كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري
قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا؛ طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شئ، ووجدهم قد ضمّوا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلّواه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردّد عن ذلك، وفجئهم المدّ، فرأى رؤيا؛ أنّ خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المدّ بأمر عظيم؛ فعزم لتأويل رؤياه على العبور؛ وفي سنة جود صيفها متتابع. فجمع سعد الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصركم الدّنيا. ألا إنيّ قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرّشد، فافعل. فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستّمائة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتة وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوّكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون؛ منهم أصمّ بنى ولاّد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكورة، ليكون أساسا لعوم الخيل. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم، فكان أوّل من فصل من الستين أصمّ التيم، والكلج، وأبو مفزّر، وشرحبيل، وجحل العجلى. ومالك بن كعب الهمدانىّ، وغلام من بنى الحارث بن كعب؛ فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدّوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السّرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرّماح الرماح! أشرعوها وتوخّوا العيون؛ فالتقوا فاطّعنوا، وتوخّى المسلمون عيونهم، فولّوا نحو الجدّ، والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم. ما يملك رجالها منع ذلك منها شيئا. فلحقوا بهم في الجدّ، فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين. ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجّة، وإنّ دجلة لترمى بالزّبد، وإنها لمسودّة، إنّ الناس ليتحدّثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كلّه مما بقى في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيرى ومن بعده. وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأسلنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برّهنّ أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولّوا وحاص منّا جريضا
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: لما أقام سعد على دجلة أتاه علج، فقال: ما يقيمك! لا يأتي عليك ثالثة حتى يذهب يزدجرد بكل شئ في المدائن؛ فذلك مما هيّجه على القيام بالدّعاء إلى العبور.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن رجل، عن أبي عثمان النهدىّ في قيام سعد في الناس في دعائهم إلى العبور بمثله، وقال: طبّقنا دجلة خيلا ورجلا ودوابّ حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، فخرجت بنا خيلنا إليهم تنفض أعرافها، لها صهيل. فلما رأى القوم ذلك انطلقوا لا يلوون على شئ، فانتهينا إلى القصر الأبيض، وفيه قوم قد تحصّنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم، فقلنا: ثلاث تختارون منهنّ أيّتهن شئتم، قالوا: ما هنّ؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن عطيّة بمثله. قال: والسفير سليمان.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرىّ، عن ابن الرّفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلاّ ما كانوا تقدّموا فيه - وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف - فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقرّوا نصفه في بيوت الأموال.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن حفص بين عمر، قال: قال سعد يومئذ وهو واقف قبل أن يقحم الجمهور، وهو ينظر إلى حماة الناس وهو يقاتلون على الفراض: والله أن لو كانت الخرساء - يعني الكتيبة التي كان فيها القعقاع بن عمرو وحمّال بن مالك والرّبيل بن عمرو، فقاتلوا قتال هؤلاء القوم هذه الخيل - لكانت قد أجزأت وأغنت؛ وكتيبة عاصم هي كتيبة الأهوال؛ فشبّه كتيبة الأهوال - لما رأى منهم في الماء والفراض - بكتيبة الخرساء. قال: ثمّ إنهم تنادوا بعد هنات قد اعتوروها عليهم ولهم. فخرجوا حتى لحقوا بهم، فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال بأسرهم، أقتحم سعد الناس - وكان الذي يساير سعدا في الماء سلمان الفارسيّ - فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمنّ الله عدوّه؛ إن لم يكن في الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذلّلت لهم والله البحور كما ذلّل لهم البرّ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوه أفواجا. فطبّقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ، ولهم فيه أكثر حديثا منهم في البرّ لو كانوا فيه، فخرجوا منه - كما قال سلمان - لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق منهم أحد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهديّ، أنهم سلموا من عند آخرهم إلاّ رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغرق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرصه إليه، فأخذ بيده فجرّه حتى عبر، فقال البارفىّ - وكان من أشدّ الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلاّ قدح كانت علاقته رثّة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر. فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمى الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرّياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بن مالك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن عمير الصائديّ، قال: لما أقحم سعد الناس في دجلة اقترنوا، فكان سلمان قرين سعد إلى جانبه يسايره في الماء، وقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم؛ والماء يطمو بهم، وما يزال فرس يستوي قائما إذا أعيا ينشز له تلعة فيستريح عليها؛ كأنه على الأرض، فلم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، وذلك يوم الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عليها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بين أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنّا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما دخل سعد المدينة الدنيا، وقطع القوم الجسر، وضموا السفن، قال المسلمون: ما تنتظرون بهذه النطفة! فاقتحم رجل، فخاض الناس فما غرق منهم إنسان ولا ذهب لهم متاع، غير أنّ رجلا من المسلمين فقد قدحا له انقطعت علاقته، فرأيته يطفح على الماء.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن أحد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى المشركون المسلمين وما يهمون به بعثوا من يمنعهم من العبور، وتحمّلوا فخرجوا هرّابا، وقد أخرج يزدجرد - قبل ذلك وبعد ما فتحت بهرسير - عياله إلى حلوان، فخرج يزدجرد بعد حتى ينزل حلوان، فلحق بعياله، وخلّف مهران الرازيّ والنّخيرجان - وكان على بيت المال - بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حرّ متاعهم وخفيفة، وما قدروا عليه من بيت المال، وبالنساء والذّرارىّ، وتركوا في الخزائن نم الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان مالا يدري ما قيمته، وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة والأشربة، فكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه إلاّ من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم، فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمّة، وتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم؛ ليس في ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة في المقدّمات في آثار القوم إلى النّهروان، فخرج حتى انتهى إلى النّهروان، وسرّح مقدار ذلك في طلبهم من كلّ ناحية.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسيّة: ديوان آمد. وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلاّ الجنّ. فانهزموا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختريّ، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسيّ، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إيّاهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقّ لكم، ولكم فيّ ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلمو فإخواننا لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإلا الجزية، وإلاّ نابذناكم على سواء؛ إنّ الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا. ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتّخذ الإيوان مصلى، وإنّ فيه لتماثيل جصّ فما حرّكها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيميّ، قالوا: وقد كان الملك سرّب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرّابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمون وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن من أحد. فانهزموا واقحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقيّة الجيش.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا أحد بنى عدىّ ابن شريف؛ رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمى أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الأقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس؛ فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهنّ حتى ألزقهنّ بالحيطان، فأفناهنّ. وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشدّه على عجل، وركب، ثم خرج فوقف. ومرّ به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بن شهاب.
قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون، ويقولون: من أيّ شئ فررنا! فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج عاجوا معه وهو أمامهم؛ فانتهى إلى ذلك الرّجل، فرماه من أقرب مما كان يرمى منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرّجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرّط الحجارة. وتفارّ عن الفارسيّ أصحابه.
وقالوا جميعا؛ محمد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأوثناها قوما آخرين " . وصلّى فيه صلاة الفتح - ولا تصلّى جماعة - فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجصّ رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها. قالوا: وأتمّ سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أوّل جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ستّ عشرة.
ذكر ما جمع من فئ أهل المدائن كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعقبة وعمرو وأبي عمر وسعيد، قالوا: نزل سعد إيوان كسرى، وقدّم زهرة، وأمره أن يبلغ النّهروان. فبعث في كلّ وجه مقدار ذلك لنفي المشركين وجمع الفيوء، ثمّ تحوّل إلى القصر بعد ثالثة، ووكّل بالأقباض عمرو بين عمرو ابن مقرّن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدّور وإحصاء ما يأتيه به الطلب؛ وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط. وألحّ عليهم الطلب فتنقّذوا ما في أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضمّوه إلى ماقدجمع؛ وكان أوّل شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى وسائر دور المدائن.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركيّة مملوءة سلالا مختّمة بالرصاص، فما حسبناها إلاّ طعاما، فإذا هي آنية الذّهب والفضة فقسمت بعد بين الناس. وقال حبيب: وقد رأيت الرّجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن النّضر بن السرىّ، عن ابن الرّفيل، عن أبيه الرّفيل بن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدّمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النّهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إنّ لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلاّ لشئ بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى؛ ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة؛ وترجّل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة:
فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ... هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي
هم فلجوا بالبغل في الخصام ... بكلّ قطّاع شئون الهام
وصرّعوا الفرس على الآكام ... كأنّهم نعم من الأنعام
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عنت جدّه الكلج، قال: كنت فيمن خرج في الطّلب، فإذا أنا ببغّالين قد ردا الخيل عنهما بالنّشاب، فما بقي معهما غير نشّابتين، فألظظت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحميني! فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بها. ثم إني حملت عليهما فقتلتهما وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أبلغتهما صاحب الأقباض، وإذا هو يكتب ما يأتيه به الرّجال وما كان في الخزائن والدّور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك! فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا - وكان لا يحمله إلاّ أسطوانتان - وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر وغير الدّيباج منسوجا منظوما.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسّ يحمى الناس؛ فاقتتلا فقتله؛ وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستّة أسياف؛ وإذا في العيبتين أدراع، فإذا في الأدراع درع كسرى ومغفره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع خاقان ودرع داهر ودرع بهرام شوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان؛ وكانوا استلبوا ما لم يرثوا، استلبوها أيام غزاتهم خاقان وهرقل وداهر؛ وأمّا النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى، وأما أحد الغلافين ففيه سيف كسرى وهرمز وقباذوفيروز، وإذا السيوف الأخر، سيف هرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان. فجاء به إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفّلها في الخرساء إلاّ سيف كسرى والنعمان - ليبعثوا بهما إلى عمر لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما، وحبسوهما في الأخماس - وحلىّ كسرى وتاجه وثيابه؛ ثم بعثوا بذلك إلى عمر ليراه المسلمون، ولتسمع بذلك العرب، وعلى هذا الوجه سلب خالد بن سعيد عمرو بن معد يكرب سيفه الصّمصامة في الرّدة والقوم يستحيون من ذلك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن ردل من بني الحارث بن طريف، عن عصمة بن الحارث الضبىّ، قال: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا وإذا عليه حمّار، فلما رآني حثّه فلحق بآخر قدّامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا، ورماني أحدهما فألظظت به فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة، على ثفره ولببه الياقوت، والزّمرّد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة، عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب ولها شناق - أو زمام - من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت؛ وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتي التاج.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عن أبي عبيدة العنبرىّ، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه؛ فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحموني، ولا غيركم لبقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أنتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محممد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: قال سعد: والله إنّ الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت: وايم الله - على فضل أهل بدر - لقد تتبّعت من أقوام منهم هنات وهنات فيما أحرزوا، ما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله، قال: والله الذي لا إله إلاّ هو؛ ما أطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة، أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتّهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن الكشوح.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس العجلىّ، عن أبيه، قال: لما قدم بسيف كسرى على عمر ومنطقته وزبرجه، قال: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! فقال علىّ: إنّك عففت فعفّت الرعيّة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبيّ، قال: قال عمر حين نظر إلى سلاح كسرى: إن أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة.
ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله وكانوا - فيما زعم سيف - ستين ألفا
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلّب، قالوا: ولما بعث سعد بعد نزوله المدائن في طب الأعاجم، بلغ الطلب النّهروان؛ ثمّ تراجعوا، ومضى المشركون نحو حلوان، فقسّم سعد الفئ بين الناس بعد ما خمّسه؛ فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلّهم كان فارسا ليس فيهم راجل؛ وكانت الجنائب في المدائن كثيرة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبىّ بمثله، وقالوا جميعا: ونفّل من الأخماس ولم يجهدها في أهل البلاء. وقالوا جميعا: قسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، والذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنىّ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة؛ وكان فتح المدائن في صفر سنة ستّ عشرة. قالوا: ولما دخل سعد المدائن أتمّ الصلاة وصام، وأمر الناس بإيوان كسرى فجعل مسجدا للأعياد، ونصب فيه منبرا، فكان يصلّى فيه - وفيه التماثيل - ويجمّع فيه، فلما كان الفطر قيل: ابرزوا، فإنّ السنّة في العيدين البراز. فقال سعد: صلّوا فيه؛ قال: فصلّى فيه، وقال: سواء في عقر القرية أو في بطنها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبيّ، قال: لما نزل سعد المدائن، وقسم المنازل، بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدّور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جولاء وتكريت والموصل، ثم تحوّلوا إلى الكوفة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب، وشاركهم عمرو وسعيد: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كلّ شئ أراد أن يعجب منه عمر؛ من ثياب كسرى وجليّه وسيفه ونحو ذلك، وما كان يعجب العرب أن يقع إليهم، ونفّل من الأخماس، وفضل بعد القسم بين الناس وإخراج الخمس القطف، فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل لكم في أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق قسمه؛ وهو بيننا قليل؛ وهو يقع من أهل المدينة موقعا! فقالوا: نعم ها الله إذا؛ فبعث به على ذلك الوجه، وكان القطف ستين ذراعا في ستين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب؛ فيه طرق كالصّور وفصوص كالأنهار؛ وخلال ذلك كالدّير، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونوّاره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. فلما قدم على عمر نفّل من الخمس أناسا، وقال: إنّ الأخماس ينفل منها من شهد ومن غاب من أهل البلاء فيما بين الخمسين؛ ولا أرى القوم جهدوا الخمس بالنفل؛ ثم قسم الخمس في مواضعه، ثمّ قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك، إلاّ ما كان من علىّ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا، ولم يبق إلى التروية؛ إنك إن تقبله على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له، قال: صدقتني ونصحتني. فقطّعه بينهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى، ثقل عليهم أن يذهبوا به، وكانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرّياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه؛ فكأنهم في رياض بساط ستين في ستين؛ أرضه بذهب، ووشيه بفصوص، وثمره بجوهر، وورقه بحرير وماء الذهب؛ وكانت العرب تسمّية القطف، فلما قسم سعد فيئهم فضل عنهم، ولم يتّفق قسمته، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن الله قد ملأ أيديكم، وقد عسر قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به نفسا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء؛ ففعلوا. فلما قدم على عمر المدينة رأى رؤيا فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره؛ فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق، فقام علىّ حين رأى عمر يأبى حتّى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا! إنه ليس لك من الدنيا إلاّ ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتني. فقطّعه فقسمه بين الناس،فأصاب علياّ قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا؛ وما هي بأجود تلك القطّع.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: وكان الذي ذهب بالأخماس؛ أخماس المدائن، بشير بن الخصاصيّة، والذي ذهب بالفتح خنيس بن فلان الأسديّ، والذي ولىّ القبض عمرو، والقمس سلمان. قالوا: ولما قسم البساط بين الناس أكثر الناس في فضل أهل القادسيّة، فقال عمر: أولئك أعيان العرب وغررها، اجتمع لهم مع الأخطار الدّين، هم أهل الأيام وأهل القوادس. قالوا: ولما أتى بحلىّ كسرى وزيّه في المباهاة وزيّه في غير ذلك - وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زيّ - قال: علىّ بمحلّم - وكان أجسم عربيّ يومئذ بأرض المدينة - فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس؛ فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيّه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع، حتى أتى عليها كلها؛ ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. ونفّل سيف كسرى محلّما، وقال: أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا! هل يبلغنّ مغرور منها إلاّ دون هذا أو مثله! وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيم يضرّه ولا ينفعه! إنّ كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزج امرأته أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلاّ حصلت للثلاثة بعده؛ وأحمق بمن جمع لهم أو لعدوّ جارف! كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عمر مقدم الأخماس عليه حين نظر إلى سلاح كسرى وثيابه وحليّه، مع ذلك سيف النعمان بن المنذر، فقال لجبير: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! إلى من كنتم تنسبون النعمان؟ فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء، أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فقال: خذ سيفه فنفّله إياه، فجهل الناس عجم، وقالوا لخم. وقالوا جميعا: وولّى عمر سعد بن مالك صلاة ما غلب عليه وحربه، فولى ذلك؛ وولّى الخراج النعمان وسويدا ابنى عمرو بن مقرّن؛ سويدا على ما سقى الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، وعقدوا الجسور، ثم ولّى عملهما، واستعفيا حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزنّى، ثم ولّى عملهما بعد حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف.
قال: وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ عشرة - كانت وقعة جلولاء، وكذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وكتب إلىّ السرىّ يذكر أن شعيبا حدّثه عن سيف بذلك.
ذكر الخبر عن وقعة جلولاء الوقيعةكتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: لما أقمنا بالمدائن حين هبطناها واقتسمنا ما فيها، وبعثنا إلى عمر بالأخماس، وأوطنّاها، أتانا الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه؛ وأنّ أهل الموصل قد عسكروا بتكريت.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة البجلّى، عن أبيه بمثله؛ وزاد فيه: فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إلى سعد: أن سرّح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثنى عشر ألفا، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وعلى ميمنته سعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، واجعل على ساقته عمرو بن مرّة الجهنىّ.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: وكتب عمر إلى عمر إلى سعد: إن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق؛ فقدّم القعقاع حتى يكون بين السواد وبين الجبل على حدّ سوادكم وشاركهم عمرو وسعيد. قالوا: وكان من حديث أهل جلولاء، أنّ الأعاجم لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس، تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرّجال؛ وخلّف فيهم الأموال، فأقاموا في خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلاّ طرقهم. قال عمرو، عن عامر الشعبىّ: كان أبو بكر لا يستعين في حربه بأحد من أهل الرّدّة حتى مات، وكان عمر قد استعان بهم؛ فكان لا يؤمّر منهم أحدا إلى على النفر وما دون ذلك؛ وكان لا يعدل أن يؤمّر الصحابة إذا وجد من يجزى عنه في حربه؛ فإن لم يجد ففي التابعين بإحسان؛ ولا يطمع من انبعث في الردّة في الرياسة؛ وكان رؤساء أهل الردّة في تلك الحروب حشوة إلى أن ضرب الإسلام بجرانه.
ثم اشترك عمرو ومحمد والمهلب وطلحة وسعيد، فقالوا: ففصل هاشم ابن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ستّ عشرة، في اثنى عشر ألفا؛ منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ وممن لم يرتدّ؛ فسار من المدائن إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، وأحاط بهم، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلاّ إذا أرادوا؛ وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا، كلّ ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظّفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب، فاتّخذوا حسك الحديد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عقبة بن مكرم، عن بطان بن بشر، قال: لما نزل هاشم على مهران بجلولاء حصرهم في خندقهم، فكانوا يزاحفون المسلمين في زهاء وأهاويل، وجعل هاشم يقوم في الناس، ويقول: إنّ هذا المنزل منزل له ما بعده؛ وجعل سعد يمدّه بالفرسان حتى إذا كان أخيرا احتفلوا للمسلمين؛ فخرجوا عليهم، فقام هاشم في الناس، فقال: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله. فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق؛ فلم يجدوا بدّا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم؛ تصعد منه خيلهم؛ فأفسدا حصنهم؛ وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه! فلما نهد المسلمون الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا يقدم عليهم الخيل، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا على المسلمين منه، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، إلا أنه كان أكمش وأعجل؛ وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فأقبلوا إليه؛ ولا يمنعنّكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، فحمل المسلمون ولا يشكّون إلا أن هاشما فيه، فلم يقم لحملتهم شئ، حتى انتهوا إلى باب الخندق، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو، وقد أخذ به؛ وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم؛ فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين فعقرت دوابّهم، وعادوا رجّالة؛ وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت جلولاء بما جللها من قتلاهم؛ فهي جلولاء الوقيعة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفّز، عن أبيه، قال: إني لفي أوائل الجمهور، مدخلهم ساباط ومظلمها، وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة، ودخلوا المدائن؛ ولقد أصبت بها تمثالا لو قسم في بكر بن وائل لسدّ منهم مسداّ، عليه جوهر، فأدّيته؛ فما لبثنا بالمدائن إلاّ قليلا حتى بلغنا أنّ الأعاجم قد جمعت لنا بجلولاء جمعا عظيما، وقدّموا عيالاتهم إلى الجبال، وحبسوا الأموال؛ فبعث إليهم سعد عمرو بن مالك بن عتبة بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وكان جند جلولاء اثنى عشر ألفا من المسلمين، على مقدّمتهم القعقاع بن عمرو، وكان قد خرج فيهم وجوه الناس وفرسانهم؛ فلما مرّوا ببابل مهروذ صالحه دهقانها، على أن يفرش له جريب أرض دراهم؛ ففعل وصالحه. ثم مضى حتى قدم عليهم بجلولاء، فوجدهم قد خندقوا وتحصنوا في خندقهم، ومعهم بيت مالهم، وتواثقوا وتعاهدوا بالنيران ألاّ يفرّوا، ونزل المسلمون قريبا منهم، وجعلت الأمداد تقدم على المشركين كلّ يوم من حلوان، وجعل يمدّهم بكلّ من أمدّه من أهل الجبال، واستمدّ المسلمون سعدا فأمدّهم بمائتي فارس، ثم مائتين، ثم مائتين. ولما رأى أهل فارس أمداد المسلمين بادروا بقتال المسلمين. وعلى خيل المسلمين يومئذ طليحة بن فلان، أحد بنى عبد الدار، وعلى خيل الأعاجم خرّ زاذ بن خرّ هرمز - فاقتتلوا قتالا شديدا، لم يقاتلوا المسلمين مثله في موطن من المواطن، حتى أنفذوا النبل؛ وحتى أنفدوا النشّاب، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطّبرزينات. فكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهر؛ ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع بن عمرو على الناس، فقال: أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم؛ نحن مكلّون وهم مريحون، والكالّ يخاف العجز إلا أن يعقب؛ فقال: إنا حاملون عليهم ومجادّوهم وغير كافّين ولا مقلعين حتى يحكم الله بيننا وبينهم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبنّ أحد منكم. فحمل فانفرجوا، فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة؛ وجاء في الأمداد طليحة وقيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب وحجر بن عدىّ، فوافقوهم قد تحاجزوا مع الليل، ونادى منادى القعقاع بن عمرو: أين تحاجزون وأميركم في الخندق! فتفارّ المشركون، وحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فآتى فسطاطا فيه مرافق وثياب؛ وإذا فرش على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال في حسن الشمس، فأخذتها وثيابها، فأدّيت الثياب، وطلبت في الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أمّ ولد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن حماد بن فلان البرجمىّ، عن أبيه، أنّ خارجة بن الصّلت أصاب يومئذ ناقة من ذهب أو فضة موشحة بالدرّ والياقوت مثل الجفرة إذا وضعت على الأرض، وإذا عليها رجل من ذهب موشّح كذلك، فجاء بها وبه حتّى أدّاهما.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد والوليد بن عبد الله والمجالد وعقبة بن مكرم، قالوا: وأمر هاشم القعقاع بن عمرو بالطلب، فطلبهم حتى بلغ خانقين، ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبال، وقدم القعقاع حلوان، وذلك أنّ عمر كان كتب إلى سعد: إن هزم الله الجندين؛ جند مهران وجند الأنطاق، فقدّم القعقاع؛ حتى يكون بين السّواد والجبل، على حدّ سوادكم. فنزل القعقاع بحلوان في جند من الأفناء ومن الحمراء، فلم يزل بها إلى أن تحوّل الناس من المدائن إلى الكوفة؛ فلما خرج سعد من المدائن إلى الكوفة لحق به القعقاع؛ واستعمل على الثغر قباذ - وكان من الحمراء، وأصله من خراسان - ونفّل منها من شهدها، وبعض من كان بالمدائن نائيا.
