبي مسلم إلى ابن هبيرة لحربه، فشخص أبو جعفر حتى قدم على الحسن ابن قحطبة؛ وهو محاصر ابن هبيرة بواسط، فتحوّل له الحسن عن منزله، فنزله أبو جعفر، فلما طال الحصار على ابن هبيرة وأصحابه تحنّى عليه أصحابه فقالت اليمانية: لا نعين مروان وآثاره فينا آثاره. وقالت النزاريّة: لا نقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية؛ وكان إنما يقاتل معه الصعاليك والفتيان؛ وهمّ ابن هبيرة أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن؛ فكتب إليه فأبطأ جوابه؛ وكاتب أبو العباس اليمانية من أصحاب ابن هبيرة؛ وأطمعهم. فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان؛ ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية أبي العباس فلم يفعلا؛ وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أماناً، وكتب به كتاباً، مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس، فأمره بإمضائه؛ وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على أبي العباس، فكتب غليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد؛ لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تمّ الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة من البخاريّة؛ فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلاّم بن سليم، فقال: مرحباً بك أبا خالد! انزل راشداً؛ وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، ثم دعا بالقوّاد فدخلوا، ثم قال سلاّم: ادخل أبا خالد؛ فقال له: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل، ووضعت له وسادة، فجلس عليها، فحادثه ساعة، ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه؛ ثم مكث يقيم عنه يوماً، ويأتيه يوماً في خمسمائة فارس وثلثمائة راجل؛ فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيّها الأمير؛ إنّ ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر؛ وما نقص من سلطانه شيء، فإذا كان يسير في هذه الفرسان والرّجالة، فما يقول عبد الجبار وجهور! فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في يحاشيته نحواً من ثلاثين. فقال له سلاّم: كأنك تأتي مباهياً! فقال: إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا، فقال: ما أردنا بك استخفافاً، ولا أمر الأمير بما أمر به إلا نظراً لك؛ فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة.
وذكر أبو زيد أنّ محمد بن كثير حدّثه، قال: كلّم ابن هبيرة يوماً أبا جعفر، فقال: يا هناه - أو يأيّها المرء - ثم رجع، فقال: أيها الأمير؛ إنّ عندي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث، فسبقني لساني إلى ما لم أرده. وألحّ أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه؛ حتى كتب إليه: والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير؛ وأمرهما بختم بيوت الأموال. ثم بعث إلى وجوه من معه من القيسيّة والمضرّية، فأقبل محمد ابن نباة وحوثرة بن سهيل وطارق بن قدامة وزياد بن سويد وأبو بكر بن كعب العقيليّ وأبان وبشر ابنا عبد الملك بن بشر؛ في اثنين وعشرين رجلاً من قيس، وجعفر بن حنظلة وهزّان بن سعد.
قال: فخرج سلاّم بن سليم، فقال: أين حوثرة ومحمد بن نباتة؟ فقاما، فدخلا، وقد أجلس عثمان بن نهيك والفضل بن سليمان وموسى بن عقيل في مائة في حجرة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتّفا، ثم دخل بشر وأبان ابنا عبد الملك بن بشر، ففعل بهما ذلك؛ ثمّ دخل أبو بكر بن كعب وطارق ابن قدامة، فقام جعفر بن حنظلة، فقال: نحن رؤساء الأجناد، ولم يكون هؤلاء يقدّمون علينا؟ فقال: ممن أنت؟ قال: من بهراء، فقال: وراءك أوسع لك، ثم قام هزّان، فتكلم فأخّر، فقال روح بن حاتم: يا أبا يعقوب، نزعت سيوف القوم، فخرج عليهم موسى بن عقيل، فقالوا له: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به! إنا لنرجو أن يدرككم الله؛ وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له حوثرة: إنّ هذا لا يغني عنك شيئاً؛ فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا. وأخذت خواتيمهم.

وانطلق خازم والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان، انطلق فدلّهم عليه، فأقاموا عند كلّ بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدّار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بن أيّوب وحاجبه وعدّة من مواليه، وبنيٌّ له صغير في حجره؛ فجعل ينكر نظرهم فقال: أقسم بالله إنّ في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم، فقال: ما وراءكم؟ فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه، ونحّى الصبيّ من حجره، وقال: دونكم هذا الصبيّ، وخرّ ساجداً فقتل وهو ساجد، ومضوا برءوسهم إلى أبي جعفر، فنادى بالأمان للناس إلاّ للحكم بن عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزوميّ وعمر بن ذرّ، فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذرّ فآمنه أبو العباس، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالداً، فقتله أبو العباس، ولم يجز أمان أبي جعفر، وهرب أبو علاقة وهشام ابن هشيم بن صفوان بن مزيد الفزاريّان، فلحقهما حجر بن سعيد الطائيّ فقتلهما على الزّاب، فقال أبو عطاء السّنديّ يرثيه:
ألا إنّ عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشيّة قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتمٍ وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهّد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
وقال منقذ بن عبد الرحمن الهلالي يرثيه:
منع العزاء حرارة الصدر ... والحزن عقد عزيمة الصبر
لما سمعت بوقعة شملت ... بالشييب لون مفارق الشعر
أفنى الحماة الغرّ أن عرضت ... دون الوفاء حبائل الغدر
مالت حبائل أمرهم بفتىً ... مثل النجوم حففن بالبدر
عالى نعيهم فقلت له ... هلاّ أتيت بصيحة الحشر!
لله درّك من زعمت لنا ... أن قد حوته حوادث الدهر
من للمنابر بعد مهلكهم ... أو من يسد مكارم الفخر!
فإذا ذكرتهم شكا ألماً ... قلبي لفقد فوارس زهر
قتلى بدجلة ما يغمّهم ... إلا عباب زواخر البحر
فلتبك نسوتنا فوارسها ... خير الحماة ليالي الذّعر
وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدّثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بن عبد الملك خطب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجّه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بن عمر وبين الوليد بن القعقاع كلام؛ فبعث به هشام إلى الوليد بن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة:
يا قل خير رجال لا عقول لهم ... من يعدلون إلى المحبوس في حلب
إلى امرىء لم تصبه الدّهر معضلة ... إلا استقلّ بها مسترخي اللبب
وقيل: إن أبا العباس لما وجّه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بن قحطبة: إن العسكر عسكرك، والقوّاد قوّادك؛ ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته. وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك؛ فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور.
وفي هذه السنة وجّه أبو مسلم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم. ففعل ذلك.
وفي هذه السنة وجّه أبو العباس عمّه عيسى بن عليّ على فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فهمّ به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم عليّ أحد يدّعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه. ثم ارتدع عن ذلك لما تخوّف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالأيمان المحرجة ألاّ يعلو منبراً، ولا يتقلد سيفاً إلاّ في جهاد؛ فلم يل عيسى بعد ذلك عملاً، ولا تقلد سيفاً إلاّ في غزو. ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بن عليّ والياً على فارس.
وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ووجه أخاه يحيى بن محمد بن عليّ والياً على الموصل.

وفيها عزل عمّه داود بن عليّ عن الكوفة وسوادها، وولاّه المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولّى موضعه وما كان إليه من عمل الكوفة وسوادها عيسى بن موسى.
وفيها عزل مروان - وهو بالجزيرة عن المدينة - الوليد بن عروة، وولاها أخاه يوسف بن عروة؛ فذكر الواقديّ أنه قدم المدينة لأربع خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها استقضى عيسى بن موسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وكان العامل على البصرة في هذه السنة سفيان بن معاوية المهلبيّ. وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان عبد الله بن محمد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشأم عبد الله بن عليّ، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحجّ بالناس في هذه السنة داود بن عليّ بن عبد الله بن العباس.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

ذكر ما كان في هذه السنة من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه أبي العباس عمّه سليمان بن عليّ والياً على البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجانقذق، وتوجيهه أيضاً عمه إسماعيل بن عليّ على كور الأهواز.
وفيها قتل داود بن عليّ من كان أخذ من بني أميّة بمكة والمدينة.
وفيها مات داود بن عليّ بالمدينة في شهر ربيع الأول؛ وكانت ولايته - فيما ذكر محمد بن عمر - ثلاثة أشهر.
واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى؛ ولما بلغت أبا العباس وفاته وجّه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثيّ، ووجّه محمد بن يزيد بن عبد الله ابن عبد المدان على اليمن، فقدم اليمن في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم وجّه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلميّ؛ وهو أبو حماد الأبرص - إلى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر والياً عليها، وإلى عبد الله وصالح ابني عليّ على أجناد الشأم.
وفيها توجّه محمد بن الأشعث إلى إفريقيّة فقاتلهم قتالاً شديداً حتى فتحها.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهريّ بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه، وقال: ما على هذا اتّبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحقّ. وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفاً، فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعيّ فقاتله فقتله.
وفيها توجّه أبو داود خالد بن إبراهيم من الوخش إلى الختّل، فدخلها ولم يمتنع عليه حنش بن السبل ملكها، وأتاه ناس من دهاقين الختل، فتحصّنوا معه؛ وامتنع بعضهم في الدروب والشعاب والقلاع. فلما ألحّ أبو داود على حنش، خرج من الحصن لييلاً ومعه دهاقينه وشاكريّته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة؛ ثم خرج منها في أرض الترك، حتى وقع إلى ملك الصين؛ وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فجاوز بهم إلى بلخ، ثم بعث بهم إلى أبي مسمل.
وفيها قتل عبد الرحمن بن يزييد بن المهلب؛ قتله سليمان الذي يقال له الأسود، بأمان كتبه له.
وفيها وجّه صالح بن عليّ سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة؛ وراء الدروب.
وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه إسماعيل بن عليّ.
وحجّ بالناس في هذه السنة زياد بن عبيد الله الحارثيّ؛ كذلك حدّثني أحمد ابن ثابت، عمّن حدّثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وكان علي الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وأعمالها وكوردجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان ابن عليّ، وعلى قضائها عبّاد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعييل بن عليّ وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السّند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردّن عبد الله بن عليّ، وعلى فلسطين صالح بن عليّ.
وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد المنصور، وعلى الموصل إسماعيل بن عليّ، وعلى أرمينية صالح بن صبيح، وعلى أذربيجان مجاشع بن يزيد.
وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
ذكر ما كان فييها من الأحداث

ذكر خبر خلع بسام بن إبراهيم ففيها خالف بسام بن إبراهيم بن بسام، وخلع، وكان من فرسان أهل خراسان. وشخص - فيما ذكر - من عسكر أبي العباس أمير المؤمنين مع جماعة ممّن شاييعه على ذلك من رأيه؛ مستسرّين بخروجهم، ففحص عن أمرهم وإلى أين صاروا، حتى وقف على مكانهم بالمدائن، فوجّه إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة، فلما لقي بساماً ناجزه القتال، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره، ومضى خازم وأصحابه في طلبهم، في أرض جوخي إلى أن بلغ ماه، وقتل كلّ من لحقه منهزماً، أو ناصبه القتال؛ ثم انصرف من وجهه ذلك؛ فمرّ بذات المطامير - أو بقرية شبيهة بها - وبها من بني الحارث بن كعب من بني عبد المدان؛ وهم أخوال أبي العباس ذنبة فمرّ بهم وهم في مجلس لهم - وكانوا خمسة وثلاثين رجلاً منهم ومن غيرهم ثمانية عشر رجلاً، ومن مواليهم سبعة عشر رجلاً - فلم يسلّم عليهم، فلما جاز شتموه؛ وكان في قلبه عليهم ما كان لما بلغه عنهم من حال المغرة بن الفزع، وأنه لجأ إليهم، وكان من أصحاب بسام بن إبراهيم فكرّ راجعاً، فسألهم عما بلغه من نزول المغيرة بهم؛ فقالوا: مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه؛ فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنها، فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين ويأتيكم عدوّه، فيأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعاً، وهدمت دورهم، وانتهبت أموالهم، ثم انصرف إلى أبي العباس؛ وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك؛ واجتمعت كلمتهم، فدخل زياد بن عبيد الله الحارثيّ على أبي العباس مع عبد الله بن الربيع الحارثيّ وعثمان بن نهيك، وعبد الجبار بن عبد الرحمن؛ وهو يومئذ على شرطة أبي العباس؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن خادماً اجترأ عليك بأمر لم يكن أحد من أقرب ولد أبيك ليجترىء عليك به؛ من استخفافه بحقّك؛ وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد، وأتوك معتزّين بك، طالبين معروفك؛ حتى إذا صاروا إلى دارك وجوارك، وثب عليهم خازم فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، وأنهب أموالهم، وأخرب ضياعهم؛ بلا حدث أحدثوه. فهمّ بقتل خازم؛ فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا على أبي العباس، فقالا: بلغنا يا أمير المؤمنين ما كان من تحميل هؤلاء القوم إياك على خازم؛ وإشارتهم عليك بقتله؛ وما هممت به من ذلك؛ وإنا نعيذك بالله من ذلك؛ فإنّ له طاعة وسابقة؛ وهو يحتمل له ما صنع؛ فإنّ شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب من الأولاد والآباء والإخوان؛ وقتلوا من خالفكم، وأنت أحقّ من تعمد إساءة مسيئهم؛ فإن كنت لا بد مجمعاً على قتله فلا تتولّ ذلك بنفسك، وعرّضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك. وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج إلى الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ، فأمر أبو العباس بتوجيهه مع سبعمائة رجل؛ وكتب إلى سليمان بن عليّ وهو على البصرة بحملهم في السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فشخص.
أمر الخوارج مع خزيمة بن خازم وقتل شيبان بن عبد العزيز وفي هذه السنة شخص خازم بن خزيمة إلى عمان، فأوقع بمن فيها من الخوارج، وغلب عليها وعلى ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجيّ.
ذكر الخبر عما كان منه هنالك:

ذكر أن خازم بن خزيمة شخص في السبعمائة الذين ضمّهم إليه أبو العباس، وانتخبمن أهل بيته وبني عمه ومواليه ورجال من أهل مرو الرّوذ، قد عرفهم ووثق بهم؛ فسار إلى البصرة، فحملهم سليمان بن عليّ، وانضمّ إلى خازم بالبصرة عدّة من بني تميم، فساروا حتى أرسوا بجزيرة ابن كاوان، فوجّه خازم نضلة بن نعيم النهشليّ في خمسمائة رجل من أصحابه إلى شيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فركب شيبان وأصحابه السفن، فقطعوا إلى عمّان - وهم صفرّية - فلما صاروا إلى عمان نصب لهم الجلندي وأصحابه - وهم إباضية - فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل شيبان ومن معه، ثم سار خازم في البحر بمن معه؛ حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى صحراء، فلقيهم الجلندي وأصحابه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم؛ وهم يومئذ على ضفة البحر، وقتل فيمن قتل أخ لخازم لأمه يقال له إسماعيل، في تسعين رجلاً من أهل مرو الروذ، ثم تلاقوا في اليوم الثاني؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً، وعلى ميمنته رجل من أهل مرو الروذ، يقال له حميد الورتكانيّ، وعلى ميسرته رجل من أهل مرو الرّوذ يقال له مسلم الأرغديّ، وعلى طلائعه نضلة بن نعيم النهشليّ، فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة رجل، وأحرقوا منهم نحواً من تسعين رجلاً. ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به عليه رجل من أهل الصغد، وقع بتلك البلاد، فأشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران؛ ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي. وكانت من خشب وخلاف؛ فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم شدّ عليهم خازم وأصحابه؛ فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين منهم، وقتل الجلندي فيمن قتل، وبلغ عدّة من قتل عشرة آلاف؛ وبعث خازم برءوسهم إلى البصرة، فمكثت بالبصرة أياماً، ثم بعث بها إلى أبي العباس، وأقام خازم بعد ذلك أشهراً؛ حتى أتاه كتاب أبي العباس بإقفاله فقفلوا.
ذكر غزوة كسّ وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كسّ فقتل الأخريد ملكها؛ وهو سامع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك ممايلي كسّ؛ وأخذ أبو داود من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصيينيّة المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن السروج الصينيّة ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئاً كثيراً، فحمله أبو داود أجمع إلى أب مسلم وهو بسمرقند، وقتل أبو داود دههقان كسّ في عدّة من دهاقينها واستحيا طاران أخا الأخريد وملكه على كسّ، وأخذ ابن النجاح وردّه إلى أرضه، وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصّغد وأهل بخارى، وأمر ببناء حائط سمرقند، واستخلف زياد بن صالح على الصّغد وأهل بخارى، ثم رجع أبو داود إلى بلخ.
ذكر قتال منصور بن جمهور وفي هذه السنة وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور ابن جمهور، وفرض لثلاثة آلاف رجل من العرب والموالي بالبصرة ولألف من بني تميم خاصّة، فشخص واستخلف مكانه على شرطة أبي العباس المسيّب ابن زهير حتى ورد السِّند، ولقي منصور بن جمهور في اثني عشر ألفاً، فهزمه ومن معه، ومضى فمات عطشاً في الرمال.
وقد قيل: أصابه بطن، وبلغ خليفة منصور وثقله، وخرج بيهم في عدّة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر.
وفيها توفّي محمد بن يزيد بن عبد الله وهو على اليمن ، فكتب أبو العباس إلى عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثيّ، وهو عامل لزياد بن عبيد الله على مكة بولايته على اليمن فسار إليها.
وفي هذه السنة تحوّل أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار - وذلك فيما قال الواقديّ وغيره - في ذي الحجة.
وفيها عزل صالح بن صبيح عن أرمينية، وجعل مكانه يزيد بن أسيد.
وفيها عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول.
وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال. وحجّ بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى، وهو على الكوفة وأرضها.

وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عبيد الله، وعلى اليمن عليّ بن الربيع الحارثيّ، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان بن عليّ، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى فلسطين صالح ابن عليّ، وعلى مصر أبو عوان، وعلى موصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول.
وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد أبو جعفر وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردنّ عبد الله بن عليّ.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر خروج زياد بن صالح فمما كان فيها من ذلك خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعداً للقائه، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى الترمذ، وأمره أن ينزل مدينتها، مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها؛ ففعل ذلك نصر، وأقام بها أياماً، فخرج عليه ناس من الراونديّة من أهل الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق، فقتلوا نصراً، فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبّع قتلة نصر، فتتبعهم فقتلهم، فمضى أبو مسلم مسرعاً؛ حتى انتهى إلى آمل، ومعه سباع بن أبي النعمان الأزديّ، وهو الذي كان قدم بعهد زياد بن صالح من قبل أبي العباس، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله. فأخبر أبو مسلم بذلك، فدفع سباع بن النعمان إلى الحسن بن الجنيد عامله على آمل، وأمره بحبسه عنده، وعبر أبو مسلم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه أبو شاكر وأبو سعد الشرويّ في قوّاد قد خلعوا زياداً، فسألهم أبو مسلم عن أمر زياد ومن أفسده، قالوا: سباع بن النعمان، فكتب إلى عامله على آمل أن يضرب سباعاً مائة سوط، ثم يضرب عنقه، ففعل.
ولما أسلم زياداً قوّاده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان باركث، فوثب عليه الدهقان، فضرب عنقه، وجاء برأسه إلى أبي مسلم، فأبطأ أبو داود على أبي مسلم لحال الراونديّة الذين كانوا خرجوا، فكتب إليه أبو مسلم: أما بعد فليفرخ روعك، ويأمن سربك، فقد قتل الله زياداً، فاقدم، فقدم أبو داود، كسّ، وبعث عيسى بن ماهان إلى بسام، وبعث ابن النجاح إلى الإصبهبذ إلى شاوغر، فحاصر الحصن فأما أهل شاوغر فسألوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك. وأما بسام فلم يصل عيسى بن ماهان إلى شيء منه؛ حتى ظهر أبو مسلم بستة عشر كتاباً وجدها من عيسى بن ماهان إلى كامل بن مظفّر صاحب أبي مسلم، يعيب فيها أبا داود، وينسبه فيها إلى العصبيّة وإيثاره العرب وقومه على غيرهم من أهل هذه الدعوة، وأن في عسكره ستة وثلاثين سرادقاً للمستأمنة، فبعث بها أبو مسلم إلى أبي داود، وكتب إليه: إنّ هذه كتب العلج الذي صيّرته عدل نفسك، فشأنك به. فكتب أبو داود إلى عيسى ابن ماهان يأمره بالانصراف إليه عن بسّام، فلما قدم عليه حبسه ودفعه إلى عمر النغم؛ وكان في يده محبوساً، ثم دعا به بعد يومين أو ثلاثة فذكّره صنيعته به وإيثاره إياه على ولده، فأقرّ بذلك، فقال أبو داود: فكان جزاء ما صنعت بك أن سعيت بي وأردت قتلي، فأنكر ذلك، فأخرج كتبه فعرفها، فضربه أبو داود يومئذ حدّين: أحدهما للحسن بن حمدان. ثم قال أبو داود: أمّا إني قد تركت ذنبك لك؛ ولكن الجند أعلم. فأخرج في القيود، فلما أخرج من السرّادق وثب عليه حرب بن زياد وحفص بن دينار مولى يحيى بن حضين، فضرباه بعمود وطبرزين، فوقع إلى الأرض، وعدا عليه أهل الطالقان وغيرهم، فأدخلوه في جوالق، وضربوه بالأعمدة، حتى مات ورجع أبو مسلم إلى مرو.
وحجّ بالناس في هذه السنة سليمان بن عليّ، وهو على البصرة وأعمالها. وعلى فضائها عباد بن منصور.
وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، وعلى المدينة رياد بن عبيد الله الحارثيّ، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى مصر أبو عون، وعلى حمص وقنّسرين وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردنّ عبد الله ابن عليّ، وعلى البلقاء وفلسطين صالح بن عليّ، وعلى الموصل إسماعيل بن عليّ، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر قدوم أبي مسلم على أبي العباس ففي هذه السنة قدم أبو مسلم العراق من خراسان على أبي العباس أمير المؤمنين.
ذكر الخبر عن قدومه عليه وما كان من أمره في ذلكذكر عليّ بن محمد أن الهيثم بن عدّي أخبره والوليد بن هشام، عن أبيه، قالا: لم يزل أبو مسلم مقيماً بخراسان، حتى كتب إلى أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، فأجابه إلى ذلك، فقدم على أبي العباس في جماعة من أهل خراسان عظيمة ومن تبعه من غيرهم من الأنبار؛ فأمر أبو العباس النّاس يتلقونه، فتلقاه الناس، وأقبل إلى أبي العباس، فدخل عليه فأعظمه وأكرمه؛ ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فقال: لولا أن أبا جعفر يحجّ لاستعملتك على الموسم. وأنزله قريباً منه، فكان يأتيه في كلّ يوم يسلم عليه، وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعداً؛ لأن أبا العباس كان بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور. بعد ما صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعده؛ فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان. وأقام أبو جعفر أياماً حتى فرغ من البيعة، ثم انصرف. وكان أبو مسلم قد استخفّ بأبي جعفر في مقدمه ذلك، فلما قدم على أبي العباس أخبره بما كان من استخفافه به.
قال عليّ: قال الوليد عن أبيه: لما قدم أبو مسلم على أبي العباس، قال أبو جعفر لأبي العباس: يا أمير المؤمنين، أطعني واقتل أبا مسلم؛ فوالله إنّ في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما كان بدولتنا؛ والله لو بعثت سنّوراً لقام مقامه. وبلغ ما بلغ في هذه الدولة. فقال له أبو العباس: فكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليكي دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يئول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قد قتل تفرّقوا وذلّوا، قال: عزمت عليك إلاّ كففت عن هذا، قال: أخاف والله إن لم تتغدّه اليوم أن يتعشاك غداً، قال: فدونكه، أنت أعلم.
قال: فخرج أبو جعفر من عنده عازماً على ذلك، فندم أبو العباس وأرسل إلى أبي جعفر: لا تفعل ذلك الأمر.
وقيل: إن أبا العباس لما أذن لأبي جعفر في قتل أبي مسلم، دخل أبو مسلم على أبي العباس، فبعث أبو العباس خصيّاً له، فقال: اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر؛ فأتاه فوجده محتبياً بسيفه، فقال للخصيّ: أجالسٌ أمير المؤمنين؟ فقال له: قد تهيّأ للجلوس، ثم رجع الخصيّ إلى أبي العباس فأخبره بما رأى منه، فردّه إلى أبي جعفر وقال له: قل له الأمر الذي عزمتَ عليه لا تنفذه فكفّ أبو جعفر.
حج أبي جعفر المنصور وأبي مسلم وفي هذه السنة حجّ أبو جعفر المنصور وحجّ معه أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مسيرهما وعن وصفة مقدمهما على أبي العباس: أما أبو مسلم فإنه - فيما ذكر عنه - لما أراد القدوم على أبي العباس، كتب يستأذنه في القدوم للحجّ، فأذن له، وكتب إليه أن اقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إنّي قد وترتُ الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه أن أقبل في ألف؛ فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا تحتمل العسكر؛ فشخص في ثمانية آلاف فرّقهم فيما بين نيسابور والريّ، وقدم بالأموال والخزائن فخلّفها بالريّ، وجمع أيضاً أموال الجبل، وشخص منها في ألف وأقبل؛ فلما أرد الدّخول تلقاه القوّاد وسائر الناس، ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فأذن له، وقال: لولا أنّ أبا جعفر حاجّ لوليتك الموسم.
وأما أبو جعفر فإنه كان أميراً على الجزيرة، وكان الواقديّ يقول: كان إليه مع الجزيرة أرمينية وأذربيجان، فاستخلف على عمله مقاتل بن حكيم العكّي، وقدم على أبي العباس فاستأذنه في الحج؛ فذكر عليّ بن محمد عن الوليد بن هشام عن أبيه أن أبا جعفر سار إلى مكة حاجاً، وحجّ معه أبو مسلم، سنة ست وثلاثين ومائة، فلما انقضى الموسم أقبل أبو جعفر وأبو مسلم، فلما كان بين البستان وذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس؛ وكان أبو جعفر قد تقدّم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل، فأتاه الرسول فأخبره، فأقبل حتى لحق أبا جعفر، وأقبلا إلى الكوفة.

وفي هذه السنة عقد أبو العباس عبد الله بن محمد بن عليّ لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده، وجعله وليّ عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر عيسى ابن موسى بن محمد بن عليّ. وكتب العهد بذلك، وصيّره في ثوب، وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى.
ذكر الخبر عن موت أبي العباس السفاح وفيها توفّي أبو العباس أمير المؤمنين بالنبار يوم الأحد، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة. وكانت وفاته فيميا قيل بالجدَريّ.
وقال هشام بن محمد: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ذي الحجة.
واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته، فقال بعضهم: كان له يوم توفّي ثلاث وثلاثون سنة. وقال هشام بن محمد: كان يوم توفيّ ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: كان له ثمان وعشرون سنة.
وكانت ولايته من لدن قتل مروان بن محمد إلى أن توفيَ أربع سنين، ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر. وقال بعضهم: وتسعة أشهر. وقال الواقديّ: أربع سنين وثمانية أشهر منها ثمانية أشهر وأربعة أيام يقاتل مروان.
وملك بعد مروان أربع سنين. وكان - فيما ذكر - ذا شعرة جعدة، وكان طويلاً أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية.
وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثيّ وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة.
وصلى عليه عمه عيسى بن عليّ، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره.
وكان - فيما ذكر - خلّف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسة سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاثة مطارف خزّ.
خلافة أبي جعفر المنصور وهو عبد الله بن محمد وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة؛ وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة؛ وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له.
وذكر عليّ بن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بن عيّاش، قال: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى، وأرسل عيسى بن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بن الحصين العبديّ بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكيّة، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكيّة، فقال: أمر يزكي لنا إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحجّ، في منزل من منازل طريق مكة؛ يقال له صفيّة، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى.
رجع الحديث إلى حديث عليّ بن محمد: فقال عليّ: حدّثني الوليد، عن أبيه، قال: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، قد تقدّمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه.
وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدّم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. عافاك الله وأمتع بك؛ إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغاً لم يبلغه شيء قطّ، لقيني محمد بن الحصين بكتاب من عيسى بن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك؛ ويبارك لك فيما أنت فيه؛ إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيماً لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصاً على ما يسرّك مني.
وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة؛ وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها.
رجع الحديث إلى حديث عليّ بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع. قال: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعاً شديداً فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال: أتخوّف شرّ عبد الله بن عليّ وشيعة عليّ، فقال: لا تخفه؛ فأنا أكفيك أمره إن شاء الله؛ إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان؛ وهم لا يعصونيي. فسرّي عن أبي جعفر ما كان فيه. وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، وردّ أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك والياً عليها وعلى المدينة لأبي العباس.

وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثيّ عن مكة، وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بن عليّ على أبي العباس الأنبار، فعقد له أبو العباس على الصّائفة في أهل خراسان وأهل الشأم والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس.
وفي بهبذه السنة بعث عيسى بن موسى وأبو الجهم يزيد بن زياد أبا غسان إلى عبد الله بن عليّ ببيعة المنصور، فانصرف عبد الله بن عليّ بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حرّان.
وأقام الحجّ للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور؛ وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة؛ ومن استخلف عليه حين شخص حاجاً.
وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرى وعملها سليمان بن عليّ، وعلى قضائها عبّاد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر صالح ابن عليّ.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
ذكر خبر خروج عبد الله بن عليّ وهزيمته فمما كان فيها من ذلك قدوم المنصور أبي جعفر من مكة ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بن موسى قد شخص إلى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، فدخل أبو جعفر الكوفة فصلّى بأهلها الجمعة يوم الجمعة، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم؛ ووافاه أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار وأقام بها، وجمع إليه أطرافه.
وذكر عليّ بن محمد عن الوليد، عن أبيه، أنّ عيسى بن موسى كان قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدّواوين؛ حتى قدم عليه أبو جعفر الأنبار، فبايع الناس له بالخلافة، ثم لعيسى بن موسى من بعده؛ فسلم عيسى بن موسى إلى أبي جعفر الأمر؛ وقد كان عيسى بن موسى بعث أبا غسّان - واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبي العباس - إلى عبد الله بن عليّ ببيعة أبي جعفر؛ وذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة لأبي جعفر من بعده، فقدم أبو غسان على عبد الله بن عليّ بأفواه الدروب، متوجّهاً يريد الروم؛ فلما قدم عليه أبو غسان بوفاة أبي العباس وهو نازل بموضع يقال له دلوك، أمر منادياً فنادى: الصلاة جامعة فاجتمع إليه القوّاد والجند، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبي العباس، ودعا الناس إلى نفسه؛ وأخبرهم أن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه؛ فأرادهم على المسير إلى مروان بن محمد، وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو وليّ عهدي، فلم ينتدب له غيري؛ فعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت. فقام أبو غانم الطائيّ وخفاف المروروذيّ في عدّة من قوّاد أهل خراسان، فشهدوا له بذلك؛ فبايعه أبو غانم وخفاف وأبو الأصبغ وجميع من كان معه من أولئك القوّاد، فيهم حميد بن قحطبة وخفاف الجرجانيّ وحيّاش بن حبيب ومخارق بن غفار وترارخدا وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، وقد نزل تلّ محمد، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان، وبها مقاتل العكيّ - وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس - فأراد مقاتلاً على البعية فلم يجبه، وتحصّن منه، فأقام عليه وحصره حتى استنزله من حصنه فقتله.
وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن عليّ أبا مسلم؛ فلما بلغ عبد الله إقبال أبي مسلم أقام بحرّان، وقال أبو جعفر لأبي مسلم: إنما هو أنا أو أنت؛ فسار أبو مسلم نحو عبد الله بحرّان، وقد جمع إليه الجنود والسلاح، وخندق وجمع إليه الطعام والعلوفة وما يصلحه، ومضى أبو مسلم سائراً من الأنبار؛ ولم يتخلّف عنه من القوّاد أحد، وبعث على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعيّ؛ وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد قد فارق عبد الله بن عليّ، وكان عبد الله أراد قتله، وخرج معه أبو إسحاق وأخوه وأبو حميد وأخوه وجماعة من أهل خراسان؛ وكان أبو مسلم استخلف على خراسان حيث شخص خالد بن إبراهيم أبا داود.

قال الهيثم: كان حصار عبد الله بن عليّ مقاتلاً العكيّ أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكيّ أماناً، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أياماً يسيرة، ثم وجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزديّ إلى الرّقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتاباً دفعه إلى العكيّ، فلما قدموا على عثمان قتل العكيّ وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بن عليّ وأهل الشأم بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما.
وكان عبد الله بن عليّ خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً؛ أمر صاحب شرطه فقتلهم؛ وكتب لحميد بن قحطبة كتاباً ووجّهه إلى حلب، وعليها زفر بن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكّر في كتابه، وقال: إنّ ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففكّ الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناساً من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي؛ فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بن عليّ في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على الير فلا يفشينّ سرّي، وليذهب حيث أحبّ.
قال: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابّه فأنعلت، وأنعل أصحابه دوابّهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوّز بهم وبهرج الطريق فأخذ على ناحية من الرّصافة؛ رصافة هشام بالشأم، وبالرّصافة يومئذ مولى لعبد الله بن عليّ يقال له سعيد البربريّ، فبلغه أنّ حميد بن قحطبة قد خالف عبد الله بن عليّ، وأخذ في المافزة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه؛ فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله ما لك في قتالي من خير فارجع؛ فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك. فلما سمع كلامه عرف ما قال له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميداً، فلقيه سعيد البربريّ مولى عبد الله بن عليّ، فأخذه فقتله؛ وأقبل عبد الله بن عليّ حتى نزل نصيبين، وخندق عليه.
وأقبل أبو مسلم. وكتب أبو جعفر إلى الحسن بن قحطبة - وكان خليفته بأرمينية - أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشأم، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، ولم أوجّه له، ولكن أمير المؤمنين ولاّني الشأم؛ وإنما أريدها؛ فقال من كان مع عبد الله من أهل الشأم لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبي ذراريّنا! ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذراريّنا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بن عليّ: إنه والله ما يريد الشأم، وما وجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم. قال: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشأم.
قال: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريباً منهم، وارتحل عبد الله بن عليّ من عسكره متوجّهاً نحو الشأم، وتحوّل أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن عليّ في موضعه، وعوّر ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله بن عليّ نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشأم: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهراً خمسة أو ستة، وأهل الشأم أكثر فرساناً وأكمل عدّة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن مسلم العقيليّ، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسديّ، وعلى الخيل عبد الصمد بن عليّ، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بن خزيمة، فقاتلوه أشهراً.

قال عليّ: قال هشام بن عمرو التّغلبيّ: كنت في عسكر أبي مسلم، فتحدّث الناس يوماً، فقيل: أييّ الناس أشدّ؟ فقال: قولوا حتى أسمع، فقال رجل: أهل خراسان. وقال آخر: أهل الشأم، فقال أبو مسلم: كلّ قوم في دولتهم أشدّ الناس. قال: ثم التقينا، فحمل علينا أصحاب عبد الله بن عليّ فصدمونا صدمةً أزالونا بها عن مواضعنا، ثم انصرفوا. وشدّ علينا عبد الصمد في خيل مجرّدة، فقتل منا ثمانية عشر رجلاً، ثم رجع في أصحابه، ثم تجمعوا فرموا بأنفسهم: فأزالوا صفّنا وجلنا جولة، فقلت لأبي مسلم: لو حرّكت دابتي حتى أشرف على هذا التلّ فأصبح بالناس، فقد انهزموا! فقال: افعل، قال: قلت: وأنت أيضاً فتحرّك دابتك، فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال، ناد: يا أهل خراسان ارجعوا؛ فإن العاقبة لمن اتقى.
قال: ففعلت، فتراجع الناس، وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال:
من كان ينوي أهله فلا رجع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع
قال: وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللاً في الميمنة أو في الميسرة أرسل إلى صاحبها: إنّ في ناحيتك انتشاراً، فاتّق ألاّ نؤتى من قبلك؛ فافعل كذا، قدّم خيلك كذا، أو تأخّر كذا إلى موضع كذا، فإنما رسله تختلف إليهم برأيه حتى ينصرف بعضهم عن بعض.
قال: فلما كان يوم الثلاثاء - أو الأربعاء - لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ومائة - أو سبع وثلاثين ومائة - التقوا فاقتتقوا قتالاً شديداً. فلما رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة - وكان على ميمنته - أن أعر الميمنة، وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم. فلما رأى ذلك أهل الشأم أعروا ميسرتهم، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم. ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشأم، فحملوا عليهم فحطموهم، وجال أهل القلب والميمنة.
قال: وركبهم أهل خراسان، فكانت الهزيمة، فقال عبد الله بن عليّ لابن سراقة الأزديّ - وكان معه: يا بن سراقة، ما ترى؟ قال: أرى والله أن تصبر وتقاتل حتى تموت؛ فإنّ الفرار قبيح بمثلك، وقبل عبته على مروان، فقلت: قبح الله مروان! جزع من الموت ففرّ! قال: فإني آتي العراق، قال: فأنا معك، فانهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا في عسكر عبد الله بن عليّ، فغضب من ذلك أبو مسلم. ومضى عبد الله بن عليّ وعبد لصمد بن علي؛ فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فآمنه أبو جعفر، وأما عبد الله بن عليّ فأتى سليمان بن عليّ بالبصرة، فأقام عنده. وآمن أبو مسلم الناس فلم يقتل أحداً، وأمر بالكفّ عنهم.
ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بن عليّ إسماعيل بن عليّ.
وقد قيل: إن عبد الله بن عليّ لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بن مرّار العجليّ، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقاً، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه.
وأما عبد الله بن عليّ فلم يلبث بالرّصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بن عليّ وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زماناً متوارين.
ذكر خبر قتل أبي مسلم الخراسانيّ وفي هذه السنة قتل أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك:

حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ بن محمد، قال: حدّثنا سلمة بن محارب ومسلم بن المغيرة وسعيد بن أوس وأبو حفص الأزديّ والنعمان أبو السريّ ومحرز بن إبراهيم وغيرهم، أن أبا مسلم كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحجّ - وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة - وإنما أراد أن يصلي بالناس. فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب إليّ يستأذن في الحجّ وقد أذنت له؛ وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أولّيه إقامة الحجّ للناس، فاكتب إليّ تستأذنني في الحج؛ فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدّمك. فكتب أبو جعفر إلى أبي العباس يستأذنه في اعلحجّ فأذن له، فوافى الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاماً يحجّ فيه غير هذا! واضطغنها عليه.
قال عليّ: قال مسلم بن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك السنة الحسن بن قحطبة. وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بن مسلم بن عروة - وكان أسود مولىً لهم - فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كلّ منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق؛ فكان الصوت له؛ وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه؛ حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك - وضرب جنبه - : يا نيزك، أيّ جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة!.
ثم رجع الحديث إلى حديث الأولين. قالوا: لما صدر الناس عن الموسم، نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر، فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزّيه بأمير المؤمنين؛ ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع؛ فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتاباً غليظاً؛ فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة، فقال يزيد بن أسيد السلميّ لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس جنده؛ وهم له أطوع، وله أهيب، وليس معك أحد. فأخذ برأيه، فكان يتأخّر ويتقدّم أبو مسلم، وأمر أبو جعفر أصحابه فقدموا، فاجتمعوا جميعاً وجمع سلاحهم؛ فما كان في عسكره إلاّ ستة أذرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له؛ فأتى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة؛ وأتاه أن عبد الله بن عليّ، فقال له أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما، فقال أبو جعفر: عبد الجبار على شرطي - وكان قبل على شرط أبي العباس - وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرّضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما؛ قال: أراهما آثر عندك مني! فغضب أبو جعفر، فقال أبو مسلم: لم أرد كلّ هذا.
قال عليّ: قال مسلم بن المغيرة: كنت مع الحسن بن قحطبة بأرمينية فلما وجّه أبو مسلم إلى الشأم كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أياماً، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون إلى القتال وليس بك إليّ حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قال: نعم؛ لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودّعك، قال: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إنّي أريد أن ألقي إليك شيئاً لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك؛ فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء؛ قلت: نعم قد فهمت؛ فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشدّ تهمةً منّا لعبد الله بن عليّ إلاّ أنا نرجو واحدةً؛ نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن عليّ، وقد قتل منهم من قتل؛ وكان عبد الله بن عليّ حين خلع خاف أهل خراسان، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً؛ أمر صاحب شرطته حيّاش بن حبيب فقتلهم.

قال عليّ: فذكر أبو حفص الأزديّ أن أبا مسلم قاتل عبد الله بن عليّ فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيّره في حظيرة، وأصاب عيناً ومتاعاً وجوهراً كثيراً؛ فكان منثوراً في تلك الحظيرة؛ ووكّل بها وبحفظها قائداً من قوّاده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتّشه، فخرج أصحابي يوماً من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قال: فجاء فاطلع من الباب، وفطنت له فنزعت خفّيّ وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمّي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلاّني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إنّ في الحظيرة لؤلؤاً منثوراً ودراهم منثورة؛ ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفيّ منها شيء، فزعت خخفيّ وجوربيّ؛ فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فأجعل بعضها في خفيّ وأشدّ بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشّون ولا أفتش، حتى جمعت مالاً، قال: وأما اللؤلؤ فإنّي لم أكن أمسّه.
ثم رجع الحديث إلى حديث الذين ذكر عليّ عنهم قصة أبي مسلم في أول الخبر. قالوا: ولما انهزم عبد الله بن عليّ بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فافترى أبو مسلم على أبي الخصيب وهمّ بقتله، فكلّم فيه؛ وقيل: إنما هو رسول، فخلّ سبيله. فرجع إلى أبي جعفر، وجاء القوّاد إلى أبي مسلم، فقالوا: نحن ولينا أمر هذا الرجل، وغنمنا عسكره، فلم يسأل عما في أيدينا؛ إنما لأمير المؤمنين من هذا الخمس. فلما قدم أبو الخصيب على أبي جعفر أخبره أنّ أبا مسلم همّ بقتله. فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه كتاباً مع يقطين؛ أن قد وليتك مصر والشأم؛ فهي خير لك من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشأم فتكون بقرب أمير المؤمنين؛ فإن أحبّ لقاءك أتيته من قريب. فلما أتاه الكتاب غضب، وقال: هو يوليني الشأم ومصر، وخراسان لي! واعتزم بالمضيّ إلى خراسان، فكتب يقطين إلى أبي جعفر بذلك.
وقال غير من ذكرت خبره: لما ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن عليّ بعث المنصور يقطين بن موسى، وأمره أن يحصيَ ما في العسكر، وكان أبو مسلم يسميه يك دين، فقال أبو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء خائن في الأموال! وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعاً على الخلاف؛ وخرج من وجهه معارضاً يريد خراسان؛ وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن؛ وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه. فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزّاب وهو على الرّواح إلى طريق حلوان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدوّ إلا أمكنه الله منه؛ وقد كنّا نروي عن ملوك آل ساسان: أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء؛ فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة؛ غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك؛ فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضناً بنفسي. فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك؛ وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم؛ فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة؛ فلم سوّيت نفسك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة. وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك؛ فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده، وأقرب من طبّه من الباب الذي فتحه عليك. ووجه إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجليّ؛ وكان واحد أهل زمانه، فخدعه وردّه، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلنّ بالروم؛ وكان المنجمون يقولون ذلك؛ فأقبل والمنصور في الرومية في مضارب، وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه أياماً.

وأما عليّ فإنه ذكر عن شيوخه الذين تقدّم ذكرنا لهم أنهم قالوا: كتب أبو مسلم إلى أبي جعفر: أما بعد؛ فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترضه الله على خلقه؛ وكان في محلّة العلم نازلاً، وفي يقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً؛ فاستجهلني بالقرآن فحرّفه عن مواضعه، طمعاً في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه؛ فكان كالذي دلّيَ بغرور؛ وأمرني أن أجرّد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيداً لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم، ثم استنقذني الله بالتوبة؛ فإن يعف عني فقدماً عرف به ونسب إليه؛ وإن يعاقبني فبما قدمّت يداي وما الله بظلام للعبيد.
وخرج أبو مسلم يريد خراسان مراغما مشاقّاً، فلما دخل أرض العراق. ارتحل المنصور من الأنبار، فأقبل حتى نزل المدائن، وأخذ أبو مسلم طرييق حلوان؛ فقال: رب أمر لله دون حلوان. وقال أبو جعفر لعيسى بن عليّ وعيسى بن موسى ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم؛ فكتبوا إليه يعظمون أمره، ويشكرون له ما كان منه، ويسألونه أن يتمّ على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة الغدر، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين؛ وأن يلتمس رضاه. وبعث بالكتاب أبو جعفر مع أبي حميد المروروذيّ. وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما تكلّم به أحداً، ومنّه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد، إن هو صلح وراجع ما أحبّ؛ فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد، إن مضيت مشاقاً ولم تأتني، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي؛ ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولنّ له هذا الكلام حتى تأيس من رجوعه. ولا تطمع منه في خير.
فسار أبو حميد في ناس من أصحابه ممن يثق بهم؛ حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان. فدخل أبو حميد وأبو مالك وغيرهما، فدفع إليه الكتاب، وقال له: إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك؛ حسداً وبغياً؛ يريدون إزالة النعمة وتغييرها؛ فلا تفسد ما كان منك؛ وكلّمه. وقال: يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد؛ يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلّمني بهذا الكلام! قال: إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك؛ فدعوتنا من أرضين متفرّقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا بمحبّتهم، وأعزّنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلاً إلا بما قذف الله في قلوبنا، حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة؛ أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتتهى أملنا أن تفسد أمرنا، وتفرّق كلمتنا؛ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه. وإن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل على أبي نصر، فقال: يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا! ما هذا بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع كلامه، ولا يهولنك هذا منه؛ فلعمري لقد صدقت ما هذا كلامه؛ ولما بعد هذا أشدّ منه؛ فامض لأمرك ولا ترجع؛ فوالله لئن أتيته ليقتلنك؛ ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبداً. فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك، وقال: يا نيزك، إني والله ما رأيت طويلاً أعقل منك، فما ترى، فقد جاءت هذه الكتب، وقد قال القوم ما قالوا؟ قال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الرّيّ فنقيم بها، فيصير ما بين خراسان والرّي لك؛ وهم جندك ما يخالفك أحد؛ فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك، وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك. فدعا أبا حميد، فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم، قال: لا تفعل، قال: ما أريد أن ألقاه؛ فلما آيسه من الرجوع، قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلاً، ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبّه.

وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود - وهو خليفة أبي مسلم بخراسان - حين اتّهم أبا مسلم إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه صلى الله عليه وسلم، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال؛ فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد وأبي مالك فقال لهما: إني قد كنت معتزماً على المضيّ إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه؛ فإنه ممن أثق به فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكلّ ما يحبّ، وقال له أبو جعفر: اصرفه عن وجهه؛ ولك ولاية خراسان؛ وأجازه. فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم، فقال له: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين، فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثّل:
ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فقال: أمّا إذ اعتزمت على هذا فخار الله لك؛ واحفظ عني واحدة؛ إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت؛ فإنّ الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه.
قالوا: قال أبو أيوب: فدخلت يوماً على أبي جعفر وهو في خباء شعر الروميّة جالساً على مصلّىً بعد العصر، وبين يديه كتاب أبي مسلم، فرمى به إليّ فقرأته، ثم قال: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون! طلبت الكتابة حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتباً للخليفة، وقع هذا بين الناس! والله ما أرى أنا إن قتل يرض أصحابه بقتله ولا يدعون هذا حياً؛ ولا أحداً ممن هو بسبيل منه؛ وامتنع مني النوم، ثم قلت: لعلّ الرّجل يقدم وهو آمن؛ فإن كان آمناً فعسى أن ينال ما يريد وإن قدم وهو حذر لم يقدر عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة! فأرسلت إلى سلمة بن سعيد بن جابر، فقلت له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم، فقلت: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق، تدخل معك حاتم بن أبي سلمان أخي؟ قال: نعم، فقلت - وأردت أن يطلع ولا ينكر: وتجعل له النصف؟ قال: نعم، قلت: إنّ كسكر كالت عام أوّل كذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان عام أوّل؛ فإن دفعتها إليك بقبالتها عاماً أوّل أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعاً، قال: فكيف لي بهذا المال؟ قلت: تأتي أبا مسلم، فتلقاه وتكلمه غداً، وتسأله أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه أن تتولاّها أنت بما كانت في العام الأوّل؛ فإنّ أمير المؤمنين يريد أن يولّيه إذا قدم ما وراء بابه، ويستريح ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن يأذن أمير المؤمنين في لقائه؟ قلت: أنا أستأذن لك؛ ودخلت إلى أبي جعفر؛ فحدثته الحديث كله، قال: فادع سلمة، فدعوته، فقال: إن أبا أيوب استأذن لك، أفتحب أن تلقى أبا مسلم؟ قال: نعم، قال: فقد أذنت لك، فأقرئه السلام، وأعلمه بشوقنا إليه. فخرج سلمة فلقيه، فقال: أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأياً، فطابت نفسه؛ وكان قبل ذلك كئيباً. فلما قدم عليه سلمة سرّه ما أخبره به وصدّقه، ولم يزل مسروراً حتى قدم.

قال أبو أيوب: فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه؛ فلما كان عشية قدم، دخلت على أمير المؤمنين وهو في خباء على مصلّىً، فقلت: هذا الرجل يدخل العشيّة، فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقتله حين أنظر إليه، قلت: أنشدك الله؛ إنه يدخل معه الناس؛ وقد علموا ما صنع؛ فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء؛ ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف؛ فإذا غدا عليك رأيت رأيك. وما أردت بذلك إلا دفعه بها، وما ذاك إلاّ من خوفي عليه وعلينا جميعاً من أصحاب أبي مسلم. فدخل عليه من عشيته وسلم، وقام قائماً بين يديه، فقال: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك، وادخل الحمام؛ فإن للسفر قشفاً، ثم اغد عليّ، فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس. قال: فافترى عليّ أمير المؤمنين حين خرج أبو مسلم؛ وقال: متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائماً على رجليه، ولا أدري ما يحدث في ليلتي! فانصرفت وأصبحت غادياً عليه؛ فلما رآني قال: يا بن اللخناء؛ لا مرحباً بك! أنت منعتني منه أمس؛ والله ما غمضت الليلة، ثم شتمني حتى خفت أن يأمر بقتلي، ثم قال: ادع لي عثمان بن نهيك، فدعوته، فقال: يا عثمان، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما أنا عبدك؛ والله لو امرتني أن اتّكىء على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت، قال: كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم؟ فوجم ساعة لا يتكلم، فقلت: مالك لا تتكلم! فقال قولة ضعيفة: أقتله؛ قال: انطلق فجىء بأربعة من وجوه الحرس جلد، فمضى؛ فلما كان عند الرّواق، ناداه: يا عثمان يا عثمان؛ ارجع؛ فرجع، قال: اجلس؛ وأرسل إلى من تثق به من الحرس؛ فأحضر منهم أربعة، فقال لوصييف له انطلق: فادع شبيب بن واج، وادع أبا حنيفة ورجلين آخرين؛ فدخلوا، فقال لهم أمير المؤمنين نحواً مما قال لعثمان، فقالوا: نقتله، فقال: كونوا خلف الرواق؛ فإذاع صفّقت فاخرجوا فاقتلوه.
وأرسل إلى أبي مسلم رسلاً بعضهم على إثر بعض، فقالوا: قد ركب، وأتاه وصيف، فقال: أتى عيسى بن موسى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أخرج فأطوف في العسكر، فأنظر ما يقول الناس؟ هل ظن أحد ظناً، أو تكلم أحد بشيء؟ قال: بلى، فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلاً، فتبسّم وسلمت عليه ودخل، فرجعت؛ فإذا هو منبطح لم ينتظر به رجوعي. وجاء أبو الجهم، فلما رآه مقتولاً قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! فأقبلت على أبي الجهم، فقلت له: أمرته بقتله حين خالف، حتى إذا قتل قلت هذه المقالة! فنبّهت به رجلاً غافلاً، فتكلم بكلام أصلح ما جاء منه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ ألا أردّ الناس؟ قال: بلى، قال: فمر بمتاع يحوّل إلى رواق آخر من أرواقك هذه، فأمر بفرش فأخرجت؛ كأنه يريد أن يهيّىء له رواقاً آخر. وخرج أبو الجهم، فقال: انصرفوا، فإن الأمير يريد أن يقيل عند أمير المؤمنين، ورأوا المتاع ينقل، فظنوه صادقاً، فانصرفوا ثم راحوا، فأمر لهم أبو جعفر بجوائزهم، وأعطى أبا إسحاق مائة ألف.
قال أبو أيوب: قال لي أمير المؤمنين: دخل عليّ أبو مسلم فعاتبته ثم شتمته، فضربه عثمان فلم يصنع شيئاً، وخرج شبيب بن واج وأصحابه فضربوه فسقط، فقال وهم يضربونه: العفو، فقلت: يا بن اللخناء، العفو والسيوف قد اعتورتك! وقلت: اذبحوه، فذبحوه.