وقالوا - واشتركوا في ذلك: وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان واستأذنوه في إتباعهم، فأبى، وقال: لوددت أنّ بين السواد وبين الجبل سداّ لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم؛ حسبنا من الرّيف السواد، إنىّ آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. قالوا: ولما بعث هاشم القعقاع في آثار القوم، أدرك مهران بخانقين، فقتله وأدرك الفيرزان فنزل، وتوقّل في الظّراب، وخلّى فرسه، وأصاب القعقاع سبايا، فبعث بهم إلى هاشم من سباياهم، واقتسموهم فيما اقتسموا من الفئ، فاتّخذن، فولدن في المسلمين. وذلك السبي ينسب إلى جلولاء، فيقال: سبي جلولاء. ومن ذلك السبي أم الشعبيّ، وقعت لرجل من بني عبس، فولدت فمات عنها فخلف عليها شراحيل، فولدت له عامرا، ونشأ في بني عبس.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: واقتسم في جلولاء على كلّ فارس تسعة آلاف، تسعة آلاف؛ وتسعة من الدواب، ورجع هاشم بالأخماس إلى سعد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبيّ، قال: أفاء الله على المسلمين ما كان في عسكرهم بحلولاء وما كان عليهم، وكلّ دابة كانت معهم إلاّ اليسير لم يفلتوا بشئ من الأموال، وولى قسم ذلك بين المسلمين سلمان بن ربيعة؛ فكانت إليه يومئذ الأقباض والأقسام، وكانت العرب تسمّيه لذلك سلمان الخيل؛ وذلك أنه كان يقسم لها ويقصّر بما دونها، وكانت العتاق عنده ثلاث طبقات، وبلغ سهم الفارس بجلولاء مثل سهمه بالمدائن.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وعمرو، عن الشعبيّ، قال: اقتسم الناس فئ جلولاء على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس ستة آلاف ألف.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وسعيد، قالوا: ونفّل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ومن أعظم البلاء ممن كان نائيا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعىّ ابن عمرو الدّؤلي من الأذهاب والأوراق والآنية والثياب، وبعث بالسبي مع أبي مفزّر الأسود، فمضيا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة و محمد بن عمرو، قالا : بعث الأخماس مع قضامىّ و أبى مفزّر، و الحساب مع زياد ابن أبى سفيان، و كان الذي يكتب للناس و يدوّنهم، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء له، ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به ؟ فقال: و الله ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك! فقام بالناس بما أصابوا و بما صنعوا، و بما تستأذنون فيه من الانسياح في البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
كتب إلى السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة و محمد، عن أبى سلمة، قال: لما قدم على عمر بالأخماس من جلولاء، قال عمر: و الله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عن جلابيبه - وهي الأنطاع - فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال: عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلاّ ألقي بأسهم بينهم. وأشكل على عمر في أخماس القادسيّة حتى خطر عليه ما أفا الله - يعني من الخمس - فوضع ذلك في أهله، فأجرى خمس جلولاء مجرى خمس القادسيّة عن ملإ وتشاور وإجماع من المسلمين، ونفّل من ذلك بعض أهل المدينة.
كتب إلى السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وسعيد وعمرو، قالوا: وجمع سعد من وراء المدائن، وأمر بالإحصاء فوجدهم بضعة وثلاثين ومائة ألف، ووجدهم بضعة وثلاثين ألف أهل بيت، ووجد قسمتهم ثلاثة لكلّ رجل منهم بأهلهم؛ فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن أقرّ الفلاحين على حالهم؛ إلاّ من حارب أو هرب منك إلى عدوّك فأدركته، وأجر لهم ما أجريت للفلاحين قبلهم؛ وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم. فكتب إليه سعد فيمن لم يكن فلاحا فأجابه: أما من سوى الفلاّحين فذاك إليكم ما لم تغنموه - يعني تقتسموه - ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلاّها فهي لكم؛ فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذّمة؛ وإن لم تدعوهم ففئ لكم لمن أفاء الله ذلك عليه. وكان أحظى بفئ الأرض أهل جلولاء؛ استأثروا بفئ ما وراء النّهروان، وشاركوا الناس فيما كان قبل ذلك، فأقرّوا الفلاحين ودعوا من لجّ، ووضعوا الخراج على الفلاحين وعلى من رجع وقبل الذّمة، واستصفوا ما كان لآل كسرى ومن لجّ معهم فيئا لمن أفاء الله عليه، لا يجاز بيع شئ من ذلك فيما بين الجبل إلى الجبل من أرض العرب إلاّ من أهله الذين أفاء الله عليهم، ولم يجيزوا بيع ذلك فيما بين الناس - يعني فيمن لم يفئه الله تعالى عليه ممن يعاملهم من لم يفئه الله عزّ وجلّ عليه - فأقرّه المسلمون؛ لم يقتمسوه؛ لأن قسمته لم تتأتّ لهم؛ فمن ذلك الآجام ومغيض المياه وما كان لمن قتل، والأرحاء؛ فكان بعض من يرقّ يسأل الولاة قسم ذلك؛ فيمنعهم من ذلك الجمهور، أبوا ذلك، فانتهوا إلى رأيهم ولم يجيبوا، وقالوا: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا؛ ولو كان طلب ذلك منهم عن ملإ لقسمها بينهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن ماهان، قال: لم يثبت أحد من أهل السواد على العهد فيما بينهم وبين أهل الأيام إلاّ أهل قريات، أخذوها عنوة، كلهم نكث؛ ما خلا أولئك القريات، فلما دعوا إلى الرّجوع صاروا ذمّة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، إلا ما كان لآل كسرى ومن معهم، فإنه صافية فيما بين حلوان والعراق؛ وكان عمر قد رضى بالسّواد من الرّيف.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كتبوا إلى عمر في الصّوافى، فكتب إليهم: أن اعمدوا إلى الصّوافى التي أصفاكموها الله، فوزّعوها على من أفاءها الله عليه؛ أربعة أخماس للجند، وخمس في مواضعه إلىّ، وإن أحبّوا أن ينزلوها فهو الذي لهم. فلما جعل ذلك إليهم رأوا ألاّ يفترقوا في بلاد العجم، وأقرّوها حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه، ثم يقتسمونها في كلّ عام، ولا يولونها إلا من أجمعوا عليه بالرّضا، وكانوا لا يجمعون إلاّ على الأمراء، كانوا بذلك في المدائن؛ وفي الكوفة حين تحوّلوا إلى الكوفة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: كتب عمر: أن احتازوا فيئكم فإنكم إن لم تفعلوا فتقادم الأمر يلحج؛ وقد قضيت الذي علىّ. اللهمّ إنّي أشهدك عليهم فاشهد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله، عن أبيه، قال: فكان الفلاّحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدّلالة مع الجزاء عن أيديهم على قدر طاقتهم؛ وكانت الدّهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين، وكانت الضّيافة لمن أفاءها الله خاصّة ميراثا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت بنحو منه، وقالوا جميعا: كان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ستّ عشرة في أولها، بينها وبين المدائن تسعة أشهر. وقالوا جميعا: كان صلح عمر الذي صالح عليه أهل الذمة؛ أنهم إن غشّوا المسلمين لعدوّهم برئت منهم الذّمة، وإن سبّوا مسلما أن ينهكوا عقوبة، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا؛ وعلى عمر منعتهم؛ وبرئ عمر إلى كلّ ذي عهد من معرّة الجيوش.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله والمستنير، عن إبراهيم بمثله.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان أشفى أهل فارس بجلولاء أهل الرّى؛ كانوا بها حماة أهل فارس ففنى أهل الرّى يوم جلولاء. وقالوا جميعا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلا ما أصفاهم الله به من مال الأكاسرة، ومن لجّ معهم. وقالوا جميعا: ولما بلغ أهل فارس قول عمر ورأيه في السواد وما خلفه، قالوا: ونحن نرضى بمثل الذي رضوا به، لا يرضى أكراد كلّ بلد أن ينالوا من ريفهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد وحكيم بن عمير، عن إبراهيم بن يزيد، قال: لا يحلّ اشتراء أرض فيما بين حلوان والقادسيّة؛ والقادسيّة من الصوافى، لأنه لمن أفاءه الله عليه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبيّ مثله.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن المغيرة بن شبل، قال: اشترى جرير من أرض السواد صافية على شاطئ الفرات، فأتى عمر فأخبره، فردّ ذلك الشراء وكرهه، ونهى عن شراء شئ لم يقتسمه أهله.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، قال: قلت للشعبيّ: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكلّ أرض إلاّ بعض القلاع والحصون؛ فإن بعضهم صالح وبعضهم غلب، قلت: فهل لأهل السواد ذمّة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمّة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد إلاّ بني صلوبا وأهل الحيرة وأهل كلواذى وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا، ثم دعوا إلى الذمّة بعد ما غدروا. وقال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:
يوم جلولاء ويوم رستم ... ويوم زحف الكوفة المقدّم
ويوم عرض النهر المحرّم ... من بين أيّام خلون صرّم
شيّبن أصداغى فهنّ هرّم ... مثل ثغام البلد المحرّم
وقال أبو بجيذ في ذلك:
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ... كتائبنا تردى بأسد عوابس
ففضّت جموع الفرس ثمّ أنمتهم ... فتبا لأجساد المجوس النّجائس!
وأفلتهنّ الفيرزان بجرعة ... ومهران أردت يوم حزّ القوانس
أقاموا بدار للمنّية موعد ... وللتّرب تحثوها خجوج الرّوامس
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب ومرو وسعيد، قالوا: وقد كان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد: إن فتح الله عليكم جلولاء فسرّح القعقاع بن عمرو في آثار القوم حتى ينزل بحلوان، فيكون ردءا للمسلمين ويحرز الله لكم سوادكم. فلما هزم الله عزّ وجلّ أهل جلولاء، أقام هاشم بن عتبة بجلولاء، وخرج القعقاع بن عمرو في آثار القوم إلى خانقين في جند من أفناء الناس ومن الحمراء، فأدرك سبيا من سبيهم؛ وقتل مقاتلة من أدرك، وقتل مهران وأفلت الفيرزان؛ فلما بلغ يزدجرد هزيمة أهل جلولاء ومصاب مهران، خرج من حلوان سائرا نحو الرّيّ، وخلف بحلوان خيلا عليها خسروشنوم؛ وأقبل القعقاع حتى إذا كان بقصر شيرين على رأس فرسخ من حلوان خرج إليه خسروشنوم، وقدم الزّينبي دهقان حلوان، فلقيه القعقاع فاقتتلوا فقتل الزينبيّ، واحتقّ فيه عميرة بن طارق وعبد الله، فجعله وسلبه بينهما، فعدّ عميرة ذلك حقرة وهرب خسروشنوم، واستولى المسلمون على حلوان وأنزلها القعقاع الحمراء، وولّى عليهم قباذ، ولم يزل القعقاع هنالك على الثغر والجزاء بعد ما دعاهم، فتراجعوا وأقرّوا بالجزاء إلى أن تحوّل سعد من المدائن إلى الكوفة، فلحق به، واستخلف قباذ على الثغر، وكان أصله خراسانياّ.
ذكر فتح تكريتوكان في هذه السنة - أعنى سنة عشرة في رواية سيف - فتح تكريت، وذلك في جمادى منها.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والملهب وسعيد، وشاركهم الوليد بن عبد الله بن أبي طيبة، قالوا: كتب سعد في اجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقاله حتى نزلت بتكريت، وخندق فيه عليه ليحمى أرضه، وفي اجتماع أهل جلولاء على مهران معه؛ فكتب في جلولاء ما قد فرغنا منه، وكتب في تكريت واجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق بها: أن سرّح إلى الأنطاق عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ ابن الأفكل العنزىّ، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلىّ، وعلى ميسرته فرات بن حيّان العجلىّ، وعلى ساقته هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة؛ ففصل عبد الله بن المعتمّ في خمسة آلاف من المدائن، فسار إلى تكريت أربعا؛ حتى نزل على الأنطاق؛ ومعه الرّوم وإياد وتغلب النّمر ومعه الشهارجة وقد خندقوا بها، فحصرهم أربعين يوما، فتزاحفوا فيها أربعة وعشرين زحفا؛ وكانوا أهون شركة، وأسرع أمرا من أهل جلولاء، ووكّل عبد الله بن المعتمّ بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الرّوم؛ فهم لا يخفون عليه شيئا؛ ولما رأت الرّوم أنهم لا يخرجون خرجة إلاّ كانت عليهم، ويهزمون في كلّ ما زاحفوهم؛ تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وأقبلت العيون من تغلب وإياد والنّمر إلى عبد الله بن المعتمّ بالخبر، وسألوه للعرب السلم، وأخبروه أنهم قد استجابوا له؛ فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين بذلك فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقرّوا بما جاء به من عند الله؛ ثم أعلمونا رأيكم. فرجعوا إليهم بذلك، فردّوهم إليه بالإسلام؛ فردّهم إليهم، وقال: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها، فخذوا بالأبواب التي تلي دجلة، وكبّروا واقتلوا من قدرت عليه؛ فانطلقوا حتى تواطئوهم على ذلك. ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبّروا، وكبّرت تغلب وإياد والنّمر؛ وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أنّ المسلمين قد أتوهم من خلفهم، فدخلوا عليهم مما يلي دجلة، فبادروا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم السيوف؛ سيوف المسلمين مستقبلتهم، وسيرف الرّبعيّين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم؛ فلم يفلت من أهل الخندق إلاّ من أسلم من تغلب وإياد والنّمر. وقد كان عمر عهد إلى سعد؛ إن هم هزموا أن يأمر عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزيّ إلى الحصنين؛ فسّرح عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزيّ إلى الحصنين، فأخذ بالطريق، وقال: اسبق الخبر، وسر ما دون القيل، وأحى الليل. وسرّح معه تغلب وإياد والنّمر، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل؛ أحد بنى جشم بن سعد وذو القرط وأبو وداعة بن أبي كرب وابن ذي السّنينة قتيل الكلاب وبان الحجير الإياديّ وبشر بن أبي حوط متساندين، فسبقوا الخبر إلى الحصنين. ولما كانوا منها قريبا قدّموا عتبة ابن الوعل فادّعى بالظفر والنّفل والقفل، ثم ذو القرط، ثم ابن ذي السّنينة، ثم ابن الحجير، ثمّ بشر؛ ووقفوا بالأبواب، وقد أخذوا بها، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعىّ بن الأفكل حتى اقتحمت عليهم الحصنين، فكانت إيّاها، فنادوا بالإجابة إلى الصلح، فأقام من استجاب، وهرب من لم يستجب، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتمّ، فلما نزل عليهم عبد الله دعا من لجّ وذهب، ووفّى لمن أقام، فتراجع الهرّاب واغتبط المقيم، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة، واقتسموا في تكريت على كلّ سهم ألف درهم، للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيّان، وبالفتح مع الحارث بن حسان وولى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة ابن هرثمة.
ذكر فتح ماسبذانوفي هذه السنة - أعنى سنة ست عشرة - كان فتح ماسبذان أيضا.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والملهب وعمرو وسعيد قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا، فخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدّمته ابن الهذيل الأسدىّ، وعلى مجنّبتيه عبد الله بن وهب الراسبيّ حليف بجيلة، والمضارب بن فلان العجلىّ؛ فخرج ضرار بن الخطاب، وهو أحد بنى محارب بن فهر في الجند، وقدّم ابن الهذيل حتى انتهى إلى سهل ماسبذان، فالتقوا بمكان يدعى بهندف، فاقتتلوا بها، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين سلما، فأسره فانهزم عنه جيشه فقدّمه فضرب عنقه. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان فأخذ ماسبذان عنوة فتطاير أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه، فنزل الكوفة استخلف ابن الهذيل على ماسبذان فكانت إحدى فروج الكوفة.
ذكر وقعة قرقيسياءوفيها كانت وقعة قرقيسياء في رجب.
ذكر الخبر عن الوقعة بها كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة عن جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة، فأمدّوا هرقل على أهل حمص، وبعثوا جندا إلى أهل هيت، وكتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند، وابعث على مقدّمته الحارث بن يزيد العامريّ، وعلى مجنّبتيه ربعىّ بن عامر ومالك ابن حبيب، فخرج عمر بن مالك في جنده سائرا نحو هيت، وقدّم الحارث ابن يزيد حتى نزل على من بهيت، وقد خندقوا عليهم. فلما رأى عمر ابن مالك امتناع القوم بخندقهم واعتصامهم به، استطال ذلك، فترك الأخبية على حالها وخلّف عليهم الحارث بن يزيد محاصرهم، وخرج في نصف الناس يعارض الطريق حتى يجئ قرقيسياء في عرّة، فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزاء، وكتب إلى الحارث بن يزيد إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا، وإلاّ فخندق على خندقهم خندقا أبوابه ممّا يليك حتى أرى من رأي. فسمحوا بالاستجابة، وانضمّ الجند إلى عمر والأعاجم إلى أهل بلادهم.
وقال الواقدىّ: وفي هذه السنة غرّب عمر أبا محجن الثقفيّ إلى باضع.
قال: وفيها تزوّج ابن عمر صفيّة بنت أبي عبيدة.
قال: وفيها ماتت مارية أمّ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّ إبراهيم، وصلّى عليها عمر، وقبرها بالبقيع، في المحرّم.
قال: وفيها كتب التأريخ في شهر ربيع الأول.
قال: وحدّثني ابن أبي سبرة، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن المسيّب، قال: أوّل من كتب التأريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لستّ عشرة من الهجرة بمشورة علىّ بن أبي طالب.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم ابن حمّاد، قال: حدّثنا الدراورديّ، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم من أيّ يوم نكتب؟ فقال علىّ: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أرض الشرك. ففعله عمر.
وحدّثني عبد الرحمن، قال: حدّثني يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: حدّثنا محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وفيها ولد عبد الله بن الزبير.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب، واستخلف على المدينة فيما زعم الواقديّ - زيد بن ثابت. وكان عامل عمر في هذه السنة على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى ابن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرميّ، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشأم كلها أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة، وعلى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخراج بها عرفجة بن هرثمة في قول بعضهم، وفي قول آخرين عتبة بن فرقد على الحرب والخراج - وقبل ذلك كلّه كان إلى عبد الله بن المعتمّ - وعلى الجزيرة عياض بن عمرو الأشعريّ.
ثم دخلت سنة سبع عشرة
ففيها اختطّت الكوفة، وتحولّ سعد بالناس من المدائن إليها في قول سيف بن عمر وروايته.
ذكر سبب تحوّل من تحوّل من المسلمين من المدائن
إلى الكوفة وسبب اختطاطهم الكوفة في رواية سيفكتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما جاء فتح جلولاء وحلوان ونزول القعقاع بن عمرو بحلوان فيمن معه، وجاء فتح تكريت والحصنين، ونزول عبد الله بن المعتمّ وابن الأفكل الحصنين فيمن معه؛ وقدمت الوفود بذلك على عمر، فلمّا رآهم عمر قال: والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم بها؛ ولقد قدمت وفودالقادسيّة والمدائن وإنهم لكما أبدءوا، ولقد انتكيّم فما غيّركم؟ قالوا: وخومة البلاد. فنظر في حوائجهم، وعجل سراحهم؛ وكان في وفود عبد الله بن المعتمّ عتبة بن الوعل، وذو القرط، وابن ذي السّنينة، وابن الحجير وبشر، فعاقدوا عمر على بنى تغلب، فعقد لهم؛ على أنّ من أسلم منهم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزاء؛ وإنما الإجبار من العرب على من كان في جزيرة العرب. فقالوا: إذا يهربون وينقطعون فيصيرون عجما؛ فأمر أجمل الصّدقة؛ فقال: ليس إلاّ الجزاء، فقالوا: تجعل جزيتهم مثل صدقة المسلم، فهو مجهودهم، ففعل على ألاّ ينصّروا وليدا ممن أسلم آباؤهم، فقالوا: لك ذلك، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمريّين والأدياديّين إلى سعد بالمدائن وخطّوا معه بعد بالكوفة، وأقام من أقام في بلاده على ما أخذوا لهم على عمر مسلمهم وذميّهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبيّ، قال: كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد أترفت بطونها، وخفّت أعضادها، وتغيّرت ألوانها. وحذيفة يومئذ مع سعد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ العرب خدّدهم وكفى ألوانهم وخومة المدائن ودجلة؛ فكتب إليه: إن العرب لا يوافقها إلاّ ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائدا وحذيفة - وكانا رائدي الجيش - فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شئ إلا وقد أسنده إلى رجل، فبعث سعد حذيفة وسلمان، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربيّ الفرات لا يرضى شيئا، حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقيّ الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء - وكلّ رملة حمراء يقال لها سلهة، وكلّ حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة - فأتيا عليها، وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليّا، وقال كلّ واحد منهما: اللهمّ ربّ السماء وما أظلّت، وربّ الأرض وما أقلت، والريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلّت، والخصائص وما أجنّت؛ بارك لنا في هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات. وكتب إلى سعد بالخبر.