قال عليّ عن أبي حفص الأزديّ، قال: كنت مع أبي مسلم، فقدم عليه أبو إسحاق من عند أبي جعفر بكتب من بني هاشم، وقال: رأيت القوم على غير ما ترى؛ كلّ القوم يرون لك ما يرون للخليفة، ويعرفون ما أبلاهم الله بك. فسار إلى المدائن، وخلف أبا نصر في ثقله، وقال: أقم حتى يأتيك كتابي، قال: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك، قال: إن أتاك كتابي مختوماً بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كلّه؛ فلم أكتبه ولم أختمه. فلما دنا من المدائن تلقاه رجل من قوّااده، فسلّم عليه، فقال له أطعني وارجع؛ فإنه إن عاينك قتلك، قال: قد قربت من القوم فأكره أن أرجع. فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخلّف الناس بحلوان، فدخل على أبي جعفر، فأمره بالانصراف في يومه؛ وأصبح يريده، فتلقاه أبو الخصيب فقال: أمير المؤمنين مشغول، فاصبر ساعة حتى تدخل خالياً، فأتى منزل عيسى بن موسى - وكان يحبّ عيسى - فدعا له بالغداء. وقال أمير المؤمنين للربيع - وهو يومئذ وصيف يخدم أبا الخصيب: انطلق إلى أبي مسلم؛ ولا يعلم أحد، فقل له: قال لك مرزوق: إن أردت أمير المؤمنين خالياً فالعجل، فقام فركب؛ وقال له عيسى: لا تعجل بالدّخول حتى أدخل معك، فأبطأ عيسى بالوضوء، ومضى أبو مسلم فدخل فقتل قبل أن يجىء عيسى، وجاء عيسى وهو مدرج في عباءة، فقال: أين أبو مسلم؟ قال: مدرج في الكساء؛ قال: إنا لله! قال: اسكت، فما تمّ سلطانك وأمرك إلاّ اليوم، ثم رمى به في دجلة.
قال عليّ: قال أبو حفص: دعا أمير المؤمنين عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس، فقال لهم: إذا ضربت بيديّ إحداهما على الآخرى؛ فاضربوا عدوّ الله، فدخل عليه أبو مسلم، فقال له: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن عليّ، قال: هذا أحدهما الذي عليّ، قال: أرنيه فانتضاه، فناوله، فهزّه أبو جعفر، ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه، فقال: أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلّمنا الدّين! قال: ظننت أخذه لا يحلّ، فكتب إليّ، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم، قال: فأخبرني عن تقدّمك إياي في الطريق؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضرّ ذلك بالناس؛ فتقدّمتك التماس الرّفق، قال: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إليّ: نقدم فنرى من رأينا؛ ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إليّ! قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف، قال: فجارية عبد الله بن عليّ أردت أن تتخذها؟ قال: لا؛ ولكني خفت أن تضيع، فحملتها في قبّة، ووكلتُ بها من يحفظها، قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء، فقلت: آتي خراسان ، فأكتب إليك بعذري؛ وإلى ذلك ما قد ذهب ما في نفسك عليّ، قال: تالله ما رأيت كاليوم قطّ، والله ما زدتني إلا غضباً؛ وضرب بيده، فخرجوا عليه؛ فضربه عثمان وأصحابه حتى قتلوه.
قال عليّ: قال يزيد بن أسيد: قال أمير المؤمنين: عاتبت عبد الرحمن، فقلت: المال الذي جمعته بحرّان؟ قال: أنفقته وأعطيته الجند تقويةً لهم واستصلاحاً، قلت: فرجوعك إلى خراسان مراغماً؟ قال: دع هذا فما أصبحت أخاف أحداً إلا الله؛ فغضبت فشتمته، فخرجوا فقتلوه.

وقال غير من ذكرت في أمر أبي مسلم: إنه لما أرسل إليه يوم قتل، أتى عيسى بن موسى، فسأله أن يركب معه، فقال له: تقدّم وأنت في ذمتي؛ فدخل مضرب أبي جعفر؛ وقد أمر عثمان بن نهيك صاحب الحرس، فأعدّ له شبيب بن واج المروروذيّ رجلاً من الحرس وأبا حنيفة حرب بن قيس، وقال لهم: إذا صفقت بيديّ فشأنكم؛ وأذن لأبي مسلم، فقال لمحمد البواب النجّاريّ: ما الخبر؟ قال: خير؛ يعطينني الأمير سيفه، فقال: ما كان يصنع بي هذا! قال: وما عليك! فشكا ذلك إلى أبي جعفر، قال: ومن فعل بك هذا قبحه الله! ثم أقبل يعاتبه: ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك، والكاتب إليّ تخطب أمينة بنت عليّ، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس! ما دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا؛ وهو أحد نقبائنا قبل أن ندخلك في شيء من هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته، فقال المنصور: وحاله عندنا حاله فقتلته، وتعصيني وأنت مخالف عليّ! قتلني إلله إن لم أقتلك! فضربه بعمود، وخرج شبيب وحرب فقتلاه، وذلك لخمس ليال بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة. فقال المنصور:
زعمت أنّ الدّين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأساً كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
قال: وكان أبو مسلم قد قتل في دولته وحروبه ستمائة ألف صبراً. وقيل: إن أبا جعفر لما عاتب أبا مسلم، قال له: فعلت وفعلت، قال له أبو مسلم: ليس يقال هذا لي بعد بلائي، وما كان منّي؛ فقال: يا بن الخبيثة؛ والله لو كانت أمةٌ مكانك لأجزت ناحيتها؛ إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا؛ ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً، ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك، والكاتب إليّ تخطب أمينة بنت عليّ، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس! لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقىً صعباً! فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبّلها ويعتذر إليه.
وقيل: إن عثمان بن نهيك ضرب أبا مسلم أوّل ما ضرب ضربة خفيفة بالسيف؛ فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه؛ فاعتقل بها أبو مسلم. وضرب شبيب بن واج رجله، واعتوره بقية أصحابه حتى قتلوه، والمنصور يصيح بهم: اضربوا قطع الله أيديكم! وقد كان أبو مسلم قال - فيما قيل - عند أول ضربة أصابته: يا أمير المؤمنين، استبقني لعدوّك قال: لا أبقاني الله إذاً! وأيّ عدوٍّ لي أعدى منك! وقيل: إن عيسى بن موسى دخل بعد ما قتل أبو مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان ها هنا آنفاً، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته ورأى الإمام إبراهيم كان فيه؛ فقال: يا أنوك؛ والله ما أعلم في الأرض عدواً أعى لك منه؛ ها هو ذاك في البساط، فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون! وكان لعيسى رأى في أبي مسلم، فقال له المنصور: خلع الله قلبك؛ وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهيي مع أبي مسلم! قال: ثم دعا أبو جعفر جعفر بن حنظلة، فدخل عليه، فقال: ما تقول في أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت شعرة من رأسه فاقتل ثم اقتل ثم اقتل؛ فقال المنصور: وفّقك الله! ثم أمره بالقيام والنظر إلى أبي مسلم مقتولاً، فقال: يا أمير المؤمنين، عد من هذا اليوم لخلافتك. ثم استؤذن لإسماعيل بن عليّ، فدخل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي رأيت في ليلتي هذه كأنك ذبحت كبشاً وأني توّطأته برجلي، فقال: نامت عينك يا أبا الحسن؛ قم فصدّق رؤياك؛ قد قتل الله الفاسق، فقام إسماعيل إلى الموضع الذي فيه أبو مسلم، فتوطّأه.

ثم إنّ المنصور همّ بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم وقتل أبي نصر مالك - وكان على شرط أبي مسلم - فكلّمه أبو الجهم، فقال: يا أمير المؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه. ودعا المنصور بأبي إسحاق، فلما دخل عليه ولم ير أبا مسلم، قال له أبو جعفر: أنت المتابع لعدوّ الله أبي مسلم على ما كان أجمع؛ فكفّ وجعل يلتفت يميناً وشمالاً تخوّفاً من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل الله الفاسق؛ وأمر بإخراجه إليه مقطعاً؛ فلما رآه أبو إسحاق خرّ ساجداً، فأطال السجود، فقال له المنصور: ارفع رأسك وتكلم؛ فرفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم، والله ما أمنته يوماً واحداً منذ صحبته، وما ئجته يوماً قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت؛ ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب كتان جدد. وقد تحنّط. فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه. ثم قال: استقبل طاعة خليفتك. واحمد الله اليذ أراحك من الفاسق، ثم قال له أبو جعفر: فرّق عني هذه الجماعة. ثم دعا بمالك من الهيثم فحدّثه بمثل ذلك، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته؛ وإنما خدمه وخفّ له الناس بمرضاته. وأنه قد كان في طاعتهم قبل أن يعرف أبا مسلم، فقبل منه وأمره بمثل ما أمر به أبا إسحاق من تفريق جند أبي مسلم.
وبعث أبو جعفر إلى عدّة من قوّاد أبي مسلم بجوائز سنيّة. وأعطى جميع جنده حتى رضوا، روجع أصحابه وهم يقولون: بعنا مولانا بالدراههم. ثم دعا أبو جعفر بعد ذلك أبا إسحاق، فقال: أقسم بالله لئن قطعوا طنباً من أطنابي لأضربنّ عنقك ثم لأجاهدنّهم. فخرج إليهم أبو إسحاق فقال: يا كلاب انصفرفوا.
قال عليّ: قال أبو حفص الأزديّ: لما قتل أبو مسلم كتب أبو جعفر إلى أبي نصر كتاباً عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر نقش الخاتم تاماً، علم أن أبا مسلم لم يكتب الكتاب، فقال: أفعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب أبو جعفر لأبي نصر عهده على شهرزور، ووجّه رسولاً إليه بالعهد؛ فأتاه حين مضى الرسول بالعهد أنه قد توجّه إلى خراسان، فكتب إلى زهير بن التركيّ - وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه، فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه فحبسه في القصر، وكان زهير مولىً لخزاعة، فأشرف أبو نصر على إبراهيم بن عريف - وهو ابن أخي أبي نصر لأمه - فقال: يا إبراهيم، تقتل عمّك! قال: لا والله أبداً، فأشرف زهير فقال لإبراهيم: إني مأمور والله، إنه لمن أعزّ الخلق عليّ؛ ولكني لا أستطيع ردّ أمر أمير المؤمنين. ووالله لئن رمى أحدكم بسهم لأرمينّ إليكم برأسه. ثم كتب أبو جعفر كتاباً آخر إلى زهير: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله.
وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده فخلّى زهير سبيله لهواه فيه؛ فخرج، ثم جاء بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتله، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله.
وقدم أبو نصر على أبي جعفر، فقال: أشرت على أبي مسلم بالمضيّ إلى خراسان؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ كانت له عندي أيادٍ وصنائع فاستشارني فنصحت له، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت. فعفا عنه؛ فلما كان يوم الراونديّة قام أبو نصر على باب القصر، وقال: أنا اليوم البوّاب، لا يدخل أحد القصر وأنا حيّ. فقال أبو جعفر: أين مالك بن الهيثم؟ فأخبروه عنه، فرأى أنه قد نصح له.
وقيل: إن أبا نصر مالك بن الهيثم لما مضى إلى همذان كتب أبو جعفر إلى زهير بن التركيّ: إنّ لله دمك إن فاتك مالك؛ فأتى زهير مالكاً، فقال له: إني قد صنعت لك طعاماً، فلو أكرمتني بدخول منزلي! فقال: نعم، وهيّأ زهير أربعين رجلاً تخيّرهم، فجعلهم في بيتين يفضيان إلى المجلس الذي هيأه، فلما دخل مالك قال: يا أدهم، عجّل طعامك؛ فخرج أولئك الأربعون إلى مالك، فشدّوه وثاقاً، ووضع في رجليه القيود. وبعث به إلى المنصور فمنّ عليه وصفح عنه واستعمله على الموصل.
وفي هذه السنة ولّى أبو جعفر المنصور أبا داود خالد بن إبراهيم خراسان وكتب إليه بعهده.
ذكر خروج سنباذ للطلب بدم أبي مسلم ثم قتله وفيها خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم.
ذكر الخبر عن سنباذ

ذكر أن سنباذ هذا كان مجوسياً، من أهل قرية من قرى نيسابور يقال لها أهن، وأنه كثر أتباعه لما ظهر، وكان خروجه غضباً لقتل أبي مسلم - فيما قيل - وطلباً بثأره، وذلك أنه كان من صنائعه، وغلب حين خرج على نيسابور وقومس والرّيّ، وتسمّى فيروز أصبههبذ. فلما صار بالرّيّ قبض خزائن أبي مسلم؛ وكان أبو مسلم خلف بها خزائنه حين شخص متوجهاً إلى أبي العباس؛ وكان عامّة أصحاب سنباذ أهل الجبال. فوجّه إليهم أبو جعفر جهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف، فالتقوا بين همذان والرّي على طرف المفازة؛ فاقتتلوا، فهزم سنباذ، وقتل من أصحابه في الهزيمة نحو من ستين ألفاً، وسبى ذراريّهم ونساءهم. ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس؛ قتله لونان الطبريّ، فصير المنصور أصبهبذة طبرستان إلى ونداهرمز بن الفرخان، وتوجّه.
وكان بين مخرج سنباذ إلى قتله سبعون ليلة.
خروج ملبّد بن حرملة الشيبانيّ وفي هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيباني، فحّكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط اجزيرة؛ وهم يومئذ فيما قيل ألف، فقاتلهم ملبّد فهزمهم، وقتل من قتل منهم. ثم سارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبيّ، فهزمه ملبد بعد قتال شديد كان بينهما؛ وأخذ ملبّد جارية ليزيد كان يطؤها، وقتل قائد من قواده، ثم وجّه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبّد، واستباح عسكرهم ثم وجّه إليه نزاراً قائداً من قوّاد أهل خراسان. فقتله ملبّد، وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبّد فهزمهم. ثم وجّه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدّة، فهزمهم. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو يومئذ على الجزيرة، فلقيه الملبّد فهزمه، وتحصّن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكفّ عنه.
وأما الواقديّ فإنه زعم أن ظهور ملبّد وتحكيمه كان في سنة ثمان وثلاثين ومائة، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لتشغل السلطان بحرب سنباذ.
وحجّ بالناس في هذه السنة إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عباس، كذلك قال الواقديّ وغيره؛ وهو على الموصل.
وكان على المدينة زياد بن عبيد الله، والعباس بن عبد الله بن معبد على مكة. ومات العباس عند انقضاء الموسم؛ فضمّ إيماعيل عمله إلى زياد بن عبيد الله؛ فأقرّه عليها أبو جعفر.
وكان على الكوفة في هذه السنة عيسى بن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن عليّ، وعلى قضائها عمر بن عامر السلمّي. وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة. وعلى مصر صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك دخول قسطنطين طاغية الروم ملطية عنوة وقهراً لأهلها وهدمه سورها، وعفوه عمّن فيها من المقاتلة والذّريّة.
ومنها غزو العباس بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس - في قول الواقديّ - الصائفة، مع صالح بن عليّ بن عبد الله، فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بن عليّ بن عبد الله، فوصله أيضاً بأربعين ألف دينار، فبنى صالح بن عليّ ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية.
وقد قيل: إن خروج صالح والعباس إلى ملطية للغزو كان في سنة تسع وثلاثين ومائة.
وفي هذه السنة بايع عبد الله بن عليّ لأبي جعفر وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان بن عليّ.
ذكر خلع جهور بن مرّار المنصور
وفيها خلع جهور بن مرّار العجليّ المنصور.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن جهور لما هزم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم التي كان خلفها بالرّيّ، فلم يوجّهها إلى أبي جعفر، وخاف فخلع، فوجّه إليه أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعيّ في جيش عظيم، فلقيه محمد، فاقتتلوا قتالا شديداً، ومع جهور نخب فرسان العجم؛ زياد والأشتاخنج، فهزم جهور وأصحابه، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأسر زياد والأشتاخنج، وهرب جهور فلحق بأذربيجان فأخذ بعد ذلك باسباذر وفقتل.
ذكر خبر قتل ملبّد الخارجيّ
وفي هذه السنة قتل الملبّد الخارجيّ.
ذكر الخبر عن مقتله

ذكر أن أبا جعفر لما هزم الملبّد حميد بن قحطبة، وتحصّن منه حميد، وجّه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار بن عبد الرحمن، وضمّ إليه زياد بن مشكان، فأكمن له الملبّد مائة فارس، فلما لقيه عبد العزيز خرج عليه الكمين؛ فهزموه، وقتلوا عامّة أصحابه. فوجّه أبو جعفر إليه خازم بن خزيمة في نحو من ثمانية آلاف من المروروذيّة. فسار خازم حتى نزل الموصل وبعث إلى الملبّد بعض أصحابه وبعث معهم الفعلة، فسار إلى بلد فخندقوا، وأقاموا له الأسواق؛ وبلغ ذلك الملبد، وخرج حتى نزل ببلدٍ في خندق خازم؛ فلما بلغ ذلك خازم خرج إلى مكان من أطراف الموصل حريز فعسكر به، فلما بلغ ذلك الملبّد عبر دجلة من بلد، وتوجه إلى خازم من ذلك الجانب يريد الموصل فلما بلغ خازماً ذلك، وبلغ إسماعيل ابن علي - وهو على الموصل - أمر إسماعيل خازماً أن يرجع من معسكره حتى يعبر من جسر الموصل؛ فلم يفعل، وعقد جسراً من موضع معسكره، وعبر إلىالملبد، وعلى مقدمته وطلائعقه نضلة بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشليّ، وعلى ميمنته زهير بن محمد العامريّ، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص مولى بني سليم. وسار خازم في القلب، فلم يزل يساير الملبّد وأصحابه حتى غشيهم الليل ثم تواقفوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الأربعاء، فمضى الملبّد وأصحابه متوجّهين إلى كورة حزّة، وخازم وأصحابه يسايرونهم حتى غشيهم الليل، وأصبحوا يوم الخميس، وسار الملبّد وأصحابه، كأنه يريد الهرب من خازم، فخرج خازم وأصحابه في أثرهم، وتركوا خندقهم، وكان خازم تخندق عليه وعلى أصحابه بالحسك، فلما خرجوا من خندقهم كرّ عليهم الملبّد وأصحابه؛ فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه وبين يدي أصحابه، فحملوا على ميمنة خازم وطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب، وفيه خازم، فلما رأى ذلك خازم نادى في أصحابه: الأرض، فنزلوا ونزل الملبد وأصحابه، وعقروا عامة دوابّهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، وأمر خازم نضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بغضنا بعضاً فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها، ثم ارموا بالنشاب. ففعل ذلك، وتراجع أصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة، ثم رشقوا الملبّد وأصحابه بالنشاب، فقتل الملبّد في ثمانمائة رجل ممن ترجّل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلثمائة، وهرب الباقون، وتبعهم نضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلاً.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، كذلك قال الواقدي وغيره. وذكر أنه كان خرج من عند أبيه من الشأم حاجاً، فأدركته ولايته على الموسم والحجّ بالناس في الطريق، فمرّ بالمدينة فأحرم منها.
وزياد بن عبيد الله على المدينة ومكة والطائف، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن عليّ، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وأبو داود خالد بن إبراهيم على خراسان، وعلى مصر صالح بن عليّ.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من إقامة صالح بن عليّ والعباس بن محمد بملطية؛ حتى استتما بناء ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحديث، فوغلا في أرض الروم - وغزا مع صالح أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا عليّ؛ وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أميّة أن تجاهدا في سبيل الله.
وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة البهرانيّ.
وفي هذه السنة كان الفداء الذي جرى بين المنصور وصاحب الرّوم؛ فاستنقذ المنصور منهم أسراء المسلمين، ولم يكن بعد ذلك - فيما قيل - للمسلمين صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة، لاشتغال أبي جعفر بأمر ابني عبد الله بن الحسن؛ إلاّ أن بعضهم ذكر أن الحسن بن قحطبة غزا الصّائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في سنة أربعيين. وأقبل قسطنطين صاحب الرّوم في مائة ألف، فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم؛ ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة.
وفي هذه السنة سار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس، فلمّكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم.
وفيها وسّع أبو جعفر المسجد الحرام، وقيل إنها كانت سنة خصبة فسميت سنة الخصب.
وفيها عزل سليمان بن عليّ عن ولاية البصرة، وعمّا كان إليه من أعمالها. وقد قيل إنه عزل عن ذلك في سنة أربعين ومائة.

وفيها ولّى المنصور ما كان إلى سليمان بن عليّ من عمل البصرة سفيان بن معاوية، وذلك - فيما قيل - يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان، فلما عزل سليمان وولّى سفيان توارى عبد الله بن عليّ وأصحابه خوفاً على أنفسهم؛ فبلغ ذلك أبا جعفر، فبعث إلى سليمان وعيسى ابني عليّ، وكتب إليهما في إشخاص عبد الله بن عليّ، وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخّراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله بن عليّ ما رضياه له ووثقا به، وكتب إلى سفيان بن معاوية يعلمه ذلك، ويأمره بإزعاجهما واستحثاثهما بالخروج بعبد الله ومن معه من خاصّته، فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وبعامّة قوّاده وخواصّ أصحابه ومواليه، حتى قدموا على أبي جعفر؛ يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة.
ذكر خبر حبس عبد الله بن عليّ
وفيها أمر أبو جعفر بحبس عبد الله بن عليّ وبحبس من كان معه من أصحابه وبقتل بعضهم.
ذكر الخبر عن ذلك ولما قدم سليمان وعيسى ابنا عليّ على أبي جعفر أذن لهما، فدخلا عليه، فأعلماه حضور عبد الله بن عليّ، وسألاه الإذن له. فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كان هيّأ لعبد الله بن عليّ محبساً في قصره، وأمر به أن ينصرف إليه بعد دخول عيسى وسليمان عليه، ففعل ذلك به؛ ونهض أبو جعفر من مجلسه، فقال لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله، فلما خرجا افتقدا عبد الله من المجلس الذي كان فيه، فعلما أنه قد حبس، فانصرفا راجعلين إلى أبي جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بن عليّ من عواتقهم وحبسوا. وقد كان خفاف بن منصور حذّرهم ذلك وندم على مجيئه، وقال لهم: إن أنتم أطعتموني شددنا شدّة واحدة على أبي جعفر؛ فوالله لا يحول بيننا وبينه حائل حتى نأتي على نفسه، ونشدّ على هذه الأبوب مصلتين سيوفنا، ولا يعرض لنا عارض إلاّ أفاتنا نفسه حتى نخرج وننجو بأنفسنا، فعصوه. فلما أخذت السيوف وأمر بحبسهم جعل خفاف يضرط في لحيته، ويتفل في وجوه أصحابه. ثم أمر أبو جعفر بقتل بعضهم بحضرته؛ وبعث بالبقيّة إلى أبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها.
وقد قيل إن حبس أبي جعفر عبد الله بن عليّ كان في سنة أربعين ومائة.
وحجّ بالناس في هذه السنة العباس بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس.
وكان على مكة والمدينة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثيّ، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم.
ثم دخلت سنة أربعين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار فمن ذلك ما كان فيها من مهلك عامل خراسان.
ذكر الخبر عن ذلك وسبب هلاكه: ذكر أن ناساً من الجند ثاروا بأبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان وهو عامل أبي جعفر المنصور عليها في هذه السنة ليلاً، وهو نازل بباب كشماهن من مدينة مرو، حتى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف أبو داود من الحائط على حرف آجرّة خارجة، وجعل نادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرّة عند الصبح، فوقع على سترة صفة كانت قدّام السطح فانكسر ظهره، فمات عند صلاة العصر، فقام عصام صاحب شرطة أبي داود بخلافة أبي داود، حتى قدم عليه عبد الجبّار بن عبد الرحمن الأزديّ.
وفيها ولّى أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان فقدمها، فأخذ بها ناساً من القوّاد ذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد عليّ بن أبي طالب؛ منهم مجاشع بن حريث الأنصاريّ صاحب بخارى وأبو المغيرة، مولى بني تميم واسمه خالد بن كثير وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذّهليّ، ابن عمّ داود، فقتلهم، وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبيّ ومعبد بن الخليل المزنيّ بعد ما ضربهما ضرباً مبرّحاً، وحبس عدّة من وجوه قوّاد أهل خراسان، وألحّ على استخراج ما على عمال أبي داود من بقايا الأموال.
وفيها خرج أبو جعفر المنصور حاجاً، فأحرم من الحيرة، ثم رجع بعد ما قضى حجه إلى المدينة، فتوجّه منها إلى بيت المقدس.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلاّ خراسان فإن عاملها كان عبد الجبار.

ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلى في مسجدها، ثم سلك الشأم فإن عاملها كان عبد الجبار.
ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلّى في مسجدها؛ ثم سلك الشأم منصرفاً حتى انتهى إلى الرقة، فنزلها، فأتى بمنصور بن جعونة بن الحارث العامريّن من بني عامر بن صعصعة، فقتله، ثم شخص منها، فسلك الفرات حتى أتى الهاشميّة، هاشميّة الكوفة.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائةذكر الخبر عمّا كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن خروج الرّاوندية فمن ذلك خروج الراونديّة، وقد قال بعضهم: كان أمر الراونديّة وأمر أبي جعفر الذي أنا ذاكره، في سنة سبع وثلاثين ومائة أو ستّ وثلاثين ومائة.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمر أبي جعفر المنصور معهم: والرّاوندية قوم - فيما ذكر عن عليّ بن محمد - كانوا من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب دعوة بني هاشم، يقولون - فيما زعم - بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربّهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبرئيل.
قال: وأتوا قصر المنصور، فجعلوا يطوفون به، ويقولون: هذا قصر ربّنا؛ فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وقالوا: علام حبسوا! وأمر المنصور ألاّ يجتمعوا، فأعدّوا نعشاً وحملوا السرير - وليس في النعش أحد - ثم مروا في المدينة، حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس - ودخلوا السجن، فأخرجوا أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد، فخرج المنصور من القصر ماشياً، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط فرساً يكون فيي دار الخلافة معه في قصره.
قال: ولما خرج المنصور أتيَ بدابّة فركبها وهو يريدهم؛ وجاء معن ابن زائدة، فانتهى إلى أبي جعغفر، فرمى بنفسه وترجّل، وأدخل بركة قبائه في منطقته، وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلاّ رجعت؛ فإنك تكفى. وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب القصر، وقال: أنا اليوم بوّاب، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم حتى أثخنوهم، وفتح باب المدينة، فدخل الناس.
وجاء خازم بن خزيمة على فرس محذوف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟ قال: نعم، فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى ظهر حائط، ثم كرّوا على خازم فكشفوه وأصحابه، ثم كرّ خازم عليهم فاضطرهم إلى حائط المدينة. وقال للهيثم بن شعبة: إذا كروا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم. فحملوا على خازم، فاطّرد لهم، وصار الهيثم بن شعبة من وورائهم. فقتلوا جميعاً.
وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك؛ فكلمهم، فرجع فوموه بنشابة فوقعت بين كتفيه؛ فمرض أياماً ومات منها، فصلى عليه أبو جعفر، وقام على قبره حتى دفن، وقال: رحمك الله أبا يزيد! وصيّر مكانه على حرسه عيسى بن نهيك، فكان على الحرس حتى مات؛ فجعل على الحرس أبا العباس الطوسيّ.
وجاء يومئذ إسماعيل بن عليّ، وقد أغلقت الأبواب، فقال للبواب: افتح ولك ألف درهم؛ فأبى. وكان القعقاع بن ضرار يومئذ بالمدينة؛ وهو على شرط عيسى بن مسوى، فأبلى يومئذ؛ وكان ذلك كله في المدينة الهاشميّة بالكوفة.
قال: وجاء يومئذ الرّبيع ليأخذ بلجام المنصور، فقال له معن: ليس هذا من أيامك، فأبلى أبرويز بن المصمغان ملك دنباوند - وكان خالف أخاه، فقدم على أبي جعفر فأكرمه، وأجرى علهي رزقاً؛ فلما كان يومئذ أتى المنصور فكفّر له، وقال: أقاتل هؤلاء؟ قال له: نعم، فقاتلهم؛ فكان إذا ضرب رجلاً فصرفعه تأخّر عنه - فلما قتلوا وصلى المنصور الظهر دعا بالعشاء، وقال: أطلعوا معن بن زائدة، وأمسك عن الطعام حتى جاءه معن؛ فقال لقثم: تحوّل إلى هذا الموضع، وأجلس معناً مكان قثم، فلما فرغوا من العشاء قال لعيسى بن عليّ: يا أبا العباس، أسمعت بأشدّ الرجال؟ قال: نعم، قال: لو رأيت اليوم معناً علمت أنه من تلك الآساد، قال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأييت ما عندك من الاستهانة بهم وشدّة الإقدام عليهم، رأيت أمراً لم أره من خلق في حرب؛ فشدّ ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت مني.

وقال أبو خزيمة: يا أمير المؤمنين، إنّ لهم بقيّة، قال: فقد ولّيتك أمرهم فاقتلهم، قال: فأقتل زراماً فإنه منهم، فعاذ رزام بجعفر بن أبي جعفر، فطلب فيه فآمنه.
وقال عليّ عن أبيي بكر الهذليّ، قال: إني لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزّة! هذا الذي يطعمنا ويسقينا؛ فلما رجع أمير المؤمنين ودخل عليه الناس دخلت وخلا وجهه، فقلتُ له: سمعت اليوم عجباً، وحدّثته؛ فنكت في الأرض، وقال: يا هذليّ، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إليّ من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا.
وذكر عن جعفر بن عبد الله، قال: حدّثني الفضل بين الربيع، قال: حدّثني أبي، قال: سمعت المنصور يقول: أخطأت ثلاث خطيّات وقاني الله شرّها: قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدّم طاعته ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعاً، وخرجت إلى الشأم ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعاً.
وذكر أنّ معن بن زائدة كان مختفياً من أبي جعفر، لما كان منه من قتاله المسوّدة مع ابن هبيرة مرّة بعد مرّة؛ وكان اختفاؤه عند مرزوق أبي الخصيب، وكان على أن يطلب له الأمان، فلما خرج الراونديّة أتى الباب فقام عليه، فسأل المنصور أبا الخصيب - وكان يلي حجابة المنصور يومئذ: من بالباب؟ فقال: معن بن زائدة، فقال المنصور: رجل من العرب، شديد النفس، عالم بالحرب كريم الحسب؛ أدخله، فلما دخل قال: إيه يا معن! ما الرأي؟ قال: الرأي أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، قال: وأين الناس والأموال؟ ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئاً يا معن؛ الرأي أن أخرج فأقف؛ فإنّ الناس إذا رأوني قاتلوا وأبلوا وثابوا إليّ، وتراجعوا، وإن أقمت تخاذلوا وتهاونوا. فأخذ معن بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إذاً والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فأتاه أبو الخصيب فقال مثلها، فاجتذب ثوبه منهما، ثم دعا بدابته، فركب ووثب عليها من غير ركاب ثم سوّى ثيابه، وخرج ومعن آخذ بلجامه وأبو الخصيب مع ركابه فوقف. وتوجّه إليه رجل فقال: يا معن دونك العلج؛ فشدّ عليه معن فقتله، ثم والى بين أربعة، وثاب إليه الناس وتراجعوا؛ ولم يكن إلاّ ساعة حتى أفنوهم، وتغيّب معن بعد ذلك، فقال أبو جعفر لأبي الخصيب: ويلك! أين معن؟ قال: والله ما أدري أين هو من الأرض! فقال: أيظن أنّ أمير المؤمنين لا يغفر ذنبه بعد ما كان من بلائه! أعطه الأمان وأدخله عليّ، فأدخله، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولاّه اليمن، فقال له أبو الخصيب: قد فرّق صلته وما يقدر على شيء، قال: له لو أراد مثل ثمنك ألف مرّة لقدر عليه.
وفي هذه السنة وجه أبو جعفر المنصور ولده محمداً - وهو يومئذ وليّ عهد - إلى خراسان في الجنود، وأمره بنزول الرّيّ، ففعل ذلك محمد.
ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدي إليه وفيها خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل أبي جعفر على خراسان؛ ذكر عليّ بن محمد، عمن حدّثه، عن أبي أيوب الخوزيّ، أن المنصور لما بلغه أن عبد الجبار يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فيه: قد نغل الأديم، قال لأبي أيوب الخزاعيّ: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلاّ وهو يريد أن يخلع، فقال له: ما أيسر حيلته! اكتب إليه: إنك تريد غزو الرّوم؛ فيوجّه إلك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليهم من شئت؛ فليس به امتناع. فكتب بذلك إليه، فأجابه: إنّ الترك قد جاشت؛ وإن فرّقت الجنود ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبي أيّوب، وقال له: ما ترى؟ قال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهمّ إليّ من غيرها، وأنا موجّه إليك الجنود من قبلي. ثم وجّه إليه الجنود ليكونوا بخراسان؛ فإن هم بخلع أخذوا بعنقه.
فلما ورد على عبد الجبار الكتاب كتب إليه: إنّ خراسان لم تكن قط أسوأ حالاً منها في هذا العام؛ وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر. فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب، فقال له: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره.

فوجّه إليه محمد بن المنصور، وأمره بنزول الرّيّ؛ فسار إليها المهديّ، ووجّه لحربه خازم بن خزيمة مقدمةً له، ثم شخص المهدي فنزل نيسابور. ولما توجّه خازم بن خزيمة إلى عبد الجبار، وبلغ ذلك أهل مرو الرّوذ؛ ساروا إلى عبد الجبار من ناحيتهم فناصبوه الحرب، وقاتلوه قتالاً شديداً حتى هزم، فانطلق هارباً حتى لجأ إلى مقطنة، فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بن مزاحم من أهل مرو الرّوذ؛ فأخذه أسيراً؛ فلما قدم خازم أتاه به، فألبسه خازم مدرّعة صوف، وحمله على بعير، وجعل وجهه من قبل عجز البعير؛ حتى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه؛ فبسط عليهم العذاب، وضربوا بالسياط حتى استخرج منهم ما قدر عليه من الأموال. ثم أمر المسيب بن زهير بقطع يديّ عبد الجبار ورجليه وضرب عنقه؛ ففعل ذلك المسيّب، وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك - وهي جزيرة على ضفّة البحر بناحية اليمن - فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند، فسبوهم فيمن سبوا حتى فودوا بعد، ونجا منهم من نجا، فكان ممن نجا منهم واكتتب في الديوان وصحب الخلفاء عبد الرحمن بن عبد الجبار، وبقي إلى أن توفّيَ بمصر في خلافة هارون، في سنة سبعين ومائة.
وفي هذه السنة فرغ من بناء المصّيصة على يدي جبرئيل بن يحيى الخراسانيّ، ورابط محمد بن إبراهيم الإمام بملطية.
واختلفوا في أمر عبد الجبار وخبره، فقال الواقديّ: كان ذلك في سنة ثنتين وأربعين ومائة، وقال غيره: كان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائة.
وذكر عن عليّ بن محمد أنه قال: كان قدوم عبد الجبار خراسان لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، ويقال لأربع عشرة ليلة، وكانت هزيمته يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة ثنتين وأربعين ومائة.
وذكر عن أحمد بن الحارث، أن خليفة بن خياط حدّثه، قال: لما وجّه المنصور المهديّ إلى الريّ - وذلك قبل بناء بغداد؛ وكان توجيهه إياه لقتال عبد الجبار بن عبد الرحمن، فكفى المهديّ أمر عبد الجبار بمن حاربه وظفر به - كره أبو جعفر أن تبطل تلك النفقات التي أنفقت على المهديّ؛ فكتب إليه أن يغزو طبرستان، وينزل الريّ، ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ؛ وكان الأصبهبذ يومئذ محارباً للمصمغان ملك دنباوند معسكراً بإزائه؛ فبلغه أن الجنود دخلت بلاده، وأن أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك؛ وقال له: متى صاروا إليك صاروا إليّ؛ فاجتمعا على محاربة المسلمين؛ فانصرف الأصبهبذ إلى بلاده، فحارب المسلمين، وطالت تلك الحروب، فوجّه أبو جعفر عمر بن العلاء الذي يقول فيه بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحاً ولا خير في يالمتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمراً ثم نم
فتىً لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
وكان توجيهه إياه بمشورة أبرويز أخي المصمغان، فإنه قال له: يا أمير المؤمنين؛ إن عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان، فوجّهه؛ وكان أبرويز قد عرف عمر أيام سنباذ وأيام الروانديّة، فضمّ إليه أبو جعفر خازم بن خزيمة، فدخل الرويان ففتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب، فألحّ خازم على القتال، ففتح طبّرستان، وقتل منهم فأكثر، وصار الأصبهبذ إلى قلعته، وطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فيها من ذخائره، فكتب المهديّ بذلك إلى أبي جعفر، فوجّه أبو جعفر بصالح صاحب المصلى وعدّة معه، فأحصوا ما في الحصن، وانصرفوا. وبدا للأصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الدّيلم، فمات بها؛ وأخذت ابنته - وهي أمّ إبراهيم بن العباس بن محمد - وصمدت الجنود للمصمغان؛ فظفروا به وبالبحترية أم منصور بن المهديّ، وبصيمر أم ولد عليّ بن ريطة بنت المصمغان. فهذا فتح طبرستان الأول.
قال: ولما مات المصمغان تحوّز أهل ذلك الجبل فصارواا حوزيّة لأنهم توحّشوا كما توحّش حمر الوحش.
وفي هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحارثيّ عن المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ، فقدمها في رجب. وعلى الطائف ومكة الهيثم بن معاوية العتكيّ من أهل خراسان.
وفيها توفّيَ موسى بن كعب؛ وهو على شرط المنصور، وعلى مصر والهند وخليفته على الهند عيينة ابنه.

وفيها عزل موسى بن كعب عن مصر، ووليها محمد بن الأشعث ثم عزل عنها، ووليها نوفل بن الفرات.
وحجّ بالناس في هذه السنة صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس وهو على قنّسرين وحمص ودمشق. وعلى المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية. وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى خراسان المهديّ وخليفته عليها السريّ بن عبد الله، وعلى مصر نوفل بن الفرات.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسند فمما كان فيها خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسّند.
ذكر الخبر عن سبب خلعه: ذكر أن سبب خلعه، كان أن المسيّب بن زهير كان خليفة موسى بن كعب على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيّب على ما كان يلي من الشرط، وخاف المسيب أن بكتب المنصور إلى عيينة في القدوم عليه فيوليه مكانه؛ وكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه:
فأرضك أرضك إن تأتنا ... فنم نومةً ليس فيها حلم
وخرج أبو جعفر لما أتاه الخبر عن عيينة بخلعه حتى نزل بعسكره من البصرة عند جسرها الأكبر، ووجّه عمر بن حفص بن أبي صفرة العتكيّ عاملاً على السند والهند، محارباً لعيينة بن موسى؛ فسار حتى ورد السند والهند، وغلب عليها.
ذكر خبر نكث إصبهبذ طبرستان العهد وفي هذه السنة نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده من المسلمين.
ذكر الخبر عن أمره وأمر المسلمينذكر أن أبا جعفر لما انتهى إليه خبر الإصبهبذ وما فعل بالمسلمين، وجّه إليه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم ومعهم مرزوق أبو الخصيب مولى أبي جعفر، فأقاموا على حصنه محاصرين له ولمن معه في حصنه، وهم يقاتلونهم حتى طال عليهم المقام، فاحتال أبو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي؛ ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ صاحب الحصن فقال له: إني ركب مني أمر عظيم؛ ضربت وحلق رأسي ولحيتي. وقال له: إنما فعلوا ذلك بي تهمةً منهم لي أن يكون هواي معك، وأخبره أنه معه، وأنه دليل له على عورة عسكرهم. فقبل منه ذلك الإصبهبذ، وجعله في خاصّته وألطفه؛ وكان باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء يرفعه الرجال، وتضعه عند فتحه وإغلاقه؛ وكان قد وكّل به الإصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوباً بينهم، فقال له أبو الخصيب: ما أراك وثقت بي، ولا قبلت نصيحتي! قال: وكيف ظننت ذلك؟ قال: لتركك الاستعانة بي فيما يعنيك، وتوكيلي فيما لا تثق به إلاّ بثقاتك؛ فجعل يستعين به بعد ذلك، فيرى منه ما يحبّ إلى أن وثق به، فجعله فيمن ينوب في فتح باب مدينته وإغلاقه؛ فتولّى له ذلك حتى أنس به ثم كتب أبو الخصيب إلى روح بن حاتم وخازم بن خزيمة، وصيّر الكتاب في نشّابة، ورماها إليهم، وأعلمهم أن قد ظفر بالحيلة، ووعدهم ليلة، سمّاها لهم في فتح الباب. فلما كان في تلك الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراريّ، وظفر بالبحترّية. وهي أم منصور بن المهدي، وأمّها باكند بنت الإصبهبذ الأصمّ - وليس بالإصبهبذ الملك؛ ذاك أخو باكند - وظفر بشكلة أم إبراهيم بن المهديّ، وهي بنت خونادان قهرمان المصمغان، فمصّ الإصبهبذ خاتماً له فيه سمّ فقتل نفسه.
وقد قيل: إن دخول روح بن حاتم وخازم بن خزيمة طبرستان كان في سنة ثلاث وأربعين ومائة.
وفي هذه السنة بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون إليها في عيدهم بالحمّان، وولي بناءه سلمة بن سعيد بن جابر؛ وهو يومئذ على الفرات والأبلة من قبل أبي جعفر، وصام أبو جعفر، وصام أبو جعفر شهر رمضان وصلى بها يوم الفطر.
وفيها توفّي سليمان بن عليّ بن عبد الله بالبصرة ليلة السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلّى عليه عبد الصمد ابن عليّ.
وفيها عزل عن مصر نوفل بن الفرات، ووليها محمد بن الأشعث، ثم عزل عنها محمد ووليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها حميد ابن قحطبة.
وحجّ بالناس في هذه السنة إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن العباس.

وكان العامل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر حميد بن قحطبة.
وفيها - في قول الواقدي - ولّى أبو جعفر أخاه العباس بن محمد الجزيرة والثغور وضمّ إليه عدّة من القوّاد، فلم يزل بها حيناً.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
غزو الدّيلم ففي هذه السنة ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم.
ذكر الخبر عن ذلكذكر أن أبا جعفر اتصل به عن الديّلم إيقاعهم بالمسلمين وقتلهم منهم مقتلة عظيمة، فوجّه إلى البصرة حبيب بن عبد الله بن رغبان، وعليها يومئذ إسماعيل ابن عليّ، وأمره بإحصاء كل من له فيها عشرة آلاف درهم فصاعداً، وأن يأخذ كلّ من كان ذلك له بالشخوص بنفسه لجهاد الدّيلم، ووجّه آخر لمثل ذلك إلى الكوفة.
عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، ووللّى ما كان إليه من ذلك السريّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب، وأتى السريّ عهده على ذلك وهو باليمامة، فسار إلى مكة، ووجّه أبو جعفر إلى اليمامة قشم ابن العباس بن عبد الله بن عباس.
عزل حميد بن قحطبة عن مصر وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر، ووليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها يزيد بن حاتم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبيد الله ابن عباس، وكان يومئذ إليه ولاية الكوفة وسوادها.
وكان والي مكة فيها السري بن عبد الله بن الحارث، ووالي البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزو محمد بن أبي العباس بن عبد الله بن محمد ابن عليّ الدّيلم في أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة.
وفيها انصرف محمد بن أبي جعفر المهديّ عن خراسان إلى العراق، وشخص أبو جعفر إلى قرماسين، فلقيه بها ابنه محمد منصرفاً من خراسان، فانصرفا جميعاً إلى الجزيرة.
وفيها بنى محمد بن أبي جعفر عند مقدمه من خراسان بابنة عمه ريطة بنت أب يالعباس.
وفيها حجّ بالناس أبو جعفر المنصور، وخلف على عسكره والميرة خازم ابن خزيمة.
ولاية رباح بن عثمان على المدينة وأمر ابني عبد الله بن حسن وفي هذه السنة ولّى أبو جعفر رياح بن عثمان المرّيّ المدينة، وعزل محمد ابن خالد بن عبد الله القسريّ عنها.
ذكر الخبر عن سبب عزله محمد بن خالد
واستعماله رياح بن عثمان
وعزله زياد بن عبيد الله الحازرثيّ من قيبل محمد خالد: وكان سبب عزل زياد عن المدينة، أنّ أبا جعفر همّه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب وتخلّفهما عن حضوره، مع من شهده من سائر بني هاشم عام حجّ في حياة أخيه أبي العباس، ومعه أبو مسلم. وقد ذكر أن محمداً كان يذكر أنّ ابا جعفر ممّن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني مروان مع سائر المعتزلة الذيين كانوا معهم هنالك. فسأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله: ما يهمّك من أمرهما! أنا آتيك بهما؛ وكان زياد يومئذ مع أبي جعفر عند مقدمه مكة سنة ست وثلاثين ومائة، فردّ أبو جعفر زياداً إلى عمله، وضمنه محمداً وإبراهيم.
فذكر أبو زيد عمر بن شبة أن محمد بن إسماعيل حدّثه، قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدّثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر، قال: لما استُخلف أبو جعفر لم تكن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه وما يريد؛ فدعا بني هاشم رجلاً رجلاً؛ كلهم يخليه فيسألهم عنه، فييقولون: يا أمير المؤمنين؛ قد علم أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم؛ فهو يخافك على نفسه؛ وهو لا يريد لك خلافاً، ولا يحبّ لك معصية؛ وما أشبه هذه المقالة إلا حسن بن زيد، فإنه أخبره خبره، فقال: والله ما آمن وثوبه عليك؛ فإنه للذي لا ينام عنك، فر رأيك. قال ابن أبي عبيدة: فأيقظ من لا ينام.

وقال محمد: سمعت جدي موسى بن عبد الله، يقول: اللهمّ اطلب حسن ابن زيد بدمائنا. قال موسى: وسمعت والله أبي يقول: أشهد لعرّفني أبو جعفر حديثاً ما سمعه مني إلا حسن بن زيد.
وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت القاسم بن محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، قال: أخبرني محمد بن وهب السّلميّ، عن أبي، قال: عرّفني أبو جعفر حديثاً ما سمعه مني إلا أخي عبد الله بن حسن وحسن بن زيد؛ فأشهد ما أخبره به عبد الله؛ ولا كان يعلم الغيب.
قال محمد: وسأل عنه عبد الله بن حسن عام حجّ، فقال له مقالة الهاشميّين، فأخبره أنه غير راضٍ أو يأتيه به.
قال محمد: وحدثتني أمي عن أبيها، قال: قال أبي: قلت لسليمان بن عليّ: يا أخي صهري بك صهري، ورحمي بك رحمي، فما ترى؟ قال: والله لكأنيّ أنظر إلى عبد الله بن عليّ حين حال الستر بيننا وبينه؛ وهو يشير إلينا أنّ هذا الذي فعلتم بي، فلو كان عافياً عفا عن عمّه. قال: فقيل رأيه، قال: فكان آل عبد الله يرونها صلة من سليمان لهم.
قال أبو زيد: وحدّثني سعيد بن هريم، قال: أخبرني كلثوم المرائيّ، قال: سمعت يحيى بن خالد بن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقاً من رقيق الأعراب، ثم أعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الذوذ، وفرّقهم في طلب محمد في ظهر المدينة؛ فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضالّ، فيفرّون عنه ويتجسسون.
قال: وحدّثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبيّ، قال: قال لي السنديّ مولى أمير المؤمنين: أتدري ما رفع عقبة بن سلم عند أمير المؤمنين؟ قلت: لا، قال: أوفد عمّي عمر بن حفص وفداً من السند فيهم عقبة، فدخلوا على أبي جعفر، فلما قضوا حوائجهم نهضوا، فاستردّ عقبة، فأجلسه، ثم قال له: من أنت؟ قال: رجل من جند أمير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر ابن حفص، قال: وما اسمك؟ قال: عقبة بن سلم بن نافع، قال: ممّن أنت؟ قال: من الأزد ثم من بني هناءة، قال: إني لأرى لك هيئة وموضعاً، وإني لأريدك لأمر أنا به معنىّ، لم أزل أرتاد له رجلاً، عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك، فقال: أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين فيّ، قال: فأخف شخصك، واستر أمرك، وأتني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا؛ فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إن بني عمّنا هؤلاء قد أبوا إلاّ كيداً لملكنا واغتيالاً له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم، فاخرج بكساً وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية، ثم تسير ناحيتهم؛ فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر واحتراس منهم؛ فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متقشّفاً متخشعاً؛ فإن جبهك - وهو فاعل - فاصبر وعاوده؛ فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته؛ فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل عليّ. قال: فشخص حتى قدم على عبد الله، فلقيه بالكتاب، فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم؛ فلم يزل ينصرف ويعود إليه حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به؛ فسأله عقبة الجواب، فقال: أمذا الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابنيّ خارجان لوقت كذا وكذا. قال: فشخص عقبة حتى قدم على أن جعفر، فأخبره الخبر.

قال أبو زيد: حدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ولّى أبو جعفر الفضل ابن صالح بن عليّ الموسم في سنة ثمان وثلاثين ومائة، فقال له: إن وقعت عيناك على محمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن حسن، فلا يفارقانك؛ وإن لم ترهما فلا تسأل عنهما. فقدم المدينة، فتلقاه أهلها جميعاً؛ فيهم عبد الله بن حسن وسائر بني حسن إلاّ محمداً وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن. فسكت حتى صدر عن الحجّ، وصار إلى السيّالة، فقال لعبد الله بن حسن: ما منع ابنيك أن يلقياني بالصّيد واتّباعه، لا يشهدان مع أهليهما خيراً ولا شراً. فسكت الفضل عنه، وجلس على دكان قد بنى له بالسيالة. فأمر عبد الله رعاته فسرّحوا عليه ظهره، فأمر أحدهم فحلب لبناً على عسل في عسّ عظيم، ثم رقي به الدكان، فأومأ إليه عبد الله أن اسق الفضل بن صالح، فقصد قصده؛ فلما دنا منه صاح به الفضل صيحةً مغضباً: إليك يا ماصّ بظر أمّه! فأدبر الرّاعي، فوثب عبد الله - وكان من أرفق الناس - فتناول القعب، ثم أقبل يمشي به إلى الفضل، فلما رآه يمشي إليه استحيا منه، فتناوله فشرب.
قال أبو زيد: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، قال: كان لزياد بن عبيد الله كاتب يقال له حفص بن عمر من أهل الكوفة يتشيّع، وكان يثبّط زياداً عن طلب محمد، فكتب فيه عبد العزيز بن سعد إلى أبي جعفر فحدره إليه، فكتب فيه زياد إلى عيسى بن عليّ وعبد الله بن الربيع الحارثيّ فخلّصاه حتى رجع إلى زياد.
قال عليّ بن محمد: قدم محمد البصرة مختفياً في أربعين، فأتوا عبد الرحمن ابن عثمان بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال له عبد الرحمن: أهلكتني وشهرتني؛ فانزل عندي وفرّق أصحابك، فأبى، فقال: ليس لك عندي منزل؛ فانزل في بني راسب، فنزل في بني راسب.
وقال عمر: حدّثني سليمان بن محمد الساريّ، قال: سمعت أبا هبّار المزنيّ يقول: أقمنا مع محمد بن عبد الله بالبصرة يدعو الناس إلى نفسه.
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قال أبو جعفر: ما طمعت في بغيه لي قطّ إذا ذكرت مكان بني راسب بالبصرة.
قال: وحدّثني أبو عاصم النّبيل، قال: حدّثني ابن جشيب اللهبيّ، قال: نزلت في بني راسب في أيام ابن معاوية، فسألني فتىً منهم يوماً عن اسمي، فلطمه شيخ منهم، فقال: وما أنت وذاك! ثم نظر إلى شيخ جالس بين يديه، فقال: أترى هذا الشيخ نزل فينا أبوه أيام الحجاج، فأقام حتى ولد له هذا الولد، وبلغ هذا المبلغ، وهذه السنّ! لا والله ما ندري ما اسمه ولا اسم أبيه، ولا ممن هو! قال: وحدّثني محمد بن الهذيل، قال: سمعت الزّعفرانيّ يقول: قدم محمد، فنزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرّة بن عبيد، فأقام ستة أيام، ثم خرج فبلغ أبا جعفر مقدمه البصرة، فأقبل مغذاً حتى نزل الجسر الأكبر، فأردنا عمراً على لقائه، فأبى حتى غلبناه، فلقيه فقال: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قال: لا قال: فأقتصر على قولك وأنصرف؟ قال: نعم؛ فانصرف، وكان محمد قد خرج قبل مقدم أبي جعفر.
قال عليّ بن محمد: حدّثني عامر بن أبي محمد، قال: قال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أبايعت محمداً؟ قال: أنا والله لو قلدتني الأمّة أمورها ما عرفت لهما موضعاً.
قال عليّ: وحدثني أيوب القزّاز، قال: قلت لعمرو: ما تقول في رجل رضي بالصبر على ذهاب دينه؟ قال: أنا ذاك، قلت: وكيف؛ ولو دعوت أجابك ثلاثون ألفاً! قال: والله ما أعرف موضع ثلاثة إذا قالوا وفّوا، ولو عرفتهم لكنت لهم رابعاً.
قال أبو زيد: حدّثني عبيد الله بن محمد بن حفص، قال: حدّثني أبي، قال: وجل محمد وإبراهيم بن أبي جعفر، فأتيا عدن، ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة.

قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: تكفّل زياد لأمير المؤمنين بابني عبد الله أن يخرجهما له، فأقرّه على المدينة، فكان حسن بن زيد إذا علم من أمرهما علماً كفّ حتى يفارقا مكانهما ذلك؛ ثم يخبر أبا جعفر، فيجد الرسم الذي ذكر، فيصدقه بما رفع إليه؛ حتى كانت سنة أربعين ومائة، فحجّ فقسّم قسوماً خصّ فيها آل أبي طالب فلم يظهر له ابنا عبد الله؛ فبعث إلى عبد الله فسأله عنهما، فقالل: لا علم لي بهما؛ حتى تغالظا، فأمصّه أبو جعفر، فقال: يا أبا جعفر، بأيّ أمهاتي تُمصّني! أبفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم بفاطمة بنت أسد، أم بفاطمة بنت حسين، أم أمّ إسحاق بنت طلحة، أم خديجة بنت خويلد؟ قال: لا بواحدة منهنّ؛ ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زهير - وهي امرأة من طيّىء - قال: فوثب المسيّب بن زهير، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنق ابن الفاعلة. قال: فقام زياد بن عبيد الله، فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين؛ فأنا أستخرج لك ابنيه فتخلّصه منه.
قال عمر: وحدثني الوليد بن هشام بن قحذم، قال: قال الحزين الدّيليّ لعبد الله بن الحسن ينعي عليه ولادة الجرباء:
لعلّك بالجرباء أو بحكاكة ... تفاخر أم الفضل وابنة مشرح
وما منهما إلا حصان نجيبة ... لها حسب في قومها مترجّح
قال عمر: وحدثني محمد بن عبّاد، قال: قال لي السنديّ مولى أمير المؤمنين: لما أخبر عقبة بن سلم أبا جعفر، أنشأ الحجّ وقال لعقبة: إذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن، فيهم عبد الله، فأنا مبجّله ورافعٌ مجلسه وداع بالغداء؛ فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائماً، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك؛ وإياك أن يراك ما دام يأكل. فخرج حتى إذا تدفّع في البلاد لقيه بنو حسن، فأجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالطعام فأصابوا منه؛ ثم أمر به فرفع، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألاّ تبغيني سوءاً، ولا تكيد لي سلطاناً، قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتى قام بين يديه، فأعرض عنه، فرفع رأسه حتى قام من وراء ظهره؛ فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
قال عمر: وحدثني بكر بن عبد الله بن عاصم مولى قريبة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قال: حدّثني عليّ بن رباح بن شبيب، أخو إبراهيم، عن صالح صاحب المصلّى، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدّى بأوْطاس؛ وهو متوجّه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن حسن وأبو الكرام الجعفريّ وجماعة من بني العباس؛ فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي؛ وإني لأحبّ أن يأنسا بي، وأن يأتياني فأصليهما وأخلطهما بنفسي - قال وعبد الله مطرق طويلاً ثم رفع رأسه - فقال: وحقّك يا أمير المؤمنين، فما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم؛ ولقد خرجا من يدي؛ فيقول أبو جعفر: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما وإلى من يوصّل كتابك إليهما. قال: فامتنع أبو جعفر ذلك اليوم من عامة غدائه إقبالاً على عبد الله، وعبد الله يحلف ما يعرف موضعهما وأبو جعفر يكرّر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد. قال: فكان شدّة هرب محمد من أبي جعفر أنّ أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة.