حدّثني محمد بن عبد الله بن صفوان، قال: حدّثنا أميّة بن خالد، قال: حدّثنا أو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: لما هم الناس يوم جلولاء، رجع سعد بالناس، فلمّا قدم عمار خرج بالناس إلى المدائن فاجتووها؛ قال عمّار: هل تصلح بها الإبل؟ قالوا: لا؛ إنّ بها البعوض، قال: قال عمر: إنّ العرب لا تصلح بأرض لا تصلح بها الإبل. قال: فخرج عمار بالناس حتى نزل الكوفة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن أبيه، عن النسير بن ثور، قال: ولما اجتوى المسلمون المدائن بعد ما نزلناها وآذاهم الغبار والذّباب، وكتب إلى سعد في بعثه روّادا يرتادون منزلا بريّا بحريّا، فإن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح البعير والشاة؛ سأل من قبله عن هذه الصفة فيما بينهم، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللّسان - وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين النهرين إلى العين، عين بنى الحذاء، كانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه في الريف، فما كان يلي الفرات منه فهو الملطاط، وما كان يلي الطين منه فهو النّجاف - فكتب إلى سعد يأمره به:
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما قدم سلمان وحذيفة على سعد، وأخبراه عن الكوفة، وقدم كتاب عمر بالذي ذكرا له، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو: أن خلّف على الناس بجلولاء قباذ فيمن تبعكم إلى من كان معه من الحمراء. ففعل وجاء حتى قدم على سعد في جنده، وكتب سعد إلى عبد الله بن المعتمّ: أن خلّف على الموصل مسلم بن عبد الله الذي كان أسر أيام القادسيّة فيمن استجاب لكم من الأساورة، ومن كان معكم منهم. ففعل، وجاء حتى قدم على سعد في جنده، فارتحل سعد بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في المحرّم سنة سبع عشرة. وكان بين وقعة المدائن ونزول الكوفة سنة وشهران، وكان بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ اختطّت سنة أربع من إمارة عمر في المحرّم سنة سبع عشرة من التأريخ، وأعطوا العطايا بالمدائن في المحرّم من هذه السنة قبل أن يرتحلوا. وفي بهرسير، في المحرّم سنة ستّ عشرة، واستقرّ بأهل البصرة منزلهم اليوم بعد ثلاث نزلات قبلها، كلها ارتحلوا عنها في المحرّم سنة سبع عشرة، واستقرّ باقي قرارهما اليوم في شهر واحد.
وقال الواقديّ: سمعت القاسم بن معن يقول: نزل الناس الكوفة في آخر سنة سبع عشرة.
قال: وحدّثني ابن أبي الرّقاد، عن أبيه، قال: نزلوها حين دخلت سنة ثماني عشرة، في أوّل السنة.
رجع الحديث إلى حديث سيف. قالوا: وكتب عمر إلى سعد بن مالك وإلى عتبة بن غزوان أن يتربّعا بالناس في كلّ حين ربيع في أطيب أرضهم، وأمر لهم بمعاونهم في الربيع من كلّ سنة، وبإعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشّعرى في كلّ سنة؛ وذلك عند إدراك الغلاّت، وأخذوا قبل نزول الكوفة عطاءين.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن رجل من بني أسد يدعى المغرور، قال: لما نزل سعد الكوفة، كتب إلى عمر: إنىّ قد نزلت بكوفة منزلا بين الحيرة والفرات برّيا بحريا، ينبت الحلّى والنّصىّ، وخيّرت المسلمين بالمدائن، فمن أعجبه المقام فيها تركته فيها كالمسلحة. فبقى أقوام من الأفناء، وأكثرهم بنو عبس.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلب، قالوا: ولما نزل أهل الكوفة الكوفة، واستقرّت بأهل البصرة الدار، عرف القوم أنفسهم، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا. ثمّ إنّ أهل الكوفة استأذنوا في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فقال عمر: العسكر أجدّ لحربكم وأذكى لكم، وما أحبّ أن أخالفكم، وما القصب؟ قالوا: العكرش إذا روى قصّب فصار قصبا، قال: فشأنكم؛ فابتنى أهل المصرين بالقصب.
ثم إنّ الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة، وكان أشدّهما حريقا الكوفة، فاحترق ثمانون عريشا، ولم يبق فيها قصبة في شوّال، فما زال الناس يذكرون ذلك. فبعث سعد منهم نفرا إلى عمر يستأذنون في البناء باللبن، فقدموا عليه بالخبر عن الحريق، وما بلغ منهم - وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلاّ وآمروه فيه - فقال: افعلوا؛ ولا يزيدنّ أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنّة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك. وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك؛ وعلى تنزيل أهل الكوفة أو الهيّاج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن الدّلف أبو الجرباء.
قال: وعهد عمر إلى الوقد وتقدّم إلى الناس إلاّ يفعوا بنيانا فوق القدر.
قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقرّبكم من السّرف، ولا يخرجكم من القصد.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما أجمعوا على أن يضعوا بنيان الكوفة، أرسل سعد إلى أبي الهيّاج فأخبره بكتاب عمر في الطّرق، أنه أمر بالمناهج أربعين ذراعا، وما يليها ثلاثين ذراعا، وما بين ذلك عشرين، وبالأزّفة سبع أذرع، ليس دون ذلك شئ، وفي القطائع ستين ذراعا إلاّ الذي لبنى ضبّة. فاجتمع أهل الرأى للتقدير؛ حتى إذا أقاموا على شئ قسّم أبو الهيّاج عليه؛ فأوّل شئ خطّ بالكوفة وبنى حين عزموا على البناء المسجد، فوضع في موضع أصحاب الصابون والتّمارين من السوق، فاختطوه، ثم قام رجل في وسطه، رام شديد النّزع، فرمى عن يمينه فأمر من شاء أن يبنى وراء موقع السهمين. فترك المسجد في مرّبعة غلوة من كلّ جوانبه، وبنى ظلّة في مقدمه، ليست لها مجنّبات ولا مواخير، والمربعة لاجتماع الناس لئلا يزدحموا - وكذلك كامن المساجد ما خلا المسجد الحرام، فكانوا لا يشبّهون به المساجد تعظيما لحرمته، وكانت ظلّته مائتى ذراع على أساطين رخام كانت للأكاسرة، سماؤها كأسمية الكنائس الرّومية، وأعلموا على الصحن بخندق لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله بينهما طريق منقب مائتى ذراع، وجعل فيها بيوت الأموال، وهي قصر الكوفة اليوم، بنى ذلك له بوزبه من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، ونهج في الودعة من الصحن خمسة مناهج، وفي قبلته أربعة مناهج، وفي شرقيّه ثلاثة مناهج، وفي غربيّه ثلاثة مناهج، وعلّمها، فأنزل في ودعة الصحن سليما وثقيفا مما يلي الصحن على طريقين، وهمدان على طريق، وبجيلة على طريق آخر، وتيم اللاّت على آخرهم وتغلب، وأنزل في قبلة الصحن بنى أسد على طريق، وبين بنى أسد والنّخع طريق، وبي النّخع وكندة طريق، وبين كندة والأزد طريق، وأنزل في شرقىّ الصحن الأنصار، ومزينة على طريق، وتميما ومحاربا على طريق، وأسدا وعامرا على طريق، وأنزل في غربىّ الصحن بجالة وبجلة على طريق، وجديلة وأخلاطا على طريق، وجهينة وأخلاطا على طريق، فكان هؤلاء الذين يلون الصحن وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك. واقتسمت على السّهمان؛ فهذه مناهجها العظمى. وبنوا مناهج دونها تحاذى هذه ثم تلاقيها، وأخر تتبعها، وهي دونها في الذّرع، والمحالّ من ورائها؛ وفيما بينها، وجعل هذه الطرقات من وراء الصحن، ونزل فيها الأعشار من أهل الأيّام والقوادس، وحمى لأهل الثغور والموصل أماكن حتى يوافوا إليها؛ فلما ردفتهم الروادف؛ البدء والثّناء، وكثروا عليهم، ضيّق الناس المحالّ فمن كانت رادفته كثيرة شخص إليهم وترك محلّته، ومن كانت رادفته قليلة أنزلوهم منازل من شخص إلى رافته لقلته إذا كانوا جيرانهم؛ وإلاّ وسعوا على روادفهم وضيّقوا على أنفسهم؛ فكان الصحن على حاله زمان عمر كله، لا تطمع في القبائل؛ ليس فيه إلا المسجد والقصر، والأسواق في غير بنيان ولا أعلام. وقال عمر: الأسواق على سنّة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له؛ حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه؛ وقد كانوا أعدّوا مناخا لكل رادف؛ فكان كلّ من يجئ سواء فيه - وذلك المناخ اليوم دور بنى البكّاء - حتى يأتوا بالهيّاج، فيقوم في أمرهم حتى يقطع لهم حيث أحبّوا. وقد بنى سعدفي الذين خطّوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، فشيّده، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته. ثم إنّ بيت المال نقب عليه نقبا، وأخذ من المال، وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدّار وبيوت المال من الصّحن مما يلي ودعة الدار. فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار، واجعل الدّار قبلته؛ فإنّ للمسجد أهلا بالنهار وبالليل؛ وفيهم حصن لما لهم، فنقل المسجد وأراغ بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان؛ يقال له روزيبه بن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبنى لك قصرا فأصلهما، ويكون بنيانا واحدا. فخطّ قصر الكوفة على ما خطّ عليه، ثم أنشأه من نقض آجرّ قصر كان للأكاسرة في ضواحى الحيرة على مساحته اليوم، ولم يسمح به، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر، يمنة على القبلة، ثم مدّ به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة علىّ بن أبي طالب عليه السلام، والرحبة قبلته، ثم مدّ به فكانت قبلة المسجد إلى الرّحبة وميمنة القصر، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغير مجنّبات؛ فلم يزل على ذلك حتى بنى أزمان
معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصّفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصّويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتّخذته حصنا ، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرّجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني.وية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصّفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصّويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتّخذته حصنا ، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرّجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطاء أبي محمد، مولى إسحاق بن طلحة، قال: كنت أجلس في المسجد الأعظم قبل أن يبنيه زياد؛ وليست له مجنّبات ولا مواخير، فأرى منه دير هند وباب الجسر.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبيّ، قال: كان الرجل يجلس في المسجد فيرى منه باب الجسر.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمر بن عيّاش، أخى أبي بكر بن عيّاش، عن أبي كثير، أن روزبه بن بزرجمهر بن ساسان كان همذانيّا، وكان على فرج من فروج الرّوم، فأدخل عليهم سلاحا، فأخافه الأكاسرة، فلحق بالرّوم، فلم يأمن حتى قدم سعد بن مالك، فبنى له القصر والمسجد. ثم كتب معه إلى عمر، وأخبره بحاله، فأسلم، وفرض له عمر وأعطاه، وصرفه إلى سعد مع أكريائه - والأكرياء يومئذ هو العباد - حتى إذا كان بالمكان الذي يقال له قبر العبادىّ مات، فحفروا له ثم انتظروا به من يمرّ بهم ممن يشهدونه موته، فمرّ قوم من الأعراب، وقد حفروا له على الطريق، فأروهموه ليبرءوا من دمه، وأشهدوهم ذلك، فقالوا: قبر العبادىّ - وقيل قبر العبادىّ لمكان الأكرياء - قال أبو كثير: فهو والله أبى، قال: فقلت: أفلا تخبر الناس بحاله! قال: لا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد وزياد، قالوا: ورجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد إلى عمر في تعديلهم، فكتب إليه: أن عدّ لهم، فأرسل إلى قوم من نسّاب العرب وذوى رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران ومشعلة ابن نعم، فعدّلوهم عن الأسباع، فجعلوهم أسباعا، فصارت كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم، وجديلة - وهم بنو عمرو بن قيس عيلان - سبعا، وصارت قضاعة - ومنهم يومئذ غسان بن شبام - وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت، والأزد سبعا، وصارت مذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم سبعا، وصارت تميم وسائر الرّباب وهوزان سبعا، وصارت أسد وغطفان ومحارب والنّمر وضبيعة وتغلب سبعا، وصارت إياد وعكّ وعبد القيس وأهل هجر والحمراء سبعا، فلم يزالوا بذلك زمان عمر وعثمان وعلىّ، وعامّة إمارة معاوية، حتى ربّعهم زياد.
إعادة تعريف الناسوعرّفوهم على مائة ألفة درهم، فكانت كل عرافة من القادسيّة خاصّة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة وخمسين من العيال؛ لهم مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من أهل الأيّام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، وكلّ عيّل على مائة، على مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من الرّادفة الأولى ستّين رجلا وستين امرأة وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمسمائة على مائة ألف درهم، ثم على هذا من الحساب.
وقال عطيّة بن الحارث: قد أدركت مائة عريف، وعلى مثل ذلك كان أهل البصرة، كان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرّايات، والرّايات على أيادى العرب، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم.
فتوح المدائن قبل الكوفةكتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: فتوح المدائن السّواد وحلوان وماسبذان وقرقيسياء؛ فكانت الثّغور ثغور الكوفة أربعة: حلوان عليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان عليها ضرار بن الخطاب الفهرىّ، وقرقيسياء عليها عمر بن مالك أو عمرو بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، والموصل عليها عبد الله بن المعتمّ، فكانوا بذلك، والناس مقيمون بالمدائن بعد ما تحوّل سعد إلى تمصير الكوفة، وانضمام هؤلاء النفر إلى الكوفة واستخلافهم على الثغور من يمسك بها ويقوم عليها؛ فكان خليفة القعقاع على حلوان قباذ بن عبد الله، وخليفة عبد الله على الموصل مسلم بن عبد الله، وخليفة ضرار رافع بن عبد الله، وخليفة عمر عشنّق بن عبد الله، وكتب إليهم عمر أن يستعينوا بمن احتاجوا إليه من الأساورة، ويرفعوا عنهم الجزاء، ففعلوا. فلما اختّطت الكوفة وأذن للناس بالبناء، نقل الناس أبوابهم من المدائن إلى الكوفة فعلّقوها على ما بنوا وأوطنوا الكوفة. وهذه ثغورهم، وليس في أيديهم من الرّيف إلا ذلك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن عامر، قال: كانت الكوفة وسوادها والفروج: حلوان، والموصل، وماسبذان وقرقيسياء. ثم وافقهم في الحديث عمرو بن الريان، عن موسى بن عيسى الهمدانىّ بمثل حديثهم، ونهاهم عمّا وراء ذلك، ولم يأذن لهم في الانسياح. وقالوا جميعا: ولى سعد بن مالك على الكوفة بعد ما اختّطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها، وعمالته ما بين الكوفة وحلوان والموصل وماسبذان وقرقيسياء إلى البصرة، ومات عتبة بن غزوان وهو على البصرة فظع بعمله، وسعد على الكوفة فولّى عمر أبا سبرة مكان عتبة بن غزوان، ثم عزل أبا سبرة عن البصرة، واستعمل المغيرة، ثم عزل المغيرة، واستعمل أبا موسى الأشعرىّ.
ذكر خبر حمصحين قصد من فيها من المسلمين صاحب الروم وفي هذه السنة قصدت الرّوم أبا عبيدة بن الجرّاح ومن معه من جند المسلمين بحمص لحربهم؛ فكان من أمرهم وأمر المسلمين ما ذكر أبو عبيدة؛ وهو فيما كتب به إلىّ السرىّ عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد - قالوا: أوّل ما أذن عمر للجند بالانسياج؛ أن الرّوم خرجوا، وقد تكاتبوا هم وأهل الجزيرة يريدون أبا عبيدة والمسلمين بحمص، فضّم أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكروا بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضّم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصّن إلى مجئ الغياث، فكان خالد يأمره أن يناجزهم، وكان سائرهم يأمرونه بأن يتحصّن ويكتب إلى عمر، فأطاعهم وعصى خالدا، وكتب إلى عمر يخبره بخروجهم عليه، وشغلهم أجناد أهل الشأم عنه، وقد كان عمر اتّخذ في كلّ مصر عل قدره خيولا من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس. فلمّا وقع الخبر لعمر كتب إلى سعد ابن مالك: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرّحهم من يومهم الذي يأتيك في كتابي إلى حمص؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدّم إليهم في الجدّ والحثّ.
وكتب أيضا إليه أن سرّح سهيل بن عديّ إلى الجزيرة في الجند وليأت الرقة فإنّ أهل الجزيرة. هم الذين استثاروا الرّوم على أهل حمص؛ وإن أهل قرقيسياء لهم سلف. وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، فإن أهل قرقيسياء لهم سلف، ثم لينفضا حرّان والرّهاء. وسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وسرّح عياضا؛ فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض بن غنم - وكان عياض من أهل العراق الذين خرجوا مع خالد بن الوليد ممدّين لأهل الشأم، وممّن انصرف أيام انصرف أهل العراق ممدّين لأهل القادسيّة، وكان يرافد أبا عبيدة - فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص؛ وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقة الجزيرة على الفراض وغير الفراض؛ وتوجّه كلّ أمير إلى الكورة التي أمّر عليها. فأتى الرّقة، وخرج عمر من المدينة مغيثا لأبى عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية. ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الرّوم على أهل حمص واستثاروهم وهم معهم مقيمون عن حديث من بالجزيرة منهم بأنّ الجنود قد ضربت من الكوفة، ولم يدروا: ألجزيرة يريدون أم حمص! فتفرّقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وخلّوا الرّوم. ورأى أبو عبيدة أمرا لما انفضّوا غير الأوّل، فاستشار خالدا في الخروج، فأمره بالخروج، ففتح الله عليهم. وقدم القعقاع بن عمرو في أهل الكوفة في ثلاث من يوم الوقعة، وقدم عمر فنزل الجابية، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم في ثلاث، وبالحكم في ذلك. فكتب إليهم أن أشركوهم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا! يكفون حوزتهم ويمدّون أهل الأمصار.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن الشعبىّ، قال: استمدّ أبو عبيدة عمر، وخرجت عليه الرّوم، وتابعهم النصارى فحصروه، فخرج وكتب إلى أهل الكوفة، فنفر إليهم في غداة أربعة آلاف على البغال يجنبون الخيل، فقدموا على أبى عبيدة في ثلاث بعد الوقعة، فكتب فيهم إلى عمر، وقد انتهى إلى الجابية، فكتب إليه: أن أشركهم، فإنهم قد نفروا إليكم، وتفرّق لهم عدوّكم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان لعمر أربعة آلاف فرس عدّة لكون إن كان، يشتّيها في قبلة قصر الكوفة وميسرته؛ ومن أجل ذلك يسمّى ذلك المكان الآرىّ إلى اليوم، ويربّعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة مما يلي العاقول، فسمّته الأعاجم آخر الشاهجان، يعنون معلف الأمراء، وكان قيّمه عليها سلمان ابن ربيعة الباهلىّ في نفر من أهل الكوفة، يصنّع سوابقها، ويجريها في كلّ عام، وبالبصرة نحو منها، وقيّمه عليها جزء بن معاوية، وفي كلّ مصر من الأمصار الثمانية على قدرها، فإن نابتهم نائبة ركب قوم وتقدّموا إلى أن يستعدّ الناس.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن حلاّم، عن شهر ابن مالك بنحو منه. فلما فرغوا رجعوا.
ذكر فتح الجزيرةوفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - افتتحت الجزيرة في رواية سيف. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من سبب فتحها ما حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عنه؛ أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إنّ الله قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمّر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة، أو عياض بن غنم. فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخّر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر القوم إلا أنه له فيه هوى أن أولّيه؛ وأنا موليه. فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعرى، وابنه عمر بن سعد - وهو غلام حدث السنّ ليس إليه من الأمر شئ - وعثمان بن أبى العاص بن بشر الثقفيّ، وذلك في سنة تسع عشرة. فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرّهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حرّان حين صالحت الرّهاء، فصالحه أهلها على الجزية. ثمّ بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين، ووجّه عمر بن سعد إلى رأس العين في خيل ردءا للمسلمين، وسار بنفسه في بقيّة الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنة تسع عشرة. ثمّ وجه عثمان بن أبى العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شئ من قتال؛ أصيب فيه صفوان بن المعطّل السّلمى شهيدا. ثمّ صالح أهلها عثمان بن أبى العاص على الجزية، على كلّ أهل بيت دينار. ثم كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل.
وأما في رواية سيف؛ فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلى السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد؛ قالوا: خرج عياض بن غنم في أثر القعقاع، وخرج القوّاد - يعنى حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبى عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص - فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها، فسلك سهيل بن عديّ وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرّقة، وقد ارفضّ أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه؛ وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشأم؛ فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة؛ فرأى أن يقبل منهم؛ فبايعوه وقبل منهم؛ وكان الذي عقد لهم سهيل بن عديّ عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذّمة، وخرج الوليد بن عقبة حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلاّ إياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقلّيّتهم، فاقتحموا أرض الرّوم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بن الخطاب. ولما أعطى أهل الرّقة ونصيبين الطاعة ضمّ عياض سهيلا وعبد الله إليه فسار بالناس إلى حرّان، فأخذ ما دونها. فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذّمة. ثم إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرّهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم؛ فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بن غنم:
من مبلغ الأقوام أنّ جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفّسوا ... عمّن بحمص غيابة القدّام
إنّ الأعزّة والأكارم معشر ... فضّوا الجزيرة عن فراخ الهام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... عن غزو من يأوى بلاد الشام
ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمدّ عياض بن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مدداً، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض بن غنم إذ ضمّ خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما.
قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم: إنه بلغني أن حيّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك؛ فو الله لتخرجنّه أو لننبذنّ إلى النصارى؛ ثم لنخرجنّهم إليك. فأخرجهم ملك الرّوم، فخرجوا فتمّ منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبى عدىّ بن زياد، وخنس بقيّتهم، فتفرّقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم؛ فكلّ إيادىّ في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف؛ وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من بنى تغلب إلاّ الإسلام؛ فقالوا له: أمّا من نقّب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأمّا من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلاّ الإسلام، فدعهم على ألاّ ينصّروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا. فقبل منهم على ألاّ ينصّروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلى الجزاء، فرضى منهم بما رضى من العباد وتنوخ.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن أبي سيف التّغلبيّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد وفدهم على ألاّ ينصّروا وليدا، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفّدهم، ولم يكن على غيرهم، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم: لا تنفّروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزاء على ألاّ ينصّروا مولودا إذا أسلم آباؤهم. فخرج وفدهم في ذلك إلى عمر؛ فلما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديّانيهم، قال لهم عمر: أدّوا الجزية، فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلنّ أرض الرّوم، والله لتفضحنا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمّتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، وتالله لتؤدّنّه وأنتم صغرة قمأة، ولئن هربت إلى الرّوم لأكتبنّ فيكم، ثمّ لأسبينّكم. قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسمّه جزاء، فقال: أمّا نحن فنسمّيه جزاء، وسمّوه أنتم ما شئتم. فقال له علىّ بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه، فرضى به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك، وكان في بنى تغلب عزّ وامتناع، ولا يزالون ينازعون الوليد، فهمّ بهم الوليد، وقال في ذلك:
إذا ما عصبت الرأس منّى بمشوذ ... فغيّك منّى تغلب ابنة وائل
وبلغت عنه عمر، فخاف أن يحرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمّر عليهم فرات بن حيّان وهند بن عمرو الجملىّ، وخرج الوليد واستودع إبلا له حريث بن النعمان، أحد بنى كنانة بن تيم من بنى تغلب، وكانت مائة من الإبل فاختانها بعد ما خرج الوليد.
خروج عمر بن الخطاب إلى الشاموفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - خرج عمر من المدينة يريد الشام حتى بلغ سرغ، في قول ابن إسحاق، حدثنا بذلك ابن حميد عن سلمة عنه، وفي قول الواقدىّ.
ذكر الخبر عن خروجه إليها حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: خرج عمر إلى الشأم غازيا في سنة سبع عشرة؛ حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فرجع بالناس إلى المدينة.
وقد كان عمر - كما حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزّهري، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، نعبد الله ابن عباس - خرج غازيا، وخرج معه المهاجرون والأنصار. وأوعب الناس معه، حتى إذا نزل بسرغ، لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة ابن الجرّاح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة؛ فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فقال عمر: اجمع إلىّ المهاجرين الأولين، قال: فجمعنهم له، فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدّك عن بلاء عرض لك. ومنهم القائل: إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه؛ فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الأنصار، فجمعتهم له، فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين، فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش،فجمعتهم له، فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان، وقالوا: ارجع بالناس، فإنه بلاء وفناء. قال: فقال لي عمر: يابن عباس، اصرخ في الناس فقل: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم أني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه قال: فأصبح عمر على ظهر، وأصبح الناس عليه، فلما اجتمعوا عليه قال: أيّها الناس؛ إني راجع فارجعوا، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله! قال: نعم فرارا من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله! ثم قال: لو غيرك يقول هذا يا أبو عبيدة! ثم خلا به بناحية دون الناس؛ فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف - وكان مخلّفا عن الناس لم يشهدهم بالأمس - فقال: ما شأن الناس؟ فأخبر الخبر، فقال: عندي من هذا علم، فقال عمر: فأنت عندنا الأمين المصدّق، فماذا عندك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه " ؛ ولا يخرجنّكم إلاّ ذلك، فقال عمر: فلله الحمد! انصرفوا أيها الناس، فانصرف بهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهرىّ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أنهما حدّثاه أنّ عمر إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف؛ فلما رجع عمّال الأجناد إلى أعمالهم.
وأما سيف، فإنه روى في ذلك ما كتب به إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى حارثة وأبى عثمان والربيع، قالوا: وقع الطاعون ومصر والعراق، واستقرّ بالشام، ومات فيه الناس الذين هم في كلّ الأمصار في المحرّم وصفر، وارتفع عن الناس وكتبوا بذلك إلى عمر ما خلا الشام، فخرج حتى إذا كان منها قريبا بلغه أنه أشدّ ما كان، فقال وقال الصحابة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان بأرض وباء فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها " ، فرجع حتى ارتفع عنها؛ وكتبوا بذلك إليه وبما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، فاستشارهم في البلدان، فقال: إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علىّ - وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة من إمارة عمر أسلم - فقال كعب: بأيّها تريد أن تبدأ يا أمير المؤمنين؟ قال: بالعراق، قال: فلا تفعل؛ فإن الشرّ عشرة أجزاء والخير عشرة أجزاء، فجزء من الخير بالمشرق وتسعة بالمغرب، وإنّ جزءا من الشرّ بالمغرب وتسعة بالمشرق، وبها قرن الشيطان، وكلّ داء عضال.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد، عن الأصبغ، عن علىّ، قال: قام إليه علىّ، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبّه الإسلام، وليأتينّ عليها يوم لا يبقى مؤمن إلاّ أتاها وحنّ إليها؛ والله لينصرنّ بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن المطرّح، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال: وقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ إنّ المغرب أرض الشرّ، وأن الشرّ قسم مائة جزء؛ فجزء في الناس وسائر الأجزاء بها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى يحيى التميميّ، عن أبي ماجد، قال: قال عمر: الكوفة رمح الله، وقبّة الإسلام، وجمجمة العرب، يكفون ثغورهم، ويمدّون الأمصار، فقد ضاعت مواريث أهل عمواس، فأبدأ بها.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى عثمان وأبى حارثة والربيع بن النعمان، قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشأم؛ أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمّ أرجع فأتقلّب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري. فأتى عمر الشام أربع مرّات، مرّتين في سنة ست عشرة، ومرّتين في سنة سبع عشرة، لم يدخلها في الأولى من الآخرتين.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن بكر بن وائل، عن محمد بن مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قسّم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في التّرك وجزء في سائر الناس، وقسّم البخل عشرة أجزاء، فتسعة في فارس، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان، وجزء في سائر الناس، وقسّم الشّبق عشرة أجزاء، فتسعة في الهند، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في النساء، وجزء في سائر الناس، قسّم الحسد عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الرّوم وجزء في سائر الناس.
واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أيّ سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة؛ ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفى أبو عبيدة ابن الجرح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس..وحدّثني أحمد بن ثابت الرازيّ، قال: حدّثنا عن إسحاق بن عيسى، عن أبى معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة.
حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شعبة بن الحجاج، عن المخارق بن عبد الله البجليّ، عن طارق بن شهاب البجليّ، قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدّث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفّوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزّهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء؛ سأخبركم بما يكره مما يتّقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظنّ من أقام فأصابه ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظنّ هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزّه عنه؛ إني كنت مع أبى عبيدة بن الجرّاح بالشأم عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ ذلك عمر، كتب إلى أبى عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أمّا بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألاّ تضعه من يدك حتى تقبل إلىّ. قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثمّ كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلىّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضى الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه؛ فحلّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد. قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة. فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إنّ كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج صاحبتى قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث، فقال: لعلّ وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت. ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء.
حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب الأشعريّ، عن رابة - رجل من قومه، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس - قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال: أيّها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وموت الصالحين قبلكم، وإنّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له من حظّه. فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل. قال: فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات. ثمّ قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته؛ فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبّ أنّ لي بما فيك شيئا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبّلوا منه في الجبال. فقال أبو وائلة الهذليّ: كذبت؛ والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت شرّ من حماري هذا! قال: والله ما أردّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه.
حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن أبى قلابة عبد الله بن زيد الجرمىّ، أنه كان يقول: بلغني هذا من قول أبى عبيدة وقول معاذ بن جبل: إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم؛ فكنت أقول: كيف دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته، حتى حدّثني بعض من لا أتّهم عن رسول الله أنّه سمعه منه، وجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن فناء أمتك يكون بالطعن أو الطاعون؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهمّ فناء الطاعون! فعرفت أنها التي كان قال أبو عبيدة ومعاذ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبى عبيدة ويزيد بن أبى سفيان، أمّر معاوية ابن أبى سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها.
وأما سيف، فإنه زعم أن طاعون عمواس كان في سنة سبع عشرة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى عثمان وأبى حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون يعنون طاعون عمواس موتانا لم ير مثله طمع له العدوّ في المسلمين، وتخوّفت له قلوب المسلمينّ كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلّم في ذلك الناس.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبى سعيد، قال: أصاب البصرة من ذلك موت ذريع، فأمر رجل من بنى تميم غلاما له أعجميّا أن يحمل ابنا له صغيرا ليس له ولد غيره على حمار، ثم يسوق به إلى سفوان، حتى يلحقه. فخرج في آخر الليل ثم اتّبعه، وقد أشرف على سفوان، ودنا من ابنه وغلامه، فرفع الغلام عقيرته يقول:
لن يعجزوا الله على حمار ... ولا على ذي غرّة مطار
قد يصبح الموت أمام السارى فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال: ما أدرى، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها.
قال: وعزم رجل على الخروج إلى أرض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا غلام له أعجميّ يحدو به:
يا أيّها المشعر همّا لا تهمّ ... إنّك إن تكتب لك الحمّى تحمّ
وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - كان خروج عمر إلى الشأم الخرجة الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك قي قول سيف؛ وأما ابن إسحاق فقد مضى ذكره.
ذكر الخبر عن سيف في ذلك والخبر عمّا ذكره عن عمر في خرجته تلك أنه أحدث في مصالح المسلمين:
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى عثمان وأبى حارثة والرّبيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليّا في المدينة، وخرج معه الصحابة وأغذّوا السير واتّخذ أيلة طريقا؛ حتى إذا دنى منها تنحّى عن الطريق، واتّبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فروة مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه أوائل الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم - يعنى نفسه - وذهبوا هم إلى أمامهم، فجاوزه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها وقيل للمتلقّين: دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن الخطاب أيلة، ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصا له كرابيس قد انجاب مؤخّره عن قعدته من طول السير إلى الأسقفّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فانطلق الأسقفّ بالقميص، ورقعه، وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر، فقال: ما هذا؟ قال الأسقفّ: أمّا هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك منّي. فنظر إليه عمر ومسحه، ثم لبس قميصه، وردّ عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما العرق.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة وهلال، عن رافع بن عمر، قال: سمعت العباس بالجابية يقول لعمر: أربع من عمل بهنّ استوجب العدل: الأمانة في المال، والتسوية في القسم، والوفاء بالعدة، والخروج من العيوب؛ نظّف نفسك وأهلك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان والربيع وأبي حارثة بإسنادهم، قالوا: قسم عمر الأرزاق، وسمّى الشواتي والصوائف، وسدّ فروج الشأم ومسالحها، وأخذ يدور بها، وسمّى ذلك في كلّ كورة، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كلّ كورة، وعزل شرحبيل، واستعمل معاوية، وأمّر أبا عبيدة وخالدا تحته، فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحبّ ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل. وأمّر عمرو بن عبسة على الأهراء، وسمى كلّ شئ، ثم قام في الناس بالوداع.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة وأبي عمرو، عن المستورد، عن عديّ بن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه وأموره قسم المواريث، فورّث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء من ورثة كلّ امرئ منهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبيّ: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة، فقال المهاجر بن خالد بن الوليد:
من يسكن الشأم يعرّس به ... والشأم إن لم يفننا كارب
أفنى بنى ريطة فرسانهم ... عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بنى أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا أعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم ... ذلك ما خطّ لنا الكاتب
قال: وقفل عمر من الشأم إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد القفول، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا أني قد ولّيت عليكم وقضيت الذي عليّ في الذي ولاّني الله من أمركم، إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجنّدنا لكم الجنود، وهيّأنا لكم الفروج، وبوّأناكم ووسّعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شأمكم، وسمّينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم فمن علم شئ ينبغي العمل به فبلّغنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله. وحضرت الصلاة، وقال الناس: لو أمرت بلالاً فأذّن! فأره فأذّن، فما بقي أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذّن له إلاّ بكى حتى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكره صلى الله عليه وسلم.
ذكر خبر عزل خالد بن الوليد كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى عثمان وأبى حارثة، قالا: فمازال خالد على قنّسرين حتى غزا غوته التي أصاب فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أنّ خالدا دخل الحمام، فتدلّك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر؛ فكتب إليه: بلغني أنك تدلّكت بخمر؛ وإنّ الله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرّم مسّ الخمر إلاّ أن تغسل كما حرّم شربها، فلا تمسّوها أجسادها فإنّها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّي أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه! فانتهى إليه ذلك.
وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه.
ذكر من قال ذلك:كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى عثمان وأبى حارثة والمهلّب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يديه على قنّسرين، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى الأردنّ معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزّز، وعلى الأهراء عمرو بن عبسة، وعلى السواحل عبد الله بن قيس، وعلى كلّ عمل عامل. فقامت مسالح الشأم ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمّة إلى أخرى عملها بعد؛ إلاّ أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدّموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى المجالد وأبى عثمان والربيع وأبى حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصّائبة انتجعه رجال، فانتجع خالد رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بن قيس ممّن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف. وكان عمر لا يخفى عليه شئ في علمه، كتب إليه من العراق بخروج من خرج، ومن الشأم بجائزة من أجيز فيها - فدعا البريد، وكتب معه إلى أبى عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلونسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث؛ أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. وأعزله على كلّ حال، وأضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قالوا: وأقام خالد متحيّرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالإقبال، فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم! فقال أبو عبيدة: إنّي والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بداّ، وقد علمت أن ذلك يروعك. قال: فرجع خالد إلى قنّسرين، فخطب أهل علمه وودّعهم وتحمّل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثمّ خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين؛ وبالله أنّك في أمري غير مجمل يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثّراء؟ قال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد عن الستين ألفا فهو لك ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوّم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علىّ لكريم، وإنك إليّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شئ.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المستورد، عن أبيه، عن عدىّ بن سهيل، قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ الناس فتنوا به، فخفت أن يوكّلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثّلا:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ... وما يصنع الأقوام فالله يصنع
فأغرمه شيئا، ثمّ عوّضه، وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصّرهم.
ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعة فيه وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - اعتمر عمر، وبنى المسجد الحرام - فيما زعم الواقديّ - ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
قال: وكان ذلك الشهر الذي اعتمر فيه رجب، وخلّف على المدينة زيد بن ثابت.
قال الواقدىّ: وفي عمرته هذه أمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزّى وسعيد بن يربوع.
قال: وحدّثني كثير بن عبد الله المزنىّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قدمنا مع عمر مكة في عمرته سنة سبع عشرة، فمرّ بالطريق فكلّمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم، وشرط عليهم أنّ ابن السبيل أحقّ الظلّ والماء.
قال: وفيها تزوّج عمر بن الخطاب أمّ كلثوم ابنة علىّ بن أبى طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
ذكر خبر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبى موسى قال: وفي هذه السنة ولىّ عمر أبا موسى البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة في ربيع الأول - فشهد عليه - فيما حدّثني معمر، عن الزهرىّ، عن ابن المسيّب - أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلىّ، ونافع بن كلدة، وزياد.
قال: وحدّثني محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى أمّ جميل، امرأة من بنى هلال؛ وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجّاج بن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرّصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها. فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشرّ، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قصّ عليه القصّة، فبعث عمر أبا موسى الأشعريّ عاملا، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبى موصى عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الواقدىّ: وحدّثني عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوّج امرأة من بنى مرّة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشّبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة. فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بنى هلال.
قال أبو جعفر: وكان سبب ما كان بين أبى بكرة والشهادة عليه - فيما كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة أنّ المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكر ينافره عند كلّ ما يكون منه، وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدّثون في مشربته، فهبّت ريح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته، وهو بين رجلى امرأة، فقال: للنّفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال أمّ جميل ابنة الأفقم - وكانت أمّ جميل إحدى بنى عامر بن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف - وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها - فقالوا: إنما رأينا أعجازا، ولا ندرى ما الوجه؟ ثم إنهم صمّموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصلّ بنا. فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إلى أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، إني مستعملك؛ إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرّخ، فالزم ما تعرف؛ ولا تستبدل فيستبدل الله بك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعنّى بعدّة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلاّ به، فاستعن بمن أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلاً؛ منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر. ثمّ خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائراً، ولا تاجراً، ولكنّه جاء أميراً. فإنهم لفي ذلك، إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أو موسى كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس؛ أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحثّ، وأمّر: أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميراً، فسلّم إليه ما في يدك، والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أمّا بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميراً عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويّكم، وليقاتل بكم عدوّكم، وليدفع عن ذمّتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقّى لكم طرقكم.
وأهدى له المغيرة وليدة من مولّدات الطائف تدعى عقيلة، وقال: إني قد رضيتها لك - وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلىّ حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؛ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر، أو مستدبرىّ فبأيّ شئ استحلّوا النظر إلىّ في منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلاّ امرأتي - وكانت شبهها - فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أمّ جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: فكيف استثبتّ رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدرتهما أو استقبلتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم؛ قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزاناً شديداً. قال: هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبّهها، قال: فتنحّ، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ وقرأ: " فإذ لم يأتوا بالشّهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، فقال: اسكت أسكت الله نأمتك! أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
فتح سوق الأهواز ومناذر ونهر تيريوفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ستّ عشرة من الهجرة.
ذكر الخبر عن
سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى
كتب إليّ السريّ، يذكر أن شعيبا حدّثه عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمتّه مهرجان قذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسيّة كان وجهه إلى أمّته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهرتيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان سعدا، فأمدّه سعد بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا على ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى. ووجّه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة - وكانا من المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة - فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائليّ وكليب بن وائل الكلبيّ، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك؛ فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإنّ أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى؛ فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك.
قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صديّ بن مالك:
لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ... وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ... ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا " ؛ وقال يربوع بن مالك:
لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ... غداة التّباهى غرّ ذاك التّبادر
تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ... بحيّ تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ... لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر
إذ العرب العلياء جاشت بحورها ... فخرنا على كلّ البحور الزواخر
وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ... وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ... وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا
فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيماً ونعيماً فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيّان - فيما بين الدّلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التّمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلاّ ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فيناكثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها.
كتب إليّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالباً وكليباً محقّين والهرمزان مبطلاً، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشّغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ... فلاقوا كبّة فيها قبوع
وولّى الهرمزان على جواد ... سريع الشّدّ يثفنه الجميع
وخلّى سرّة الأهواز كرها ... غداة الجسر إذ نجم الرّبيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ... لها في كلّ ناحية ذخائر
سواء برّهم والبحر فيها ... إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعجّ بجانبيه ... جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستروفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعنى سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشّغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشّغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلاّل فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلاّ بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه.فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلاّ على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك.
ثم إن حرقوصا تحرّر يوم صفّين وبقى على ذلك، وشهد النّهروان مع الحروريّة.
غزو المسلمين فارس من قبل البحرينوفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه.
ذكر الخبر بذلك كتب إلىّ السرىّ، يقول: حدّثنا شعيب، قال: حدّثنا سيف، عن محمد والمهلّب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها - وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز عل ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدّون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمّة والمنعة - وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أنّ بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أنّ بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم.
وكان العلاء بن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة وردّ العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردّة بالفضل؛ فلما ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة عن الدّار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سرّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدّر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردّة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا؛ على أحدهما الجارود بن المعلىّ، وعلى الآخر السوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى؛ وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا؛ يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر، لم يغز فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين بين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم؛ وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السّوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول:
يا آل عبد القيس للقراع ... قد حفل الأمداد بالجراع
وكلّهم في سنن المصاع ... يحسن ضرب القوم بالقطّاع
حتى قتل. وجعل الجارود يرتجز ويقول:
لو كان شيئا أمما أكلته ... أو كان ماء سادما جهرته
لكنّ بحرا جاءنا أنكرته حتى قتل. ويومئذ ولى عبد الله بن السّوار والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول:
يال تميم أجمعوا النّزول ... وكاد جيش عمر يزول
وكلكم يعلم ما أقول
انزلوا، فنزلوا. فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها. ثمّ خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثمّ لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا. ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق؛ فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم. ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إله يعزله وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه؛ بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إنّ العلاء بن الحضرمىّ حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إلاّ ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية؛ فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمّة، وهم ردء للغازي والمقيم. فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له؛ حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبّ وقعة القوم بطاوس، وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذّاذ من غيرهم؛ وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم؛ استصرخوا عليهم أهل فارس كلّهم؛ فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك؛ فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا - وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة؛ وكانوا أفضل نوابت الأمصار؛ فكانوا أفضل المصرين نابتة - ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحثّ وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرّق الذين تنقّذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقّذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس؛ استأذن عمر في الحجّ، فأذن له، فلمّا قضى حجّه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنّ إلى عمله؛ فدعا الله ثم انصرف؛ فمات في بطن نخلة، فدفن؛ وبلغ عمر، فمرّ به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم؛ وأثنى عليه بفضله، ولم يختطّ فيمن اختطّ من المهاجرين؛ وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خبّاب مولاه قد لزم سمته فلم يختطّ، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم، وعمّاله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الأهواز وسرّق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجان قذق؛ وذلك بعد تنقّذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة.
وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة. وأقرّ عمر أبا سبرة ابن أبي رهم على البصرة بقيّة السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقيّة تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله؛ وكان مرزوقا السلامة؛ ولم يحدث شيئا إلاّ ما كان بينه وبين أبي بكرة.
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثمّ استعمل عمر بن سراقة، ثمّ صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة؛ فعمل عليها ثانية.
ذكر فتح رامهرمز وتستروفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - كان فتح رامهرمز والسوس وتستر. وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف.
ذكر الخبر عن فتح ذلك في روايته
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم؛ فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكّرهم الأحقاد ويؤنّبهم؛ أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد ما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى تورّدوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحرّكوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النّصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب؛ فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث سويد بن مقرّن، وعبد الله بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميريّ، وجرير بن عبد الله البجلىّ؛ فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبيّنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمّر عليهم سهل بن عدىّ - أخا سهيل ابن عدىّ - وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن ابن سهيل، والحصين بن معبد؛ وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة ابن أبي رهم؛ وكلّ من أتاه فمدد له.
وخرج النّعمان بن مقرّن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البرّ إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلّف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثمّ سار نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشّدّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبى موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكّب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أنّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمدّه أبو سبرة فأمدّهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدّة من أهل البصرة. وفي الكوفيين مثل ذلك؛ منهم حبيب بن قرّة، وربعىّ بن عامر، وعامر بن عبد الأسود - وكان من الرؤساء - في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم؛ يكون عليهم مرّة ولهم أخرى؛ حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتدّ القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربّك ليهزمنّهم لنا! فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النّعمان رجل فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبى موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء؛ فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بن عبد قيس، وكعب بن سور، ومجزأة بن ثور، وحسكة الحبطىّ، وبشر كثير؛ فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرّجل، فانتدب له سويد بن المثعبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمىّ، ونافع ابن زيد الحميرىّ، وعبد الله بن بشر الهلالىّ، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد الله بن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا اجتمعوا فيها - والناس على رجل من خارج - كبّروا فيها، وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب؛ فاجتلدوا فيها، فأناموا كلّ مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطالف به الذين دخلوا من مخرج الماء؛ فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم! قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشّابة؛ ووالله ما تصلون إلىّ ما دام معي منها نشّابة؛ وما يقع لي سهم؛ وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدّوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم؛ فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا؛ ودعا صاحب الرميّة بها، فجاء هو والرّجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا؛ علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم. فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفلّ من تستر - وقد قصدوا للسّوس - إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان؛ حتى اشتملوا على السّوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب عمر إلى عمر بن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبى موسى فردّه على البصرة، وقد ردّ أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، وردّ عمر عليها مرتين؛ وكتب إلى زرّ بن عبد الله بن كليب الفقيمىّ أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمّر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بن ربيعة أحد بنى ربيعة بن مالك، وكان الأسود وزرّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين - وكان الأسود قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: اللهمّ أوف لزرّ عمره، فتحوّل إليهم العدد - وأوفدوا أبو سبرة وفدا؛ فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة؛ حتى إذا دخلوا هيّئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الدّيباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته، كما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدّدكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه - وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسّده فنام - فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدّرّة في يده معلّقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا؛ وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه؛ وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيّا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء؛ وكثر الناس؛ فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمّله، وتأمّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين الله! وقال: الحمد لله الذي أذّل بالإسلام هذا وأشياعه؛ يا معشر المسلمين، تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غرّارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شئ، فرمى عنه بكلّ شئ عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه يوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنا وإيّاكم في الجاهليّة كان الله قد خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهليّة باجتماعكم وتفرّقنا. ثم قال عمر: ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمّن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتينّ بمخرج أو لأعاقبنّك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم؛ فأسلم. ففرض له على ألفين؛ وأنزله المدينة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان طلحة ابن عبد الرحمن، عن ابن عيسى، قال: كان التّرجمان يوم الهرمزان المغيرة بن شعبة إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسيّة، فقال عمر للمغيرة: قل له: من أيّ أرض أنت؟ فقال المغيرة: أزكدام أرضي؟ فقال: مهرجانىّ، فقال: تكلم بحجّتك، قال: كلام حتى أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد آمنتني، قال: خدعتني، إنّ للمخدوع في الحرب حكمه؛ لا والله لا أؤمّنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. وقال المغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خبّ، وما خبّ إلا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد فكلّمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو، عن الشعبىّ وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلاّ وفاء حسن ملكة، قال: فيكف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلاّ ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم؛ وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم؛ ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه؛ وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شئ إلاّ بانبعاثهم، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعزّ أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا. فقال: صدقتنى والله، وشرحت لي الأمر عن حقه. ونظر في حوائجهم وسرّحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجا نقذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح.
ذكر فتح السّوس
اختلف أهل السّير في أمرها؛ فأمّا المدائني فإنه - فيما حدثني عن أبو زيد - قال: لما انتهى فلّ جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصّته والموبذ، فقال: إنّ القوم لا يلقون جمعا إلاّ فلّوه، فما ترون؟ فقال: الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر؛ فإنها بيت المملكة، وتضمّ إليك خزائنك، وتوجّه الجنود. فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان دعا سياه، فوجّهه في ثلاثمائة، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كلّ بلدة ويمرّ بها من أحبّ، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السّوس، فوجّه سياه إلى السّوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانيّة، وبلغ أهل السّوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانيّة، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحوّل سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمّار بن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان؛ فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدّث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلاّ فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلاّ فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنّا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب؛ وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك. فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى موسى: أعطهم ما سألوك. فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر؛ فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدّين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حّسر. فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شئ أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين، وخمسمائة لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشهرويه، وأفروذين.
فقال الشاعر:
ولمّا رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسنّ لهم ألفين فرضا وقد رأى ... ثلاثمئين فرض عكّ وحميرا
قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسلّ سياه في آخر الليل في زيّ العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، وتضح ثيابه بالدّم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمضى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلّمه، فرماه خسرو بنشّابة فقتله.
وأما سيف فإنه قال في روايته ما كتب به إلىّ السرىّ، عن شعيب، عنه، عن محمد وطلحة وعمرو ودثار أبى عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السّوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرّات؛ كلّ ذلك يصيب أهل السّوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرّهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا؛ أنه لا يفتح السّوس إلاّ الدّجال أو قوم فيهم الدّجال، فإن كان الدّجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا. وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمّل على أهل البصرة المقترب مكان أبى موسى بالسّوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبى سبرة، وزرّ محاصر أهل نهاوند من وجهه ذلك؛ وضرب على أهل الكوفة البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند؛ وأقبل النّعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثمّ استقلّ في نفسه، فناوشهم قبل مضيّه، فعاد الرّهبان والقسّيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقاولوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلاّ الدّجال أو قوم معهم الدّجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بن صيّاد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق؛ ولمّا يخرج أبو موسى بعد. وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقّه برجله، وقال انفتح فطار فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصّلح الصلح! وأمسكوا بأيديهم، فأجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح؛ ثم افترقوا. فخرج النّعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرّح أبو سبرة المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زرّ، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عمّن أورد فتح السّوس، قال: وقيل لأبى سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: ومالنا بذلك! فأقرّه بأيديهم - قال عطيّة بإسناده: إنّ دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصّر؛ فلمّا حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام؛ أكرم كتاب الله عمّن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربّه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضنّ به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا؛ وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشدّ من غضبه الأوّل، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة، فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الأرض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت. ومات دانيال بالسّوس؛ فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقرّوه في أيديهم، حتى إذا ولّى أبو سبرة عنهم إلى جندى سابور أقام أبو موسى بالسّوس. وكتب إلى عمر فيه؛ فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفّنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا، فكتب إليه أن تختّمه، وفي فصّه نقش رجل بين أسدين.
ذكر مصالحة المسلمين أهل جندى سابوروفيها - أعنى سنة سبع عشرة - كانت مصالحة المسلمين أهل جندى سابور.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمرهاكتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبى عمرو وأبى سفيان والمهلّب، قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السّوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزرّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم؛ فأقاموا عليها يغادنهم ويراوحونهم القتال؛ فما زالوا مقيمين عليها حتى رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجأ المسلمين إلاّ وأبوابها تفتح، ثمّ خرج السّرح، وخرجت الأسواق، وانبثّ أهلها، فأرسل المسلمون: أن مالكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمتعونا. فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم؛ فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها؛ هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدّل؛ فإن شئتم فاغذروا. فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إنّ الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شكّ أجيزوهم، وفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياج سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرّق الأمراء والجنود، وأمّر على أهل البصرة أمراء؛ وأمّر على أهل الكوفة أمراء، وأمّر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشرة، فساحوا في سنة ثمان عشرة، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة؛ فيكون هنالك حتى يحدّث إليه؛ وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدىّ حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشيرخرّه وسابور إلى مجاشع بن مسعود السّلمى، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفيّ، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكنانيّ، ولواء كرمان مع سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان إلى عاصم ابن عمرو - وكان عاصم من الصحابة - ولواء مكران إلى الحكم بن عمير الغلبيّ. فخرجوا في سنة سبع عشرة، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدّهم عمر بأهل الكوفة؛ فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة ابن النّضر، وبعبد الله بن أبي عقيل، وبربعىّ بن عامر، وبابن أمّ غزال. وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعيّ، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق المازنيّ. قال بعضهم: كان فتح السّوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنة عشرين.
وحجّ بالناس في هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - عمر بن الخطاب؛ وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعريّ - وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي ردّ فيه إليها أميرا. وعلى القضاء - فيما قيل - أبو مريم الحنفيّ. وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعنى سنة ثمان عشرة - أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط؛ وذلك هو العام الذي يسمّى عام الرّمادة.ذكر القحط وعام الرمادة حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرّمادة وطاعون عمواس، فتفانى فيها الناس.
وحدّثني أحمد بن ثابت الرازيّ، قال: حدّثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت الرّمادة سنة ثمان عشرة. قال: وكان في ذلك العام طاعون عمواس.
كتب إلىّ السرىّ يقول، حدّثنا شعيب، عن سيف، عن الرّبيع وأبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إنّ نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم فتأوّلوا، وقالوا: خيّرنا فاخترنا، قال: " فهل أنتم منتهون " ! ولم يعزم علينا. فكتب إلى عمر: فذلك بيننا وبينهم، " فهل أنتم منتهون " ؛ يعنى فانتهوا. وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة، ويضمّنوا الفسق من تأوّل عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. فكتب عمر إلى أبى عبيدة أن ادعهم؛ فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحدّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثنّ فيكم يا أهل الشام حادث؛ فحدثت الرّمادة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبىّ بمثله.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: لما قدم على عمر كتاب أبى عبيدة في ضرار و أبى جندل، كتب إلى أبى عبيدة في ذلك، و أمره أن يدعو بهم على رءوس الناس فيسألهم: أحرام الخمر أم حلال ؟ فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، و استتبهم، و إن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فدعّا بهم فسألهم، فقالوا: بل حرام، فجلدهم، فاستحيوا فلزموا البيوت. ووسوس أبو جندل، فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس، إلاّ أن يأتيه الله على يديك بفرج، فاكتب إليه و ذكّره، فكتب غليه عمر و ذكّره، فكتب إليه: من عمر إلى أبى جندل " إنّ الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، فتب و ارفع رأسك، و ابرز ولا تقنط، فأنّ الله عزّ و جلّ، يقول: " يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرّحيم " . فلما قرأه عليه أبو عبيدة تطلّق و أسفر عنه. و كتب إلى الآخرين بمثل ذلك فبرزوا، و كتب إلى الناس: عليكم أنفسكم، و من استوجب التّغيير فغيّروا عليه، ولا تعيّروا أحدا فيفشو فيكم البلاء.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء نحوا منه، إلاّ أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا يعيّروهم، و قال: قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فأن قضى الله لنا الشهادة فذلك، و إلاّ عمدت للذي يريد. فاستشهد ضرار بن الأزور في قوم، و بقى الآخرون فحدّوا. و قال أبو الزّهراء القشيرىّ في ذلك:
ألم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى ... و ليس على صرف المنون بقادر
صبرت و لم أجزع و قد مات إخوتي ... و لست عن الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلاّنها يبكون حول المعاصر
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الرّبيع بن النعمان و أبى المجالد جراد بن عمرو و أبى عثمان يزيد بن أسيد الغسّانىّ، و أبى حارثة محرز العبشمىّ بإسنادهم، و محمد بن عبد الله، عن كريب، قالوا: أصابت الناس في إمارة عمر رضى الله عنه سنة بالمدينة و ما حولها، فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمّى ذلك العام عام الرّمادة، فآلى عمر ألاّ يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أوّل الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أوّل الحيا، فقدمت السوق عكّة من سمن و طب من لبن؛ فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبرّ الله يمينك، و عظّم أجرك، قدم السوق و طب من لبن و عكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر أغليت بهما، فتصدّق بهما، فإنّى أكره أن آكل إسرافا. و قال عمر: كيف يعنيني شأن الرعّية إذا لم يمسسنى ما مسّهم! كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف السّلمىّ ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت في آخر سنة سبع عشر و أول سنة ثمان عشر، و كانت الرّمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتّى جعلت الوحش تأوى إلى الأنس، و حتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، و إنّه لمقفر.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن عبد الرحمن بن كعب، قال: كان الناس بذلك و عمر كالمحصورة عن أهل الأمصار؛ حتى أقبل بلال بن الحارث المزنىّ، فاستأذن عليه، فقال: أنا رسول رسول الله إليك؛ يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عهدتك كيّسا، و ما زلت على رجل؛ فما شأنك! فقال متى رأيت هذا ؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة! فصلّى بهم ركعتين؛ ثم قام فقال: أيّها الناس، أنشدكم الله، هل تعلمون منىّ أمرا غيره خير منه؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإنّ بلال بن الحارث يزعم ذيّة وذيّة؛ فقالوا: صدق بلال، فاستغث بالله وبالمسلمين، فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر! بلغ البلاء مدتّه فانكشف؛ ما أذن لقوم في الطلب إلاّ وقد رفع عنهم البلاء؛ فكتب إلى أمراء الأمصار: أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم؛ وأخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرج وخرج معه بالعباس ماشيا، فخطب فأوجز؛ ثم صلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهمّ إيّاك نعبد وإياك نستعين؛ اللهمّ اغفر لنا وارحمنا وارض عنّا. ثم انصرف، فما بلغوا المنزل راجعين حتى خاضوا الغدران.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّرين الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهنّ شئ، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فيما يرى النائم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه منّى السلام، وقل له: إنّ عهدي بك وأنت وفيّ العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر؛ فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسّا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام؛ هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهمّ لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن؛ فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهمّ عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك، اللّهمّ فاسقنا، وأحى العباد والبلاد؟! كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الرّبيع بن النعمان وجراد أبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، كلّهم عن رجاء - وزاد أبو عثمان وأبو حارثة: عن عبادة وخالد، عن عبد الرحمن بن غنم - قالوا: كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، ويستمدّهم، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجرّاح في أربعة آلاف راحلة من طعام، فولاّه قسمتها فيمن حول المدينة؛ فلمّا فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين؛ إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علىّ الدنيا، فقال: خذها فلا بأس بذلك إذ لم تطلبه، فأبى فقال: خذها فإنىّ قد وليت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له كما قلت لي فأعطاني. فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأحيوا مع أوّل الحيا.
وقالوا بإسنادهم: وجاء كتاب عمرو بن العاص جواب كتاب عمر في الإستغاثة: إن البحر الشامىّ حفر لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيرا، فصبّ في بحر العرب، فسدّه الروم والقبط، فإن أحببت أن يقوم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حفرت له نهرا وبنيت له قناطر. فكتب إليه عمر: أن افعل وعجّل ذلك؛ فقال له أهل مصر: خراجك زاج، وأميرك راض؛ وإن تمّ هذا انكسر الخراج. فكتب إلى عمر بذلك، وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها. فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجّل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها، فعالجه عمرو وهو بالقلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصر إلاّ رخاء، ولم ير أهل المدينة بعد الرّمادة مثلها، حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان رضى الله عنه. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا.
قال أبو جعفر: وزعم الواقديّ أن الرّقة والرّها وحرّان فتحت في هذه السنة على يدي عياض بن غنم، وأن عين الوردة فتحت فيها على يدي عمير ابن سعد. وقد ذكرت قول من خالفه في ذلك فيما مضى، وزعم أن عمر رضي الله عنه حوّل المقام في هذه السنة في ذي الحجّة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك. وقال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا.
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: وفي هذها لسنة استقضى عمر شريح ابن الحارث الكنديّ على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزديّ.
قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه.
وكانت ولاته في هذه السنة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في سنة سبع عشرة.
ثم دخلت سنة تسع عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة
قال أبو جعفر: قال أبو معشر - فيما حدّثني أحمد بن ثابت الرازيّ، عمّن حدّثه، عن إسحاق بن عيسى عنه: إنّ فتح جلولاء كان في سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدىّ.وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرّهاء وحرّان ورأس العين ونصيبين فيسنة تسع عشرة.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل.
وقال أبو معشر: كان فتح قيساريّة في هذه السنة - أعنى سنة تسع عشرة - وأميرها معاوية بن أبى سفيان؛ حدّثني بذلك أحمد بن ثابت الرازىّ، عمّن حدّثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدىّ.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين؛ حدّثنا بذلك ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عنه.
وأما سيف بن عمر فإن قال: كان فتحها في سنة ستّ عشرة.
قال: وكذلك فتح مصر.
وقد مضى الخبر عن فتح قيساريّة قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في قول؛ من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعنى سنة تسع عشرة - سالت حرّة ليل نارا - فيما زعم الواقدىّ - فأراد عمر الخروج إليها بالرّجال، ثمّ أمرهم بالصدقة فانطفأت.
وزعم أيضا الواقدىّ أنّ المدائن وجلولاء فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وكان عمّاله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاة الذين كانوا عليها في سنة ثمان عشرة.
ثم دخلت سنة عشرينذكر الخبر عمّا كان فيها من مغازى المسلمين
وغير ذلك من أمورهمقال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر في قول ابن إسحاق.
حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فتحت مصر سنة عشرين.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدّثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بن العاص.
وحدّثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندريّة سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدىّ - فيما حدّثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين.
وأما سيف فإنه زعم - فيما كتب به إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف - أنها فتحت والإسكندرية في سنة ستّ عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندريةقال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السّير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدى من كان؛ على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا؛ فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدّثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، أنّ عمر رضي الله عنه حين فرغ من الشأم كلها كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون في سنة عشرين.
قال: وقد اختلف في فتح الإسكندريّة، فبعض الناس يزعم أنها فتحت في سنة خمس وعشرين، وعلى سنتين من خلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وعليها عمرو بن العاص.
حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدّثني القاسم بن قزمان - رجل من أهل مصر - عن زياد بن جزء الزّبيدىّ، أنه حدّثه أنه كان في جند عمرو بن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بن الخطاب في سنة إحدى وعشرين - أو سنة اثنتين وعشرين - قال: لما افتتحنا باب اليون تدنّينا قرى الرّيف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية؛ حتى انتهينا إلى بلهيب - قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش - وقد بلغت سبايانا المدينة ومكّة واليمن.
قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو ابن العاص: إنيّ قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن تردّ علىّ ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت.
قال: فبعث إليه عمرو بن العاص: إنّ ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنّي حتى أكتب إليه بالذي عرضت علىّ، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره. قال: فقال: نعم. قال: فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب - قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به - يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم. ثم وقفنا ببلهيب؛ وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا؛ فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد؛ فإنه جاءني كتابك تذكر أنّ صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترّد عليه ما أصيب من سبايا أرضه؛ ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبّ إلىّ من فئ يقسم، ثم كأنّه لم يكن؛ فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيّروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه؛ فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرّق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكّة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردّهم، ولا نحبّ أن نصالحه على أمر لا نفي له به. قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين. قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرّجل ممن في أيدينا، ثمّ نخيّره بين الإسلام وبين النصرانيّة؛ فإذا اختار الإسلام كبّرنا تكبيرة هي أشدّ من تكبيرتنا حين تفتح القرية؛ قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانيّة نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا؛ حتى كأنّه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدّأب حتى فرغنا منهم، وقد أتى فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن - قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد - قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانيّة - وأبوه وأمه وإخوته في النصارى - فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى. ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإنّ هذه الكناسة التي ترى يابن أبى القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أنّ الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد؛ فقد والله كذب. قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بنى أميّة كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنّ مصر إنما دخلت عنوة؛ وإنما هم عبدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا.