قال عمر: حدّثني أيوب بن عمر - يعني ابن أبي عمرو - قال: حدّثني محمد بن خالد بن إسماعيل بن أيوب بن سلمة المخزوميّ، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني العباس بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، قال: لما حجّ أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن؛ فإنهما وإياي لعنده؛ وهو مشغول بكتاب ينظر فيه؛ إذ تكلم المهديّ فلحن، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدّل لسانه؛ فإنه يغفل غفل الأمة! فلم يفهم؛ وغمزت عبد الله فلم ينتبه لها، وعاد لأبي جعفر فاحتفظ من ذلك، وقال: أين ابنك؟ فقال: لا أدري، قال: لتأتينّي به؛ قال: لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه، قال: يا ربيع قم به إلى الحبس.
قال عمر: حدّثني موسى بن سعيد بن عبد الرحمن الجمحيّ، قال: لما تمثّل عبد الله بن حسن لأبي العباس:
ألم تر حوشباً أمسى يبنّي ... بيوتاً نفعها لبنى بقيله
لم تزل في نفس أبي جعفر عليه؛ فلما أمر بحبسه، قال: ألست القائل لأبي العباس:
ألم تر حوشباً أمسى يبنِّى ... بيوتاً نفعها لبنى بقيله
وهو آمن الناس عليك، وأحسنهم إليك صنيعاً! قال عمر: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق عن أبي حنين، قال: دخلت على عبد الله بن حسن وهو محبوس؛ فقال: هل حدث اليوم من خير؟ قلت: نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحداً يقدم على شرائه، فقال: ويحك يا أبا حنين! والله لو خرج بي وببناتي مسترقّين لاشترينا! قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحارث بن إسحاق قال: شخص أبو جعفر، وعبد الله بن حسن محبوس، فأقام في الحبس ثلاث سنين.
قال عمر: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، قال: حدّثني أبو حرملة محمد بن عثمان، مولى آل عمرو بن عثمان، قال: حدّثني أبو هبّار المزنيّ، قال: لما حجّ أبو جعفر سنة أربعين ومائة، حجّ تلك السنة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، وهما متغيبان، فاجتمعوا بمكة، فأرادوا اغتيال أبي جعفر، فقال لهم الأشتر: عبد الله بن محمد بن عبد الله، أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله أبداً غيلةً حتى أدعوه؛ قال: فنقض أمرهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه؛ وقد كان دخل معهم في أمرهم قائد من قوّاد أبي جعفر من أهل خراسان. قال: فاعترض لأبي جعفر إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرض، فنمّى إليه أمرهم، فأرسل في طلب القائد فلم يظفر به، وظفر بجماعة من أصحابه، وأفلت الرّجل وغلام له بمال زهاء ألفي دينار كانت مع الغلام، فأتاه بها وهو مع محمد، فقسمها بين أصحابه. قال أبو هبّار: فأمرني محمد، فاشتريت للرّجل أباعر وجهّزته وحملته في قبّة وقطرته، وخرجت أريد به المدينة حتى أوردته إياها. وقدم محمد فضمّه إلى أبيه عبد الله، ووجّههما إلى ناحية من خراسان. قال: وجعل أبو جعفر يقتل أصحاب ذلك القائد الذي كان من أمره ما ذكرت.

قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى بن محمد، قال: حدّثني أبي عن أبيه، قال: غدوت على زياد بن عبيد الله وأبو جعفر بالمدينة، قال: فقال: أخبركم عجباً مما لقيته اللّيلة؛ طرقني رسل أمير المؤمنين نصف الليل - وكان زياد قد تحوّل لقدوم أمير المؤمنين إلى داره بالبلاط - قال: فدّقت عليّ رسله، فخرجت ملتحفاً بإزاري، ليس عليّ ثوب غيره، فنبهت غلماناً لي وخصياناً في سقيفة الدا، فقلت لهم: إن هدموا الدار فلا يكلمهم منكم أحد؛ قال: فدقوا طويلاً ثن انصرفوا، فأقاموا ساعة، ثم طلعوا بجرز شبيه أن يكون معهم مثله؛ مرّة أو مرّتين، فدقوا الباب بجرزة الحديد، وصيّحوا فلم يكلمهم أحد، فرجعوا فأقاموا ساعة، ثم جاءوا بأمر ليس عليه صبر؛ فظننت والله أن قد هدموا الدار عليّ، فأمرت بفتحها، وخرجت إليهم فاستحثوني وهمّوا أن يحملوني، وجعلت أسمع العزاء من بعضهم حتى أسلموني إلى دار مروان، فأخذ رجلان بعضدي، فخرّجاني على حال الدفيف على الأرض أو نحوه؛ حتى أتيا بي حجرة القبّة العظمى؛ فإذا الربيع واقف، فقال: ويحك يا زياد! ماذا فعلت بنا وبنفسك منذ الليلة! ومضى بي حتى كشف ستر باب القبّة، فأدخلني ووقف خلفي بين البابين؛ فإذا الشمع في نواحي القبّة، فهي تزهر، ووصيف قائم في ناحيتها، وأبو جعفر محتب بحمائل سيفه على بساط ليس تحته وسادة ولا مصلّى، وإذا هو منكس رأسه ينقر بجرز في يده. قال: فأخبرني الربيع أنها حاله من حين صلى العتمة إلى تلك الساعة. قال: فما زلت واقفاً حتى إني لأنتظر نداء الصبح، وأجد لذلك فرجاً؛ فما يكلمني بكلمة، ثم رفع رأسه إليّ، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قال: نم نكس رأسه، ونكت أطول مما مضى له، ثم رفع رأسه الثانية، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قتلني الله إن لم أقتلك! قال: قلت له: اسمع مني ودعني أكلّمك، قال: قل لي: أنت نفّرتهما عنك؛ بعثت رسولاً بالمال الذي أمرت بقسمه على بني هاشم، فنزل القادسيّة، ثم أخرج سكيناً يحدّه، وقال: بعثني أمير المؤمنين لأذبح محمداً وإبراهيم، فجاءتهما بذلك الأخبار، فهربا. قال: فصرفني فانصرفت.
قال عمر: وحدّثني عبد الله بن راشد بن يزيد - وكان يلقب الأكّار، من أهل فيد - قال: سمعت نصر بن قادم مولى بني محول الحنّاطين: قال: كان عبدويه وأصحاب له بمكة في سنة حجّها أبو جعفر. قال: فقال لأصحابه: إني أريد أن أوجر أبا جعفر هذه الحربة بين الصّفا والمروة. قال: فبلغ ذلك عبد الله بن حسن فنهاه، وقال: أنت في موضع عظيم؛ فما أرى أن تفعل. وكان قائد لأبي جعفر يدعى خالد بن حسان، كان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، وكان قد مالأ عبدويه وأصحابه؛ فقال له أبو جعفر: أخبرني عنك وعن عبدويه والعطارديّ، ما أردتم أن تصنعوا بمكة؟ قال: أردنا كذا وكذا، قال: فما منعكم؟ قال: عبد الله بن حسن، قال: فطمره فلم ير حتى الساعة.

قال عمر: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحارث بن إسحاق، قال: جدّ أبو جعفر حين حبس عبد الله في طلب ابنيه، فبعث عيناً له، وكتب معه كتاباً على ألأسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم؛ وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرّجل المدينة، فدخل على عبد الله بن حسن، فسأله عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال: امرر بعليّ بن حسن، الرّجل الصالح الذي يدعى الأغر؛ وهو بذي الأبر؛ فهو يرشدك. فأتاه فأرشده. وكان لأبي جعفر كاتب على سرّه، كان متشيعاً، فكتب إلى عبد الله ابن حسن يأمر ذلك العين، وما بعث له، فقدم الكتاب على عبد الله فارتاعوا، وبعثوا أبا هبّار إلى عليّ بن الحسن وإلى محمد، فيحذرّهم الرجل؛ فخرج أبو هبّار حتى نزل بعليّ بن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده إليه. قال أبو هبّار: فجئت محمداً في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف، معه عبد الله بن عامر الأسلميّ وابنا شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتاً، وأشدّهم انبساطاً؛ فلما رآني ظهر عليه بعض النّكرة، وجلست مع القوم؛ فتحدّثت ملياً، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إنّ لي حاجةً، فنهض ونهضت معه، فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل؛ قال: وما هي؟ قلت: تدعني فأقتل الرجل، قال: ما أنا بمقارف دماً إلاّ مكرهاً، أو ماذا؟ قلت: توقره حديداً وتنقله معك حيث انتقلت، قال: وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال! أو ماذا؟ قلت: تشدّه وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة؛ قال: هذه إذاً؛ فرجعنا وقد نذر الرجل فهرب، فقلت: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فاصطبّ ماء؛ ثم توارى بهذا الظرب يتوضّأ، قال: فجلنا في الجبل وما حوله؛ فكأن الأرض التأمت عليه. قال: وسعى على قدميه حتى شرع على الطريق، فمرّ به أعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرّغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلاً لصاحبتها ولك كذا وكذا، قال: نعم؛ ففرّغها وحمله حتى أقدمه بالمدينة. ثم قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر كلّه، وعمى عن اسم أبي هبار وكنيته، وعلّق وبراً. فكتب أبو جعفر في طلب وبر المزنيّ، فحمل إليه رجل منهم يدعى وبراً، فسأله عن قصّة محمد وما حكى له العين؛ فحلف أنه ما يعرف من ذلك شيئاً؛ فأمر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات أبو جعفر.
قال عمر: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: ألحّ أبو جعفر في طلب محمد، وكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثيّ يتنجزّه ما كان ضمن له، فقدم محمد المدينة قدمةً، فبلغ ذلك زياداً، فتلطّف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس معه، فوعده ذلك محمد، فركب زياد مغلّساً، ووعد محمداً سوق الظهر، فالتقيا بها، ومحمد معلن غير مختفٍ، ووقف زياد إلى جنبه، وقال: يأيها الناس؛ هذا محمد بن عبد الله ابن حسن، ثم أقبل عليه، فقال: الحق بأن بلاد الله شئت، وتوارى محمد، وتواترت الأخبار بذلك على أبي جعفر.
قال عمر: حدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني من أصدّق، قال: دخل إبراهيم بن عبد الله على زياد، وعليه درع حديد تحت ثويه، فلمسها زياد. ثم قال: يا أبا إسحاق؛ كأنك اتّهمتني! ذلك والله ما ينالك مني أبداً.
قال عمر: حدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: ركب زياد بمحمد؛ فأتى به السوق فتصايح أهل المدينة: المهديّ المهديّ! فتوارى فلم يظهر؛ حتى خرج.

قال عمر: حدّثني محمد بن يحيى. قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لمّا أن تتابعت الأخبار على أبي جعفر بما فعل زياد بن عبيد الله، وجّه أبا الأزهر رجلاً من أهل خراسان إلى المدينة، وكتب معه كتاباً، ودفع إليه كتباً، وأمره ألاّ يقرأ كتابه إليه حتى ينزل الأعوص، على بريد من المدينة، فلما أن نزله قرأه؛ فإذا فيه تولية عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المدينة - وكان قاضياً لزياد بن عبيد الله - وشد زياد في الحدي، واصطفاء ماله، وقبض جميع ما وجد له، وأخذ عمّاله وإشخاصه وإياهم إلى أبي جعفر. فقدم أبو الأزهر المدينة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة، فوجد زياداً في موكب له، فقال: أين الأمير؟ فقيل: ركب، وخرجت الرّسل إلى زياد بقدومه، فأقبل مسرعاً حتى دخل دار مروان، فدخل عليه أبو الأزهر، فدفع إليه كتاباً من أبي جعفر في ثلث يأمره أن يسمع ويطيع؛ فلما قرأه قال: سمعاً وطاعة، فمر يا أبا الأزهر بما أحببت؛ قال: ابعث إلى عبد العزيز بن المطلب. فبعث إليه، فدفع إليه كتاباً أن يسمع لأبي الأزهر؛ فلما قرأه قال: سمعاً وطاعة؛ ثم دفع إلى زياد كتاباً يأمره بتسليم العمل إلى ابن المطلب، ودفع إلى ابن المطلب كتاباً بتوليته، ثم قال لابن المطلب: ابعث إليّ اربعة كبول وحدّاداً، فأتيَ بهما فقال: اشدد أبا يحيى، فشدّ فيها وقبض ماله - ووجد في بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار - وأخذ عماله، فلم يغادر منهم أحداً؛ فشخص بهم وبزياد، فلما كانوا في طرف المدينة وقف له عماله يسلّمون عليه، فقال: بأبي أنتم! والله ما أبالي إذا رآكم أبو جعفر ما صنع بي! أي من هيئتهم ومروّتهم.
قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، عن خاله عليّ بن عبد الحميد، قال: شيّعنا زياداً، فسرت تحت محمله ليلة، فأقبل عليّ فقال: والله ما أعرف لي عند أمير المؤمنين ذنباً؛ غير أني أحسبه وجد عليّ في ابني عبد الله، ووجد دماء بني فاطمة عليّ عزيزة. ثم مضوا حتى كانوا بالشقراء؛ فأفلت منهم محمد بن عبد العزيز، فرجع إلى المدينة، وحبس أبو جعفر الآخرين، ثم خلّى عنهم.
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني من أصدّق، قال: لما أن وجّه أبو جعفر مبهوتاً وابن أبي عاصية في طلب محمد، كان مبهوت الذي أخذ زياداً، فقال زياد:
أكلّف ذنب قوم لست منهم ... وما جنت الشمال على اليمين
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال، حدّثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنت أنا والشعبانيّ - قائد كان لأبي جعفر - مع زياد بن عبيد الله نختلف إلى أبي الأزهر أيام بعثه أبو جعفر في طلب بني حسن، فإني لأسير مع أبي الأزهر يوماً إذ أتاه آتٍ فلصق به، فقال: إنّ عندي نصيحة في محمد وإبراهيم، قال: اذهب عنا، قال: إنها نصيحة لأمير المؤمنين، قال: اذهب عنا، ويلك قد قتل الخلق! قال: فأبى أن ينصرف، فتركه أبو الأزهر حتى خلا الطريق، ثم بعج بسيفه بطنه بعجةً ألقاه ناحية.
ثمّ استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد؛ فذكر عمر أن محمد بن يحيى حدّثه، قال: حدّثنا الحارث بن إسحاق، قال: استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد، وأمره بالجدّ في طلب محمد، وبسط يده في النفقة في طلبه. فأغذ السير حتّى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة - وهى بين الأعوص والطرّف على ليلتين من المدينة - فوجد فى بيت المال سبعين ألف دينار وألف ألف درهم، فاستغرق ذلك المال؛ ورفع فى محاسبته أموالاً كثيرة أنفقها فى طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتّهمه، فكتب إليه أبو جعفر يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فأمر محمد بن خالد أهل الديوان أن يتجاعلوا لمن يخرج، فتجاعلوا رباع الغاضرىّ المضحك - وكان يداين الناس بألف دينار - فهلكت وتويت، وحرجوا إلى الأعراض لكشفها عن محمد، وأمر القسرىّ أهل المدينة؛ فلزموا بيوتهم سبعة أيام، وطافت رسله والجند ببيوت الناس يكشفونها؛ لا يحسون شيئاً، وكتب القسرىّ لأعوانه صكاكاً يتعزّزون بها، لئلا يعرض لهم أحد؛ فلمّا استبطأه أبو جعفر ورأى ما استغرق من الأموال عزله.

قال: وحدّثنى عيسى بن عبد اللّه، قال: أخبرنى حسين بن يزيد، عن ابن ضبّة، قال: اشتد أمر محمد وإبراهيم على أبى جعفر؛ فبعث فدعا أبا السعلاء من قيس بن عيلان، فقال: ويلك! أشر علىّ فى أمر هذين الرجلين؛ فقد غمنّى أمرهما، قال: أرى لك أن تستعمل رجلاً من ولد الزّبير أو طلحة، فإنهم يطلبونهما بذحل؛ فأشهد لا يلبثونهما إليك قال: قاتلك اللّه؛ ماأجود رأيّاً جئت به! واللّه ما غبى هذا علىّ؛ ولكنى أعاهد الله ألاّ أثّئر من أهل بيتى بعدوى وعدوّهم؛ ولكنى أبعث عليهم صعيليكاً من العرب، فيفعل ما قلت، فبعث رياح بن عثمان بن حيّان.
قال: وحدثنى محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد الله بن يحيى، عن موسى بن عبد العزيز؛ قال: لما أراد أبو جعفر عزل محمد بن خالد عن المدينة ركب ذات يوم؛ فلما خرج من بيته استقبله يزيد بن أسيد السلمى، فدعاه فسايره. ثم قال: أما تدلنّى على فتى من قيس مقلّ أغنيه وأشرّفه وأمكّنه من سيد اليمن يلعب به؟ يعني ابن القسرىّ؛ قال: بلى، قد وجدته يا أمير المؤمنين، قال: من هو؟ قال: رياح بن عثمان بن حيّان المريّ، قال: فلا تذكرنّ هذا لأحد، ثم انصرف فأمر بنجائب وكسوة ورحال؛ فهيئت للمسير؛ فلما انصرف من صلاة العتمة دعا برياح، فذكر له ما بلا من غشّ زياد وابن القسريّ في ابني عبد الله، وولاه المدينة؛ وأمر بالمسير من ساعته قبل أن يصل إلى منزله، وأمره بالجدّ في طلبهما؛ فخرج مسرعاً، حتى قدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة.
قال: وحدّثني محمد بن معروف، قال: أخبرني الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: لما بلغ أمر محمد وإبراهيم من أبي جعفر ما بلغ خرجت يوماً من عنده - أو من بيتي - أريده؛ فإذا أنا برجل قد دنا مني، فقال: أنا رسول رياح بن عثمان إليك، يقول لك: قد بلغني أمر محمد وإبراهيم وإدْهان الولاة في أمرهما؛ وإنْ ولاّني أمير المؤمنين المدينة ضمنت له أحدهما، وألاّ أظهرهما. قال: فأبلغت ذلك أمير المؤمنين. فكتب إليه بولايته. وليس بشاهد.
ذكر عمر بن شبّة، عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يحيى، عن موسى ابن عبد العزيز، قال: لما دخل رباح دار مروان، فصار في سقيفتها، أقبل على بعض من معه، فقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قال: هذه المحلال المظعان، ونحن أوّل من يظعن منها.
قال عمر: حدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني الزبير بن المنذر مولى عبد الرحمن بن العوّام، قال: قدم رياح بن عثمان، فقدم معه حاجب له يكنى أبا البختريّ - وكان لأبي صديقاً زمان الوليد بن يزيد. قال: فكنت آتيه لصداقته لأبي - فقال لي يوماً: يا زبير، إن رياحاً لما دخل دار مروان قال لي: هذه دار مروان؟ أما والله إنها لمحلال مظعان؛ فلما تكشف الناس عنه - وعبد الله محبوس في قبة الدار التي على الطريق إلى المقصورة، حبسه فيها زياد بن عبيد الله - قال لي: يا أبا البختريّ، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، فأقبل متّكئاً عليّ حتى وقف على عبد الله بن حسن، فقال: أيّها الشيخ؛ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه؛ والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسريّ، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! قال: فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة. قال أبو البختريّ: فانصرف رياح والله آخذاً بيدي، أجد برد يده، وإنّ رجليه لتخطّان مما كلّمه، قال: قلت: والله إنّ هذا ما اطّلع على الغيب قال: إيهاً ويلك! فوالله ما قال إلا ما سمع؛ قال: فذبح والله فيها ذبح الشاة.

قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحارث بن إسحاق، قال: قدم رياح المدينة، فدعا بالقسريّ، فسأله عن الأموال، فقال: هذا كاتبي هو أعلم بذلك مني، قال: أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به فوجئت عنقه، وقنّع أسواطاً، ثم أخذ رزاماً كاتب محمد بن خالد القسريّ ومولاه فبسط عليه العذاب، وكان يضربه في كل غبّ خمسة عشر سوطاً، مغلولة يده إلى عنقه من بكرة إلى الليل؛ يتبع به أفناء المسجد والرّحبة، ودسّ إليه في الرفع على ابن خالد فلم يجد عنده في ذلك مساغاً، فأخرجه عمر بن عبد الله الجذاميّ - وكان خليفة صاحب الشرط يوماً من الأيام - وهو يريد ضربه، وما بين قدميه إلى قرنه قرحة، فقال له: هذا يوم غبّك، فأين تحبّ أن نجلدك؟ قال: والله ما في بدني موضع لضرب؛ فإن شئت فبطون كفي، فأخرج كفّيه فضرب في بطونهما خمسة عشر سوطاً. قال: فجعلت رسل رياح تختلف إليه، تأمره أن يرفع على ابن خالد ويخلّى سبيله، فأرسل إليه: مر بالكفّ عني حتى أكتب كتاباً، فأمر بالكفّ عنه، ثم ألحّ عليه وبعث إليه: أن رح بالكتاب العشيّة على رءوس الناس، فادفعه إليّ. فلما كان العشيّ أرسل إليه فأتاه وعنده جماعة فقال: أيّها الناس؛ إن الأمير أمرني أن أكتب كتاباً، وأرفع على ابن خالد؛ وقد كتبت كتاباً أتنجّي به، وأنا أشهدكم أن كلّ ما فيه باطل. فأمر به رياح فضرب مائة سوط، وردّ إلى السجن.
قال عمر: حدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني عمي عبيد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، قال: لما أهبط الله آدم من الجنّة رفعه على أبي قبيس، فرفع له الأرض جميعاً حتى رآها وقال: هذه كلها لك، قال: أي ربّ، كيف أعلم ما فيها؟ فجعل له النجوم، فقال: إذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، وإذا رأيت نجم كاذ وكذا كان كذا وكذا؛ فكان يعلم ذلك بالنجوم. ثم إن ذلك اشتدّ عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ مرآة من السماء يرى بها ما في الأرض حتى إذا ما مات آدم عمد إليها شيطان يقال له فقطس فكسرها، وبنى عليها مدينة بالمشرق يقال لها جابرت؛ فلما كان سليمان بن داود سأل عنها، فقيل له: أخذها فقطس. فدعاه فسأله عنها، فقال: هي تحت أواسي جابرت، قال: فأتني بها، قال ومن يهدمها؟ فقالوا لسليمان: قل له: أنت، فقال سليمان: أنت، فأتى بها سليمان، فكان يجبر بعضها إلى بعض ثم يشدّها في أقطارها بسير، ثم ينظر فيها؛ حتى هلك سليمان؛ فوثبت عليها الشياطين؛ فذهبت بها وبقيت منها بقية، فتوارثتها بنو إسرائيل حتى صارت إلى رأس الجالوت؛ فأتيَ بها مروان بن محمد؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كرسفة، ثم جعلتها في حجر؛ فلما استخلف أبو جعفر سأل عنها فقيل له: هي عند فلانة؛ فطلبها حتى وجدها، فكانت عنده؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها؛ وكان يرى محمد ابن عبد الله؛ فكتب إلى رياح بن عثمان: إنّ محمداً ببلاد فيها الأترجّ والأعناب فاطلبه بها. وقد كتب إلى محمد بعض أصحاب أبي جعفر: لا تقيمنّ في موضع إلاّ بقدر مسير البريد من العراق إلى المدينة ؛ فكان يتنقّل فيراه بالبيضاء، وهي من وراء الغابة على نحو من عشرين ميلاً؛ وهي لأشجع. فكتب إليه: إنه ببلاد بها الجبال والقلاّت؛ فيطلبه فلا يجده. قال: فكتب إليه إنه بجبل به الحبّ الأخضر والقطران، قال: هذه رضوى؛ فطلبه فلم يجده.
قال أبو زيد: حدّثني أبو صفوان نصر بن قديد بن نصر بن سيار، أنه بغله أنه كان عند أبي جعفر مرآة يرى فيها عدوّه من صديقه.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: جدّ رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى - جبل جهينة، وهي من عمل ينبع - فاستعمل عليها عمرو بن عثمان بن مالك الجهنيّ أحد بني جشم، وأمره بطلب محمد، فطلبه فذكر له أنه بشعب من رضوى، فخرج إليه بالخيل والرّجال، ففزع منه محمد، فأحضر شداً، فأقلت وله ابن صغير، ولد في خوفه ذلك؛ وكان مع جارية له؛ فهوى من الجبل فتقطّع، وانصرف عمرو بن عثمان.
قال: وحدّثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائيّ، قال: لما سقط ابن محمد فمات ولقي محمد ما لقي، قال:
منخرق السّربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني عمتي عبيد الله بن محمد، قال: قال محمد بن عبد الله: بينا أنا في رضوى مع أمة لي أمّ ولد، معها بنّى لي ترضعه؛ إذا ابن سنوطي مولى لأهل المدينة، قد هجم عليّ في الجبل يطلبني؛ فخرجت هارباً، وهربت الجارية. فسقط الصبيّ منها فتقطّع، فقال عبيد الله: فأتيَ بابن سنوطي إلى محمد بعد حين ظهر، فقال: يا بن سنوطي، أتعرف حديث الصبيّ؟ قال: إي والله؛ إني لأعرفه، فأمر به فحبس؛ فلم يزل محبوساً حتى قتل محمد.
قال: وحدّثني عبد العزيز بن زياد، قال: حدّثني أبي قال: قال محمد: إني بالحرّة مصعد ومنحدر، إذا أنا برياح والخيل، فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها، فجعلت أستقي، فلقيني رياح صفحاً، فقال: قاتله الله أعرابياً ما أحسن ذراعه! قال: وحدّثني ابن زبالة، قال: حدّثني عثمان بن عبد الرحمن الجهنيّ عن عثمان بن مالك، قال: أذلق رياح محمداً بالطلب؛ فقال لي: اغد بنا إلى مسجد الفتح ندع الله فيه. قال: فصليت الصبح، ثم انصرفت إليه، فغدونا وعلى محمد قميص غليظ ورداء قرقبيّ مفتول؛ فخرجنا من موضع كان فيه؛ حتى إذا كان قريباً التفت، فإذا رياح في جماعة من أصحابه ركبان، فقلت له: هذا رياح؛ إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال غير مكترث به: امض؛ فمضيت وما تنقلني رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق؛ فجلس وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه - وكان جسيماً - فلما حاذاه رياح التفت إلى أصحابه، فقال: امرأة رأتنا فاستحيت. قال: ومضيت حتى طلعت الشمس، وجاء رياح فصعد وصلى ركعتين، ثم انصرف من ناحية بطحان، فأقبل محمد حتى دخل المسجد، فصلى ودعا، ولم يزل محمد بن عبد الله ينتقل من موضع إلى موضع إلى حين ظهوره.
ولما طال على المنصور أمره؛ ولم يقدر عليه وعبد الله بن حسن محبوس، قال عبد العزيز بن سعيد - فيما ذكر عن عيسى بن عبد الله، عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة - قال لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، أتطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلّون! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد. قال: فكان ذلك الذي هاجه على حبسهم. قال؛ ثم دعاه فقال: من أشار عليك بهذا الرأي؟ قال: فليح بن سليمان، فلما مات عبد العزيز ابن سعد - وكان عيناً لأبي جعفر ووالياً على الصدقات - وضع فليح بن سليمان في موضعه، وأمر أبو جعفر بأخذ بني حسن.
قال عيسى: حدّثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر رياحاً يأخذ بني حسن، ووجّه في ذلك أبا الأزهر المهريّ - قال: وقد كان حبس عبد الله بن حسن فلم يزل محبوساً ثلاث سنين؛ فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّياً على عبد الله؛ فكان أبو جعفر يقول: ما فعلت الحادّة؟ قال: فأخذ رياح حسناً وإبراهيم ابني حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، ومحمداً وإسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب، أخذوه على بابه؛ فقالت أمه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دعوني أشمّه، قالوا: لا والله؛ ما كنت حيةً في الدنيا؛ وعليّ بن حسن بن حسن بن حسن العابد.
قال: وحدّثني إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، قال: حبس معهم أبو جعفر عبد الله بن حسن بن حسن أخا عليّ.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحارث بن إسحاق، قال: جهر رياح بشتم محمد وإبراهيم ابني عبد الله، وشتم أهل المدينة. قال: ثم قال يوماً وهو على المنبر يذكرهما: الفاسقين الخالعين الحاربين. قال: ثم ذكر ابنة أبي عبيدة أمهما، فأفحش لها، فسبّح الناس وأعظموا ما قال، فأقبل عليهم، فقال: إنكم لا كلنا عن شتمهما، ألصق الله بوجوهكم الذلّ والهوان! أما والله لأكتبنّ إلى خليفتكم فلأعلمنّه غشكم وقلة نصحكم. فقال الناس: لا نسمع منك يا بن المحدود؛ وبادروه بالحصى، فبادر واقتحم دار مروان وأغلق عليه الباب، وخرج الناس حتى صفّوا وجاهه، فرموه وشتموه ثم تناهوا وكفّوا.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى؛ قال: حدّثني الثقة عندي، قال: حبس معهم موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ وعليّ بن محمد ابن عبد الله بن حسن بن حسن عند مقدمه من مصر.