قال أبو جعفر: وأما سيف؛ فإنه ذكر فيما كتب به إلىّ السرىّ، يذكر أن شعيبا حدّثه عنه، عن الربيع أبى سعيد، وعن أبى عثمان وأبى حارثة، قالوا: أقام عمر بإيلياء بعد ما صالح أهلها، ودخلها أياما، فأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في أثره الزّبير ابن العوّام مددا له، وبعث أبا عبيدة إلى الرّمادة، وأمره إن فتح الله عليه أن يرجع إلى عمله.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا أبو عثمان عن خالد وعبادة، قالا: خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة؛ حتى انتهى إلى باب اليون، وأتبعه الزبير؛ فاجتمعا، فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيّات بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد. فكفّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: إني بارز فليبرز إلىّ أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضا، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا، إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلم بالحقّ وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدّى إلينا كلّ الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة؛ وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنّعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بك حفظا لرحمنا فيكم، وإنّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمّة إلى ذمّة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيّين خيرا؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيّين خيرا، لأنّ لهم رحما وذمّة، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلاّ الأنبياء، معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا، وكانت من أهل منف والملك فيهم، فأديل عليهم أهل عين شمس، فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا، آمنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إنّ مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظروا قومكما؛ وإلاّ ناجزتكم، قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعا إلى المقوقس فهمّ، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشئ إلاّ رجونا أن يكون له أمان. فلم يفجأ عمرا والزبير إلاّ البيات من فرقب، وعمرو على عدّة، فلقوه فقتل ومن معه، ثم ركبوا أكساءهم، وقصد عمرو والزبير لعين الشمس، وبها جمعهم، وبعث إلى الفرّما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندريّة، فنزل عليها، فقال كلّ واحد منهما لأهل مدينته: إن تنزلوا فلكم الأمان، فقالوا: إنّ الإسكندر قال: إني أبني مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنيّة - أو لأبنينّ مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية - فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إنّ الفرما قال: إنيّ أبني مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها.
وكان الإسكندر والفرما أخوين.
قال أبو جعفر: قال الكلبىّ: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدّث بمثل ذلك، فنسبتا إليهما، فالفرما ينهدم فيها كل يوم شئ، وخلقت مرآتها، وبقيت جدّة الإسكندرية.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس؛ وكان الملك بين القبط والنّوب، ونزل معه الزبير عليها. قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلّوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرّضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسّوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين؛ فقبل منهم، ونزل الزّبير عليهم عنوة؛ حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه؛ فصاروا ذمّة، وكان صلحهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرّهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النّوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصّلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمّتنا ممّن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الرّوم والنّوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذّهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا. عليهم ما عليهم أثلاثاً في كلّ ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمّته وذمّة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً، وكذا وكذا فرساً، على ألاّ يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه. وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلّهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصّر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلّما عمراً في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كلّ شئ أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمّة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزّعوه، ووقع في بلدان العرب. وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعد الوفود فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مرّوا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شئ من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى ردّ ذلك السّبى الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلاّ من قاتل بعد، فترادّوهم إلاّ ما كان من ذلك الضّرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمراً أنهم يقولون: ما أرثّ العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذّن لأهل مصر، وجئ باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين؛ فأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعاً وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد؛ وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر؛ فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوّام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا. وبعث إليهم أن تسلّحوا للعرض غداً، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم. ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شئ حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أنّ من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرّقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه لليّنة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره؛ إنّ عمراً لعضّ. ثم أمّره عليها وقام بها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبى سعيد الربيع ابن النعمان، عن عمرو بن شعيب، قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد. فدمّرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن: إنّا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال: اسكت؛ فإنما أنت كلب، قال: فأنت أمير الكلاب، قال: فلما جعل ذلك يتواصل نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحضر من شهدها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تقدّموا، فبكم ينصر الله المسلمين. فتقدّموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتحا الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظّفر. وافتتحت مصر في ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك؛ فكان أهل مصر يتدفّقون على الأجلّ، وأهل مكران على راسل وداهر، وأهل سجستان على الشاه وذويه، وأهل خراسان والباب على خاقان، وخاقان ومن دونهما من الأمم، فكفكفهم عمر إبقاء على أهل الإسلام، ولو خلّى سربهم لبلغوا كلّ منهل.
حدّثني علىّ بن سهل، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمى، فسمّوا رماة الحدق، فلمّا ولّى عبد الله بن سعد بن أبى سرح مصر، ولاّه إياها عثمان بن عفان رضي الله عنه، صالحهم على هديّة عدّة رءوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعاماً مسمّى وكسوة من نحو ذلك.
قال علىّ: قال الوليد: قال بان لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظراً منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.
قال سيف: ولمّا كان ذو القعدة من سنة ستّ عشرة، وضع عمر رضي الله عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أنّ هرقل أغزى مصر والشأم في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من إمارة عمر رضي الله عنه.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعنى سنة عشرين - غزا ارض الرّوم أبو بحريّة الكندىّ عبد الله بن قيس؛ وهو أوّل من دخلها - فيما قيل. وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلم وغنم.
قال: وقال الواقدىّ: وفي هذه السنة عزل قدامة بن مظعون عن البحرين، وحدّه في شرب الخمر.
وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة.
قال: وفيها تزوّج عمر فاطمة بنت الوليد أمّ عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
قال: وفيها توفى بلال بن رباح رضي الله عنه، ودفن في مقبرة دمشق. وفيها عزل عمر سعداً عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلّى.
وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها؛ وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم؛ ومضى إلى وادي القرى فقسمها.
وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة - فيما زعم الواقدىّ.
قال الواقدىّ: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - دوّن عمر رضي الله عنه الدواوين. قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه.
وفيها بعث عمر رضي الله عنه علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة في البحر؛ وذلك أنّ الحبشة كانت تطرّفت - فيما ذكر - طرفاً من أطراف الإسلام؛ فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه ألاّ يحمل في البحر أحداً أبداً.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدّثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين.
قال الواقدىّ: وفيها مات أسيد بن الحضير في شعبان.
وفيها ماتت زينب بنت جحش.
وحجّ في هذه السنة عمر رضي الله عنه.
وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلاّ من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرينقال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق؛ حدّثنا بذلك ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عنه.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدّثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكذلك قال الواقدىّ.
وأمّا سيف بن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنة ثمان عشرة في سنة ستّ من إمارة عمر؛ كتب إلىّ بذلك السّرىّ، عن شعيب، عن سيف.
ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوندوكان ابتداء ذلك - فيما حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - كان من حديث نهاوند أن النعمان بن مقرّن كان عاملاً على كسكر؛ فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره أنّ سعد ابن وقّاص استعمله على جباية الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه.
فكتب عمر إلى سعد: إنّ النعمان كتب إلىّ يذكر أنّك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهمّ وجوهك؛ إلى نهاوند.
قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب - رجل من الأعاجم - فكتب عمر إلى النّعمان بن مقرّن: رسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرّن، سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أمّا بعد؛ فإنه قد بلغني أنّ جموعاً من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند؛ فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقّهم فتكفّرهم؛ ولا تدخلنّهم غيضة، فإنّ رجلاً من المسلمين أحبّ إلىّ من مائة ألف دينار. والسلام عليك.
فسار النعمان إليه ومعه وجوه أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ منهم حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب الزّبيدىّ، وطليحة بن خويلد الأسدىّ، وقيس بن مكشوح المراديّ. فلما انتهى النعمان بن مقرّن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيوناً، فساروا لا يعلمون الحسك، فزجر بعضهم فرسه؛ وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك؛ فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبّى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح؛ فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبّ ذلك؛ فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال؛ ثم لم يسوّد الله وجهك. وذلك يوم الجمعة. فقال النعمان: نصلّى إن شاء الله، ثم نلقى عدوّنا دبر الصلاة، فلما تصافّوا قال النعمان للناس: إنّي مكبّر ثلاثاً؛ فإذا كبّرت الأولى فشدّ رجل شسعه، وأصلح من شأنه؛ فإذا كبّرت الثانية، فشدّ رجل إزاره، وتهيّأ لوجه حملته؛ فإذا كبّرت الثالثة فاحملوا عليهم؛ فإني حامل. وخرجت الأعاجم قد شدّوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفرّوا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمى النعمان بنشّابة فقتل رحمه الله، فلفّه أخوه سويد بن مقرّن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ثم دفع الرّاية إلى حذيفة بن اليمان، وقتل الله ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.
قال أبو جعفر: وقد كان - فيما ذكر لي - بعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع، مولى ثقيف - وكان رجلاً كاتباً حاسباً - فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم؛ فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس الله وخمس رسوله؛ وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظاماً، فوالله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي؛ على أن أدلك على كنوز النّخيرجان - وهي كنوز آل كسرى - تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت: نعم، قال: فابعث معي من أدلّه عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلاّ اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت؛ فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي؛ ث قدمت على عمر بن الخطاب؛ فقال: ما وراءك يا سائب؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين؛ فتح الله عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرّن رحمه الله. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: ثم بكى فنشج، حتى إنّي لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده. قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه. فقال المستضعفون من المسلمين: لكنّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أمّ عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إنّ معي مالاً عظيماً قد جئت به، ثم أخبرته خبر السّفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعاً إلى الكوفة. قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلم أصبح بعث في أثري رسولاً، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلاّ الآن. قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: مالي ولابن أمّ السائب! بل ما لابن السائب ومالي! قال: قلت: وماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلاّ أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان ناراً، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين؛ فخذها عنّي لا أبالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما منّي عمرو بن حريث المخزوميّ بألفي ألف؛ ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً بعد.
حدّثنا الرّبيع بن سليمان، قال: حدّثنا أسد بن موسى، قال: حدّثنا المبارك بن فضالة، عن زياد بن حدير، قال: حدّثني أبي؛ أنّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قال للهرمزان حين آمنه: لا بأس، انصح لي، قال: نعم، قال: إنّ فارس اليوم رأس وجناحان؛ قال: وأين الرأس؟ قال: بنهاوند مع بندار؛ فإنّ معه أساورة كسرى وأهل إصبهان، قال: وأين الجناحان؟ فذكر مكاناً نسيته، قال: فاقطع الجناحين يهن الرأس. فقال عمر: كذبت يا عدوّ الله! بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان. قال: فأراد أن يسير إليه بنفسه، فقالوا: نذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى حلبة العجم؛ فإن أصبت لم يكن للمسلمين نظام؛ ولكن ابعث الجنود؛ فبعث أهل المدينة فيهم عبد الله بن عمرو بن الخطّاب، وفيهم المهاجرون والأنصار؛ وكتب إلى أبي موسى الأشعرىّ أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة حتى تجتمعوا جميعاً بنهاوند؛ وكتب: إذا التقيتم فأميركم النّعمان بن مقرّن المزنيّ؛ فلما اجتمعوا بنهاوند، أرسل بندار العلج إليهم: أن أرسلوا إلينا رجلا نكلّمه؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة. قال أبي: كأني أنظر إليه؛ رجلا طويل الشعر أعور، فأرسلوه إليه، فلمّا جاء سألناه، فقال: وجدته قد استشار أصحابه؛ فقال: بأيّ شئ نأذن لهذا العربيّ؟ بشارتنا وبهجتنا وملكنا، أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ فقالوا: لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدّة، فتهيّئوا بها، فلما أتيناهم كادت الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، فإذا هم على رأسه مثل الشياطين، وإذا هو على سرير من ذهب على رأسه التاج. قال: فمضيت كما أنا ونكّست، قال: فدفعت ونهنهت، فقلت: الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا: إنما أنت كلب، فقلت: معاذ الله! لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه؛ فانتهروني، وقالوا: اجلس؛ فأجلسوني. قال - وترجم له قوله: إنكم معشر العرب أبعد الناس قذراً، وأبعده داراً؛ وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشّاب إلاّ تنجّساً لجيفكم؛ فإنكم أرجاس؛ فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأتوا نركم مصارعكم؛ قال: فحمدت الله، وأثنيت عليه، فقلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئاً، ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشدّ الناس جوعاً، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كلّ خير، حتى بعث الله عزّ وجلّ إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فوعدنا النصر في الدّنيا، والجنة في الآخرة؛ فوالله ما زلنا نتعرّف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر؛ حتى أتيناكم؛ وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم؛ أو نقتل بأرضكم. فقال: أما والله إنّ الأعور قد صدقكم الذي في نفسه. قال: فقمت وقد والله أرعبت العلج جهدي. قال: فأرسل إلينا العلج: إمّا أن تعبروا ألينا بنهاوند؛ وإمّا أن نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا، قال أبى: فلم أر والله مثل ذلك اليوم، إنهم يجيئون كأنهم جبال حديد؛ قد تواثقوا ألاّ يفرّوا من العرب، وقد قرن بعضهم بعضاً؛ سبعة في قران، وألقوا حسك الحديد خلفهم، وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم فشلاً، إنّ عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أما والله لو أنّ الأمر لي لقد أعجلتهم - وكان النعمان بن مقرّن رجلاً ليّناً - فقال له: فالله عزّ وجلّ يشهدك أمثالها فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك، إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلاّ شئ شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنّ رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أوّل النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهبّ الأرواح، ويطيب القتال؛ فما منعني إلاّ ذلك. اللهمّ إني اسألك أن تقرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، وذلّ يذلّ به الكفّار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله! فأمّنّا وبكينا. ثم قال: إني هاز لوائي فتيسّروا للسلاح، ثم هاز الثانية، فكونوا متأهّبين لقتال عدوّكم، فإذا هززت الثالثة فليحمل كلّ قوم على من يليهم من عدوّهم على بركة الله.
قال: وجاءوا بحسك الحديد. قال: فجعل يلبث حتّى إذا حضرت الصلاة وهبّت الأرواح كبّر وكبّرنا، ثم قال: أرجو أن يستجيب الله لي؛ ويفتح عليّ، ثم هزّ اللواء، فتيسّرنا للقتال، ثم هزّه الثانية فكنّا بإزاء العدوّ، ثم هزّه الثالثة.
قال: فكبّر وكبّر المسلمون، وقالوا: فتحاً يعزّ الله به الإسلام وأهله، ثم قال النّعمان: إن أصبت فعلى الناس حذيفة بن اليمان؛ وإن أصيب حذيفة ففلان؛ وإن أصيب فلان ففلان؛ حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم هزّ اللواء الثالثة، فحمل كلّ إنسان على من يليه من العدوّ. قال: فوالله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله، حتى يقتل أو يظفر، فحملنا حملة واحدة، وثبتوا لنا، فما كنّا نسمع إلاّ وقع الحديد على الحديد، حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمة، فلمّا رأوا صبرنا وأنّا لا نبرح العرصة انهزموا، فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة؛ بعضهم على بعض في قياد، فيقتلون جميعاً، وجعل يعقرهم حسك الحديد الذي وضعوا خلفهم.
فقال النعمان رضي الله عنه: قدّموا اللواء، فجعلنا نقدّم اللواء، ونقتلهم ونهزمهم. فلما رأى أن الله قد استجاب له ورأى الفتح، جاءته نشّابه فأصابت خاصرته، فقتلته. قال: فجاء أخوه معقل فسجّى عليه ثوباً، وأخذ اللواء فقاتل، ثم قال: تقدّموا نقتلهم ونهزمهم؛ فلما اجتمع الناس قالوا: أين أميرنا؟ قال معقل: هذا أميركم، قد أقرّ الله عينه بالفتح؛ وختم له بالشهادة. قال: فبايع الناس حذيفة وعمر بالمدينة يستنصر له، ويدعو له مثل الحبلى.
قال: وكتب إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين؛ فلما أتاه قال له: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأذلّ به الكفر وأهله. قال: فحمد الله عزّ وجلّ، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسب النّعمان يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع. قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان؛ حتى عدّ له ناساً كثيراً، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرّهم ألاّ يعرفهم عمر؛ ولكنّ الله يعرفهم.
وأما سيف، فإنه قال - فيما كتب إلىّ السرىّ يذكر أن شعيباً حدّثه عنه؛ وعن محمد والمهلب وطلحة وعمر وسعيد - إنّ الذي هاج أمر نهاوند أنّ أهل البصرة لما أشجوا الهرمزان، وأعجلوا أهل فارس عن مصاب جند العلاء، ووطئوا أهل فارس، كاتبوا ملكهم؛ وهو يومئذ بمرو، فحرّكوه، فكاتب وتكاتبوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ويبرموا فيها أمورهم، فتوافى إلى نهاوند أوائلهم.
فتح سوق الأهواز ومناذر ونهر تيريوفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ستّ عشرة من الهجرة.
ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى كتب إليّ السريّ، يذكر أن شعيبا حدّثه عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمتّه مهرجان قذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسيّة كان وجهه إلى أمّته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهرتيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان سعدا، فأمدّه سعد بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا على ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى. ووجّه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة - وكانا من المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما من بنى العدوية من بنى حنظلة - فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بنى العم، فخرج إليهم غالب الوائليّ وكليب بن وائل الكليىّ، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك؛ فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإنّ أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى؛ فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شئ إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك.
قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صدىّ بن مالك:
لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ... وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ... ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا " ؛ وقال يربوع بن مالك:
لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ... غداة التّباهى غرّ ذاك التّبادر
تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ... بحىّ تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ... لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر
إذ العرب العلياء جاشت بحورها ... فخرنا على كلّ البحور الزواخر
وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ... وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ... وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا
فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيما ونعيما فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت علىهرم ابن حيّان - فيما بين الدّلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التّمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلاّ ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالبا وكليبا محقّين والهرمزان مبطلا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشّغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ... فلاقوا كبّة فيها قبوع
وولّى الهرمزان على جواد ... سريع الشّدّ يثفنه الجميع
وخلّى سرّة الأهواز كرها ... غداة الجسر إذ نجم الرّبيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ... لها في كلّ ناحية ذخائر
سواء برّهم والبحر فيها ... إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعجّ بجانبيه ... جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستروفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعنى سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عنمحمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشّغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشّغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلاّل فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلاّ بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه.فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلاّ على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك.
ثم إن حرقوصا تحرّر يوم صفّين وبقى على ذلك، وشهد النّهروان مع الحروريّة.
غزو المسلمين فارس من قبل البحرينوفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه.
ذكر الخبر بذلك كتب إلىّ السرىّ، يقول: حدّثنا شعيب، قال: حدّثنا سيف، عن محمد والمهلّب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها - وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز عل ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدّون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمّة والمنعة - وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أنّ بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أنّ بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم.
وكان العلاء بن الحضرمىّ على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة وردّ العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردّة بالفضل؛ فلما ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة عن الدّار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سرّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدّر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردّة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا؛ على أحدهما الجارود بن المعلىّ، وعلى الآخر السوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى؛ وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا؛ يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر، لم يغز فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين بين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم؛ وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السّوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول:
يا آل عبد القيس للقراع ... قد حفل الأمداد بالجراع
وكلّهم في سنن المصاع ... يحسن ضرب القوم بالقطّاع
حتى قتل. وجعل الجارود يرتجز ويقول:
لو كان شيئا أمما أكلته ... أو كان ماء سادما جهرته
لكنّ بحرا جاءنا أنكرته حتى قتل. ويومئذ ولى عبد الله بن السّوار والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول:
يال تميم أجمعوا النّزول ... وكاد جيش عمر يزول
وكلكم يعلم ما أقول
انزلوا، فنزلوا. فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها. ثمّ خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثمّ لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا. ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق؛ فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم. ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إله يعزله وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه؛ بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إنّ العلاء بن الحضرمىّ حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إلاّ ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية؛ فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمّة، وهم ردء للغازي والمقيم. فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له؛ حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبّ وقعة القوم بطاوس، وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذّاذ من غيرهم؛ وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم؛ استصرخوا عليهم أهل فارس كلّهم؛ فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك؛ فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا - وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة؛ وكانوا أفضل نوابت الأمصار؛ فكانوا أفضل المصرين نابتة - ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحثّ وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرّق الذين تنقّذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقّذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس؛ استأذن عمر في الحجّ، فأذن له، فلمّا قضى حجّه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنّ إلى عمله؛ فدعا الله ثم انصرف؛ فمات في بطن نخلة، فدفن؛ وبلغ عمر، فمرّ به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم؛ وأثنى عليه بفضله، ولم يختطّ فيمن اختطّ من المهاجرين؛ وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خبّاب مولاه قد لزم سمته فلم يختطّ، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم، وعمّاله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الأهواز وسرّق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجان قذق؛ وذلك بعد تنقّذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة.
وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة. وأقرّ عمر أبا سبرة ابن ابي رهم على البصرة بقيّة السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقيّة تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله؛ وكان مرزوقا السلامة؛ ولم يحدث شيئا إلاّ ما كان بينه وبين أبي بكرة.
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثمّ استعمل عمر بن سراقة، ثمّ صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة؛ فعمل عليها ثانية.
ذكر فتح رامهرمز وتستروفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - كان فتح رامهرمز والسوس وتستر. وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف.
ذكر الخبر عن فتح ذلك في روايته
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم؛ فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكّرهم الأحقاد ويؤنّبهم؛ أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد ما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى تورّدوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحرّكوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النّصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب؛ فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث سويد بن مقرّن، وعبد الله بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميريّ، وجرير بن عبد الله البجلىّ؛ فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبيّنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمّر عليهم سهل بن عدىّ - أخا سهيل ابن عدىّ - وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن ابن سهيل، والحصين بن معبد؛ وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة ابن أبي رهم؛ وكلّ من أتاه فمدد له.