قال: وحدّثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: وجّه محمد بن عبد الله ابنه عليّاً إلى مصر، فدلّ عليه عاملها، وقد همّ بالوثوب، فشدّه وأرسل به إلى أبي جعفر؛ فاعترف له، وسمّى أصحاب أبيه، فكان فيمن سمّى عبد الرحمن ابن أبي الموالي وأبو حنين؛ فأمر بهما أبو جعفر فحبسا، وضرب أبو حنين مائة سوط.
قال: وحدّثني عيسى، قال: مرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم ابن حسن وهو يعلف إبلاً له؛ فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس! أطلق عقلها يا غلام، فأطلقها، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها واحدة.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني عليّ بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، قال: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني حسين فليدخل؛ فقال لي عمتي عمر بن محمد: انظر ما يصنع القوم، قال: فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدّادون من باب مروان، فدعيَ بالقيود.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: كان رياح إذا صلى الصبح أرسل إلى وإلى قدامة بن موسى فيحدّثنا ساعة؛ فإنا لعنده يوماً؛ فلما أسفرنا إذا برجل متلفّف في ساجٍ له؛ فقال له رياح: مرحباً بك وأهلا، ما حاجتك؟ قال: جئت لتحبسني مع قومي؛ فإذا هو عليّ بن حسن بن حسن بن حسن، فقال: أما والله ليعرفنّها لك أمير المؤمنين، ثم حبسه معهم.
قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثني سعيد بن ناشرة مولى جعفر بن سليمان، قال: بعث محمد ابنه عليّاً، فأخذ بمصر، فمات في سجن أبي جعفر.
قال: وحدثني موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن، قال: حدّثني أبي، عن أبيه موسى بن عبد الله، قال: لما حبسنا ضاق الحبس بنا، فسأل أبي رياحاً أن يأذن له فيشتري داراً، فيجعل حبسنا فيها، ففعل، فاشترى أبي داراً فنقلنا إليها، فلما امتدّ بنا الحبس أتى محمد أمه هنداً فقال: إني قد حمّلت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به؛ ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم؛ فعسى أن يخلّى عنهم. قال: فتنكرت ولبست أطماراً، ثم جاءت السجن كهيئة الرسول، فأذن لها، فلما رآها أبي أثبتها، فنهض إليها فأخبرته عن محمد، فقال: كلاّ بل نصبر؛ فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيراً، قولي له: فليدع إلى أمره، وليجدّ فيه، فإن فرجنا بيد الله. قال: فانصرفت وتمّ محمد على بغيته.
ذكر حمل ولد حسن بن حسن إلى العراق وفي هذه السنة حمل ولد حسن بن حسن بن عليّ من المدينة إلى العراق.
ذكر الخبر عن سبب حملهم إلى العراق

وما كان من أمرهم إذ حملوا
ذكر عمر، قال: حدّثني موسى بن عبد الله، قال: حدّثني أبي عن أبيه، قال: لما حجّ أبو جعفر أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ومالك بن أنس إلى أصحابنا، فسألهم أن يدفعوا محمداً وإبراهيم ابني عبد الله، قال: فدخل علينا الرجلان وأبي قائم يصلّي، فأبلغاهم رسالته، فقال حسن بن حسن: هذا عمل ابني المشئومة، أما والله ما هذا برأينا، ولا عن ملأ منا؛ ولا لنا فيه حيلة. قال: فأقبل عليه إبراهيم، فقال: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه؟ قال: وانصرف أبي من صلاته؛ فأبلغاه، فقال: لا والله لا أردّ عليكما حرفاً؛ إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل؛ فانصرف الرجلان فأبلغه، فقال: أراد أن يسخّرني؛ لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه.
قال: وحدّثني ابن زبالة، قال: سمعت بعض علمائنا يقول: ما سارّ عبد الله بن حسن أحداً قطّ إلا فتله عن رأيه.
قال: وحدثني موسى بن عبد الله، عن أبيه عن جده، قال: ثم سار أمير المؤمنين أبو جعفر لوجهه حاجاً، ثم رجع فلم يدخل المدينة؛ ومضى إلى الرّبذة حتى أتى ثنى رهوتها.

قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح حتى حجّ أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقّاه رياح بالرّبذة، فردّه إلى المدينة، وأمره بإشخاص بني حسن إليه، وبإشخاص محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو أخو بني حسن لأمهم. أمهم جميعاً فاطمة بنت حسين بن عليّ بن أبي طالب - فأرسل إليه رياح - وكان بماله ببدر - فحدرهم إلى المدينة، ثم خرج رياح ببني حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو إلى الرّبذة، فلما صار بقصر نفيس على ثلاثة أميال من المدينة، دعا بالحدّادين والقيود والأغلال، فألقى كلّ رجل منهم في كبل وغلّ، فضاقت حلقتا قيد عبد الله بن حسن بن حسن، فعضّتاه فتأوّه؛ فأقسم عليه أخوه عليّ بن حسن ليحوّلنّ حلقتيه عليه إن كانتا أوسع، فحوّلنا عليه، فمضى بهم رياح إلى الرّبذة.
قال: وحدّثني إبراهيم بن خالد، ابن أخت سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء - وهو خال أمه - قال: لما حمل بنو حسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يقيدون بها، وعليّ بن حسن بن حسن قائم يصلي. قال: وكان في الأقياد قيد ثقيل، فكلّما قرب إلى رجل منهم تفادى منه واستعفى. قال: فانقتل عليّ من صلاته، فقال: لشدّ ما جزعتم، شرعه هذا، ثم مدّ رجليه فقيّد به.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني عبد الله بن عمران، قال: الذي حدّرهم إلى الربّذة أبو الأزهر.
قال عمر: حدّثني ابن زبالة، قال: حدّثني حسين بن زيد بن عليّ ابن حسين، قال: غدوت إلى المسجد، فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الرّبذة، فانصرفت، فأرسل إليّ جعفر ابن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قال: اجلس، فجلست، فدعا غلاماً له، ثم دعا ربه دعاء كثيراً، ثم قال لغلامه: اذهب؛ فإذا حملوا فأت فأخبرني، فأتاه الرّسول، فقال: قد أقبل بهم. قال: فقام جعفر بن محمد، فوقف من وراء ستر شعر يبصر من وراءه ولا يبصره أحد؛ فطلع بعبد الله بن حسن في محمل معادله مسود، وجميع أهل بيته كذلك. قال: فلما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل عليّ فقال: يا أبا عبد الله؛ والله لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء.
قال: وحدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدّثني مصعب بن عثمان، قال: لما ذهب ببني حسن لقيهم الحارث بن عامر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بالرّبذة، فقال: الحمد لله الذي أخرجكم من بلادنا، قال: فاشرأبّ له حسن بن حسن، فقال له عبد الله: عزمت عليك إلا سكتّ! قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني ابن أبرود حاجب محمد بن عبد الله قال: لما حمل بنو حسن، كان محمد وإبراهيم يأتيان معتمّين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسائلانه ويستأذنانه في الخروج؛ فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك؛ ويقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين؛ فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.

قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار بنو حسن إلى الربّذة دخل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على أبي جعفر، وعليه قميص وساج وإزار رقيق تحت قميصه؛ فلما وقف بين يديه، قال: إيهاً يا ديّوث! قال محمد: سبحان الله! والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيراً وكبيراً، قال: فممّ حملت ابنتك؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن - وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألا تغشني ولا تمالىء عليّ عدواً، ثم أنت تدخل على ابنتك متخضبّة متعطّرة، ثم تراها حاملاً فلا يروعك حملها! فأنت بين أن تكون حانثاً أو ديوثاً؛ وأيم الله إني لأهمّ برجمها، فقال محمد: أما أيماني فهي عليّ إن كنت دخلت لك في أمر غشّ علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية، فإن الله قد أكرمها عليه السلام ذلك بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها؛ ولكني قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منا، فاحتفظ أبو جعفر من كلامه، وأمر بشق ثيابه، فشق قميصه عن إزاره، فأشفّ عن عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط؛ فبلغت منه كلّ مبلغ، وأبو جعفر يفتري عليه ولا يكنى؛ فأصاب سوط منها وجهه. فقال له: ويحك! اكفف عن وجهي فإنّ له حرمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: فأغرى أبو جعفر، فقال للجلاد: الرأس الرأس. قال: فضرب على رأسه نحواً من ثلاثين سوطاً، ثم دعا بساجور من خشب شبيه به في طوله - وكان طويلاً - فشدّ في عنقه، وشدّت به يده؛ ثم أخرج به ملبّباً، فلما طلع به من حجرة أبي جعفر؛ وثب إليه مولى له، فقال: بأبي أنت وأمي ألا ألوثك بردائي! قال: بلى جزيت خيراً؛ فوالله لشفوف إزاري أشدّ عليّ من الضرب الذي نالني؛ فألقى عليه المولى الثوب، ومضى به إلى أصحابه المحبّسين.
قال: وحدّثني الوليد بن هشام، قال: حدّثني عبد الله بن عثمان، عن محمد بن هاشم بن البريد، مولى معاوية، قال: كنت بالرّبذة، فأتيَ ببني حسن مغلولين، معهم العثمانيّ كأنه خلق من فضّة، فأقعدوا، فلم يلبثوا حتى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم يلبث أن سمعنا وقع السياط، فقال أيوب بن سلمة المخزومىّ لبنيه: يا بنىّ؛ إني لأرى رجلاً ليس لأحد عنده هوادة، فانظروا لأنفسكم؛ لا تسقطوا بشىء. قال: فأخرج كأنه زنجى قد غيّرت السياط لونه، وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت، فأقعد إلى جنب أخيه عبد الله بن حسن بن حسن، فعطش فاستسقّى ماء، فقال عبد الله بن حسن: يا معشر الناس، من يسقي ابن رسول الله شربة ماء؟ فتحاماه الناس فما سقوه حتى جاء خراسانيّ بماء، فسلّه إليه فشرب، ثم لبثنا هنيهةً، فخرج أبو جعفر في يشقّ محمل، معادله الربيع في شقّه الأيمن، على بغلة شقراء، فناداه عبد الله: يا أبا جعفر؛ والله ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! قال: فأخسأه أبو جعفر؛ وتفل عليه، ومضى ولم يعرّج.
وذكر أن أبا جعفر لما دخل عليه محمد بن عبد الله العثمانيّ سأله عن إبراهيم، فقال: ما لي به علم، فدقّ أبو جعفر وجهه بالجرز.
وذكر عمر عن محمد بن أبي حرب، قال: لم يزل أبو جعفر جميل الرأي في محمد حتى قال له رياح: يا أمير المؤمنين؛ أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأما أهل الشأم فوالله ما عليّ عندهم إلا كافر، وما يعتدّون بأحد من ولده؛ ولكنّ أخاهم محمد بن عبد الله ابن عمرو، ولو دعا أهل الشأم ما تخلف عنه منهم رجل. قال: فوقعت في نفس أبي جعفر، فلما حجّ دخل عليه محمد، فقال: يا محمد، أليس ابنتك تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن؟ قال: بلى؛ ولا عهد لي به إلا بمنىً في سنة كذا وكذا، قال: فهل رأيت ابنتك تختضب وتمتشط؟ قال: نعم، قال: فهي إذاً زانية، قال: مَهْ يا أمير المؤمنين! أتقول هذا لابنة عمّك! قال: يا بن اللخناء، قال: أيّ أمهاتي تلخّن! قال: يا بن الفاعلة، ثم ضرب وجهه بالجرز وحدده؛ وكانت رقية ابنة محمد تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، ولها يقول:
خليليّ من قيس دعا اللوم واقعدا ... يسرّكما ألاّ أنام وترقدا
أبيت كأنّي مسعرٌ من تذكري رقية جمراً من غضاً متوقداً

قال: وحدثني عيسى بن عبد الله بن محمد، قال: حدّثني سليمان بن داود بن حسن؛ قال: ما رأيت عبد الله بن حسن جزع من شيء مما ناله إلاّ يوماً واحداً؛ فإنّ بعير محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان انبعث وهو غافل، لم يتأهّب له، وفي رجليه سلسلة، وفي عنقه زمّارة، فهوى، وعلقت الزّمارة بالمحمل، فرأيته منوطاً بعنقه يضطرب؛ فرأيت عبد الله بن حسن قد بكى بكاء شديداً.
قال: وحدّثني موسى بن عبد الله بن موسى، قال: حدّثني أبي عن أبيه، قال: لما صرنا بالرّبذة، أرسل أبو جعفر إلى أبي أن أرسل إليّ أحدكم؛ واعلم أنه غير عائد إليك أبداً، فابتدره بنو إخوته يعرضون أنفسهم عليه، فجزاهم خيراً، وقال: أنا أكره أن أفجعهم بكم؛ ولكن اذهب أنت يا موسى، قال: فذهبت وأنا يومئذ حديث السنّ، فلما نظر إليّ قال: لا أنعم الله بك عيناً؛ السياط يا غلام قال: فضربت والله حتى غشيَ عليّ، فما أدرى بالضرب، فرفعت السياط عني، ودعاني فقرّبت منه واستقربني. فقال: أتدري ما هذا؟ هذا فيض فاض مني، فأفرغت منه سجلاً لم أستطع ردّه؛ ومن ورائه الموت أو تفتدي منه. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين؛ والله إن ما لي ذنب؛ وإني لبمعزل عن هذا الأمر. قال: فانطلق فأتني بأخويك، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، تبعثني إلى رياح بن عثمان فيضع عليّ العيون والرّصد، فلا أسلك طريقاً إلا تبعني له رسول، ويعلم ذلك أخواي فيهربان مني! قال: فكتب إلى رياح: لا سلطان لك على موسى، قال: وأرسل معي حرساً أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري، قال: فقدمت المدينة، فنزلت دار ابن هشام بالبلاط، فأقمت بها أشهراً، فكتب إليه رياح: إنّ موسى مقيم بمنزله يتربّص بأمير المؤمنين الدوائر؛ فكتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فاحدره إليّ، فحدرني.
قال: وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: حدّثني موسى، قال: أرسل أبي إلى أبي جعفر: إني كاتب إلى محمد وإبراهيم؛ فأرسل موسى عسى أن يلقاهما؛ وكتب إليهما أن يأتياه، وقال لي: أبلغهما عنّي فلا يأتياه أبداً. قال: وإنما أراد أن يفلتني من يده - وكان أرقّ الناس عليّ، وكنت أصغر ولد هند - وأرسل إليهما:
يا بني أميّة إني عنكما غان ... وما الغنى غير أني مرعش فان
يا بني أمية إلاّ ترحما كبري ... فإنما أنتما والثكل مثلان
قال: فأقمت بالمدينة مع رسل أبي جعفر إلى أن استبطأني رياح، فكتب إلى أبي جعفر بذلك، فحدرني إليه.
قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم بن محمد، قال: أخبرني عمران بن محرز من بني البكّاء، قال: خرج ببني حسن إلى الرّبذة، فيهم عليّ وعبد الله ابنا حسن بن حسن بن حسن، وأمّهما حبابة ابنة عامر بن عبد الله بن عامر ابن بشر بن عامر ملاعب الأسنة؛ فمات في السجن حسن بن حسن وعباس ابن حسن، وأمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله وعبد الله بن حسن وإبراهيم بن حسن.
قال عمر: حدّثني المدائنيّ، قال: لما خرج ببني حسن، قال إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، قال عمر: وقد أنشدني غير أبي الحسن هذا الشعر لغالب الهمدانيّ:
ما ذكرك الدّمنة القفار وأه ... ل الدار إمّا نأوك أو قربوا
إلاّ سفاهاً وقد تفرّعك الشّ ... يب بلونٍ كأنّه العطب
ومر خمسون من سنيك كما ... عدّ لك الحاسبون إذا حسبوا
فعد ذكر الشباب لست له ... ولا إليك الشباب منقلب
إني عرتني الهموم فاحتضر ال ... همّ وسادى فالقلب منشعب
واستخرج الناس للشقاء وخل ... فت لدهر بظهره حدب
أعوج يستعذب اللئام به ... ويحتويه الكرام إن سربوا
نفسي فدت شيبةً هناك وظن ... بوباً به من قيوده ندب
والسادة الغر من بنيه فما ... روقب فيه الإله والنسب
يا حلق القيد ما تضمّن من ... حلم وبرّ يشوبه حسب
وأمهات من العواتك أخ ... لصنك بيض عقائل عرب
كيف اعتذاري إلى الإله ولم ... يشهرن فيك المأثورة القضب!
ولم أقد غارة ململمة ... فيها بنات الصّريح تنتحب

والسابقات الجياد والأسل الذّ ... بّل فيهيا أسنة ذرب
حتى نوفّى بني نتيلة بال ... قسط بكيل الصاع الذي احتلبوا
بالقتل قتلاً وبالأسير الذي ... في القد أسرى مصفودة سلب
أصبح آل الرّسول أحمد في الن ... اس كذي عرّة به جرب
بؤساً لهم ما جنت أكفهم ... وأيّ حبل من أمّة قضبوا!
وأي حبل خانوا المليك به ... شد بميثاق عقده الكذب
وذكر عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت الجرّاح بن عمر وخاقان ابن زيد وغيرهما من أصحابنا يقولون: لما قدم بعبد الله بن حسن وأهله مقيّدين فأشرف بهم على النّجف، قال لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قال: فلقيه ابنا أخي الحسن وعليّ مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله، فمرنا بالذي تريد، قال: قد قضيتما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئاً فانصرفا.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر أبا الأزهر فحبس بني حسن بالهاشميّة.
قال: وحدّثني محمد بن الحسن، قال: حدّثني محمد بن إبراهيم، قال: أتى بهم أبو جعفر، فنظر إلى محمد بن إبراهيم بن حسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم، قال: أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلتها أحداً من أهل بيتك، ثم أمر بأسطوانة مبنيّة ففرقت، ثم أدخل فيها فبنى عليه وهو حيّ.
قال محمد بن الحسن: وحدّثني الزبير بن بلال، قال: كان الناس يختلفون إلى محمد ينظرون إلى حسنه.
قال عمر: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني عبد الله بن عمران، قال: أخبرني أبو الأزهر، قال: قال لي عبد الله بن حسن: ابغني حجّاماً، فقد احتجت إليه، فاستأذنت أمير المؤمنين، فقال: آتيه بحجام مجيد.
قال: وحدّثني الفضل بن دكين أبو نعيم، قال: حبس من بني حسن ثلاثة عشر رجلاً، وحبس معهم العثمانيّ وابنان له في قصر ابن هبيرة؛ وكان في شرقيّ الكوفة مما يلي بغداد؛ فكان أوّل من مات منهم إبراهيم ابن حسن، ثم عبد الله بن حسن، فدفن قريباً من حيث مات؛ وإلا يكن بالقبر الذي يزعم الناس أنه قبره؛ فهو قريب منه.
وحدّثني محمد بن أبي حرب، قال: كان محمد بن عبد الله بن عمرو محبوساً عند أبي جعفر، وهو يعلم براءته؛ حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أمير المؤمنين أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّي، وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله؛ فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمّد بن عبد الله بن عمرو، فضربت عنقه، وأرسل برأسه إلى خراسان؛ وأقسم لهم أنه رأس محمد بن عبد الله، وأنّ أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: فحدّثني الوليد بن هشام، قال: حدّثني أبي، قال: لما صار أبو جعفر بالكوفة، قال: ما أشتفي من هذا الفاسق من أهل بيت فسق، فدعا به، فقال: أزوّجت ابنتك ابن عبد الله؟ قال: لا، قال: أفليست بامرأته؟ قال: بلى زوّجها إيّاه عمّها وأبوه عبد الله بن حسن فأجزت نكاحه، قال: فأين عهودك التي أعطيتني؟ قال: هي عليّ، قال: أفلم تعلم بخضاب! ألم تجد ريح طيب! قال: لا علم لي؛ قد علم القوم ما لك عليّ من المواثيق فكتموني ذلك كله، قال: هل لك أن تستقيلني فأقيلك، وتحدث لي أيماناً مستقبلة؟ قال: ما حنثت بأيماني فتجدّدها عليّ، ولا أحدثت ما أستقيلك منه فتقيلني؛ فأمر به فضرب حتى مات، ثم احتزّ رأسه؛ فبعث به إلى خراسان؛ فلما بلغ ذلك عبد الله بن حسن، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله إن كنّا لنأمن به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا.
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني مسكين بن عمرو، قال: لما ظهر محمد بن عبد الله بن حسن، أمر أبو جعفر بضرب عنق محمد ابن عبد الله بن عمرو، ثم بعث به إلى خراسان؛ وبعث معه الرّجال يحلفون بالله إنه لمحمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فسألت محمد بن جعفر بن إبراهيم، في أيّ سبب قتل محمد بن عمرو؟ قال: احتيج إلى رأسه.

قال عمر: وحدّثني محمد بن أبي حرب، قال: كان عون بن أبي عون خليفة أبيه بباب أمير المؤمنين؛ فلما قتل محمد بن عبد الله بن حسن وجّه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، إلى أبي عون مع محمد بن عبد الله بن أبي الكرام وعون بن أبي عون؛ فلما قدم به ارتاب أهل خراسان، وقالوا: أليس قد قتل مرّة وأتينا برأسه! قال: ثم تكشّف لهم الخبر حتى علموا حقيقته؛ فكانوا يقولون: لم يطّلَع من أبي جعفر على كذبةٍ غيرها.
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال: حدّثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنا نأتي أبا الأزهر ونحن بالهاشميّة أنا والشعبانيّ، فكان أبو جعفر يكتب إليه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي الأزهر مولاه، ويكتب أبو الأزهر إلى أبي جعفر: من أبي الأزهر مولاه وعبده؛ فلما كان ذات يوم ونحن عنده - وكان أبو جعفر قد ترك له ثلاثة أيام لا ينوبها؛ فكنّا نخلو معه في تلك الأيام - فأتاه كتاب من أبي جعفر، فقرأه ثم رمى به، ودخل إلى بني حسن وهم محبوسون.. قال: فتناولت الكتاب وقرأته؛ فإذا فيه: انظر يا أبا الأزهر ما أمرتك به في مدلّهٍ فعجّله وأنفذه. قال: وقرأ الشعبانيّ الكتاب فقال: تدري من مدلّه؟ قلت: لا، قال: هو والله عبد الله بن حسن، فانظر ما هو صانع. قال: فلم نلبث أن جاء أبو الأزهر، فجلس فقال: قد والله هلك عبد الله بن حسن، ثم لبث قليلاً ثم دخل وخرج مكتئباً، فقال: أخبرني عن عليّ بن حسن، أيُّ رجل هو؟ قلت: أمصدّقٌ أنا عندك؟ قال: نعم، وفوق ذلك؛ قال: قلت: هو والله خير من تقلّه هذه وتظلّه هذه! قال: فقد والله ذهب.
قال: وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت جدّي موسى بن عبد الله يقول: ما كنّا نعرف أوقات الصلاة في الحبس إلا بأحزاب كان يقرؤها عليّ بن حسن.
قال عمر: وحدّثني ابن عائشة، قال: سمعت مولىً لبني دارم، قال: قلت لبشير الرّحال ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قال: إنه أرسل إليّ بعد أخذه عبد الله بن حسن فأتيته، فأمرني يوماً بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بن حسن مقتولاً، فسقطت مغشياً عليّ، فلما أفقت أعطيت الله عهداً ألاّ يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما. وقلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيت؛ فإنه إن علم قتلني. قال عمر: فحدّثت به هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد من أهل همذان. وهو العباسيّ أن أبا جعفر أمر بقتله، فحلف بالله ما فعل ذلك؛ ولكنّه دسّ إليه من أخبره أن محمداً قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات.
قال: وحدّثني عيسى بن عبد الله، قال: قال من بقي منهم: إنهم كانوا يسقون؛ فماتوا جميعاً إلا سليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن وإسحاق وإسماعيل ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن، فكان من قتل منهم إنما قتل بعد خروج محمد.
قال عيسى: فنظرت مولاة لآل حسن إلى جعفر بن حسن، فقالت: بنفسي أبو جعفر! ما أبصره بالرجال حيث يطلقك وقتل عبد الله بن حسن! ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت في سنة أربع وأربعين ومائة فمن ذلك ما كان من حمل أبي جعفر المنصور بني حسن بن حسن بن عليّ من المدينة إلى العراق.
ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق: حدّثني الحارث بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: لما ولّى أبو جعفر رياح بن عثمان بن حيّان المريّ المدينة، أمره بالجدّ في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن وقلة الغفلة عنهما.
قال محمد بن عمر: فأخبرني عبد الرحمن بن أبي الموالي؛ قال: فجدّ رياح في طلبهما ولم يداهن، واشتدّ في ذلك كلّ الشدّة حتى خافا؛ وجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتمّ أبو جعفر من بغّيهما؛ وكتب إلى رياح ابن عثمان: أن يأخذ أباهما عبد الله بن حسن وإخوته: حسن بن حسن وداود ابن حسن وإبراهيم بن حسن، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان - وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين - في عدّة منهم، ويشدّهم وثاقاً، ويبعث بهم إليه حتى يوافوه بالرّبذة. وكان أبو جعفر قد حجّ تلك السنة وكتب إليه أن يأخذني معهم فيبعث بي إليه أيضاً. قال: فأدركت وقد أهللت بالحجّ، فأخذت فطرحت في الحديد، وعورض بي الطريق حتى وافيتهم بالرّبذة.

قال محمد بن عمر: أنا رأيت عبد الله بن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد؛ فيحملون في المحامل؛ ليس تحتهم وطاء؛ وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، أحفظ ما أرى.
قال محمد بن عمر: قال عبد الرحمن بن أبي الموالي: وأخذ معهم نحو من أربعمائة، من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل؛ فأراهم بالرّبذة مكتّفين في الشمس. قال: وسجنت مع عبد الله بن حسن وأهل بيته. ووافى أبو جعفر الرّبذة منصرفاً من الحجّ، فسأل عبد الله بن حسن أبا جعفر أن يأذن له في الدّخول عليه، فأبى أبو جعفر؛ فلم يره حتى فارق الدنيا. قال: ثم دعاني أبو جعفر من بينهم، فأقعدت حتى أدخلت - وعنده عيسى بن عليّ - فلما رآني عيسى، قال: نعم؛ هو هو يا أمير المؤمنين؛ وإنْ أنت شددت عليه أخبرك بمكانهم. فسلّمت، فقال أبو جعفر: لا سلّم الله عليك! أين الفاسقان ابنا الفاسق الكذابان ابنا الكذاب؟ قال: قلت: هل ينفعني الصدق يا أمير المؤمنين عندك؟ قال: وما ذاك؟ قال: امرأته طالق، وعليّ وعليّ ، إن كنت أعرف مكانهما! قال: فلم يقبل ذلك مني، وقال: السياط! وأقمت بين العقابين، فضربني أربعمائة سوط؛ فما عقلت بها حتى رفع عني، ثم حملت إلى أصحابي على تلك الحال، ثم بعث إلى الدّيباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان؛ وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فلما أدخل عليه قال: أخبرني عن الكذّابين ما فعلا؟ وأين هما؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم، قال: لتخبرنّي، قال: قد قلت لك وإني والله لصادق؛ ولقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم؛ وأما اليوم فمالي والله بهما علم. قال: جرّدوه، فجُرّد فضربه مائة سوط، وعليه جامعة حديد في يده إلى عنقه؛ فلمّا فرغ من ضربه أخرج فألبس قميصاً له قوهيّاً على الضرب، وأتيَ به إلينا؛ فوالله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاة، ثم انتزع القميص ثم داووه. فقال أبو جعفر: احدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشميّة، فحبسنا بها؛ فكان أوّل من مات في الحبس عبد الله ابن حسن؛ فجاء السجان فقال: ليخرج أقربكم به فليصلّ عليه؛ فخرج أخوه حسن بن حسن بن حسن بن عليّ عليهم السلام، فصلّى عليه. ثم مات محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشّيعة إلى خراسان؛ فطافوا في كورخراسان، وجعلوا يحلفون بالله أنّ هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يوهمون الناس أنه رأس محمد بن عبد الله بن حسن؛ الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية.
وكان والي مكة في هذه السنة السريّ بن عبد الله، ووالي المدينة رياح ابن عثمان المرّيّ، ووالي الكوفة عيسى بن موسى، ووالي البصرة سفيان بن معاوية.
وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما.
ذكر الخبر عن مخرج محمد بن عبد الله ومقتلهذكر عمر أنّ محمد بن يحيى حدّثه، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لما انحدر أبو جعفر ببني حسن، رجع رياح إلى المدينة، فألحّ في الطلب، وأخرج محمداً حتى عزم على الظهور.
قال عمر: فحدّثت إبراهيم بن محمد بن عبد الله الجعفريّ أن محمداً أحرج، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، وقال: ما زال محمد يطلب أشدّ الطلب حتى سقط ابنه فمات وحتى رهقه الطلب، فتدلّى في بعض آبار المدينة يناول أصحابه الماء، وقد انغمس فيه إلى رأسه، وكان بدنه لا يخفى عظماً؛ ولكن إبراهيم تأخّر عن وقته لجدرىً أصابه.

قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: تحدّث أهل المدينة بظهور محمد؛ فأسرعنا في شراء الطعام حتى باع بعضهم حليّ نسائه؛ وبلغ رياحاً أنّ محمداً أتى المذاد، فركب في جنده يريده وقد خرج قبله محمد يريده، ومعه جبير بن عبد الله السلميّ وجبير ابن عبد الله بن يعقوب بن عطاء وعبد الله بن عامر الأسلميّ؛ فسمعوا سقّاءةً تحدّث صاحبتها أنّ رياحاً قد ركب يطلب محمداً بالمذاد، وأنه قد سار إلى السوق، فدخلوا داراً لجهينة وأجافوا بابها عليهم، ومرّ رياح على الباب لا يعلم بهم، ثم رجع إلى دار مروان؛ فلما حضرت العشاء الأخيرة صلى في الدار ولم يخرج.
وقيل: إنّ الذي أعلم رياحاً بمحمد سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة من بني عامر بن لؤيّ.
وذكر عن الفضل بن دكين، قال: بلغني أن عبيد الله بن عمرو بن أبي ذؤيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمد قبل خروجه، فقالوا له: ما ننتظر بالخروج! والله ما نجد في هذه الأمة أحداً أشأم عليها منك. ما يمنعك أن تخرج وحدك! قال: وحدثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: بعث إلينا رياح فأتيته أنا وجعفر بن محمد بن عليّ بن حسين، وحسين بن عليّ بن حسين بن عليّ، وعليّ بن عمر بن عليّ بن حسين بن عليّ، وحسن بن عليّ بن حسين ابن عليّ بن حسين بن عليّ ورجال من قريش؛ منهم إسماعيل بن أيوب ابن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة، ومعه ابنه خالد، فإنّا لعنده في دار مروان إذ سمعنا التكبير قد حال دون كلّ شيء، فظنناه من عند الحرس، وظنّ الحرس أنه من الدار. قال: فوثب ابن مسلم بن عقبة - وكان مع رياح - فاتّكأ على سيفه، فقال: أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم؛ فقال عليّ بن عمر: فكدنا والله تلك الليلة أن نطيح حتى قام حسين بن عليّ، فقال: والله ما ذاك لك؛ إنّا على السمع والطاعة. قال: وقام رياح ومحمد بن عبد العزيز، فدخلا جنبذاً في دار يزيد؛ فاختفيا فيه، وقمنا فخرجنا من دار عبد العزيز ابن مروان حتى تسوّرنا على كباً كانت في زقاق عاصم بن عمرو، فقال إسماعيل بن أيوب لابنه خالد: يا بنيّ، والله ما تجيبني نفسي إلى الوثوب، فارفعني، فرفعه.
وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدّثني أبي قال: جاء الخبر إلى رياح وهو في دار مروان أنّ محمداً خارج الليلة، فأرسل إلى أخي محمد بن عمران وإلى العباس بن عبد الله بن الحارث ابن العباس وإلى غير واحد. قال: فخرج أخي وخرجت معه؛ حتى دخلنا عليه بعد العشاء الآخرة، فسلمنا عليه فلم يردّ علينا، فجلسنا فقال أخي: كيف أمسى الأمير أصلحه الله! قال: بخير - بصوت ضعيف - قال: ثم صمت طويلاً ثم تنبّه، فقال: إيهاً يأهل المدينة! أمير المؤمنين يطلب بغيته في شرق الأرض وغربها؛ وهو ينتفق بين أظهركم! أقسم بالله لئن خرج لا أترك منكم أحداً إلا ضربت عنقه. فقال أخي: أصلحك الله! أنا عذيرك منه. هذا والله الباطل، قال: فأنت أكثر من ها هنا عشيرة؛ وأنت قاضي أمير المؤمنين، فادعُ عشيرتك. قال: فوثب أخي ليخرج، فقال: اجلس، اذهب أنت يا ثابت، فوثبت، فأرسلت إلى بني زهرة ممن يسكن حشّ طلحة ودار سعد ودار بني أزهر: أن أحضروا سلاحكم. قال: فجاء منهم بشر، وجاء إبراهيم بن يعقوب بن سعد بن أبي وقاص متنكباً قوساً - وكان من أرمى الناس - فلما رأيت كثرتهم، دخلت على رياح، فقلت: هذه بنو زهرة في السلاح يكونون معك، ائذن لهم. قال: هيهات! تريد أن تدخل عليّ الرجال طروقاً في السلاح، قل لهم: فليجلسوا في الرحبة؛ فإن حدث شيء فليقاتلوا، قال: قلت لهم: قد أبى أن يأذن لكم، لا والله ما ها هنا شيء، فاجلسوا بنا نتحدّث.

قال: فمكثنا قليلاً، فخرج العباس بن عبد الله بن الحارث في خيل يعس حتى جاء رأس الثنيّة، ثم انصرف إلى منزله وأغلقه عليه؛ فوالله إنا لعلى تلك الحال إذ طلع فارسان من قبل الزّوراء يركضان؛ حتى وقفا بين دار عبد الله بن مطيع ورحبة القضاء في موضع السقاية. قال: قلنا: شرّ الأمر والله جدّ. قال: ثم سمعنا صوتاً بعيداً، فأقمنا ليلاً طويلاً، فأقبل محمد بن عبد الله من المذاد ومعه مائتان وخمسون رجلاً، حتى إذا شرع على بني سلمة وبطحان، قال: اسلكوا بني سلمة إن شاء الله. قال: فسمعنا تكبيراً؛ ثم هدأ الصوت فأقبل حتى إذا خرج من زقاق ابن حبين استبطن السوق حتى جاء على التمارين؛ حتى دخل من أصحاب الأقفاص، فأتى السجن وهو يومئذ في دار ابن هشام، فدّقه، وأخرج من كان فيه، ثم أقبل حتى إذا كان بين دار يزيد ودار أويس نظرنا إلى هول من الهؤل.
قال: فنزل إبراهيم بن يعقوب، ونكب كنانته وقال: أرمي؟ فقلنا: لا تفعل، ودار محمد بالرحبة، حتى جاء بيت عاتكة بنت يزيد، فجلس على بابها، وتناوش الناس حتى قتل رجل سنديّ كان يستصبح في المسجد، قتله رجل من أصحاب محمد.
قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، أخبرني جهم بن عثمان؛ قال: خرج محمد من المذاد على حمار ونحن معه، فولّى خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير الرّجالة، وولّى عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقال: اكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه؛ ووجّهه مع ابنه حسن بن محمد.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني جعفر بن عبد الله بن يزيد بن ركانة قال: بعث إبراهيم بن عبد الله إلى أخيه بحملي سيوف، فوضعها بالمذاد، فأرسل إلينا ليلة خرج: وما نكون؟ مائة رجل! وهو على حمار أعرابيّ أسود، فافترق طريقان: طريق بطحان وطريق بني سلمة، فقلنا له: كيف نأخذ؟ قال: على بني سلمة، يسلمكم الله؛ قال: فجئنا حتى صرنا بباب مروان.
قال: وحدّثني محمد بن عمرو بن رتبيل بن نهشل أحد بني يربوع، عن أبي عمرو المدينيّ - شيخ من قريش - قال: أصابتنا السماء بالمدينة أياماً، فلما أقلعت خرجت في غبّها متمطّراً، فانتسأت عن المدينة؛ فإنّي لفي رحلي إذا هبط عليّ رجل لا أدري من أين أتى، حتى جلس إليّ، وعليه أطمار له درنة وعمامة رثّة، فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من غنيمة لي أوصيت راعيها بحاجة لي، ثم أقبلت أريد أهلي. قال: فجعلت لا أسلك من العلم طريقاً إلا سبقني إليه وكثّرني فيه، فجعلت أعجب له ولما يأتي به، قلت: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قلت: أجل، فمن أيهم أنت؟ قال: لا عليك؛ ألا تريد؟ قلت: بلى عليّ ذلك؛ فمن أنت؟ قال: فوثب وقال: منخرق الخفّين يشكو الوجى الأبيات الثلاثة.
قال: ثم أدبر فذهب؛ فوالله ما فات مدى بصري حتى ندمت على تركه قبل معرفته؛ فاتبعته لأسأله؛ فكأنّ الأرض التأمت عليه، ثم رجعت إلى رحلي، ثم أتيت المدينة فما غبرت إلاّ يومي وليلتي؛ حتى شهدت صلاة الصبح بالمدينة، فإذا رجل يصلّي بنا، لا أعرف صوته، فقرأ: " إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، فلما انصرف صعد المنبر، فإذا صاحبي، وإذا هو محمد بن عبد الله بن حسن.
قال: وحدّثني إسماعيل بن إبراهيم بن هود مولى قريش، قال: سمعت إسماعيل بن الحكم بن عوانة يخبر عن رجل قد سمّاه بشبيهة بهذه القصة. قال إسماعيل: فحدّثت بها رجلاً من الأنبار يكنى أبا عبيد؛ فذكر أن محمداً - أو إبراهيم - وجّه رجلاً من بني ضبة - فيما يحسب إسماعيل بن إبراهيم بن هود - ليعلم له بعض علم أبي جعفر، فأتى الرّجل المسيّب وهو يومئذ على الشّرط، فمتّ إليه برحمه، فقال المسيّب: إنه لا بدّ من رفعك إلى أمير المؤمنين. فأدخله على أبي جعفر فاعترف، فقال: ما سمعته يقول؟ قال:
شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
قال أبو جعفر: فأبلغه أنا نقول:
وخطّة ذلّ نجعل الموت دونها ... نقول لها للموت أهلاً ومرحبا
وقال: انطلق فأبلغه.
قال عمر: وحدثني أزهر بن سعيد بن نافع - وقد شهد ذلك - قال: خرج محمد في أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، فبات بالمذاد هو وأصحابه، ثم أقبل في الليل، فدقّ السجن وبيت المال، وأمر برياح وابن مسلم فحبسا معاً في دار ابن هشام.

قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب، قال: خرج محمد لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة.
وحدّثني عمر بن راشد، قال: خرج لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، فرأيت عليه ليلة خرج قلنسوة صفراء مضريّة وجبّة صفراء، وعمامة قد شدّ بها حقويه وأخرى قد اعتمّ بها، متوشحاً سيفاً، فجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا، لا تقتلوا. فلما امتنعت منهم الدار، قال: ادخلوا من باب المقصورة، قال: فاقتحموا وحرّقوا باب الخوخة التي فيها، فلم يستطع أحد أن يمرّ، فوضع رزام مولى القسريّ ترسه على النار، ثم تخطّى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا من بابها، وقد كان بعض أصحاب رياح مارسوا على الباب، وخرج من كان مع رياح في الدار من دار عبد العزيز من الحمام، وتعلّق رياح في مشربة في دار مروان، فأمر بدرجها فهدمت، فصعدوا إليه، فأنزلوه وحبسوه في دار مروان، وحبسوا معه أخاه عباس بن عثمان. وكان محمد بن خالد وابن أخيه النذير بن يزيد ورزام في الحبس، فأخرجهم محمد، وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: حبس محمد رياحاً وابن أخيه وابن مسلم بن عقبة في دار مروان.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن أبي ثابت، عن خاله راشد بن حفص، قال: قال رزام للنذير: دعني وإياه فقد رأيت عذابه إياي. قال: شأنك وإياه، ثم قام ليخرج، فقال له رياح: يا أبا قيس؛ قد كنت أفعل بكم ما كنت أفعل؛ وأنا بسؤددكم عالم. فقال له النذير: فعلت ما كنت أهله، ونفعل ما نحن أهله، وتناوله رزام فلم يزل به رياح يطلب إليه حتى كفّ، وقال: والله إن كنت لبطراً عند القدرة، لئيماً عند البلية.
قال: وحدّثني موسى بن سعيد الجمحيّ، قال: حبس رياح محمد ابن مروان بن أبي سليط من الأنصار، ثم أحد بني عمرو بن عوف، فمدحه وهو محبوس، فقال:
وما نسي الذّمام كريم قيس ... ولا ملقى الرجال إلى الرجال
إذا ما الباب قعقعه سعيد ... هدجنا نحوه هدج الرّئال
دبيب الذّر تصبح حين يمشي ... قصار الخطو غير ذوي اختيال
قال: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني إسماعيل بن يعقوب التيميّ قال: صعد محمد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدوّ الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم؛ من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معانداً لله في ملكه، وتصغيراً للكعبة الحرام؛ وإنما أخذ الله فرعون حين قال: " أنا ربكم الأعلى " وإن أحقّ الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. اللهمّ إنّهم قد أحلّوا حرامك، وحرّموا حلالك، وآمنوا من أخفت، وأخافوا من آمنت. اللهمّ فأحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. أيّها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة. ولكني اخترتكم لنفسي؛ والله ما جئت هذه وفي الأرض مصرٌ يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة.
قال: وحدّثني موسى بن عبد الله، قال: حدّثني أبي عن أبيه، قال: لما وجّهني رياح بلغ محمداً فخرج من ليلته؛ وقد كان رياح تقدّم إلى الأجناد الّذين معي، إن اطّلع عليهم من ناحية المدينة رجل أن يضربوا عنقي؛ فلما أتي محمد برياح، قال: أين موسى؟ قال: لا سبيل إليه، والله لقد حدرته إلى العراق. قال: فأرسل في أثره فرّده. قال: قد عهدت إلى الجند الذين معه إن رأوا أحداً مقبلاً من المدينة أن يقتلوه. قال: فقال محمد لأصحابه: من لي بموسى؟ فقال ابن خضير: أنا لك به. قال: فانظر رجالاً؛ فانتخب رجالاً ثم أقبل. قال: فوالله ما راعنا إلاّ وهو بين أيدينا؛ كأنما أقبل من العراق، فلما نظر إليه الجند قالوا: رسل أمير المؤمنين، فلما خالطونا شهروا السلاح، فأخذني القائد وأصحابه، وأناخ بي وأطلقني من وثاقي، وشخص بي حتى أقدمني على محمد.
قال عمر: حدّثني عليّ بن الجعد، قال: كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قوّاده يدعونه إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه؛ فكان محمد يقول: لو التقينا مال إليّ القوّاد كلهم.

قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق. قال: لما أخذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزوميّ، وعلى الشّرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وبعث إلى محمد بن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا، وتقيم معنا. فاعتذر إليه وقال: أفعل؛ ثم انسلّ منه فأتى مكة.
قال: وحدّثني إسماعيل بن إبراهيم بن هود، قال: حدّثني سعيد بن يحيى أبو سفيان اعلحميريّ، قال: حدّثني عبد الحميد بن جعفر، قال: كنت على شُرط محمد بن عبد الله حتى وجّهني وجهاً، وولى شرطه الزبيريّ.
قال: وحدّثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: لم يتخلّف عن محمد أحد من وجوه الناس إلاّ نفر؛ منهم الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام، وأبو سلمة بن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثتني جدّتي كلثم بنت وهب، قالت: لما خرج محمد تنحّى أهل المدينة، فكان فيمن خرج زوجي عبد الوهاب بن يحيى بن عباد بن عبد هه بن الزبير إلى البقيع، فاختبأت عند أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبد الله بن عباس. قالت: فكتب إليّ عبد الوهاب بأبيات قالها، فكتبت إليه:
رحم الله شباباً ... قاتلوا يوم الثنيّهْ
قاتلوا عنه: بُنيَّا ... تٌ وأحسابٌ نقيّهْ
فرّ عنه الناس طُرّاً ... غير خيل أسديّهْ
قالت: فزاد الناس:
قتل الرحمن عيسى ... قاتل النفس الزّكيّه
قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكميّ أخو الأنصار، قال: أخبرني غير واحد أنّ مالك بن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إنّ في أعناقنا بيعةً لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته.
وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: حدّثني ابن أبي مليكة مولى عبد الله ابن جعفر، قال: أرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر - وقد كان بلغ عمراً - فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلاً، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عمّ، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبّطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي. قال: فأبى الشيخ إلاّ النهي عنه؛ فيقال: إنّ حمّادة عدت عليه فقتلته؛ فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحّاه الحرس، وصلى عليه محمد.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: أتيَ محمد بعبيد الله ابن الحسيين بن عليّ بن الحسين بن عليّ مغمضاً عينيه، فقال: إن عليّ يميناً إن رأيته لأقتللنّه. فقال عيسى بن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفّه عنه محمد.
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني محمد بن معن، قال: حدّثني محمد بن خال القسريّ، قال: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن حيّان أطلقنيي؛ فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حقّ؛ والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسناً، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد؛ والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعاً وعطشاً؛ فانهض معي؛ فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى عليّ؛ فإني لعنده يوماً إذ قال لي: ما وجدنا من حرّ المتاع شيئاً أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة، ختن أبي الخصيب - وكان انتهبه - قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف عليّ، فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله إياه.

قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدّثني أختي بريكة بنت عبد الحمييد، عن أبيها، قال: إني لعند محمد يوماً ورجله في حجري؛ إذ دخل عليه خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير، فسلم عليه، فردّ عليه سلاماً ليس بالقويّ، ثم دخل عليه شابٌ من قريش، فسلّم عليه فأحسن الردّ عليه، فقلت: ما تدع عصبيّتك بعد! قال: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه رداً ضعيفاً، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلّم فاحتفلت في الردّ عليه! فقال: ما فعلت ذاك؛ ولكنّك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد.
قال: وحدّثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: استعمل محمد الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على مكة، ووجّه معه القاسم بن إسحاق واستعمله على اليمن.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن أهله، أن محمداً استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بن عبد الله على الشأم، يدعوان إلهي؛ فقُتل قبل أن يصلا.
قال: وحدّثني أزهر بن سعيد، قال: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراورديّ على السلاح.
قال: وأخبرني محمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا: لما ظهر محمد، قال ابن هرمة - وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر:
غلبت على الخلافة من تمنّى ... ومنّاه المضلّ بها الضّلول
فأهلك نفسه سفهاً وجبناً ... ولم يقسم له منها فتيل
ووازره ذوو طمع فكانوا ... غثاء السيل يجمعه السيول
دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا ... فلم يصرخهم المغوي الخذول
وكانوا أهل طاعته فولّى ... وسار وراءه منهم قبيل
وهم لم يقصروا فيها بحقّ ... على أثر المضلّ ولم يطيلوا
وما الناس احتبوك بها ولكن ... حباك بذلك الملك الجليل
تراث محمد لكم وكنتم ... أصول الحقّ إذ نفي الأصول
قال: وحدّثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد الفزاريّ وموهوب بن رشيد ابن حيان الكلابي، قال: قال أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجّه إليه عيسى:
أتتك النجائب والمقربات ... بعيسى بن موسى فلا تعجل
قال: وحدّثني عيسى، قال: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيماً عظيمياً؛ وكان يلقب القاريّ من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمّماً.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني إبراهيم بن زياد بن عنبسة، قال: ما رأيت محمداً رقيَ المنبر قطّ إلا سمعت بقعقعة من تحته؛ وإني لبمكاني ذلك.
قال: وحدّثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: حدّثني من حضر محمداً على المنبر يخطب؛ فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعاً؛ فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به.
قال: وحدّثني عبد الله بن نافع، قال: حدّثني إبراهيم بن عليّ من آل أبي رافع، قال: كان محمد تمتاماً، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: دخل عيسى بن موسى يوماً على أبي جعفر، فقال: سرّك الله يا أمير المؤمنين! قال: فيم؟ قال: ابتعت وجه دار عبد الله بن جعفر من بني معاوية؛ حسن ويزيد وصالح، قال: أتفرح! أما والله ما باعوها إلاّ ليثبوا عليك بثمنها.

قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قال: خرج محمد بالمدينة، وقد خطّ المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيّح بي فلحقته، فسمت طويلاً ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قال: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك؛ خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين؛ ألا أحدّثك حديثاً حدّثنيه سعيد بن عمرو بن جعدة المخزوميّ؟ قال: كنت مع مروان يوم الزّاب واقفاً فقال: يا سعيد، من هذا الذي قاتلني في هذه الخيل؟ قلتُ: عبد الله ابن عليّ بن عبد الله بن عباس، قال: أيهم هو؟ عرّفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بن معاوية حين هزم؛ قال: قد عرفته، والله لوددت أن عليّ بن أبي طالب يقاتلني مكانه؛ إن عليّاً وولده لا حظّ لهم في هذا الأمر؛ وهذا رجل من بني هاشم وابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس، معه ريح الشأم ونصر الشأم. يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله؛ وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك؛ فعقدت له. فقال: أنشدك الله! أحدّثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بن معاوية طالق البتّة إن لم يكن حدّثني ما حدثتك.
قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل أويس ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فسار تسعاً من المدينة، فقدم ليلاً، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قال: لا بدّ لي منه، قال: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الرّبيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني؛ قال: قد أبى الرّجل إلا مشافهتك. فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال: قتلته والله إن كنت صادقاً! أخبرني من معه؟ فسمّى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته وعاينته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً. فأدخله أبو جعفر بيتاً، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار؛ غلام عيسى بن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسيّ فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك؛ وأمر له بتسعة آلاف، لكلّ ليلة سارها ألفاً.
قال: وحدّثني ابن أبي حرب، قال: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه؛ فجعل الحارث المنجّم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوماً.
قال: وحدّثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، عن أبيه، قال: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا أبو جعفر؛ استخرجت الثعلب من جحره.
قال: وحدّثني عبد الملك بن سليمان، عن حبيب بن مرزوق، قال: حدّثني تسنيم بن اعلحواريّ، قال: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بن عليّ وهو محبوس عنده: إنّ هذا الرجل قد خرج؛ فإن كان عندك رأي فأشر به علينا - وكان ذا رأي عندهم - فقال: إنّ المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي؛ فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك؛ وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتيَ الكوفة، فاجثم على أكبادهم؛ فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح؛ فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه؛ وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك - وكان بالرّيّ - واكتب إلى أهل الشأم فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم. ففعل.