وخرج النّعمان بن مقرّن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البرّ إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلّف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثمّ سار نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشّدّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبى موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكّب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أنّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمدّه أبو سبرة فأمدّهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدّة من أهل البصرة. وفي الكوفيين مثل ذلك؛ منهم حبيب بن قرّة، وربعىّ بن عامر، وعامر بن عبد الأسود - وكان من الرؤساء - في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم؛ يكون عليهم مرّة ولهم أخرى؛ حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتدّ القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربّك ليهزمنّهم لنا! فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النّعمان رجل فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبى موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء؛ فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بن عبد قيس، وكعب بن سور، ومجزأة بن ثور، وحسكة الحبطىّ، وبشر كثير؛ فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرّجل، فانتدب له سويد بن المثعبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمىّ، ونافع ابن زيد الحميرىّ، وعبد الله بن بشر الهلالىّ، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد الله بن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا اجتمعوا فيها - والناس على رجل من خارج - كبّروا فيها، وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب؛ فاجتلدوا فيها، فأناموا كلّ مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطالف به الذين دخلوا من مخرج الماء؛ فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم! قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشّابة؛ ووالله ما تصلون إلىّ ما دام معي منها نشّابة؛ وما يقع لي سهم؛ وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدّوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم؛ فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا؛ ودعا صاحب الرميّة بها، فجاء هو والرّجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا؛ علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم. فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفلّ من تستر - وقد قصدوا للسّوس - إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبىموسى ومعهم الهرمزان؛ حتى اشتملوا على السّوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب عمر إلى عمر بن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبى موسى فردّه على البصرة، وقد ردّ أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، وردّ عمر عليها مرتين؛ وكتب إلى زرّ بن عبد الله بن كليب الفقيمىّ أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمّر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بن ربيعة أحد بنى ربيعة بن مالك، وكان الأسود وزرّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين - وكان الأسود قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: اللهمّ أوف لزرّ عمره، فتحوّل إليهم العدد - وأوفدوا أبو سبرة وفدا؛ فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة؛ حتى إذا دخلوا هيّئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الدّيباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته، كما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدّدكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه - وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسّده فنام - فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدّرّة في يده معلّقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا؛ وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه؛ وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيّا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء؛ وكثر الناس؛ فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمّله، وتأمّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين الله! وقال: الحمد لله الذي أذّل بالإسلام هذا وأشياعه؛ يا معشر المسلمين، تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غرّارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شئ، فرمى عنه بكلّ شئ عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه يوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنا وإيّاكم في الجاهليّة كان الله قد خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهليّة باجتماعكم وتفرّقنا. ثم قال عمر: ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمّن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتينّ بمخرج أو لأعاقبنّك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم؛ فأسلم. ففرض له على ألفين؛ وأنزله المدينة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان طلحة ابن عبد الرحمن، عن ابن عيسى، قال: كان التّرجمان يوم الهرمزان المغيرة بن شعبة إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسيّة، فقال عمر للمغيرة: قل له: من أيّ أرض أنت؟ فقال المغيرة: أزكدام أرضي؟ فقال: مهرجانىّ، فقال: تكلم بحجّتك، قال: كلام حتى أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد آمنتني، قال: خدعتني، إنّ للمخدوع في الحرب حكمه؛ لا والله لا أؤمّنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. وقال المغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خبّ، وما خبّ إلا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد فكلّمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو، عن الشعبىّ وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلاّ وفاء حسن ملكة، قال: فيكف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلاّ ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حىّ بين أظهرهم؛ وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم؛ ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه؛ وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شئ إلاّ بانبعاثهم، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعزّ أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا. فقال: صدقتنى والله، وشرحت لي الأمر عن حقه. ونظر في حوائجهم وسرّحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجا نقذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح.
ذكر فتح السّوس
اختلف أهل السّير في أمرها؛ فأمّا المدائنىّ فإنه - فيما حدثني عن أبو زيد - قال: لما انتهى فلّ جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصّته والموبذ، فقال: إنّ القوم لا يلقون جمعا إلاّ فلّوه، فما ترون؟ فقال: الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر؛ فإنها بيت المملكة، وتضمّ إليك خزائنك، وتوجّه الجنود. فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان دعا سياه، فوجّهه في ثلاثمائة، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كلّ بلدة ويمرّ بها من أحبّ، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السّوس، فوجّه سياه إلى السّوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانيّة، وبلغ أهل السّوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعرىّ الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانيّة، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحوّل سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمّار بن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان؛ فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدّث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلاّ فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلاّ فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنّا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب؛ وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك. فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى موسى: أعطهم ما سألوك. فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر؛ فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدّين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حّسر. فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شئ أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين، وخمسمائة لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشهرويه، وأفروذين.
فقال الشاعر:
ولمّا رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتى من الأمر أبصرا
فسنّ لهم ألفين فرضا وقد رأى ... ثلاثمئين فرض عكّ وحميرا
قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسلّ سياه في آخر الليل في زيّ العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، وتضح ثيابه بالدّم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمضى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلّمه، فرماه خسرو بنشّابة فقتله.
وأما سيف فإنه قال في روايته ما كتب به إلىّ السرىّ، عن شعيب، عنه، عن محمد وطلحة وعمرو ودثار أبى عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السّوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرّات؛ كلّ ذلك يصيب أهل السّوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرّهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا؛ أنه لا يفتح السّوس إلاّ الدّجال أو قوم فيهم الدّجال، فإن كان الدّجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا. وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمّل على أهل البصرة المقترب مكان أبى موسى بالسّوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبى سبرة، وزرّ محاصر أهل نهاوند من وجهه ذلك؛ وضرب على أهل الكوفة البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند؛ وأقبل النّعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثمّ استقلّ في نفسه، فناوشهم قبل مضيّه، فعاد الرّهبان والقسّيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقاولوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلاّ الدّجال أو قوم معهم الدّجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بن صيّاد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق؛ ولمّا يخرج أبو موسى بعد. وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقّه برجله، وقال انفتح فطار فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصّلح الصلح! وأمسكوا بأيديهم، فأجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح؛ ثم افترقوا. فخرج النّعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرّح أبو سبرة المقترب حتى ينزلعلى جندى سابور مع زرّ، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عمّن أورد فتح السّوس، قال: وقيل لأبى سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: ومالنا بذلك! فأقرّه بأيديهم - قال عطيّة بإسناده: إنّ دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصّر؛ فلمّا حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام؛ أكرم كتاب الله عمّن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربّه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضنّ به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا؛ وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشدّ من غضبه الأوّل، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة، فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الأرض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت. ومات دانيال بالسّوس؛ فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقرّوه في أيديهم، حتى إذا ولّى أبو سبرة عنهم إلى جندى سابور أقام أبو موسى بالسّوس. وكتب إلى عمر فيه؛ فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفّنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا، فكتب إليه أن تختّمه، وفي فصّه نقش رجل بين أسدين.
ذكر مصالحة المسلمين أهل جندى سابوروفيها - أعنى سنة سبع عشرة - كانت مصالحة المسلمين أهل جندى سابور.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبى عمرو وأبى سفيان والمهلّب، قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السّوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزرّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم؛ فأقاموا عليها يغادنهم ويراوحونهم القتال؛ فما زالوا مقيمين عليها حتى رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجأ المسلمين إلاّ وأبوابها تفتح، ثمّ خرج السّرح، وخرجت الأسواق، وانبثّ أهلها، فأرسل المسلمون: أن مالكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمتعونا. فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم؛ فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها؛ هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدّل؛ فإن شئتم فاغذروا. فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إنّ الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شكّ أجيزوهم، وفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياج سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرّق الأمراء والجنود، وأمّر على أهل البصرة أمراء؛ وأمّر على أهل الكوفة أمراء، وأمّر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشرة، فساحوا في سنة ثمان عشرة، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة؛ فيكون هنالك حتى يحدّث إليه؛ وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدىّ حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشيرخرّه وسابور إلى مجاشع بن مسعود السّلمى، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفيّ، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكنانيّ، ولواء كرمان مع سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان إلى عاصم ابن عمرو - وكان عاصم من الصحابة - ولواء مكران إلى الحكم بن عمير الغلبيّ. فخرجوا في سنة سبع عشرة، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدّهم عمر بأهل الكوفة؛ فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة ابن النّضر، وبعبد الله بن أبي عقيل، وبربعىّ بن عامر، وبابن أمّ غزال. وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعيّ، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق المازنيّ. قال بعضهم: كان فتح السّوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنة عشرين.
وحجّ بالناس في هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - عمر بن الخطاب؛ وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعريّ - وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي ردّ فيه إليها أميرا. وعلى القضاء - فيما قيل - أبو مريم الحنفيّ. وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين
ذكر فتح همذان
قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حدّثني أحمد بن ثابت الرازيّ، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بن شعبة. وكذلك قال الواقديّ.وأما سيف بن عمر، فإنه قال فيما كتب إليّ به السريّ عن شعيب عنه، قال: كان فتح أذربيجان سنة ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والرّيّ وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين. قال: وكلّ ذلك كان في سنة ثمان عشرة.
قال: فكان سبب فتح همذان - فيما زعم - أنّ محمداً والمهلب وطلحةوعمراً وسعيداً أخبروه أنّ النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة؛ ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعة في مرج فيها مسلحة، فاستزلوهم، وكان أوّل الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلاً يمسكون بالقلعة، فسمّوا معسكرهم بالمرج؛ مرج القلعة؛ ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند؛ حتى إذا انتهوا إلى قلعة فيها قوم خلّفوا عليها النّسير بن ثور في عجل وحنيفة؛ فنسبت إليه؛ وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجليّ ولا حنفيّ - أقاموا مع النّسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعاً؛ لأنّ بعضهم قوّى بعضاً. ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مرّوا به قبل ذلك فيما استقرّوا من المرج إليها بصفاتها، وازدحمت الرّكاب في ثنيّة من ثنايا ماه، فسمّيت بالركاب، فقيل: ثنيّة الرّكاب. وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسمّوها ملويّة، فدرست أسماؤها الأولى، وسمّيت بصفاتها، ومرّوا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سنّ سميرة - وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبيّة لها سنّ مشرفة على أسنانها، فسمّي ذلك الجبل بسنّها - وقد كان حذيفة أتبع الفالّة - فالّة نهاوند - نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو؛ فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعد. فلمّا قدم عهده في العهود من عند عمر ودّع حذيفة وودّعه حذيفة؛ هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعاً. واستخلف على الماهين عمرو بن بلال بن الحارث.
وكان كتاب عمر إلى نعيم بن مقرّن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدّمتك سويد بن مقرّن، وعلى مجنّبتيك ربعيّ بن عامر ومهلهل ابن زيد؛ هذا طائيّ، وذاك تميميّ. فخرج نعيم بن مقرّن في تعبيته حتى نزل ثنيّة العسل - وإنما سمّيت ثنيّة العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غبّ وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالّة تعالى فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصّة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك؛ فحبست الفيرزان حتى نزل؛ فتوقّل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب. ولما نزلوا كنكور سرقت دوابّ من دوابّ المسلمين، فسمّى قصر اللصوص.
ثم انحدر نعيم من الثّنيّة حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصّنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها. فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصّلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرىً واحداً، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المتعة، وفرّق دستبي بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الضبّيبّ ومهلهل بن زيد الطائيّ وسماك بن عبيد العيسيّ وسماك بن مخرمة الأسديّ، وسماك بن خرشة الأنصاريّ؛ فكان هؤلاء أوّل من ولي مسالح دستبي وقاتل الديّلم.
وأما الواقديّ فإنه قال: كان فتح همذان والرّي في سنة ثلاث وعشرين. قال: ويقال افتتح الرّيّ قرظة بن كعب.
وحدّثني ربيعة بن عثمان أنّ فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب؛ وكان أميرها المغيرة بن شعبة.
قال: ويقال: كان فتح الرّيّ قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها.
رجع الحديث إلى حديث سيف. قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفاً من الجند تكاتب الدّيلم وأهل الرّي وأهل أذربيجان، ثم خرج موتاً في الدّيلم حتى ينزل بواج روذ؛ وأقبل الزينيّ أبو الفرّخان في أهل الرّيّ حتى انضمّ إليه، وتحصّن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً؛ وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند؛ ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار؛ وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتمّ بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلاّ البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة؛ فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير؛ فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر؛ وأخبره الخبر؛ فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرىء على الناس؛ فحمدوا الله. ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عبيد وسماك بن خرشة في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك، فقال: بارك الله فيكم؛ اللهمّ اسمك بهم الإسلام وأيّدهم بالإسلام. فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرّسول إلى نعيم بن مقرّن بجواب عمر بن الخطّاب: أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الرّيّ، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد. فأقرّ نعيم يزيد بن قيس الهمدانيّ على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الريّ.
وقال نعيم في واج الرّوذ:
لمّا أتاني أن موتاً ورهطه ... بني باسل جرّوا جنود الأعاجم
نهضت إليهم بالجنود مسامياً ... لأمنع منهم ذمّتي بالقواصم
فجئنا إليهم بالحديد كأننا ... جبال تراءى من فروع القلاسم
فلما لقيناهم بها مستفيضة ... وقد جعلوا يسمون فعل المساهم
صدمناهم في واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى العظائم
فما صبروا في حومة الموت ساعة ... لحدّ الرّماح والسيوف الصّوارم
كأنهم عند انبثاث جموعهم ... جدار تشظّى لبنه للهوادم
تبعناهم حتى أووا في شعابهم ... نقتّلهم قتل الكلاب الجواحم
كأنهم في واج روذ وجوّه ... ضئين أصابها فروج المخارم
وسماك بن مخرمة هو صاحب مسجد سماك.
وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلّف عليها يزيد بن قيس الهمذانيّ، وسار بالجنود حتى لحق بالرّيّ، وكان أوّل نسل الدّيلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم.
فتح الرّيّ
قالوا: وخرج نعيم بن مقرّن من واج روذ في الناس - وقد أخربها - إلى دستبي، ففصل منها إلى الرّيّ، وقد جمعوا له، وخرج الزينبيّ أبو الفرّخان، فلقيه الزينبيّ بمكان يقال له قها مسالماً ومخالفاً لملك الريّ، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالريّ سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين، فاستمدّ أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان. وقال: قد علمتم أنّ هؤلاء قد حلّوا بالرّيّ، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الرّيّ إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبيّ قال لنعيم: إنّ القوم كثير، وأنت في قلّة؛ فابعث معي خيلاً أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أ،ت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلاً من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبيّ المدينة، ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتاً فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثمّ إنهم انهزموا فقتلوا مقتلةً عدّوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالرّي نحواً من فيء المدائن، وصالحه الزيبنبيّ على أهل الرّيّ ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الريّ في أهل الزينبيّ الأكبر، ومنهم شهرام وفرّخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم ميدنتهم، وهي التي يقال لها العتيقة - يعني مدينة الرّي - وأمر الزينبيّ فبنى مدينة الرّيّ الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح الله عليه مع المضارب العجليّ، ووفّد بالأخماس مع عتيبة بن النّهاس وأبي مفزّر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة الأنصاريّ بعد ما فتح الرّي، فسار سماك إلى أذربيجان مدداً لبكير، وكتب نعيم لأهل الرّي كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بن مقرّن الزينبيّ بن قوله، أعطاه الأمان على أهل الرّيّ ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كلّ حالم في كلّ سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلّوا ولا يغلّوا ولا يسلّوا، وعلى أن يقروا المسلمين يوماً وليلة، وعلى أن يفخّموا المسلم، فمن سبّ مسلماً أو استخفّ به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدّل منهم فلم يستلم برمّته فقد غيّر جماعتكم. وكتب وشهد.
وراسله المصمغان في الصّلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتاباً على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من نعيم بن مقرّن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشّرّز. إنك آمن ومن دخل معك على الكفّ، أن تكفّ أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كلّ سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلاّ بإذن؛ ما أقمت على ذلك حتى تغيّر، ومن غيّر فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه. وكتب وشهد.
فتح قومسقالوا: ولما كتب نعيم بفتح الرّيّ مع المضارب العجليّ، ووفّد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدّم سويد بن مقرّن إلى قومس، وابعث على مقدّمته سماك بن مخرمة وعلى مجنّبتيه عتيبة بن النّهاس وهند بن عمرو الجمليّ، ففصل سويد بن مقرّن في تعبيته من الرّيّ نحو قومس؛ فلم يقم له أحد، فأخذها سلماً، وعسكر بها، فلمّات شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر؛ فقال لهم سويد: غيّروا ماءكم حتى تعودوا كأهله؛ ففعلوا، واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سويد بن مقرّن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدّوا الجزية عن يد؛ عن كلّ حالم بقدر طاقته؛ وعلى أن ينصحوا ولا يغشّوا، وعلى أن يدلّوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يوماً وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدّلوا واستخفّوا بعهدهم فالذمّة منهم بريئة. وكتب وشهد.
فتح جرجان
قالوا: وعسكر سويد بن مقرّن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصّلح على أن يؤدّي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه. فقبل ذلك منه، وتلقّاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان؛ فدخل معه وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدّها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمّن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها؛ وكتب بينهم وبينه كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إنّ لكم الذّمة، وعلينا المنعة؛ على أنّ عليكم من الجزاء في كلّ سنة على قدر طاقتكم؛ على كلّ حالم؛ ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضاً من جزائه؛ ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدّوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سلّ ولا غلّ، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه؛ وعلى أنّ من سبّ مسلماً بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمرو، وسماك بن مخرمة، وعتيبة بن النّهاس. وكتب في سنة ثمان عشرة.
وأما المدائنيّ، فإنه قال - فيما حدّثنا أبو زيد، عنه: فنحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين.
فتح طبرستانقالوا: وأرسل الإصبهبذ سويداً في الصّلح، على أن يتوادعا؛ ويجعل له شيئاً على غير نصر ولا معونة على أحد؛ فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن للفرّخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدوّ؛ إنك آمن بأمان الله عزّ وجلّ على أن تكفّ لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتنّقي من ولي فرج أرضك بخمشمائة ألف درهم من دراهم أرضك فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرّق أرضك، ولا يدخل عليك إلاّ بإذنك؛ سبيلنا عليكم بالإذن آمنة؛ وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلّون لنا إلى عدوّ، ولا تغلّون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم. شهد سواد بن قطبة التميميّ، وهند بن عمرو المراديّ، وسماك بن مخرمة الأسديّ، وسماك بن عبيد العبسيّ، وعتيبة بن النهّاس البكريّ. وكتب سنة ثمان عشرة.
فتح أذربيجانقال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الريّ من واج روذ، كتب إليه عمر: أنّ يبعث سماك بن خرشة الأنصاريّ ممدّاً لبكير بن عبد الله بأذربيجان؛ فأخّر ذلك حتى افتتح الريّ، ثم سرّحه من الرّيّ، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان؛ وكان سماك بن خرشة وعتبة بن فرقد من أغنياء العرب؛ وقدما الكوفة بالغنى؛ وقد كان بكير سار حين بعث إليها؛ حتى إذا طلع بحيال جرميذان - طلع عليهم إسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزوماً من واج روذ، فكان أوّل قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جنده؛ وأخذ بكير إسفندياذ أسيراً، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء لم يقيسوا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصّن تحصّن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلاّ ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممدّاً وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضينّ قدما ولأخلّفنّكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عند فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلاّ تارككما وطالباً وجهاً هو أكره من هذا. فاستعفى عمر؛ فكتب إليه بالإذن على أن يتقدّم نحو الباب؛ وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمّه عتبة إليه، وأمّر عتبة سماك بن خرشة - وليس بأبي دجانة - على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد.
قالوا: وقد كان بهرام بن الفرّخزاذ أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام. فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصّلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلماً، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمّسوا مما أفاء الله عليهم، ووفّدوا الوفود بذلك؛ وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. وكتب عتبة بينه وبين أهل أذربيجان كتاباً حيث جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان - سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها - كلّهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم؛ على أن يؤدّوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبيّ ولا امرأة ولا زمن لي في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبّد متخلّ ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم؛ وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوماً وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه. وكتب جندب، وشهد بكير بن عبد الله الليثي وسماك بن خرشة الأنصاريّ. وكتب في سنة ثمان عشرة.
قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أنّ عمر كان يأخذ عمّاله بموافاة الموسم في كلّ سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه.
فتح البابوفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا - يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: ردّ عمر أبا موسى إلى البصرة، وردّ سراقة بن عمرو - وكان يدعى ذا النور - إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة - وكان أيضاً يدعى ذا النور - وجعل على إحدى المجنّبتين حذيفة بن أسيد الغفاريّ، وسمّى للأخرى بكير بن عبد الله الليثيّ - وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به - وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة. فقدّم سراقة عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدفّ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عبّاه عمر. وأمدّه عمر بحبيب بن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بن حنظلة مكانه على الجزيرة. ولما أطلّ عبد الرحمن بن ربيعة على الملك بالباب - والملك بها يومئذ شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال: إنّي بإزاء عدوّ كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء؛ ولا من الأرمن؛ وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوى معكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم. فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوّزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزاء ممّن يقيم ولا ينهض. فقبل ذلك، وصار سنّة فيمن كان يحارب العدوّ من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلاّ أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب بذلك، فأجازه وحسّنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلاّ على أوفاز؛ وإنما هم سكان ممّن حولها ومن الطرّاء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم؛ واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتاباً:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وملّتهم ألاّ يضارّوا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية والأبواب؛ الطرّاء منهم والتّنّاء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكلّ غارة، وينفذوا لكلّ أمر ناب أولم ينب رآه الوالي صلاحاً؛ على أن توضع الجزاء عمّن أجاب إلى ذلك إلاّ الحشر، والحشر عوضٌ من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنّزل يوماً كاملاً، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله. وكتب مرضيّ بن مقرّن وشهد.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيراً إلى موقان، ووجه حبيباً إلى تفليس، وحذيفة بن أسيد إلى من بجبال اللآن، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجّه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتمّ له على ما خرج عليه في سريح بغير مؤونة. وكان فرجاً عظيماً به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.
فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القوّاد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجّه له إلاّ بكير فإنه فضّ موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى بكير بن عبد الله أهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كلّ حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقرّوا ونصحوا، وعلينا الوفاء؛ والله المستعان. فإن تركوا ذلك واستبان منهم غشّ فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمّتهم؛ وإلاّ فهم متمالئون. شهد الشمّاخ بن ضرار والرسارس بن جنادب، وحملة بن جويّة. وكتب سنة إحدى وعشرين.
قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقرّ عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو التّرك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر؛ قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال: لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم؛ وتالله إنّ معنا لأقواماً لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم لارّدم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائماً لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيّرهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبيّ، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم؛ ثمّ غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتدّ اصتصلاحاً لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فساداً أن سادهم من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى جعل يتمثل:
وكنت وعمراً كالمسمّن كلبه ... فخدّشه أنيابه وأظافره
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلاّ ومعه الملائكة تمنعه من الموت؛ فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظّفر، وذلك في إمارة عمر؛ ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدّل ألهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتدّ فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض؛ فرمى رجلٌ منهم رجلاً من المسلمين على غرّة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتدّ قتالهم، ونادى مناد من الجوّ: صبراً آل عبد الرحمن وموعدكم الجنّة ! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الرّاية سلمان بن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجوّ: صبراً آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أوترى جزعاً! ثمّ خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدّوسيّ على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
وحدّث عمرو بن معد يكرب عن مطر بن ثلج التميميّ، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهر براز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة؛ حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطرقباء برود يمينيّة، أرضه حمراء، ووشيه أسود - أو وشيه أحمر - وأرضه سوداء، فتساءلا.
ثمّ إنّ شهربراز، قال: أيّها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السّدّ لينظر ما حاله ومن دونه، وزوّدته مالاً عظيماً، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزوّدته لكلّ ملك هدّية؛ ففعل ذلك بكلّ ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السّدّ في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكّر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سدّ مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السّد خندق أشدّ سواداً من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرّست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلاّ تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به في هذا اللّهب، فشرّح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضّت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء؛ وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء؛ فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها؛ وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها؛ وها هي هذه. فتناولها شهر براز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردّها إلى شهر براز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد - يعني الباب - وايم الله لأنتم أحبّ إليّ ملكة من آل كسرى؛ ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني؛ وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر.
فأقبل عبد الرحمن على الرّسول، وقال: ما حال هذا الرّدم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرّجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بن ثلج لعبد الرحمن بن ربيعة: صدق والله الرّجل؛ لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: " آتوني زبر الحديد... " إلى آخر الآية.
وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديّتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان.
وزعم الواقديّ أنّ معاوية غزا الصائفة في هذه السّنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين.
وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بن الوليد.
وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عمّاله في السنة التي قبلها. وقد ذكرناهم قبل.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرةوفي هذه السنة عدّل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
ذكر الخبر بذلك:
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، وسعيد، قالوا: أقام عمّار بن ياسر عاملاً على الكوفة سنةً في إمارة عمر وبعض أخرى. وكتب عمر بن سراقة وهو يومئذ على البصرة إلى عمر ابن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة، وعجز خراجهم عنهم؛ ويسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ما سبذان. وبلغ ذلك أهل الكوفة، فقالوا لعمّار: اكتب لنا إلى عمر أنّ رامهرمز وإيذج لنا دونهم، لم يعينونا عليهما بشيء؛ ولم يلقحوا بنا حتى افتتحناهما، فقال عمّار: مالي ولما هاهنا! فقال له عطارد: فعلام تدع فيئنا أيها العبد الأجدع! فقال: لقد سببت أحبّ أذنيّ إليّ. ولم يكتب في ذلك فأبغضوه؛ ولما أبى أهل الكوفة إلاّ الخصومة فيهما لأهل البصرة شهد لهم أقوام على أبي موسى؛ أنه قد كان آمن أهل رامهرمز وإيذج؛ وأنّ أهل الكوفة والنعمان راسلوهم وهم في أمان. فأجاز لهم عمر ذلك، وأجراها لأهل البصرة بشهادة الشهود. وادّعى أهل البصرة في إصبهان قريات افتتحها أبو موسى دون جيّ، أيام أمدّهم بهم عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فقال أهل الكوفة: أتيتمونا مدداً وقد افتتحنا البلاد، فآسيناكم في المغانم، والذّمة ذمتنا، والأرض أرضنا؛ فقال عمر: صدقوا. ثمّ إنّ أهل الأيّام وأهل القادسيّة من أهل البصرة أخذوا في أمر آخر حتى قالوا: فليعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيه. فقال لهم عمر: أترضون بماه؟ وقال لأهل الكوفة: أترضون أن نعطيهم من ذلك أحد الماهين؟ فقالوا: ما رأيت أنه ينبغي فاعمل به، فأعطاهم ماه دينار بنصيبهم لمن كان شهد الأيام والقادسيّة منهم إلى سواد البصرة ومرهجانقذق، وكان ذلك لمن شهد الأيّام والقادسيّة من أهل البصرة. ولما ولي معاوية بن أبي سفيان - وكان معاوية هو الذي جنّد قنّسرين من رافضة العراقين أيام عليّ، وإنما كانت قنّسرين رستاقاً من رساتيق حمص حتى مصّرها معاوية وجنّدها بمن ترك الكوفة والبصرة في ذلك الزمان، وأخذ لهم معاوية بنصيبهم من فتوح العراق أذربيجان والموصل والباب، فضمّها فيما ضمّ، وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة رميتا بكلّ من كان ترك هجرته من أهل البلدين؛ وكانت الباب وأذربيجان والجزيرة والموصل من فتوح أهل الكوفة - نقل ذلك إلى من انتقل منهم إلى الشام أزمان عليّ؛ وإلى من رميت به الجزيرة والموصل ممن كان ترك هجرته أيام عليّ، وكفر أهل أرمينية زمان معاوية؛ وقد أمّر حبيب بن مسلمة على الباب - وحبيب يومئذ بجرزان - وكاتب أهل تفليس وتلك الجبال؛ ثم ناجزهم؛ حتى استجابوا واعتقدوا من حبيب. وكتب بينه وبينهم كتاباً بعد ما كاتبهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من حبيب بن مسلمة إلى أهل تفليس من جرزان أرض الهرمز. سلم أنتم؛ فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلاّ هو؛ فإنه قد قدم علينا رسولكم تفلى، فبلّغ عنكم، وأدّى الذي بعثتم. وذكر تفلى عنكم أنّا لم نكن أمّة فيما تحسبون؛ وكذلك كنا حتى هدانا الله عزّ وجلّ بمحمد صلى الله عليه وسلّم، وأعزّنا بالإسلام بعد قلة وذلة وجاهلية. وذكر تفلى أنكم أحببتم سلمنا. فما كرهت والذين آمنوا معي، وقد بعثت إليكم عبد الرحمن بن جزء السّلميّ؛ وهو من أعلمنا من أهل العلم بالله وأهل القرآن؛ وبعثت معه بكتابي بأمانكم، فإن رضيتم دفعه إليكم؛ وإن كرهتم آذنكم بحرب على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من جرزان أرض الهرمز؛ بالأمان على أنفسكم وأموالكم وصوامعكم وبيعكم وصلواتكم؛ على الإقرار بصغار الجزية؛ على كلّ أهل بيت دينار واف، ولنا نصحكم ونصركم على عدوّ الله وعدوّنا، وقرى المجتاز ليلة من حلال طعام أهل الكتاب وحلال شرابهم، وهداية الطريق في غير ما يضّرّ فيه بأ؛د منكم. فإن أسلمتم وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فإخواننا في الدّين وموالينا؛ ومن تولّى عن الله ورسله وكتبه وحزبه فقد آذناكم بحرب على سواء؛ إن الله لا يحبّ الخائنين. شهد عبد الرحمن بن خالد؛ والحجّاج، وعياض. وكتب رباح، وأشهد الله وملائكته والذين آمنوا، وكفى بالله شهيداً.
ذكر عزل عمّار عن الكوفة
وفي هذه السنة عزل عمر بن الخطاب عمّاراً عن الكوفة؛ واستعمل أبا موسى في قول بعضهم؛ وقد ذكرت ما قال الواقديّ في ذلك قبل.
ذكر السبب في ذلك:
قد تقدّم ذكري بعض سبب عزله، ونذكر بقيّته. ذكر السّريّ - فيما كتب به إليّ - عن شعيب، عن سيف، عمّن تقدم ذكري من شيوخه، قال: قالوا: وكتب أهل الكوفة؛ عطارد ذلك وأناس معه إلى عمر في عمّار، وقالوا: إنه ليس بأمير، ولا يحتمل ما هو فيه، ونزا به أهل الكوفة. فكتب عمر إلى عمّار: أن أقبل؛ فخرج بوفد من أهل الكوفة، ووفّد رجالاً ممن يرى أنهم معه، فكانوا أشدّ عليه ممن تخلّف، فجزع فقيل له: يا أبا اليقظان، ما هذا الجزع! فقال: والله ما أحمد نفسي عليه؛ ولقد ابتليت به - وكان سعد بن مسعود الثقفيّ عمّ المختار، وجرير بن عبد الله معه - فسعيا به، وأخبرا عمر بأشياء يكرهها، فعزله عمر ولم يولّه.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطّفيل، قال: قيل لعمّار: أساءك العزل؟ فقال: والله ما سرّني حين استعملت، ولقد ساءني حين عزلت.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبيّ، قال: قال عمر لأهل الكوفة: أيّ منزليكم أعجب إليكم؟ - يعني الكوفة أو المدائن - وقال: إني لأسألكم وإني لأعرف فضل أحدهما على الآخر في وجوهكم، فقال جرير: أما منزلنا هذا الأدنى فإنه أدنى محلّةً من السواد من البرّ، وأما الآخر فوعك البحر وغمّه وبعوضه. فقال عمار: كذبت؛ فقال عمر لعمّار: بل أنت أكذب منه، وقال: ما تعرفون من أميركم عمّار؟ فقال جرير: هو والله غير كاف ولا مجز ولا عالم بالسياسة.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن هشام بن عبد الرحمن الثقفيّ، أن سعد بن مسعود، قال: والله ما يدري علام استعملته! فقال عمر: علام استعملتك يا عمّار؟ قال: على الحيرة وأرضها. فقال: قد سمعت بذكرها في القرآن. قال: وعلى أيّ شيء؟ قال: على المدائن وما حولها، قال: أمدائن كسرى؟ قال: نعم. قال: وعلى أيّ شيء؟ قال: على مهرجا نقذق وأرضها. قالوا: قد أخبرناك أنه لا يدري علام بعثته! فعزله عنهم، ثم دعاه بعد ذلك، فقال: أساءك حين عزلتك؟ فقال: والله ما فرحت به حين بعثتني، ولقد ساءني حين عزلتني. فقال: لقد علمت ما أنت بصاحب عمل، ولكني تأوّلت: " ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين " .
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النّمريّ، عن أبيه بمثله وزيادة، فقال: أو تحمد نفسك بمعرفة من تعالجه منذ قدمت! وقال: والله يا عمّار لا ينتهي بك حدّك حتى يلقيك في هنة، وتالله لئن أدركك عمر لترقّنّ، ولئن رققت لتبتلينّ، فسل الله الموت. ثمّ أقبل على أهل الكوفة فقال: من تريدون يا أهل الكوفة؟ فقالوا: أبا موسى. فأمّره عليهم بعد عمار، فأقام عليهم سنة، فباع غلامه العلف. وسمعه الوليد بن عبد شمس، يقول: ما صحبت قوماً قطّ إلا آثرتهم؛ ووالله ما منعني أن أكذّب شهود البصرة إلاّ صحبتهم، ولئن صحبتكم لأمنحنّكم خيراً. فقال الوليد: ما ذهب بأرضنا غيرك؛ ولا جرم لا تعمل علينا. فخرج وخرج معه نفر، فقالوا: لا حاجة لنا في أبي موسى، قال: ولم؟ قالوا: غلام له يتّجر في حشرنا. فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة، وصرف عمر بن سراقة إلى الجزيرة. وقال لأصحاب أبي موسى الذين شخصوا في عزله من أهل الكوفة: أقويّ مشدّد أحبّ إليكم أم ضعيف مؤمن؟ فلم يجد عندهم شيشئاً، فتنحّى، فخلا في ناحية المسجد، فنام فأتاه المغيرة بن شعبة فكلأه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلاّ من عظيم؛ فهل نابك من نائب؟ قال: وأيّ نائب أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير، ولا يرضى عنهم أمير! وقال في ذلك ما شاء الله.
واختطّت الكوفة حين اختطّت على مائة ألف مقاتل؛ وأتاه أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ قال: شأني أهل الكوفة قد عضّلوا بي. أعاد عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فأجابه المغيرة فقال: أمّا الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأمّا القوىّ المشدّد فوّته لك وللمسلمين، وشداده عليه وله. فبعثه عليهم.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن سعيد بن عمرو؛ أنّ عمر قال قبل أن استعمل المغيرة: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قويّ مشدّد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإنّ إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القويّ المشدّد فإنّ شداده لنفسه وقوّته للمسلمين. قال: فإنّا باعثوك يا مغيرة. فكان المغيرة عليها حتى مات عمر رضي الله تعالى عنه وذلك نحو من سنتين وزيادة. فلما ودّعه المغيرة للذهاب إلى الكوفة، قال له: يا مغيرة. ليأمنك الأبرار، وليخفك الفجّار. ثم أراد عمر أن يبعث سعداً على عمل المغير فقتل قبل أن يبعثه، فأوصى به؛ وكان من سنّة عمر وسيرته أن يأخذ عمّاله بموافاة الحجّ في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعيّة، وليكون لشكاة الرعيّة وقتاً وغاية ينهونها فيه إليه.
وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس - في قول بعضهم خراسان - وحارب يزدجرد؛ وأما في رواية سيف فإنّ خروج الأحنف إلى خراسان كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة.
ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان
وما كان السبب في ذلك
اختلف أهل السير في سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه؛ فأمّا ما ذكره سيف عن أصحابه في ذلك، فإنه فيما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى - وهو يومئذ ملك فارس - لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الرّيّ، وقد جعل له محمل واحد يطبق ظهر بعيره، فكان إذا سار نام فيه ولم يعرّس بالقوم. فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إذا خاض البعير إن هو استيقظ، فعنّفهم وقال: بئسما صنعتم! والله لو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة، إني رأيت أني ومحمداً تناجينا عند الله، فقال له: أملّكهم مائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشراً ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: لك. وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة.فلما انتهى إلى الرّيّ، وعليها آبان جاذويه، وثب عليه فأخذه، فقال: يا آبان جاذويه، تغدر بي! قال: لا، ولكن قد تركت ملكك، وصار في يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت غير ذلك. وأخذ خاتم يزجرد ووصل الأدم؛ واكتتب الصّكاك وسجّل السجلات بكلّ ما أعجبه، ثم ختم عليها وردّ الخاتم. ثم أتى بعد سعداً فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. ولما صنع آبان جاذويه بيزجرد ما صنع خرج يزدجرد من الرّيّ إلى إصبهان، وكره آبان جاذويه، فارّاً منه ولم يأمنه. ثم عزم على كرمان، فأتاها والنار معه، فأراد ان يضعها في كرمان، ثمّ عزم على خراسان، فأتى مرو، فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتاً واتّخذ بستاناً، وبنى أزجاً فرسخين من مرو إلى البستان؛ فكان على رأس فرسخين من مرو، واطمأنّ في نفسه وأمن أن يؤتى؛ وكاتب من مرو من بقيَ من الأعاجم فيما لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى أثار أهل فارس والهرمزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر للمسلمين في الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا في الأرض؛ فخرج الأحنف إلى خراسان، فأخذ على مهرجان نقذق، ثم خرج إلى إصبهان - وأهل الكوفة محاصرو جى - فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي. ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور - وليس دونها قتال - مطرف بن عبد
الله بن الشخير والحارث بن حسان إلى سرخس؛ فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان؛ وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده؛ وكتب إلى ملك الصغد يستمده؛ فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد، وكتب إلى ملك الصين يستعينه، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان؛ واستخلف عليها حاتم بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت مبه أمداد أهل الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بن النضر النضري، وربعي بن عامر التميمي، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي، وابن أم غزال الهمداني؛ وخرج سائراً نحو مرو الروذ؛ حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ؛ وقدم أهل الكوفة؛ فساروا إلى بلخ، وأتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزد جرد ببلخ؛ فهزم الله يزدجرد، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة؛ وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوح أهل الكوفة. وتتابع أهل خراسان ممن شذّ أو تحصّن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ممن كان في مملكة كسرى؛ وعاد الأحنف إلى مرو الرّوذ، فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر؛ وهو الذي يقول فيه النجاشي - ونسبه إلى أمه؛ وكانت من أشراف العرب:
ألا رب من يدعى فتى ليس بالفتى ... ألا إن رعي ابن كأس هو الفتى
طويل قعود القوم في قعر بيته ... إذ شبعوا من ثفل جفتته سقى
كتب الأحنف إلى عمر بفتح خراسان، فقال: لوددت مأني لم أكن بعثت إليها جنداً، ولوددت أ،ه كان بيننا وبينها بحر من نار؛ فقال عليّ: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات، فيجتاحون في الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلى من أن يكون بالمسلمين.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عبد الرحمن الفزاري، عن أبي الجنوب اليشكري، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: لما قدم عمر على فتح خراسان، قال: لوددت أن بيننا وبينها بحراً من نار، فقال علي: وما يشتد عليك من فتحها! فإنّ ذلك لموضع سرور، قال: أجل ولكني.... حتى أتى على آخر الحديث.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عيسى بن المغيرة، وعن رجل من بكر بن وائل يدعى الوازع بن زيد بن خليدة، قال: لما بلغ عمر غلبة الأحنف على المروين وبلخ، قال: وهو الأحنف، وهو سيد أهل المشرق المسمّى بغير اسمه. وكتب عمر إلى الأحنف: أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا معلى الذي دخلتم به خراسان يدم لكم النصر؛ وإياكم أن تعبروا فتفضّوا.
ولما بلغ رسولا يزدجرد خاقان وغوزك، لم يستتب لهما إنجاده حتى عبر إليهما النهر مهزوماً، وقد استتب فأنجده خاقان - والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك - فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد؛ ثم خرج بهم، وخرج يزدجرد راجعاً إلى خراسان، حتى عبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ إلى الأحنف، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان والصغد نهر بلخ غازياً له، خرج في عسكره ليلاُ يتسمع: هل يسمعبرأي ينتفع به؟ فمر برجلين ينقيان علفاً، إما تبناً وإما شعيراً، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أن الأمير أسندنا إلى هذاالجبل، فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً؛ وكان الجبل في ظهورنا من أن نؤتي من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع واجتزأ بها، وكان في ليلة مظلمة، فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: إنكم قليل، وإنّ عدوكم كثير، فلا يهولنكم؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وه مع الصابرين؛ ارتحلوا من مكانكم هذا، فاسندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوهم من وجه واحد. ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم، وهو في عشرة آلاف من أهل البصرة وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن أجلبت حتى نزلوا بهم،فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله. وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل، فخرج ليلة بعد ما علم علمهم؛ طليعة لأصحابه حتى كان قريباً من عسكر خاقان فوقف، فلما كان في وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه، وضرب بطبله، ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز ويقول:
إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب الصغدة أو تندقا
إن لنا شيخاً بها ملقى ... سيف أبي حفص الذي تبقى
ثم وقف موقف التركي وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه الأول، ثم وقف دونه فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:
إن الرئيس يرتبي ويطلع ... ويمنع الخلاء إما أربعوا
ثم وقف موقف التركي الثاني، وأخذ طوقه، ثم خرج ثالث من الترك، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنته الأحنف، فقتله وهو يرتجز:
جرى الشموس ناجزاً بناجز ... محتفلاً في جريه مشارز
ثم انصرف الأحنف إلى عسكره؛ ولم يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء؛ كلهم يضرب بطلبه، ثم يخرجون بعد خروج الثالث، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، فتشاءم خاقان وتطير، فقال: قد طال مقامنما، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكنمان لم يصب بمثله قط؛ ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا؛ فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئاً، وأتاهم الخير بانصراف خاقان إلى بلخ. وقد كان يزدجرد بن شهر يار بن كسى ترك خاقن بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان؛ فتحصن منه حاتم بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها؛ وخاقان ببلخ مقيم له، فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو، فأعجل عنه؛ وأراد أن يستقل مبه منها، إذْ هو أمر عظيم من خزائن أهل فارس، وأراد اللحاق بخاقان فقال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ فقال: أريد اللحاق بخاقان، فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلاً؛ فإنّ هذا رأى سوء، إنّك إنما تأتي قوماً في مملكتهم وتدع أرضك وقومك؛ ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وأهل دين؛ وهم يلون بلادنا، وإن عدواً يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا يديهن لهم؛ ولا ندري ما وفاؤهم؛ فأبى عليهم وأبوا عليه؛ فقالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها، فأبى؛ فقالوا: فإنا لا ندعك؛ فاعتزلوا وتركوه في حاشيته، فاقتتلوا، فهزوه وأخذوا الخزائن، واستولوا عليها ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر، فاعترضهم المسلمون والمشركون بمر يثفنونه، فقاتلوه وأصابوه في أخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال؛ ومضى مموائلا حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك؛ فلم يزل مقيماً زمان عمر رضي الله عنه كله يكاتبهم ويكاتبونه، أو من شاء الله منهم.
فكفر أهل خراسان زمان عثمان. وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاقدوه، ودفعوا إله تلك الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة؛ فكانوا كأنما هم في ملكهم؛ إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم، فاغتبطوا وغبطوا؛ وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.
ولما خلع أهل خراسان زمان عثمان أقبل يزدجرد حتى نزل بمرو، فلما اختلف هو ومن معه وأهل خراسان. أوى إلى طاحونة، فأتوا عليه يأكل من كرد حول الرحا؛ فقتلوه ثم رموا مبه في النهر.
ولما أصيب يزدجرد بمرو - وهو يومئذ مختيىء في طاحونة يريد أن يطلب اللحاق بكرمان - فاحتوى فيئه المسلمون والمشركون، وبلغ ذلك الأحنف، فسار من فوره ذلك في الناس إلى بلخ يريد خاقان، ويتبع حاشية يزدجرد وأهله في المسلمين والمشركين من أهل فارس، وخاقان والترك ببلخ. فلما سمع بما ألقى يزدجرد وبخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر؛ وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ؛ ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس، ووقد إليه الوفود.