قال: وحدّثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد، قال: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بن عليّ محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيّد في الحرب؛ فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم. فدخلوا عليه، فلما رآهم قال: لأمر ما جئتم؛ ما جاء بكم جميعاً وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنّا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشيء؛ فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعاً؟ يعني أبا جعفر - قالوا: لا ندري والله، قال: إنّ البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد.
قال: وحدّثني عبد الملك بن شيبان، قال: أخبرني زيد مولى مسمع بن عبد الملك، قال: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بن موسى، فقال له: قد ظهر محمد فسر إليه، قال: يا أمير المؤمنين؛ هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قال: فأين قول ابن هرمة:
ترون أمرأً لا يمحض القوم سرّه ... ولا ينتجي الأذنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أبى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد ابن بشير؛ وكان بشير ييصححها؛ وحدّثنيها أبو عبد الرحمن من كتّاب أهل العراق والحكم بن صدقة بن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصحّحُها؛ ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قال أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها؛ إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه.
قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: " إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم " ولك عليّ عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمّن كلّ من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحداً منهم بشيء كان منه أبداً. فإن أردت أن تتوثّق لنفسك، فوجّه إليّ من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به.
وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله.
فكتب إليه محمد بن عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المهديّ محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت عليّ، فإنّ الحقّ حقّنا؛ وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا؛ وإنّ أبانا عليّاً كان الوصيّ وكان الإمام؛ فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا؛ لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل؛ وإنا بنو أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهليّة ونبو بنته فاطمة في الإسلام دونك. إن الله اختارنا واختار لنا؛ فوالدنا من النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن السلف أوّلهم إسلاماً عليّ، ومن الأزواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة؛ وإنّ هاشماً ولد علياً مرتين؛ وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتين وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرّتين من قبل حسن وحسين؛ وإني أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أباًن لم تعرّق فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمهات الأولاد؛ فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار؛ فأنا ابن أرفع الناس درجةً في الجنة، وأهونهم عذاباً في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك الله عليّ إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك؛ وعلى كل أمر أحدثته؛ إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي؛ فأيّ الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ، أم أمان أبي مسلم! فكتب إليه أبو جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء؛ لتضلّ به الجفاة والغوغاء؛ ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العمّ أباً، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا. ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ كانت آمنة أقربهنّ رحماً، وأعظمهن حقاً؛ وأوّل من يدخل الجنة غداً؛ ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب وولادتها؛ فإن الله لم يرزق أحداً من ولدها الإسلام لا بنتاً ولا ابناً؛ ولو أن أحداً رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله أولاهم بكلّ خير في الدنيا والآخرة؛ وكلنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء؛ قال: الله عزّ وجلّ: " إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " ؛ ولقد بعث الله محمداً عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين " . فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه؛ ولم يجعل بينه وبينهما إلاًّ ولا ذزّةً ولا ميراثاً. وزعمت أنك ابن أخفّ أهل النار عذاباً وابن خير الأشرار؛ وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير؛ وليس في الشرّ خيار؛ ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم: " وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون " .
وأما ما فخرت به من فاطمة أمّ عليّ وأنّ هاشماً ولده مرتين، ومن فاطمة أمّ حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين؛ وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولدك مرتين؛ فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلده هاشم إلاّ مرةً ولا عبد المطلب إلا مرّة.

وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أماً وأباً؛ وأنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً؛ فانظر ويحك أين أنت من الله غداً! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفساً وأباً وأولاً وآخراً، إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده؛ وما خيار بني أبيك خاصّة وأهل الفضل منهم إلاّ بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي ابن حسين؛ وهو لأمّ ولد؛ ولهو خير من جدّك حسن بن حسن؛ وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن عليّ، وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير منك.
وأما قولك: إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " ، ولكنكم بنو ابنته؛ وإنها لقرابة قريبة؛ ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة؛ فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكلّ وجه فأخرجها نهاراً، ومرّضها سراً، ودفنها ليلاً؛ فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما؛ ولقد جاءت السنّة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة لا يرثون.
وأما ما فخرت به من عليّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصّلاة، ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم يأخذوه؛ وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعاً له عنها، ولم يروا له حقاً فيها؛ أما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده. ثم طلبها بكلّ وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكّم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه. ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز؛ وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله؛ وأخذ مالاً من غير ولائه ولا حلّه؛ فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه. ثم خرج عمّك حسين بن عليّ على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أميّة، فقتلوكم وصلّبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان؛ حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان؛ وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبّي المجلوب إلى الشأم؛ حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضّلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة.
وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له على حمزة والعباس وجعفر؛ وليس ذلك كما ظننت؛ ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّماً منهم، مجتمعاً عليهم بالفضل، وابتُلي أبوك بالقتال والحرب؛ وكانت بنو أميّة تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتجبنا له، وذكّرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم؛ فصارت للعباس من بين إخوته؛ فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام؛ ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسّل به؛ ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره؛ فكان وراثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده؛ فالسقاية سقايته وميراث النبيّ له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في دنيا ولا آخرة إلاّ والعباس وارثه ومورّثه.
وأما ما ذكرت من بدر؛ فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته؛ ولولا أنّ العباس أخرج إلى بدر كارهاً لمات طالب وعقيل جوعاً، وللحساجفان عتبة وشيبة؛ ولكنه كان عقيلاً يوم بدر؛ فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه؛ ولم تدركوا لأنفسكم! والسلام عليك ورحمة الله.

قال عمر بن شبّة: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: أجمع ابن القسريّ على الغدر بمحمد، فقال له: يا أمير المؤمنين، ابعث موسى بن عبد الله ومعه رزاماً مولايَ إلى الشأم يدعوان إليك. فبعثهما فخرج رزام بموسى إلى الشأم، وظهر محمد على أن القسريّ كتب إلى أبي جعفر في أمره، فحبسه في نفر ممن كان معه في دار ابن هشام التي في قبلة مصلى الجنائز - وهي اليوم لفرج الخصيّ - وورد رزام بموسى الشأم، ثم انسلّ منه، فذهب إلى أبي جعفر، فكتب موسى إلى محمد: إني أخبرك أني لقيت الشأم وأهله، فكان أحسنهم قولاً الذي قال: والله لقد مملنا البلاء، وضقنا به ذرعاً؛ حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف: لئن أصبحنا من ليلتنا أو مسّينا من غد ليرفعنّ أمرنا وليدلنّ علينا؛ فكتب إليك وقد غيبت وجهي، وخفت على نفسي. قال الحارث: ويقال إنّ موسى ورزاماً وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور توجهوا إلى الشأم في جماعة؛ فلما ساروا بتيماء، تخلّف رزام ليشتري لهم زاداً، فركب إلى العراق، ورجع موسى وأصحابه إلى المدينة.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني موسى بن عبد الله ببغداد ورزام معنا، قال: بعثني محمد ورزاماً في رجال معنا إلى الشأم، لندعو له؛ فإنا لبدومة الجندل؛ إذ أصابنا حرّ شديد؛ فنزلنا عن رواحلنا نغتسل في غدير، فاستلّ رزام سيفه، ثم وقف على رأسي، وقال: يا موسى، أرأيت لو ضربت عنقك ثم مضيت برأسك إلى أبي جعفر؛ أيكون أحد عنده في منزلتي! قال: قلت: لا تدع هزلك يا أبا قيس! شم سيفك غفر الله لك. قال: فشام سيفه، فركبنا. قال عيسى: فرجع موسى قبل أن يصل إلى الشأم، فأتى البصرة هو وعثمان بن محمد، فدلّ عليهما، فأخذا.
قال: وحدّثني عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير، قال: حدّثني أخي عبد الله بن نافع الأكبر، قال: لما ظهر محمد لم يأته أبي نافع ابن ثابت، فأرسل إليه، فأتاه وهو في دار مروان، فقال: يا أبا عبد الله، لم أرك جئتنا! قال: ليس فيّ ما تريد، فألحّ عليه محمد؛ حتى قال: البس السلاح يتأسّ بك غيرك، فقال: أيها الرجل؛ إني والله ما أراك في شيء؛ خرجت في بلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح؛ وما أنا بمهلك نفسي معك، ولا معين على دمي. قال: انصرف؛ فلا شيء فيك بعد هذا. قال: فمكث يختلف إلى المسجد إلى أن قتل محمد، فلم يصلّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل إلا نافع وحده.
ووجّه محمد بن عبد الله لما ظهر - فيما ذكر عمر عن أزهر بن سعيد بن نافع - الحسن بن معاوية إلى مكة عاملاً عليها، ومعه العباس بن القاسم - رجل من آل أبي لهب - فلم يشعر بهم السريّ بن عبد الله حتى دنوا من مكة فخرج إليهم، فقال له مولاه: ما رأيك؟ قد دنونا منهم، قال: انهزموا على بركة الله، وموعدكم بئر ميمون. فانهزموا؛ ودخلها الحسن بن معاوية. وخرج الحسين بن صخر - رجل من آل أويس - من ليلته، فسار إلى أبي جعفر تسعاً فأخبره فقال: قد أنصف القارة من راماها، وأجازه بثلثمائة درهم.
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني محمد بن صالح بن معاوية، قال: حدّثني أبي، قال: كنت عند محمد حين عقد للحسن بن معاوية على مكة، فقال له الحسن: أرأيت إن التحم القتال بيننا وبينهم، ما ترى في السريّ؟ قال: يا حسن، إن السريّ لم يزل مجتنباً لما كرهنا، كارهاً للذي صنع أبو جعفر؛ فإن ظفرت به فلا تقتله؛ ولا تحركنّ له أهلاً، ولا تأخذنّ له متاعاً، وإن تنحّى فلا تطلبنّ له أثراً. قال: فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبك تقول هذا في أحد من آل العباس، قال: بلى، إن السريّ لم يزل ساخطاً لما صنع أبو جعفر.

قال: وحدّثني عمر بن راشد مولى عنج، قال: كنت بمكة، فبعث إلينا محمد حين ظهر الحسن بن معاوية والقاسم بن إسحاق ومحمد بن عبد الله ابن عنبسة يدعى أبا جبرة، أميرهم الحسن بن معاوية؛ فبعث إليهم السريّ بن عبد الله كاتبه مسكين بن هلال في ألف، ومولى له يدعى مسكين بن نافع في ألف، ورجلاً من أهل مكة يقال له ابن فرس - وكان شجاعاً - في سبعمائة، وأعطاه خمسمائة دينار، فالتقوا ببطن أذاخر بين الثنيّتين وهي الثنيّة التي تهبط على ذي طُوىً، منها هبط النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة، وهي داخلة في الحرم، فتراسلوا؛ فأرسل حسن إلى السريّ أن خلّ بيننا وبين مكة، ولا تهريقوا الدماء في حرم الله. وحلف الرسولان للسريّ: ما جئناك حتى مات أبو جعفر. فقال لهما السريّ: وعليّ مثل ما حلفتما به؛ إن كانت مضت لي أربعة؛ منذ جاءني رسول من عند أمير المؤمنين، فأنظروني أربع ليال؛ فإني أنتظر رسولاً لي آخر، وعليّ ما يصلحكم، ويصلح دوابكم، فإن يكن ما تقولونه حقاً سلّمتها إليكم؛ وإن يكن باطلاً أجاهدكم حتى تغلبوني أو أغلبكم؛ فأبى الحسن، وقال: لا نبرح حتى نناجزك، ومع الحسن سبعون رجلاً وسبعة من الخيل، فلما دنوا منه، قال لهم الحسن: لا يقدمنّ أحد منكم حتى ينفخ في البوق؛ فإذا نفخ فلتكن حملتكم حملة رجل واحد. فلما رهقناهم وخشي الحسن أن يغشاه وأصحابه، ناداه: انفخ ويحك في البوق! فنفخ ووثبوا وحملوا علينا حملة رجل واحد. فانهزم أصحاب السريّ، وقتل منهم سبعة نفسر. قال: واطلع عليهم بفرسان من أصحابه وهم من وراء الثنيّة في نفر من قريش قد خرج بهم، وأخذ عليهم لينصرنّه، فلمما رآهم القرشيوّن قالوا: هؤلاء أصحابك قد انهزموا، قال: لا تعجلوا، إلى أن طلعت الخيل والرجال في الجبال؛ فقيل له: ما بقي؟ فقال: انهزموا على بركة الله، فانهزموا حتى دخلوا دار الإمارة، وطرحوا أداة الحرب، وتسوّروا على رجل من الجند يكنى أبا الرزام. فدخلوا بيته فكانوا فيه. ودخل الحسن بن معاوية المسجد، فخطب الناس ونعى إليهم أبا جعفر ودعا لمحمد.
قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثني الغمر بن حمزة بن أبي رملة، مولى العباس بن عبد المطلب، قال: لما أخذ الحسن بن معاوية مكة. وفرّ السريّ بلغ الخبر أبا جعفر، فقال: لهفي على ابن أبي العضل.
قال: وحدّثني ابن أبي مساور بن عبد الله بن مساور مولى بني نائلة من بني عبد الله بن معيص، قال: كنت بمكة مع السريّ بن عبد الله، فقدم عليه الحسن بن معاوية قبل مخرج محمد - والسريّ يومئذ بالطائف وخليفته بمكة ابن سراقة من بني عديّ بن كعب - قال: فاستعدى عتبة بن أبي خداش اللهبيّ على الحسن بن معاوية في دينٍ عليه فحبسه، فكتب له السريّ إلى ابن أبي خداش: أما بعد فقد أخطأت حظّك، وساء نظرك لنفسك حين تحبس ابن معاوية؛ وإنما أصبت المال من أخيه. وكتب إلى ابن سراقة يأمره بتخليته، وكتب إلى ابن معاوية يأمره بالمقام إلى أن يقدم فيقضي عنه. قال: فلم يلبث أن ظهر محمد، فشخص إليه الحسن بن معاوية عاملاً على مكة، فقيل للسريّ: هذا ابن معاوية قد أقبل إليك، قال: كلاّ ما يفعل وبلائي عنده بلائي، وكيف يخرج إليّ أهل المدينة! فوالله ما بها دار إلا وقد دخلها لي معروف، فقيل له: قد نزل فجاء. قال: فشخص إليه ابن جريج، فقال له: أيها الرجل، إنك والله ما أنت بواصل إلى مكة وقد اجتمع أهلها مع السريّ، أتراك قاهراً قريشاً وغاصبها على دارها! قال: يا بن الحائك، أبأهل مكة تخوّفني! والله ما أبيت إلا بها أو أموت دونها. ثم وثب في أصحابه، وأقبل إليه السريّ، فلقيه بفخّ، فضرب رجل من أصحاب الحسن مسكين بن هلال كاتب السريّ على رأسه فشجّه، فانهزم السريّ وأصحابه، فدخلوا مكة، والتفّ أبو الرزام - رجل من بني عبد الدار ثم أحد آل شيبة - على السريّ، فواراه في بيته، ودخل الحسن مكة. ثم إن الحسن أقام بمكة يسيراً، ثم ورد كتاب محمد عليه يأمره باللحاق به.

وذكر عمر عن عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكر أنّ الحسن والقاسم لما أخذا مكة، تجهّزا وجمعا جمعاً كثيراً، ثم أقبلا يريدان محمداً ونصرته على عيسى بن موسى؛ واستخلفا على مكة رجلاً من النصار؛ فلما كانا بقديد لقيهما قتل محمد، فتفرّق الناس عنهما، وأخذ الحسن على بسقة - وهي حرّة في الرمل تدعى بسقة قديد - فلحق بإبراهيم؛ فلم يزل مقيماً بالبصرة حتى قتل إبراهيم. وخرج القاسم بن إسحاق يريد إبراهيم؛ فلما كان بيديع من أرض فدك، لقيه قتل إبراهيم، فرجع إلى المدينة، فلم يزل مختفياً حتى أخذت ابنة عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر؛ زوجة عيسى بن موسى، له ولإخوته الأمان فظهر بنو معاوية، وظهر القاسم.
قال: وحدّثني عمر بن راشد مولى عنج، قال: لما ظهر الحسن بن معاوية على السريّ أقام قليلاً حتى أتاه كتاب محمد يأمره بالشخوص إليه؛ ويخبره أن عيسى قد دنا من المدينة، ويستعجله بالقدوم. قال: فخرج من مكة يوم الاثنين في مطر شديد - زعموا أنه اليوم الذي قتل فيه محمد - فتلقاه بريد لعيسى بن موسى بأمج - وهو ماء لخزاعة بين عسفان وقديد - بقتل محمد، فهرب وهرب أصحابه.
قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبي سيار، قال: كنت حاجب محمد بن عبد الله، فجاءني راكب من الليل، قال: قدمت من البصرة، وقد خرج بها إبراهيم، فأخذها. قال: فجئت دار مروان، ثم جئت المنزل الذي فيه محمد، فدققت الباب، فصاح بأعلى صوته: من هذا؟ قلت: أبو سيّار، قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله؛ اللهم إني أعوذ بك من شرّ طوارق الليل؛ إلا طارق يطرق منك بخير، قال: خير! قلت: خير، قال: ما وراءك؟ قلت: أخذ إبراهيم البصرة - قال: وكان محمد إذا صلى المغرب والصبح صاح صائح: ادعوا الله لإخوانكم من أهل البصرة، وللحسن بن معاوية واستنصروه على عدوّكم.
قال: وحدّثني عيسى، قال: قدم علينا رجل من أهل الشأم، فنزل دارنا - وكان يكنى أبا عمرو - فكان أبي يقول له: كيف ترى هذا الرجل؟ فيقول: حتى ألقاه فأسبره ثم اخبرك. قال عيسى: فلقيه أبي بعد، فسأله فقال: هو والله الرجل كلّ الرجل؛ ولكن رأيت شحم ظهره ذراعاً، وليس هكذا يكون صاحب الحرب. قال: ثم بايعه بعد، وقاتل معه.
قال: وحدّثني عبد الله بن محمد بن سلم - يدعى ابن البواب مولى المنصور - قال: كتب أبو جعفر إلى الأعمش كتاباً على لسان محمد، يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قال: قد خبرناكم يا بني هاشم؛ فإذا أنتم تحبّون الثريد. فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قال: أشهد أنّ هذا كلام الأعمش.
وحدّثني الحارث، قال: حدّثني ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: غلب محمد بن عبد الله على المدينة، فبلغنا ذلك، فخرجنا ونحن شباب؛ أنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة، فانتهينا إليه؛ وهو قد اجتمع إليه الناس ينظرون إليه؛ ليس يصدّ عنه أحد؛ فدنوت حتى رأيته وتأملته؛ وهو على فرس، وعليه قميص أبيض محشوّ وعمامة بيضاء؛ وكان رجلاً أحزم؛ قد أثّر الجدريّ في وجهه، ثم وجّه إلى مكة فأخذت له، وبيّضوا؛ ووجّه أخاه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، فأخذها وغلبها وبيّضوا معه.
رجع الحديث إلى حديث عمر. قال عمر: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: ندب أمير المؤمنين أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال محمد، وقال: لا أبالي أيّهما قتل صاحبه؛ وضمّ إليه أربعة آلاف من الجند، وبعث معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين.
قال: وحدّثني عبد الملك بن شيبان. عن زيد مولى مسمع، قال: لما أمر أبو جعفر عيسى بن موسى بالشخوص، قال: شاور عمومتك، فقال له: امضِ أيها الرجل؛ فوالله ما يراد غيري وغيرك؛ وما هو إلاّ أن تشخص أو أشخص؛ قال: فسار حتى قدم علينا ونحن بالمدينة.
قال: وحدّثني عبد الملك بن شيبان، قال: دعا أبو جعفر بن حنظلة البهرانيّ - وكان أبرص طوالا، أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مع مروان حروبه - فقال: يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع؛ ابعث مولىً لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى؛ فيمنعه ميرة الشأم، فيموت مكانه جوعاً، ففعل.

قال: وحدّثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت أصحابنا إسماعيل بن موسى وعيسى بن النّضر وغيرهما يذكرون أنّ أبا جعفر قدّم كثير ابن حصين العبدّي، فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقاً؛ حتى قدم عليه عيسى بن موى، فخرج به إلى المدينة. قال عبد الله: فأنا رأيت الخندق قائماً دهراً طويلاً، ثم عفا ودرس.
قال: وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب - ولقيته بصنعاء - قال: قال أبو جعفر لعيسى حين بعثه إلى محمد: عليك بأبي العسكر مسمع بن محمد بن شيبان بن مالك بن مسمع، فسر به معك؛ فإني رأيته منع سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة من أهل البصرة؛ وهم محلبون عليه؛ وهو يدعو إلى مروان؛ وهو عند أبي العسكر يأكل المخّ بالطّبرزد، فخرج به عيسى؛ فلما كان ببطن نخل، تخلّف هو والمسعوديّ بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود حتى قتل محمد، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لعيسى بن موسى: ألاّ ضربت عنقه! وحدّثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: أخبرني أبي، قال: قال أبو جعفر لعيسى بن موسى حين ودّعه: يا عيسى؛ إنّي أبعثك إلى ما بين هذين - وأشار إلى جنبيه - فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك، وابذل الأمان؛ وإن تغيّب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذاهبه. قال: فلما دخلها عيسى فعل ذلك.
فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وجّه أبو جعفر إلى محمد بن عبد الله بالمدينة عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ ابن عبد الله بن عباس، ووجّه معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وعدّة من قوّاد أهل خراسان وجندهم، وعلى مقدّمة عيسى بن موسى حميد بن قحطبة الطائيّ، وجهّزهم بالخيل والبغال والسلاح والميرة، فلم ينزل، ووجّه مع عيسى ابن موسى بن أبي الكرام الجعفريّ؛ وكان في صحابة أبي جعفر؛ وكان مائلاً إلى بني العباس، فوثق به أبو جعفر فوجّهه....
رجع الحديث إلى حديث عمر بن شبّة. قال عمر: وحدّثني عيسى، عن أبيه، قال: كتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى: من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إليّ باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله. قال: فقبض عين أبي زياد - وكان جعفر بن محمد تغيّب عنه - فلما قدم أبو جعفر كلمه جعفر، وقال: مالي، قال: قد قبضه مهديُّكم.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار عيسى بفيد، كتب إلى رجال من أهل المدينة في خرق الحرير؛ منهم عبد العزيز بن المطّلب المخزوميّ وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحيّ، فلما وردت كتبه المدينة، تفرّق ناسٌ كثير عن محمد؛ منهم عبد العزيز بن المطلب؛ فأخذ فردّ، فأقام يسيراً؛ ثم خرج، فردّ مرّة أخرى؛ وكان أخوه عليّ بن المطلب من أشدّ الناس مع محمد؛ فكلم محمّداً في أخيه حتى كفّه عنه.
قال: وحدّثني عيسى، قال: كتب عيسى بن موسى إلى أبي في حريرة صفراء جاء بها أعرابيٌ بين خصافي نعله، قال: عيسى: فرأيت الأعرابي قاعداً في دارنا، وإني لصبي صغير؛ فدفعها إلى أبي فإذا فيها: إن محمداً تعاطى ما ليس يعطيه الله، وتناول ما لم يؤته الله، قال: عزّ وجل في كتابه: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " .
فعجّل التخلص وأقلّ التربص، وادعُ من أطاعك من قومك إلى الخروج معك.
قال: فخرج وخرج معه عمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: ودعوا الأفطس حسن بن عليّ بن أبي طالب إلى الخروج معهم فأبى، وثبت مع محمد؛ وذكر خروجهم لمحمد فأرسل إلى ظهرهم فأخذه؛ فأتاه عمر بن محمد، فقال: أنت تدعو إلى العدل ونفي عالجور؛ فما بال إبلي تؤخذ! فإنما أعددتها لحجّ أو عمرة. قال: فدفعها إليه - فخرجوا من تحت ليلتهم؛ فلقوا عيسى على أربع - أو خمس - من المدينة.

قال: وحدّثني أيوب بن عمر بن أبي عمرو بن نعيم بن ماهان، قال: كتب أبو جعفر إلى رجال من قريش وغيرهم كتباً، وأمر عيسى: إذا دنا من المدينة أن يبعث بها إليهم، فلما دنا بعث بها إليهم؛ فأخذ حرس محمد الرسول والكتب، فوجد فيها كتاباً إلى إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله ابن معمر وإلى جماعة من رؤساء قريش. فبعث محمد إلينا جميعاً ما خلا ابن عمر وأبا بكر بن سبرة، فحبسنا في دار ابن هشام التي في المصلّى. قال أبي: وبعث إليّ وإلى أخي، فأتيَ بنا فضربنا ثلثمائة. قال: فقلت له وهو يضربني ويقول: أردت أن تقتلني! تركتك وأنت تستتر بحجر وببيت شعر؛ حتى إذا صارت المدينة في يدك، وغلظ أمرك، قمت عليك فبمن أقوم! أبطاقتي، أم بمالي، أم بعشيرتي! قال: ثم أمر بنا إلى الحبس، وقيّدنا بكبول وسلاسل تبلغ ثمانين رطلاً، قال: فدخل عليه محمد بن عجلان، فقال: إني ضربت هذين الرجلين ضرباً فاحشاً، وقيّدتهما بما منعهما من الصلاة. قال: فلم يزالا محبوسين حتى قدم عيسى.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى. قال: حدّثني عبد العزيز بن أبي ثابت، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، قال: إنا لعند محمد ليلة - وذلك عند دنوّ عيسى من المدينة - إذ قال محمد: أشيروا عليّ في الخروج والمقام، قال: فاختلفوا. فأقبل عليّ فقال: أشرْ عليّ يا أبا جعفر، قلت: ألست تعلم أنك أقلّ بلاد الله فرساً وطعاماً وسلاحاً، وأضعفها رجالاً؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشدّ بلاد الله رجلاً وأكثرها مالاً وسلاحاً؟ قال: بلى، قلت: فالرأي أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فوالله لا يردّك رادّ، فتقاتل الرّجل بمثل سلاحه وكراعه ورجاله وماله. فصاح حنين بن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة! وحدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " رأيتني في درع حصينة فأوّلتها المدينة " .
قال: وحدّثني محمد بن إسماعيل بن جعفر، عن الثقة عنده، قال: أجاب محمداً لما ظهر أهل المدينة وأعراضها وقبائل من العرب؛ منهم جهينة ومزينة وسليم وبنو بكر وأسلم وغفار؛ فكان يقدّم جهينة؛ فغضبت من ذلك قبائل قيس.
قال محمد: فحدثني عبد الله بن معروف أحد بني رياح بن مالك بن عصيّة بن خفاف - وقد شهد ذاك - قال: جاءت محمداً بنو سليم على رؤسائها، فقال متكلّمهم جابر بن أنس الرياحيّ: يا أمير المؤمنين؛ نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكراع؛ والله لقد جاء الإسلام والخيل في بني سليم أكثر منها بالحجاز؛ لقد بقي فينا منها ما إن بقي مثله عند عربيّ تسكن إليه البادية، فلا تخندق الخندق؛ فإن رسول الله خندق خندقه لما الله أعلم به؛ فإنك إن خندقته لم يحسن القتال رجّالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقّة؛ وإن الذين يخندق دونهم هم الذين يقاتلون فيها؛ وإن الذين يخندق عليهم يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق رسول الله فاقتد برأيه؛ أو تريد أنت أن تدع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك! قال: إنه يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم؛ ولا شيء أحبّ إليّ وإلى أصحابي من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتّبعنا في الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يردّني عنه أحد، فلست بتاركه.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، عن الحارث بن إسحاق، قال: لما تيقن محمد أن عيسى قد أقبل حفر الخندق، خندق النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان حفره للأحزاب.
قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدّثني محمد ابن عطيّة مولى المطلبيّين، قال: لما حفر محمد الخندق ركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة، وركب الناس معه؛ فلما أتى الموضع نزل فيه؛ بدأ هو فحفر بيده؛ فأخرج بنةً من خندق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكبّر وكبّر الناس معه، وقالوا: أبشر بالنّصر؛ هذا خندق جدّك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدّثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير، قال: لما نزل عيسى الأعوص رقي محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوّ الله وعدوّكم عيسى بن موسى قد نزل الأعوص؛ وإن أحقّ الناس بالقيام بهذا الدين، أبناء المهاجرين الأوّلين والأنصار المواسين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35